د.منصور خالد والجمهوريين

دهش كثيرون، ولم نندهش، عندما قال د.منصور خالد عن الجمهوريين، لجريدة البيان في أواخر مايو الماضي،ما يلي، رداً على سؤال عن رباطه الفكري معهم :
****************************************************************
الجمهوريون قادتنى اليهم فحولة فكرية وخصائل شخصية. كثيرون كانوا يقدرون فى الجمهوريين تلك الفحولة، دون أن يشاركوهم الراى ناهيك عن الإنضواء تحت لواء تنظيمهم.
من بين الخصال التى حببتهم الى نفسى, أدب الخطاب وتجويد الكتاب، والتوافق المبهج بين السر والعلانية. وربما كان مقتل محمودعلى يد نميرى هو أكبر حدث حملنى الى القطيعة البائنة معه.
كنت فى دارى بلندن عشية إعدام الأستاذ أتابع ما يدور فى السودان برفقة الحبيب الراحل الدكتور خليل عثمان، والذى تمت بينه وبين الأستاذ علاقة وارفة. وتداعى علينا كثر لا يصدقون ما يسمعون، الأخ الراحل حسين بليل, الأستاذالتجانى الكارب، الأخ الراحل أبوبكر البشير الوقيع.
قضينا ليلة محلوكة نسعى فيها بكل ما فى وسعنا لحشد العالم لكى يقنع نميرى بالكف عن السير فى تنفيذ قراره, إتصلت بنائب الرئيس الأمريكى جورج بوش، وسيمون تيل رئيسةالبرلمان الأوروبى، وأحمد مختار أمبو مدير اليونسكو، والأمير صدر الدين أغا خان فى جنيف، والمستر رتشارد لوس فى البرلمان البيرطانى، وكان لكل واحد من هؤلاء فضل على السودان، وعلى النظام الذى يترأسه نميرى شخصيا. الإجابة على جميع هؤلاء كانت الرفض والتحايل.
وضاعف من غضبى ما علمت به من إستهانة الرجل بكل الضغوط الأسرية عليه وفيما علمت أن رأس الرمح فى تلك الضغوط الأسرية –الدكتور عبدالسلام صالح – خرج غاضبا ومتوعدا أن لا يعود الى دار نميرى. وفى الصباح جاءنا الخبر الذى جعلنا جميعا نشرق بالدمع حتى تحولت دارى الى بيت بكاء.
لا أدرى ما أصنع, أأهدى خليلا وهو يتشنج بالبكاء كالطفل، أم أهدئ من روع أبى بكر صاحب القلب الذى قرضته الأمراض, أم أقول للتجانى حنانيك بعد فجعنى بقوله "لم أكن أظن أنه سيأتى علي حين من الدهر أقول فيه لا يشرفنى أن أكون سودانيا الا هذا اليوم،" أم أنصرف عنهم حميعا لأفعل ما أفعله دوما فى مثل هذه الحالات: أعتصر قلبى فى وريقة .
هؤلاء رجال لم يكونوا فى يوم من الأيام جزءًا من منظومة الجمهوريين ما جمعهم بالأساذ الشهيد هو رابطة الإنسانية واحترام الفكر والمفكرين. كثيرون قد يقولون إن محموداً لم يكن هو أول ضحية للنميرى. فقد سبقته ضحايا، لتحمل معه المسئولية عما لحق بهم. بيد أن محمودا لم يكن هو الإمام الهادى، الذى نازع نميرى السلطة. ولم يكن هو الشيوعيون الذين أتهموا –حق أوباطلا– بالإنقلاب على حكمه، وإذلاله بحمله على أن يخرج من داره خافر الرأس حافى القدمين. وليس هو قبادات اللإخوان، التى كانت وراء محاولة شعبان للإستيلاء على الحكم. وليس هو قيادات الجبهة التى جيشت الجيوش للإطاحة بالحكم.

جرم الرجل الذى لم يكن يحمل عصاة يتوكأ عليها، وهو الشيخ الذى أنهكته السنون، إنه أبدى الراى فى وريقة واحدة إستنكر فيها ما يدور باسم الدين، دون أن يصف السلطان بالبغى. وهو أقل ما كان يقتضيه المقام.

الصمت فى مثل هذا الموقف أبلغ من الحديث

ولا إله إلا الله

الأستاذ حيدر التحاي لك
صدق الأستاذ منصور خالد فيما ذكر والله وأنا شخصا أستحضر ذلك اليوم الأسود وأذكر والله علي ما أقول شهيد أني لم أري الوالد عليه الرحمة يبكي إلا ذاك اليوم وقد كان عزيز الدمع ولم يكن من الجمهوريين وأحمد لك الوفاء لأستاذكم فإن من شيم الرجال الوفاء وقد أدبكم عليه الرحمة وأحسن وأنا أتابع ما تكتب ويكتبه الإخوة الجمهويون بالبورد ورغم عدم إتفاقي تماما مع الكثير من الأفكار الا أني أشهد لكم بعفة اللسان وصدق الطرح متعك الله بالعافية
خالد الحاج

لله درهم من أبطال صاغوا تاريخا حافلا بالأمجاد..رحم الله الأستاذ

العزيزين الدكتور حسين الخضر "ود البلد،" والأستاذ خالد الحاج أشكركما أجزل الشكر على المساهمة. صمتك في "لا إله إلا الله،" مدوٍ يا ود البلد. وقد كان موقف الأستاذ محمود في 18يناير1985، وفاءً للإسلام وللسودان،أكبر تجسيد للتوحيد المتمثل في قولة "لا إله إلا الله" المشرقة. أرجو أن تطلع على كتاب "لا إله إلا الله" الذي اصدره الأستاذ محمود، للوقوف على كيفية ونوعية تتطابق فكر الأستاذ محمود مع مواقفه. واحسب أنك ستجد هذا الكتاب في موقعنا:
www.alfikra.org
أما شرحك يا أستاذ خالد لموقف والدك ونشيجه في ذلك اليوم فإنه يحكي كيف أن موقف الاستاذ كان تعبيراً عن كل ذات سودانية أصيلة. وسيأتي يوم، أحسبه قريباً، سيجد السودانيون كلهم، أنهم لم يبروا أباهم هذا العظيم براً يليق به. أذكر يوماً، قبل الاعتقال الأخير، والمحاكمة، ثم تنفيذ حكم الإعدام، أن الأستاذ محمود طلب من الأستاذ عبد الله فضل الله، احد أميز المنشدين والناشطين الجمهوريين، أن ينشد قصيدة "أنا أم درمان" التي كان ينشدهاالأستاذ الفنان أحمد المصطفي. كان الأستاذ منتشياً بالقصيدة أيما انتشاء، وحين وصل عبد الله فضل الله إلى البيت الذي يقول:
فيا سودان إذ ما النفس هانت*أقدم للفدى روحي بنفسي
كانت دموع الأستاذ محمود تنزل مدراراً على الأرص فتبلل ما تحت نظر عينيه الكريمتين. لم أعرف حتى الآن، في تاريخنا الطويل،أباً من أباء السودان الكرام يمثل هؤلاء الأباء مثلما مثلهم الأستاذ محمود في حبه العميق للسودان والسودانيين.
أما في يوم الفداء العظيم، فلم تنزل دمعة من الأستاذ، فقد وقف أمام الجلاد سامق الرأس، مديد المهابة، قاهراً بموقفه للظلم، يكاد سنا تبسمه يخطف الأبصار. وفي ذلك اليوم بدأت الإعداد لإنتفاضة إبريل حيث تجمعت القوى السياسية المؤثرة، بما فيها الجمهوريين، في جامعة الخرطوم وقررت أن تسقط النظام من وحي ذاك الموقف. يوم يكتب تاريخنا بحياد سنعرف أن الأستاذ محمود في ذلك اليوم قد وضع اللبنة الأساس لكل الثورات القادمة، بما فيها الثورة التي نعد لها الآن في تؤدة وأناة وصبر. وسيرى الذين ظلموا أيى منقلب ينقلبون.
إن أباك يا خالد رجل، رجل، ثم رجل، لم يبك، في ظني، على الأستاذ محمود في ذلك اليوم مثلما بكي على خيبة المثقف السوداني، وإن لم يستطع أن يعبر عن ذلك. وسنكون هذه المرة أبراراً بأباءنا، راجين أن نحمل كلمة "مثقف" معاني جديدة.
دوماً كأن الأستاذ يقول لنا بأن كلمة ثقف في اللغة العربية تعني هذب وقوم. بهذا المعني فإن غزارة المعلومات التي لا تنعكس سلوكا على صاحبها لا تعبر عن "تثقيف" فاعل أو "ثقافة" أصيلة. المثقف الأصيل هو الذي يفكر كا يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، ثم لا تكون عاقبة فكره وقوله وعمله إلا خيراً وبراً بالأحياء والأشياء. الأستاذ محمود هو المثقف السوداني الأول بهذا المعني، لأنه عاش فكره وقوله في اللحم والدم والعظم. بل إني أجزم بأنه كان أسمى شأناً "في تجسيد ما يقول" حتى من فكره وقوله.

ولطول ما قرأت وسافرت وشاهدت عن، ومن، تجارب، في أرجاء مخلتفة في العالم، ولأناس من فصائل شتى، لم أر مفكراً واحداً كان فوق ما يقول، أي فوق فكرته نفسها، مثل ما رأيت بأم عيني في معيةالأستاذ محمود. سيعرف السودانيون قريباً أنهم ما قتلوا أبيهم من بينهم، إلا ليحياهذا الأب، وإلى الأبد!
شكرا يا signعلى تعليقك المختصر المعبر

أشكر للأخ حيدر تخصيصه بوستا لهذه الكلمات النيرات وانتهز المناسبة لأنقل كلماتي التي كتبتها في منبر الجمهوريين الخاص حينما تكرم أحد الأخوان بإثبات كلام الدكتور منصور خالد هناك فقد قلت في حقه:
يا سلام .. كل يوم يزيد إكباري لهذا الرجل فهو لم يمار أبدا في إبداء مشاعره تجاه الأستاذ والجمهوريين عند كل فرصة مواتية فهو لا شك يملك وضوح رؤية وشجاعة يندر أن توجد بين صفوف المثقفين السودانيين .. أما خليل عثمان فيكفيه أن الله اجتباه لتلك المعية النادرة فغرف من بحر المحبة ما غرف ونال بذلك حسن الخاتمة .. فسلام عليه في العالمين .. أما السياسيين العرب والغربيين الذين أبدوا عدم اكتراث وسكوت على تلك الجريمة البشعة فسيظل سكوتهم وصمة عار تطاردهم أبد الدهر ، باستثناء السيد سيريل ثاومند ذلك النائب البرلماني الذي قال أن تلك الجريمة النكراء "تقلص من قيمتنا، نحن المجتمعين في هذه القاعة ومن قيمة كل إنسان يوجد على وجه البسيطة".
وأضيف هنا لمن عساه لا يعرف أن السيد خليل عثمان عليه رحمة الله كان معتقلا مع الأستاذ (في منزل بونا ملوال السابق بشارع البلدية) وقد تعرف على الأستاذ عن كثب خلال فترة الأعتقال تلك وقد خرج من معتقله ذالك أكثر معرفة وأكثر محبة وتعلقا بالأستاذ محمود كما قد عبر ..
عمر

شكراً أخي عمر على سبقك لي بالفضل بنقل كلماتك من منبرنا إلى هذا المنبر. كما أشكرك على التنوير بشأن إعتقال الدكتور خليل عثمان مع الأستاذ في أواخر عهد مايو. أستوقفني، كما استوقفك، تخاذل بعض الساسة في بلادنا وفي الغرب عن وقوف المواقف المشرفة. وقد استوقفني بصورة خاصة أن د.منصور خالد كان قد اتصل بجورج بوش الأب إبان أيام المحاكمة المهزلة للأستاذ محمود وبعض تلاميذه.

أكاد أجزم بأن موقف بوش كان مائعاً. ولكني لن أستعجل لهذا الحكم حتى يكشف التاريخ، الذي سنكتبه بأيدينا بعد تمحيص وتوثيق وتروي، عما دار بينه وبين الرئيس السوداني المخلوع نميرى بهذا الشأن. ما أذكره جيداًعن زيارة جورج بوش عندما كان نائباً للرئيس ريقان، لا يبشر بأن التاريخ سيبيض وجهه. فقد زار السودان والجمهوريون كانوا يطاردون من قوى الهوس الدينى المتمكنة من السلطة وقتها، ونميري كانت قد بدأت لوثة الهوس لديه. ولكن بوش لم يعر كل ذلك اهتماماً، حيث كان مشغولا بمسألة نقل اليهودالفلاشا إلى إسرائيل عبر السودان.
ولا أخال الدكتور منصور خالد قد ترك باباً للإيضاح لحال السودان في ذلك اليوم إلا وطرقه مع بوش وغيره. ولكن بعض هؤلاء الساسة الغربيون، مثل ساستنا، لا تحركهم غير مصالحهم الضيقة. أذكر أن أمريكا كانت قد "ناشدت" نميرى، على إستحياء، أن يلغي حكم الإعدام. ولكن الرجل آثر أن يمضى في جريمته، وأن يحكم بالإعدام شنقاً حتى الموت على نظامه. وقد حرر الأستاذ محمود لنفسه، ولنا، في ذلك اليوم شهادة ميلاد "الإنسان" فينا.

سلام أيها الإنسان*وهل يبقى سوى الإنسان؟

Quote: وقد حرر الأستاذ محمود لنفسه، ولنا، في ذلك اليوم شهادة ميلاد "الإنسان" فينا. سلام أيها الإنسان*وهل يبقى سوى الإنسان؟

عبارة موجزة في غاية البلاغة..

لك الشكر يا حيدر على نقل الكتابة من صالون الجمهوريين إلى هنا..

والسلام لكم جميعا..

الاخ حيدر بدوى
تحية طيبة وبعد
ان يوم الجمعة 18/يناير 1985 كا اطول يوم فى تاريخ السودان...كان يوم العار..الذى انكرنا فيه قلوبنا...واعلنا استقالتنا من جنس البشر...اذا كان من فعلوا هذه الجريمة النكراء من البشر ......
امهلنى ايام ياخى حيدر حتى انزل تداعيات هذا اليوم المرير بالتفاصيل...من السابعة صباحا حتى العاشرة...وحدهم اللذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا سجلو لنفسهم تاريخ مجلل بالعار ومنهم من قضى نحبه من هؤلاء تحت جلد عذاب الضمير ومنهم من ينتظر..او لم يعرفوا انهم ينتمون الى بلد متميز فيه مقولة شهيرة تغنى"كل زول بحمل رسالة امينة صادقة بعيد مداها التاريخ بيحسب كل خطواته المشاها
الشكر الجزيل للمفكر منصور خالد واطال الله عمره..انه الوحيد الذى يجعلنا لا زلنا نتمسك بهذا البلد الذى خبث"السودان"..بلدة
كان اسمها ام در مان
كان اسمهاالثورة
كان جنوبيا هواها

شكراً دكتور ياسر على استلال هذه العبارة التي أضأتها بتسليط ضوءك الوضاء عليها.

أخي العزيز عادل أمين،
إني أنتظر مساهمتك، وتوثيقك لذاك اليوم الأغر عندنا، الكالح عند غيرنا. أرجو أن لا تنسى أن الأستاذ محمود نفسه من صلب هذا الشعب العظيم. ولذلك فإني أرجو أن لا نظلم شعبنا، فهو مغلوب على أمره. ولكن يجب أن نعيب على مثقفينا أنهم خانوا هذا الشعب مرات ومرات. وسيأتي يوم سيحتفل فيه جميع السودانيين بيوم 18 يناير باعتباره يوم ميلاد الإنسان فينا. لك تحيتي وتقديري على كلماتك المشرقة.