وهم الدساتير في السودان... اكاذيب النخب الفاسدة... بقلم د.أمل الكردفاني

وهم الدساتير في السودان... اكاذيب النخب الفاسدة... بقلم د.أمل الكردفاني


06-11-2018, 11:08 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1528754917&rn=0


Post: #1
Title: وهم الدساتير في السودان... اكاذيب النخب الفاسدة... بقلم د.أمل الكردفاني
Author: أمل الكردفاني
Date: 06-11-2018, 11:08 PM

11:08 PM June, 11 2018

سودانيز اون لاين
أمل الكردفاني-القاهرة-مصر
مكتبتى
رابط مختصر





ربما كنت من مناصري علمانية الدولة ؛ اي فصل الدين عن السياسة ؛ هذا مبدأ ارى الكثير من القوى الشعبية تتبناه سواء تلك المنتظمة تحت خط حزبي او المستقلة او التي تحمل السلاح. لكنني فكرت بشيء من الحيادية تجاه اشكالية الدين والسياسة ، او في الواقع الادارة الجماهيرية المشتركة للدولة ؛ ووجدت ان ازمتنا لا تتعلق فقط بفصل الدين عن الدولة بل بفصل الدولة عن الطموحات الشخصية للسياسيين. في الواقع لا يمكننا ان نثق في من يتبنون الايدولوجيات عقائدية او نظرية في السودان ، ومنذ الاستقلال لم يتم تبني اسلامية الدولة الا مؤخرا ؛ ومع ذلك لم يعني هذا ان انهيار الدولة اقترن فقط بالخطاب الاسلاموي ؛ في الواقع انهيار الدولة بدأ منذ الاستقلال بالخطاب الشخصي المحشور داخل شكل ايدولوجي ، طائفي شيوعي اسلامي بعثي ثوري ..الخ. في الواقع لم اقتنع حتى الآن بأن هناك ايدولوجيون في السودان ؛ قبل يومين كنت اقرأ في منتدى سودانيز اونلاين حوارا حول الشيوعية والاسلام... والحق يقال انني فوجئت بأن المتداخلين من الحزب الشيوعي كانوا ضعيفي الحجة بل وكشفت مداخلاتهم عن عدم فهمهم حتى للماركسية ، وبدر الى ذهني سؤال: كيف تكون ماركسيا وانت لا تفهم الماركسية. لقد جاء متداخل واحد وطرح عليهم سؤالا واحدا ؛ كان سؤالا جوهريا بل وقاتلا ؛ ورأيت المجمجمة التي حدثت ومحاولة استخدام الفاظ رنانة وفارغة المحتوى لصرف النظر عن جهالتهن. كانت ردودا مخزية جدا ، وتعطي المتابع بصمت مؤشرا على اشكالية الانتماءات السياسية في السودان.. انها تبدوا انتماءات اما موروثة او جزافية ؛ فوضوية وغير مؤسسة. ولو انتقلنا الى الاسلامويين فلا حاجة بنا الى الكثير من كشف حقيقة فجاجة عقولهم وهشاشة فهمهم حتى للقضايا الدينية بل وربما ضعفا ايمانيا عاما ان لم يكن انعداما كاملا افضى الى ما افضى اليه اليوم من تعرية ضلالتهم التي كانوا يسترونها باطالة اللحى وصلاة الجماعة. هناك ازمة كبيرة وهي تبني ناقص وفوضوي للايدولوجيات ، فهو يعبر قبل كل شيء عن حالة تمرد ونزعة الى مقاومة اي انفراد للآخر بالسلطة. دعنا نعطي مثالا اوضح عبر دساتير السودان المختلفة وهي دستور 56 المؤقت ؛ والاوامر الدستورية 64 وما تلاهما حتى دستور 2005 الانتقالي. اوجز الاستاذ ابراهيم علي ابراهيم المحامي الاشكالية في مقال منشور في سودانايل وبين اهم عيوب صناعة الدستور ومن ضمنها: احتكار النخب لها. عدم وجود منهج لصناعة الدستور . الصراعات السياسية. رفض الاجراءات والقفز الى النتائج.
لكن الحقيقة ، اننا لو نزعنا السلوك الذي اديرت به كتابة الدساتير في السودان لبوس الجملة المزيفة وهي (الصراعات السياسية) فسنجد ان التسمية الصحيحة هي (الصراعات الشخصية). لماذا؟ لأن عملية صياغة دستور ليست شديدة التعقيد وكأنها تخصيب يورانيوم. ان الصياغة يمكن ان تتم لتسعة وتسعين بالمائة من قضايا متفق عليها سلفا ولا جدال حولها.. ومناقشة المواد القليلة التي يمكن ان تثير الجدل. كقضايا الهوية والدين والثقافة. صياغة دستور ليست اشكالية ؛ فاليوم يمكن لمن لا معرفة له بالدساتير ايجاد نماذج عديدة للدساتير على الانترنت بكافة اشكالها. وهناك اساسيات في الدستور كحقوق الانسان المدنية والسياسية والاقتصادية صارت مبادئ لا تغادر اي دستور في العالم . ومع ذلك فيمكن لأي مجلس دستوري ان يناقش مواد الدستور المقترح مادة مادة.. ويضيف ويلغي ويعدل عليها. لم تكن مشكلة السودان هي صياغة دستور ابدا ؛ فمثلا دستور 2005 من اعظم الدساتير التي صيغت على نحو يتسم باعتدال كبير جدا. ولا ينقص هذا الدستور سوى القليل من الاضافات كتلك المتعلقة بالضمانات الدستورية للافراد في مواجهة السلطة العامة ، واعادة صياغة بعض المبادئ الدستورية المقيدة لسن التشريع..الخ. وازالة المواد المتعلقة بالجنوب. لكن دستور 2005 عموما ممتاز جدا . اذا كان الامر يتعلق بالصياغة المعتدلة فهو لم يخرج كثيرا عن ذلك. فالمشكلة اذن ليست مشكلة صياغة دستور ولا حتى في الاتفاق على بعض المسائل الجدلية ، انما المشكلة تتمثل في النخب التي ترغب في التسلط على الحكم بعقليات بدائية جدا وعقيمة جدا ؛ وبروح تفتقد للحس الوطني السليم.
في الواقع لا تحتاج الدول الى كتابة دساتيرها ؛ فهناك دساتير عرفية ، فالدستور ليس مواد مصاغة لغويا ؛ بل الدستور تفاعل عام ؛ هذا التفاعل العام بين الجماهير وسلطات الدولة . وهو ما يمنح الجميع شعورا بضرورة احترام الاعراف الدستورية ولو لم تكن مكتوبة ؛ وما يمنح مواد الدساتير المكتوبة شعورا بالزاميتها لدى الجميع. لكن ما معنى ان يتم صياغة دستور 2005 في حين ان الحكومة هي اول من ينتهكه؟ وما معنى الدساتير السابقة التي كانت تكتب وتلغى بتغير الانظمة الحاكمة. بل وما معنى ان نسمي دستورا ما بكونه انتقالي او دائم اذا كان نطاق اي دستور يتوقف على الانقلابات العسكرية او الانتفاضات الجماهيرية او حتى مزاج الرئيس ومصلحة الفئة الحاكمة . ففي مثل هذه المناخات الفاسدة لن يتمتع اي دستور بأي قيمة حتى ولو كان الدستور الأمريكي. ان ازمة هذا البلد ليست في وجود او عدم وجود دستور ؛ وفي الواقع ليست ازمة علمانية او شيوعية او اسلامية.. انها ازمة نخب انتهازية شديد الأنانية ؛ ومنعدمة الوطنية ، وفارغة المحتوى حتى من ما تزعم تبنيه من ايدولوجيات. الآن يحاول النظام الحديث عن دستور دائم ؛ وهو هنا لا يعني بديمومة الدستور اي شيء سوى ان ما سيكتبه من دستور يعبر عن جماهير الشعب وقبول القوى السياسية له. أي ان تعبير ديمومة الدستور هو نوع من خلق شعور متوهم بالتوصل الى تسويات سياسية مقبولة من الجميع. وهذا طبعا كذب ؛ كذب سخيف ولا قيمة له. فليقم النظام بتعديل اسم دستور 2005 الانتقالي ويسميه الدائم ، فما الفرق حينئذ؟ وليكتب دستورا جديدا وليصفه بالمؤقت؟ ما الفائدة وانت اساسا تنتهك كل يوم كل المبادئ الدستورية التي تصوغها بيدك. ما قيمة الدستور حين يتم اعتقال المتظاهرين وهم يمارسون حقهم الدستوري ؛ ما معنى ان يتم مصادرة الصحف بما يخالف الدستور ، ما معنى ان يتم منع حزب تاريخي كالحزب الجمهوري من تسجيل حزبه دون ان يتمكن من الدفاع عن حقه الدستوري امام المحكمة الدستورية. ما معنى ان يتم تعديل الدستور ليترشح الرئيس لفترة اخرى. ما قيمة الدستور حين تصادر الحقوق والحريات وتستمر سياسة التمكين ، ما معنى ان تمتنع البنوك عن منح المودعين اموالهم وهذا في الواقع ضد القانون بل وجريمة جنائية لو كنا في دولة محترمة ومع ذلك لا يستطيع المودعون الطعن في قرارات البنك المركزي ولا حتى ضد قرار واحد من قرارات السلطة التنفيذية . تم صياغة الدستور الحالي عام 2005 ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن لم تعترف به الحكومة نفسها وفقد قيمته الالزامية وصار حبرا على ورق. فهل نحتاج لدستور جديد؟ وهل نحن في الواقع نحتاج لصياغة دساتير باردة لا ينفعل حولها لا الحكام ولا المحكومون؟
اذن دعونا نتجه الى الآتي: دعونا ننشيء محكمة دستورية تتمتع بالاستقلال والنزاهة وتستند الى الاعراف الدستورية ومبادئ العدالة والانصاف وشكرا.حتى بدون اي كتابة دستور... لو حدث هذا واحترم الجميع ما تقرره هذه المحكمة من مبادئ فلا حاجة لنا في الواقع الى دستور.
إن النخب التي تتصارع على السلطة ليست أكثر من نخب فاسدة. وهذه هي اشكالية هذا البلد وليس كتابة دستور او حتى النقاشات الترفية عن الهوية واللغة والدين . فكل هذه القضايا مجرد اسلحة تستخدم استخداما مؤقتا في لعبة المصالح الشخصية التي تسمى كذبا باللعبة السياسية.