تحليلات اخبارية من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

اتفاقيات مياه النِّيل: صراعات بلا نهايات (1 من 3). بقلم الدكتور قندول إبراهيم قندول

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
5/12/2005 7:29 م


[email protected]


مقدِّمة

تشير تنبؤات الأمم المتحدة أن الحرب القادمة ستكون على موارد المياه في العالم نسبة للزيادة المضطردة في التعداد السكاني فضلاً عن العلاقة العكسية بين تجدد الموارد المائية والطلب عليها. فتقديرات منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) تضع سقف تعداد سكان العالم حالياً نحو 8,1 بليون نسمة، حيث يقطن 6,723 بليون (%83) (1) منهم في الدول النامية أوالأقل نمواً وتواجه هذه الدول الحاجة الماسة للتنمية الصناعية والزراعية التى تعتمد بصورة رئيسة على الماء مما يوحي باندلاع نزاع مسلح بين من لا يملك ومن يملك ويمانع مشاركة الآخرين ما يملك من أجل البقاء. ومما زاد الحال سوءاً إتجاه بعض الدول فى التطوير والإعتماد على السياحة التي تستهلك الماء أكثر من أية صناعة. فوفقاً لفاو، فإن نفس كمية الماء المطلوبة لإستضافة مائة سائح فى فندق ضخم لمدة (55) يوماً لكافية أن تروى هكتاراً من الأرز وتزود مائة أسرة حضرية لمدة سنتين.(2) تفاقم الوضع الهش لمصادر المياه المتجددة نسبة لكونها مشتركة بين البلدان. فالعديد من الدول تتلقى قدراً كبيراً من إمداداتها من المياه من أراضى بلدانٍ أخرى. فمثلاً، أعلى نسبة من الإعتماد على مصادر مياه خارجية سجلت فى مصر بالقارة الإفريقية حيث بلغت هذه النسبة 98% تلتها بلدان شرق أوسطية كالعراق (66%)، إسرائيل (65%) والأردن (36%). وفي الإطار الإقليمي أخذت بوادر الحرب الكلامية تلوح بين بعض دول حوض النيل الأفريقي تمهيداً لاستعمال التأثير السياسي العالمي أو القوة العسكرية إذا ما إقتضت الضرورة. فليس هناك، إذن، ما يدعو للاستغراب في أن تملأ الشحنات والمشاعر الغاضبة فضائيات أفريقيا ليس فقط كرد فعل لتقرير البنك الدولي الذي يقدَر زيادة تعداد سكان الدول العشر التي تقاسم الحوض من 300 مليون نسمة إلى 600 مليون في العام 2025م (3) وإنما لما تعيشه هذه الدول من ضغوط داخلية من شعوبها للنهوض بالتنمية في مجالات الصناعة والري الزراعي لتوفير الغذاء اللازم.
نتيجة لزيادة الطلب هذه، لمقابلة النمو الرأسى والأفقى، أثارت بلدان الحوض العليا (Upstream countries) مثل كينيا، تنزانيا ويوغندا قضية تقاسم المياه واستغلاله، وبخاصة فيما يتعلق باتفاقيتي مياه النيل المبرمتين العام 1929م بين مصر وبريطانيا، نيابة عنها، وإتفاقية العام 1959م بين السودان ومصر المستقلتين. مصدر الغضب والإستياء على هذه الإتفاقيات هو أنها لم تخول فقط لمصر الحق الكامل لإستغلال مياه النيل وإنما أعطتها حق مراقبة روافد النيل والسيطرة الكاملة عليها وذلك بمنحها أحقية إقامة أية مشاريع إنمائية تهدف إلى زيادة الناتج السنوى من الماء لها وللسودان دون غيرهما من دول الحوض. ويتضمن الامتياز كذلك أنه لا يجوز لأية دولة من دول حوض النيل القيام بأي عمل من شأنه الأستفادة من مياه النيل التي تجرى في أراضيها إلا بإستشارة وموافقة مصر والسودان على ذلك، الأمر الذى تتقاعس مصر والسودان فى مناقشته مع هذه الدول في كثيرٍ من الأحيان مما أدى إلى التوتر في العلاقات بينها.
ولأهمية قضية الماء تناولت، وما تزال تناوله، جهات عديدة بشئ من التفصيل إلا أننا ارتأينا تسليط الضوء على معالم الإتفاقيات التي تمت لتقاسم المياه، وجه القصور فيها والتداعيات التي قد تنجم عن الإخلال ببنودها نسبة للإقتضاب الذي يشير إليه كثير من الساسة والكتاب السياسين المحسوبين على الأنظمة القائمة والساقطة بعد ضياع فرص وضع هذه المسائل على طاولة المفاوضات الدولية. كما نضيف أنه ليس بجريرة أن تجاهر دول الحوض بعدم سرورها بإتفاقيتي مياه النيل لما بهما من القسمة الضيزى والظلم البواح الذي أكتنف بنودهما. إذن، ما هي تلك الاتفاقيات العرجاء التي لم ترض عنها الناس ويرى البعض خاصة ساسة السودان وغيرهم جدوى مناقشتها والوصول للحل حولها في مفاوضات السلام الأخيرة؟ وما هي وجوه بنودها الظالمة وقسمتها الضيزى؟ ما هي الصراعات المحدقة بدول الحوض والمساعى "الحميدة" التي تجري الآن لدرء المواجهات بتطوير مصادر المياه للإستفادة الأمثل منها؟ سنتناول بنود هذه الإتفاقيات بالتفصيل حتى نُبيِّن ما يجب الإحاطة به ولو بقدر يسير في أمر المياه عندما نقرأ أو نستمع لبعض الساسة الذين يزعمون أنهم أحاطوا بكل شئ علماً، وهم في ذلك يحاولون تبسيط عظائم الأمور بغض طرفهم والآخرين عن كبريات قضايا البلاد، لا لشئ غير مصلحتهم الذاتية.


