السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

قراءة في العالم القصصي لعلي المك بقلم احمد ضحية

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
6/10/2005 10:58 م

قراءة في العالم القصصي لعلي المك.............................. احمد ضحية
ومحمد ابراهيم الشوش :
(1)عالم علي المك القصصي ..

الحديث عن القصة القصيرة لدى جيل علي المك , ( منتصف الاربعينيات والخمسينيات ) , لهو حديث محفوف بالمخاطرة ولا يخلو من مغامرة ومعاناة الولوج الى عالم من الاحاسيس, وفيوضات المشاعر والتدفقات الحدسية , التي يعيشها القاريء وهو يقرأمجموعة ( هل ابصر أعمى المعرة ) أو مجموعة ( حمى الدريس ) , الخ ..
اذ يجد نفسه لا يقرأها بقدر ما هو يعيشها , فمن خلال نصوص علي المك, بصياغاتها اللغوية ذات العالم الخاص , والنظام اللغوي االاكثر خصوصية , في ترابطاته وعلاقاته الخاصة. بسبب ان اللغة عند المك تختلف, عن اللغة النمطية التي تجعل هدفها الاساسي التوصيل والابلاغ - فلقصة علي المك خصوصيتها- رغم انها تجري على النهج الموباساني - فبسبب هذه الخصوصية, لم انشغل عند قراءة علي المك, بالبحث عن صور مجازية تضيء( حمى الدريس- القصة ) او حتى البحث عن مجموعة, من الرموز والدوال اشغل نفسي بحلها , وانما هي لحظات من الدهشة والتوتر, والترقب والحذر , تملكتني وانا احاول في جهد مضن, متابعة المك عبر تخوم عالمه , الثر . لاتوقف اخيرا عند كوّن اللغة والحس الشعبي ..
تنبع أهمية علي المك من كونه أحد أبرز , الكتاب الذين ارسوا, وكرسوا لكتابة القصة القصيرة في السودان . وفقا للنهج " الارسطي - الموباساني " : ( بداية - ذروة - نهاية ) .. وساد هذا الاسلوب في كتابة القصة , منذ فترة الخمسينيات حتى الستينيات , ويعتبر هو قاعدة الانطلاق , للا ساليب الاخرى في كتابة القصة - ما أفضى الى كتابة القصة الحديثة في السودان , نتيجة لجدل التلاحم بين مختلف الاساليب والذي مهدت له مجهودات علي المك وغيره من ابناء جيل الاربعينيات والخمسينيات بارسائهم لدعائم المنهج الموباساني - الذي شكل القاعدة لانطلاق القصة الحديثة في السودان ابتداء من ستينيات القرن الماضي ..
ولذلك يعتبر بروفيسور علي المك, احد رواد القصة القصيرة في السودان, بشكلها الارسطى الموباساني ..
وتجدر الاشارة هنا الى ان القصة عند علي المك, اعتمدت بشكل اساسي على الفضاء المفتوح( قصة كرسي القماش - مثلا ) وهذه القصة ( حمى الدريس )(1) التي يلعب فيها " هذيان الحمى " كفضاء ميتافيزيقي شاسع , تيمة اساسية لهذا النص, الذي تتفاعل فيه هذيانات اللغة والفكرة ..
فبطل هذه القصة , لا يكتفي بتحديد الشارع, كفضاء مفتوح للهذيان الواعي او اللاواعي , بل يتعداه الى مناقشة قضايا جمالية معنوية , تجسد علاقته بالنيل الازرق, الذي تمت الهيمنة عليه من قبل الابيض , فينطلق من هذه العلاقة, بالنيل لممارسة هذياناته , التي هي في واقع الامر ليست هذيان محموم, بقدر ما هي محاولة لتكيف انسان, مع عالم كل شيء فيه قاهر.. حتى الطبيعة ..
حمى الدريس نموذج للقصة, التي يهيمن فيها صوت الراوي المتكلم, كما هو الحال في قصص الاسلوب الموبساني عموما , وقصص علي المك خصوصا ..
ان الدخول الى النص وعلاقاته في سياق معين , انما يتحدد بمحاور عديدة , تبدأ بالخطاب - يعرف بنفيتست الخطاب بانه : اى منطوق او فعل كلامي يفترض وجود راو ومستمع وفي نية الراوي التأثير على المستمع بطريقة ما , والخطاب عند فوكو : هو مجموعة من المنطوقات التي تنتهي الى تشكل واحد يتكرر على نحو دال في التاريخ , بل على نحو يغدو معه الخطاب جزء من التاريخ هو بمثابة وحدة انقطاع في التاريخ (2) - وعلاقته باللغة ومدى تفاعل النص مع السياق الناشيء فيه ...
مغامرة اللغة والحس الشعبي في حمى الدريس :
تتسم كتابة علي المك بالحميمية والحس الشعبي , والبراءة ( وتلك هي وفاء . تقول لها : - من الذي اخترع اللبن الزبادي ؟... اهل منغوليا .. قالوا . بل قرأت مرة.. كذبا كاذب ..".. فعلي الملك يعيد صياغة الحوارات التي تدور بين الاطفال, و يعمل على توظيفها في لغة النص بكل ما تتركه من اثر على هذه اللغة .. لاغناء تجربة الانسان مع اللغة , بما هي كون تنتظم فيه الحياة الانسانية , حيث تتكشف في النص عن علاقة الانسان بتأثيرات الحياة والتجربة
الاجتماعية ,التي يمثلها المك هنا بعلاقة الورق بالكتابة عليه , فمهما ارتدى الانسان من مظهر خارجي ففي خاتمة المطاف يبقى الجوهر الانساني , كذا مهما تسودت الاوراق باللغات المختلفة , تبقى اوراق ( كشخص ما يوماً يلبس جلابية وتارة قفطاناً ، وطوراً بنطلوناً وقميصاً والروح هي ذاتها ، هي اياها ، هي.. هي ..) ..
االحس الشعبي ينعكس لدى علي المك, على مستوى لغة القصة , فلا تخلو منه الكثير من مفرداتها - وبذات الوقت العالم موضع اهتمام الراوي - العالم الشعبي في اقصى تفاصيله وحكاياه, يتماهيان معا حتى يشكلان شيئا واحدا, هو كوّن اللغة : ( ذاك الصديق كان قد عشق امراة يغشاها (دم التاجر) كثيراً في الصيف ، تحك جسدها ، يكاد يدمي .. قال ان مرضها ينبئ .. يتلمظ .. يقول ما يعني ان ذاك الهياج انما هو اعلان عن رغبتها فيه ، قلتم له : مسكين .. مريض انت لا هي ) .. ( وما شانك بالقماير.. ).. ( قبلها قلت ان ذلك كله من بعض ما يسمي امراض الحساسية منها حمى الدريس (هي فيفر) ..) .. ( ثم تصبر او ان يزهر النيم الي احمرار في العينين يفيض ، وفيض من العطس. انت تعلم اصرارها ذكران الدكتورسعيد طبه ناجح يده لاحقة باختصار رجل مبروك ومختص في مثل ما كنت منه تشكووتتعذب ، ولتضف لهذا ذاك الصوت الصفيري يجعل الصدر جحيماً ، قيل الريوذاك وجمعوا هذا كله فاسموها الحساسية )..
وقد تميز علي المك بقدرة مدهشة على الانسياب في الحكي- طبيعة اللغة الانتقالية التي يستخدمها : سنأتي اليها لاحقا - والتنقل في القصة الواحدة بين مواضيع مختلفة, دون ان تدرك اللحظة التي تم فيها هذا الانتقال, ففي هذه القصة( حمى الدريس) التي يستهلها بعشقه للنيل الازرق, وتحسره على اطفاء المقرن للونه , يمضي مع( وفاء) في اللحظة ذاتها, للحديث ببراءة تتلائم وهذا الشعور بالانتماء, الى النيل الازرق . ثم لا يلبث ان يقدم اشارات عن هذا المجتمع الذي يحيا فيه ووفاء , والطامعين في وصالها من الاصدقاء واهتماماتهم,الخ ..
هكذا ينساب في بساطة وسرعة لا نستشعر معها, انه يتحدث الان عن موضوع اخر , ليس هو ذاك الموضوع, الذي كان يتكلم فيه منذ قليل, وكل ذلك يتم بحس شعبي عالي - رغم رصانة اللغة الفصحي - , التي يجري عليها التركيب الدارجي السوداني, والتي عندما يوظفها في هذا التركيب الشعبي للغة الدارجة, تتحول الى لغة مدهشة تتماس مع الفصحى القحة , التي كتبت بها امهات الكتب..
- تمتلك لغة علي المك هكذا خصائص مرونة مدهشة, تجعل قدرتها على الانتقال, في التعبير عن مواضيع مختلفة , غير محسوس - , فتخال نفسك عند بعض المقاطع, تري تلك اللغة تبعث في طبعة جديدة عند علي المك ( اذا كانت اللغة اداة للتوصيل والتواصل الانساني, في المستوى الاول من وظائفها , الا انها كنواة للنظام الدلالي , ولما تتمتع به من قدرة سيميو طيقية خلاقة ومتجددة , بتجدد استخداماتها , فهي تعتبر وسيلة الادب, الذي يعد مستوى ارقى من التعبير ومن استخدام اللغة, على مستوى الشكل والمضمون , لذلك فارتباط اللغة بالخطاب الادبي وثيق , وبالاضافة لخصوصية هذا الارتباط , فالخطاب هو الذي يحدد لغته الخاصة, التي تفرز شكلها الملائم. وتتحرك فيه وفقا لقوانين هذا الخطاب , التي تحقق لكل منهما تميزه عن الخطابات واللغات الاخرى , وتحقق لكل لغة جمالياتها الخاصة (3)..
يمضي راوي حمى الدريس في القول :( وقال قدم الى لورنس كانساس يزور اخته اولاً ويعالج لغته الانكليزية من بعد ، ويتحرى اصول البلوز .. لحظت انك اندهشت .. قالت : نطقي في الانكليزية لا باس به اليس كذلك لا تظن انني مثل بعض مذيعي راديو امدرمان لا يعرفون الفرق بين امريكا وام ريكا !! ضحكتما.. انقضى أوان حمى الدريس وشهور حمى الدريس انقضين وسفر الصيف ".." صدر كتاب الحكايات - كل العصور - المصادفة قاعدة .. اما الاستثناء ؟ يقولون انه بينما كان يعبر الطريق بصربها نظراليها، اليه نظرت حين نظرت الي عيني وفاء اول مرة كانت حمي الدريس كما تعرفها انت عن نفسك ، تفور في وجهها ، ما وصف احدعيوناً تغشاها حمرة ، هي حمرة، الدماء .. كان كتاب الحكايات ، يتحدثون عن المصادفة كما اعتاد الشعراء نبش العصافير في قبورها .. كل عصفور وصفوا عصفور ميت .. هل رايت الاحمرار في عينيها ، اذاك شي جميل؟ فيوصف اصمت صه ..تذكر صديقاً اذن دعني اقص عليك هذه .. نعم..)..
ولنلاحظ في المجتزأ أعلاه كيف استخدمت اللغة " وقال قدم الى لورنس..." كأنك تقرأ في مفتتح من كتب السير والاخبار العتيقة .. لكنك ما ان تمض قليلا حتى تفاجا بانك خارج من بطن المعاجم , الى لغة العصر التي اختلطت بلغة هذه المعاجم : " يتحرى اصول البلوز .." وهكذا مرورا بالتناص مع لغة القرن وتراكيبها " عيونا تغشاها حمرة .."..ويمضي راو على المك في حمى الدريس ليفتحنا على مزيد من اغوار هذا الكون : اللغة( تعود الي امر المصادفة عند كتاب الحكايات ، صدق اولئك ، كذبت انت عيادة طبيب ، ايام كانت ادواء الحساسية تأخذك كل جانب ، العام جله، تارة كله.. حكة تبدأ علي الاذن اليسري تقول تعالجها بظفر اذ يبلغ مقامها ناب تستكين وتغفو، تظن انك قضيت علي ثورتها ، احتويت حدتها ، هذه لغة السياسة كما تعلم ..يقولون الاحتواء واء .. واء .. انصرعن هذا العبث الساذج .. قل كلامك .. " حاضر طيب " ..
قلنا تهبط الثورة من الاذن اليسري الي الساق اليمني .. طريق معقد كما تراه ، ولها معبد اذهي تسلكه غير هيابه سبيلها مجري الدم في لمحة اوبعض لمحة تنحدر يدك تتبعها بظفر،وقد تبلغ مكانها بناب،اوانت اعسر تكون اليد اليسري،او ايمن فباليمني .. بديهي ايها الثرثار .. تقول حين تبلغ ساقك اليمني بظفر من اصبع في اليد اليسري، ام هي اليمني ؟ انت معقد.. لا ريب لانك اعسر ، تسمع كثيراً من يذكر الشيطان في اليد اليسري ، والاعسر يخالطه الشيطان . صه يصعد الدم الفوار الي الكتفين والي الظفر نفسه الذي به نستعين . هذا يدعو ان تعض مكانه باسنانك كلها..) وفي هذا المجتزا نلاحظ بوضوح تخلل الحس الشعبي, لكل ثنايا اللغة:" حكة تبدأ على الاذن تقول تعالجها بظفر".."الاعسر يخالطه الشيطان "..وفي المجتزا التالي يوظف المك الذاكرة الشعبية المشتركة , بتوظيفه لاشارات تنتمي اليها مثل حكاية دخول النيم السودان :
( شجرة النيم التي في البيت غرست يوم مولدك ان اجتثت تموت انت وان جفت عروقها قضيت ايضاً. ولله العجب! فلها انوثة طاغية تزهر قبل الاوان وتؤذيك .. وما الصوت الصفيري ؟ وما حكاية الناس في القمائر ؟ والنزلات المعوية ؟ .
حسنا سافر الي بلاد ليس بها نيم ، كثيرة بلاد الله التي لم يدخل اليها اللورد كتشنر شجرته الاثيرة .. ذكروا هذا وصدقنا في عيادة الدكتور سعيد تلفزيون ملون، ومصلي .. والناس المرضي مؤمن وغير مؤمن جلس الي جانبها في العيادة- مصادفة اتفاقاً كان صوته الصفيري يسمع، وسعاله متصل يلتفت اليك المرضي من الناس من يعرف بصوت سعاله سيقولون هوذاك هو ذاك وليس لديك نظارة فتخفي وراءها العينين الحمراوين كل اولئك قد لحظوا امرعينيك تكون كارثةلوتبع هذا اولئك مااولئك سوي حك الاذن اليسري فالساق اليمني وبعد ذلك الانف والسرة وهلم جرا...
اول مانزلت ارض مصر راك احد معارفك من الطلاب السودانيين تحك كل مكان تارة تحك فيما يشبه العنف اللذيذ، كالمحموم يلذ له الجلوس اوالوقوف تحت الشمس والشمس تصليه .. كنت انت .. قال صديقك الطالب في مصر " تغير الهواء " ، كان المفروض ان تاكل بصلة ساعة وصولك اليها ! مسكي طالب وبائس ما عرف من خيرات ام الدنيا شئياً سوي بصلها..) .. فنجده يستخدم احدى اشارات هذه الذاكرة المشتركة للتعبير عن موقف نفسي راهن لا يخلو من الاسقاط التاريخي ...
على سبيل المثال نلاحظ رصانة اللغة في : عيونا تغشاها حمرة - ان جفت عروقها قضيت ايضا, الخ -.. ومثالا للغة الفصحى التي اجراها مجرى الدارجة السودانية : وما حكاية الناس في القماير والنزلات المعوية -انك اندهشت - المصادفة قاعدة - الفرق بين امريكا وأم ريكا, الخ .. ومثالا ثالثا للتركيب المألوف في القص : حين نظرت الى عيني وفاء اول مرة كانت حمى الدريس كما تعرفها انت ..
وهكذا نجد ان علي المك في دمجه,الاسلوبين الذين اشرنااليهما : ( رصانة اللغة - والفصحى التي تجرى مجرى الدارجة السودانية ) في تركيب اللغة , مع الاسلوب( القصصي المالوف) الذي يحاول انتقاء الكلمات الادبية في التعبير السردي, خلق اسلوبه القصصي المميز في مغامرة اللغة.. فمن هذا الهجين المدهش كانت( حمى الدريس) النص القصصي ترتبط بحمى لغة النص وشكله . بحيث شكل علي المك من كل ذلك توحدا مع موضوعه : هذيان الحمى, التي سعى لتحديدها وتأكيدها على مستوى اللغة والفكرة- التي حملتها هذه اللغة - . ما خلف اثرا كبيرا فينا . ليس هو بموضوع هذه القراءة. واخيرا نجد ان المك يتميز بقدرة على التوليدات في اللغة , بسبب قدرته العالية على الاختيار الواعي الحر للغته وقدرته الفائقة على بناء علاقات خاصة من عناصر اللغة العادية , كاشفا عن الطاقات التعبيرية الكامنة فيها : من حيث اللفظ وتركيب الجملة وبناء الفقرة - وفقا لما اشرنا اليه - وهو ما عناه تشوفسكي بقوله :" ان اللغة خلاقة تتكون من عناصر محدودة وتنتج او تولد انماطا لا نهاية لها " .. ولغة المك بحاجة لدراسة متأنية فهي لغة متوترة مشحونة مقطعة متداخلة ومركبة تركيبا خاصا ..
يظل بروفيسور علي المك احد العلامات المضيئة في تاريخ القصة القصيرة في السودان - التي من الصعب تجاوزها دون الوقوف عندها طويلا - , ومرحلة من عمر هذا الجنس القلق المتوتر المسمى بالقصة القصيرة ..

(2) العالم القصصي للشوش..
( وجوه واقنعة ) لدكتور محمد ابراهيم الشوش(4) , تندرج في ذلك النوع من القصص القصيرة المكثفة, التي يسميها النقاد في مصر " قصة الومضة ".. تقيم مجموعة عبد الحميد البرنس - (تداعيات في بلاد بعيدة - اقصد القصص القصيرة جدا ) - حوارا مع هذه المجموعة .. كما تقيم هذه المجموعة حورا مع مجموعة قصص القاص التركي عزيز نيسين ( ذيل الكلب).. واعني هنا بانها تقيم حوارا ," التناص "..
بمعنى ان فكرة التناص تنشأ من علاقة النص بغيره من النصوص , فالنص لا ينشأ في فراغ , وانما ينشأ في لغة / في عالم ممتليء بالنصوص الاخرى والابنية النصية والمعرفية التي تسهم في تكوين هذا النص من خلال محاولته للتعامل مع هذه النصوص من خلال العمليتين الحفريتين : " الاحلال والازاحة " , ومحاولة الحلول محلها في الكيان اللغوي, وهذه العلاقة هي علاقة تفاعلية, تقوم على الاحتكاك بين النصوص, والتحاور معها. فقد يقع النص في ظل نص, او نصوص اخرى(5) , وقد يتصارع مع بعضها. وقد يتمكن من الاجهاز على بعضها - مثلما اجهزت موسم الهجرة على صباح الخير ايها الوجه اللامرئي الجميل او اجهاز خريف البطريرك ومائة عام من العزلة على الفرقة الموسيقية وعصافير اخر ايام الخريف - وتترك جدلية الاحلال والازاحة هذه اثارها على النص , والتناص هنا بين نيسين والبرنس والشوش, على مستوى آلية المواقف في التناص السردي, وهي ادنى حد من اليات التناص , اذ لا تتجاوز المستوى الشكلي ..
( سنتعرض الى ذلك لاحقا, لدى قراءتنا لمجموعة عبد الحميد البرنس" تداعيات في بلاد بعيدة " في الفصل الرابع من هذا الكتاب )..
حول قصص الشوش :
تتميز القصة عند الشوش - وهي تجري على نسق الحكاية - بالتكثيف الشديد . ففي قصته (ضياع) " عشرة اسطر فقط " يتركز المعنى في ان الاشياء التي ليس بامكاننا استبدالها او الاستغناء عنها هى في واقع الامر تلك الاشياء التي لا نتذكرها ( قال عابر السبيل : منذ اشهر وانا اراك تأتي يا ابتي الى هذا المكان , وتبحث في نفس البقعة , هل ضاع منك شيء . قال الشيخ العجوز دون ان يرفع رأسه : نعم يا ابتي ضاع مني شيء ثمين . سأل الشاب : وما ذاك ؟ . اجاب الشيخ تلك هي المصيبة الكبرى يا بني انني نسيت ما هو . قال الشاب : وما وجه المصيبة في ذلك ؟ ان كنت لا تذكره فهو ليس بشيء . تمتم الشيخ وهو ينظر حوله وينقب في داخله : لو انني تذكرته يا بني لامكن ان استبدله او استغنى عنه بشيء اخر . اما الان فقد ضاع مني الى الابد (6) .. ففي هذه القصة يجري الحوار بين الماضي ( الرجل العجوز ) والحاضر ( الشاب) , ليكشف من خلال هذه العلاقة الزمنية , عن قيمة الزمن المستقبلي غير المرئي , من خلال ما هو ماض - لكنه( كان) مستقبل" قبل ان يمضي" بالنسبة للشيخ العجوز , فالمستقبل هو اى لحظة قادمة - ولان المستقبل دائما غائب , لا ملامح له سوى في احلامنا و خططنا التي قد تتحقق وقد لا تتحقق, والتي عندما لا تتحقق تسقط في جب الذاكرة , واطلالتها الى سطح الذاكرة احيانا يحمل معه نوعا من المرارات , ربما .. وربما لا شيء . ومع الاعتياد ربما ننسى . لكن يظل الزمن الذي بامكاننا - في الماضي- كان من الممكن ان ننجز فيه هذه الاحلام والخطط , دوما هو زمن عزيز علينا , وبنسيانه يسقط شيئا عزيزا من وجداننا ..وتحتمل هذه القصة اكثر من هذا التأويل الذي توسلها بالزمن . وتلك هي طبيعة النصوص المكثفة, اذ تحتمل العديد والعديد من التأويلات. فهي نصوص مفتوحة على فضاء شاسع من التأويلات الممكنة ..
وفي قصة ( الحافلة)التي ككل قصصه لاتزيد عن اسطر قليلة , مضي بنا الراوي للتعبير عن لحظة انسانية مصادفة يمكن ان تحدث لاي انسان , لكنها تكفي الى احداث تغيير وجداني يظل ممسكا بتلافيفه طيلة سنوات عمره القادمة(7).. وفي قصته " تحسن" يتكثف المعنى حول الزمن المعنوي , واثره على شعورنا بمدى سؤ الاحوال او تحسنها(8).. وفي قصته ( المهم ) يمضي للتعبير عن مدى سلطة المال في تغيير مواقف البشر (9) ..وكل هذه النصوص للشوش هي نصوص مفتوحة للتاويل لاحتمالها معان عديدة ..
ويلاحظ على قصص الشوش اعتمادها على المفارقة وروح النكتة والسخرية ( او ما يشبه الكوميديا السوداء ) في توصيل رسالة النص, ونموذجا لذلك سنتخذ من قصته (البنسلين الى جانب قصص اخرى ) نموذجا للدراسة ..
المفارقة في عالم الشوش القصصي...
يقول شليجل" اننا لن نصل الى المفارقة, الا بعد ان تكون الاحداث والناس , بل الحياة بأسرها مدركة وقابلة للتمثل بوصفها لعبة , فالحياة حشد من المتناقضات, والمتعارضات التي لا يمكن الامساك بها, في اطار موحد من الادراك. اللهم الا بعد ان نصل, الى حالة من ادراك ان المفارقة هي جوهر الحياة(10) ..
هذه القصة ( البنسلين )(11)اشتغلت بالتعبير عن ازمة التعبير , والحجج الواهية التي يتم التبرير بها لهذه الازمة .. فالقصة( على لسان الراوي المتواري) تتكشف خلال حواربين كاتب تم رفض نشر مقاله, من قبل رئيس التحرير , فيمضي للحوار مع هذا المسئول, للتعرف على اسباب منع مقاله من النشر ( قال رئيس التحرير في يأس : - انني آسف ولقد اوضحت لك الظروف , وليس عندي ما اضيفه ".." لم يقل لي احد من قبل ان الظروف قد منعت نشر مقال لي . فما هي الظروف التي جدت هكذا فجأة, بعد مجيئك انت الى رئاسة التحرير ؟ . قال رئيس التحرير : - يا اخي الظروف قد تتغير فجأة , فقد ظلت الامراض تفتك بالبشر قرونا طويلة حتى اكتشف العلماء البنسلين .).. ونلاحظ في هذه القصة قوة المفارقة في ذهن الكاتب ,. من مقارنة الحال التي لا تجوز فيها المقارنة على هذا النحو ..
وفي قصته ( مذكرة تفسيرية ) . التي يستهلها بالحوار, بين رئيس تحرير ومحرره للصفحة الادبية, حول عدم نشر نص شعري, لا حد الشعراء الشباب البارزين " قال رئيس التحرير لمحررالصفحة الادبية : يا اخي الموضوع ابسط من ذلك بكثير , فانا لست ضد الشعر المعاصر, او المستقبلي او الحديث او الحر او المنطلق . سمه ما شئت . ولست امانع ان تنشر له قصائده , فهو كما تقول شاعر معروف وله معجبون في اوساط الشباب . كلما في الامر انني - ربما لغبائي الشديد - لا افهم حرفا واحدا في شعره , ولا ادري ماذا يريد ان يقول . وبوصفي رئيس التحرير, المسئول عن كل كلمة تكتب في هذه الصحيفة , فانني اصر بان يرفق مع كل قصيدة, ننشرها له مذكرة تفسيرية, توضح بلغة عربية سليمة, ما يريد ان يقوله بالضبط , لانني بصراحة , لا اريد ان انشر شيئا لا افهمه , فاتورط في مصيبة (12)..اذ تركز هذه القصة الضؤ على منطقة مهمة من الصراع في المشهد الثقافي / الاعلامي .. وهو ليس مجرد صراع بين قيم الحداثة والقيم التقليدية , اذ يتعلق في جوهره بالاسس المعنوية, التى ينهض عليها طرفي الصراع , فهذه الاسس المعنوية هي ما يشكل القاعدة لجوهر الصراع: " المصالح " .. لكن لا يعبر هذا الصراع عن نفسه بهذه الفجاجة " المصالح " بل يتمظهر بطرق واساليب اخرى , هي الصراع بين القديم والجديد في مستويات مختلفة : لكن الى اى مستوى هذا الصراع ؟ فهذا ما انطوى عليه النص , كسؤال للتاويل ..
وفي قصته (معجزة) يدور الحوار في احدي البلدات, عن انها لا تعتبر انه لو حدث وتكلم الحمار , يمثل ذلك معجزة , حيث يعمل المعنى البعيد _ على المستوى البلاغي -بدلا عن القريب ( قال الصحفي في لهفة لشيخ البلدة الصغيرة : هل صحيح ما سمعت انكم وجدتم هنا حمارا يتكلم ؟ . قال شيخ البلدة بدون اكتراث : نعم . قال الصحفي : هذا شبء غريب للغاية . لا اصدق ان هناك حمارا يتكلم , الا اذا رايته بعيني وسمعته باذني . رفع شيخ البلدة رأسه وقال في هدوء : وما الغريب في ذلك ؟ فال الصحفي وهو في حالة قصوى من الدهشة : حمار يتحدث كالادميين تماما , الا يعد ذلك معجزة خارقة في نظرك ؟ قال الشيخ وهو ينصرف الى عمله : لا ! اننا لا نعد ذلك معجزة في هذه البلدة(13).. ففي هذه القصة يدور سؤال المفارقة حول التبلد الذي اصاب الانسان , جراء هذا الواقع ( الذي في حقيقة الامر غير واقعي مع انه واقع معاش لكنه غريب!!) , ولذلك اختيار الصحافي ( بوصفه ملاحقا للاحداث واحد عناصر تشكيل الرأي العام بل احد اعمدة صياغة المعنى الاجتماعي العام ) فبهذه الصفة , تتبدى المفارقة في كون ان الرجل العجوز الذي ليست له وضعية الصحفي ادرك غرابة الواقع التي لم يستطع ادراكها هذا الصحفي بعد, على الرغم من وضعيته كصحفي .. وهنا يأتي توظيف الحمار الذي يتكلم كاسقاط على شخوص الواقع !!!..
وبالاحالة الى قول زولجر : " ان المفارقة لا ينبغي ان تختلط بالسخرية " سنجد ان الشوش يحاول ازاحة المفهوم التقليدي في البلاغة القديمة للمفارقة " تنقسم المفارقة الى نوعين : - المفارقة الفظية ومفارقة الموقف . وتتحقق الاولى في النص الادبي على المستوى البلاغي ومستوى التعبير واسلوب السرد والشكل الادبي عامة . اما النوع الثاني فيعتمد اساسا على المستوى التاريخيس والايديولوجي (14) ..
ربما ان اعتماد الشوش للمفارقة جاء من كونه احد افراد جيل التحولات الاجتماعية والسياسية الضخمة , التي عاشت الهزيمة السياسية والاجتماعية للسودان ما بعد الاستقلال , ورأت احلامها الكبرى تنهار يوما بعد آخر , فلم يبق امامها سوى الغربة والغرابة .. وحملت كتابات هذا الجيل , آثار هذه الهزيمة . لتكون هنا - في السرد - تجسيدا للمفارقة بين الحلم والواقع , في تطور المجتمعات السودانية . نتاج الانكسارات والهزائم .المريرة .
هوامش:
(1) سحر سامي . اكثر من سماء .مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان . ص : 40.
(2) http://www.sudanjournal.com/Reports/Story4.htmlحمى الدريس ) ) . علي المك
(3) سحر سامي . أكثر من سماء . " حقوق الانسان في الفنون والاداب " مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان . ص : 30.
(4)السابق . ص : 32.
(5) محمد ابراهيم الشوش . وجوه واقنعة .مكتبة مصر . الطبعة الاولى 1989.
(6) السابق : ص : 21.
(7) السابق : ص : 22.
(8) السابق : ص : 23
(9) السابق : ص :30.
(10) الثقافة الجديدة . قصور الثقافة . العدد 173 . نوفمبر 2004. ص : 110.
(11) محمد ابراهيم الشوش . مرجع سابق . ص : 85.
(12) السابق . ص : 90 .
(13) السابق . ص : 208.
(14) الثقافة الجديدة " مرجع سابق " ص : 110 .



للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved