في مقال له بعنوان "لن يفلح قرنق وأمريكا فى فرض مصالحة مُذلة ومقسمة للوطن" بتاريخ 31/7/2005 تحدث الأخ أسامة خلف الله عن أن اتفاق السلام الموقع بين الحركة الشعبية و حكومة الإنقاذ قد فوت الفرصة على إمكانية محاسبة رموز النظام السوداني و من والاهم على الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب السوداني بدءاً بالإستيلاء على السلطة و تقويض الدستور مروراً بالقمع و القتل و التعذيب و التشريد و الفصل التعسفي و نهب المال العام و تدمير الإقتصاد و البني التحتية إلى آخر الموبقات التي لا تحصى ..

أود بدايةً أن أنوه إلى أن الإتفاقية بين الحركة الشعبية و الإنقاذ ليست بمصالحة و إنما إتفاقية سلام حقنت دماء أبناء الشعب السوداني من الطرفين و لم تشر الإتفاقية في أي من بنودها على تناسي الماضي أو أعطت حصانة لأحد ضد المحاسبة خلافاً للمصالحات التي دائماً ما تستند على مبدأ عفى الله عما سلف .. كما أؤمن على أنه لا خلاف على أن محاسبة كل من أجرم في حق الوطن و الشعب هو مبدأ أصيل من مبادئ النضال و الثورة حيث أن فيه إحقاقاً للحق و ترسيخاً لمبدأ العدالة وإنصافاً للمظلومين .. و قد كان مطلب المحاسبة على الجرائم دوماً حاضراً جنباً إلى جنب مع شعارات المعارضة السودانية الداعية إلى استعادة اليموقراطية و تفكيك النظام الشمولي و رد الحقوق لأهلها و رفع المظالم .. و لكني وجدت نفسي متوقفاً بكثير من التردد إن لم يكن الإختلاف في الرأي عند مقولة الأخ العزيز أسامة بأن إتفاقية السلام قد ضيعت الفرصة و أوصدت أبواب الأمل في وجه محاسبة النظام على جرائمه .. ففي رأيي أن هذه المقولة تنطلق من فرضية خاطئة فحواها أن نظام الإنقاذ كان على وشك السقوط و أن قوى المعارضة كانت على وشك إستعادة زمام الأمور في السودان و من ثمّ محاسبة نظام الإنقاذ على جرائمه .. و الشاهد هنا أنه لا نظام الإنقاذ كان آيلاً للسقوط و لا المعارضة السودانية كانت على وشك الإمساك بزمام الأمور .. بل على العكس تماماً فإنه لم يأت على المعارضة السودانية (ممثلة في التجمع الوطني) حين من الدهر كانت فيه أشد ضعفاً و أكثر تمزقاً مما هي عليه الآن .. فقد أصبحت المعارضة السودانية معزولة عن مجريات الأحداث على الساحة السودانية و فاقدة التأثير على القواعد الجماهيرية و صارت أحزاب التجمع تنسلخ منه الواحد تلو الآخر بفعل تغليب الخلافات الحزبية على هموم الوطن و سقط خيار الإنتفاضة المسلحة و هو ما زال جنينا في رحم النضال و فشل التجمع في استقطاب و حشد الدعم الإقليمي و الدولي خلف قضيته أو إقناع الجماهير داخل السودان بأهليته في القيادة ناهيك عن قدرته على تعبئة الجماهير للإنتفاضة القادمة .. و هكذا أُجهِضت العوامل الذاتية للإنتفاضة في حين كانت العوامل الموضوعية في قمة نضوجها .. فالأزمة الإقتصادية ممسكة بتلابيب النظام في السودان و العزلة الإقليمية و الدولية أحكمت طوقها حوله ممثلة في سوء علاقات النظام مع العديد من دول الجوار بالإضافة إلى العقوبات الإقتصادية الغربية و إدراجه في قائمة الدول الراعية للإرهاب ..

و لعل قرنق بحسه السياسي الثاقب قد أدرك أن التجمع أصبح مُقعداً و قد أصابه الكساح السياسي و أنه قد صار عبئاً على الحركة الشعبية أكثر منه حليفاً قوياً و داعماً مما حدا بالحركة لتجاوزه رغم التحالف و الميثاق و الدخول في مفاوضات سلام مباشرة مع النظام السوداني مستفيداً من المعطيات الدولية الجديدة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 و التي وضعت النظام السوداني في دائرة المواجهة المباشرة مع أمريكا و من ثم رضوخه المذل للشروط الأمريكية بالتعاون معها في الحرب على الإرهاب مقابل تجنيبه المصير الأفغاني و العراقي .. و أيضاًالضغوط الأمريكية للنظام السوداني بإتجاه إنهاء الحرب في الجنوب .. و استطاع جون قرنق أن يستغل حالة إنحناءة النظام أمام العاصفة الأمريكية لكي يمرر معظم شروطه التي قبل بها نظام الإنقاذ على مضض و تضمينها إتفاقية السلام مثل مسألة تطبيق الشريعة في الجنوب و مسألة مصادر التشريع و علاقة الدين بالدولة إلى آخر القضايا التي تعنَتت حكومة الإنقاذ كثيراً في التنازل عنها بعتبارها من ثوابت المشروع الحضاري لنظام الإنقاذ ..

و الحقيقة أن إتفاقية السلام بين الحركة الشعبية و نظام الإنقاذ و إن بدت كإتفاقية ثنائية مهمِشة لقطاعات كبيرة من القوى و الفعاليات السياسة في السودان إلا أن النظر إليها من هذا المنظور وحده لا يخدم قضية التحليل العلمي للواقع السياسي السوداني و لا يساعد على إنتاج وعي حقيقي بآفاق التحول السياسي القادم في السودان .. فالناظر إلى الواقع السياسي السوداني اليوم لا يستطيع إلا أن يقر بما أحدثة إتفاقية السلام من إنفراجة سياسية في السودان و ما دستور المرحلة الإنتقالية المجاز في يوليو الماضي بما تضمنه من كفالة لحريات التعبير و التنظيم و الإعتقاد و تعدد مصادر التشريع و المساواة في الحقوق و الواجبات و عدم التفريق بين أبناء الوطن الواحد على أساس الدين أو العرق و مباشرة الأحزاب السياسية (بما فيها الحزب الشيوعي) لنشاطها العلني لأول مرة منذ 16 عاماً إلا شواهد قليلة و إرهاصات على أن عجلة التغيير السياسي و الإجتماعي و من ثم الإقتصادي قد بدأت تدور في السودان و أن القبضة الحديدية لنظام الإنقاذ على مجمل مقاليد الأمور قد بدأت ترتخي .. فعلى سبيل المثال ما عاد النظام قادراً على الأحالة العشوائية للصالح العام و الإبقاء على الكوادر الموالية للنظام خصوصاً في صفوف القوات النظامية مع وجود الحركة الشعبية في الحكم .. أضف إلى ذلك أن إنتهاء الحرب بما تبشر به من إستقرار سياسي و اقتصادي و وعد تنموي خاصة في الجنوب ذي الأراضي العذراء و الحبلى في نفس الوقت بالبترول و الأمل .. و ها نحن نرى مع تباشر فجر التغيير الذي لم تشرق شمسه بعد و نسمع بعض الأصوات هنا و هناك معبرة عن روح هذا التغيير مثل مطالبة أسر شهداء حركة يوليو 71 برفع الحصانة عن جعفر نميري تمهيداً لمحاكمتة بجرائم القتل التي ارتكبها بعد أن منحتة سلطة الإنقاذ تلك الحصانة و منعت ملاحقته قضائياً .. و هنالك أصوات مطالبة المفصولين تعسفياً بإعادتهم و تعويضهم عن الأضرار التي نجمت عن الفصل .. و رغم أن هذه هي قطرات البداية إلا أن غيث التغيير قادم لا محالة .. و هناك 6 سنوات أمام القوى السودانية بمختلف مشاربها للعمل على بناء السودان الجديد و دعم المشروع الوحدوي ..

إن رحيل قرنق المفاجئ قد شكل إنتكاسة ضخمة لمشروع السودان الجديد و إن كنا نأمل أن تستشعر القوى السودانية الحادبة على وحدة السودان حجم التحدي الماثل أمامها و تعمل لتجاوز هذه المحنة الرهيبة مستلهمة الإرث الوحدوي لذلك القائد الفريد و متلقفة للراية التي كان يرفعها .. راية الوحدة و الأمل و السودان الجديد ..

إنه طريق للخلاص من سلطة الإنقاذ .. ليس عن طريق الإنتفاضة .. و إنما عن طريق بناء السودان الجديد كما بشر به د. قرنق .. فإذا ما سرنا على دربه و حققنا حلمه فقطعاً سوف يأتي اليوم الذي نكون فيه قادرين على محاسبة كل من أجرم في حق الشعب و الوطن من سدنة الإنقاذ ..

الوليد مبارك إبراهيم

Brooklyn

New York