اتفاقيَّة مياه النِّيل للعام 1929م(4)

يرجع تأريخ وأسباب هذه الإتفاقية إلى شح الأقطان في الأسواق العالمية وإرتفاع أسعاره بعد الحرب العالمية الأولى؛ لذا ضغطت بريطانيا على كلٍ من مصر والسودان لزراعة محصول القطن على مدار السنة لمد مصانعها في لانكشير أولاً، وخفض أسعاره العالمية ثانياً، حتى تتمكن من شراء المعروض في السوق بأسعار بخسة. للقيام بمثل هذا المشروع كان لابد من اللجوء لتنمية مصادر المياه والسيطرة عليها لتوفير الماء لزراعة القطن فى الشتاء بالري الصناعي إلا أن السيطرة البريطانية لم ترق الدولتين ولم يطب لهما بال بهذه الفكرة. وللحيلولة من عدم الرضا والإرتياح فكَرت بريطانيا العُظمى في إبرام معاهدة لتقييد الدولتين وإتسمت الخطة البريطانية بثلاثة مراحل هي:
(1) تكوين مفوضيَّة مشاريع النيل (Nile Projects Commission) واستدعاء ممثلين من الهند، بريطانيا وأمريكا. قدرت هذه المفوضية الإيراد السنوى من مياه النيل ﺒ 84 مليارد (بليون) متر مكعب(م۳) وأوصت اللجنة أيضاَّ بأنَّ حاجة مصر من هذه الكمية تبلغ 58 بليون م۳ بينما يلبى السودان حاجته من النيل الأزرق. تجدر الإشارة هنا إلى أنَ المفوضية لم تحدد قطعاً كمية المياه التى تجرى صوب السودان من المرتفعات الأثيوبية والتي تقدر ﺒ 71 بليون م۳ كما سنرى. يرجع هذا الخطأ الجسيم إلى الإعتقاد، وقتئذٍ، بأن معظم مياه النيل تأتى من النيل الأبيض.
(2) القيام بمشروع تنموي بريطاني يقضى ببناء ثلاث خزانات: خزان على الحدود السودانية-اليوغندية، تحديداً على شلالات أُون (Owen Falls)، خزان سنار على النيل الأزرق وخزان جبل أولياء على النيل الابيض. أزعجت هذه الخطة الجهنمية المصرين الذين يرون أن بريطانيا تخطط للسيطرة عليها فور نيلها للإستقلال وذلك بجعلها كل المنشآت المائية خارج الحدود المصرية. إذن، على هذا الإفتراض لم تكن القضية الأساسة هي الحقوق التاريخية (Historical rights) على الماء ونصيب كل دولة أو ممارسة السيادة (Sovereignty) عليها بقدر ما أصبحت المسألة فنية بحتة تتعلق بمكان إقامة مشاريع تنمية المياه. وهذا أمر مهم ومنطقى بالنسبة لمصر التى ترى أن تكون عيونها ساهرة ليلاً ونهاراً على النيل، وهذا من حقها نسبة للمخاوف التي تُؤرقها كما سنرى بشئ من التفصيل لاحقاً.
(3) في العام 1925م - أي العام الذي تم فيه بناء خزان سنار - تكوَّنت لجنة جديدة أصدرت توصيات بناءاً على تقديرات اللجنة الأولى وتمخضت عنها إتفاقية العام 1929م.
إذن لم تكن هذه المعاهدة إلا إستكانة وإسكات (Pacification and silencing) لمصر ولصوتها السياسى الذي كان يطالب بالسيطرة على النيل، وإلى حدٍ ما، على قناة السويس التى لا تنوى بريطانيا وحلفائها التفريط فيها. بيد أن بريطانيا كانت على يقين أنَ دعمها لمصر سيكسبها أحقية وضع يدها فى منابع النيل، فما مشروع الجزيرة وبناء خزان سنار إلا تجسيداً وتأكيداً لنوايا إنجلترا. فالمتتبع لتاريخ مشروع الجزيرة، دون الدخول في التفاصيل، يدرك أنه أُُنشأ خصيصاً لزراعة القطن لمد مصانع النسيج البريطانية فى لانكشير التي كانت تتغذى على خام أقطان العالم حتى إذا ما قلَت عنها المدد سألت خزنتها هل من مزيد؟ هذا، والله ما دعا بريطانيا على الإقدام لإبرام المعاهدة على عجل وبتبادل خطاب بين وزير خارجية مصر والمفوض السامي لبريطانيا فما هى البنود التى تمت بالمراسلة بين الطرفين إن لم يكونا صديقين؟


بنود الاتفاقيَّة:

(1) اتفق الجانبان أن متوسط الإيراد السنوى للنيل، مقاساً عند أسوان، حوالى 84 بليون م۳.
(2) اتفق الجانبان على أن تتحصل مصر على 48 بليون م۳ من إيراد مياه النيل السنوى بينما يتحصل السودان على 4 بليون م۳ لمقابلة حاجتهما من مياه الرى، وأسمت الإتفاقية هذه الأنصبة بالحقوق المكتسبة (Acquired Rights).
(3) ضمان استمرارية تدفق المياه إلى مصر فى فترة الصيف (من العشرين من كانون الثاني (يناير) إلى الخامس عشر من تموز (يوليو) مما يعنى زراعة القطن السودانى فى فصل الشتاء.
(4) تحتفظ مصر بحق مراقبة تدفق النيل فى دول حوض النيل العليا.
(5) لمصر الحق بإقامة أية مشاريع إنمائية على النيل تهدف لزيادة إيرادات الماء دون طلب الموافقة المسبقة من دول الحوض العليا.
(6) لمصر ممارسة حق النقد أى الفيتو (Veto) ضد أية محاولة لإقامة مشاريع إنمائية على منابع النيل التى قد تؤثر سلباً على مصالحها المائية.
ثمة ملاحظات عن هذه الإتفاقية:
(1) عدم الإشارة لمتوسط الفاقد من عملية التبخر التي تقدر ﺒ 10 بليون م۳ سنوياً مُقاسة عند سد أسوان (بعد السد العالى).
(2) لم تتطرق الإتفاقية إلى اﻟ 22 بليون م۳من ميزان الإيراد السنوى (74-52= 22) مما يعني أنّ هذه الكمية إما إبتلعتها شياطين أو عفاريت النيل وجِنِه أو ثَمّ خطأٍ في الحساب وهذا أيضاً ما لا يتفق مع أساسيات الحساب وينكره العقل.
(3) لم تورد فى الإتفاقية، صراحة، الإستفادة من الطاقة المائية لتوليد الكهرباء للتنمية الصناعية أو على الأقل إنارة المدن والقرى الواقعة على النيل الأزرق أو مشروع الجزيرة.
(4) نشك إن كان السودان يستهلك كل ما آل إليه من 4 بلايين متر مكعب إذا نظرنا إلى الرقعة المروية في ذلك الوقت (400,000 فدان قبل إمتداد المناقل) وإمتحنا الدورة الزراعية الرباعية التي كانت تتبع يومذاك حيث كان ربع، أو أكثر، من المساحة الكلية للمشروع غير مزروعة بأى محصول، وبالتالى هذه المساحة غير مروية حسب مقتضيات الدورة الزراعية فضلاً عن أنه لا يجوز ري محصولي الفول السوداني والذرة "إلا خِلسة" لأن الأولوية كانت للقطن والقمح الذى يُزرع فى الشتاء وما أقصر شتاء السودان.
(5) يُحرِّم البند الثانى السودان من إستعمال الماء في فصل الصيف الحار إلا ما يتسرَب من الماء ليلاً من بوابات (Sluices) الخزان فيصيب طلُها سواقي أهل الشمال النيلي ليترزق على نخيله وفاكهته، وتتنعّم على برسيمه بهيمة الأنعام وإلا لأصاب كلَ شئ إعصارٌ فيصير كالهشيم تذروه الرياح. قد يجادل المجادلون بأن السودان، أى شماله، لا يحتاج للماء فى الصيف لقلة التركيبة والتنوع المحصولي فيه، وهذا صحيح، ولكن ما كان للسودان أن يستغل ماءه فى توليد الكهرباء أوالتشجير ليقى أمصارَه ومدنه شر الصحراء والرمضاء؟ إنه لمحزن أيضاً، أن يرى المرء ماءاً يتدفق فى عِزِ الصيف من ترعة فرعية تسمى عند أهل الماء ومهندسيه "ترعة التصريف أو الصرف" (Drainage or escape canal)، من مشروع الجزيرة أو غيره، صوب النيل راجعاً إليه . أمثال تلك الترعة تُوجد عند مدخل مدينة أبو عُشر من مدينة الحصاحيصا أو عند الخروج من أبو عُشر صوب الحصاحيصا حيث يملأ ما بينهما فراغٌ وفراغٌ! فلا شجراً يتزين به طرفا طريق مدنى- الخرطوم ولا خُضرة تكسو الأرض لتستر بؤسها ويحجب عنها الإعصار. أيم والله، ليس هذا من أمر ربنا، ولكن من إغفالنا للبديهيات وغض الطرف عنها رفضاً للتغيير إلى أفضل الحال، فلا يغير الله ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم.


اتفاقيَّة مياه النِّيل العام 1959م (5)

بعد بناء خزان سنار (1925)، خزان جبل أولياء (1937) وخزان شلالات أُون (1947) لضمان إنسياب الماء شمالاً دون إنقطاع، كانت مصر تفكّر ملياً فى تأمين المحصول الإستراتيجى من الماء وتخزينه لرى أراضى واسعة لمقابلة الإنفجار السكانى وذلك بوضع مشروع التخزين القرني (Century Storage) بسعة 156 بليون م۳ موضع التنفيذ. لذا كان بناء السد العالى من أولويات حكومة جمال عبدالناصر بعد ثورة 1952م والتى إنفردت لمناقشة المشروع دون السودان فى بادئ الأمر لبروز تساؤلات ما إذا كانت مصر ستنفذ المشروع على وحدها أم بشراكة مع السودان. ويبدو أن مصر قررت القيام بأعباء التشييد على وحدها لذا لجأت إلى الولايات المتحدة لتمويل المشروع الباهظ الثمن إلا أن الأخيرة تلكأت. إزاء هذا التباطؤ، إتجهت مصر (لأن الأمور المهمة لا تتحمل التردد) شرقاً إلى الإتحاد السوفيتي الذي أقدم "بسخاء" لتمويل بناء السد. أما الجانب السودانى، الذى تقيَدً بسلاسل معاهدة 1929م، لم يتم إشراكه رسمياً فى المحادثات المباشرة فى أمر هذا المشروع الضخم إلا في العام 1954م.
مهما يكن من الأمر، فقد اتَّسمت هذه الفترة بميلاد ثورة قومية عربية كان جمال عبد الناصر من أبرز قادتها؛ وأدت ازدواجية المصالح المتمثلة فى القومية العربية (الوحدة ثُمَّ التحرر العربي من براثن الإمبريالية) وتقاسم مورد الماء مع الإخوة فى جنوب الوادى، مما قادت هذه المصالح إلى الإسراع في مطالبة ومساندة مصر لمنح السودان حق تقرير المصير والإستقلال الكامل، بعد أن فشلت محاولاتها، أى مصر، فى ضم السودان تحت تاج الملك المصرى. المساندة، أى قل الموقف المصري هذا، أجبرت الجانب السودانى آنذاك ليحارب فى ثلاثة جبهات أو إتجاهات: أولها مشروع الإستقلال الذى كان له شقين: تمثَل الأول الإستقلال من الحكم البريطاني-المصري، أما الشق الثانى فكان مسألة الوحدة بين الشمال والجنوب السودانيين بعد خروج الإستعمار. الجبهة الثانية تمثلت فى تثبيت حقوق السودان المشروعة والتاريخية فى مياه النيل. أما الجبهة الثالثة فهي التفكير في الطريقة المُثلى لإستغلال نصيبه من المياه. إذن، أصبح فى يد السودان طبق مُعلى من المشاكل قبل نيله للإستقلال بعضها خارجية وكثيرها من صنعه هو قبل البدء فى المحادثات الرسمية. من التأسى حقاً أن يتمادى "أولياء" أمر السودان في اختلاق المشاكل قُبيل الإستقلال وهم عليها قعود إلى يومنا هذا وتلبيسهم اللوم على القوى الخارجية بسبب خلق نائبات البلاد.

المحادثات التمهيدية .. المواقف المتغيرة

تباينت المواقف بين البلدين فى المحادثات الأولية التى بدأت بين أيلول (سبتمبر) وكانون الأول (ديسمبر) العام 1954م وكان الموقف المصرى مغايراً لما اتفقت عليه مع بريطانيا فيما يختص بالوارد السنوي ونصيبها من الحقوق المكتسبة حيث رأت أن الإيراد هو 80 بليون م۳ وليس 84 بليون م۳ كما أن الحقوق المكتسبة قد إرتفعت بقدرة قادر إلى 51 بليون بدلاً من 48 بليون م۳. كما أصرت مصر بأن يُقسم الناتج من المشاريع الإنمائية على حسب التعداد السكانى بعد خصم 10 بليون م۳ للتبخر وعليه يكون نصيب مصر من العائد 11 والسودان 4 بليون م۳ (62 لمصر، 8 للسودان و10 بليون للتبخر). أما موقف السودان فقد إتسم بالإصرار على أنَّ متوسط الوارد هو 84 وليس 80 بليون كما تزعم مصر وأن حقوقها المكتسبة هى 48 بليون بموجب اتفاق العام 1929م. كما إقترح السودان إعطائه ما لا يقل عن ثلثى العائد المائى لأن التقديرات المصرية لسكان السودان أقل بكثير من واقع الحال. كان موقف السودان واضحاً أيضاً تجاه التخزين القرني حيث رأى تقليل حجمه لتخفيض معدل التبخر من البحيرة وإلا على مصر تحمل الفاقد المائى الناتج من التبخر بسبب هذا التخزين من نصيبها؛ عليه ارتضى السودان أن تكون القسمة كالآتى: 59 لمصر، 15 للسودان و10 بليون للتبخر. على أية حال، توقف التفاوض دون الوصول لأى إتفاق ليبدأ مرة ثانية فى أبريل 1955 لينتهي بنفس النتيجة.

انقلاب الفريق عبود وجدية المحادثات

كما أبنّا سابقاً، فقد دشَنت الحكومة البريطانية دراسة مستفيضة على حوض النيل إلا أن هذه الدراسة لم تر الضوء إلا العام 1958م في تقرير سُمى في ذلك الوقت ﺒ" تقرير خطة وادي النيل" (The Report on the Nile Valley)(6) وكان من أهم فقراته، المقترحات المتعلقة بإقامة مشروعات على النيل لزيادة المياه التي تصل إلى مصر، وربما إلى السودان أيضاً. كان من ضمن هذه المقترحات حفر قناة جونقلى بجنوب السودان التي بدأ العمل فيها في السبعينيات من القرن المنصرم وبتمويل من البنك الدولي. إذن، مبدأ قناة جونقلى ظاهره وباطنه طيب وإن كان لوثته أقاويل وحكايات مغرضة أدت إلى موته، ربما إلى حين أو إلى يوم الدين. فمما لا شك فيه أنَّه لم تكن هذه القناة من بنات عمل السودانيين أو المصريين كما يتبادر إلى ذهن كثيرٍ من السودانيين والمصريين على حدٍ سواء كلما عصف الحديث عن المياه حيث تتغلب العواطف على العقل، بقدر ما هي نتيجة دراسة بريطانية دامت حيناً من الدهر لتحفظ بها ماء وجهها مع السودان. للأسف توقف حفر القناة بسبب الحرب الاهلية الثانية (1983-2005م)، أي على الأصح كان حفرها من المكونات الأساسة التي أدت إلى إندلاع الحرب بجنوب البلاد العام 1983م لا لعيب فيها ولكن لتلكؤ النافذين من السودانيين وفشلهم في شرح محاسنها، التي رجحت المساوئ على كفة الميزان، لأهل المنطقة خاصة والسودان عامة.(7)
عوداً للاتفاق، شاءت أقدار السودان "النحسة أى السيئة" أن يستولى الفريق إبراهيم عبود على حكم السودان عن طريق انقلاب عسكري في 17 تشرين الثَّاني (نوفمبر) 1958م بعد تعدد المشكلات الكثيرة التي كان يصطنعها السودانيون بأنفسهم. إذ أنَّ مصر قد أخذت موقف إيجابي وتصالحي مع السودان بعد أن ساءت العلاقات بين البلدين العام 1958م وفشلت الحملة التي أرسلتها داخل الأراضى السودانية، وربما كان التصالح هذا سبباً في اتخاذ السودان موقفاً أُحادياً ومناقضاً لإتفاقية 1929م بتعلية خزان سنار في صيف 1959م دون أن تبدى مصر إنزعاجها تهدئة للأعصاب وتمهيداً لبدء تفاوض جاد مع حكومة الفريق إبراهيم عبود الذى أسفر عن بنود الإتفاق الواردة أدناه.


بنود الاتفاقية:

(1) اتَّفقت الحكومتان على أن إجمالي المتوسط السنوي لإيراد "نهر النيل" يبلغ 84 بليون م۳ وتبلغ جملة متوسط التبخر والتسرُب 10 بليون متر مكعب مقاساً عند أسوان تاركاً متوسط صافي الإيراد السنوي 74 بليون متر مكعب يقسَم بين البلدين.
(2) بعد خصم الحقوق المكتسبة للبلدين (48 بليون لمصر و4 بليون للسودان بموجب إتفاقية 1929م) يتم تقسيم اﻟ 22 بليون (74-52=22) على النحو التالى: 7.5 بليون لمصر و14.5 بليون للسودان ليصبح نصيب كل دولة 55,5 و18,5 بليون متر مكعب، على التوالي.
(3) في حالة زيادة إيراد النيل السنوي، فعلى البلدين تقسيم الزيادة مناصفة. أما إذا إنخفضت كمية الإيراد، فسوف يؤول الأمر للجنة فنية (Technical Joint Committee) تتكون من البلدين للبث فيه.
(4) بما أن السودان غير قادر على إستعمال حصته حالياً، فعليه إستدانة مصر من نصيبه، كحد أقصى، ما قدره 1,500 مليون (1,5 بليون متر مكعب) سنوياً لغاية سنة 1977م.
(5) على البلدين تمويل، بالتساوي، أية مشاريع على النيل بهدف زيادة الإيراد (مُقاساً بعد السد العالى) وعليهما تقسيم العائد المائي من هذه المشاريع مناصفة بينهما.
(6) تكوين لجنة مشتركة دائمة (Permanent Joint Committee) بين البلدين لحل أى صراع والعمل معاً للنظر فى أي طلب تتقدم به أية دولة على الحوض حول المياه، فإذا أدت نتائج دراسة الطلب إعطاء تلك الدولة قدراً معلوماً من الماء، فعلى السودان ومصر إيفاء هذه الكمية مناصفة من نصيبهما، كما نصت الإتفاقية على عدم قيام أية دولة على الحوض بأي نشاط يهدد تدفق المياه إلى كلٍ من السودان ومصر. وكما على اللجنة تحديد حصص كل منهما في حالة الانخفاض الهائل وغير المتوقع في إيراد مياه النيل.
(7) يمكن للسودان ومصر بناء خزانات على النيل للتخزين (خزان الروصيرص وخزان خشم القربة في السودان والسد العالى في مصر)، كما على السودان بدء التخزين فقط في الثلاثين من أيلول (سبتمبر).
(8) على مصر دفع لحكومة السودان مبلغ 15 مليون جنيه مصري تعويضاً لأهالي حلفا الذين تأثروا بالسد العالى وترحيلهم إلى منطقة حلفا الجديدة.
(9) أتفق السودان ومصر على ألا تتجاوز حاجة دول الحوض الأخرى 1,000-2,000 مليون (1-2 بليون متر مكعب) سنوياً.
كما أشرنا في تحليلنا لاتفاقية العام 1929م فإنَّ السودان لم يستهلك حقه المكتسب؛ فإنه كذلك لا يستغل كل حقوقه التي منحته اتفاقية العام 1959م (البند الرابع)، كما أنه لا يختزنها نسبةً لفقدان الخزانات الحالية لسعتها التخزينية بسبب ترسبات كميات هائلة من الطمي فيها. يُضاف إلى هذه المبررات، قلة المساحة المروية في السودان والتي لا تتجاوز 2 مليون هكتار، إلا قليلاً، مقارنة بكمية الماء الممنوحة أي المسموح باستعمالها. فكمية الماء الممنوحة، نظرياً، لكافية أن تروي مساحات أكبر من تلك التي تحت الري الآن، أو على الأقل ريها دون إختناقات أو أزمات مائية. وقوفنا مع هذا الرأي يستند على حقيقة أنه لا يخالجنا أدنى شك في كفاءة المهندسين السودانيين والأكاديميين المتخصصين في الشؤون المائية وكذلك الخبرة السودانية في تحديد حاجة البلاد من المياه قبل وأثناء المفاوضات. كذلك لا نشك في عدم رضوخهم للضغوط أو عدم مقارعة الحجة بالحجة أثناء التفاوض الذى أدى إلى الوصول لهذا الإتفاق. ولكن إهتزت ثقتنا في حقيقة الرقم الممنوح للسودان وكمية الفاقد من التبخر نسبة للبساطة، أي قل، السذاجة التي أبداها اللواء محمد طلعت فريد الذي وقَع على الإتفاقية نيابة عن حكومة جمهورية السودان (وقَع نيابة عن جمهورية مصر السيد زكريا محي الدين) بوصف المليارد متر مكعب بأنه كمية من ماءٍ تكفى لملئ إستاد الخرطوم الرياضي. كيف إذن، أن يقبل اللواء فريد بإستاد الخرطوم مقاساً لماءٍ لا تكفى بحاجة العاصمة المثلثة، آنذاك، من ماء الشُرب لبضع أشهر ناهيك بأن تكفى 18 وحدة، ملء الإستاد، منه لري أكثر من 2 مليون هكتاراً في المستقبل؟
على ما تقدّم، يخلص المرء بالقول إن رئاسة اللواء فريد للوفد وتوقيعه على معاهدة بهذه الضخامة كان من موقف سياسي بحت وليس بالمعرفة اللصيقة بأمر الماء الهيدرو–هندسي (Hydro-engineering aspects) أو الحياتي أو البيئي (Environmental or ecological). فالمعرفة الهيدرولوجية مرتبطة بتوليد الطاقة الكهربائية التي تعاني منها كل مدن السودان بما فيها العاصمة المثلثة إذا ما قارنا الوضع بالنسبة لمصر أو أصغر مدينة فيها. فمصر، مثلاً، لم تقتصر على إستعمال الماء للري فقط بل جعلت الطاقة الكهربائية من الأوليات التي ستدفع بالتقدم في كل المجالات الحياتيه وغيرها. فقلما نجد مدينة أو عِزبة (لفظة محلية تطلق على قرية الفلاحين في مصر) في مصر إلا وبها كهرباء!
وبما أن هذا البحث لا يُعنى بالسياسة الزراعية أو العلاقات بين النبات والماء وإحتياجاته لها (Plant-water relations and plant-water requirements) إلا أننا لا نجد حرجاً في الإشارة إلى أهمية وضرورة ربط هذه العلاقات بالواقع للاستغلال الفاعل (Efficient or Effective Use) والأمثل للري علّ أن يجد المزارعون فيها هدى وحسن السبيل لفك أزمات مياه الري دون التوارى خلف الأقنعة السياسية التي لا تخاطب الواقع. إلى هذا لابد من الإشادة بالمجهودات والبحوث العلمية التي قامت وتقوم بها نخبة من علماء وباحثي هيئة البحوث الزراعية السودانية، بمختلف تخصصاتهم، وأولئك الذين يعملون في مجال الري في تأسيس وتثبيت المبادئ العامة التي تربط النبات ببيئته. فإنَّ كمية المياه لكافية إلا أن القصور السياسي في السودان لاستغلالها وإنهماك الساسة في إدامة إشعال نيران الحروب الداخلية أعميا أبصارهم وبصيرتهم عما يجب فعله لمعالجة أسباب تلك المهاترات العنيفة السخيفة. لا نخال أن التوسع فى المشاريع الزراعية المروية ومشاريع السكر (كنانة، عسلاية، شمال غرب سنار، مشروع الرهد الزراعي إلخ..) وبخاصة في مثلث التنمية (الخرطوم–مدنى–كوستى)، في فترة السلام النسبى لدليل أيضاُ على ما نرمي إليه.
لذا نملك التجاسر في الجزم بعد هذا وذاك بالقول أن إمتياط الساسة الذين لم يعتركوا ولم يتمرسوا في ضنك الحياة ولم ينال منهم شظفها أو تمس أصابعُ يديهم "قُفة" (سلَّة) الخُضار، أروقة صنع القرار نيابة عن ضحايا الحرمان وأصحاب الوجع لظلمٍ عظيم. هذا على نمط ما تردده الشعوب والأقوام بقولٍ بيِّن فصيح: وضع الإنسان، كيلا نقول الرجل فنقع في خطأ تفضيله – بالكفاءة -على المرأة، المناسب في المكان المناسب (The right man in the right place) الذي عجز كل ساسة السودان في تطبيقه للنهوض بوطنهم من خيلاء المحسوبية والخروج من الدائرة الحزبية الضيقة.
إذن، الأسباب التي أدت لأزمات مياه الري، خاصة في مشروع الجزيرة، وبالتالي تدني الإنتاج والعزوف من مهنة الزراعة لا تعدو كونها نتيجة عدم استغلالها استغلالاً أمثل. أولاً، وفيما نعتقد وحسب علمنا، إن عدم تخزين الكافئ من المستحق هو السبب الأول والمباشر للأزمة وذلك لأمرين: الأمر الأول هو فقدان الخزانات لسعتها كما أسلفنا الذكر. أما الأمر الثانى فيرتبط بالأول، وهو ميقات التخزين المقرر في الثلاثين من أيلول (سبتمبر) الذي يشارف فيه موسم الأمطار نهايته. أما السبب الثانى فيتعلق بطبيعة خصائص التربة الفيزيائية، خاصة تربة الجزيرة الطينية السوداء التي تتميز بخصائص طبيعية متفردة عن مثيلاتها في العالم (Unique physical characteristics). لا تقتصر هذه الخصائص في الانتفاخ والتحرك ببطء في حالة تشربها بالماء (Swelling and slow movement over time when wet) والانكماش والتشقق عند الجفاف (Shrinking and cracking when dry)، وإنما تتميز بعدم زوال الشقوق أوالشلوخ (or Cracks Whiskers) الناتجة من عملية المد والجذب حتى بعد ملئها بالماء. ونتيجة لهذه الظواهر يزيد الحجم مما ينتج عنه إرتفاع بعض المساحات وإنخفاض البعض الآخر نسبة للتغيير الطوبوغرافي (Topographic changes). هذه النتوءات (Undulations) تسبب في صعوبة وصول الماء إلى حيث يجب أن يصل من أبي عشرينات وأبي ستات (القنوات والجداول)، التي أصبحت منخفضة نسبياً مقارنةً بمستوى الحقل، وبالتالي قلة الماء في الرقعة المرتفعة وكثرته في المساحات المنخفضة. هذه الكثرة تُُعرف عند الزراعيين بظاهرة الإختناق المائي (Water logging). التأثير الثاني هو الحاجة الكبيرة للماء لملئ هذه الشقوق أوالشلوخ خاصة في بداية الموسم الزراعى أو فترات الجفاف المتقطعة (Sporadic dry spells) أثناء موسم الأمطار. كما يعتبر وجود الأعشاب على القنوات المغذية للحقول من العوامل التي ساهمت سلباً على كفاءة القنوات المختلفة لنقل الماء إلى حيث الحوجة. فبدلاً من الإنفاق على نظافة هذه القنوات وغيرها من مدخلات الإنتاج والبناء والتنمية في مناحي كثيرة، مثلاً، آثرت الحكومة الإنفاق على الدمار بالصرف السخى على المجهود الحربي، الاغتيال السياسي، الاضطهاد الديني، الاستعلاء والتمييز العنصري والإجتماعى.
ندلف إلى الآثار السلبية الناجمة من بناء خزان السد العالى الذى تمخض عنه ميلاد بُحيرة ناصر. فمن المعالم البيَنة لهذا الجور: إبتلاع البحيرة لكل شيءٍ حى وما هو عظيمٌ من صوامع ومساجد يُذكْر فيها إسم الله، الترحيل القسرى إلى منطقة خشم القربة (حلفا الجديدة)، التغيير البيئي وما نتج عنه من آفات حشرية وحيوانات مفترسة فى منطقة حلفا "القديمة". فبهذا مُورس على أهل حلفا وضدهم أبشع أنواع التهميش التأريخي، المكاني، الاقتصادي والاجتماعي أو قُل النفسى، إن جاز لنا أنْ نضيف، بفعل الطبيعة أو الإنسان بظُلمه. فالتاريخ العظيم المعاصر منه والعريق في المنطقة قد دُفِن تحت طبقات من رمال الصحراء، الطمى وأمتاراً عميقة من المياه لكيلا تبقى له باقية ولا يمكن تتبُع أثر. أما الإزاحة الجبرية لأهالى المنطقة من أرض الجدود لأشد قسوة على الحى من قطع أو جز الحبل السُرى من الجنين فى رحم أُمه! فأهالى حلفا القديمة في موطنهم الجديد (حلفا الجديدة) يعانون من هذا القطع الجُزافى على الرغم من المحاولات الميؤوسة لتطبيب جراحاتهم بإنشاء مشروع خشم القربة وملحقاته. يتحير المرء حقاً فى أمر الذين أدت بهم الأسباب ليضربوا وينتشروا في مشارق الأرض ومغاربها وترى قلوبهم وأفئدتهم تُوجل حنيناً للموطن الأصل، أو كما يظنون، ومع ذلك يصرون على إبعاد الأصليين من ديارهم بغير حق. أما الظلم المادي فقد تمثَُل فى إصرار مصر على دفع 15 مليون جنيه مصري بنص اتفاقية مياه النِّيل لعام 1959م بدلاً من أصل 35 مليون جنيه التي طالبت بها الحكومة السودانية تعويضاً لأكثر من 70 ألف مواطن إلا أن الأمر حُسِم عندما ثار المتضررون على الجحود.

الصَّادق المهدي .. إضافة أجندة إقليميَّة على المشكل السُّوداني

إنَّ اتفاق المياه الثنائي بين بريطانيا ومصر يجعلنا ننصف الصادق المهدي وبالقول إنّ الثنائية في اتخاذ أي قرار في أمورٍ تتعدد فيه الآراء والفرقاء لا يستقيم من حيث المبدأ. ما عاب الصادق فى هذا الأمر هو مواقفه المتطرفة ضد ما تم من اتفاق سلام بين الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان بإقصائهما لقضية الماء في طاولة المحادثات، وإصراره على تكرار أن عدم التطرق لهذه الإتفاقية، من بين أشياء أُخرى، يجعل المعاهدة بينهما منقوصة ومبتورة وإنَ مصيرها الوأد. لخلافنا معه فرضيتن: الأُولى، أنه، أي الصادق، يقول ما لا يعني ولا يعنيه ويسعي للعب بذكاء الناس وفى ذلك سوء القصد. الثانية أنه يريد، عمداً، خلط الأوراق التى لم تكن أصلاً عنصراً من عناصر ومكونات اللعبة ويبغى أن يجر الحركة الشعبية والحكومة إليها وهو متيقن بأن هذا الخلط لأكثر خطورة من اللعبة نفسها. وكما ذكرنا في مقال سابق، إن قضية المياه ليست من إختصاصات الحكومة السُّودانيَّة [و] الحركة الشعبية للبث فيها وحدهما كما فعلتا بموارد الثروة الأُخرى كالبترول ذلك لأن الحركة (كحركة تحررية ثورية ماردة ومتمردة) لا "ينبغى" لها الضلوع فى أمرٍ ذي أبعاد إقليمية ودولية شائكة النسيج لأن موضوع الماء، وإتفاقياته، يخص حكومات حوض النيل العشر: تنزانيا، بوروندي، رواندا، يوغندا، الكونغو، أفريقيا الوسطى، السودان، إثيوبيا، مصر وإريتريا.
فالنظرة الفاحصة لبنود إتفاقية مياه النيل، كما أبَنّا، ولعدم وجود آلية قانونية دولية تحكم إستغلال المياه – لان تطبيق أنظمة المياه وتوصيات اللجنة القانونية الدولية ليس ملزماً لوجود غموض وافر حول تفسير ومعني "حقوق المياه" - تجعل من الصعوبة بمكان أن يتجرأ أحد في الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان أو الحكومة السودانية أو المعارضة بوضعها على طاولة المفاوضات. فقرار "الفرار" من الماء الساخن قرارٌ صائب وقتذاك. وإذا ما تم أجل تنفيذ اتفاقية السلام دون تقويض من أحد الطرفين أو دُخلاء آخرين فعلى الحكومة الديمقراطية الآتية، لا نقول حكومة الوحدة الوطنية، أخذ قُلة الماء والجري بها في الملعب المخصص ألا وهو منبر مبادرة دول حوض النيل. فإيهام الصادق للناس بعدم حياة وفعالية الإتفاق بين الحكومة والحركة لعدم وجود بند لمناقشة ومعالجة الماء هو قول باطل أُريد به فتنة.
نقول ما قلنا، لأننا لم نسمع قط أن أية حكومة من حكومات الصادق العديدة أقدمت على مناقشة قضية المياه مع الشركاء أو إستخدام حصة السودان كاملة ناهيك عن إستحداث طرق لزيادة سعة التخزين فى الخزانات القائمة – كتعليتها أو نظافتها من الطمى مثلاً- أو فتح إحدى قنوات مشروع الرهد الزراعى، التى جنَد لها البشير شعب السودان ليحفر ترعتها بالأيدى لكيما "يأكل مما يزرع ويلبس مما يصنع"، بعد حين. عجباً أيضاً، أن يختار أو يجنح الصادق المهدي للسكون والصمت كل هذه السنين، بل أجمع الناس على كثرة تردده فى كل الأمور، إلا لنجده دائم الحركة وكثير الكلام، ثم أخيراً، أكثر الناس كتابة لما هو متكرر وغير ذي نفع. والله، إن فشله في مخاطبة المشكل السوداني بطريقة "جماعية ديمقراطية" أو بطريقة "فردية ديكتاتورية" عندما أُوتى من "الفرص" ما لم يُؤتى غيره، ليجلب الأسى ونقده لعمل غيره دون حلول منه ليدمي الفؤاد. فالحلول ليست ﺒأولاً وثانياً أو ينبغى ولا هى بهلُمَجراًً.
لا غرابة، فالصادق عندما يكون خارج السُلطة يسعى دائماً إلى إضافة إبعاداً دولية وإقليمية إلى المُشكِل السوداني. ففي كل جولاته وصولاته في المنطقة العربية، وبخاصة في الشرق الأوسط، يبشًر بتعرض قضية "العروبة السودانية" لخطر الزوال من فعل الأفرقنة (Africanization). وعندما بار الاتجار ببضاعة العروبة وثقافتها، لجأً الصادق لتدويل هذه الدعاية بتناوله مسألة الإسلام وتهديدات النصرانية له والتجارة به بائرة كذلك. أما فى أفريقيا، فنجده دائم النشاط لكيما يفصل بين أفريقيا السوداء في الجنوب والغرب وأفريقيا الحمراء أو قُل القمحية في الشمال والشرق، وفي كل المنطقتين – العربية والأفريقية - تتغلب عليه النزعة العنصرية أكثر من النزوع الديني. نحسب أن إضطر الصادق إلى موضوع إتفاقية المياه عندما تبيَن له أنَ قضية الإسلاموعروبية غير مجدية.
على كل ظل الصادق يتهم قوى أجنبية، وبخاصة الولايات المتحدة وأعوانها، بالقيام بالمؤامرات على السودان! فمثلاً، لخَص الصادق اسباباً غير منطقية حدت بالولايات المتحدة – حسبما يظن -على إتخاذ سياسة مناهضة للإسلام (8): السبب الاول هو فصل السودان عن شمال أفريقيا وضمه إلى دول القرن الأفريقي، السبيبة الثانية هي إبعاد الدين (الإسلام) عن الحياة السياسية في السودان وثالث هذه الأسباب هو فتح الأبواب من جديد للتفاوض حول تصاريح استكشاف البترول لصالح الشركات الأمريكية. إن كانت مصالح أمريكا هى الإستحواذ على البترول بسلخ السودان عن الشمال الافريقى، فما هي مصلحة السودان في المداورة السياسية العقيمة التي لا تحتوي على أي شيئٍ فاعل؟ أيم والله، إن صراع الصادق الداخلي مع نفسه وضد الذين لا يوافقون على توجهاته وإتجاهاته، وحتى أولئك الذين يؤيدونه يرهقهم بتناقُضاته وعدم الثبات فى موقف واحد إلى حين.
مهما يكن من أمر، إن مراجعة وتطوير الإتفاقيات التي تمت في عهد الاستعمار والتي لا تخدم إلا مصلحته أمر درجت عليه دول كثيرة، بل مضت بعضها إلى تأميم بعض المؤسسات الإستعمارية. فما طالبت به تلك الدول ما هو إلا تعبيراً سلميَّاً حضاريَّاً يمكن أن يعززه الصادق ويغذِّيه بفكره الثر وبما كتبه فى مخطوطه: مياه النيل... الوعد والوعيد (Nile Waters: The Promise and Threat). ومهما يكن ما فى الكتاب، لسنا بمخطئين أو خاطئين أن نذكر أن الصادق المهدي لم يتورع ليراعي مثل هذا الخط السوي بإشراك الشركاء إلا ليمضي ويكشط كل دول الحوض من الخارطة السياسية والجغرافية إما إستحقاراً لهذه الدول أو توهماً منه، لشئ فى نفسه وليس فى نفس يعقوب، ليطلب أن تناقش الحركة قضية الماء وكأنها أضحت دولة ذات سيادة من حقها مناقشة هذه القضية ثنائياً مع حكومة الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة. فلنفرض جدلاً أن الجنوب قد إنفصل، ألم يكن إذن من المعقول ومن حقه أيضاُ أن ينضم كدولة جديدة، إلى صف دول الحوض؟ كذلك كيف يدعو الصادق لأن تناقش هذه المعضلة الدولية بين السودانيين (الحكومة – الحركة الشَّعبيَّة – والقوى السياسية الأُخرى، تاركين اللاعبين الأساسيين) على نهج ما يمكن تسميته "أُحادية التفاوض والحل" وفي ذات الوقت يكيل النقد على الحكومة والحركة الشعبية بعدم "حل" موضوع الماء؟ أيم والله، لا نملك بعد هذا كله إلا القول بأن إتكالية الصادق على غيره لمناقشة قضايا الوطن ثم تحميلهم تبعات أخطاءٍ لم يرتكبوها لأمرٍ عظيم، وإن عزاءنا أننا نعيش فى سودان اللا معقول واللا غفران لمن لا حول ولا قوة لهم! فالصادق، كغيره، أساء إستهلاك طيبة السودانيين وميولهم للعفو بما إشتهروا به من القول المأثور"عفا الله عما سلف"، كيلا نقول قصر ذاكرتهم فى إستذكار ما حلَ بهم من سياسات ومواقف هذا الرجل وإلا لما تجرأ على الإقدام للعب بعقول الناس بأقواله وكتاباته بغرض الإستقطاب. ما كان للصادق المهدي أن ينادي هذا النداء بعد ما تبيَّنت الشرور المطلة على أهل الحوض التي إن استفحلت فلا يعلم عُقباها إلا الله.

لا ريب أنَّه ستبقى اتفاقية مياه النيل للعام 1959م ثنائية بين السودان ومصر، وستكون هذه الثنائية مصدراً للصراع بين البلدين بل وفي المنطقة بسبب المشاريع الإنمائية التي ترغب كل دول الحوض القيام بها لسد "الفجوة" المائية التي تحول دون بلوغ التنمية المنشودة فيها؛ وإن عدم إشراك الشريحة المنوط بها الإستفادة من منافع - لا أنفال - تطوير وتنمية - لا هدم - حوض النيل لسيؤدي حتماً لاستمرار الصراع كما بدأ أول مرة وبلا نهاية.


هوامش وإحالات

(1) The United Nations Food and Agriculture Organisation Report, 1995.
(2) ناجى أبي عاد و ميشيل جرينون. 1999م. النزاع وعدم الإستقرار فى الشرق الأوسط، الناس، النفط، التهديدات الأمنية. ترجمة: محمد نجَار. الأهلية للنشر والتوزيع. عمَان/الاردن.
(3) The Nile: Water Conflicts, UN Office for the Co-ordination of Humanitarian Affairs, IRIN, 2003.
(4) The Nile Waters Agreement; Commission of 1925 Lead to the Agreement between British and Egypt on May 7, 1929.
(5) The Report of the Nile Valley Commission study released in 1958 Lead to the United Arab Republic and Sudan Agreement for the Full Utilisation of the Nile Waters Signed at Cairo on November 8, 1959.
(6) Ohlosson, L, Hydro-politics: Conflict over Water as a Developmental Constraint, New Jersey, 1995.
(7) منصور خالد، السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام: قصة بلدين، لندن، 2003م، دار تراث.
(8) منصور خالد، السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام: قصة بلدين، لندن، 2003م، دار تراث.



للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved