تحليلات اخبارية من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

الخرطوم وحريق الباستيل بقلم سارة عيسي

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
8/8/2005 6:09 ص

يصف النقاد الذين تناولوا تاريخ الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر بأنها عمل قام به غوغاء باريس ولم تقم به النخب المتعلمة في المجتمع الفرنسي، وأول عمل قام به الثوار هو هدم سجن الباستيل الرهيب والمفاجأة أنهم لم يجدوا أحدا بداخله سوي سبع سجناء وثلاثة مجانين، قاموا بتحرير المساجين العشرة وقتلوا مأمور السجن، جاءت الثورة الفرنسية بشعارات الإخاء والحرية والمساواة ولكن الأحوال من بعد الثورة لم تكن أحسن حالا من ذي قبل، ولم يتوفر الخبز والحرية ومزق الدهماء قيم العدالة عندما نصبوا أنفسهم قضاة علي المجتمع وشنقوا كل من لا يروقهم، أطلت السيدة/ماريا أنطوانيت من فوق شرفتها في القصر الملكي واستغربت وهي تري الجموع الثائرة لأول مرة فسألت ببراءة: ( ما خطب هولاء ) ؟؟ فأجابتها الوصيفة : سيدتي أنهم يطالبون بتوفر الخبز ، فاستغربت الليدي أنطوانيت وقالت : لماذا الخبز لماذا لا يأكلون الجاتوه والبسكويت !!

والانتقاص الثاني للثورة الفرنسية أنها قامت باستعمار الجزائر والمغرب وتونس وأذاقت أهل هذه البلاد الذل والهوان وهذا يعارض مبادئ الإخاء والحرية والمساواة التي دعت إليها في شعاراتها البراقة، ومهما كتب عن الثورة الفرنسية وأسبابها إلا أننا لا نستطيع تجاهل حقيقة واحدة وهي أنها إنجاز قام به الغوغاء والدهماء من حثالة الطبقة الباريسية، أقصت هذه الثورة الحكم الملكي وحجمت دور الكنيسة، ولم تخلو تداعيات هذه الثورة من حالة الفوضى والانفلات، ولم يحل وجود الشعر وارتقاء المسرح والأدب دون ارتكاب المجازر والتصفيات، تم إعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته ماريا أنطوانيت أمام الملأ في ميدان عام تجمهر فيه المارة من كل صوب وحدب وهم يشاهدون إسدال الستار علي آخر فصل من الملكية الفرنسية.

والأحداث التي مرت بها الخرطوم في الأيام الماضية ليست بالهينة، وهي أحداث أليمة بلا شك وقد فضحت الالتزام الأخلاقي الذي كنا نباهي به الأمم والشعوب عندما ندعي أن السودان واحة للتسامح العرقي والثقافي، وألحقت هذه الأحداث شرخا عميقا وجرحا غائرا في لحمة المجتمع السوداني ولا أظن أنه سوف يتعافى من ذلك في الوقت الراهن، فقد انكسر الغفير وأندلق العسل علي الأرض ولا بد مما ليس منه بد .

وبعد انتهاء العاصفة وصفاء الأحوال أصبح من الممكن تحليل هذه الظاهرة الوليدة ودراسة أسبابها ونتائجها علي مستوي مدينة الخرطوم كمثال وعلي مستوي السودان كقطر، تحول أهالي مدينة الخرطوم من مجتمع مسالم تشيع فيه معاني المحبة إلي مجتمع متحارب يشد الرحال إلي دنيا الكراهية ونبذ الآخر، ويري بعض السياسيين المخضرمين من أمثال محمد إبراهيم نقد أن السودان قد مر بهذه الظاهرة بعد الاستقلال عندما تأخر هبوط طائرة حاكم الجنوب السيد/كلمنت امبوروا في مطار الخرطوم وأشيع بين أنصاره أنه اغتيل، وأحاط أهالي الإقليم الجنوبي بمدرج المطار وحدثت أعمال شغب ولكن السلطات لم تترك لها المجال لتتحول إلي فوضي عارمة كما حدث ألان، فتعامل حكومة أزهري والمحجوب مع هذه ألازمة تميز بالحكمة والعقلانية حيث عملت علي نزع فتيل ألازمة قبل أن تنزلق البلاد إلي هاوية الفوضى وعدم الاستقرار، وقتها لم تكن هناك حرب بين الجنوب الإفريقي والشمال العربي بالمعني الاصطلاحي لهذه الكلمات، وحرب الجنوب الحقيقية بدأت في 89، وهي الفترة التي أعقبت وصول الرئيس البشير إلي سدة الرئاسة، هذه الحرب الأخيرة والتي أستخدم فيها الدين والعرق كمواد لتجيش النفوس وإلهاب للمشاعر زادت من نقمة الجنوبيين علي أهل الشمال، والعنف يولد العنف بطبيعة الحال وما حدث في الأيام الماضية يعتبر ردة فعل طبيعية لسياسة لمظاهر التشنج والانفعال التي تميز بها الإعلام الحربي لحكومة الجبهة الإسلامية وهي تحارب أهل الجنوب في عقر دارهم، والسؤال المطروح هو لماذا فشلت أجهزة النظام الأمنية في معالجة هذه البلبلة واحتواء أزمة العنف التي تفجرت عند إذاعة نبأ مقتل قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان ؟؟

ومن البديهي أن لا تحدث هذه الفوضى لأن النظام طوال فترة الستة عشر عاما الماضية كان يتشدق ببناء المؤسسة العسكرية والأمنية وصرف عليها المزيد من الأموال ، والدليل علي ذلك أنه يخوض ألان حربا في دارفور ويعد في نفس الوقت لحرب مستقبلية في شرق السودان ، وعلي الرغم من اتفاق نيفاشا لا زال النظام يفرض الخدمة العسكرية علي المتقدمين للسفر أو الدراسة أو العمل ، أزال اتفاق نيفاشا مظاهر الحرب القديمة بين الحركة الشعبية والحكومة في الجنوب ولكن غراب الحرب ما زال يحلق بجناحيه في أجواء الشمال ، وبالنسبة للطلاب تعتبر الخدمة العسكرية هي شرط أساسي للالتحاق بالجامعة وعند التخرج ولا يسمح باستخراج الشهادة الجامعة إلا إذا أكمل المتخرج الدورة العسكرية ، ولا يسمح لأحد بالخروج من السودان ما لم يؤدي الخدمة العسكرية أو أن يدفع فدية تصل إلي 250 ألف جنيه تدفع نقدا للقوات المسلحة عند كل رحلة سفر ، وسجلات القوات المسلحة لا زالت تتقيد بوضع المواليد في السودان منذ 1958 تحت قيد الخدمة العسكرية ولا تسقطها بالتقادم أو بمرور السنين ، ومن المفارقة أن يطالب شخص عمره 47 عاما وهو يودع خريف العمر بأداء هذه الخدمة ، وذلك غير تجيش المؤسسات الحكومية والبنوك والشركات وجعل كادرها قادرا علي حمل السلاح وخوض غمار الحروب ، وعلي الرغم من كل مظاهر التسلح والتدريب العسكري كادت مجموعة من ( الشماسة ) وسكان المجاري أن يسقطوا الدولة السودانية القائمة علي أساس سلطة الجيش والمؤسسات الأمنية ، وما عجزت عنه الأحزاب السياسية والنقابات خلال ستة عشر عاما توفر لثلة من اللصوص استطاعوا في وضح النهار أن يستغلوا موت قرنق المفاجئ ويحيلوا عاصمتنا الخرطوم إلي بحر متلاطم من الفوضى الشديدة ، والخرطوم لا زالت تعيش سلبيات الأيام الماضية ، فالمتاجر مغلقة والشوارع خالية من المارة والعربات ، أصاب الشلل كافة مرافق الدولة ، و تحولت الخرطوم إلي عاصمة أشباح بعد أن هجرتها الحياة الصاخبة ابتداء من صوت الفنان فرفور إلي صوت البلبل كمال ترباس وهو يصدح بصوته العذب في احدي حافلات الأمجاد ويردد ( ما تهتم للأيام ظروف وتعدي طبيعة الدنيا زي الموج تشيل وتودي )) ، وما أحوجنا ونحن نعيش بؤس هذه اللحظات الكئيبة أن نسمع صوتا صادحا يذكرنا بمباهج الحياة وينسينا ولو لدقائق معدودة نصب السياسة وعذاباتها ، والحركة الوحيدة التي بقيت في شوارع الخرطوم هي حفيف أوراق اشجار النيم الخضراء وهي تداعب رياح الخريف وصوت دوريات الشرطة المزمجرة وهي تجوب الطرقات في رحلة بسط الأمن المفقود وإعادة الطمأنينة إلي القلوب الخائفة .

والسؤال المطروح لماذا حدثت هذه الفوضى ؟؟ هل أصبح النظام يشعر بالثقة الزائدة ولم يعد يخشى الأخطار القادمة من خصومه السابقين بعد أن روضهم بالمواثيق و أطعم فمهم بالمناصب التي تهزم المبادئ والمثل ؟؟ أم أن هناك خطرا لم يضعه النظام في أوليات أجندته السوداء ؟؟ أم يا تري أن النظام قد ركن إلي ماضيه في البطش والقتل واعتبر أن هذا التاريخ الموغل في الوحشية يجعله مهابا في وجه خصومه ؟؟ ، ويا تري من هو الجني الذي بدأ يأكل في ( منسأته ) من الداخل وجعل هيبته الأمنية تتهاوي وسط ذهول الجميع حيث مر المخربون من تحت صرح الأجهزة الأمنية ولم يحرقهم شهابها الحارق ؟؟

بدأت أحداث يوم الاثنين بمشهد في غاية البساطة، بدأ الهجوم علي بائعات الفول والتسالي وانتهي بسرقة سيارات شركة دال ونهب أمعائها في الهواء الطلق، عمد المخربون إلي إشعال حريق كبير في شارع المك النمر في وسط الخرطوم وكان الهدف هو سيارات للشرطة التي كانت متجمعة في هذا المكان، هرعت الشرطة والدفاع المدني إلي مكان الحريق فضرب اللصوص ضربتهم الثانية عندما انسحبوا من المكان وقاموا بسلب الدور والمباني السكنية التي لم تكن خاضعة للحراسة، انتشر الحريق وعمت الفوضى وأختلط الحابل بالنابل وأمتد اللهب إلي الإطراف وسط شلل تام للأجهزة الأمنية السودانية و التي عجزت تماما عن أن تزامن انتشارها مع بؤر الحريق المتصاعدة، لم يقتصر الأمر علي السرقة والتخريب بل اتضحت معالم مجهولة لهذه ألازمة، ونفخت قناة الجزيرة في مزمار الفتنة الطائفية والعرقية فتحولت مدينة الخرطوم المؤمنة بأوليائها الصالحين من مدينة للسلام والتعايش إلي مدينة للعنف والثارات العرقية والمذهبية.

عندما دخل اللورد هربرت كتشنر العاصمة الخرطوم في أواخر القرن الماضي لم تسجل حالات عنف علي الرغم أن المناخ كان محتقنا بين أبناء البحر وأبناء الغرب قبل دخول القوات الغازية، حافظت الخرطوم علي وئامها وعاشت تسامحا قلما تجد له نظيرا في مدن العالم الحديثة، ولكن هناك من ساءه هذا المناخ المتعدد وفرض علينا العواصف والأعاصير لتكون عوضا عن نسائم السلام والمحبة، كشرت ثقافة الشحن المذهبي عن أنيابها البارزة وعضت في عنق المجتمع المتجانس فسالت الدماء ونهبت الدور وأزهقت الأرواح البريئة، وقابل هذه الفظائع رد فعل قاس من الذين اسماهم السيد/الصادق المهدي بحضر الخرطوم متجاوزا نعتهم بأهل الشمال.

واجهت الإنقاذ كل الأخطار، وقضت علي كل الخصوم، بدأت حملتها بتطهير القوات المسلحة من المعارضين، وأعدمت بسرعة كل الذين قاموا بمحاولات انقلاب ضدها ولم يشفع للمشاركين في هذه المحاولات أنهم من أبناء الشمال، فهي حرب فوق كل علاقة وفوق كل صلة رحم، هجرت الإنقاذ حرب الشمال ورحلت بجيشها إلي الجنوب، هناك مارست القتل والحرق وتدمير البنية التحتية في هذا المجتمع البائس، رجع للإنقاذ عقلها بعد أن مزجت الدماء بالماء وتاه حلم النصر علي الحركة الشعبية، زغردت الإنقاذ للسلام في الجنوب ولكن الحنين إلي الحرب لم يفارق مضجعها قيد أنملة فوجدت لها موطئ قدم في دار فور، وهناك أيضا أحرقت القرى وهجر السكان ديارهم وتمزق النسيج الاجتماعي، ولم نفق إلا علي خطي حوافر المجتمع الدولي وهي تغرز في أرض دارفور، وإذا كانت حرب الجنوب نظريا هي صراع بين المسيحية والإسلام وحرب دارفور هي حرب بين الزرقة والعرب، فلا أظن أننا في حاجة إلي حرب جديدة بين الشماليين والجنوبيين يكون مسرحها مدينة الخرطوم، إنها حرب التضاد المطلق التي لا تترك مجالا للنسبية أو هامشا للنجاة من المأزق، ولذلك كانت كل حروب أبناء السودان فيما بينهم أشد مأساة وأكثر دموية، كل حروبنا اتسمت بالحدة الشديدة وعدم العودة إلي جادة الحق إلا بعد إزهاق الأنفس والأرواح، فإذا حاربت الإنقاذ أهل الجنوب والغرب والشرق واستخدمت في حروبها المروحيات فلماذا عجزت عن حماية أهل الخرطوم من جور بعضهم علي بعض ؟؟ هل شاخ النظام وأدركه الوهن أم أن السبب هو غياب رجل الإنقاذ القوي اللواء عبد الرحيم محمد حسين والذي يبرع في تطويق الأزمات وتحويلها إلي فاجعة أكبر وأزمات دولية ؟؟ يا تري ما الذي حدث بالضبط لكيان مؤسسات الإنقاذ الأمنية ؟؟ وهذا ما سوف أجيبكم عليه في المقال القادم .

سارة عيسي

[email protected]

__________________________________________________

للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved