السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

قراءة في استراتيجية العنوان في رواية صالح الجبل لدكتور مختار عجوبة .. بقلم أحمد ضحية

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
6/15/2005 10:23 م


أحمد ضحية
[email protected]
قراءة في استراتيجية العنوان في رواية صالح الجبل لدكتور مختار عجوبة ..
مختار عجوبة , فضلا عن كونه قاص (1) وروائي , هو احد اهم الذين انجزوا قراءة بيانية للقصة السودانية , منذ مرحلة البدايات حتى خواتيم الستينيات (2) و تعتبر مجهودات معاوية البلال النقدية - التي اهتمت بتقديم قراءات مبدعة - (3) مكملة لما بدأه عجوبة من مشروع رصد وتتبع نقدي لمسيرة القصة الحديثة في السودان ..
ولادراك ماتنهض عليه رواية دكتور عجوبة: " صالح الجبل " , تستوقفنا بدء رمزية الجبل ذاتها "اذا كان الادب نظاما من الرموز, له شفرته الخاصة ويشبه النظم الدالة الاخرى, مثل اللغة المنطوقة والفنون والاساطير, فانه يختلف عنها, باعتماده على بنية اخرى هي اللغة , ولهذا فهو نظام دال من الدرجة الثانية , اي انه نظام ايحائي , واذا كانت اللغة هي المادة الجوهرية, في تشكيل وحدات النظام الادبي , فهي تنتمي الى المستوى التعبيري . ولا تفقد معناها الخاص بالدخول في هذا النظام (4).. ومن هنا يمكننا ان نأخذ " الجبل "في رواية( صالح الجبل).. كرمز يسيطر مركزيا على التركيب الادبي في الرواية .. خاصة ان" الجبل ينتمي" الى مجموعة الرموز التي تتردد في ثقافات مختلفة, ليس بينها علاقة تاريخية. محافظة على قيمتها فيها جميعا .. ورمزية الجبل نجدها في السرد العربي في اعمال العديدين .. على سبيل المثال استخدام الجبل والحجر ( كرمز كوني ) في اعمال ابراهيم الكوني الروائية , التي تجعل من الصحراء ككائن حي موضوعا لها ..
وعلى ذلك فان العنوان ( صالح / الجبل ) - الدال على احد شخصياتها- " الدال :( الجبل) على هذه الشخصية: (صالح ) " .. ينطوي على وعي صالح "بجبليته" .. بمعنى الذات التي تتكشف في تضاعيف النص عن معان حارقة : وعيها بتفاصيلها الانسانية والتاريخية .. هذه الذات التي تتماهي في لغة السرد المحملة , بمكبوتاتها واحلامها ووعيها ..
فهذه الرواية لا تركض خلف السائد في السرد الروائي في السودان - بمعنى الشعرية في السرد - .. كما لا تقع في غواية بنيتها, كنص يستلهم التاريخ الغابر .. والمتخيل .. ولا تقدم تصورا لعالم مثالي - من وحي المخيلة - اذ تدرك نهوضها كنص - في التحليل النهائي - في الخيال .. الذي يحاكي الواقع ويكونه لكنه لا يكونه في آن .. وبذلك عالمها يكتفي بتصوير الواقع والتقاطع معه, في اكثر مناطقه المظلمة, ذات الصلة بهوية الانسان - بماهي ( هذه الهوية) : تاريخه - , كما لاتطرح رواية صالح الجبل نفسها , كتشكيل سردي مفارق , اذ تكتفي بما تنطوي عليه, من وعي حاد , قادر على اصطياد البنى الحكائية , واحيائها سرديا , في وعينا. دون مفارقات او تجريدات ذهنية او مقولات , ومن هنا تتسم رواية صالح الجبل, بالبساطة الاسرة. تاسيس عجوبة لهذه الرواية في تيمتها الاساسية, على قاعدة الاثري الحفري , بما هو التاريخ الغابر , بابعاده السياسية واسقاطاته على الراهن , سمح لعجوبة ان تتأكد نوازعه الفكرية نفسها, في اطار يسمح لبساطة تركيبه لهذه النوازع , دون الارتطام بجدران الواقع , ومحاولة فكها وتحليلها , اما على المستوى التشكيلي فقد سمحت للاداة الروائية , بالاشتغال في نسج الرواية بهدؤ ودربة فجاءت كنسيج محكم التماسك , يتحرك الشخوص على احداثياته بسهولة ويسر وهو - ربما - ما جعل الروائي الفذ : ابراهيم اسحق يصف هذه الرواية, بانها اكثر نضجا من اعمال اخرين معاصرين لعجوبة.. .يقول الاستاذ ابراهيم اسحق حول صالح الجبل " في منتصف السبعينيات , ظهر نمط ثالث للرواية السودانية , رواده اولئك الكتاب الذين عاشوا في الجو الاكاديمي لجامعة الخرطوم , واحسوا باهتمام الوسط الثقافي بكتابة الرواية , وانه يمكنهم ان يدلوا بدلوهم في ذلك من خلال تجاربهم .. مثل دكتور ابراهيم الحاردلو وروايته عربة الروح . والتي كانت اشبه بسرد تجربة ذاتية لم تكتمل لها تماما ادوات الصنعة الفنية للرواية . ومثلها رواية فضيلي جماع " دموع القرية " وصالح الجبل لدكتور مختار عجوبة .. وربما احسست وانت تطالع هذه الاعمال كان اصحابها استعجلوا تجربة كتابة الرواية او انهم لم يستعدوا جيدا لتجربة كتابة رواية بمقاييس حديثة ... ولا شك ان دكتور عجوبة كان افضلهم , فلديه من قبل مجموعة قصصية ( عندما يهتز جبل البركل ) ورسالته للماجستير عن القصة .. لهذا كانت روايته انضج فنيا(5)"..
و من خلال شخصية صالح الجبل , تتقدم الرواية في عرضها, لنماذج حية تتفاعل بالتجربة الانسانية, وتصل بها الى معنى الالتزام, من خلال الانتماء الى حركة المجتمع .. في محاولة مقاومة العمدة,الذي يسعى لدفن التاريخ (المقبرة الاثرية), حتى لاتنتزع منه الارض .. بحيث تطرح هنا مسألة التاريخ المتآمر عليه .. التاريخ بما هو ثقافة , وذاكرة .. بما هو الضحية الاساسية التي تتلوى تحت سياط الواقع .. لكنها تبقى صامدة , تبين كلما تم طمر جثتها بالتراب .. فمهما تم دفنه - التاريخ - من قبل السلطة الرسمية, يطل شيء منه ليذكرنا بانه باق ..
نلاحظ تكرار بعض شخصيات الرواية, التي نجد لها ملامحا في شخصيات مجموعته القصصية:" عندما يهتز جبل البركل" , لكأن الرواية صالح الجبل تقيم حوارا على مستوى الشخصيات معهذه المجموعة القصصية - لا نريد ان نقول انهما اعادة انتاج لبعضعما البعض - , وهو ما اقتربت منه ملاحظة الصديق الناقد المصري احمد الشريف, عندما قارن شخصية( فتح الرحمن السلفي في صالح الجبل) ( بشخصية ودحبوبة في المجموعة القصصية: - قصة اذكروا محاسن موتاكم -)"..
ولا شك ان صالح الجبل من الروايات ذالت القول المميز , اذ اشتغلت في هموم مشروع التحديث , واتصور ان المفتاح لسبر اغوار الرؤيا في هذاالنص (صالح الجبل) يكمن في رمزية الجبل نفسه - فالجبل يتكرر كعنوان للمجموعة القصصية والرواية , كما يرد كثيرا في نسيج التيمة القصصية والروائية , بما يشكل مفتاحا للرؤي التي تحملها هذه الرواية, التي تجد مرجعيتها في المجموعة القصصية - فالجبل ليس مجرد , موطن للعنج " في هذا الجبل يسكن قوم من " العنج " يملكون سواقي من الذهب والفضة (6)"..
فهو كرمز اكثر من ذلك .. فهو رمز الاستقرار والحنين الصوفي - عزلة الزهاد - , والقوة والباس , والصلابة التي تجد جذرها في الصبر والصمود . انه الجبل صالح, الذي يحيلنا بازليته الى الاسلاف , الملكة ناصرية اخر ملوك العنج - والتي تتقاطع مع شخصية سمرتوية في مجموعته القصصية - ويحيلنا الجبل ايضا الى مكونات الطبيعة الاخرى التي ينهض فوقها, مثلما يحيلنا الى الى هذا الوجود المنفي, في التاريخ بمؤامرة وتواطؤ الدفن للمدينة الاثرية .. وهو منفى الذات والبحث عن وجه لهوية, دائما ما تقع في اللاشعور. ولا تمكث في لحظة الشعور, الابوصفها مقبورة بالتآمر .. صورة لا تنفك عوامل الطبيعة تزيح عنها الركام فتظهر , لكنها تغمر من جديد فلا يجد لها علماء الاثار اثر .. صالح الجبل تطرح سؤال حيوي : اين تنتهي الميثولوجيا ؟ اين يبدا التاريخ ؟ لدينا حالة جديدة تماما هي: حالة تاريخ شعبي غير مدون وتجلياته في كرامات الاولياء والصالحين, وعلاقاته بالمدينة الاثرية , انه مجرد تراث لفظي يسود الزعم بانه التاريخ في الوقت نفسه, ولدينا تواطؤ عليه كذلك, حتى لا يخرج الى العلن رسميا..
صالح الجبل بحث روائي عن الهوية التي لايسعها- الرواية - ان تجدها في هذا المكان , فهي في مكان اخر " عندما ناتي الى هذا العالم فاننا لانخلع في واقع الامر عن جذورنا , بل نحمل في انفسنا في واقع الامر: الانفصال عن الجذور , وهذا الوجه الذي سنحاول طيلة حياتنا ان نلصقه بجلدنا حتى لو ادى الامر الى فقدان هويتنا الاولى , سوف يكون بناء نتولاه عبر دروب تفضي الى لا مكان : " .. فذهبت الى النيل وكانت مياهه أكواما كالقطن المتراكم او السحب التي حملتها الرياح في عنف تتدافع وتتسابق وكان مندفعا قويا تغير طعم مياهه العذبة حين تكون هادئة صافية(7)".. هذا الفضاء الطبيعي التاريخي يتشكل فيه الحنين , وتواطؤ الماضي على الماضي , وصراع هذا الماضي مع الحاضر - صراع العمدة رمز السلطة السياسية والاب رمز السلطة الابوية في ان .. هذا الصراع ضد السلطة الزمنية المتغيرة .. هذا التواطؤ ضد التاريخ ( المدينة الاثرية ) في سبيل مكاسب آنية محدودة تفتقر لقيمة الخلود , هو ما يشكل الفضاء الروائي لصالح الجبل ..
بهذا المعنى صالح الجبل رواية كبيرة تصور المجتمع, في تنوع ممارساته اليومية, متنازعا بين قيمتي الشر والخير , ومن هنا لا يحضر العالم الروحي والداخلي لشخصياتها, الا بقدر تحققه في وقائع واحداث وعلاقات الحياة , اي بقدر تحققه روائيا في بنى مشهدية سردية وصفية - وهي البنى التي تشكل مقومات الخطاب الروائي .. وبمعنى اخر لا ينكشف هذا لاالعالم, الا بقدر تفاعله مع الواقع الموضوعي - علاقات الحياة - الذي يترك بصماته الحادة الحاسمة على مصائر الشخصيات . اذ يشكل هذا الواقع مرجع خصوصية الشخصية الروائية وتميزها , ومرجع ايهامنا بانها من لحم ودم. وليس الواقع الموضوعي هنا, سوى اسم اخر لعلاقات الحياة, التي تضطلع بدور حاسم, في تحديد مصائر الافراد, والمجتمع بشكل عام وتوجيهها (8)..
استطاع عجوبة في هذا النص الروائي, توظيف تقنية الحكي الشعبي, بعوالمه الصوفيه والاسطورية, ولم تقتصر ظاهرة التناص عنده, على الاستلهامات الفلكلورية, وحسب وانما تعداها ليتناص مع تراثات غابرة , الى جانب توظيف العناصر الشعبية, ما جعل هذه العناصر الشعبية: امتدادا لعناصر الثقافة الغابرة , ممثلة في ما انطوى عليه انسان( مكان الرواية) من ثقافة تلك المدينة الاثرية - ما يلغي الحاجة لاكتشافها, فهؤلاء القوم الماثلون احفاد سكانها الغابرين, وينطوون على شيء مما تمثل في اجدادهم الغابرين, هم ايضا جزء من الاثر , ببسطائهم ومثقفيهم !! ..
صالح الجبل هي قصة السودان: بفقراءه المعذبين في الارض , واساطيره وخرافاته وتاريخه التليد, تلادة الجبل . وتلادة انسانه .السودان الكوني الذي لا تتقاطع عنده عناصر الطبيعة المختلفة فحسب. بل بشره ايضا بسحناتهم المختلفة , وسلوكياتهم المختلفة .. سودان المثقفين الخرطوميين المأزومين , باسئلتهم الوجودية, القاصرة عن انتاج اجابالت للاسئلة التي يطرحها الواقع الشائك, الذي لا يخلو من خذلانات عميقة للانسان والجبل.. الانسان الاثر الصامد كالجبل , رغم كل شيء ..
هوامش :
(1) مختار عجوبة . عندما يهتز جبل البركل. " مجموعة قصصية " . مركز الدراسات السودانية .2002.
(2) مختار عجوبة . القصة الحديثة في السودان . مركز الدراسات السودانية . طبعة ثانية 2002.
(3) معاوية البلال . الشكل والمأساة . الشركة العالمية للطباعة والنشر .
(4) د ز صلاح فضل . البنائية في النقد الادبي . ص : 312
(5) كتابات سودانية .العدد الثاني والعشرون . ديسمبر 2002 ص : 83
(6) مختار عجوبة . عندما يهتز جبل البركل . ص : 16
(7 ) مختار عجوبة . صالح الجبل . " رواية ". مركز الدراسات السودانية . 2002 ص : 52
(8) د . عبد الرزاق عيد . محمد جمال باروت . الرواية والتاريخ . " دراسة في مدارات الشرق " دار الحوار طبعة اولى 1991. ص : 71

للمزيد من االمقالات
للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved