لماذا وكيف وصلتْ قضيةُ جنوبِ السودان إلى حقِّ تقريرِ المصير؟ 1 – 5 تعقيب على د. عبد الله علي إبراهي

لماذا وكيف وصلتْ قضيةُ جنوبِ السودان إلى حقِّ تقريرِ المصير؟ 1 – 5 تعقيب على د. عبد الله علي إبراهي


07-15-2018, 01:36 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1531614987&rn=0


Post: #1
Title: لماذا وكيف وصلتْ قضيةُ جنوبِ السودان إلى حقِّ تقريرِ المصير؟ 1 – 5 تعقيب على د. عبد الله علي إبراهي
Author: سلمان محمد أحمد سلمان
Date: 07-15-2018, 01:36 AM

01:36 AM July, 14 2018

سودانيز اون لاين
سلمان محمد أحمد سلمان-واشنطن-الولايات المتحدة
مكتبتى
رابط مختصر


1
نشر الدكتور عبد الله علي إبراهيم مقالاً على عددٍ من المواقع الالكترونية في 11 يوليو 2018 بعنوان "تقرير المصير للجنوب وانفصاله: ولا جميلتنا" يعقّب فيه على مقالاتنا الخمسة بعنوان "مَاذا حَدَثَ لِكِتابِ الإسلاميين عن اتفاقيةِ نيفاشا؟" وقد كانت مقالاتنا الخمسة رداً على مقال الأستاذ خالد موسى دفع الله الذي نشره في 16 مايو عام 2017 (أي قبل أكثر من عام) على عددٍ من الصحف الالكترونية والورقيّة بعنوان "الإسلاميون وانفصال جنوب السودان."
وقد تساءلنا في مقالاتنا عن كتاب الإسلامين الذي كان من المفترض – حسب مقال الأستاذ خالد – أن يصدر في غضون أسابيع من تاريخ مقاله في شهر مايو عام 2017، لكنه لم يصدر بعد. كما أوضحنا في المقالات الخطأ الكبير في مقال الأستاذ خالد بمحاولته إعطاء كلمة Plebiscite معنىً غير معناها المضمّن في القواميس الانجليزية والعربية. ثم تطرّقنا بعد ذلك بالشرح والتفصيل لإعلان فرانكفورت، موضحين أنه أول وثيقة توقّعُ عليها حكومةٌ في الخرطوم تعترف بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
2
قدّم مقال د. عبد الله مختصراً لمقالاتنا وعلّق عليها بالقول "إن سلمان قد جاء بتقويم نافع جيد لدخول مصطلح تقرير المصير في السياسة السودانية. كما وفق في تنويرنا المناقشات الطويلة التي دارت حوله في أبوجا (1992) بوساطة نيجيرية، وفي منظمة الإيقاد (1994)، بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية متحدة أو منقسمة."
غير أن د. عبد الله لم يتناول مسألة عدم صدور كتاب الإسلاميين حتى الآن رغم وعد الأستاذ خالد في شهر مايو عام 2017 أن الكتاب سيصدر "في غضون أسابيع." ولم يعقّب د. عبد الله على قولنا إن كتابات وإفادات الأشخاص الذين هم طرفٌ في صنع الأحداث التي يتناولها الكتاب أو المقال لا يُعتد بها ولا يُعتمد عليها بواسطة المؤرخين الذين يصنفون هذه الكتابات والإفادات كمذكرات وليست ككتابة أكاديمية محايدة لوقائع التاريخ.
3
أوضح د. عبد الله خلافه مع مقالاتي حين كتب "لست من رأي سلمان أن مبدأ تقرير المصير كان كمثل فتنة نائمة صحتها الإنقاذ وركبها الذنب. خلافاً عنه فأنا أعتقد أن تقرير المصير كان فكرة جاء أوانها كما يقولون وليس أعتى وأنفذ من فكرة حان حينها."
ثم واصل د. عبد الله: "خلافي مع سلمان أنه رأى مبدأ تقرير المصير، بما قاد إليه من انفصال، جناية سياسة مكانها يومية التحري للكشف عمن جاء بها أولاً لمحاكمته وتذنيبه. وأرى المبدأ وما ترتب عنه حقيقة تاريخية جاء وقتها ولا راد لها."
4
كما أوضحنا أعلاه، فلم يكن من أغراض مقالاتنا الخمسة الدخول في نقاشٍ حول تاريخ وأسباب وتداعيات حق تقرير المصير، وإنْ كانَ منحُ ذلك الحق لأبناء الجنوب من (جميلتنا!) نحن الشماليين، أم ان أبناء الجنوب قد انتزعوه انتزاعاً منا، رغم أنفنا وأنف وعنف القيادات السياسية الشمالية.
5
غير أنه بالرجوع إلى كتابنا "انفصال جنوب السودان – دور ومسئولية القوى السياسية الشمالية" (صدر الكتاب ذو ال 908 صفحة عن مركز أبحاث السودان، فيرفاكس – ولاية فيرجينيا عام 2015) فسوف يتوصّل القارئ إلى أن رأينا (والذي هو المحور الأساسي للكتاب) هو أن قضية جنوب السودان كانت قد وصلت منذ منتصف الثمانينات إلى الحقبة والحقيقة التاريخية التي لا مفر منها وهي أن الجنوب قد وقف على رجليه تحت قيادة الحركة الشعبية، وأن الشمال قد فقد بوصلته تماماً في قضية الجنوب.
عليه فقد خلصنا إلى أن مستقبل العلاقة بين طرفي البلاد كان سيمليه الجنوب وليس الشمال. بمعنى آخر لقد خرجت الكرة منذ منتصف الثمانينات من ملعب الشمال بسبب الحقائق الكبيرة التي أتت بنتائج جديدة جاء وقتها ولا راد لها، وأنه، كما كرّر د. عبد الله، فليس هناك أعتى وأنفذ من فكرةٍ حان حينها.
وقد كرّرنا تلك الأطروحة في عدّة فصول من الكتاب، وأوضحنا أن الموقف الجديد في جنوب السودان منذ منتصف الثمانينات قد أملته ثلاث حقائق أساسية وجديدة.
6
كانت الحقيقة الأولى والكبرى هي نقض الشمال المتكرّر والواضح لاتفاقياته مع الجنوب، وتخبّط الأحزاب الشمالية جمعاء في التعامل مع قضية الجنوب، والتعاطي معها بقدرٍ كبير من اللامسئولية.
لقد كان رفض الأحزاب الشمالية جميعها لمطلب الجنوبيين بإقامة نظامٍ فيدرالي بين طرفي البلاد منذ الخمسينيات خطأً كبيراً أوضح الضعف والخواء الفكري والسياسي لهذه الأحزاب، وأوضح قصر نظر قادتها، كما وضح من وثائق مؤتمر المائدة المستديرة.
وعندما تراجع قادة الأحزاب في التسعينيات عن خطئهم ذلك كان الوقت قد تأخّر كثيراً، وارتفع سقف مطالب القادة الجنوبيين الجدد مع ارتفاع وتزايد مقدراتهم السياسية والدبلوماسية والتفاوضية والعسكرية.
وسنتناول هذه النقطة بقدرٍ من التفصيل في الأجزاء 11 – 19 من هذا المقال.
7
كانت الحقيقة الجديدة الثانية هي جبهة القتال التي أصبحت الحركة الشعبية سيدة الموقف فيها. وقد برز ذلك عندما هجمت على آبار البترول عام 1984 وأجبرت شركة شيفرون على الانسحاب من جنوب السودان مسدّدةً بذلك ضربة مؤلمة لآمال وأحلام الخرطوم في الخروج بالسودان من مشاكله الاقتصادية الحادة والمتزايدة. وبرزت سيادة الحركة الشعبية على أرض المعركة أيضاً عندما هجمتْ على قناة جونقلي عام 1984، وأوقفتْ العمل فيها، مسددةً ضربةً موجعةً أخرى للخرطوم والقاهرة معاً.
وكانت الضربة الثالثة المؤلمة هي الهجوم على مطار جوبا ووقف عمليات التوسّع والتحديث في المطار لنقل القوات والعتاد من الشمال إلى حرب الجنوب. تمّت هذه العمليات الجريئة والناجحة والحركة الشعبية لم تبلغ من العمر عاماً واحداً، مما أوضح أن الحركة قد وُلِدتْ بأسنانها.
كما كان نقل الحرب بواسطة الحركة الشعبية إلى الشمال حقيقةً جديدة أكّدت سيادة الحركة على الموقف العسكري. فالموت والدمار والاحتلال الناتج عن الحرب قد انتقل إلى الشمال، وأصبح كل السودان، وليس الجنوب وحده، أرضاً لمعارك الحرب الأهلية اللعينة.
كما أن شعار السودان الجديد لقي القبول في أوساط الكثير من أبناء الشمال، وانضم بعضهم إلى صفوف الجيش الشعبي. وأصبح الجنوبي والشمالي يقاتلان في صفٍ واحد ضد الجيش الحكومي لأول مرّةٍ في تاريخ السودان.
8
كانت الحقيقة الثالثة هي بروز وسيادة الحركة الشعبية في الجبهة الدبلوماسية إقليمياً وعالمياً. فقد أصبحت للحركة علاقات ومكاتب في الغرب والشرق تجاوزت بقدرٍ كبير إمكانيات حكومات الخرطوم المحدودة والمتقلّصة، سواءٌ كان ذلك إبان فترة الحكم المدني الثالثة والتي ترأس حكوماتها السيد الصادق المهدي، أو بداية حكم الإنقاذ بعد انقلاب 30 يونيو عام 1989 والعزلة الكبيرة التي أدخلت فيها سياسات الإنقاذ المرتبكة السودان. وقد أوضحتْ تلك العضلات الدبلوماسية للحركة الشعبية، واعترفتْ بها بجلاء، مذكرةُ قيادة القوات المسلحة لرئيس مجلس رأس الدولة ورئيس الوزراء بتاريخ 20 فبراير عام 1989، والتي ذكرت في الفقرة الخامسة:
"إن الحرب التي نخوضها في جنوب السودان قد أظهرت بُعداً استراتيجياً جديداً وفريداً لم يشهده عالمنا المعاصر. لقد توحّد المعسكران الغربي والشرقي في دعم وإسناد حركة التمرّد التي نواجهها. إن الكتلة الشرقيّة تقدّم كلَّ متطلّبات القتال والتدريب والتوجيه لحركة الخوارج، بينما يوظّف العالم الغربي كلَّ إمكانياته الماديّة والإعلاميّة لخدمة أهداف التمرّد."
9
وقد لخّصنا هذه الحقائق الجديدة ونتائجها وعرضناها في تقديمنا لكتابنا "انفصال جنوب السودان" في الصفحة الخلفية لغلاف الكتاب عندما ذكرنا:
"هذا الكتاب هو جهدٌ توثيقيٌّ للعلاقة المضّطربة بين شمال وجنوب السودان منذ بداية العهد الوطنيّ الأول عام 1954، وحتّى انفصال جنوب السودان عام 2011. يحلّلُ الكتابُ وعودَ الشمال الكثيرة للجنوب، والتي تمّ النكوص عنها الواحد تلو الآخر، ويناقشُ فرصَ السلام المتعدّدة، والتي أهدرها الساسة الشماليون جميعَها باستخفافٍ كبير. ويتناول الكتاب بقدرٍ دقيقٍ من التفصيل والتوثيق حقَّ تقريرِ المصير، وكيف انتزعته الحركةُ الشعبية في حنكةٍ وذكاء من الحكومةِ والمعارضةِ معاً، وقادتْ به جهدَها لانفصالِ جنوب السودان بسلاسةٍ بالغة.”
10
عليه فلم يكن من أغراض مقالاتنا الدخول في نقاشٍ حول أسباب وتداعيات حق تقرير المصير، وإنْ كانَ منحُ ذلك الحق لأبناء الجنوب (من جميلتنا!) نحن الشماليين، أم ان أبناء الجنوب قد انتزعوه انتزاعاً منا، رغم أنفنا وعنفنا.
لذا فلا بُدَّ من التقدم بالشكر لدكتور عبد الله على هذه الفرصة لنوضّح هذه الحقائق الثلاثة وتداعياتها.
كما سوف نناقش بشيءٍ من التفصيل أدناه وفي المقالات القادمة مطلب الفيدرالية بواسطة أبناء الجنوب ورفضه بواسطة الشمال، وكيف قاد الرفض الشمالي المتواصل والعنيد والمتغطرس لهذا المطلب المنطقي والعادل إلى رفع سقف مطالب أبناء الجنوب تدريجياً، ووصولها إلى مطلب حق تقرير المصير. وسنوضّح كيف انتزعت الحركة الشعبية وفصائلها المنشقة حق تقرير المصير بحنكةٍ وذكاء من حكومة الإنقاذ والمعارضة معاً، وقادت به جهودها لانفصال جنوب السودان بسلاسةٍ بالغة اعترف بها كل العالم. بمعنى آخر، وبالتأكيد، "ولا جميلتنا."
11
كان يمكن لمؤتمر جوبا الذي عُقِدَ في شهر يونيو الماطر في عام 1947 أن يكون بدايةً طيبة للعلاقة بين شطري القطر بعد عزلةٍ فرضتها الإدارة البريطانية من خلال قانون المناطق المقفولة عام 1922. كان ذلك أول لقاءٍ بين الطرفين تحت مظلة النديّة والمساواة.
ذكّر مندوبو الجنوب في مؤتمر جوبا الشماليين بماضي تجارة الرقيق التعيس والحروب والظلم والاضطهاد، لكنهم وافقوا بعد تردّدٍ على الوحدة، شريطة أن يجعلها الشماليون جاذبة. وقد شبّه السلطان لوليك لادو العلاقة القادمة بالزواج والذي يتطلّب فترةً يتعرف فيها الطرفان على بعضهما البعض قبل أن يقدما على الخطوة النهائية.
طالب المندوبون الجنوبيون باحترام التنوّع الثقافي والعرقي واللغوي والديني، والتعامل مع أبناء الجنوب على قدم المساواة والاحترام. وقد كان هذا هو ما وعد به المتحدث الرسمي لوفد الشمال السيد محمد صالح الشنقيطي، وأقنع به المندوبين الجنوبيين – الاعتراف بالفوارق والتعدّدية الثقافية، والاحترام والمساواة في الحقوق والواجبات، شاملةً المساواة السياسية في إدارة البلاد، وفي الوظائف والمرتبات. ولكنّ الشمال نسي تلك الوعود حتى قبل أن يجفَّ الحبرُ الذي كُتِبت به.
12
وافق الجنوبيون على المشاركة في الجمعية التشريعية التي تقرّر أن تحِلَّ مكان المجلس الاستشاري لشمال السودان. وتشكّلت الجمعية في يونيو عام 1948، أي بعد عامٍ من مؤتمر جوبا.
أثار النواب الجنوبيون في الجمعية التشريعية مسألة قيام نظامٍ فيدرالي بين الشمال والجنوب، وأوضحوا أن ذلك المطلب كانت قد تمّت إثارته والموافقة عليه في مؤتمر جوبا. ولكنّ النواب الشماليين قرّروا تركيز نقاش الجمعية على مسألة تقرير المصير للسودان في علاقته مع مصر، ونجحوا في تجميد النقاش في مطالب الجنوبيين بالنظامٍ الفيدرالي.
ثم أثار السيد بوث ديو، العضو الجنوبي الوحيد في لجنة القاضي ستانلي بيكر للدستور، مسألة النظام الفيدرالي لجنوب السودان مرةً ثانية في عام 1951. ولكن اللجنة رفضت مناقشة هذا المقترح، ودفع هذا الرفض السيد بوث ديو إلى مقاطعة أعمال اللجنة ثم الانسحاب منها. كان ذلك أولَ انسحابٍ احتجاجيٍّ للجنوب من لجنةٍ مشتركة. وقد تلته انسحاباتٌ عدّة مماثلة للجنوبيين شملت لجنتي الدستور في عام 1958، وعام 1968.
13
في 21 مارس عام 1953 صدر قانون الحكم الذاتي كأول دستورٍ للسودان، بغرض وضع الأسس لإدارة السودان خلال الفترة الانتقالية، والتي ستقود إلى تقرير المصير. ورغم أهمية تلك الوثيقة الدستورية، إلّا أنه لم تتمْ دعوة جنوبيٍ واحد للمشاركة في وضعها. وقد أكّد ذلك الموقف الإقصائي قناعة الجنوبيين أن مسألة مستقبل السودان وتقرير المصير ظلّت وستظل أمراً شمالياً بحتاً، ولا دخل لابناء الجنوب فيه.
وضح للقادة الجنوبيين أن الساسة الشماليين نجحوا في انتزاع حق تقرير المصير للسودان من مصر، ووثّقوا ذلك في الاتفاقية مع مصر، وفي قانون الحكم الذاتي، بينما فشلوا هم في انتزاع الفيدرالية من الشماليين. وقد زاد من غبنهم ظنهم أنهم نجحوا في اجتماعات الجمعية التشريعية في الربط بين الاثنين عندما أوضحوا أنهم سيصوّتون لمطلب تقرير المصير للسودان مقابل تطبيق النظام الفيدرالي في جنوب السودان. لكن قانون الحكم الذاتي جاء خالياً من أي نصوصٍ تعطي جنوب السودان أي وضعٍ خاص، دعك من نظام الحكم الفيدرالي.
14
جرت الانتخابات البرلمانية في شهر نوفمبر عام 1953، وفاز الحزب الوطني الاتحادي بالأغلبية، وشكّل الحكومة المدنية الأولى في السودان برئاسة السيد إسماعيل الأزهري. قام السيد الأزهري بتعيين ثلاثة من أبناء الجنوب هم السادة سانتينو دينق، وبولين ألير، وداك داي كوزراء دولة بلا أعباء، وليس كوزراء أو حتى كوزراء دولة لأيٍ من الوزارات الخمس عشرة التي تمّ إنشاؤها. كان الجنوبيون الثلاثة هم الوحيدين الذين تمّ تعيينهم وزراء دولة بلا أعباء. كانت تلك رسالةً واضحةً للجنوبيين أنه ليس بينهم من يمكن أن يملأ وظيفة وزير دولة لوزارة، دعك من وزيرٍ كامل، وعكست تلك التعيينات روح الاستخفاف التي تعامل بها السيد الأزهري وحزبه مع النواب الجنوبيين الذين كانوا أعضاء في حزبه.
15
وكأنّ ذلك الاستخفاف لم يكن كافياً، فقد فرغت لجنة ملء الوظائف الحكومية التي أصبحت أو ستصبح شاغرةً بمغادرة الإنجليز والمصريين الذين كانوا يشغلونها إثر قرب بزوغ فجر الاستقلال (والتي سُمّيت بلجنة السودنة) من أعمالها في شهر يوليو عام 1954. عيّنت اللجنة ستةً فقط من أبناء الجنوب بين أكثر من 800 وظيفة تمّ استيعاب الشماليين فيها.
أثار ذلك القرار غضباً شديداً في أوساط الجنوبيين الذين وعدهم السيد محمد صالح الشنقيطي في مؤتمر جوبا في يونيو عام 1947، قبل حوالي السبعة أعوام، بالمساواة التامة مع إخوانهم في شمال السودان في كل شيء، بما في ذلك الوظائف والمرتبات. وأيقظت قرارات لجنة السودنة كل المواقف السابقة التي تمّ فيها إهمال الجنوبيين والاستخفاف بهم، وأصبحت السودنة معلماً بارزاً في ذهن الجنوبيين لعدم المساواة ونقض العهود.
16
نظّم ستة عشر من النواب الجنوبيين الذين فازوا في انتخابات عام 1953 أنفسهم تحت مظلة الحزب الليبرالي، وأعلنوا أن مطلب الحزب الأساسي هو النظام الفيدرالي لجنوب السودان.
عقد الحزب مؤتمره في أكتوبر عام 1954 وتبنّى مطلب النظام الفيدرالي بما يشبه الإجماع بين الأشخاص الذين حضروا المؤتمر والذين فاق عددهم 240 عضواً. كانت نتيجة التصويت تلك أشبه بنتيجة التصويت على الانفصال عام 2011. وقد قامت سكرتارية المؤتمر بتسليم قرارات المؤتمر الخاصة بالاحتجاج على نتائج السودنة ومطلب النظام الفيدرالي إلى السيد رئيس الوزراء وأعضاء حكومته وإخطارهم بأنه إذا لم تتم الاستجابة لمطلب النظام الفيدرالي فإن ممثلي الجنوب سيقومون بعرض مطلبهم على الهيئات الدولية.
تجاهل السيد رئيس الوزراء وحكومته المؤتمر وقراراته ولم يعيروها أدنى اهتمام، ولكن صوت الجنوبيين كان فد بدأ فعلاً في ذلك الوقت في الوصول إلى المحافل الدولية.
17
في ديسمبر عام 1955، بعد أربعة أشهر من اندلاع الحرب الأهلية في الجنوب في أغسطس عام 1955، قرّرت الحكومة والمعارضة إعلان الاستقلال من داخل البرلمان. وافق الجنوبيون البرلمانيون على تأييد القرار شريطة أن يتضمّن مطلبهم بإقامة نظام حكمٍ فيدرالي في الجنوب. وافقت الأحزاب الشمالية على ذلك وصدر قرار مجلس النواب بإعلان استقلال السودان من داخل البرلمان بالإجماع يوم 19 ديسمبر عام 1955، وتضمّن القرار فقرةً تطلب من الجمعية التأسيسية القادمة أن تعطي اهتماماً كاملاً لمطلب النواب الجنوبيين بإقامة النظام الفيدرالي داخل السودان الموحّد. وتمّت الاحتفالات الرسمية بعيد الاستقلال ورُفع علم السودان في أول يناير عام 1956 في وحدةٍ وطنية أعادت للأذهان روح مؤتمر جوبا في يونيو عام 1947.
لكن الأحزاب الشمالية تنكّرت لذلك الوعد مثل وعودها السابقة. وفي تبريرٍ رفض لجنة الدستور للنظام الفيدرالي أوضحت اللجنة، على لسان السيد محمد أحمد محجوب، أنها أولت مطالب الجنوبيين للحكم الفيدرالي اعتباراً جاداً للغاية وتوصّلت إلى أن ذلك لن يكون مجدياً للسودان. وهكذا وبتلك البساطة المتناهية، حطّمت اللجنة، آمال وتطلّعات أبناء الجنوب المتواضعة، وأهدر الشماليون بغطرسةٍ وعناد فرصةً نادرة لوحدة البلاد. وقد بذر ذلك الرفض للنظام الفيدرالي، والاستعلاء الذي تمّ به، بذور حق تقرير المصير والانفصال التي استطالت وآتت أكلها بعد نصف قرنٍ من الزمان.
وتمخّضت لجنة الدستور وولدت عام 1958 دستوراً إسلامياً عربياً للسودان، ودولةً مركزيةً لا مكان فيها للفيدرالية، وتحتل فيها المجموعات غير العربية وغير الإسلامية الدرجة الثانية من المواطنة.

18
وقد كانت كلمات الأب سترنينو لوهوري أمام البرلمان السوداني في يونيو عام 1958 إنذاراً واضحاً بما سيأتي (وأتى فعلاً) عندما قال:
"إنَّ الجنوب لا يكِنُّ أبداً نوايا سيّئة نحو الشمال. إن الجنوب يطالب فقط بإدارة شئونه المحلية في إطار السودان المُوحّد. كما أنه ليست لدى الجنوب نيّةٌ للانفصال عن الشمال لإنه لو كان ذلك هو الحال فليس هناك قوّةٌ على الأرض تستطيع منع الجنوب من المطالبة بالانفصال. فالجنوب يطالب بإقامة علاقة فيدرالية مع الشمال، وهذا بلا ريب حقٌ يستحقه الجنوب بمقتضى حقِّ تقرير المصير الذي يمنحه المنطق والديمقراطية للشعب الحر. وسينفصلُ الجنوبُ في أي وقتٍ بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة متى أراد الشمالُ ذلك من خلال سيطرة الشمال على الجنوب سياسياً واجتماعياً واقتصادياً."
كان واضحاً أيضاً أنه لم يكن هناك من يستمع ويعي ويعطي تلك الكلمات المنطقية، وذلك المطلب العادل، وتلك النبوءة، أدنى اهتمام.
19
وقد تكرر ذلك الرفض الاستعلائي من الشمال لمطلب الفيدرالية، وبصورة أوضح وأكثر جماعية، خلال كل فترات الحكم المدني والعسكري في السودان، وأدى إلى رفع سقف المطالب من الفيدرالية إلى حق تقرير المصير ثم الانفصال، كما سنفصّل في المقالات الأربعة القادمة.
وسوف يختتم مقالنا الخامس بالتوقّف في المحطات المتعددة والمتنوعة التي انتزعت فيها الحركة الشعبية وفصائلها المنشقة تدريجياً، وبذكاءٍ وحنكة، حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان من حكومة الإنقاذ وأحزاب المعارضة - بدون أدنى شك: "ولا جميلتنا."


[email protected]

http://http://www.Salmanmasalman.orgwww.Salmanmasalman.org







Post: #2
Title: Re: لماذا وكيف وصلتْ قضيةُ جنوبِ السودان إلى �
Author: Yasir Elsharif
Date: 07-15-2018, 08:36 AM
Parent: #1

شكرا دكتور سلمان على هذا المقال التنويري.

ليت السلطات السودانية تدخله في مقرر مناهج المدارس السودانية.

Post: #3
Title: Re: لماذا وكيف وصلتْ قضيةُ جنوبِ السودان إلى �
Author: Yasir Elsharif
Date: 07-15-2018, 08:40 AM
Parent: #2

مقال الدكتور عبد الله علي ابراهيم للربط

تقرير المصير للجنوب وانفصاله: ولا جميلتنا بقلم عبد الله علي إبراهيم تقرير المصير للجنوب وانفصاله: ولا جميلتنا بقلم عبد الله علي إبراهيم