كنت لا اعرف للحياة معني قبل بضعة سنين من تمرد الحق علي الباطل في زمن ساد فيه الظلم والطغيان, كنا سعداء فالوالد كان من كبار التجار وله أرصدة ببنك الوحدة فرع واو وجوبا وبعض البنوك في الشمال وعربات ننتقل بها آنذاك بين واو واويل ,و رؤوس لا تحصي من المواشي, كنافي غاية الرفاهية والغني ,واذكر عند انفجار التمرد إني فقدت أبناء اقرب الاقربين إلي ,كنا نختبئ ووالدي داخل أحد الغرف لنسمع خطاب قرنق الذي كان يلقيه كل يوم الأحد, فالاستماع لإذاعة الحركة في ذلك الوقت جريمة وحكمه الإعدام,كنت أتسال لماذا تمرد الدكتور قرنق وماذا يريد؟؟ كان عمري لا يتعدى الخمسة سنوات .
بعد ذلك فقدنا كل ممتلكاتنا ,فمليشيات البقارة نهبت المواشي ,وحرق العربات من قبل جيش الحكومة كما حرق منازلنا في العام1986 ولم يترك لنا خيار سوي النزوح إلى شمال السودان بعد أن فقدنا كل شئ,وعانينا في الخرطوم من مشكلة الإيجار وغلاء المعيشة إلى أن استقرينا في العم 1992 في إحدى الإحياء العشوائية بضواحي الخرطوم , تحدينا المستحيل حتى نلتحق بالدراسة كإخواننا الشماليين ولم نجد مدارس نلتحق بها سوي المدارس المطرانية,ترعرعنا في بيئة العزلة الاجتماعية فحال اللاجئين افضل بكثير عن حالنا, كيف لا ونحن حثالة المجتمع منبوذين من الشماليين وقد نشر أحد الشماليين في جريد نبض الكاريكاتير هجاء واذكر منها هذا المقطع ( يا طير البقر الجيتو في الكوش رقيتو)فهو صادق رغم مرارة الهجاء لان حال مساكن الجنوبيين في الشمال أشبه بالكوشة,كيف لا وسياسة الحكومة موجه لتنمية الشماليين دون الجنوبيين والدليل علي ذلك ليس عدم التنمية في الجنوب بل عدم توفير الخدمات كالكهرباء والمياه في الإحياء التي يسكن فيها الجنوبيين في ضواحي الخرطوم ناهيك عن الخدمات الصحية والاجتماعية.
أليس الجنوبيين الموجودين في الشمال هم رمز ودليل الوحدة التي تشير أليها الحكومة فأين الوحدة من معاناتهم في الشمال وعلي إي مبادئ استندت؟؟
وهل يرضوا بالوحدة إذا كان حياتهم في ضواحي الخرطوم رمزا لوحدة السودان ؟؟
أن الإنسان الجنوبي غريب ومنبوذ في المجتمع الشمالي وثقافته وأعرافه ومعتقداته ولا شئ مما ذكرت يعزز الوحدة حتى ولو كان الجنوبي مسلما فنظرة الشمالي لا ولن تتغير أبدا , فقلب الشماليين موجه إلى العروبة أعينهم علي أراضى الجنوب,فالمراد بالوحدة هنا هي وحدة الأراضي واستغلال موارد الجنوب الطبيعية .
عشنا كل هذه الماسي بينما كان الدكتور جون قرنق في الغابة يحارب دون كلل, كيف لا وهو قد عاش في الخرطوم وقرا النظرات من حوله, عندها فقط أدركت إن حياتي كلها كانت إجابة للسؤال : لماذا يحارب الدكتورجون قرنق؟؟
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما دورنا بعد رحيل المقيم المناضل د. قرنق الذي لم يسبقنا فقط إلى قراءة عقلية الشمالي البسيط بل عقلية كبار السياسيين الشماليين بحيلهم؟؟
أن الدكتور وان مات فقد تركنا لنقرر ما بين وحدة الجنوب مع الشمال دون مقابل (تطوع أو طوعيه) مع دوران ساقية الظلم أو أن نكتفي بما نلناها التشرد والجهل والفقر ونقيم دولة السودان الجديد بالانفصال لانه :(لا كرامة بلا وطن ولا وطن بلا كرامة) ولنا لقاء في المقال التالي بهذا العنوان