مقالات واراء حرة من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

نحو إقامة دولة قومية في السودان (2 ــ 2 ) بقلم حسن موسى دلدوم

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
4/26/2005 2:51 م

نحو إقامة دولة قومية في السودان
(2 ــ 2 )

حسن موسى دلدوم

[email protected]

ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال كيف أن السبق التعليمي والإداري الذي ناله بعض الأفراد والمجموعات من شمال السودان قد لعب دوراً مهماً في هيمنتهم وإحتكارهم لمقاليد الحكم والإدارة خلال العقد الأول على الأقل من عمر الدولة المستقلة، تلك الفترة التي شهدت بداية التجربة الوطنية في تسيير شئون البلاد بمنأى عن مؤثرات الإستعمار الأجنبي وتوجيهاته. لقد شغل الشماليين وقتها معظم الوظائف القيادية والإدارية في الدولة كما أنهم ساهموا بصورة مقدرة في النشاط التجاري وفي مجالات الخدمات الطبية والتعليمية من خلال عملهم كتمرجية وأفندية في العديد من المراكز الصحية والمدارس على قلتها.

لكن ثمة عوامل سياسة وإقتصادية وثقافية مرتبطة بديناميكية التطور المجتمعي وسط مجتمعات المناطق المهمشة خاصة كما هو الحال في مناطق جنوب وشرق وغرب السودان هي التي دفعت بتلك المجتمعات إلى الثورة والى حمل السلاح ضد نظم الحكم في البلاد سيما بعد تنامي الشعور بالغبن السياسي والتنموي بإعتبارها نتاجا طبيعياً لإستمرار تلك الهيمنة في الفترات اللاحقة للإستقلال إلى درجة أضحت تقليداً متوارثا سارت عليها وللأسف كل الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان حتى اليوم.

لذلك فإن ما يردده بعض الأفراد والدوائر الرسمية بأن هنالك هجمة دولية كبرى تستهدف النيل من السودان عبر دعمها أو تأييدها لحركات النضال المسلحة في دارفور على وجه الخصوص، أو ما يثار حول عدم إهتمام العالم عما تحدث من إنتهاكات في فلسطين والعراق في وقت يهتم فيه بالأوضاع الإنسانية في السودان! وأخيراً الحديث عن وجود أياد للدولة الإسرائيلية في الذي يجري في دارفور مستهدفة بذلك عقيدتنا "وثقافتنا العربية"‍‍‍‍‍ وغيرها من التصريحات فهي تعبير عن درجة السخف والاستهزاء بالعقل السوداني وبإرادة الشعوب الذي ظل يمارسه المغرضين من الساسة وبعض الأقلام والمؤسسات و رجال دين، وقد قالوا أكبر من ذلك في حق كل من نادى بالعدل في الحقوق والمكتسبات.

ما شأن الغرب أو أمريكا أو غيرها من سياسات أنظمة ظلت تؤلب العداء بين أبناء الوطن وتحشد الجيوش لقتل الأبرياء وإخراجهم من ديارهم بغير حق، نعود لنذكر هنا أننا ما زلنا بحاجة إلى نظام حكم رشيد يدرك كيف يحترم عقولنا ويستوعب حجم التنوع الماثل في بلادنا؟ ما يثار في هذا الإتجاه هي محاولات يائسة الهدف منها إجهاض ثورة الوعي الإجتماعي المتزايد بالحقوق السياسية والتنموية كما أنها تهدف الى تضليل الشعب السوداني وصد أنظار المجتمع الدولي عن واقع الأحوال السياسية في السودان من تكريس للهيمنة وغلبة النزعة الذاتية في نفوس الأنظمة الحاكمة بالقدر الذي دفع بهم إلى التغاضي عن حقوق ومكتسبات غالب أبناء الوطن، أنظمة نهجت سياسة التكتل والإنتماء الجغرافي والثقافي في سبيل هيمنتها على حكم البلاد وحرمان الآخرين من حقوقهم السياسية والثقافية والتنموية.. الخ.

السودان والقوى السياسية:ـ
يقيني بأن المنهج الديمقراطي يملك من المقومات ما يجعله أساسا متوازنا قادر على تمّكين الشعوب والمجتمعات من تحقيق آمالهم وتطلعاتهم السياسية والإجتماعية والإقتصادية بإرادة كاملة في ظل بيئة صالحة لإبداء الرأي والرأي الآخر والحق في صنع القرار سيما في دولة مثل السودان المتعدد الثقافات والديانات والأعراق. عندما رحل المستعمر رأى أهل السودان في الأحزاب السياسية التي ظهرت خلال تلك الفترة صيغة أمثل لقيادة الحياة السياسية والتنموية وبناء الوحدة الوطنية في البلاد خاصة بعد أن لعبت هذه الأحزاب مع قوى شعبية أخرى دوراً مقدرا في التعجيل بذهاب المستعمر مثلما ساهمت من قبل بشكل أو بآخر في خدمة ذات المستعمر في البلاد!

لقد أنهى الشعب السوداني الجدل حول مصير السودان لحظة خروج المستعمر ما بين تحقيق الإستقلال الكامل الذي تزعمه حزب الأمة آنذاك من جانب والإتحاد (التبعية) مع مصر الذي نادى بها الحزب التحادي الديمقراطي من جانب آخر وذلك عندما إنحاز لخيار الدولة المستقلة وطالب بإعلان إستقلال السودان تحت شعار السودان للسودانيين. هذا الموقف ظل في المقابل مثار غضب وإشمئزار لدى بعض الأوساط السياسية والجماعات والمؤسسات المهنية في شمال الوادي (جمهورية مصر) من الذين ما يزالون يعتبرون السودان محمية طبيعية خاصة بهم وبإعتباره يمثل إمتدادا إستراتيجيا هاماً لمصر يجب أن يبقى كذلك و إلى الأبد!

تلك هي أيضا ضمن مواقف أخرى مؤسفة أبانت كيف أن بعض أخوتنا من الجارة مصر لا يعيرون أدنى إعتبار لإرادة الشعب السوداني ومصالحه، لقد ترجمت مواقف مصر المتناقضة تجاه نظام الإنقاذ في السودان منذ إستيلائه على الحكم في منتصف العام 1989م بالإضافة إلى نظرتها الآحادية للعديد من القضايا السياسية في السودان مثل مسألة حق تقرير المصير للجنوب وما حدثت من مأساة في دارفور وأخيراً وليس آخراً مسألة التوقيع على ما عرفت بالإتفاقيات الأربعة، ترجمت هذه المواقف الحاجة إلى ضرورة إعادة صياغة مفهوم العلاقة بين البلدين على نحو يميز ما بين الخصوصية والاستقلالية من ناحية والرغبة المتبادلة لبناء علاقات سياسية وإجتماعية وإقتصادية متكافئة بين شعبي البلدين من ناحية أخرى.

إن ما أدى الى تدهور الأوضاع السياسية والإقتصادية والأمنية في السودان خلال خمسين عاما خلت من عمر الدولة المستقلة يعود في الأساس إلى غياب الخطة القومية الشاملة لدى القوى السياسية التي حكمت البلاد و إلى الأخطاء المتكررة التي وقعت فيها بعض هذه القوى السياسية بتحريكها للنعرات القبلية في أوساط المجتمع السوداني في سبيل توسيع دائرة نفوذها وما تم من تسييس المؤسسة العسكرية على النحو الذي قامت بها الجبهة الإسلامية القومية (المؤتمر الوطني الحاكم حاليا) وهو ما أفسد العديد من معاول التعايش والإلفة الإجتماعية بين كثير من المجتمعات السودانية خاصة في المناطق ذات التأثير القبلي الكبير كما هو الحال في دارفور وكردفان وجنوب السودان كما دفعت تلك الأخطاء بالجيش السوداني إلى السعي المستمر نحو إعتلاء كراسي الحكم عبر الإنقلابات والإنقلابات المناوئة.

لقد أبان هذا الخلل والاختلال في سياسات الأنظمة الحاكمة إلى وجود عدد من المفاهيم السالبة التي ترتكز عليها مكونات نظام الحكم والسياسة في السودان، وهي التي أدت وتؤدي في الوقت نفسه إلى فشل القوى السياسية السودانية من أن تضع أسساً منهجيةً مرضية حول كيف يحكم السودان بداية بصناعة الدستور القومي وتحديد هوية البلاد ومن ثم تحديد معايير إقامة الدولة القومية المبتغاة. لنسأل كل الأنظمة السياسية التي حكمت السودان من "ديمقراطية" وشمولية وغير ذلك، ما الذي حال بينكم وبين إعداد دستور شامل للسودان من شأنه أن يجنب البلاد كل الذي حدث ويحدث الآن؟ ليست هنالك ثمة أسباب أقرب مما نورد أدناه:ـ

1. لقد ظل نهج الأحزاب السياسية السودانية على مستوى البناء التنظيمي والرؤية لمشكلات السودان قائم على ذات المفهوم البدائي التقليدي المبني على الهيمنة وسياسة التبعية العمياء خاصة في كل ما إرتبط بقضايا الحكم والتنمية في البلاد، أحزاب أمضت الكثير من عمرها في التنظير والجدل السياسي ومهرجانات البيعة والتأييد للقادة وشراء ذمم أبناء الشعب من خلال إلتزامات كاذبة ووعود غير ملزمة.

2. مع إنتقال عدوى الحزبية السياسية إلى المؤسسة العسكرية ومن ثم إعتلاء الجيش كراسي الحكم غرقت النظم العسكرية من جانبها في تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين والعسكريين في حالة جعلت منها نظماً تسلطية تائهة فحسب لا تملك برنامجا قوميا لمعالجة قضايا البلاد. نظم حولت مؤسسة الجيش نفسها إلى مؤسسة نظام حاكم كما حدثت في فترة نظام الإنقاذ حيث أصبح الجيش يأتمر في الحل والربط بإمرة عناصر من الحزب وبذلك تشوهت رسالته وتبدلت من قوة قومية تحمي وتدافع عن الوطن إلى آلية من آليات القمع المتعددة في السودان وجهت بكامل ثقلها نحو قتل أبناء الوطن وتشريدهم.

السودان واتفاقية نيفاشا:ـ
كثير من أهل السودان سعد بالذي تحقق بالفعل في نيفاشا من توقيع لإنهاء الحرب في الجنوب وإرساء لمبادئ سياسية وتنموية من شأنها أن تسهم إيجابا في الوصول إلى السلام الشامل في البلاد، ذلك أن نظام الإنقاذ ومنذ إستيلائها على الحكم في السودان (يونيو 1989م) ظلت تراوغ وتتمادى في مسألة إحلال السلام في وقت رمت فيه بكل المجهودات السابقة حول عملية إحلال السلام في البلاد في سلة المهملات بإعتبارها جهوداً انهزامية مبتورة ومنقصة لسيادة الأمة والوطن، لقد تعمدت الإنقاذ في سياساتها إلى عدم طرح أجنده واضحة حول كيفية إنهاء الحرب وإحلال السلام الشامل وتبنت عوضاً عن ذلك أجنده أيدلوجية "جهادية" فيما عرف بالمشروع الحضاري الإسلاموي المزعوم.

في هذا السياق يحضرنا أيضا أن نذكر بأن نظام الإنقاذ لم تعط الجدية المطلوبة لعملية التفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان إلا بعد أن فشلت محاولاتها المتكررة للقضاء عليها وإجهاضها من الداخل وبعد سلسلة من الضغوط الدولية التي ظلت تمارس معه من أجل وقف الحرب وإحلال السلام في السودان. لقد نهج نظام الإنقاذ مراراً سياسة زرع الفتن وتأليب العداء والنعرات القبلية بين أبناء الجنوب ليتمكن من خداع بعضاً من قيادات الحركة الشعبية وغيرهم بقوائم ذهبية من الوعود السياسية والتنموية وقّعوا بموجبها ما عرفت بإتفاقيات السلام من الداخل ومن ثم حملوا السلاح ضد الحركة الشعبية الأمر الذي أشعل حرباً جنوبياً داميا خلال التسعينيات من القرن الماضي كادت أن تجهض بفكرة بناء السودان الجديد، تلك الفكرة التي قامت عليها الحركة الشعبية منذ إنطلاقتها في صيف العام 1983 كما أسلفنا.

لكن يبدو أن الحركة الشعبية بقيادة الدكتور جون قرنق كانت أقوى من أن تنهار أمام كل تلك الفتن والمؤامرات، لقد تمكنت وقتها من عبور تلك المحنة في الوقت الذي فشلت فيها سيناريوهات السلام من الداخل ليعود من بقي من الذين وقعوا تلك الإتفاقيات من أبناء الجنوب إلى الغابة والى صفوف الحركة الشعبية ثانيةً، من هنا بدأت مرحلة أخرى جديدة من مراحل نضال الحركة الشعبية إستطاعت خلالها أن تخطو خطوات سريعة نحو تحقيق أهداف شعار بناء السودان الجديد على أسس جديدة([1]).

إن الحديث عن تطورات الحرب المدمرة (1983م ـ 2004م) التي عاشتها جنوب البلاد وعانى منها الأخوة الجنوبيين بصفة خاصة وجميع أهل السودان عامة تحتاج هي الأخرى لغير مقال، لكن دعونا هنا نستقرأ ما يمكن أن تحققها بنود إتفاقية نيفاشا للشعب السوداني من سلام دائم وتنمية منتظرة وعما إذا كانت الوحدة الوطنية ومن ثم إقامة الدولة القومية ممكنة بناءً على ما تمت في نيفاشا من إتفاقيات.

إن المتتبع لمرتكزات إتفاقية نيفاشا يلاحظ كيف أن الإخوة في الحركة الشعبية أمنوا ظهر هذه الإتفاقية من خطر التنصل والضربات من الخلف آخذين العبرة من سابق المواثيق والإتفاقيات التي نسفت في مهدها كما ذكرنا، لقد حرصت الحركة من جانبها على ضرورة إشهاد كل المهتمين بالشأن السوداني من دول وأفراد ومنظمات دولية في جميع مجريات التفاوض ومن ثم في حيثيات التوقيع النهائي على الإتفاقية مطلع يناير من العام 2005 م.

لذلك يمكن القول بأن إتفاقية نيفاشا جاءت في الأساس لمعالجة مشكلة الكل من خلال الجزء، بمعنى أنها ترمي إلى أبعد من عملية إنهاء الحرب وتحقيق السلام في الجنوب، الإتفاقية ليست فقط من أجل رد حقوق ومكتسبات أهل الجنوب بقدر ما وضعت منهج متكامل من شأنه أن يقدم كأنموذج مقبول يساعد في إيجاد حل قومي لمشاكل البلاد. هذه المسألة تحتاج من كل أهل السودان النظر في جوهر هذه الإتفاقية ومضامينها وليس في ما تحتويها من بعض المعالجات الجزئية لحالات إستثنائية قصيرة الأجل تنتهي بالضرورة مع انتهاء الفترة الإنتقالية مثل مسألة النسب المئوية في تقسيم السلطة والثروة كما في حالة جنوب السودان ومناطق جبال النوبة والنيل الأزرق ومنطقة أبيي ومن ثم وضعية ومصير نظام الإنقاذ الطرف الآخر في الإتفاقية، علينا أن نعلم بأن كل تلك المميزات مرتبطة إرتباطا زمنياً محدودا لا نتوقع أن تكون بأي حال من الأحوال أثقل على أهل السودان أكثر من الذي عانوه خلال الخمسين عام من عمر الدولة المستقلة.

نخرج من ما سبق الى أن إتفاقية نيفاشا للسلام في السودان تعد خطوة في الإتجاه الصحيح ليست لأنها أوقفت الحرب في الجنوب فحسب وإنما لكونها أعطت مؤشرات إيجابية حول كيفية إنهاء مشكلة الهيمنة السياسية والثقافية والإقتصادية المتوارثة في البلاد ومن ثم مهدت لإمكانية تحقيق الوحدة الوطنية في السودان، وحدة قائمة على أساس بسط قيم العدل والمساواة في الحقوق والواجبات بين كافة أبناء الشعب السوداني، وحدة تقود إلى وضع إطار منهجي يفضي إلى إقامة دولة قومية حقيقية في السودان.

إن إتفاقية نيفاشا تبين كذلك مسألة أخرى هامة وهي أنه وبالرغم من كونها إشتملت على بعض البنود الخاصة بأهل الجنوب دون سواهم سيما مسألة حق تقرير المصير ونسب السلطة والثروة المخصصة للإقليم الجنوبي([2]) فإن اتجاهات المستقبل في السودان من خلال هذه الاتفاقية تسير نحو وحدة البلاد. فإذا وضعنا موقف نظام الإنقاذ من الوحدة جانبا باعتباره يمثل السلطة الحاكمة في البلاد وبالتالي يرغب في أن يبقى السودان بلدا موحداً فإن الأهداف السياسية والإستراتيجية للحركة الشعبية هي الأخرى ستكون أكثر قدرة على القبول والتطبيق والنجاح في ظل وحدة السودان ومن هنا يصبح خيار حق تقرير المصير المرتقب أداة ضغط سياسية فحسب يهدف لتأمين ضمان تحقيق التحول نحو وحدة حقيقية قائمة على أسس جديدة في السودان.

حقيقة المشكلة في دارفور:ـ
من الواضح أن هنالك تطور متزايد في حركة المجتمع السوداني المتناغم مع قضايا الحقوق والمكتسبات والذي بدأ بجلاء منذ الستينيات من القرن الماضي الأمر الذي ظل يحدث تحولات إيجابية سيما في أوساط الصفوة المتعلمة من أبناء مناطق الهامش السودانية وذلك في فهمهم لأوضاع السلطة والتنمية في البلاد مثلما تفهم بعض الكتاب القوميين والدارسين حقيقة المشكلة السودانية عندما تعرضوا في دراساتهم وتحليلاتهم الى دور الهيمنة الجغرافية والثقافية التي ظلت عبئا ثقيلا على السودان منذ الإستقلال وأثره في مستقبل الوحدة والتنمية في البلاد.

كما أن غالب السياسيين من أبناء مناطق الهامش على وجه الخصوص أدركوا ومنذ فترات مبكرة نسبياً حجم الخطر المحدق بمستقبل السودان بفعل غياب منهج حكم قادر على إستيعاب الجميع ورؤية قومية تعمل على معالجة مسائل السلطة والتنمية وتجاوز الأزمات فكانت النتيجة أن ظهرت كيانات سياسية في مختلف أقاليم السودان تطالب بحقوق متساوية بين أبناء الوطن في السلطة والتنمية مثل جبهة نهضة دارفور في إقليم دارفور والحزب القومي في كردفان وغيرها من التنظيمات السياسية في الجنوب والشرق والتي أعطت بشكل أو بآخر مؤشرات عدم الرضى بالواقع السياسي والتنموي في البلاد وبرهنت في الوقت ذاته إلى ضرورة إيجاد حل فاعل لمشكلات البلاد من خلال إحترام التعدد والتنوع المكون للمجتمعات السودانية وضرورة تجسيد ذلك في المساواة والعدل في الحقوق السياسية والتنموية بين كل أهل السودان.

ومع إستمرار وتيرة سياسات الأنظمة الحاكمة في تكريسها لمسألة الهيمنة والتهميش وسوء إستغلال موارد البلاد وتجاهل إشارات التنبيه التي ظلت ترسلها تلك الكيانات الإقليمية كان من الطبيعي أن تنفجر الأوضاع في دارفور ويتحول التعبير الرافض لأشكال الظلم من خلال المنابر السياسية والمؤتمرات العلمية إلى ثورات مسلحة وحركات نضال إستطاعت أن تدفع بقضايا مجتمع الهامش في السودان خطوات إلى الأمام فقد قامت في مطلع التسعينيات ثورة داؤود يحي بولاد الشهيرة ثورة أعادت إلى الأذهان ثورات الأمير يوسف وأبو الخيرات والسحيني وغيرهم من أبناء دارفور الذين رفضوا الذل والتبعية ذات يوم.

لقد أعطت حركة بولاد إشارة واضحة لكل المستنيرين من أبناء الهامش في السودان بأن الوطن ما يزال يرزح تحت قيود الهيمنة وأنه لابد من فعل شئ يجعل من السودان وطنا قومياً قائم على رضى المجتمع ووحدته سيما بعد أن تناسى ورثة الحكم عن حقوق غالب أهل البلاد وتجاهلوا تعبيرهم الرافض للظلم وأسبابه، لقد سقط بولاد شهيداً بكل معان الكلمة وهو الذي كان أحد كبار أعضاء الحركة الإسلامية في السودان ثم قيادياً بارزاً في نظام الإنقاذ قبل أن يعلن يقود ثورة ضده مثلما ثار من قبله كل من حمل في قلبه ذرة ثورة ضد أنظمة الظلم والتبعية العمياء، لقد إستشهد بولاد وهو يدرك أنه ترك من ورائه وطنا ممزقا وشعب يستغيث من ويلات التهميش وجور الحاكمين وبعد أن ترك المجتمع في دارفور وقد أعياه النسيان وأنهكه الظلم وإنعدام الأمن وحياة اللاإستقرار.

ليت الأوضاع تحسنت بعد إخماد ثورة بولاد وما صاحبتها من إتهام قبائل بكاملها بالتمرد على الدولة! الذي حدث هو مزيد من التوتر ومزيد من المعاناة لأهل دارفور الذين تنازلوا حتى عن سكر أطفالهم للدولة من أجل أن يروا خدمة تنموية تشعرهم بصدق الحكومات ووفائها لكن ضاع أملهم بين جملة من الشعارات والوعود وذهب معه طريق الإنقاذ الغربي مثلما ذهبت العديد من مشاريع التطوير والتنمية من دارفور إلى غير رجعة.

لقد ضاق أهل دارفور زرعاً من إستمرار سوء الأوضاع السياسية والإقتصادية والأمنية في البلاد لتتفجر بذلك ثورة أخرى مسلحة في مطلع العام 2003 م نذرت أن تناضل من أجل الحق والحقيقة ومن أجل وطن يقر التباين المجتمعي والمساواة في الحقوق والواجبات .. ثورة ضد كافة أشكال الظلم والهيمنة في البلاد.

كما ذكرنا فإن السودان مازال يفتقر إلى منهج حكم رشيد يدرك كيف يستقرأ الأحداث قبل أن يسعى لحلها على نحو يضمن للبلاد سلامته ووحدته، لقد كان ممكناً معالجة المشكل في دارفور بعد أن أعلن حركة تحرير السودان بقيادة الأستاذ عبد الواحد محمد نور ورفاقه الثورة المسلحة ضد النظام الحاكم في السودان قبل أن يلحق بهم حركة العدل والمساواة بقيادة الدكتور خليل إبراهيم ذلك أن ما طالبت بها هذه الحركات من حقوق ومكتسبات لم تخرج من دائرة قضايا الحكم والأمن الاجتماعي والتنمية المتوازنة التي ظل ينادي بها غالب أهل السودان.

لكن يبدو أن سياسات الأنظمة الوطنية التي حكمت السودان هي ذات السياسات والمقاصد في سبيل تعاملها مع قضايا مناطق الهامش في السودان حيث المطالبة بالحقوق خيانة للوطن ومحاولة عنصرية تهدف لتمزيق المجتمع طالما أنها تمس قضية الهيمنة على مقاليد الحكم في البلاد لذلك لم يكن مستغرباً أن توصف الثورة المسلحة في دارفور بأنها مجرد عصابات نهب مسلحة وقطاع طرق لا مطالب لهم ولا حقوق! تلك هي العقلية التسلطية التي ظلت تعقد المشكل السودانية بدلاً من أن تعالجه. لقد تعمدت الأنظمة السياسية في بلادنا إرتكاب الأخطاء في تفسيرهم للأزمات كما الجهل بها في ظل غياب المنهج القومي آنف الذكر فكان أن ذهبت بالقضية في دارفور الى مصاف القضايا الدولية المعاصرة، أما كيف نالت المشكلة في دارفور إهتمام كل العالم والمنظمة الدولية على وجه التحديد فالإجابة بالتأكيد لدى نظام الإنقاذ ومعاونيه.

أخيراً يجب أن ندرك حجم وحقيقة المشكل في السودان ومن ثم العمل على إيجاد الحلول بدلا من السعى إلى تفاقمها كما فعل نظام الإنقاذ عندما فتن بين المجتمع في دارفور متجاوزا بذلك إرثاً حضارياً زاخراً بقيم التآلف والإخاء ظل يحافظ عليها أهل دارفور جيلا بعد جيل، أنه من الضرورة التأكيد على أن المشكل في السودان ليس نظام الإنقاذ وحده فهو نظام حكم يمكن أن يذهب اليوم قبل الغد وهو ليس حرباً مع أهل الشمال بإعتبارهم أكثر المعنيين بمسألة الهيمنة وتوارث الحكم منذ الإستقلال ذلك أن مجتمع الشمال لديه أيضا ما يعانيه من مشكلات، إن المشكل في السودان في غياب إطار قومي قادر على إرساء دعائم منهجية للوحدة وأسس متفقة لحكم البلاد على النحو الذي يتساوى فيه جميع أهل السودان في الحقوق والواجبات وعندها نستطيع أن نؤسس لدولة قومية في السودان تحول الحروب والغبن والشعور بالظلم والتهميش إلى التاريخ.



للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر الحر | دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر الحر

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |تعارف و زواج|سجل الزوار | اخبر صديقك | مواقع سودانية|آراء حرة و مقالات سودانية| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved