السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

الدستور بين الأمنيات الشعبية و الطموحات العصبوية بقلم Dr. Mousa Elbasha

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
7/5/2005 11:25 ص

الدستور بين الأمنيات الشعبية و الطموحات العصبوية

تستهل هذه الدراسة بمدخل تمهيدي يعرف لغويا و إصطلاحيا بماهية الدستور، ثم تلتمس الدراسة تقديم إجابات عن تساؤلات تتمحور حول موضوعية و ذاتية المباديء التي تشكل أنساق القيم الإجتماعية السياسية التي تمثل الموجهات الأساسية و المباديء الرئيسة الحاكمة لمضامين متن الدستور، كما ستناقش الدراسة أيضا الخيارات المطروحة على المنبر السياسي ككيفيات بمقتضاها تتم ممارسة سلطة الحاكمية في بلاد السودان، وتختتم الدراسة بخلاصة و جملة من التوصيات. هذا، و سيتم التعاطي مع هذه الموضوعات وفقا للسياق التالي:
الدلالة اللغوية و الإصطلاحية لعبارة دستور
فمن حيث الدلالة اللغوية، فإن معاجم اللغة العربية الأكثر تداولا كلسان العرب، مختار الصحاح والمصباح المنير لم تعرف بماهية لفظة دستور، و أغلب الظن أن المفردة لا جذر لها في لسان العرب، فقد ذكر "المعلم" بطرس البستاني في معجمه "محيط المحيط" أن عبارة دستور فارسية الأصل مركبة من مقطعين "دست" بمعنى القاعدة و "ور" بمعنى صاحب.(1) و يبدو من السياق الوظيفى أن العرب قد أستخدمت عبارة دستور للدلالة على مطلق قاعدة كمرتكز عام تؤسس عليه المقامات مادية كانت أو غير مادية.
أما إصطلاحا، فقد تعددت المصادر التي تناولت بالتعريف عبارة دستور عليه، سأشير هنا إلى بعض منها على سبيل النمذجة. فقد ورد في الموسوعة البريطانية أن عبارة دستور تدل على "المذاهب، الفلسفات و الممارسات التي تقرر أسس المباديء السياسية المنظمة للدولة ." (نقلا عن الإنجليزية) (2) أما موسوعة كمبردج فق عرفت مصطلح دستور ب "الوثيقة المكتوبة المتضمنة للأحكام المقررة الكيفية التي يحكم بها القطر..." ( نقلا عن اللغة الإنجليزية )(3) بينما عرفت موسوعة وبستر العالم الجديد لفظة دستور ب "القانون الأساسي...المنشأ لنظام الحكم و المحدد لعلاقات السلطات التشريعية، التنفيذية والقضائية فيما بينها و بين المواطنين..." (نقلا عن الإنجليزية)(4) أما المعجم القانوني فقد عرف عبارة دستور ب "نظام المباديء الأساسية الذي بمقتضاه تحكم أمة، دولة أو منظمات أخري..."(نقلا عن الإنجليزية)(5)
أما فيما يتعلق بكيفية إدراك ماهيات موضوعية و ذاتية المباديء التي تشكل مضامين أنساق القيم الإجتماعية السياسية لدستور أية أمة، أقول إنه لا سبيل إلى فهمها إلا بدراسة خصائص كل مجتمع سياسي على حده، عليه، و لفهم ماهيات القيم التي ستشكل مضامين أنساق مباديء مسودة دستور السودان المرتقب يجب تشخيص الواقع الإجتماعي السياسي الراهن لبلاد السودان الذي ما برح يلازمها منذ صيرورتها عضوا في المجتمع الدولي حتى حينها الكائن. إن واقع التحنط و الركود الذي تشهده بلاد السودان قد عايشته تاريخيا بعض بلدان القارة الأفريقية إبان الحقب التي أعقبت رحيل المستعمر في أخريات خمسينيات و مطلع ستينيات القرن العشرين المنفرط. هذا،فعلى الرغم من تشابه وإن لم يكن تماثل البيئآت السياسية، الإقتصادية و الإجتماعية فقد تجاوز معظم الدول الأفريقية مرحلة الصيرورة قطرا إلى الكينونة دولا وطنية بينما ظل السودان أسير مرحلة القطرية دون أن يستشرف عتبات عوالم الدول الوطنية بعد. فمنذ أن منحت إدارة الحكم الثنائي بلاد السودان صك تقرير المصير في الفاتح من يناير من عام 1956 ظل القطر السوداني راكدا ساكنا يراوح مكانه لم يحدث تبدلات شكلية أو تحولات موضوعية في أنساق منظومات قيمه الإجتماعية القائمة أصلا على الوشائج الأسرية و الروابط القبائلية و التحالفات الجهوية. فعلى الرغم عن تحقق الكينونة السياسية القانونية الدولية للقطر السوداني على الصعيد العالمي لم يتبلور مجتمعه المدني السياسي على الصعيد الوطني، فقد ظلت الكيانات القبائلية منذ ميلاد القطر السوداني إلى حينها الآني محتفظة بخصائصها الذاتية عنصرا، لغة، ثقافة و دينا، إذ ظلت أنساق المعتقدات، القناعات و الموروثات القبائلية تشكل مصادر القيم المجتمعية لا الإسقاطات الأيديولوجية و العقائد السياسية، بينما ما إفنك التكافل الأسري والتضامن القبائلي يجسد مظلة و سياج الأمن الجماعي لأعضاء الأسر ولأفراد القبائل لا المؤسسات الأمنية للدولة. فعلى الرغم عن التفاعل اللغوي و التواصل و الإحتكاك المادي الحياتي اليومي بين الأفراد و الجماعات القبائلية لم ينتج هذا التداخل إندماجا رأسيا و لا أفقيا، و من ثم وبالنتيجة لم يتبلور مجتمع مدني سياسي سوداني مؤسس على مرتكزات قيم سياسية أو أيديولوجية. إن معطى هذا الواقع يدفع إلى طرح التساؤل التالي، هل هناك حقيقة كيان مجتمعي مدني سياسي سوداني؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل تحفز بالضرورة إلى البحث عن ماهية المضمون الإجتماعي السياسي لعبارة سودان.
إن لفظة سودان في سياقها اللغوي العربي المتداول تصنف ضمن المفردات المفعمة بالتمييز القائم على اللون، فالمفردة تحمل في طياتها المعانية دلالات القدح، الذم و الإستهجان لا المدح و الإستحسان. فعبارة سودان لا تحتوي في جوهرها شيئا ذا مدلول إجتماعيي حضاريي، إذ لا يتجاوز مدلولها صيغة الجمع لمفردة أسود. فقد أطلق العرب تاريخيا في حقب ما قبل الإستعمار الأوروبي للقارة السمراء مسمى بلاد السودان على الأقاليم التي تقع إلى الجنوب من مصر و إفريقية (تونس) للدلالة على بلاد السود. هذا، وقد تجاوز المعنى البعد الجغرافي للقارة الأفريقية ليدل على كل بقعة من العالم يقطنها الزنج. هذا، و إستنادا إلى ما تقدم يمكن الجزم بأن عبارة سودان لا تحمل أية دلالة إجتماعية حضارية تعرف بهوية أمة بعينها أو مضمونا سياسيا قانونيا يدل على مسمى دولة بذاتها. إن إدراك هذه الحقيقة حمل مستعمرة السودان الفرنسي السابقة إلى إستبدال مسمى السودان الفرنسي إثر إستقلالها بمسمى مالي الذي يحمل دلالات تاريخية حضارية لصيقة بوجدان أحفاد (مانسا موسى) الزعيم الأبهى ألمعية بين سلاطين إمبراطورية مالي العظيمة. هذا، فقد حزت شعوب كل من دول ساحل الذهب، داهومي، فولتا العليا، رودسيا الشماليه و رودسيا الجنوبية إلى نبذ المسميات الإستعمارية و تبنت مسميات تأكد على الهويات الإجتماعية الحضارية التاريخية الممحببة إلى وجدانات أبناء تلك الأمم فبرزت من عمق ذاكرة التاريخ السياسي مسميات إمبراطوريات إفريقية عظمى ملأت الدنيا و شغلت الناس كإمبراطورية غانا و ممالك بنين، بوركينا فاسو، زامبيا و زمبابوي. فهلا إلتمس إهل بلاد السودان مسمى يؤكد على هويتهم الإجتماعية السياسية الحضارية!
هذا، و إرتكازا إلى واقع إنتفاء وجود عقد إجتماعي سياسي يمثل مرتكزا يقوم عليه بنيان ما يسمى (تجاوزا) بالمجتمع السودانى أتساءل عن ماهية الوشائج التي تشد الكيانات القبائلية المتعايشة في ربوع بلاد السودان بعضا إلى بعض؟ هل هي وشائج دينية؟ و أي دين ذلك؟ هل هي روابط عقائدية أيديولوجية؟ وأي أيديولوجية تلك؟ هل هي أواصر عرق ورحم؟ وأي عرق أو رحم ذلك؟ أم هي وشائج إقليمية؟ وأي إقليم ذلك؟ أم هي علاقات حياة ووجود فرضتها ضرورة التعايش القائم على إعتبارات مراعاة ورعاية المصالح المتبادلة؟ إن هذه الإستفسارات تفضي إلى طرح التساؤل العمدة الذي مفاده، هل هناك كينونة حقيقية لأمة أو قومية سياسية سودانية؟ وما هي مرتكزاتها القيمية و المادية؟ عن هذا التساؤل المركب أتطلع إلى سماع إجابات موضوعية من قبل علماء الإجتماع السياسي السودانيين.
إن هذه التساؤلات ليس الباعث إليها هوس أكاديمي و إنما المحفذ إليها إرتباطها الوثيق و المباشر بموضوع الدستور لماذا؟ لأن الدساتير عموما (بإستثناء دساتير الأنظمة الطغيانية) تعبر بالضرورة عن قيم و مباديء سياسية، إقتصادية، إجتماعية، ثقافية و حضارية لمجتمعات بعينها مثلما تعبر أيضا عن قيم و مباديء عامة تعد تراثا إنسانيا يحرص كل مجتمع متمدين إلى تبجيلها و إجلالها و من ثم تضمينها متن دستوره كحقوق الإنسان و حرياته الأساسية.
إن من أشكل التحديات التي يفترض أن تواجه المفوضية المكلفة بتقعيد أحكام مسودة دستور السودان المرتقب مشكل تحديد القيم المجتمعية التي تمثل مباديء عامة تتمحور حولها إرادة الجماهير السودانية، إذ أن في غياب مفهوم محدد يجسد حقيقة ماهية المرتكزات القيمية يكون من الإستحالة تقعيد أحكام مسودة الدستور. و في هذا الخصوص أرفع إلى مقام المفوضية الموقرة التساؤلات التالية:-
ما هي الفلسفات الإجتماعية السياسية التي تمثل مصادر أنساق القيم و المباديء التي ستقعد على هديها أحكام مسودة دستور السودان المرتقب؟ هل هي فلسفات ذاتية تعبر عن القناعات الأيديولوجية والعقائدية للفعاليات السياسية المهيمنة على المنبر السياسي السوداني؟ أم هي فلسفات تعبر عن معتقدات الكيانات القبائلية المتساكنة في ربوع بلاد السودان؟ أم هي فلسفات تعبر عن المعتقدات الذاتية لأعضاء المفوضية الموقرة.؟
إن مصادر الفقه الدستوري تؤكد بجلاء أن الأيديولوجيات السياسية قد حددت مضامين متون الوثائق الدستورية كنظم قانونية أساسية ضابطة و موجهة لمسارات كافة الأنشطة الحياتية في الدول منذ فجر التاريخ بدءا بالعصور السحيقة مرورا بالحقب الوسيطة، الحديثة و صولا إلى آننا المعاصر.ففي العصور القديمة ووفقا لمضامين الفلسفات الإجتماعية السياسية قد نمط إفلاطون دساتير الدول إلى تيموقراسيات حيث يهيمن الجندرمة (النفس الغضيبة) على مقاليد سلطة الحاكمية و من ثم يمارسون مكنة التقرير و الآمرية عبر الإدارات الإستراتوقراسية (الحكومات العسكرية) التي يتسيد فيها الجنرالات و محترفي الجندية، و دساتير أوليغاركية (بلوتوقراسية) يتحكم من خلالها حفنة من المرابين الأوغاد في الدولة، دساتير موناركية (ملكية) و راثية طغيانية، ودساتير مونوقراطية (أوتوقراطية) تتحكم من خلالها الدكتاتوريات الفردية
في مقاليد الحكم، و دساتير أرستوقراطية تتحكم من خلالها فئة الوجهاء الأثرياء (الأنفس النبيلة) على سدة الحكم و دساتير ديموقراطية حيث يحكم الشعب نفسه بنفسه مباشرة إو غير مباشرة بإختيار أهل العالمية النبهاء الفضلاء (الأنفس الحكيمة ).
(نقلا عن اللغة الإنجليزية).(6)
أما في العصور الوسيطة فإن الصكوك القانونية الأساسية قد جسدت مضامينها مصالح محظيي العناية الإلهية أرباب عائلات ملكية كانوا أو عمداء أسر بارونية متسيدة.
أما في حقب العصر الحديث فإن معظم الوثائق القانونية الأساسية و إن لم ينطبق عليها مسمى مصطلح دستور فقد عبرت مباشرة عن المضامين الوجدانية للمجتمعات الصادرة عنها. فعلى سبيل النمذجة فإن صك الميثاق العظيم (ماقنا كارتا) الصادر في يناير من عام 1215 عن التاج البريطاني قبولا للمطالب المرفوعة إليه من قبل البرلمان قد تضمن جملة من المباديء مثلت في ذلك الحين نسقا قيميا عبر عن وجدان الأمة البريطانية، كمبدأ حرمة الإعتقال و الحبس الجزافي، مبدأ حرمة نزع الممتلكات غير المبرر قانونا و مبدأ ضمان التنقل ومغادرة المملكة والأوبة إليها دون قيود. فقد أكد التاج البريطاني في متن الوثيقة المذكورة أعلاه على تلك المباديء بالنص على "الرجل الحر لا يجوز إعتقاله، حبسه، أو تجريده عن ممتلكاته..." و " نحن لن نحرم أي فرد العدالة...فالجميع تحت مظلة القانون سواء..." و "...لأي فرد (بريطاني) حق مغادرة مملكتنا و الأوبة إليها آمنا..."(نقلا عن الإنجليزية) (7). إن التحولات الإجتماعية اللبرالية التي شكلت وجدان الأمة البريطانية في العقدين الأخيرين من القرن السابع عشر عبر عنها المشرعون البريطانيون في متن إعلان الحقوق (دكلاريشن أوف رايتس) الذي أنبثقت عنه الثورة المجيدة في 1689 فقد أعتبر من أنبل مشمولات الإعلان المذكور مبدأي "حق الشعب في إنتخاب أعضاء البرلمان" و مبدأ "حصانة أعضاء البرلمان عن المسائلة عن ما يصدر عنهم من تجاوزات خلال المناقشات البرلمانية..."(نقلا عن الإنجليزية) (8). هذا، و يمكن الزعم أيضا بأن المشرعين الميثاقيون ( ذا شارتارستس) قد أدركوا عمق الأطروحات الفكرية الإجتماعية التي أدت إلى تجديد و بلورة أنساق قيم المجتمع البريطاني في بداية العقد الرابع من القرن التاسع عشر عندما صاغوا مباديء وثيقة العريضة الوطنية (ناشونال بتشن) في عام 1838 و التي يعد من بين أهم بنودها مبدأين، أولهما ينص على ضرورة أخذ المشرعون رأي الشعب في الإعتبار عند إستشراع القوانين "إن المنطق يلزمنا...بالإصغاء إلى الرأي العام عند وضع القوانين..." و ثانيهما يستهدف تأمين نزاهة الإنتخابات حيث نص على إن "حق الإقتراع يجب أن يصان من فساد الأثرياء و عسف الأقوياء، و يجب أن يكون سريا..."(نقلا عن الإنجليزية) (9). و في ذات السياق، إن رواد حركة الإستقلال الأمريكيون الذين قعدوا مباديء الإستقلال في عام 1776 لم يكن في وسعهم صياغة القيم النبيلة التي تضمنها متن الوثيقة المذكورة إذا لم يدركوا مدى عمق تجذر و تأصل قيم الحرية، العدالة و المساواة في وجدان المجتمع الأمريكي. فقد عبر رواد حركة الإستقلال عن مضامين قيم المجتمع الأمريكي بالنص في متن وثيقة إعلان الإستقلال على "...كل الناس قد خلقوا متساوون ، و أنهم منحوا من قبل خالقهم حقوقا لصيقة بهم من بينها (حق) الحياة ، الحرية، و التماس السعادة. و من أجل صون تلك الحقوق أنشأت الحكومات (التي) تستمد سلطانها العادل من المحكومين..."(نقلا عن الإنجليزية) (10).
هذا، و تجدر الإشارة هنا أيضا إلى أن إدراك المشرعون الألمان لماهيات أطروحات المباديء الفلسفية التي شكلت وعي ضمير المجتمع الألماني قد مكنهم من صياغة الأحكام العامة لدستور فرانكفورت لعام 1849 الذي من أميز مبادئه مبدأ التسامح و المساواة في الحقوق و الإلتزامات العامة بين المواطنين الألمان دون تمييز بسبب الدين أو اللغة .فقد نصت المادة 133 من الدستور المذكور أعلاه على أن " لكل (مواطن) ألماني حق الحياة، الإقامة في أي جزء من إقليم الرايخ، الإمتلاك و التصرف في ممتلكاته..." و قد أكدت المادة 144 من ذات الدستور على التسامح الديني و ذلك بالنص على" لكل ألماني حرية التدين والإعتقاد...لا أحد يلزم بالإفصاح عن دينه أو معتقده..." و قد كفلت المادة 188 من ذات الدستور حقوق الأقليات الوطنية الألمانية وذلك بالنص على" المواطنون الألمان غير المتكلمين بالألمانية يحق لهم إدارة أقاليمهم و(تقرير) شؤونهم الكنسية،التعليمية والإدارية..." (نقلا عن الإنجليزية)(11) و في ذات السياق يمكن القول أيضا أن المشرعين الفرنسيين لولا إدراكهم العميق لجذرية التحولات التى طرأت على فكر و قناعات المجتمع الفرنسي لما كان في مقدورهم تقعيد و صياغة مضامين متن المرسوم الجمهوري الذي الغي نظام الإقطاع و من ثم أرسيت قواعد الجمهورية بمقتضى أحكامه عام 1789. فقد تجلت قيم المجتمع الجمهوري في تقرير مباديء المساواة بين المواطنين الفرنسيين و ذلك بالنص في متن المرسوم المذكور على " كل المواطنون بلا تمييز بسبب الميلاد مؤهلين لتولي مهام أية وظيفة أو شرف كنسيا، مدنيا كان أو عسكريا..."(نقلا عن الإنجليزية) (12). هذا، و قد عبر المشرعون الفرنسيون عن إدراكهم و إستيعابهم لقيم مجتمعهم عند تقعيدهم مباديء إعلان حقوق الإنسان و المواطن الصادر في عام 1789 و الذي تضمن متنه القيم التالية " الناس ولدوا و يبقون أحرارا متساوون في الحقوق..." و مبدأ " كل السيادة بالأصالة ملكا للأمة." و مبدأ " الحرية تكمن في مكنة فعل كل شيء دون الإضرار (بحقوق) الغير..." و مبدأ " القانون هو التعبير عن الإرادة العامة . ".هذا، و يعد مبدأ تعزيز حقوق الإنسان من أميز مباديء الإعلان المذكور قاطبة حيث جاء فيه إن "صون حقوق وحريات الإنسان و المواطن يتطلب (إنشاء) قوة عسكرية عامة ... تنشأ من أجل الصالح العام و ليس (خدمة) للمصالح الشخصية لؤلئك الذين عهد إليهم إدارتها ."(نقلا عن الإنجليزية) (13).
هذا ، فإذا تجاوزنا الحديث عن أنشطة المشرعين الدستوريين إبان العصر الحديث إلى آننا المعاصر لا نجد إختلافا عظيما بين سلوك المشرعين بل توافقا مبدئيا من حيث إعتبارهم القيم المجتمعية مصدرا أساسيا للمباديء التي تمثل الموجهات الرئيسة لأحكام الدساتير. و تجدر الإشارة هنا إلى أن معظم فقهاء القانون الدستوري اللبراليون المعاصرون يعتبرون معطي القيم المجتمعية من بين أهم المعايير التي بمقتضاها يمكن التمييز بين الدساتير الديموقراطية السائدة في المجتمعات اللبرالية و الدساتير الشمولية التي تجسد الأطروحات الأيديولوجية المرتكزات و الموجهات الأساسية لأحكامها و ذلك لعدم تعبير الإسقاطات الأيديولوجية عن قيم و قناعات المجتمعات بقدر تعبيرها عن قيم وقناعات الأنظمة السياسية الطغيانية كانت دكتاتوريات فردية أو عصبوية متسلطة .
هذا، إن التجارب التشريعية المذكورة أعلاه قد تم إيرادها على سبيل النمذجة للدلالة على مدى عمق و وثاقة الإرتباط الموضوعي بين المباديء و الأحكام العامة التي تتضمنها متون الدساتير وأنساق القيم و القناعات التي تعبرعن إرادات و وجدانات المجتمعات السياسية .
هذا، وفي سياق الحديث عن القيم المجتمعية يجب التأكيد على حقيقة هامة وهي أن منظومة القيم المجتمعية تنقسم إلى نمطين وفقا لمعيار العالمية و المحلية . فأنساق القيم المجتمعية العالمية تمثل تراثا إنسانيا حضاريا تجسده منظومة حقوق الإنسان و حرياته الأساسية ، بينما أنساق القيم المجتمعية المحلية تتمثل في القيم المنبثقة عن البيئات المجتمعية لآحاد الدول . هذا، فقد إشتملت متون دساتير الدول اللبرالية والدول الشمولية على حد سواء على أحكاما تؤكد على قدسية منظومة حقوق الإنسان و حرياته الإساسية فعلى سبيل النمذجة فقد أكد الدستور الألماني المجاز في 23 من سبتمبر من عام 1990 في الفقرة الثانية من المادة الأولى على " إعتراف الشعب الألماني بالحقوق اللصيقة بالإنسان كأساس لكل مجتمع وللسلام و العدل في العالم."(نقلا عن الإنجليزية) (14) و نصت أيضا الفقرة الأولى من المادة الأولى من ذات الدستور على عدم " إنتهاك حرمة كرامة الإنسان ."(نقلا عن الإنجليزية) (15) و قد أكدت الفقرة الثالثة من المادة 33 في القسم الثامن من التعديل الرابع المجاز في 14 من مارس من عام 2004 لدستور جمهورية الصين الشعبية على "الدولة تحترم و تصون حقوق الإنسان." (نقلا عن الإنجليزية)(16) و قد أكد دستور دولة إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية الدائلة في متن الفقرةالسابعة من المادة 29 على "إحترام حقوق الإنسان و الحريات الأساسية." (نقلا عن الإنجليزية) (17) و تحت عنوان الحقوق الأساسية نصت المادة السابعة في الفصل الأول من الدستور السويسري المجاز في الفاتح من يناير من عام 2000 على تعزيز الحقوق الأساسية للإنسان و ذلك بالنص على" كرامة الإنسان يجب إحترامها و حمايتها ."(نقلا عن الإنجليزية)(18)
أما حق الفرد في المساواة القانونية مع غيره فقد تم تعزيزه في متن الفقرة الأولى من المادة الثالثة في الدستور الألماني المذكور و ذلك بالنص على أن " كل الناس متساوون أمام القانون." (نقلا عن الإنجليزية)(19) وقد ورد تأكيد على ذات الحق في متن المادة 33 من دستور جمهورية الصين الشعبية المذكور أعلاه "...كل مواطني جمهورية الصين الشعبية متساوون أمام القانون."(نقلا عن الإنجليزية)(20) و في ذات السياق نصت المادة الثامنة من الدستور السويسري المنوه عنه آنفا بالنص على أن " كل الأفراد متساوون أمام القانون." (نقلا عن الإنجليزية)(21) أما الدستور الفرنسي المجاز في الرابع من أكتوبر من عام 1958 فقد أكد على مبدأ المساواة بكيفية عامة و ذلك بالنص في متن المادة الأولى منه على أن " فرنسا تؤكد على المساواة بين مواطنيها دون إعتبار للأصل ،العنصر أو الدين..."(نقلا عن الإنجليزية)(22) أما فيما يتعلق بحرمة إنتهاك حقوق الإنسان المتعلقة بالأمن الشخصي، حرمة المسكن و المراسلات الشخصية فقد أكد عليها نص التعديل الرابع للدستور الأمريكي المجاز في 15 من ديسمبر من عام 1791.(23) و قد عزز ت حماية هذه الحقوق أيضا في متني المادتين 55 و 56 من دستور الدولة السوفيتية الدائلة المنوه عنه آنفا.(24) وقد عززت ذات الحقوق في متن الفقرة الأولى من المادة 10 من الدستور الألماني السالف الذكر و ذلك بالنص على " حرمة الرسائل البريدية الخاصة و الإتصالات يجب ألا تنتهك."(نقلا عن الإنجليزية)(25) و نصت الفقرة الأولى من المادة 13 من الدستور الألمانى المذكور أعلاه على حصانة المسكن و ذلك بالنص على " للمسكن حرمة لاتنتهك."(نقلا عن الإنجليزية)(26) وقد أكدت المادة 39 من دستور جمهورية الصين المذكور أعلاه على حماية حرمة المسكن و ذلك بالنص على أن " حرمة مساكن مواطني جمهورية الصين الشعبية لا تنتهك."(نقلا عن الإنجليزية)(27) هذه نماذج لبعض مشمولات منظومة حقوق الإنسان و حرياته الأساسية التي أكدت عليها متون دساتير الأنظمة الديموقراطية و دساتير أعتى الدكتاتوريات طغيانا ، الأمر الذي يدفع إلى التأكيد هنا على أن العبرة لا تكمن في تقعيد أنبل القيم الإنسانية في متون الدساتير و إنما العبرة تكمن في مدى مراعاة قدسية تلك المباديء و القيم عند التطبيقات العملية.
هذا، ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن تضمين متون الدساتير أعظم الحقوق لا يعني بالضرورة ضمانا لممارستها ، فعلى سبيل النمذجة إن حق الإقتراع قد كفله دستور الولايات المتحدة الأمريكية للمواطن بمقتضى أحكام القسم الأول من التعديل الخامس عشر المجاز في 30 من مارس من عام 1870 الذي ينص على أن "حق مواطني الولايات المتحدة في التصويت (الإقتراع) لا يجب أن يحظر من قبل الولايات المتحدة أو أية ولاية على أساس العرق اللون أو حالة الخادمية السابقة."(نقلا عن الإنجليزية)(28) إلا أن تاريخ حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية في ستينيات القرن العشرين المنفرط قد أكد على حرمان المواطنين الآفرو- أمريكيين ممارسة حقهم الدستوري المكفول بمقتضى التعديل المذكور، وعلاوة على ذلك فإن المواطنة الأمريكية لم تمكن من ممارسة حق الإقتراع المكفول لها بنص التعديل الخامس عشر المشار إليه آنفا إلا بمقتضى أحكام التعديل التاسع عشر المجاز في 26 من أغسطس من عام 1920 الذي نص على أن" حق مواطني الولايات المتحدة في التصويت (الإقتراع)لا يجب أن يحظر من قبل الولايات المتحدة أو أية ولاية بسبب الجنس (النوع)."(نقلا عن الإنجليزية)(29).
عليه، و إرتكازا إلى ما تقدم يمكن القول إن من أهم الضمانات التي تؤمن ممارسات الحقوق الدستورية هي مدى عمق تجذر تلك الحقوق المقعدة في متون الدساتير في وجدانات الأمم و مدى مبلغ وعي الشعوب و قدرتها و إستعدادها العملي على حمل السلطات العامة على الإلتزام والتقيد بأحكام الدستور. هذا، و إستنادا إلى ما تقدم من وقائع تاريخية يمكن القول أن المشرعين هم في الحقيقة فاعلين بالوكالة عن أممهم تنحصر مهامهم الوظيفية الفنية في تقعيد، قولبة و صياغة قيم و قناعات مجتمعاتهم أحكاما و مباديء عامة ثم إفراغها في متون مسودات الوثائق الدستورية التي لا تتحقق صيرورتها دساتيرا إلا بمصادقة الأمم المعنية عليها. إن العلاقة القائمة بين المشرعين وأممهم تفضي إلى تساؤل هام مفاده من يملك حق التشريع في الدولة؟ المجتمع مفوضا صلاحيته التشريعية إلى وكيل يمارسها نيابة عنه أم العرابون؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل يسيرة و مباشرة وهي المجتمع لا العرابون. لذلك فإن موضوعية الدستور تستوجب حيدة و إستقلالية الهيئة المكلفة من قبل الشعب بتقعيد أحكام متن مسودته الأمر الذي بالضرورة يقتضي أن تتشكل عضوية تلك الهيئة من أهل العالمية( الأكادميين)، أهل الإختصاص الوظيفي القانوني( قضاء جالس و واقف) و من خبرويين مشهود لهم بالحصافة و النزاهة وليس أن يكون عماد الهيئة المفوضة بوضع أحكام مسودة الدستور ممثلو الفعاليات السياسية الذين لا غرو تهيمن على أفئدتهم وتتحكم في وجداناتهم الأهواء و الغرضية الحزبية و من ثم تؤثر بلا جدال معتقداتهم أيديولوجياتهم على حيدتهم و من ثم تصبح الوثيقة الدستورية القانونية مشروع برنامج حزبي و ليس صك قانون أساسي.
عليه، و في هذا المقام أود أن أطرح إشكالية تعد من أوثق الموضوعات إرتباطا بالدستور ألا و هي إشكالية المشاركة في ممارسة سلطة الحاكمية في بلاد السودان، وأستهل طرح الإشكالية بإثارة التساؤل التالي ما هي المعايير الدستورية التي بمقتضاها يتم حكم بلاد السودان؟ هل تقتسم السلطة جزافا و إعتباطا بين الفعاليات السياسية المهيمنة على المنبر السياسي لا بمقتضى علمية، عملية و صلاحية وبرامجها التنموية و إنما بمقتضى قوة ترساناتها العسكرية و شراسة مليشياتها؟ أم يكون خيار المشاركة في حكم البلاد مؤسس على كيفية التمثيل النسبي لجميع الفعاليات السياسية وفقا لمعيار الكم العددي لأعضاء كل فعالية منسوبا إلى مجمل تعداد سكان السودان المؤهلين دستوريا لممارسة حق الإقتراع؟ أم تكون المشاركة في ممارسة سلطة الحاكمية قائمة على التمثيل الطائفي؟ أم مؤسسة على معيار التمثيل الطبقي؟ أم يكون السبيل إلى المشاركة في ممارسة الحكم قائم على إعمال مبدأ المنافسة الديموقراطية الحرة إحتكاما إلى إرادة الإختيار الجماهيري عبر آلية الإقتراع السري؟ إن الإجابة عن هذه التساؤلات تقتضي بالضرورة فحص موضوعية و من ثم عملية كل من الخيارات المطروحة أعلاه.
إن خيار الإقتسام الجزافي الإعتباطي لسلطة الحاكمية بين الفعاليات السياسية المتنفذة المستند إلى واقع نفوذها و هيمنتها العسكرية لا على ثراء وصلاحية برامجها التنموية يمثل منهجا تسلطيا لا ديموقراطيا يستهدف إقصاء الجماهير الشعبية عن موقع الريادة ويسلبها حقها المشروع في ممارسة سلطة الحاكمية بنفسها عبر آلية الديموقراطية المباشرة أو غير المباشرة. إن مبدأ الشعب هو مصدر السيادة و صاحب السلطة وفقا لأحكام الشرعية الدستورية كانت مخطوطة أو عرفية مبدأ متعارف عليه في كل المجتمعات الديموقراطية، و من ثم فإن الفعاليات السياسية المتنفذة لا تسندها أية شرعية دستورية لإقتسام ما لا تملك. إن إقتسام الفعاليات السياسية المتنفذة لسلطان الحاكمية فيما بينها يعني صراحة إغتصابا فئويا للسلطة الأمر الذي يفضي عمليا إلى إحتكار السلطة و من ثم إلى إرساء قواعد دكتاتورية العصب، لأن النظم الدكتاتورية بطبيعتها التسلطية معادية للديموقراطية، و من ثم و بمقتضى أحكام قانون النقائض فإن إغتصاب السلطة عبر ممارسة القرصنة السياسية حتما سيؤدي إلى فقدان السلطة بذات الكيفية التي أغتصبت بها. (أنظر تجارب الأحزاب الفاشية والشيوعية في أوروبا و غيرها).
إن خيار التمثيل النسبي للفعاليات السياسية وفقا لمعيار الكم العددي لأعضائها منسوبا إلى مجمل سكان السودان المؤهلين لممارسة حق الإقتراع يستهدف نظريا تمكين كافة الكيانات السياسية سيما المعبرة عن آراء و مطالب الأقليات من إبداء وجهات نظرها عبر قنوات الشرعية الدستورية . هذا الخيار يمثل ضمانا عمليا لتأمين مشاركة الفعاليات السياسية في ممارسة سلطة الحاكمية كحكومة فعلية أو حكومة ظل (معارضة).
أما خيار التمثيل الطائفي الديني كآلية للمشاركة في الحكم يمثل تجاوزا و من ثم خرقا للمبدأ الديموقراطي الراكز القاضي بفصل الدين عن الدولة بهدف صون للدين قدسيته و للدولة علمانيتها.إن فصل الدين عن الدولة كمبدأ أكدت علية كل دساتير النظم السياسية الديموقراطية اللبرالية وكذلك دساتير النظم الشمولية الطغيانية بإستثناء دستور جمهورية إيران الإسلامية الذي قعد مبدأ التمثيل الطائفي كأساس للمشاركة في ممارسة سلطة الحاكمية حيث نصت الفقرة الثانية من المادة 64 على أن "تنتخب طوائف الآشوريين الكلدانيين، الأرمن المسيحيين و اليهود ممثلا عن كل إلى مجلس الشورى الإسلامي."(نقلا عن الإنجليزية)(30) و لما أن الدين لا يعتبر من مكونات الدولة كشخصية قانونية إعتبارية وفقا لتخريجات الفقه الدستوري من جهة و وفقا لأطروحات النظريات السياسية من جهة أخرى، عليه فإن توظيف الدين كمعيار للمشاركة في الحكم يتعارض جدليا و مبدأ علمانية الدولة كما يعتبر أيضا عاملا لتأجيج حدة الصراعات السياسية بين أنصار الثيوقراطية و دعاة العلمانية الأمر الذي حتما سيفضي إلى إشاعة الفوضى في بلاد كالسودان تتعدد فيها الطوائف و الملل و النحل الدينية كانت سماوية أو وضعية.
أما خيار المشاركة في الحكم وفقا لمعيار التمثيل الطبقي خيار غير موضوعي وذلك لمجانبته حقائق الواقع الفعلي لطبيعة التكوين الإجتماعي للكيانات القبائلية المتعايشة في ربوع بلاد السودان حيث لم تتبلور بعد كينونة مجتمع مدني سياسي سوداني واحد. إن فرضية تشطر الكيانات المجتمعية القبائلية في بلاد السودان إلى طبقات متناحرة نتيجة لتناقض المصالح الطبقية كما هو حال واقع مجتمعات الدول المصنعة تعد فرضية منبثقة عن ترف فكري أو إغتراب فلسفي لا عن تعاطي موضوعي مع واقع مجتمعي معاش.
أما خيار الإحتكام إلى الشرعية الديموقراطية قبولا لإختيار إرادة الجماهير الشعبية و تفويضها من يمارس سلطة الحاكمية نيابة عنها يمثل أفضل الكيفيات لتأمين مشاركة كافة الفعاليات السياسية في ممارسة سلطة الحاكمية. إن الإحتكام إلى مباديء الديموقراطية يعني تأكيدا لسيادة الشعب و خضوعا لسلطانه و من ثم يعني رفضا لتغول الطغاة وتسلط قراصنة السياسة كانوا أفرادا أو عصبا.
هذا، و كخاتمة لما تقدم من مناقشات تخلص الدراسة إلى التأكيد على الحقائق التالية:-
أولا.
إن الوثائق الدستورية بجانب إشتمال متونها على المباديء الموضوعية التي تتمثل في منظومة حقوق الإنسان و حرياته الأساسية تتضمن أيضا نصوصا تجسد قيما ذاتية عليا تعبر عن وجدانات المجتمعات الصادرة عنها، و أحكام عامة تتعلق بتحديد ما هية الدولة من حيث تكوينها البنيوي (دولة بسيطة أم إتحادية)، ثيوقراطية أم علمانية، و تبيان مضامين فلسفتها السياسية، الإقتصادية و الإجتماعية و طبيعة أنساق العلاقات التنظيمية المتبادلة بين مؤسساتها التشريعية ،التنفيذية و القضائية من جهة وعلاقات تلك المؤسسات و مواطني الدولة من جهة أخرى.
ثانيا.
إن الوثائق الدستورية لكونها نواميس ناسوتية وضعية (و ليست شرائع ربانية سرمدية مقدسة) لا تقيد و تكبل بكيفية مطلقة إرادات الجماهير، لذا فهي تتصف بديمومة وقدسية نسبيتين و من ثم فهي عرضة للتعديل بالحذف تارة و بالإضافة تارة و بالحذف والإضافة تارات أخرى بل هي عرضة أحيانا إلى الإلغاء الكلي فتصبح خبرا بعد أن كانت أثرا. فعلى سبيل النمذجة إن دستور الولايات المتحدة الأمريكية قد تم تعديله خمسة و عشرون مرة خلال الفترة الممتدة ما بين 15 ديسمبر من عام1791 و 10 من فبراير من عام 1967.(31) بينما أبطل العمل بدستور جمهورية السودان الديموقراطية وأستبدل كلية بدستور 1989 الكائن.

ثالثا.
إن الوثيقة الدستورية ليست و لا ينبغي لها أن تكون سندا قانونيا تقعد نصوصه خصيصا لإضفاء شرعية دستورية على أحكام إتفاقيات مبرمة سلفا بين فعاليات سياسية لتأمين ما خصت به أنفسها من إمتيازات تحقيقا لأغراضها السياسية و ضمانا لمصالحها الذاتية دون أن تقرها إرادة الأمة إستفتاءا.
هذا، و تطرح الدراسة المباديء التالية كتوصيات بغية إثراء مشمولات مشروع مسودة دستور السودان المرتقب.
أولا.
التأكيد على مبدأ علمانية الدولة،و وحدة إقليمها الوطني و تحريم التوجهات
والأعمال الإنفصالية و إعتبارها جرائم خيانة عظمى معاقب عليها قانونا.
ثانيا.
التأكيد على مبدأ الشعب مصدرا للسيادة ومالكا بالأصل لسطة الحاكمية، يمارسها مباشرة بكيفية الإستفتاء أو غير مباشرة عبر آلية تفويض مكنة ممارستها إلى وكيل نائب عنه.
ثالثا.
تقعيد مبدأ التوالي الديموقراطي وتحريم إغتصاب السلطة بالقوة كان بواسطة
المليشيات المدنية المسلحة أو عبر إنقلاب القوات النظامية.
رابعا.
تأصيل مضمون عقد إجتماعي سياسي بمقتضى أحكامه يقر كل فرد بلغ سن الرشد
القانونية الإنتماء إلى القومية السياسية السودانية و يعلن مطلق الولاء للوطن السوداني.
خامسا.
تقعيد مبدأ حق التقرير الذاتي الداخلي كحق تمارسه الجماهير الشعبية في أقاليمها وفقا لأحكام:-
(أ)- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 الصادر في 14 من ديسمبر من
1960.
(ب)- إعلان مباديء القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الأمم وفقا
لأحكام ميثاق الأمم المتحدة المجاز في 24 من أكتوبر 1970.
(ب)-الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب المجاز في 21 من أكتوبر من عام
1986.
سادسا.
تأصيل مضمون قسم الولاء الذي يتعهد و يلتزم بمقتضاه كل مواطن سوداني أسند
إليه شرف الإطلاع بمهام وظيفة عامة أن يقف ولائه المطلق للوطن السوداني
صونا لسيادته و إستقلاله و زودا عن وحدة ترابه.


سابعا.
تقعيد مبدأ الرقابة الدستورية الشعبية و ذلك بإنشاء هيئة رقابة شعبية عمادها المنظمات المدنية حيث تمنح صلاحيات دستورية بمقتضاها تخول صلاحية إلتماس إجابات عن إستفسارات توجهها إلى جهات الإختصاص العامة تتعلق بسياساتها و إنجازاتها. على أن تنشر ردود جهات الإختصاص العامة بغية إطلاع الرأي العام عليها.
ثامنا.
تقعيد مبدأ تحلي هيئات السلطة العامة بشفافية السلوك في كافة أعمالها و ذلك بالإلتزام بنشر تقارير دورية عن أنشطتها لإطلاع الرأي العام عليها، و تنظيم لقاءآت مكاشفة مبرمجة تعقد بينها وهيئة الرقابة الشعبية عبر القنوات الإعلامية المسموعة، المرئية و المقروءة.
تاسعا.
تحريم، تجريم و المعاقبة على تصنيع، إقتناء، تكديس و الإستخدام اللاقانوني للأسلحة من قبل الأفراد و الجماعات. حظر، تحريم و تجريم إنشاء المليشيات و القوات المسلحة الخاصة.
عاشرا.
حظر إحتكار الدولة لملكية و إدارة وسائل الإعلام و النص على خوصصة ملكيتها.
أحد عشر.
لتأمين تقعيد مباديء وأحكام مسودة دستور موضوعي منزه عن غرضية أيديولوجيات الأفراد، الجماعات و الفعاليات السياسية توصي الدراسة بأن تتشكل عضوية المفوضية القومية الموقرة المكلفة بوضع و صياغة أحكام مسودة دستور السودان المرتقب من أهل الإختصاص و الخبرة المشهود لهم بالحصافة، النزاهة و إستقلالية الرأي، على أن تستعين المفوضية فنيا بتجارب خبراء قانونيين من منظمة الأمم المتحدة،منظمة الإتحاد الأوروبي، الإتحاد الأفريقي، جامعة الدول العربية و جهات أخرى كمستشارين.
إثنا عشر.
لكي تؤمن و تؤخذ في الإعتبار مشاركة المواطنين السودانيين كانوا أفرادا جماعات أو فعاليات سياسية مقيمين داخل أو خارج أقليم الدولة توصي الدراسة أن تنشأ المفوضية الموقرة عنوانا بريدا عاديا وآخر إلكترونيا لكي يتمكن المواطنون الراغبون في المشاركة من تقديم مقترحاتهم إليها بغية إثراء مشمولات متن مسودة الدستور.
ثلاثة عشرة.
إصدار إعلان حقوق المواطن السوداني كوثيقة قانونية أساسية مرجعية يسترشد و يقتدي مشرعو و مفسرو أحكام الدستور بهدي أحكامها كموجهات و ضوابط قانونية
مستقبلا.

بروفسور.د/موسى الباشا
أستاذ القانون الدستوري و النظم السياسية.


هوامش الدراسة.
1- أنظر بطرس البستاني "قاموس محيط المحيط" باب دستر.
2- أنظر الموسوعة البريطانية الحديثة المجلد الثالث تحت عنوان دستور(كانستتيوشن).
3- أنظر موسوعة كمبردج إصدار جامعة كمبردج لعام 1992 تحت عنوان دستور.
4- أنظر موسوعة وبستر العالم الجديد تحت عنوان دستور/نيويورك برنتس هول
1992.
5- أنظر المعجم القانوني ( قلبرت لو سمري)/ تحت عنوان دستور 1997.
6- أنظر فرانسس ماك دونالد فورد" جمهورية أفلاطون " مطبعة أوكسفورد-
نيويورك - لندن (الطبعة الأمريكية )1945 ص 265 -273 .

7- أنظر ملتون فيورست " الوثائق العظمى للحضارة الغربية "إصدارات بارنس & نوبل 1994 الوثيقة رقم (34)تحت عنوان ( الماقنا كارتا) ص115 .
8- أنظر المصدر السابق وثيقة رقم (38) تحت عنوان ( دكلاريشن أوف رايتس)ص
126 -127 .
9- أنظر المصدر السابق وثيقة رقم (66) تحت عنوان (ناشنال بتشن) ص227-230
10- أنظر المصدر السابق وثيقة رقم(49) تحت عنوان (دكلاريشن أوف إندبندس)ص
166.
11- أنظر المصدر السابق وثيقة رقم (74) تحت عنوان( ذا فندامنتال رايتس أوف ذا
جيرمان بيبول ) ص 260 -264
12- أنظر المصدر السابق وثيقة رقم (53) فقرة 11 ص 188.
13- أنظر المصدر السابق وثيقة رقم (54)تحت عنوان (دكلاريشن أوف ذا رايتس أوف مان آند ذا ستزن ) ص 191-190
14- أنظر الدستور الألماني المعدل - المجاز في 23 من سبتمبر من عام 1990 الفقرة الثانية من المادة الأولى.
15- أنظر المصدر السابق الفقرة الأولى من المادة الأولى.
16- أنظر دستور جمهورية الصين الشعبية المجاز في 4 من ديسمبر من عام 1982 القسم 8 من التعديل الرابع المجاز في 14 من مارس من عام 2004 الفقرة 3
من المادة 33.
17- أنظر دستور إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية المجاز في 7 من أكتوبر
من عام 1977 الفقرة 7 من المادة 29.
18- أنظر الدستور السويسري المجاز في الفاتح من يناير من عام 2000 المادة 7.
19- أنظر الدستور الألماني المشار إليه أعلاه الفقرة 1 من المادة 8.
20- أنظر دستور جمهورية الصين الشعبية المذكور آنفا المادة 33.
21- أنظر الدستور السويسري المشار إليه آنفا المادة 8.
22- أنظر الدستور الفرنسي المجاز في 4 من أكتوبر من عام 1958 المادة 1.
23- أنظر دستور الولايات المتحدة الأمريكية المجاز في 4 من مارس من عام 1789 التعديل الرابع المجاز في 15 من ديسمبر من 1791.
24- أنظر دستور إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية المذكور أعلاه المادتان المادتين 55 -56.
25- أنظر الدستور الألماني المشار إليه أعلاه المادة 10.
26- أنظر المصدر السابق المادة 13.
27- أنظر دستور جمهورية الصين الشعبية المذكور أعلاه المادة 39 .
28- أنظر دستور الولايات المتحدة الأمريكية المشار إليه آنفا القسم الأول من التعديل 15 المجاز في 30 من مارس من عام 1870.
29- أنظر دستور الولايات المتحدة الأمريكية المذكور أعلاه التعديل 19 المجاز في
26 من أغسطس من عام 1920.
30- أنظر الفقرة 2 من المادة 64 من دستور جمهورية إيران الإسلامية المجاز في
3 من ديسمبر من عام 1979.
31- أنظر التعديلات ال 25 التي أدخلت على دستور الولايات المتحدة الأمريكية منذ
التعديل الأول الجاز في 15 ديسمبر من عام 1791 حتى التعديل الخامس و.
العشرون المجاز في 10 من فبراير من عام 1967.

للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved