مشكلة السودان فى دارفور (منظورنقدى لتاريخ السودان) (-26) بقلم حامد على نور

مشكلة السودان فى دارفور (منظورنقدى لتاريخ السودان) (-26) بقلم حامد على نور


06-10-2018, 01:24 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1528590249&rn=0


Post: #1
Title: مشكلة السودان فى دارفور (منظورنقدى لتاريخ السودان) (-26) بقلم حامد على نور
Author: حامد على نور
Date: 06-10-2018, 01:24 AM

01:24 AM June, 09 2018

سودانيز اون لاين
حامد على نور-
مكتبتى
رابط مختصر


مشكل التاريخ هو تاريخ المشكل
بقلم/(([email protected]
الاستلاب والهوية الضائعة
التكوين السياسي للسودان
عصر الممالك السودانوية الإسلامية
13- كان يطلق اسم بلاد السودان علي كل المنطقة التي تقع جنوب الصحراء الافريقية الكبرى فى شكل حزام يمتد من البحر الأحمر شرقاً وحتي المحيط الأطلسي غرباً. والسودان لغة جمع اسود، وهو إصطلاح جغرافي عرقي أطلقه الرحالة والجغرافيون العرب، كما سبق الذكر. وسودان اليوم يمثل الجزء الشرقى من هذا الحزام السودانوى الاسلامى الافريقى وكان يتكون من ثلاث سلطنات كبيرة وهى سلطنات: الفونج وكردفان ودارفور، ويمتد الحزام غربا ليشمل ممالك: ودّاي وكانم وباقرمى التى تكونت منها دولة تشاد الحالية. ثم ممالك برنو وسكاتو بنيجيريا، فممالك النيجر ومالى لينتهى غربا عند المحيط الأطلسي، شاملة الدول القائمة اليوم على شواطئه الافريقية مابين غانا والسنغال والجزء الجنوبى من مورتانيا.
ومنذ مطلع القرن السادس عشر وحتى بداية القرن التاسع عشر، كما سبق الذكر، كانت تسيطر على ارض السودان الحالية ثلاث ممالك راسخة، تمثل كل منها كيانا سياسيا قائما بذاته، اى ان كل مملكة او سلطنة كانت عبارة عن دولة مستقلة.
مملكة سنار او (الفونج)
14- كانت مملكة الفونج هى بداية الحزام من جانبه الشرقى. وقد سادت هذه المملكة فى الفترة ما بين (1504-1821)، وعرفت إيضاً بإسم عاصمتها سنار، و باسم السلطنة الزرقاء، او باسم مؤسيسها من قبيلة الفونج الافريقية بالنيل الأزرق والذين اقاموا تحالفا مع قبيلة العبدلاب العربية، فأسقطوا دولة علوة المسيحية وأقاموا دولة الفونج وعاصمتها سنار والتي ظلت قائمة لأكثر من ثلثمائة عام، تولي الحكم خلالها ثمانية وعشرين سلطاناً كما ورد فى بعض كتب التاريخ . كانت مملكة الفونج تمتد من الشلال الثالث شمالا حتي حدود أثيوبيا جنوباً، ومن الصحراء الشرقية على البحر الاحمر حتي حدود كردفان غرباً، وقد كانت دولة قوية وذات شوكة إستطاعت أن تجمع عدداً كبيراً من ملوك ومشيخات القبائل المبعثرة، في كيان مركزي إداري وسياسي موحد. فقد إستطاعت قبيلة الفونج بقيادة زعيمها عمارة دنقس أن تخضع مشيخة خشم البحر وملك فازوغلي ومشيخة الحمدة وملك بني عامر و الحلنقة. أما عبدالله جماع زعيم العبدلاب، فقد أخضع مشيخة الشنابلة والمناصير والجموعية والجعليين والميرفاب والرباطاب والشايقية والدفار ودنقلا العجوز والخندق. وقد قام بين الاثنين- الفونج والعبدلاب- تحالفا بالتراضى فيما بينهم قاد الى نشوء الدولة الجديدة. لعل مثل هذا التحالف المتراضى عليه هو المعنى علم السياسية بالبناء العضوى الداخلى للدولة. فألبناء العضوى يستلزم وعيا داخليا من الكيانات المجتمعية التى تعيش فى ذلك الحيز الوطنى الذى يجمعهم وليس المفروض عليهم بفعل من خارجهم.

مملكة المسبعات

15- يلي الفونج من الناحية الغربية مملكة المسبعات فى شمال كردفان، والى جنوبها مملكة تقلى وهى مملكة صغيرة نسبيا وتتبع فى الغالب الى سنار. واما المسبعات قبيل من الفور، زحفوا شرقا وحكموا منطقة شمال كردفان الحالية، وذلك بسبب صراع على السلطة بين فصيلين من أبناء العمومة - الكنجارة والمسبعات- من قبيلة الكيرا الحاكمة فى دارفور. ولما سيطر جزءُ من الكنجارة، وهم الكيرا، على الحكم فى دارفور، خرج الجزء الاخرغضابي على بنى عمومتهم، وتوجهوا صباحا، اى شرقا (دارصباح)، فاطلق عليهم اسم "مصبحات"، وانشاءوا مملكة لهم فى كردفان. ولقد ظلت المملكة التى انشأها المسبعات فى كردفان، تمثل دولة فاصلة او حاجزة (buffer state) بين الدولتين القويتين، الفونج ودارفور، ولذلك ظلت مزعزعة الى حد كبير. فقد دخل ملوك المسبعات فى صراعات طويلة من اجل استعادة السلطة فى دارفور، اذ يرون انفسهم اصحاب الحق التاريخي فى حكم دارفور. ومن الجانب الاخر كانت لهم صراعات متطاولة من اجل الانعتاق من سلطنة الفونج التى ظلت تطمح لضمهم اليها، بينما ملوك المسبعات يريدونها حليفة لهم فى نضالهم لاستعادة الحكم السليب فى دارفور. وقد ظل ملوك المسبعات فى كردفان اقوياء ومقاتلين عنيدين من اجل تحقيق اهدافهم، لكن حظهم العاثر و قدرهم الصعب اوقعهم بين سلطنتين قويتين، وهما بين طامح وطامع. ولذلك لم تتمتع مملكة المسبعات بفترات استقلال طويلة، بل ظلت متجاذبة تخضع حيناً للفونج واحياناً لدارفور، الا ان السلطان تيراب استطاع دمجها بصورة نهائية الى سلطنته، بعد هزيمة الملك هاشم المسبعاوى فى العام 1785 فأصبحت اقليما تابعا لدارفور تُعرف ب "مقدومية كردفان"، وذلك الى حين الغزو التركى المصرى فى العام 1821 فأنتزعها الدفتردار ودمجها الى سنار اثر سقوطها على يد اسماعيل ابن محمد على باشا، وبذلك اكتمل الجزء الاول من تكوين ما عُرف بعد ذلك بالسودان التركى المصرى.

سلطنة دارفور

16- الى الغرب من مملكة المسبعات تقع سلطنة دارفورالتى تمتد حدودها من كردفان شرقا حتى مملكة ودّاي غربا، ومن بحر الغزال جنوباً الى الحدود المصرية والليبية من الناحية الشمالية والشمالية الغربية علي تخوم الصحراء الكبري. كانت دارفور تمثل أحدى الممالك السودانوية القوية سياسياً، ومهابة عسكرياً وتتمتع بتنظيم إداري وسياسي صارم .
وقد عُرفت المنطقة باسم دارفوربحكم ان الفور كانوا المجموعة السكانية الأكبر بالمنطقة، واصحاب السيادة على الارض، وظلوا الحكام الفعليين لها منذ قيام سلطنتهم فى القرن السادس عشر والى حين إسقاطها فى العقد الثانى من القرن العشرين. كانت دارفور تضم عشرات القبائل السودانية التى تنتمى الى عرقيات وجذور متنوعة و مختلفة. وتنقسم السلطنة عمليا إلي إدارات قبلية، وتُسمي البلاد باسماء القبيلة التى تقطنها وتسود فيها، فيُطلق علي كل منها اسم "دار" ويتبعها اسم القبيلة: (دار زغاوة او دارهبانية على سبيل المثال).. و تشكل الدار، "الهوية الإجتماعية والسياسية والثقافية للقبيلة المحددة التى تسود عليها وتري فيها تجسيداً لمكانتها الإجتماعية وحياتها الجماعية وحيزها الثقافي والسيادي". وإلي اليوم، توجد الى جانب التقسيمات الإدارية الحكومية الرسمية للاقليم: من ولايات ومحليات ووحدات إدارية، تُوجد ايضا التقسيمات الادارية الاهلية للقبائل وديارها. ولأن القبائل فى دارفور متداخلة ومتصاهرة، فمهما بلغ من كبر او صغر دار القبيلة، إلا انها دائما ما تضم افراداً وجماعات من قبائل وعشائر اُخرى، تتساكن وتتعايش مع اصحاب الدار وتستغل كل ما فى تلك الارض من موارد طبيعية وخيرات دون منً ولا اذى، فقط ان تظل السيادة حسب الاعراف والتقاليد السائدة، لأصحاب الأرض، اى القبيلة صاحبة السيادة على الدار.
التقسيم والادارى وعاصمة السلطنة
17- تتكون السلطنة – كما فى سنار- من تحالف الكيانات القبلية الموجودة بالمنطقة تحت سلطة مركزية بقيادة السلطان. ولم تكن للدولة عاصمة ثابتة فى مكان واحد، بل حيثما اختار السلطان مكان اقامته، يصبح ذلك المكان فاشرا، اى مجلسا له وعاصمة لملكه. وكان لكل سلطان من السلاطين الاوائل فاشره او عاصمته، فسليمان سولونق فى مدينة (طرة)، وفاشرالسلطان تيراب فى (قِرلى) ثم نقلها الى (تيسى) ثم (شوبا). وكانت كل الفواشر او العواصم قريبة من منطقة جبل مرة. لكن فى نهاية القرن الثامن عشر وتحديدا فى العام 1785، وحينما كانت دارفور فى اقوى اوضاعها السياسية والعسكرية، شن السلطان تيراب حربا على السلطان هاشم المسبعاوى، فاسقط مملكة المسبعات بكردفان وضمها الى دارفور، وبذلك صارت الدولة واسعة الاطراف، واصبحت ادارتها من منطقة جبل مرة امرا صعبا، فاستقر راى السلطان عبدالرحمن الرشيد-خليفة تيراب- على تحويل العاصمة الى السهول الشرقية من دارفور، الى موقع يتوسط السلطنة التى توسعت شرقا، حتى يستطيع ان يشرف منها على الامتداد الجديد للدولة فى كردفان، فاختار منطقة (رهد تندلتى) لتكون فاشره، كان ذلك عام 1791، وهو تاريخ انشاء مدينة الفاشر الحالية التى احتكرت الاسم الى اليوم.
ديار القبائل او (الحواكير)
18- تتكون السلطنة او الدولة من ديار او حواكير للكيانات القبلية المتعددة، ولكل قبيلة اداراتها الاهلية الخاصة بها، فمنها على سبيل المثال ولا الحصر: دار مساليت، دارقمر ودار تاما بغرب دارفور، ودار زغاوة، دار برتى ودار ميدوب فى شمال دارفور، ويكون لكل قبيلة من يترأسها اداريا، كسلطان او ملك القبيلة،وتختلف حسب الثقافة الادارية السائدة فى المنطقة من ملوك ونظار وفُرش (جمع فرشة وهو منصب حاكم فى الادارة الاهلية بغرب دارفور)، وشراتى (جمع شرتاى) وعًمد شيوخ.. ثم فى ديار البقارة بجنوب دارفور، حيث قبائل الرزيقات، الهبانية، البنى هلبة، التعايشة، الفلاتة، المعاليا، الترجم، القمر، البرقد، المسلات البيقو..الخ، ويسمى رأس القبيلة "الناظر" . اما القبائل التى تمتهن رعى الابل اى"الابالة" او "الجمالة"، ويقيمون في شمال الاقليم، فيتزعهم شيوخ القبائل: شيخ عرب المهرية وشيخ عرب المحاميد، شيخ عرب العطيفات، شيخ عرب العريقات، شيخ عرب الزيادية وشيخ عرب الزبلات..الخ ، وشيخ القبيلة لدى الابالة يماثل ناظر القبيلة لدى البقارة.
هذا النظام الدقيق والمحكم لللامركزية الإدارية للقبائل، ربما لم يكن موجودا في كثيرمن السلطنات والممالك السودانوية الأخري بالحزام الاسلامى الافريقى. وبالرغم من ذلك فإن السلطة المركزية فى دارفور كانت تعاني من تمردات بعض القبائل الكبيرة، فكثيراً ما خرجت سلطنة دار مساليت أو سلطنة القمر عن السلطان المركزي في فاشره. وأكثر التمردات القبلية والخروج علي السلطة المركزية كانت تأتي من عرب البقارة بقيادة الرزيقات بجنوب دارفور. وسبب التمردات والخروج عن السلطة في الغالب هو رفض دفع الإستحقاقات السلطانية من ضرائب وعشور وزكوات للسلطان.

العلاقة بين دولتى الفونج ودارفور
19- كانت سلطنتا الفونج ودارفور، هما أقوي سلطتين سياسيتين وجدتا علي أرض السودان الحالية آنذاك. وقد تزامنتا فى الوجود لمدي أكثر من ثلاثة قرون، وظلتا دولتين منفصلتين، حتي نهاية العقد الثالث من القرن التاسع عشر، (1874). وكانت العلاقات بينهما تتميز بخصائص مشتركة: كدولتين ذاتا عقيدة دينية واحدة، وتشابه وتشابك في التكوين الأثني، بل وكانتا على درجة واحدة تقريبا من حيث التطور الاقتصادى الاجتماعى. وكانت هذه العلاقات تعكس التعاون الثقافي والإقتصادي والديني. وكان السودان النيلي يمثل قيمة عاطفية ودينية لسلاطين وأهل دارفور عموما بكيانتهم الاثنية والاجتماعية المختلفة. كانت نظرتهم إلي (دار صباح) مشوبة بالكثيرمن التقدير والإحترام، لما بينهم من صلات الدم والجيرة والعقيدة والعلاقات الاقتصادية، بل وظل الكثير منهم يوقنون و يترقبون ظهور مهديِ منتظر فى (دار صباح)- اى الوسط والشمال النيلى- سوف يجدد الدين ويحارب الكفر ويملأ الأرض عدلاً بعد ان ملئت جوراً.

التداخل الاثنى بين مملكتى الفونج ودارفور
20- فى القرن السادس والسابع عشر، وهى الفترة التى تم فيها توسع القبائل العربية والنيلية غرباً، نزحت افراد ومجموعات كبيرة من القبائل العربية والنوبية من منطقة النيل الى كردفان، و واصلت مجموعات منها النزوح الى دارفور، مثل القضيات والجليدات والجمع وربما قبائل اخرى من (المجموعة الجعلية) نحو مناطق الغرب التى سبقتهم اليها قبيلة الجوامعة التى استقرت بالقرب من الابيض الحالية وفى مناطق الرهد (ابودقنة) والبركة والمشارف الشمالية لجنوب كردفان، واصبحت قبيلة الجوامعة هى القوة المسيطرة فى كردفان، حتى ان قبائل دارحامد و الجلابة هوارة، حينما نزحوا الى هناك ورغبوا فى الاقامة، فان الجوامعة هم الذين منحوهم الارض..(مكمايكل/تاريخ العرب فى السودان). هذه القبائل لم تقف عند نزوحها فى حدود كردفان، كما سبق الذكر انما واصلت جماعات منها النزوح غربا حتى دارفور، بل والى جمهورية تشاد الحالية حيث اسسوا مملكة وداى او دارصليح، ومنها( الصليحاب). وكان الجوامعة هم السكان الاوائل لمدينة ام شنقة التاريخية بدارفور. كما اسست جماعة من الفقهاء الجوامعة عاصمة روحية بمنطقة جديد السيل بالقرب من مدينة الفاشر، حيث بنى الولى الصالح الشيخ عزالدين الجامعى مسجداً جامعاً مازالت اَثاره باقية حتى اليوم. وجاْء من بعده حفيده الفقيه مسلم الذى اصبح قاضيا لقضاة دارفور واعمالها فى عهد السلطان عبدالرحمن الرشيد (التونسى/تشحيذ الاذهان). وفى منطقة جبل مرة يوجد فرع من الفور يُعرفون ب(جوامعة طُرة سلاطين)، وهم من العلماء وحفظة القرآن، وقد اصبحوا الآن جزء من قبيلة الفور وقيادتها، ومن احفادهم البروفسور ابو القاسم سيف للدين، والاستاذ عبد الواحد محمد نور، قائد ومؤسس حركة تحرير السودان، والدكتور امين محمود القيادى بالمؤتمر الشعبى، وشقيقه الاستاذ صالح محمود المحامى، القيادى بالحزب الشيوعى والناشط الحقوقى المعروف. وهناك احياء كاملة فى مدينة الفاشر تحمل اسماء القبائل والجماعات التى نزحت من قديم الزمان، من الشمال او الوسط النيلى وقد انبتت عن جذورها بتطاول الزمن، الا ان وجودها الفعلى على الارض، يمثل توثيقا واقعيا وحقيقيا لحضورها التاريخى فى دارفور. فهناك على سبيل المثال: حلة جوامعة، حلة طريفية ، حلة هوارة، حلة واحية، حلة اِسرة، حلة اولاد الريف (مصريين)، وحلة القاضى (دناقلة)، هذا الى جانب حلة كفوت والوكالة اللتان تجمعان مزيجا من المكونات القبلية المنبتة من الشمال والوسط النيلى: (مغاربة، جعليين، شايقية، محس، بديرية، عركيين، عبابدة، حضور، جعافرة، مشايخة، بنى عامر، جلابة هوارة، دناقلة، كنوز..الخ). ومن المرجح ان نزوح بعض المجموعات الكبيرة من القبائل مثل البديرية والطريفية من مناطقهم الاصلية بالشمالية الى كردفان ودارفور، قد تم فى تلك الفترة التى عرفت سطوة الشايقية وهيمنتهم على منطقة دنقلا، فقد عانت هذه القبائل من تعسف قبيلة الشايقية، الامر الذى اجبر اعداداً كبيرة منهم الى النزوح غرباً حيث وجدوا المستقر الآمن وطاب لهم المقام فاستقروا واصبح لهم موطنا. (مكمايكل/ تاريخ العرب فى السودان).
21- كانت دارفور وكردفان موئلا لأعداد كبيرة من الجماعات والاسر من قبائل (دار صباح)- وكان منهم العلماء والفقهاء وتجار المسافات البعيدة وصغارالتجار. كما ان كل مدن وارياف دارفور كانت تغص بالتجارالجلابة، بل انهم كانوا يمثلون اغلبية سكانية مطلقة لبعض المدن التجارية الكبرى فى عهد السلاطين الاوائل. فمدينة "كوبى" على سبيل المثال، كانت تعتبر اكبرمدن السلطنة وكانت تمثل العاصمة الاقتصادية لسلطنة دارفور، وقد قال عنها الباحث والمؤرخ ر.س.اوفاهى بانها مدينة وادى النيل، وَجُدت فى السافنا، وجاء فى وصفه لها: "كانت كوبى من ابتداع المهاجرين من مصر العليا وومن شمال السودان: كالهوارة، الجعافرة، النوبة واخرين من شمال السودان، الدناقلة والمحس والجعليين من شمال السودان.".وقد سبقه الى ذلك الرحالة براون (1792)، حيث كتب عن المجتمع التجارى فى كوبى: "كان مؤلفاً من عناصر اجتمعت من ارجاء مختلفة من العالم، الى تجار من مصر العليا وتونس وطرابلس، ودنقلا ونوبيا وكردفان..". وكانت مدن دارفور مليئة "بجلابة الخير"- كما اطلق عليهم الكاتب الصحفى الحصيف الاستاذ عبدالله ادم خاطر- وهؤلاء الجلابة كانوا فى الماضى وما زالوا يمثلون حتى اليوم نسبة كبيرة من المكون السكانى لبنادر دارفور الكبرى مثل الفاشر ونيالا والجنينة ومليط والضعين وكبكابية..الخ
ما نود تأكيده فى هذا المقام، هو إن العلاقات بين دارفوروكردفان والوسط والشمال النيلى لم تكن يوما مجرد علاقات إقتصادية وتجارية عابرة، او حتى علاقات دينية فقط ، انما تداخل اجتماعى و تمازج بشرى وانسانى كبير وقديم، وان القبائل النيلية يشكلون فى الواقع مكوناً اساسيا وعضويا من سكان مدن وارياف دارفور، هذا اذا استثنينا المجموعات الاثنية التى نزحت من/الى منطقة الشمال النوبي منذ عهود غابرة مثل الميدوب والبرقد وربما التنجرايضا، كما تدلل بعض الابحاث التاريخية.
اما الامر المؤكد الآخر والذى لا خلاف عليه، هو ان كل سلاطين واهل دارفور على العموم، كانوا يرحبون بكل القادمين اليهم من (دارصباح)، خاصة التجار ورجال الدين و زعماء القبائل. كذلك كان الحال بالنسبة للجماعات التى كانت تاتى من بلاد اخرى من وراء حدود سودان اليوم، مثل غرب افريقيا، ومن المغرب العربى كبلاد الشنقيط ومراكش وفيزان وتونس..الخ، حيث يجد العابرون منهم الضيافة والامان الى ان يغادروا، و يجد المقيمون الاحترام والتقدير ويمنحون الارض للزراعة ان رغبوا فى الزراعة والتسهيلات ان عملوا بالتجارة.. فأهل دارفور لم يعرفوا فى ثقافتهم اى شكل من اشكال الممارسات العنصرية اوالاستبداد او الاستبعاد لاى وافد عابر او مقيم، وانما الترحاب به و السرعة فى استيعابه وادماجه بينهم.
22- ورغم أهمية دارفور كعمق استراتيجى وسياسي واقتصادي لمملكة الفونج، كما ورغم اهمية السودان النيلى السياسية والإستراتيجية والاقتصادية وكمنطقة عبور لتجارة دارفور مع الخارج، وبخاصة مع مصر والحجاز وتركيا، ، الا انه لم تكن لاى من المملكتين ادنى رغبة للعداوة أو الحرب بينهما بسبب من الطموح السياسي أو المنافسه علي السلطة. ولعل الحملة الوحيدة التي شنها السلطان تيراب عام (1785م) علي الفونج – كما اشرنا الى ذلك من قبل وسنتناول تفاصيلها لاحقا - كانت بهدف تعقب السلطان هاشم المسبعاوي ملك كردفان الذي سعي لزعزعة السلطة بدارفور بهدف العودة إلي ملك أجداده.
(*) ماكمايكل: تاريخ العرب فى السودان
نواصل (3-6)
/ [email protected]

مشكلة السودان فى دارفور
(من منظورنقدى لتاريخ السودان) 6-3
مشكل التاريخ هو تاريخ المشكل
حامد على نور/ [email protected]

التشكيل السياسى الحديث لدولة السودان
الغزو التركي المصري وبداية تشكيل الدولة السودانية الموحدة

23- وكما سبق الذكرفان محمد عى باشا، حاكم مصر بأسم الدولة التركية، عندما غزا السودان فى العام 1821، كان السودان عندئذ يتكون من دولتين مستقلتين هما: مملكة الفونج، وتُعرف ايضا باسم عاصمتها سنار، والى غربها سلطنة دارفور. اما كردفان فقد كانت "مقدومية" تابعة لسلطنة دارفور، منذ ان اسقطها السلطان تيراب فى العام 1785، وضمها لسطنته وولى عليها نائبه المقدوم ابو محمد كُرا. وعندما غزا جيش الدفتردار البلاد، كان"المقدوم مَسَلَم" هو الحاكم على كردفان بأسم سلطان دارفورمحمد الفضل.
ان الحقيقة التاريخية التى اريد تأكيدها هنا وبكل وضحوح، هى ان دارفور ليست مجرد اقليم مثل اقاليم السودان الاخرى، وانما مكون من مكونات السودان فقد كانت دولة مستقلة وذات سيادة لاكثر من ثلثمائة عام، وقد ظلت مستقلة وقائمة بذاتها لاكثر من خمسين عاما اخرى، من بعد الغزو التركى المصرى للبلاد فى العام 1821، واحتلاله لدولة الفونج، باقاليمها التى عرفت فيما بعد ب(الشمالى، الشرقى، الاوسط والخرطوم)، وان اقليم كردفان فى ذلك الحين كان جزء من سلطنة دارفور، وانما انتزعت انتزاعا من لدنها، بواسطة الجيش الثانى (الدفتردار). ولم تصبح دارفور جزء من (السودان التركى المصرى) الا فى العام 1874، اى قبل عشرسنوات فقط من طرد الاستعمار التركى المصرى من البلاد، وقد ساهم شعب دارفور فى ذلك مساهمة ليست لها مثيل ولا ينكرها عليهم احد، فهم اكثر من آمن بمهدوية المهدى واخلص لها ودافع عنها ثورة ودولة.
ضُمت دولة دارفور الى السلطة الجديدة عام 1874، لتصبح المكون الثانى (للسودان التركى المصرى)، وبذلك اكتمل التشيكل الجيوسياسى لما عُرف اليوم بالدولة السودانية.
اسباب الغزو التركى المصرى للسودان
24- اسباب الغزو التركى المصرى للسودان، افصح عنها صاحب مصر، محمد على باشا بنفسه وبوضوح لا يقبل التأويل: (البحث عن العبيد والذهب)، وليس فى تقديرنا لاية اسباب اخرى كما نحا الى ذلك الاستاذ الجليل الدكتور محمد سعيد القدال فى سفره: "تاريخ السودان الحديث"، فى محاولة منه لايجاد موقف موضوعى للغزو، فهو يعزوه ايضا الى ظروف العصر وقواه المضطربه والمتشابكة، كنمو السوق الراسمالية الذى خلق مناخا عالميا يبرر الغزو على اساس انه رسالة حضارية. فالواقع ان اول غزوات محمد على باشا الخارجية كانت للجزيرة العربية عام 1811، واستغرقت تلك الغزوة سبع سنين، ورغم انها انتهت باحتلال مكة، الا انها تركت محمد على باشا شديد الافتقار الى المال والرجال. وكان ثمة مكان واحد يستطيع ان يعوض فيه هذين النقصين الا وهو وادى النيل نفسه..فالرجال والذهب كانا موفورين فى ربوع السودان، والى جانبهما تتوفر ايضا موارد اخرى كثيرة، ولذلك قرر محمد على ان يوغل فى البرية التى وراء اسوان. ولقد افصح الباشا عن غرضه من الغزو، كما ورد فى نفس كتاب القدال: "المال والعبيد!"...فقد كتب محمد على باشا الى ابنه وقائد جيشه الى السودان: " انت تدرى ان الغاية من كل جهودنا هذه، هى استجلاب الزنج، فعليك ان تظهر الهمة والنشاط فى تنفيذ رغباتنا هذه فى هذا الموضوع الجوهرى" النيل الازرق/ آلان مورهيد
25- ومهما يكن من امر، فقد قرر محمد على باشا غزو السودان، وأرسل حملة عسكرية مكونة من جيشين أحدهما بقيادة إبنه إسماعيل باشا، لاحتلال سنار التى كانت فى حالة فوضى وترنح واًيلة للسقوط، بسبب الازمات الداخلية، وسرعان ماتهاوت على يد الغزاة.
اما الجيش الثاني فكان بقيادة صهره، محمد خسرو (الدفتردار)، وكان منوطاً به غزو واحتلال سلطنة دارفور، الا ان محمد على باشا اكتفى بانتزاع مقدومية كردفان من لدن سلطنة دارفور. ورغم وعيده وتهديده للسلطان باجتياح دارفور، الا ان جيشه لم يتقدم نحو دارفوركما كان مخططا له، ولذلك إستمرت سلطنة دارفور مستقلة عن الحكومة التركية المصرية التى هيمنت على دولة سنار وكردفان لأكثر من خمسين عاما حتي أسقطها الزبير باشا فى العام 1874، كما سنرى. ولنقف الآن على مسيرة حملتى الغزو الاجنبى للبلاد
حملة اسماعيل باشا لاِسقاط سنار ونهاية مملكة الفونج:
26- كانت الحكومة المصرية تعلم عبر إستخباراتها في الداخل مدي ضعف وهشاشة السلطة في سنار، وأن مؤسسة الدولة السنارية عبارة عن لامركزية تقليدية قائمة علي إستقلالية نسبية للكيانات القبلية. وكانت قبيلة الشايقية قد عُرفت بتمردها وإستقلاليتها عن السلطة فى سنار، كما كانت تبطش بالقبائل الأخري المجاورة لها، والتى ظلت تعانى من سطوتها وهجماتها المتكررة. فكانت قبائل المنطقة تريد التخلص من الشايقية، ولذلك لم تتحمس لمقاومة الغزو، بل رحب به بعض من قبائل المنطقة. وعندما تحركت قوات الغزو التركية من مصر وإتجهت جنوباً نحو السودان لم تجد مقاومة تذكر من السلطة المركزية في سنار لحماية حدودها الاقليمية وكان عليكل كيان من الكيانات القبلية أن تواجه مصيرها لوحدها، كما ان قيادات بعض قبائل المنطقة كانت تقدم الخدمات الاستخباراتية والعون اللوجستى لجيش الغزو، وسرعان ما إكتسح الجيش التركي المصري كل المنطقة تقريباً دون مقاومة. كان حاكم دنقلا والمحس حسين كاشف قد بدا يعد للمقاومة لكنه لم يجد من يؤازره ففر إلي كردفان، فقام أخوه حسن بالتسليم للجيش الغازي، (.). وسلم حاكم صاي، كما إستسلم حاكم أرقو وحاكم المحس وبقية دنقلا. وعندما حل جيش الغزو بمنطقة الشايقية أتفق زعيما الشايقية الملك صبير والملك شاويش وقبلا التسليم ودفع الجزية مقابل إحتفاظ قبيلتهم بخيلها وسلاحها وعندما رفض إسماعيل باشا ذلك العرض، كوّن زعيما الشايقية حلفاً عسكرياً وقررا المواجهة فكانت معركتا كورتى وجبل الضايقة، وقد انهزم الشايقية فى المعركتين وذلك باعمال جيش الغزو للمدافع التى لم يالف اهل السودان فتكها، ورغم ذلك فقد كان بلاءهم شديدا، وقد أبدوا من إستبسالاً في التصدي ادهش العدو الغازى(*). لكن سرعان ما إستسلم الشايقية حينما أدركت قيادة القبيلة عدم جدوي تلك المقاومة، بل وذهبت أكثر من ذلك ،حينما قررت التعاون مع جيش الغزو فإنخرط الشايقية في صفوفه كمقاتلين في سبيل إخضاع بقية البلاد للحكم التركي، وكان لهم دورهم التاريخي المشهود له بالتعاون مع جيش الغزو.
27- وإستمر جيش الغزو تقدمه جنوباً نحو بربر فسلم له الملك نصر الدين زعيم الميرفاب وهنأه بالنصر على الشايقية، فأقره اسماعيل باشا على بربر، ثم الملك أبو حجل زعيم الرباطاب ثم شيخ عربان الحسانية. وعندما أطلت الحملة علي أبواب شندي فى 22 مارس 1821 جاءه المك نمر طائعا، فأمنه وكساه واقره على بلاده وفى 9 مايو اتاه الملك مساعد مسلما وفى 15 مايو جاءه الملك جاويش مسلما، وكان قد التجا الى جنوب ارض الجعليين مع المئتى رجل الذين فرً بهم من دار الشايقية، فعفا عنه وخلع عليه وعينه على رأس 140 من رجاله، وابدى جاويش رغبته بان يرافقه الى سنار. كما عين كل من الشيخ ازيرق والشيخ عبود شيخ بادية السواراب على رأس خمسين رجلا وربط لهم مرتبات معينة. وهكذا كان دخول الشايقية الباشبوزق فى جيش الحكومة التركية المصرية بالسودان، وقد بقوا فيه الى حين قيام الثور المهدية. واستمرت الحملة في طريقها جنوباً فوصلت منطقة أمدرمان الحالية فسلم لها ملك العبدلاب المانجل الأمين، والشيخ ناصر ورافقه في بقية زحفه، ثم عبرت إلي أرض الجزيرة فسلم شيوخ المسلمية وهكذا إلي أن دخل جيش الغزو إلي العاصمة سنار التي إنهارت فيها إستعدادات المقاومة قبل دخول الجيش الغازي فسقطت لقمة سائغة في يد الجيش التركي المصري وبذلك إنتهت سلطنة الفونج في السنة الأولي للغزو التركي لبلاد السودان دون أي خسارات تذكر للجيش الغازي(1).
حملة الدفتردار واسقاط كردفان
28- جيش الغزو الثاني بقيادة صهر محمد علي باشا، محمد خسرو الدفتردار وقد توجه نحو إقليم كردفان الذي كان يتبع لسلطنة دارفور وكان يحكمه المقدوم مسلم مندوباً عن سلطان دارفور، فبعث الدفتردار برسالة يطلب منه التسليم وذكر في رسالته أنه جاء بإسم السلطان العثماني خليفة المسلمين وأوهمه أن المقاومة تعني الخروج من دولة الإسلام لكن الأهداف العدوانية المغلفة بالدين لم تنطل علي المقدوم مسلم فرفض حجج الدفتردار وعبر عن رفضه في رده علي رسالة الدفتردارهذا نصه:
"إلي حضرة دفتردار تابع باشي محمد علي ، مني إليك جزيل السلام ومزيد التحية والإكرام. أما بعد فخطابك الذي أرسلته إلينا فهمناه ومافيه من جهة السيال (الإعتداء) والطمع وغير ذلك فهمناه. طيب إن كان نحن في بلدنا مسلمين وتابعين كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم بالأمر والنهي في زمان السلاطين المتقدمين. أنتم أهل بحر ونحن أهل بر وكل سلطان يحكم بلده بما قال الله ولا نحن تحت ملككم من الزمن السابق وكل سلطان يحكم رعيته بما قال الله وهو المسئول.
أما أنتم فغير مسؤولين عن حكم ديار الغير...ولا ظهر في زمن السلاطين المتقدمين من العثماني من خاطبنا بهذا الخطاب ولا من يرسل التجريدة علي بلاد الإسلام إلا أنتم في زمن محمد علي باشا، غزيتم ديار المسلمين وأنتم مسلمين تحت سلطان آل عثمان خليفة رسول الله، ولكن نحن خارجين عن حكمه وهو ليس مسئوول عنا يوم القيامة. نحن ما خالفنا
كتاب الله وسنة رسوله ولا عهد الله لكم بقدوم بلادنا، أنتم غاصبين وظالمين وسايلين (معتدين) كما قال الشيخ مجاز دفع السايل. إن جيت بلادنا أنت سايل وظالم ونحن مظلومين (وإن متنا) شهداء بين يدي الله (2).
29- وكان للمقدوم مسلم ما أراد، من طلب الشهادة فرسالته تلك تحمل في طياتها فهماً دينياً راسخاً للحكم ومضموناً سياسياً ووطنياً لم يعتاد القائد التركي علي سماعه منذ أن وطأت قدماه أرض السودان، أما المقدوم مسلم فقد بدأ بالفعل كرجل دولة ذي إرادة وقرار يواجه مسئولياته الوطنية بكل جسارة ويتبع قوله بالعمل، فبدأ في الإعداد للمواجهة العسكرية مع جيش الغزو التركي المصري، فإستنفر خيٌالة كردفان ومشًاة دارفور وتقدم بجيشه من الأبيض ليلتقي مع جيش الدفتردار في سهل بارا وبدأت المعركة سجالاً هناك رغم عدم التكافؤ في السلاح والتدريب لكنهم "ثبتوا امام الجيش الغازى طويلا واقتحموا نيرانه غير مبالين بالموت حتى انهم اخترقوا صفوفه وجرحوا كثيرا من عساكر الطوبجية (المدفعجية) وهم فوق مدافعهم"، ( نعوم شقير) فأخذت مدفعية الدفتردار توقع الخسائر بجيش المقدوم من علي البعد وهو سلاح لم يالفوا مثله من قبل، لكنهم وقفوا في وجهه بجسارة وثبات وقاتلوا في إستماته بسلاحهم الأبيض. وبعد قتال ضار سقط خلاله أكثر من سبعمائة شهيد من الجيش الوطني وفيهم المقدوم مسلم نفسه ، وجُرح وأُسر الالاف، إنفرط عقد الجيش المقاوم وأخذ الأتراك يوقعون أقسي صنوف العذاب بالأسري وبعد ذلك فقط تمكن الجيش الغازي من دخول مدينة الأبيض عاصمة كردفان واخذ الدفتردار فى الاهبة للزحف نحو دارفور فتصدى له السلطان محمد الفضل مجددا وأعد جيشاً اخرا لمحاربة الغزاة المصريين والأتراك:
"فلما علم السلطان محمد الفضل أن المقدوم مسلم قد هُزم وقُتل في الحرب أرسل جيشاً ثانياً تحت قيادة أبي اللكيلك فخرج له جيش الغزو فإلتقاه في سودري بين فوجة والأبيض وحدثت واقعة شديده حارب فيها جيش (دارفور) حرب الرجال حتي قتل قائدهم فإنهزموا راجعين إلي الفاشر فخاف السلطان محمد السلطان علي دارفور (لا علي نفسه) وأخذ من ذلك الوقت يحشد الرجال ويستكمل العدة للمحافظة علي سلطنته." (3)
محاولات غزو دارفور
30- ولم تتوقف مساعى محمد علي باشا في تهديد ومحاولات إخضاع سلطنة دارفور لحكمه، فبعد تسع سنوات من سقوط سنار وكردفان وبالتحديد في عام ١٨٣٠م بعث الباشا برسالة إلي السلطان محمد الفضل يدعوه مجدداً ومهدداً إلي التسليم و إعلان الولاء للحكومة التركية، إلا أن السلطان محمد الفضل أستنكر هذا التجني ورفض الإذعان لما جاء بتلك الرسالة من تهديد، ورد على الباشا بخطاب مطول يؤكد فيه عتزازه بمملكته وبشعبه. ومحذرا الباشا من مغبة تعديه علي دولته، وهذا هو نص خطاب السلطان محمد الفضل لمحمد على باشا:
" إلي حضرة الكوكب العالي، والنير المتلالئ والطور المعالي، ذي المفاخر والمعالي، بهجة الأنام وقدوة الليالي، أخينا ومحبنا صاحب العز والإفتخار الباشا محمد علي والثاني الإقتدار سلمكم الله تعالي من الآفات ووجهكم إلي فعل الطاعات،
وجنبكم الله عن فعل المخدرات وإستعملكم الله بالباقيات الصالحات بمنه وكرمه. السلام عليكم ورحمة الله والبركة لديكم وبعد فقد وصل إلينا خطابكم أوصلكم الله إلي رضوانه وجعلنا الله وإياكم في ظل ستره وأمانه، وفهمنا ما حواه خطابكم وما إقتضاه جوابكم وكل كلمة من المرقوم تستحق جواباً من المفهوم ولكن يكفي عن هذا كله كلام الحي القيوم حيث قال: "له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ إلا كباسط كفيه إلي الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال". وقوله تعالي: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحد". ونهاية مطلوبنا وغاية إعتقادنا نحكم بكتاب الله العزيز وبسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم ومن خالفنا وتعدي نقصم ظهره إن شاءالله تعالي ونستعين عليه بالله، لأننا نرضاه قرباناً ولا نظلم إنساناً ونحن والحمدلله متبعون لا مبتدعون ومسلمون لا مشركون، نحكم ونأمر بالمعروف وننهي عن المنكر والذي لم يصل نأمره بالصلاة والذي لم يزك نأخذ منه الزكاة ونضع ذلك كله في بيت المال ثم ننفقها للفقراء والمساكين ونرد الأمانات إلي أهلها ونرفع يد الظالم من الرعية ونعطي كل ذي حق حقه. فأما إستعملنا ذلك نصرنا الله تعالي علي من عادانا وظفرنا عليه حتي دانت لنا القبائل العظام بعون الله العلام وإستقامت لنا أجناد لا يعلمها إلا رب الأرباب ولا يحصيها إلا رب العباد وهم ينفقون أموالهم إبتغاء مرضاة الله وفي طاعة الله، لما ورد في كتابه العزيز "إن الله إشتري من المؤمنيين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والأنجيل والقرآن" وكل مسلم ديوانه دينه وبعد.. لقد بلغنا أنكم طالبون طاعتنا إياكم وإنقيادنا لكم فيا عجباً هل أتاكم خبر من عند الله تجدون فيه نصركم؟ أم حديث رسول الله تجدون فيه تمليككم أم خطر خاطر بعقولكم أن لكم رباً قوياً ولنا رب ضعيف؟ ...فالعمري أن دارفور هذه محروسة محمية بسيوف قواطع هندية وخيول جرد أدهمية وعليها كهول وشبان سائرون إلي الهيجاء بكرة وعشية (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). فمن آتي دولتنا خاطئاً ينهزم ويرجع مكرها وينتقض عزمه ويضمحل ويتلاشي وتصير هباءً منتثوراً كرماد إشتدت فيه الريح في يوم عاصف وإن آتانا طاغِ فقد تعرض لزوال نعمته وحصول نقمته وأن بغي علينا باغِ لدُك في الساعة والحين. ألم تروا إلي قوله صلي الله عليه وسلم: "لو بغي جبل علي جبل لدك في الساعة الباغي. فهل بلغكم إننا كفار وجب عليكم قتالنا أو أباح الله لكم ضرب الجزية علينا أو علمتم خبراً بعين اليقين فينا . أما علمتم أن فينا العباد والزهاد والصالحين ممن ظهرت لهم إلكرامات في وقت وحين وفى كل اوان وسنين وهم بيننا يطفئون نار شركم اليقين ويعلو دخانا ثم يرجع كل منكم إلي أصله ويعود إلي فصلهً.
فهل غركم قتالكم مع ملوك البحر كأهل السافل وسنار والشايقية؟ بل نحن السلاطين وهم الرعية! ولا يغرنكم قتل المقدوم مسلم إنما هو كحبة سقطت من رحل كبير. أما علمتم أن ملكنا هذا طلبه كثير من ملوك السودان (الذين هم خمسمائة الف أو يزيدون) فصاروا كلهم منهزمين أسرى وقتلى ولم يعد منهم أحد فرجعوا منهزمين هاربين بعون الله القادرالصمد ولكن لا يكفي هذا كله إلا بعد النظر والعيان والتجربة والبيان فإعتبروا يا أولي الابصار من قبل أن يخذل الله بغاة فيردها علي الأدبار وما النصر إلا من عند الله الواحد القهار والسلام علي من إتبع الهدي وصلي الله علي من لا نبي بعده وسلم"(1).
(1) للأسف فإن هذا الخطاب قد إنتحل ونسب إلي الوزير السناري محمد ود رجب (أنظر الفحل الفكي الطاهر: تاريخ وأصول العرب بالسودان- الطابع العربي- (1976) ص35) والكتاب المدرسى المقرر للصف السابع بمرحلة الاساس.

قراءة لوقائع تاريخ الغزو
31- إن وقائع تاريخ غزو السودان في القرن التاسع عشروالمذكورة فى كل كتب التاريخ تقريبا، تؤكد حقائق لا بد من الوقوف عندها وهي تتمثل في الآتي:
اولا- فيما عدا مقاومة قبيلة الشايقية القصيرة تلك، فأن جيش الغزو التركي المصري لم يجد مقاومة تُذكر من الكيانات القبلية في الشمال او الوسط النيلي عند دخوله السودان حتي سقوط سنار حاضرة مملكة الفونج. على العكس تماما فقد وجد الترحيب والتشجيع والتعاون من اغلب قيادات هذه الكيانات، بل وان بعض هذه القيادات كانت تقوم مقام الاستخبارات لصالح جيش الغزو! ان المقاومة الحقيقية الوطنية - وليست القبلية- هى تلك التى واجهها الجيش الغازى في غرب السودان. فمدينة الأبيض لم تسقط إلا بعد ان مهرها الشهداء بدمائهم وعلي رأسهم قائدهم المقدوم مسلم، وبعد أن جٌرح وأُسر آلآف الجنود الذين واجهوا آلة الحرب الحديثة بسلاحهم الأبيض فقط.
32- الامر الاخر الذي لابد ان نقف عنده في هذه القراءة الموجزة لتاريخنا الوطني- (الحديث والموثق وليس القديم) - هو أن الحكومة التركية المصرية تعاملت منذ البدء مع (سلطنة دارفور) معاملة دولة حرة يسعون لانتزاع سيادتها، ومع حكام دارفور كرجال دولة وطنية. و حكام دارفور بدورهم اثبتوا عمليا بانهم اصحاب سلطة سياسية وسيادة وطنية مركزية، وليسوا مجرد زعماء عشائراومكوك قبائل، وهم بهذه الصفات تصدوا للجيش الاجنبى الذى جاء غازيا لهم وساعيا لإستعبادهم، فقاوموه بقوة وعناد وإرادة وطنية لم تلن، وبذلك فقد اثبت حكام دارفور وعيًا وطنيا متقدما على غيرهم، كما اثبتوا نظريا وعمليا جدارتهم بتلك الصفة السيادية لدولتهم وسلطتهم. فرغم الفارق الكبير بين الجيش الغازي وجيش دارفور من حيث العتاد الحربى والسلاح الحديث والتدريب المتطور... فإن حكام دارفور لم يهن عليهم مصير الوطن، بل هانت النفوس من أجله، فوقفوا في وجه العدو الغازي ولم يُسلموا أو يستسلموا قط -(وذلك عبر تاريخهم المعلوم)- لأي عدو أو غازى أجنبي دون قتال شرس.
33- الأمر الاخير هو: إن مخاطبة حكام دارفور للغزاة - خطاب المقدوم مسلم للدفتردار وخطاب السلطان محمد الفضل لمحمد علي باشا- تستند علي قاعدة وروح وطنية اصيلة، وفهم راسخ للدين الإسلامي القويم، فهم يستنكرون مبدأ ان تتجرأ دولة مسلمة علي غزو بلادهم المسلمة وبلا سند من الشرع الإسلامي الذي لا يجيز غزو البلاد الأخري لغير رد العدوان او دفع الظلم "1".
34- أما الملاحظة الاكثر أهمية فى مخطابة السلطان محمد الفضل لمحمد علي باشا، الى جانب ما فيها من الحصافة والدبلوماسية، هى: تلك الندية والاعتزاز بالاستقلالية والسيادة الوطنية وروح الشجاعة والتحدى. كما ان المخاطبة تستبطن وجداناً وطنياً ووعيًا سياسيا وحدوياً متقدما وقويا تجاه سلطنة سنار وكياناتها القبلية. فالسلطان محمد الفضل وبعد سقوط سنار وكردفان، تحمل مسئوليتة الوطنية والأخلاقية تجاههما. ففي إشارته: "فهل غركم قتالكم ملوك البحر كأهل السافل وسنار والشايقية! " فتلك إشارة لا تخلو من ذكاء وحنكة سياسية وروح وطنية وتحد عسكري. فهو هنا لا يزدري دولة سنار أو أهل السافل من الشايقية والجعليين، وإنما اعتبرهم جزءً من سلطته ومن مسئوليته، وإنه يمثل المركز او القطب/وهم رعاياه: (بل نحن الملوك وهم الرعية) وغرض السلطان يتضح جلياً حينما أشارإلي مقتل نائبه و عامله علي كردفان، المقدوم مسلم فوصفه: "كحبة سقطت من رحل كبير"- فمن البدهى انه لم يهدف من هذا الوصف إلي تصغير شأن واحد من اعظم قواده، وإنما هدف فى الواقع إلي إرهاب العدو الغازي وتحذيره من مغبة ما سوف يلاقي من ويلات ان هو أقدم علي تنفيذ تهديده بإجتياح (مركز) البلاد، وهذا النوع من التهديد والوعيد للعدو الذى هو جزء من الحرب النفسية معروفة في الحروب التقليدية عامة "1".
اٍضاءة أولي: في تهميش التاريخ
35- أن معركة بارا الوطنية البطولية تلك، وهي أول معركة لجيش ( وطني) في مواجهة الغزو التركي المصري للبلاد، وذلك التصدي الجسور للغزاة في كردفان، لم يجد حظه من التناول الموثق لتاريخ أبطالنا ومعارك شعبنا ضد الغزاة والمستعمرين... فبالرجوع إلي كتب التاريخ التي كتبها "المؤرخون الرسميون" لا نجد ذكراً لمعركة بارا إلا علي إستحياء وبشكل مختصر ومبتسر، وبإسلوب نقد سلبي يخلو حتي من الإشارة الرمزية للنضال الوطنى لأولئك الأبطال. لقد اقتصرت تلك الكتابات التي تتناول تاريخ تلك الفترة على مقاومة قبيلة الشايقية بمن فيهم الحكامة الجسورة مهيرة بت عبود، حيث وجدت ذكرا طيبا فى التاريخ تستحقها عن جدارة، ثم عن حرق المك نمر لاسماعيل باشا رغم ان كل سكان المنطقة قد دفعوا ثمنا غاليا وعل رأسهم قبيلته من الجعليين، وهرب هو واسرته من تلك المحرقة الجماعية المجانية. و أما ذلك الجيش الكردفاني الدارفوري فكأن لم يكن جيشاً وطنياً تصدي لغزو أجنبي إستعماري!! وذلك الفارس المغوار المقدوم مسلم الذي إستشهد في ميدان الوغي مدافعاً عن وطننا وشعبنا بسلاح أبيض أمام آلة الحرب الحديثة عندئذ، لم يكن بطلاً وطنياً سودانياً! بل وكأنما السبعمائة شهيد الذين روت دمائهم رمال بارا وهم يدافعون عن وطنهم، والآف الأسري الذين سؤموا العذاب علي يد الدفتردار وجيشه الغازي، لا يسوون شيئاً في تقييمهم للوطنية والوطنيين!!. اما الابطال الذين يستحقون التخليد الوطنى من منظور مدونى التاريخ (الرسمى) فهم المك نمر والزبير باشا والميرغنى والمهدى وغيرهم ممن لا نغمطهم حقهم الوطنى تخليد ذكراهم وهم الان الان موجودون فى كتبنا وفى فصول دراستنا وفى الشوارع و الكباري والمرافق والمؤسسات الوطنية والاهلية..الخ. لكن سؤالنا المشروع والذى لابد له من اجابة هو: كم من الناس في هذا الوطن قرأوا أو دُرسوا تاريخ الوطن يعلم شيئاً عن ابطال وطنيين مثل السلطان محمد الفضل أو عن المقدوم مسلم؟ - وغيرهم آخرين سناتى على ذكرهم لاحقا- نبحث عن موقعهم في تقييم تاريخهم وتكريم وتخليد ذكراهم كأبطالنا الوطنيين!
36- ألم تكن ما مواجهات السلطان محمد الفضل أو المقدوم مسلم أو القائد أبي لكيلك أكثر جسارة ووطنية مما قام به أولئك الذين لقنونا- وظلوا يلقنون ناشئتنا من بعدنا- بطولاتهم الحقيقية اوالمتوهمة ؟! وهل هناك معيارآخر لتكريم الأبطال الوطنيين والقادة التاريخيين، غير الشجاعة والجسارة في التصدي للعدوان الأجنبي، وبذل النفس وكل نفيس في سبيل عزًة هذا الوطن! وهل هناك من اعطى اكثر منهم في مجابهة الغزاة المستعمرين والصمود في مقاومتهم، ساعين للنصر أوالموت دونه؟ لنراجع التاريخ سنكتشف حقا من هم الابطال ومن هم المتواطئون! أين ذلك الجزء العزيز من تاريخنا الوطني، وأين دور أبطالنا الوطنيين من دارفور بل ومن كل الهامش السوداني من تاريخنا الوطنى فى مناهجنا الدراسية؟ وهل ضاق ماعون معرفة الخالدين فى تاريخنا الوطنى لغير أهلنا في الشمال والوسط النيلي!؟
لقد سقط الآف الشهداء في ميادين المعارك، فهل تسقط حقيقة أن تلك المعارك كانت من أجل الوطن وليس غيره؟.... ورغم هزيمة الجيش الوطني فى معركة بارا، إلا أن مبدأ التصدى البطولى للغزاة والجسارة والصمود في القتال حتي إستشهاد القادة مع جنودهم في الميدان، أليس في ذلك تأكيداً للإرادة الحرة، وإنتصاراً للعزة والشرف الوطني؟ أليس هؤلاء الرجال هم الذين عبروا عن إرادة شعبنا وكتبوا الصفحات الأولي الناصعة من تاريخنا الوطني الحديث؟ فكيف نسعى عامدين او غافلين اسقاطهم من وعيَنا ومن ذاكرتنا التاريخية الوطنية؟ وكيف نبقي علي أخرين هم دونهم هامة وقامة، ونسعي لننشئ الأجيال بأنهم وحدهم الأبطال وليس غيرهم! أين موقع هؤلاء الأبطال في توثيق تاريخنا الوطني؟ وكم منا يعرف عنهم ؟ وإلي متي نتجاهلهم ولماذا؟
نواصل (4-6)
حامد على نور/ [email protected]










مشكلة السودان فى دارفور
(من منظورنقدى لتاريخ السودان)4-6

مشكل التاريخ هو تاريخ المشكل
حامد على نور(([email protected]
غزو واحتلال دارفور:-
37- لمدى اكثر من نصف قرن من الحكم التركى المصري لمملكة الفونج ومقدومية كردفان، ظلت سلطنة دارفور دولة مستقلة ولها سيادتها وإرادتها الوطنية الحرة. وكانت ملاذا آمنا للفارين من تسلط النظام التركى فى مناطق النيل وكردفان. لقد هيأت دارفور بالفعل الفرصة المواتية للتماسك الوجدانى لشعوب السودان فى المناطق المحتلة اجنبيا، ومن الطبعى الا تسمح السلطة الاجنبية لتلك الفرصة ان تستمر، فعملت كل ما فى وسعها لزعزعة الاستقرار فى سلطنة دارفور، فشنت حربا اقتصادية عليها، وعرقلت تجارة درب الاربعين، وهى شريان التجارة والعلاقات الخارجية للدولة، وجندت بعض الجلابة من تجار المسافات البعيدة فى استخباراتها لتمدها بكل المعلومات، كما لم تكن السلطة التركية تجهل الصراعات الدائرة داخل الاسرة المالكة، فاستقطبت المعارضين منهم، واغرتهم وهيأتم لتولى السلطة فى دارفور بعد غزوها. وككل انظمة الحكم الاستعمارية الاجنبية فقد سعت السلطة التركية الى تجنيد عدد وافر من المتعاونين معها والداعمين لها من نخب الوسط والشمال النيلى، ومن الكيانات القبلية والقيادات الاهلية والدينية والطائفية وكبارالتجار وبخاصة تجارالرقيق. كل هولاء كانوا طوع بنان السلطة التركية وقد تقوًت بهم فى ادارة البلاد وفى الاستعدادا لغزو دارفور. وما ان اصبحت الفرصة مواتية بمبررالخلاف المصطنع بين الزبير باشا واثنين من اعيان الرزيقات التابعين لدارفور، ورفض السلطان قرض تسليمهم للزبير، وسرعان ما انكشفت الخطة المعدة سلفا لغزو دارفور، كما سنرى.
38- والزبير باشا تاجر رقيق معروف وطبقت شهرته الآفاق. فقد كان ذا قوة وسطوة، حقق ارباحا إسطورية في تجارته بالرقيق، ونجح فى تدريب وتسليح جيش خاص به من رقيقه والذين عًرفوا (بالبازنقر)، وقد دربهم على العسكرية و استعمال السلاح النارى ، لحماية تجارته ومصالحه في اقليم بحرالغزال بالجنوب، واجزاء الاخرى من البلاد التى تمر بها تجارته. وقد إستطاع الزبيرأن يفرض سيطرته علي إقليم بحر الغزال، وان يوظف تناقضات نظام الحكم التركي لمصلحته، مما ادى الى تعينه حاكما عليه، باسم الحكم التركي، وبذلك اصبح جزءً من النظام الحاكم، الا انه ظل يركز على تجارته بموارد الجنوب واهمها تجارة الرقيق. وحينما تم منع التجارة بالبشر رسميا، وشددت الحكومة الرقابة على ترحيل الرقيق عبر النيل الابيض، اصبح الزبير يوجه تجارته عبر دارالرزيقات بجنوب دارفور.
ولما تعرض بعض فرسان الرزيقات لقوافله، تصدى لهم الزبير وطاردهم، فهربوا وإحتموا بسلطان دارفور، فطلب منه الزبير تسليمهم له، فرفض السلطان ذلك لكونهم من رعايا دولته، فاستشارالزبير السلطة فى الخرطوم برغبته شن الحرب علي سلطنة دارفور. وكان الزبير التاجر والحاكم على بحر الغزال فى نفس الوقت، يدرك مدى التقاء مصلحته وطموحه الشخصى بمصلحة موكله بالخرطوم. و سرعان ما عرضت الخرطوم الامر علي الجناب العالي بمصر، فإهتبل خديوي مصر، إسماعيل باشا السانحة التي ظل يترقبها منذ أكثر من نصف قرن، فأرسل قوة من العسكر ومزيد من السلاح والمدافع لدعم الزبير، وفى نفس الوقت اصدر الأوامر لإسماعيل باشا أيوب حاكم عام السودان، بالاسراع بتجهيز الجيش والشروع فى غزو دارفور.(1) وكانت الخطة الحربية هى أن يتحرك الزبير رحمة بجيشه من الجنوب وإسماعيل أيوب بقوته من الخرطوم عبر شرق دارفور ثم يطبق الجيشان علي دارفور من الجهتين. الا ان الزبير قد سبق اسماعيل باشا ايوب بحسم المعركة وقتل السلطان ودخول مدينة الفاشر.
39- لعل من المهم هنا ان نطلع على الخطوط العامة للخطابات التي كتبها الزبير بنفسه إلي سلطان دارفور لنقف على الصورة الواضحة لطبيعة العلاقة بين الزبير باشا والسلطة التركية المصرية المستعمرة، (ثم ليقارن القارىء الكريم بعد ذلك بينها وبين الخطابات السابقة التى كتبها السلطان محمد الفضل لمحمد على باشا، والمقدوم مسلم للدفتردار!):

"إلي حضرة أمير الأمراء الكرام مولانا السلطان/ إبراهيم حسين صاحب العزة والإقتدار والهيبة والفخار ادام الله علاه آمين.
أما بعد فنحن عبيد أفندينا ولي النعم خديوي مصر العظيم أتينا منذ عام ١٢٧٠هـ لفتح بلاد العبيد فدانت لنا بلاد الفرتيت برمتها وفتحنا الطريق منها إلي كردفان عن طريق شكا فتعهد مشايخ الرزيقات بحفظه نظير جعل معلوم وضعناه لهم علي التجارة، ولكن لم يكن إلا اليسير حتي نكث الرزيقات العهد (...)" (الخطاب). وفى خطاب اخر الى السلطان يقول الزبير: " وقد بلغنا ان الشيخ منزل والشيخ عليان من اكبر طغاة الرزيقات قد التجأ اليكم وهما يحثانكم على حربنا، فغاية ما نرجوه الا تسمعوا لاقوالهما الفاسدة فتقوموا بحرب الدولة المصرية ذات السطوة الغالبة والمدد غير المنقطع"
40- لم يحتاج السلطان ابراهيم قرضل لكبير عناء او حدة ذكاء ليدرك ان الامر ليس امر نصائح من الزبير، او انه آتِ لتاديب الرزيقات كما يدعى، وإنما الامر مجرد حيلة من السلطة التركية المصرية لغزو دارفور، وان دور الزبير هو دور الوكيل اوالعميل لها. فسعي السلطان للتعاون مع زعيم الرزيقات مادبو، لتنسيق المقاومة، وكتب اليه خطاباً بهذا المعني، إلا أن ذلك الخطاب وقع في يد الزبيرالذى كان قد قطع الطريق بين دار الرزيقات وعاصمة السلطنة. فكتب الزبير إلي السلطان إبراهيم بتاريخ ١٢ نوفمبر ١٨٧٣م متحدياً هذه المرة بعد أن ضمن الدعم والتأييد من السلطة التركية المصرية بالقاهرة والخرطوم:
. "من الزبير رحمة الجميعابيإلي السلطان إبراهيم قرض، أما بعد فقد كتبت إليكم أولاً وثانياً بخصوص الرزيقات فلم أخطر بجواب منكم، بل رأيت خطاباً مكتوباً إلي الشيخ مادبو وغيره من مشايخ الرزيقات تكثرون فيه الفاظ الشتم والسباب إلينا بقولكم أنني جلابي باغِى وتقولون انكم تجردون الجيوش لطردي من البلاد (.....) وبعد هذا الإنذار الجلي فإذا حاربتمونا فاعلموا إننا منصورون عليكم لأننا بجانب الحق والعدل (.....)، فضلاً إننا ليوث حربية وصلة عباسية وسلالة هاشمية ولنا النصر من رسول الله كما قال عليه الصلاة والسلام: " اللهم أنصر العباس وأبنائه" .... (.....) فأعلموا أن خروجنا بعد الذي صرفناه علي إحتلالنا بوجه شرعي، لا يكون بالقوة والحرب وإنما بالتراضي بينكم وبين سمو ولي نعمتنا الخديوي المعظم وأن تضمنوا لنا نفقات الحملة علي الرزيقات والتي بلغت ١٠ الف كيس ونيفاً من الذهب، فإذا إتفقتم مع سموه علي ذلك وكتب لنا امراً نرفع يدنا عن البلاد فنعود إلي حيث كنا"

41- هذا الخطاب ليس مجرد وعيدا وتهديد لسلطان دارفو، وانما هو إبتزاز متواطئ عليه من قبل خديوي مصر التركية والحاكم باسمه فى الخرطوم ليتم تنفيذه عبر وكيلهم الزبير الذى منح منصب الباشوية لنجاحه فى تنفيذ المهمة التى اوكلت اليه. وفي العام 1874، ولما يكن قد مضي عام واحد علي تنصيب السلطان الشاب إبراهيم، (المشهور بإبراهيم قرض)، شن الزبير حملته علي دارفور، فإضطر السلطان إبراهيم قرض ان يمضي عامه ذلك وهو يتصدي لمعارك شرسة ومتواصلة قادها الزبير بجيشه الحكومي إلي جانب قواته من (البازنقر)، ضد سلطنة دارفور. وقد تصدى السلطان بجسارة لهذه الحرب الغاشمة التى شُنت على دولته وفقد خلالها أعظم قادة جيشه و كبار رجال دولته، فقد قًتل في تلك المعارك المقدوم سعد النور والوزير أحمد شطة والشرتاي أحمد نمر وأربعة من القادة من أبناء السلاطين والكثير من أولاد وأكابر الدولة من أهله وعشيرته. ولقد وصف الزبير باشا بنفسه لنعوم شقير تلك المعركة التى قادها السلطان ابراهيم قرض ضد جيشه فى معركة منواشى قائلا: "رتب (السلطان) عساكره ميمنة وميسرة وقلبا وكان هو ومن معه من الابطال المعدودين من اقاربه مع المدافع فى القلب (...) فهجمت علينا عساكر الميمنة والميسرة واشتد القتال، فما مضى الا خمس دقائق حتى انكشفوا عنا وتقهقروا الى الوراء، (بسبب حصاد المدفعية وآلة الحرب الحديثة لهم)، وعند ذلك هاجم السلطان ومن معه فى القلب فهزموا مقدمة جيوشنا ودخلوا القلعة واشتبك القتال بالسيوف والحراب، وكنت ترى السلطان يحوم فى وسط المعمعة ويقاتل كأنه الاسد، ولم يكن الا القليل حتى خرً صريعاَ هو ومن معه من الفرسان والشجعان وفيهم الكثير من اولاده واخوانه واكابر دولته.."
42- تلك كانت شهادة الزبير باشا عن السلطان ابرهيم قرض، ولم يملك الزبير، الذي كان بدوره يتمتع بصفات فرسان القبائل السودانية الأصيلة، لم يملك أزاء هذا الموقف إلا ان يُعجب بشجاعة وجسارة السلطان (إبراهيم قرض). رأي الزبير أن يكون له شرف تكفينه "بأفخر الثياب" - وهل تروق دفينا جودة الكفن"- والإحتفاء بدفنه في جامع منواشي. وليس غريبا على الزبير رحمة المتشرب لروح النبل وشهامة القادة العسكريين من ابناء القبائل السودانيةالعظيمة، ان ينصف حتى من رآهم اعداءً له، ولسادته فى السلطة الاجنبية التى اختار الوقوف معها والعمل تحتها والدفاع عنها ضد ابناء وطنه!.. وبالرغم مما دار بينه وبين السلطان الشهيد من سجالات وعنف لفظى ثم من المعارك الدامية الشرسة، فقد أقام الزبير مراسم دفن تليق بالشرف العسكري لسلطان جسور ومازال فى ريعان شبابه الا انه اخترق الحواجز الى المجد، فاستشهد هو وقادة جيشه الميامين فى ميادين المعاركضد العدو المغتصب . اولئك رجال إختاروا قدرهم أن يموتوا وطنيون انقياء بدلا ان يعيشوا مدنسين، ولعمرى: "موتُ يشهي الموتَ كل جبان".

43- لم تنتهى المعركة فى منواشى، فشعب دارفور لم يرضخ وجيشه لم يستسلم رغم الهزيمة الكبيرة بل تقهقر الى منطقة جبال مرة، وإستمر في تحديه ومواجهته للسلطة الأجنبية، فأعادوا ترتيب امرهم، وجددوا خططهم لإعادة حرية وإستقلال البلاد. فنصبوا حكومات سرية من الأمراء وزعماء القبائل، وكونوا جيشاً موحداً يقوده أمير متوج ومكلف بملىء مكان السلطان، عُرف (بسلطان الظل). وسلاطين الظل منذ مقتل السلطان ابراهيم قرض هم علي التوالي: الأمير حسب الله بن السلطان محمد الفضل والأمير بوش ثم الأمير هارون. وقد تلقى الزبير، الأوامر من الحاكم التركى الجديد لدارفور بان يستمر فى قمع بؤر التمرد المشكلة من سلاطين الظل بمناطق جبل مرة، واستمرت تلك المعارك متواصلة حتي قيام الثورة المهدية بعد اقل من عشر سنوات من اسقاط سلطنة دارفور والحاقها بما عرف عندئذ بالسودان التركى المصرى. لقد قتل الزبير خلال معاركه ضد المقاومة الوطنية لشعب دارفور كل من الأمير يونس وشقيقه سيف الدين بن السلطان محمد الفضل وعدد كبير من القادة منهم سبعة وعشرين من الأمراء، وأسر العشرات منهم رجالاً ونساءً وأرسلهم إلي مصر ليحتجزوا كأسري بمنطقة سوق السلاح بالقاهرة.
44- اٍضاءة أخري في تهميش التاريخ:-
مجدداً يلح علينا السؤال المشروع: من الذى يعرف اليوم السلطان إبراهيم قرض بن السلطان حسين بن السلطان محمد الفضل، سليل السلاطين إلي سليمان سلونق الأول!؟ وكم الذين علموا عنه كبطل وطني، دافع عن شعبه ودولته ورفض ان تخضع بلاده للسلطة التركية الغازية؟ ولماذا لم يُدون هذا التاريخ المشرف ويُوثق له كجزء من تاريخنا الوطني المجيد، وتراثنا البطولى المشرف، الذي كان علينا أن نفتخر به ككل الشعوب والامم التي تفتخر بملوكها وسلاطينها وأبطالها كرموز للعزة والسيادة الشرف الوطني؟ لقد صدقت مقولة السياسى البريطانى ونستون تشرشل: "ان التاريخ يكتب حوادثه المنتصرون." فالذين كتبوا تاريخنا هم النخب التى كانت الاقرب فى التعاون والتعامل مع السلطتين الاستعاريتيين، والذين تعلموا منهما اساليب الادارة الاستعمارية للبلاد، ومن ثم ورثوا السلطة منهما وتمكنوا من السيطرة على كل مقومات الوطن لوحدهم ، وتمادوا فى خطيئتهم بأن تظل لهم وحدهم، ولذلك رأوا ان يضعوا معايير تدوين التاريخ الوطنى بانتقائية تخدم اهدافهم.
45- ان صورة " الزبير باشا المنتصر"، وهو يرتدي بدلة الباشوية المحلاة بالحرير وعلي رأسه الطربوش التركي مازالت ماثلة فى مخيلة كل الذين تعلموا فى المدارس الحكومية. لقد أرادوا لهم ألا يتركوها معلقة علي جدران فصول دراستهم المبكرة أو علي صفحات بعض كتب تاريخنا المزيف، بل اُريد لهم ان يظل تاريخ الزبير وامثاله من المتعاونيين مع الاستعماريين الطغاة، عالقا في جدران ذاكرتهم الوطنية.. كتأكيد لإستلاب وعيهم!! ..لقد نسوا او تناسوا الحقيقة التاريخية الدامغة، وهي أن (الباشوية) اعلى درجة تشريفية ينعم بها المستعبد التركي اكراما منه لأؤلئك الذين قدموا خدمات جليلة وكبيرة لتحقيق أهدافه وخدمة أغراضه بتفان واخلاص!! ...الباشوية أو البكوية التركية لم ولن تكن ابدا رمز فخر وإعتزاز على الاطلاق، لقائد وطنى كالسلطان (إبراهيم قرض) وانما يفتخر بها اولئك الذين يفتخرون باسيادهم!.. اما السلطان قرض فسيظل رمزا يمثل اعلى درجات السمو والاصالة والنبل الوطني. وسوف لن يستطيع قامعوا التاريخ ومزيفوه مهما فعلوا أن يطمسوا او يخفوا وطنيته وعظمته وتفانيه كملك وقائد عسكرى عظيم، أو أن ينزعوه من التاريخ كبطل وطنى تصدى للغزاة، الاجانب المستعبدين وعملائهم المحليين، ولم يدنس جسده بزي الباشوية، إنما وشحته الجسارة الوطنية بالدم الغالي.
46- ان تاريخنا الوطني قد تعرض ومازال يتعرض لأكبر عملية تزوير (في التاريخ)، وناشئتنا مازالوا يتعرضون لعمليات تغييب لوعيهم الوطني عبر منهج التعليم النظامي المخادع، "فالتعليم الذي تصممه تلك النخب من أجل الحفاظ علي السلطة والثروة إنما هو تعليم يسعي لطمس الفطرة السليمة ويقضي علي الحراك من أجل التغيير." (2) ولعل التغييرالذي عناه الدكتور النور حمد هو انسنة المشاعر اولا ومن ثم خلق وجدان وطني جامع وموحد لكل كيانات السودان العرقية والدينية والثقافية المتنوعة من اجل وطن يسع الجميع.
نواصل(5-6)