تحليلات اخبارية من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

كالعير فى البيداء يقتلها الظمأ.. والماء فوق ظهورها محمول بقلم محمد يوسف حسن

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
8/12/2005 11:22 ص

محمد يوسف حسن
[email protected]

كالعير فى البيداء يقتلها الظمأ.. والماء فوق ظهورها محمول
كان أستاذنا الجليل د. عبدالهادى بوطالب، المستشار السابق للعاهل المغربى الراحل الملك الحسن الثانى والمدير السابق للمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة (اسيسكو)، يردد دائما بيت الشعر هذا والذى أصبح مثلا ويحرك حرف الراء فى كلمة العير (وتكتب أحيانا العيس) بلكنة فاسية (نسبة الى مدينة فاس بالمغرب) محببة وهو يحاضرنا فى مادة العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط فى بداية الثمانينات من القرن الماضى. وتجدنى استعير هذا المثل لأشبه به حال اقليم الجزيرة بوسط بلادنا الحبيبة. فاقليم الجزيرة ظل من قبل فجر الاستقلال الى نهايات القرن المنصرم يمثل البعير الذى يحمل الماء على ظهره ليروى به أجزاء الوطن الأخرى وان كان هو أكثر ظمأ.. فالجزيرة كانت لما يقارب الثمانية عقود هى المصدر الرئيسى لمداخيل الدولة وعملتها الصعبة بما تنتجه من محاصيل نقدية واستهلاكية كالقطن (الذهب الأبيض) والفول السودانى فى مشروعى الجزيرة والمناقل وقصب السكر فى مشروع سكر الجنيد. وقد ظلت هذه المشاريع: الجزيرة والجنيد والمناقل تستقطب العمالة من أطراف السودان البعيدة ومن أعراقه المختلفة كالشايقية والبرقو والمساليت والهوسا والفولانى (الفلاتة) وقبائل جنوب الوطن، على سبيل المثال لا الحصر، اضافة الى أهل الاقليم من قبائل الوسط.

ما دفعنى أن أخص اقليم الجزيرة بهذا المقال هو ليس الانفعال بالجهوية ولا العصبية الجغرافية ولكن أمور ثلاثة كانت وراء هذا التخصيص، وان كان مقالنا السابق وما سبقته من مقالات خصصناها لمعاناة الريف والأطراف من وطننا الحبيب التى اختلست منها المدن الكبيرة كل فرص التنمية. وأول هذه الأمور الثلاث هو الوفاء لأهلى فى هذا الاقليم الذى ولدت وترعرت فيه أيام صبايا وبعضا من سنين شبابى.. مستصحبا قول الشاعر:

وللأوطان فى دم كل حر يد سلفت ودين مستحق

وواجبى فى أن أصبح لسان أهلى فى التذكير بمعاناتهم والدفاع عن مصالحهم أمام أهل القرار بضرورة الالتفات لهذا الاقليم الذى تدهورت أوضاعه المعيشية وسبل كسب العيش فهاجر عدد كبير من أهله، جلهم من الشباب الى العاصمة أو الى هجرة مجهولة الزمان والمصير، بحثا عن تعليم أفضل أو عن عمل يسد الرمق. وثانيا أن لهذا الاقليم دين على أهل السودان لما ظل يقدمه لاقتصاد البلد لما يقارب الثمانون عاما ولما ظل يرفد به الوطن من أهل الذكر والفكر والسياسة والابداع والفن ونجوم الرياضة. وثالث هذه الامور أن هذا الاقليم ظل بوتقة لتمازج أهل السودان بأعراقه المختلفة التى هاجرت اليه واستقرت فيه وقد ضمت مدينة رفاعة لوحدها طلاب أحد مدارس الجنوب كلهم،ربما مدرسة رمبيك، وأيدى عاملة كثيرة من أبناء الجنوب كما شهد الاقليم بعضا من هجرات مواطنى دول الجوار الأفريقى وأصبح بذلك يمثل السودان المصغر، ان لم نقل أفريقيا المصغرة، وهذا تعايش سلمى وطنى وجب تعضيده بمزيد من المشاريع والالتفات لمشاكل سكانه. وهذا ما عبر عنه الراحل الدكتور جون قرنق حينما تحدث عن ضرورة السعى لتحقيق السلام فى الشرق والغرب والشمال والجنوب قائلا بتحقيق"سلام شامل فى الوسط". وفى تقديرى أن الوسط يمثل الرئة التى يتنفس بها الوطن أو السرة التى تتوسط جسد الوطن فان هى سلمت سلم الوطن. وبهذا لم يعد اقليم الجزيرة ملكا لعرق واحد أو غالب ليجأر بالشكوى ويرفع صوته بالمطالب بسبب الاهمال الذى لقيه ممن تعاقبوا على حكمه وولايته فلم يلتفتوا الى تطويره وتوسيع مشاريعه وتأمين معاش أهله بل لم تشهد مدنه الكبيرة أى يد تجديد ينظر أو ترميم يذكر..وظلت كثيرا من قراه تعانى العطش وتلاميذ بعض مدارسه يفترشون الثرى وأما خدمات الكهرباء فلم تعرفها بعض أريافه كما أنها تزور حضره على حياء. أما تعبيد شوارع المدن فهو ما زال ترفا.. وربما كانت الاشراقة المهمة فى الآونة الأخيرة هى صدور قانون عام 2005 الذى يحدد ادارة مشروع الجزيرة وتعويض ملاك أراضى المشروع. ولكن يبقى ذلك على مستوى المشروع فقط الذى ظل حبيسا داخل حدوده التقليدية لا يغادرها لعقود مضت.

وعلى الرغم من جريان النيل، سليل الفراديس، على صدر هذا الاقليم وارتواء جزء من ضفته الغربية الا أن شرق الجزيرة ظل يقاسى الظمأ من شرق عاصمته واد مدنى الى مدينة العيلفون بطول يقارب المائة وثمانون كيلو متر، باستثناء مشروع سكر الجنيد. لقد ظل أهل شرق الجزيرة يترقبون الخطة الثالثة لامتداد مشروع الرهد منذ حكم الرئيس جعفر نميرى ليضم مزارعمهم المطرية، التى استعصى عليها المطر، الى مشاريع مروية تحقق لهم الاستقرار والرفاه ولكنه أصبح حلما بعيد المنال. لقد مد مشروع الرهد لسانه لولاية الجزيرة ولكنه لم يمد يده فبقيت أراضى شرق الجزيرة من تخوم ولاية القضارف الى تخوم ولاية الخرطوم أراض غفر لا حياة فيها ولا ماء. ومن العجب أن النيل يحمل ماءه وهو يجرى فى عدم اكتراث ليسقى بلاد بعيدة. ومسقط رأسى الشرفة تقبع على بعد كيلو متر ونصف الكيلو من ضفة النيل الأزرق الشرقية وامتدادات الأراضى الزراعية المستوية للقرية والقرى التى حولها تمثل مشروعا مرويا مستقبليا واعدا، والنيل يرقد فى جنبه، ان وجد مستثمرا من أهل الخليج أو غيرهم ممن تعج بهم المدن الكبرى وأطرافها ولم يستقطبهم حاكم أو مسؤول فى الاقليم الى حيث يجب أن تكون المشاريع خدمة للتنمية الحقيقية وسببا من أسباب الاستقرار، وحتى وزير الاستثمار الذى كان واليا على أهل الجزيرة كانت معقودة عليه الآمال من أهل الاقليم، وهو قد عاش بنفسه بؤس الاقليم ومعاناته، أن يوجه جزءا من الاستثمار واصحاب المال للأجزاء الأكثر معاناة فى الاقليم. وهذا المشروع المستقبلى يمتاز بقرب الماء من النيل وبسهولة التربة وامتداد أراضيها وبتوسطها لمدن مهمة فى وسط الجزيرة هى العاصمة مدنى التى لا تبعد أكثر من عدة كيلو مترات ومدينة رفاعة عاصمة محافظة البطانة الى مدينة تمبول وهو سوق استهلاك محلى لا يستهان به.

ظلت الحياة طاردة فى هذه القرى بسبب فشل الزراعة المطرية وتدهور الخدمات التعليمية والصحية فهجرها الناس الى العاصمة ليلحقوا بابنائهم الذين يدرسون فى الجامعات أو الذين ألحقوهم بمراحل الأساس والثانويات حيث الاستاذ المتميز أو طلبا للرزق فاصبحت بعض بيوت هذه القرى ينعق فيها الغراب. وبقدرما يغالبنى الشوق وأنا فى الغربة للعودة والعيش ما تبقى عمرى فى قريتى الشرفة بريفى رفاعة ووسط أهلها الحنينين الأوفياء فان واقعا يخيفنى هو هذه الهجرة للمدينة التى سرقت عددا كبيرا من أسرتى وأهل قريتى للاسباب التى ذكرت فتصيبنى الغربة بصدمتين: الأولى شعورى بالغربة التى أنا فيها خارج وطنى والثانية أن عودتى ستقودنى الى غربةأخرى داخل الوطن فى عواصم لست من طينتها، فأنا قروى حتى النخاع وان استضافتنى المدن الكبيرة بين ساكنيها لفترة من الزمان فهو أمر طارئ. ويظل قلبى معلق بها ويذكر خيرها ونعيمها وكرم أهلها واقرائهم للضيف، كما أنها كانت منارة وسط قرى المنطقة بما سبقت به من مؤسسات التعليم والمستشفى وأهل ذكر من شيوخ القرآن الذين فتحوا مسيدهم لعابر الطريق وسعوا فى قضاء حوائج الناس.

بلاد بها شق الشباب كمائن وأنجبنى قوم هناك كرام
يعتصرنى الحزن وأنا أرى خيرة أبناء مسقط رأسى الذين ظلوا يطعمون الضيف ويخدمونه وهم حفاة الاقدام ابتلعتهم المدائن بفولها وعدسها وفقدت قريتى بهذه الهجرة كفاءات علمية ومعرفية ومن أهل الورع والشهامة والكرم أمثال د. حيدر خوجلى و نقيب الأطباء د. عبد العظيم كبلو والشيخ الجليل عبدالرحمن يوسف والأستاذ حسين خوجلى وأحمد محمد الطاهر والسياسى المخضرم الدكتور ابراهيم الأمين والأخ الوزير الزين الحادو والصديق العزيز عادل اللبيب ويوسف العوض حسن و د. فيصل الزين و د. الأمين الحسين وعادل ابراهيم (العمدة) والمهندس فضل الله أحمد فضل الله وبركات الشريف وعبدالله الشريف أحمد وحسن يوسف ومرتضى ابراهيم (ود ابراهيم) وعلى الماحى وآخرين كثر تضيق هذه المساحة عن حصر أسمائهم.
ولان كانت ظروف الحرب المتطاولة فى الجنوب قد عطلت فرص التنمية فى هذه الأقاليم نأمل أن يوسع السلام فرص الالتفات لتعمير هذا الريف وأن تجد ولايتنا حظها من التنمية وعندها سنستعصى على سلب هذه المدائن وخداع سياسييها...


للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved