السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

قراءة نقدية لعيسى الحلو بقلم أحمد ضحية

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
6/6/2005 3:12 م

الفصل الثالث :


قراءات في العالم القصصي ل:


(1) عيسى الحلو .
(2) علي المك .
(3) زهاء الطاهر .
(4) عادل القصاص.
(5) سلمى الشيخ سلامة .


(1)

حول رمزية السياق التعبيري في عالم عيسى الحلو القصصي ..
قصر المرايا - نموذجا:
اذ نتناول الاستاذ القاص عيسى الحلو في هذه القراءة, لسبر اغوار عالمه القصصي , في واحدة من التقنيات المعقدة التي يستخدمها: (رمزية المرايا ) - اذا جاز لنا اعتبارها تقنية في الكتابة القصصية - فانما ياتي ذلك ابتداء , كمحاولة لاضافة قول جديد , الى ما قاله النقاد, لدى وقوفهم عند تخوم عالم الحلو القصصي .
فالحلو من دون القصاصين السودانيين الاخرين - باستثناء الطيب صالح , بالطبع - وجد اهتماما كبيرا, من قبل النقاد السودانيين - على قلتهم - نظرا لتجربته الثرة في كتابة القصة الحداثية .. فهو احد ابرز اقلام مرحلة التحولات الحداثية , والتي تلت مرحلة الستينيات. والتي كان عيسى الحلو من ابرز كتابها " تم تدمير البنية التقليدية بواسطة التقنيات الحديثة , التي استخدمها كتاب هذه المرحلة , مثل : المنلوج الداخلي والتقطيع واللغة الشعرية المكثفة, ذات الدلالات المفتوحة والفلاش باك , وتداخل الازمنة (1)".. وأكثر ما يستوقفنا لدى قراءة عيسى الحلو , ما تجابهنا به نصوصه من اسئلة , حول الكيفية التي يلتقي فيها: الحس والتجريب في بنية اللغة, واللغة القصصية , على وجه التحديد و ( ما ) حدود المعنى وآفاقه الممكنة , في اشتغال لغة القصة "..
الثابت بدء في الدراسات التداولية , ذات البعد التأويلي , أن المعنى ليس صورة للحسي المباشر , ولكن اللغة هي: التجريبي والرمزي في اللحظة ذاتها , وان تفاوت مستوى الحضور لاحدهما, في اللغات الاصطلاحية او الاصطناعية , فليست اللغة اظهارا للمحسوس, بواسطة التجريبي , وانما هي الظهور بذاتها وفي ذاتها , مما يهدم فكرة امكان احلال اللفظ محل الشيء (2)".. ومن هنا نجد الاهتمام الفائق للحلو بلغة القصة , واشتغاله المستمر بالتجريب فيها , حتى تتكشف عن امكاناتها القصوى ما امكن , ولذلك نجده يلجأ الى لغة الشعر كثيرا , باعتبارها غاية - لغة الشعر - في حد ذاتها . لكنه هنا يوظفها كغاية , و - ايضا - كحامل للفكرة التي يريد توصيلها عبر السردى ..
وذلك لأن القصة عند الحلو انبثقت من قلب فضاء دينامي , يعج بالحركات والمدارس والمذاهب الفكرية والادبية , التى عاشها الحلو: على المستوى الذهني في تحصيله المعرفي . وتطبيقا: في انتاجه الابداعي القصصي .. من قلب هذا المناخ الذي يعج بالتحولات - فترة الستينيات - و تتحاور فيه تاثيرات الوجودية و الواقعية والواقعية الاشتراكية والسحرية , نهضت الكتابة القصصية المتميزة للحلو , لتشكل نسيجا متفردا في المشهد القصصي في السودان ..
ما تتميز به القصة القصيرة, كشكل ادبي ماكر ومراوغ , هو ما تنطوي عليه بنيتها الاساسية, من اجتزاء شريحة متوهجة من الحياة , لتعيد صياغة ما بداخلها من بؤر دلالية وتأويلية, تجسد الواقع او توازيه . قد تكون في بعض الاحيان ملتحمة بهذا الواقع: بمراراته وتأزماته والمسكوت عنه فيه , بحيث تبدو بعض الاشكال منها غرائبية اللحظة, او لا معقولية الازمة , المتاحة داخل نسيج النص .. وبحيث غدت القصة القصيرة في ادبنا المعاصر , وكأنها وثيقة اجتماعية او سياسية ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا , من صراع وتمزق وحيرة وانهزام وتعدد في الرؤية (3) ..
ونلاحظ في الكتابة القصصية للحلو بعضا من السمات : كخصوصية استخدامه للغة والتقنية وتعدد الاصوات " البلوفونية" في النص القصصي - كما سنلاحظ لدى قراءتنا لقصر المرايا, التي ينساب فيها السرد بضمير المتكلم (للراوي) والمتكلم ايضا للشخصيات الاخرى, الى جانب لمحة عابرة لضمير الغائبلا تكاد تبين - وهي حيلة تهدف الى تعدد زوايا النظر للموضوع الواحد , وهى عادة تستدعى عبر ضمائر الراوي جماليات السرد , من خلال تلاقي البنية التشكيلية مع الايقاع النغمي في شاعرية االلغة , كما هو الحال في " قصر المرايا" ..
الى جانب ملاحظاتنا هذه , لاحظ الناقد والقاص معاوية البلال, في دراسته عن الاستيهامي: في القصة القصيرة السودانية , من خلال نموذج ( عرش الحضور والغياب- للحلو ) , ان الحلو ممن تاثرت كتابتهم القصصية, بما حملته الواقعية السحرية من تاثيرات. فمارست الكتابة الاستيهامية بطرق ابداعية جديدة واكثر اثارة . وصفوة القول ان الحلو احد ابرز القصاصين السودانيين , الذين اهتموا باتقان خلق الشخصية السايكولوجية, المتعددة الابعاد , وبنية التفجير والمرئي واللامرئي (4) .. سمات اخرى في تجربة الكتابة القصصية عند الحلو في, دراسته لظاهرة: الانسيابية في القصة القصيرة السودانية - معاوية البلال - اشار الى ما تتسم به قصة عيسى الحلو من مستوى تلاقي, بين التحفيز والنسق وتنظيم الحبك السردي, والتحقق المعرفي , في تجلياته المختلفة , متخذا نموذجا لذلك قصة ( وماذا فعلت الوردة ) و( الحديقة التي احبت البستاني) (5) ..
ولما كان النص القصصي غير منفصل عن النصوص السابقة وانما يحمل في طياته آثار هذه النصوص - كذلك يستشرف نصوص غائبة , لم يحتك بها ويتوق للتحاور معها - , التي تتداخل بشكل او بآخر في تكوين القاص, وتفتح امكانياته الاستشرافية على ما هو غائب عنه . وتسهم في صياغة الخطاب القصصي عنده , بقدر ما يحمل من رغبة في الابتكار والمجاوزة ..
لكل لذلك نرى ان المدخل لدراسة اى نص قصصي, انما يتحقق بالتعامل مع النص نفسه , ودراسته في علاقاته بالنصوص الاخرى, التي تعمل في فضاءه. بهدف الكشف عن مداخل جديدة, تساعد على فتح العالم القصصي للحلو ..
ومن هنا نجد أ ن احد اهتمامات هذه الدراسة, التي تنهض ايضا في اعادة قراءة( قصر المرايا ) في علاقاتها الرمزية , والانطلاق منها الى فضاء النص , وما يتشكل به من علاقات , وتجسيد لرؤية القاص , وكشف عن مصادر نسيجه الابداعي ...
يتميز الحلو كحالة متفجرة , بقدرته الفائقة على استيعاب التجربة الانسانية ككل, واعادة صياغتها سرديا. سواء كان ذلك فيما تكشف لنا, بقراءتنا لروايته " صباح الخير ايها الوجه اللامرئي الجميل " او قصته موضوع هذه القراءة : " قصر المرايا ", التي تجعل من مجابهة الموت احد تيماتها الاساسية , في سياق رمزية المرايا بما هي انعكاس لكل الرؤي المتراكبة في النفس البشرية, وكذلك هي سؤال الذات في مواجهة نفسها , ومواجهة الاخر في آن.. ..
رمزية الفضاء النصي :
انتسجت هذه القصة بما للحلو من قدرة فائقة, على حشد الوقائع والاحداث , التي تحيط بقضية صغيرة , يقوم بتصعيدها الى اقصى مديات ممكنة , في حلقات متماسكة وترابط وثيق الصياغة, والبناء الدرامي الفني . تتخلله الاغرابية شكلا ومضمونا - الاغرابية بمعنى الخارج عن المألوف في القصة القصيرة - فقصر المرايا حكاية زوجين هما : حليم وبهيجة . تتأزم علاقتهما الزوجية .
ووفقا لوجهة نظر الراوي: ان السأم وغيرة حليم من عوض زهران, هما سبب هذا التازم .. عوض زهران هو والد بهيجة, بالتبني .. حاول الراوي تهدئة خواطرهم, لكنهم لم يكونوا ينصتون, سوى لاصوات ذواتهم " مراياهم " .. من وجهة نظر الراوي ان حليم مصطفى: كهل ذو جمال شرير . وكان هذا الجمال الشرير, هو الذي دفع عوض زهران ليصادق حليم, ثم يزوجه من بهيجة, ليخلص نفسه (او ليخلصوا انفسهم ) عبر هذه العلاقة الثلاثية . كما ان عوض زهران, رغم ما يبدو عليه, من ورع وتقوى, وشيء من كرامات الصوفية , يظل مستغلقا على الفهم . وهنا يحكي الراوي, عن علاقة عوض زهران بسميرة خليل - التي نعرف فيما بعد انه تزوجها - " هب واقفا لينصرف . وعندما سألته عن الخبر . اجابني :- هناك امرأة عانس , تعاني الوحدة وتتوهم بمحب غير موجود أصلا . سيعود على ظهر فرس ابيض (..) - قلت أتعرفها من قبل ؟ .. - لا .. المسألة أنها اضاءت في صدري شيئا, كما لو اوقدت شمعة(6). وبعد موت عوض زهران وحليم, وطرد بهيجة لسميرة خليل من قصر المرايا , ترحل بهيجة ايضا الى الاسكندرية, ثم تمضي بعيدا لتنضم للمقاتلين في سراييفو ..
منذها يرى الراوي خيالين : لحليم وبهيجة , لكنهما غير حائرين كما كانا من قبل - كأن موت عوض زهران وحليم خلصا روح بهيجة من مأزقها الوجودي ازاء اسئلة ذاتها, مثلما خلص حليم من حيرته - " ورجحت ان بهيجة على قيد الحياة, وان سميرة بدورها هناك في مكان ما. من ام درمان (..) تقضي نهارها تصيح في الشوارع والناس (7).. لكن اشباح هؤلاء جميعا يظل الراوي يراها كما تراها سميرة - بمشاهدها القديمة وعالمها القديم .. فهو لا شيء بدونهم . يتحقق وجوده فقط من خلالهم " مراياهم " ..
وجهة نظر بهيجة بابا دبلوس - لها وجهتي نظر , تمثلان شخصيتيها: كابنة لوالدها الاصلي( بابا دبلوس - مسيحي) ووالدها بالتبني : عوض زهران/المرآة - في الازمة التي عصفت بحياتها الزوجية. لا تختلف كثيرا عن وجهة نظر الراوي : أن غيرة حليم من عوض زهران هي السبب . في تصاعد الامور التي آلت بحليم, الى الاختفاء الغامض ثم الموت , خروجا من ازمة العلاقة .. فلا يبقى لبهيجة سوى ان تلوك ذكرياتها, كامرأة خمسينية. منذ كانت سن السادسة ..
فبهيجة ذات الجذور اليونانية, تعيش الحرمان من الاب, ثم الام بعد ان انفصلت والدتها( ايلين - مسيحية ) ,عن والدها. وجاءت بها من القاهرة الى الخرطوم . ثم توفيت, فتبناها عوض زهران, ولذلك ينشأ بينها وبين عوض زهران, نوعا غامضا من الحب " يا من علمتني ان احب الحب ذاته ولذاته " ولذلك تعتنق دينه- الاسلام - سرا دون ان يكون لديه علم - كما تتصور هي - وباختفاء حليم الغامض بعد موت عوض زهران , وتأكيد موت حليم في نشرة رسمية, في مناطق العمليات - بعد مضي شهرين من ذلك - تبدأ بهيجة عوض زهران في, الحديث عن سميرة خليل " جاءتني امرأة في الثلاثين (..) وطلبت مني ان تسكن معي , لنتشارك العزلة , فهي وحيدة بعد ان هجرها عوض زهران (8) لكنها سرعان ما تطرد سميرة , وتكتشف ان كل ما حولها وهم , فتعود الى شخصيتها ك(بهيجة بابا دبلوس) وتقرر العود الى ارض ميلادها ( الاسكندرية ). وهناك لا يعرفها احد . فتنضم الى المقاتلين في سراييفو " قالوا ان اسرتي من البلقان او النوبة , وبعد اسبوع رحلت الى سراييفو, وانضممت الى المقاتلين (9) .. تتشظى مرايا بهيجة (ذاتها), لحظة احتكاكها بسميرة خليل, التي تتشظى هي الاخرى. والتي كانت قد جاءتها لتشاركها - كابنة لزوجها- احزان الفقد ولوعة الذكريات , فتكتشف انها ليست ابنة لزهران كما توهمت وتوهم زهران , وان سميرة ليست سوى وهم- كليهما يكتشف انه وهم - هذا الكشف يفتحها على وعى ذاتها التى تتشظى بقوة هذه اللحظة - ووعيها بالاخرين الذين طالهم الوهم كذلك - فتبدأ البحث عن هذه الذات , لتعرف حقيقة هويتها ..
وجهة نظر حليم في ازمة زواجهما: ان زواجهما كان بمثابة السجن. وعوض زهران يتفرج عليهما, يتخبطان داخله " كان عاجزا تماما عن حب بهيجة , فادعى الزهد فيها , وزوجني منها . يعلل عدم زواجه منها بانها ربيبته . وهي كابنته (..) الحب عند ثلاثتنا تقوى وتغذى, من الغيرة فان غاب طرف من الاطراف يهلك الحب بيننا " .. فغياب المرآة يغيب الصورة . لابد من سطح المرآة , الاملس حتى يرى الانسان صورته . وعوض زهران هو مرآة حليم وبهيجة .. بل ومرآة الراوي نفسه .. وبغيابه تغيب ذواتهم, وهو ما استطاعت سميرة آخيرا ان تفهمه " لقد خرجت من هذا القصر في تلك الليلة , بعد ان يئست وفشلت في المواساة التي تجمع الضحايا (..) أعاقلة أنا ؟ واصبحت اتحسس كياني . هل انا سميرة حقا ؟ ام انا اكذوبة ؟ (..) فكانت بهيجة هائجة تلك الليلة . كانت تصيح في جنون : انت وهم يبحث عن وهم . انت لاشيء البتة . احقيقة ما تقوله بهيجة . ربما انني لا شيء "..
تقيم رواية ماركيز الاخيرة ( ذكريات عن عاهراتي الحزينات )(10) حوارا مع هذه القصة , فهاجس الموت( اللامرئي). يهيمن على فضاء النصين . تحكي( ذكريات عن عاهراتي الحزينات): قصة رجل عجوز. ينتبه فجأة الى ان عليه الاحتفال بعيد ميلاده التسعين , فيما يعيش في عزلة تامة .. يقرر العودة الي متعته الوحيدة, التي مارسها كثيرا في حياته, منذ ان بدا وعيه يتفتح على العلاقة مع الانثى مصادفة, وهو لم يبلغ بعد الحادية عشرة . يقرر عندها العودة الى ماضيه السابق من خلال " روسا كاباراكاس"تلك السيدة التي تدير البيت السري, الذي كان نافذته على هذه الدنيا . وتنفيذا لحلمه اراد ان يعيش ليلة حب مجنونة, فطلب منها: ان تكون رفقته في هذه الليلة " صبية صغيرة " بشرط ان تكون عذراء .. لكن الصبية التي يلتقي بها في رحلته الجديدة في الحياة بعد التسعين .. تجعله يغير نظرته الى الحياة ومعها تحدث له التحولات ...
كل النصين ينهضان في ذكريات الماضي - والاستيهامي, من خلال استرجاع او تبديد الزمن في اللحظة الحاضرة, التي تشتغل في مجابهة الموت - , ومحاولات الانعتاق منه .. في اجواء تخييم الموت او مجابهته او الاحساس بدنوه .. فالراوي يستمد حياته من هذا العالم المتحفز ( عالم عوض زهران ) فعوض زهران - كاله صغير - يحرك كل شخوص عالمه - مخلوقاته - بما في ذلك الراوي, الذي يبدو ان عوض زهران اثر فيه عميقا - حتى بعد ان مات بوقت طويل - اذ ظل يلاحق الراوي.. ومجابهة الموت عند بطل ماركيز كانت بعودته الى ايام شبابه , من خلال صبيةعذراء - كأنها القربان - جددت دماء عروقه - برحيق الذكريات - وهو في هذه السن المعمرة.. واحدثت تحولا جديدا في حياته ..
وعوض زهران جابه حبه - ذاته - لبهيجة بتزويجها من حليم . ولم تفلح علاقته بسميرة- التي رغم بلوغها السبعين, الا انها ظلت كانها فتأة في الثلاثين تجري في عروقها- دماءالذكريات , التى خلفها زهران وراءه , هذه اللعنة التي جعلتها, تنام في المقابر. وتجري في الشوارع تلاحق. اطياف عالم عوض زهران - في التخفيف من وطء هذه المجابهة, التي احدثت تحولا في حياته , انتهى به الى مجابهة الموت, في مناطق العمليات .. كذلك ما فعله حليم .. حيث تنهض بهيجة هنا كلعنة لعوض زهران, طالت كل من يقترب منها, حتى عوض زهران نفسه - لعنةالذات النرجسية, التي سنأتي اليها لاحقا- ذات عوض مهران - لتنتهى هذه اللعنة في مكان ما اخر..
كذلك هو حال الراوي, الذي تلاحقه اطياف عالم زهران . لتكون خلاصة هذه المجابهات : انتصارا لفكرة الابدية من خلال الاستمرار في المراقبة, لهذه الحياة الابدية. التي صنعها عوض زهران وليس غيره ..
كما نجد ان النص يقيم علاقة حوارية مع نص قصصي اخر . هو قصة " وصية سيسيليا الاخيرة ) ل " اليثيا شتايمبيرج " (11) فعند موت سيسيليا تجد بطلة القصة انها تركت وصية غريبة لورثتها , جاءت على هذا النحو " الى بيب اترك سنواتي العشر الاخيرة من حياتي , بما فيها من متعة وألم متماثلان ( سيقول بيب ان الالم فاق المتعة ) على اى حال هو يعرف انها لم تكن اسوأ سنوات عمري (..) اترك هذا الخيال لجوسية , اتصور من العذاب الدائم المرتسم على وجهه انه سيعرف ماذا سيفعل به (..) الى ما تيلدا اترك مجموعة الصرخات الهائلة, التي احتفظت بها دوما (..) اعرف من غير المعتاد ان تترك اشياء لشخص مات بالفعل (..) (أنا) اليك .. يا من ستجديني حتما . تلك الاوراق على البيانو (..) اليك يا (أنا) .. وهكذا تمضي الوصية التي تخاطب فيها سيسيليانفسها التي تجد الوصية, بعد موت سيسيليا فتقول " طالما انا على قيد الحياة . سيسيليا ستعود " فاللامرئي والمرئي يشكلان وصية سيسيليا واستمرارية وجودها, بعد الموت - كروح هائمة, او طيف حلمي ربما ..- مثلما يشكل عوض زهران استمرارية الراوي , فسيسيليا مرآة الانا .. وعوض زهران مرآة الراوي .. مثلما بهيجة هي سميرة ذاتها .. المرآة التي رأت فيها نفسها . فطردتها " انت وهم يبحث عن وهم " .. ومثلما مثلت عذراء ماركيز المرآة للراوي العجوز ..
فالموت او الاحساس بدنوه . يشكل بؤرة تنطلق منها حياة الشخوص, من المبتدأ الى المنتهى . بمعنى تتكشف فيه كل لحظات الالم, واللوعة والغبطة .. وتتكثف فيه الذكريات والاحلام .. فهو كالرحم الذي نتخلق فيه ويحتوينا , ثم لا يلبث ان يقذف بنا الي حدود الحلم واللا مرئي ..الى الوجود , اذ يعيدنا مرة اخرى الي ظلام هذا الرحم - الارض - .. والاحداث والوقائع - الحياة - عندما تتحول الى ذكريات , و تصبح اشبه باحلام البارحة . كما في " متحف المساعي العبثية " ل ( لكريستينا بيري روسي) اذ يقول بطل قصتها هذه " كنت كل مساء ازور متحف الحياة العبثية . اطلب الكاتلوج واجلس الى الطاولة الخشبية الكبيرة (..) كتالوج سنة 1922 (..) سنة مكثفة . كثير من الناس قاموا بجهود عبثية . كم مجلد هنا ؟ (..) اكدت لي الموظفة ان المتحف يحتفظ بجزء صغير جدا من المساعي العبثية (12).. فبطل هذه القصة يجد نفسه مأخوذا الى حد الادمان , بالمضي كل يوم لمطالعة عالم الماضي , والتعرف على حكايات من مضوا , كان يستمد استمراريته ووجوده. من هذه الدورة .. دورة الحياة بوقائعها التي تمثلها مساعي ابطالها وهزائمها ومراراتها .. فالموت.. انه يجابه الموت بالتعرف على حياة من ماتوا : ماذا كانوا يفعلون في حياتهم - فحياتهم هي المرآة التي يرى فيها حياته - فتتجذر هذه الحيوات فيه , لتعطيه الاستمرارية ..

رمزية المرايا في قصر المرايا ..
حول استراتيجية العنوان : (قصر المرايا ):

يتكون هذا العنوان من كلمتين الاولى : هي " قصر" والثانية: هى" المرايا" . في المحتوى الدلالي للطرف الاول :" القصر " دلالة على المكان, الذي تجري فيه احداث القصة. و"المرايا" كواحدة من المكونات التي شيدت به, على المستوى المعنوي لا المادي , فالقصر هو (القفص الذي يفترض ان يكون ذهبيا - بيت الزوجية ).. لكنه هنا محض قصر من المرايا للدلالة على مدى تشظي هذه العلاقة الزوجية ..
يقول غاستون باشلار" من الواضح تماما, ان البيت كيان مميز, لدراسة ظاهراتية لقيم الفة المكان من الداخل . على شرط ان ندرسه كوحدة, وبكل تعقيده . وان نسعى لدمج كل قيمه الخاصة, بقيمة واحدة اساسية (..) فلو تجاوزنا ذكرياتنا عن كل البيوت التي سكناها , والبيوت التي حلمنا ان نسكنها , فهل نستطيع ان نعزل, ونستنبط جوهرا حميما. ومحددا, يبرز القيمة غير الشائعة, لكل الصور المتعلقة بالالفة المحمية ؟(..) قد يقدم لنا الجغرافي او عالم الاثنوغرافيا اوصافا لمختلف انواع البيوت (..) البيت هو ركننا في العالم . انه كما قيل مرارا . كوننا الاول (13)..
فما هو بيت ( قصر المرايا ).. يصف لنا الحلو في قصته( قصر المرايا) هذا البيت بضمير المتكلم ( بهيجة بابا دبلوس): " لنا انا وزوجي حليم .. قصر صغير . بديع . مكون من غرفة واحدة , تلحق بها صالة ومطبخ.. وتحيط بالقصر اربع حدائق من الجهات كافة . يسوره سياج حديدي رمادي اللون . كتبنا اسمينا : حليم وبهيجة , على بطاقة مضيئة عند البوابة . وعند البوابة كانت العصافير تأتي من كل مكان لتغني في مرح ذاك النشيد الذي ينطلق كالرصاصة النارية (..) يتهمونني على الخصوص بالجنون . فما القصر عندهم الا بيت صغير . بنى من الاجر الاحمر, المخلوط بالحصى . كشأن كل بيوت ام درمان القديمة منذ عهد الخليفة التعايشي , وهو يقع في الجهة الجنوبية من المدينة, على طرف خور ابي عنجة الشمالي, حيث استقرت الفيالق المحاربة (..) ولكن بيتنا هو حقيقة راسخة , لكل عارف ذي بصيرة . قصر عال .. يتأرجح وسط السراب , يذهب ويجيء غيمة كبيرة من البخار , يتصاعد في علو السموات الزرقاء, متشكلا بألوان الفجر والضحى والمساء (..) وحينما يؤذن الاذان, ينبثق القصر مثل زهرة , وينكشف البهاء فتكشف الرؤيا جدرانا من الماء الشفيف الممطر .. ويأتلق كله قصرا من الزجاج , الكرستال ومن المرايا (14). فهذا القصر هو عبارة عن : بيت عتيق يعود تاريخه الى حقبة المهدية, -المستوى المادي - مكون من غرفة واحدة , مسورة- سور رمادي اللون , بما للون الرمادي من دلالة على الزمن المنصرم . ولما لهذا اللون ايضا من دلالة على الكآبة _ ومزروعة .. لكنه مشيد ايضا على المستوى الدلالي, من هذه الذكريات العتيقة لمدينة ام درمان , ويرتبط بذاكرتها المدينية, في لحظة تكونها وتشكلها الاولى , في اكثر لحظات التاريخ حرجا و دمجا للمجتمعات السودانية من كل اطراف البلاد, لتلتحم في ام درمان - اذ نهضت ام درمان نتيجة للحراك الاجتماعي الواسع , والاول من نوعه في السودان ابان المهدية, بما نقل المجتمعات , من مرحلة القبيلة الى مرحلة متقدمة عليها هي مرحلة الطائفة -..
هذا البيت الذي يسكنه حليم وبهيجة . تاسس اذن على هذه الذكريات (المرايا) , لذلك هو قصر عال, يتارجح في فضاء هذه الذكريات , التي اضيفت اليها ذكريات اخرى بتعاقب الزمن . واضيفت اليها ايضا وقائع واحداث حياة حليم وبهيجة التى نهضت - الوقائع والاحداث - , في هذا البيت ذو الغرفة الوحيدة , لكن الكافية لرعاية ميلاد زواجهما ونموه, و ذكريات حبهما التي سبقت هذا الزواج , حتى مرحلة الصبا فالشيخوخة , لتتشكل من كل هذه المراحل التي تعاقبت على البيت مزيدا من المرايا ( مزيدا من الذكريات ) , التي يرون فيها انفسهم, كانهم هم وليس هم , بين بين .. ففي لحظاتهما السعيدة , تسقط احاسيس الغبطة على البيت , فيشاركهم هذه الغبطة , مثلما شاركهما لحظات صراعهما الانساني العديدة ..
والطرف الاخر من عنوان القصة هو ( المرايا ), وهي المفتاح المركزي لعالم هذا القصر . فالمرايا في السرد , تقنية وأداة تعبير فني , قبل ان تكون سطحا املسا , دوره ينحصر في تأدية الانعكاس , انها مرايا الذات .. يقول حاتم الصكر " المرايا مقترح شعري ارتبط بادونيس , الذي عرف عنه استخدامه المبكر للرمز والقناع, وهما ممهدان ضروريان للمرايا (15).
ان اى دراسة للامكان السردي , في( قصر المرايا) يجب ان تبدأ اولا بتامل دلالة المرايا من شتى وجوهها : الظاهرية بحكم وجودها الشيئي ضمن وعينا وشعورنا.. والنفسية لما تحمله من دلالة وجود القرين , ورؤية النفس , وتعرفها عليها, ضمن حيز المرآة: جذرا رمزيا يربطها برغبة( نرسيس) في رؤية وجهه منعكسا على صفحة الماء . والفنية بكونها دالا شعريا وادبيا عاما , يمكن ان يحمل معه تقنيات خاصة , ترتبط بالانعكاس وتشويه الانعكاس معا , او التشظية والتناثر ..
فقصر المرايا تشظت داخله حياة حليم وبهيجة, كما تشظت داخله, كل الذكريات الماضية منذ تاسيسه .. حليم وبهيجة رأيا ذاتيهما , بكل غروريهما - حب ذاتهما : اذ توهما انهما يحبان بعضيهما, بينما هما يحبان الحب لذاته , متمثلا في ذاتهما: فهما, الحب .( كنرسيس النرجسي ).. تشظيا عندما رأيا ذلك في مرايا نفسيهما .. واول ما يجب ملاحظته , ان وجود المرايا بالنسبة الى الجسد , يرتب تغير موقع المتلفظ ايضا , وموقعه كراو او سارد من هذه المرايا .. وهم كانوا محاصرين بالمرايا .. المرايا التي امامهم والتي خلفهم .. المرايا من حولهم, وداخلهم.. غرقا في لعبة المرايا .. المرايا التي لها
ا وجودا شيئيا, اكثر عمقا وتاثيرا مما يحسب المبصرون, المتعجلون . والمرايا التي هي اول ما يقع عليه بصرنا ..
والمرايا تقتضي وجودا لشيء ما يتمرأى فيها . وبذلك تصبح موضوعا دائما, لذات تمارس فعلها عليه, لكن وظيفة المرآة, تتعدى التاثيث ولوازم الوجود الكمالي, على الجدران او فوق المكاتب والزوايا , لأن الحيز الذي تشغل,ه في تفكير الانسان وافعاله وسلوكه, هو الاكثر اهمية , وهو الذي اثر في حياة حليم وبهيجة ..
ان المرايا توهمنا بانها حيادية, تعكس ما ينطبع عليها , او يتراءى امامها او يعرض عليها . وفي حقيقة الامر تكمن وظيفة المرآة, في كونها تضاعف. وعبر فعل المضاعفة هذا تعطينا "صورة القرين " . الاناالاخر. غير المرئي ولكنه موجود ..
ورغم ان المرايا ترينا ما تقتنصه اعماقنا فانها - كما يلاحظ فوكو - الى جانب كونها تضاعف , لا ترينا ما لا يظهر عبر سطحها . فيظل ثمة فاصل بين ما نرى وما نقول .. فالمرايا لا تقترح علينا آخرا, بل ترينا هذا الآخر الذي نقترحه عليها ..
اننا لا نبحث في المرايا, عن واحدية اجسادنا وصورنا , بل نسارع الى البحث, عن تفاصيل منسية او مطمورة , كي نؤلف منها صورة القرين , الذي يشاركنا خطانا وحياتنا .. وهو ذو وجود سردي , لانه يمثل الجانب الثاني في حوارية شخوصنا . وقد استثمر القصاصون المزايا السردية لوجود قرين المرآة وطوروه ليغدو صوتا داخليا ثانيا لوجود الراوي او الشخصية ..
وترينا الحكايات والاساطير انواعا متعددة من المرايا منها : مرايا الزمن : حيث كانت( سندريلا) تهرب من مرآة زمنية , فلو انها تأخرت عن ساعة محددة, لعادت الى صورتها الاولى فتاة فقيرة . ومرايا الاسطورة : حيث يتحول كل ما يقع عليه بصر( ميدوزا) الى حجر . وثمة في هذه المرايا الاسطورة وجود نرسيسي ( او نرجسي بالمصطلح العربي المتداول ) (16) لكن ما يدعوه المحلل النفسي الشهير" جاك لاكان" (1901 - 1981) بمرحلة المرآة يستحق التأمل . فهو يرى ان الطفل يستطيع التعرف, على صورته في المرآة في سن مبكرة , على انها صورته , ويختبر حركات الصورة , ومحيطها المنعكس في المرآة, ثم العلاقة بين ذلك, والواقع المزاوج له , اى جسد الطفل والافراد والاشياء المحيطة به ..
والمهم في مفهوم( لاكان) لمرحلة المرآة بانها تماه, وبان تمثل الصغير لصورته المرآوية, مع عجزه الحركي, والغذائي. شبيه بالرحم الرمزي. حيث يندفع ضمير الذات الى شكل اولي , قبل ان يتموضع في جدلية التماهي مع الاخر . ان المرايا تنطوي علي طبيعة, او جوهر من جوانب ذاتها الاصلية , تحتفظ بها مهما اخضعت لتحولات .. بوصفها رمزا من رموز الشخصية , وتقنية سردية يقف امامها ليرصد, ما يتراءى في اعماقها .. يلاحظ( جبرا ابراهيم جبرا) ان اللحظة( النرجسية) هي لحظة لا زمنية . لحظة الممثل على المسرح, وقد انفلت من قيد التسلسل . .. والنرجسية هي الخط الدقيق الذي ينظم وجود الرموز الاسطورية والتاريخية على مستوى الرؤية .
يفسر بعض النقاد( قتل المرايا) بانها اعدام وحرق للكل الثقافي - كما عند ادونيس - الذي تعادله المرايا ( فالقصر ينهار ليعود الى مكوناته كما يراها الجيران: مجرد غرفة مبنية من الاجر الاحمر, المخلوط بالحصى. شأن كل بيوت ام درمان القديمة .. ينهار بانهيار ذكرياته , باختفاء ابطالها , بحيث لا تعود ثمة اهمية لذاكرة المكان " القصر", دون شهود او سكان, يحيون هذه الذاكرة , فينهار باختفاء حليم وعوض زهران وموتهما .. وينهار بطرد سميرة منه ورحيل بهيجة ) = وفي المثل السوداني ما معناه اذا كان للانسان منزلا من زجاج فليحذر رمي الاخرين بالحجارة . وهي كناية تحذيرية عن عدم الحديث عن عيوب الناس لان لنا عيوبنا , التي سيتحدثون عنها ايضا اذا تحدثنا عن عيوبهم .. عيوبنا التي ستستحيل ايضا الى ذكريات , لكنها تظل احدى مكوناتنا النفسية , فهي جزء من تاريخنا الاجتماعي على مر السنين , وتستطيع مرايانا منحنا رؤيتها بوضوح , كأنها جسم مادي ..
وثمة مرايا لا يمكن اخضاعها للتقابل الثنائي, او للتفسير الرمزي العابر , وهي - كما تسميها( خالدة سعيد) مرايا الاعماق حيث تتقاطع الرؤي جميعا .. واشار احسان عباس الى المرايا باعتبارها اسلوب نظر الى الماضي(17) . وتقنية انعكاس المرايا في القص الحديث , من ابرز التقنيات لاستدعاء التاريخ الذاتي ...
فأى نوع من المرايا تلك التي شيد منها قصرالمرايا , و الشخصيتين اللتين تسكنانه (حليم وبهيجة ) . مما تقدم قدمنا اشارات, حول طبيعة هذا القصر التي يصفها لنا الحلو - مقرؤة في سياق علاقتها بطبيعة علاقة هذين الزوجين - على لسان الراوي" كانا : حليم وبهيجة . زوجين من الارق والتوتر . وذلك عندما وضعا , بمحض حريتهما, علاقتهما الزوجية على حافة الخطر . اذ كانا بحياتهما المشتركة يلهوان . فبعد مضي العام من الزواج. شعرا بالسأم . وهكذا انخرطا في اللعب المهلك , ان يكتشفا في الحياة شيئا بينهما اعمق واصدق , وان يريا في علاقتهما, نفسيهما على المرايا (..) كففت عن الكلام مجبرا . ومن ثم .. في نهاية الامر, اخذوا يكلمون المرايا, المحتشدة بالصور (18).. ثم على لسان بهيجة بابا دبلوس " يأتلق كله قصرا من الزجاج الكريستال, ومن المرايا , بحيرة من الجمال الصافي (..) أرفع رأسي . رأيت صورنا على المرايا . كنت انا وحليم.. وانا الاخرى مع عوض زهران . وعوض زهران تارة اخرى مع سميرة.. ورفع حليم عينيه من الكتاب : - ما بك ؟ انت شاحبة جدا ..؟ وكنت ارى صورا على المرايا, شديدة العجب, الزمن فيها يجري كيفما شاء . الماضي والحاضر والمستقبل . كل الزمن المستدير يأتي (..)..( اجلس وحدي وصوري تتكاثر, على سطوح المرايا . وتجيء صورة حليم وعوض زهران (..) وتداخلت في هذا الوقت كل الاشياء .. الخواطر والافكار والاحداث .. حتى بت اشك في القصة بمجملها (19).. ويمضي الحلو في عرض شخوص نصه , معتمدا على تقنية تعدد الاصوات التي اشرنا اليها سابقا . منتقلا الى شخصية اخرى فيطل علينا حليم مصطفى زوج بهيجة , مستعرضا وجهة نظره بضمير الانا المتكلم " كنا في داخل هذا القصر الزجاجي, اشبه بسمكتين صغيرتين ملونتين . نسبح داخل هذا الماء الزجاجي (..) كانت كل الايام تمر متشابهات . نجلس ثلاثتنا نحلق في وجوهنا, التي تنطبع على سطح المرايا, المحيطات بنا . فنرى دواخلنا حتى النخاع (20)..
ثم نعود الى شخصية الراوي مرة اخرى , مضيفا الى وجهة نظره, التي استهل بها هذه القصة, لننتقل بعد ذلك الى بهيجة - لكن هذه المرة هي ليست ابنة" بابا دالوس" والدها الحقيقي بل - ابنة عوض زهران الذي تبناها "انني ارى حياتي في عزلتي . ارى هذا الحب الغريب الاطوار . دائرة تجري في الاتجاهات الاربعة . وكيف ان هذا الدوار قد قاد كل منا, الى طريق مختلف . فكنا ندور في متاهة, وشعور يجعلني موقنة, اننا سنلتقي على تخوم ذلك العالم . مكان يشبه قصر المرايا (..) اهو صورة بهيجة على مرايا عوض زهران ؟ ام جئت ابحث عن صورتي.. عن معنى وهدف هذه الحياة ؟ (21)...
ليطل علينا بعد ذلك الوجه الاخر لبهيجة : بهيجة بابا دبلوس , ثم ننتقل الى الراوي " الذي يحكي حياة سميرة, بعد ان انهى حكاية بهيجة " كانت سميرة بالجمال تضيء بدرا مكتملا . لقد توقف دوران الزمن فيها عند الثلاثين . وكانت الاقدار تمسح غبار الزوال عنها . رغم بلوغ سميرة السبعين, وعندما تنظر في المرايا, كانت تحدث نفسها بصوت عال (..) الضؤ امواجا من الوان الطيف المزبدة . يرفرفون . يشقشقون . وعلى سطوح المرايا هالات زرق (..) وكلما كانت على سطوح المرايا صور , وكلما كان في الفضاء جناح , فانا بدونهم لا شيء .. لا شيء البتة (22) وهكذا يمكننا ان نستخلص من طرفي العنوان : " قصر - المرايا " .. اضافة الى ما اشرنا اليه , ان المرايا هي ذكرياتهم وطريقتهم في النظر الى ماضيهم وحياتهم . وهي نزعتهم الانانية في تكريس ذواتهم , دون رغبة في عطاء هذه الذات للاخر , بل عطاءها فقط لنفسها , فحتى في تصور - بهيجة مثلا - لنفسها ما بعد هذه الحياة - الموت - ترغب في ان تلتقيهم ( عوض زهران / سميرة / حليم ) وتتصور انهم سيلتقون, في قصر شبيه بقصر المرايا .. تريد ان تلتقيهم لتأكيد وجودها المطلق , ليس لأي شيء اخر فهي " لا شيء بدونهم " وحتى تكون شيئا, يجب ان تكون معهم . وهي ذات الرؤية التي توصل اليها حليم , فقد ادرك منذ البداية ان انسحاب اى طرف من اطراف, علاقتهم الثلاثية. يعني ان ينهار كل شيء . فلا احد من ثلاثتهم يعني شيئا, دون الاخرين . كذلك الراوي يستمد وجوده عبرهم في حياتهم , وعبر اطيافهم التي تلاحقه, بعد ان آلوا الي مختلف طرق .. وهكذا تشكل رمزية المرايا ايضا , في علاقةالذات بالاخر ..
هامش :
(1) معاوية البلال . الشكل والمأساة " دراسات في القصة القصيرة السودانية " . الشركة العالمية للطباعة والنشر. ص: 9
(2) مجلة فصول للنقد الادبي . الهيئة المصرية العامة للكتاب المجلد 16 العدد الثاني خريف 1997. ص : 17
(3) مجلة الثقافة الجديدة. قصور الثقافة . العدد 172. اكتوبر 2004 . ص : 108
(4) معاوية البلال. الكتابة في منتصف الدائرة. الشركة العالمية للطباعة والنشر . ص : 132
(5) معاوية البلال . الشكل والمأساة " مرجع سابق " ص : 32
(6) كتابات سودانية " كتاب غيردوري " . مركز الدراسات السودانية . العدد 22 ديسمبر 2002. ص :133
(7) السابق ص ك 136
(8) نفسه ص : 134
(9) نفسه ص : 135
(10) جابرييل غارثيا ماركيز . ذكريات عن عاهراتي الحزينات . ترجمة د. طلعت شاهين . طبعة اولى ديسمبر 2004. سنابل للنشر والتوزيع . القاهرة (11) - مناظر من أرض جديدة ( قصص لكاتبات من اميركا اللاتينية ) . ترجمة ايزابيل كمال .قصور الثقافة . آفاق عالمية . طبعة اولى 2003.
- أليثيا شتايميرج (1933) كاتبة ارجنتينية . كتبت اربع روايات ومجموعة قصص قصيرة . من اهم الكاتبات المعاصرات في الارجنتين .
(12)كريستينا بيري روسي .كاتبة من اوروغواي . ولدت في منفيديو . وهي ابنة لمهاجرين ايطاليين . وتعمل والدتها مدرسة . وقد علمها خالها الشيوعي تذوق الادب . تخرجت في كلية الاداب في جامعة منتفيديو . وعملت بالصحافة وتدريس الادب . اضطهدت من قبل السلطة لموقفها المناهض للظلم . فانتقلت الى برشلونة في اسبانيا في 1972. صدر لها في العام 1963 اول كتاب وهو مجموعة قصص قصيرة " الحياة " عن الجو المعتم المحيط بالمرأة ومعاناتها كضحية للمجتمع الابوي . في 1969 صدرت لها مجموعة القصص القصيرة " المتاحف المهجورة " وحازت بها على جائزة اركا للكتاب الشباب في ارجواى في 1968 وتصف فيها انحطاط الثقافة في ارجواي . وتظهر فقدان التواصل بين الرجل والمرأة . كما في قصة " الاشياء الغريبة التي تطير " . وفي 1969 حصلت قصتها " كتاب اولاد عمتى " على جائزة مجلة مارشا . وهي قصة على لسان طفل . بها تحولات سردية عميقة . وبيري روسي تستخدم حيلا مرئية , وتمزج النثر بالشعر . وتهدف الى السخرية من البرجوازية , خاصة الفتيات اللائي ينشأن محاطات برعاية مبالغ فيها . نشرت في 1970 " علامات ذعر" وهو مجموعة من 46 قطعة ادبية وقصة قصيرة وقصائد ومقالات وامثال تعبر عن سمات عصر القمع في ارجواي . وفي 1971 نشرت اول ديوان شعري لمجموعة قصائد حسية تحتفل بجسد المرأة . في 1975 نشرت ديوان " وصف حطام سفينة " تركز قصائده على النفي السياسي والحب . على النقيض من ذلك في 1983 نشرت " متحف المساعي العبثية " الذي تناقش فيه محاور معاصرة مثل العزلة والتحليل النفسي والحرب والقمع السياسي . وفي 1984نشرت " سفينة الحمقى " وفي 1986 "آلام ممنوعة" .
(13) غاستون باشلار . جماليات المكان . ترجمة غالب هلسا . المؤسسة الجامعية.2000 . بيروت الطبعة الخامسة . ص : 35
(14) كتابات سودانية " كتاب غيردوري " . مركز الدراسات السودانية . العدد 22 ديسمبر 2002. ص : 129/130
(15) فصول للنقد الادبي " مرجع سابق " ص : 25
(16) تقول الاسطورة ان نارسيوسي ( وهذا هو اسمه في الاصل اللاتيني ) هو ابن احدى حوريات النهر اللاذوردية الشعر . انجبته من اله النهر . فهو كائن مائي تتبعه الحوريات العاشقات , لكنه لا يستجيب لهن فتحكم عليه الالهة استجابة لدعاء احدى عشيقاته , بان يقع في شراك حب لا يخرج منها فائزا .
واذ يحس نرسيس بالعطش ينحني ليشرب من ماء النبع , فيرى صورته وقد انعكست على صفحة الماء , فسحرته ووقع في غرام طيف حسبه جسدا , وهو لا يعدو ان يكون ظلا . وحاول تقبيل وجهه المنعكس على صفحة النبع , وحاول ضم خياله . وتورد الاسطورة هاجسا يحاور نارسيوسي " اى نار سيوسي ! ايها الصبي الساذج , فيما محاولتك الامساك بصورة خادعة ؟ ان ما تبحث عنه ليس له وجود حي , ولو انك استدرت لغاب عنك هذا الذي تهيم به . ان ما تراه ليس الا خيال نشأ عن انعكاس صورتك على الماء .."..
.. واذ يكتشف نرسيس الحقيقة يدرك وهمه قائلا : " ان هذا الصبي الذي يتراءى لي , ليس غيري . ان صورة وجهي لا تخدعني . انني احترق بنار حبي لنفسي . ويموت نرسيس حزنا , وتبكيه حوريات الغابة بنواح حزين . واذ تختفي جثته تظهر مكانها زهرة النرجس التي ستظل ترمز الى الاعجاب المرضي بالذات . لقد غدا الماء المرآة التي يبحث فيها نرجس عن ذاته التي حسبها شخصا آخر . ولذا اقترن ذكر المرايا بالماء او الظل .
(17) فصول للنقد الادبي " مرجع سابق " . ص : 33.
(18) كتابات سودانية " مرجع سابق " ص : 129
(19) السابق . ص : 130/131
(20) نفسه ص : 132
(21) نفسه ص : 134
(22) نفسه ص : 136

القاهرة في يونيو 2005
أحمد ضحية



للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved