مقالات واراء حرة من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة عامان

قالوا حسبنا الله .. ثم ناموا على جثة أبيهم .. بقلم جمال عبدالرحمن محمد أحمد

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
3/14 4:51م

عادة ما يتجول اللاجئون داخل معسكراتهم كمن يبحثون عن شئ فى غاية الأهمية أن بدت لك
للوهلة الأولى ولكن الحقيقة ما هى الا هروب من الأنعكاسات الضوئية التى تقع على أعينهم
والأشعة التى تحمل فى طياتها اثر ألام من حولهم أو بالأحرى حنين الى ظلام الليل . أذ أن الليل
يتميز بقدرات كبيرة فى أمتصاص دمعات أعيين من حرمو الحياة قبل أن يراها أحد ..
ولا أعلم هل حسن أم سوء حظى عندما كنت واحد من هؤلاء هذه المرة وبالتحديد فى معسكر
( كشلنكوه ) العامرة بالبؤساء مع أحترامى الشديد ل ( فيكتور هيجو ومدينة باريس العريقة )
وقد يستحيل على المرء أن يكتب كل ما راه أو سمعه ليس من تلك العجوز وحسب بل كل من
تقابله أثناء تجوالك .
والمهم هنا أن لا تستعجل بالأسئلة وعندما تسأل يجب أن تكون ممتلئا بهرومونات التمييز بين
الحقيقة والخيال وأحمد الله على أننى كذلك حينما سألت مجموعة من الصبية المتواجدين على
مقربة من عجوز أوت بنفسها الى داخل عدد من القصبات المتراصة عموديا ومن أعلاها أقمشةتبدو
عليه أثرالبلايا ؛ تقترب قليلا من رأسها بحيث ان وقفت على قدميها لتمزق سقف الدار بأكمله
قلت : ما بكم أيها الصبية ؟ فردوا بصوت واحد (أم أسحاقة المشوطنة) فقلت لهم : خلوها فى
حالها .
وفى اثناء ذالك كانت العجوز تحدق بعينيها الصغيرتين اللتين تحملان فى جوفهما علامة اللارضاء
مما يحدث حولها ... وما أن سمعتني أبعد عنها الصغار حتى مطت برأسها من داخل مخبئها
قائلة : لا تفعل أرجوك ! فقلت لها : لماذأ لا أفعل وهم يسخرون منك ؟ قالت : أقترب منى :
فأقتربت منها بحذر شديد لأعتقادى بأنها فاقدة الذاكرة . ! ويا بئس معتقدى .. !
والمهم أننى سبقتها فى الحديث وقلت لها لماذا أنت وحيدة ؟؟ قالت العجوز وبثقة تامة
( لست وحيدة طالما أحفادى قادمون) قلت لها من أين ؟ قالت من حيث ينامون ...! وقلت لها و
أين ينام أحفادك ؟ قالت العجوز : على جثة أبيهم . ! قلت لا أفهم عماذا تحدثين ؟ قالت أتريد أن
تفهم ؟ قلت نعم . فقالت أذن أقترب منى أكثر كى تحسن الأستماع . وبعد أن تأكدت من أننى
عند حسن ظنها بدأت تقول :
(كنت أسكن مع أبنى الوحيد أسحاقة وهو أب لثلاثة أطفال فى تلك المنطقة التى تبعد بمسافة
ليست بالبعيدة عن محلية خور برنقة حيث كنت ألزم المنزل عندما يخرج أسحاقة للعمل فى
المزرعة وتلحق به زوجته عائشة بعد أن تقوم بأعداد افطار الصباح للصغار وتعدهم ليوم دراسي
حافل بالمعاناة لطالما يتبادلون ركوب الحمارة الواحدة أكثر من مرة عبر طرق لا تخلو ممن نزعت
عنهم ينابيع الرحمة .. .
وذات يوم شعرت بأنني لم أعد قادرة علي تحمل الوحدة فقررت اللحاق بأبني وزوجته حتى
أتمكن من مساعدتهما بقدر ما أستطيع . وخرجت متكئة على عصاى.. وعندما وصلت كان أسحاقه
منهمكا فى العمل لم يخطر بباله أن أأتى لوحدى كل هذه المسافة . فقال لى: ما الذى جاء بك
الى هنا ؟ قلت له لاشئ فقط لأتمشى قليلا .. وعندئذ واصل عمله . وأما عائشة فكانت تضع
بكفها على جبينها وتحدق صوب القرية قائلة : اهناك شئ كالغبرة تعلو من وراء القرية أم أن عيناى
تخطئان .. والا فأكفينا شرهم يارب .! فأدركنا جميعا أنها المصيبة ..
أخذ أسحاقة فأسا وصار يستعجل خطاه نحو القرية وما أن أختفى عن أنظارنا حتى كانت القرية
تعج بالضجيج من كل ناحية وتتعالى الأصوات المستغاثة وتتصاعد ألسنة اللهب على سمائها
فصرخت عائشة : لماذا لم تخبرينا عنهم ؟ فقلت : من هم ؟ قالت الجنجويد .
وفى تلك اللحظة كان الفرسان يتسابقون الى المزارع بعد أن زرعوا الموت فى كل ركن من
أركان حياة قريتنا الصغيرة فى بضع دقائق .. كانت عائشة تمسك بشدة على معصمى وتهرول
بى يمينا وشمالا باحثة عن مكان للأختباء ولكن بلا جدوى فقط أحاطوا بنا من كل ناحية و
حاولت أن أقرعهم بالعصا التى أتوكأ عليها فأخذوها منى بكل قسوة لأنهم أقوياء وفى سن أبنى
أسحاقه وأخذوا يضربوننا بالسياط كى يبعدوا عن بعضنا ولكنهم فشلوا .
بالرغم من ذلك كانوا عازمين على فعل الخطيئة ... ولقد فعلوها .. ونحن متماسكتين لم
نفترق بعد ) ! ...... ثم سكتت العجوز ولكننى لم أسكت فقلت لها ماذا فعلوا؟؟ قالت يكفى هذا.
وقلت لها ما الذى حصل بعد ذلك ؟ قالت : أتذكر بأن عائشة أبتعدت قليلا وأخذت (الجرايه)
ثم قامت بعدة طعنات متتالية على بطنها ؛ وقبل أن تفارق الحياة قالت : أولادى .. أولادى
وسألت العجوز :هل تعنين أن عائشة أنتحرت ؟ قالت نعم أنتحرت عائشة زوجة أبنى وأم أحفادى .
فعاودت السؤال للعجوزة المسكينة :ثم حصل بعد ذلك ؟ قالت :(بقيت فى المزرعة ولا أدرى
أنتظر ماذا ؟ عائشة كانت كل شئ بالنسبة لى وهاهى الان أمامى جثة هامدة ..! وأبنى
الوحيد أسحاقة لا أدرى ما حل به ؟ .. وأحفادى هل عادوا من المدرسة ؟ كل هذه الأسئلة
دفعتنى فى أن أستجمع كل ما أملك من قوة وأتتبع أثر أسحاقة وقبل أن أصل قريتنا وجدته
مقتولا عند المدخل الجنوبى للقرية حيث خرج منها الغزاة . وكانت دموعى قد نفذت تماما
فأنكفات عليه ولم أستطيع حراكا حتى سمعت أصواتا تنادى جدتى .. جدتى .! فرفعت رأسى
وأذا بأحفادى الثلاث حائرين ..! قلت لهم حسبناالله وقالوا كذلك ثم أنكفأن جميعنا على جثة
أسحاقه .. وتلك أخر لحظة أتذكر ما حصل ولا أدرى ما الذى جرى بعد حتى وجدت نفسى فى
هذا المخيم . ولكننى متأكدة من أنهم قادمون ..! فقلت لها من تقصدين قالت: أحفادى .

وهنا أوجه السؤال لنفسى ولشعبنا السودانى وللمجتمع الدولى ولكل من هو تحت سقف الأنسانية
من المسئول عن معاناة هذه العجوز ؟؟؟
وهل يعقل بأن نكتفى بتحميل المسئولية للحكومة أو للمعارضة أو للمليشيات أو أى كان أنتمائه؟؟
ثم أين هم أحفادها ؟ هل مازالوا لم يصحوا من نومهم على جثمان الأب؟؟
أذن ومن باب المصلحة العامة أن نبحث عنهم قبل فوات الأوان حتى لا تصبح العثور عليهم
كمن عثر على قنابل بشرية وشيكة الأنفجار ذات مدى بعدى خمسين عام .


جمال عبدالرحمن محمد أحمد
ا

الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر الحر | دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر الحر

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |تعارف و زواج|سجل الزوار | اخبر صديقك | مواقع سودانية|آراء حرة و مقالات سودانية| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
Bayan IT Inc All rights reserved