· هل كان الجنوب في حاجة إلى الانفصال لإثبات الذات ضد عنجهية نظام الخرطوم المتعجرف؟ أم كان الانفصال هدفاً في أجندة الحركة الشعبية لتحرير السودان؟
· كل الذي أدريه جيداً أن الانفصال كان هدفاً لدى بعض الجنوبيين، و ليس من بينهم د. جون قرنق دي مبيور على أي حال.. و حينما ارتحل جون للقاء ربه تم التخطيط للانفصال و ليس للوحدة.. و تحقق..!
· و تدافع العالم نحو جنوب السودان عقب الانفصال للحصول على مكاسب هناك.. بينما كان السودان ينسحب من و يسد منافذ التجارة مع الجنوب لدرجة إعطاء الأوامر لرجال الشرطة و الجيش بقتل كل تاجر شمالي يجرؤ على تخطي الحدود إلى الجنوب.. إذ أأصدر السيد/ علي عثمان محمد طه، ثاني أعلى سلطة في السودان، أمراً صريحاً أنْ:- " إضرب في المليان.. بغرض القتل!.. Shoot to kill ..“ ! كان أمراً من رجل قانون منفعل بسبب وقوع الانفصال الذي جرى باستفتاء مزور و على علم من بعض زملائه في نظام الانقاذ..
· و تدفق اليوغنديون و الكينيون و الاثيوبيون و الصوماليون لسد الفراغ الذي خلّفه التجار السودانيون بسبب حكومة السودان الغافلة من جهة و بسبب مواقف عنصرية متأصلة في نفوس بعض الانفصاليين الجنوبيين من جهة أخرى.. و دخلت إسرائيل الملعب بعنفوان.. و تبعتها مصر على أمل الاحتفاظ ببعض من علاقات تكاد تشوش عليها اسرائيل بمكر..
· و انتشر التجار الكينيون في جميع أرجاء الجنوب.. حتى وصلوا مناطق بحر الغزال التي لم يكن لهم وجود فيها حتى على مستوى الأفراد.. ملأوا الفراغ و أربوا على ملء الفراغ.. بما قلل من مكاسب الجنوبسودانيين في الدولة الجديدة.. تلك الدولة التي ما فتئ حكامها يتخلون عن الاهتمام بالعام للاهتمام بالخاص جداً.. و بدأت جراثيم الفساد تسري في مفاصل الدولة.. و بدأ الصراع على الرئاسة يطغى على سلالم تفضي إلى الفشل.. و انهار السلام عندما دخلت البندقية منتديات الحوار..
· مر يوم عيد استقلال الجنوب في 25 يناير هذا العام قبل حوالي اسبوعين و الشعب الجنوبسوداني في حزن عام.. لم يعد ذاك اليوم يحمل قيمة ذات معنى يحتفى بها.. و العديد من الشعب الجنوبسوداني، بما فيهم الانفصاليون، يهربون من الجنوب الذي كان يملأ آفاق آمالهم السندسية .. يهربون خلاصاً للروح و لا شيئ أغلى من الروح..
· ضحايا الانفصال، و هم كثر في الشمال و أكثر في الجنوب، لا يدرون أن من فعلوا بهم ما فعلوا كانوا ينطلقون من مواقع الأنانية و الافراط في الشعوبية و العنصرية الدينية و القبلية.. و الاستهانة بمصالح السودان الحقيقية في وحدة جاذبة..
· تراكمت مؤجِّجات الثأر و تمزيق النسيج الاجتماعي في الجنوب بما يشي بصعوبة عودة العلاقات الاجتماعية السوية و التواصل بين القبائل بسهولة.... مئات الآلاف من الموتى.. و عدم الاستقرار لملايين..
· قالت لي إحدى اللاجئات إلى الخرطوم أنها فقدت أختها.. كانتا هاربتين من مسلحين كانوا يطلقون النار عشوائياً على قريتهم.... و أثناء هروبهما اعترضهما دُغل فاتجهت إلى يساره و اتجهت شقيقتها إلى اليمين.. و لم تلتقيا. لكنها علمت أن شقيقتها ما تزال حية في استضافة أسرة في إحدى القرى المناوئة للحكومة..
· الهروب من الموت، و ترك جميع ما تملك وراءك هي الحياة في الكثير من مناطق الجنوب..
· علاقة السودان بجنوب السودان تمتد بعيداً في التاريخ المعروف.. و بحكم أن الدولتين دولة كانتا دولة واحدة، لذا كانت العلاقة تشمل جميع أجزاء الجنوب.. أما العلاقة اليوغندية مع جنوب السودان فكانت علاقة محدودة تنحصر في المديرية الاستوائية فقط، و كانت الاستوائية تمتد إلى عمق يوغندا في عهد من عهود الحكم التركي..
· لا أستطيع أن أبارح الجنوب.. لا أستطيع و أنا القائل في أيام الصبا:- : " يا ربي إنها مسافرة.. حبيبتي نوارة الحقول و القرى.. قد لملمت ثيابها و ودعت طبول قريتي و القرية المجاورة.. تيبست في التوِّ عيدان الذرة.. و غابة الباباي هالها الذي جرى.. فأسقطت نوارها على الثرى.." .. و تتدفق الذكريات تدفق نهر الجور و أنا في أمريكا:-" نويتُ الوضوء بمائك يا نيل ذات مساء تسربل برداً و حزناً و بعض جليد.. و فوجئت أن المسافة بيني و بينك تبدأ بالمستحيل.. و لما وجدتُ المسافةَ أبعدَ مني إليك لبحر الغزال، بكيتُ.. تيممتُ.. صليتُ عند الهزيع الأخير!" و عودة إلى نهر الجور:- " حينما أكتب في ميري قصيدة، فدعوني أتبع الذكرى البعيدة.. مثل حلم يتناءى في الطيوب موغلاً في عمق أعماق الجنوبِ.. و يغذيه من السحر حبيبي!.."
· يجتاحني الحزن بضراوة الآن و أنا أكتب عن الموت في الجنوب.. و الناس يجرون.. يجرون إلى أي مكان دون هدف محدد.. يجرون بعيداً.. بعيداً عن الموت.. إنه هروب جماعي مباغت.. و قد تفرقت أعداد غفيرة من الجنوبسودانيين في الجهات الأربع .. العنف و القتل على الهوية جائحة منتشرة في كل مكان هناك.. الانتماءات القبلية سادت الحياة اليومية في الجنوب، و حرق البيوت على ساكنيها جزء من عمليات منظمة بدقة.. و اغتصاب النساء يمارسه المغتصبون عن رغبة في الانتقام و ليس عن رغبة في ممارسة الجنس.. إنه ممارسة الجنس لكسر عيون الآخرين..
· روت إحدى النساء المغتصَبات أن المغتصبين سألوا أباها عن في ما إذا كان يقبل أن يغتصبوا ابنيه أمامه، فلما رد بالنفي اغتصبوها و قتلوه!
· إن ما يجري في دولة جنوب السودان سادية تفوق تصور البشر الأسوياء.. وحشية لا مكان لها في النفس البشرية..
· لي صديق كان من مؤيدي الانفصال.. و كم تحاورت معه حول الوحدة و الانفصال.. و اشتدت حرارة حوارنا ذات مرة لدرجة كادت أن تقود صداقتنا للانفصال قبل انفصال الجنوب عن الشمال.. كان متطرفاً بشكل مزعج.. و لا يرى خيراً في الشمال أبداً.. و كان ( أول المغادرين) إلى جنوب السودان عقب الانفصال.. لكنه عاد إلى الخرطوم كآخر العائدين من الجنوب، آخرهم حتى الآن.. فالعائدون لا يزالون يتدفقون..
· وا سوداناه! و ا سوداناه!
· مهد قانون الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان لانفصال الجنوب وفق رغبة الانفصاليين في الشمال و الجنوب.. و فات على الوحدويين ما قصده الانفصاليون من أن تكون إدارة عمليات التسجيل و من ثم عمليات الاقتراع حصراً على الحركة الشعبية.. و قد أنيط بالانفصاليين إدارة عمليات التسجيل بحيث رفضوا تسجيل الأسماء ذات الدلالات عربية أو اسلامية.. خاصة من قبائل غرب بحر الغزال و الفراتيت المسلمين..
· و أعرف أناساً ذهبوا للتسجيل و رُفض تسجيل أسمائهم.. و أعرف امرأة أصرت على التسجيل و أتت بجميع الأوراق الثبوتية و تجيد لغة الدينكا إجادة أمها الدينكاوية للغة.. لكن اسمها لم يُسجل..
· كان الانفصال انفصالاً قسرياً.. و تزويراً مهد له قانون الاستفتاء في مهزلة تشريعية تستخف بالمنطق.. و كان الاقتراع فضيحة أخلاقية بلا سواتر.. ففي كل مركز اقتراع صندوقان في مكانين منفصلين، مكتوب على أحدهما:- نعم للانفصال- و لا للانفصال على الآخر.. و كان هناك جنود مدججون بالسلاح يحيطون بمراكز الاقتراع في حالة ارهاب للمقترعين..
· هل كان الجنوب في حاجة إلى الانفصال؟ لقد تم دفعه دفعاً إليه..
· رسم قانون الاستفتاء خارطة طريق ذات اتجاه واحد يفضي إلى الانفصال.. و لا يعرف الحقيقة من يرى غير ذلك.. و كانت قوة الجذب لدى الانفصاليين الجنوبيين قوية جداً تعضدها قوة مركزية انفصالية شمالية طاردة بعيداً عن مجال الوحدة
· في عام 2009 إتفق المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية على أن يكون الاستفتاء قانونياً إذا شارك في التصويت ما نسبته 60% من الناخبين المسجلين.. كما اتفقا على أن تكون النسبة الغالبة لقبول أو رفض الانفصال من الناحية القانونية هي نسبة 50% + 1...
· عقب الاتفاق ظهر السيد/ ياسر عرمان على شاشة التلفزيون يحيط به مراسلو الصحف المختلفة و هو يبتسم ابتسامة المنتصر.. فكتبتُ في جريدة التيار الغراء:- " أكبر ابتسامة في التاريخ !" فقد كنت مندهشاً من ابتسامة ياسر ( العريضة) غاية الاندهاش.. و كنت أتساءل عما إذا كان ياسر يؤيد الانفصال أم أنه كان مخدوعاً مثل كثيرين!
· و بدأت عمليات الاقتراع في يوم 9 يناير 2011 و اعلنت النتائج غير الرسمية في يوم 25 يناير 2011 ، و أيدتها مفوضية الاستفتاء رسمياً في يوم 7 فبراير عام 2011، حيث أعلنت أن نسبة المشاركة كانت 97% من المقترعين المسجلة أسماؤهم في سجلات الاستفتاء. و أن نسبة المصوتين لصالح الانفصال كانت 98.83% ( فقط لا غير!) و هي نسبة ( مألوفة) في الانتخابات الرئاسية في النظم الشمولية في عالمنا الأفريقي و العربي..
· و تعالى صخب الانفصاليين الجنوبيين المقيمين في الشمال على صوت الوحدويين الجنوبيين و سمعنا ( باي.. باي خرطوم!) تتردد من الانفصاليين في أرجاء العاصمة.. و غضب الشماليون إذ صدقوا أن الجنوبيين يكرهونهم بنسبة 98.83% ..
· و فرح الخال الرئاسي الانفصالي في ( الانتباهة).. و استمر يضرب على حديد الكراهية و البغضاء و الحديد ساخن.. و ذبح الثور الأسود و كأنه يذبح الأمة الجنوبية السوداء بأسرها و يرميها خارج الحدود..
· و السؤال القائم منذ الانفصال و إلى الأبد هو:- هل كان الانفصال سيتم لو كان د. جون قرنق حياً؟..
· أيها السودانيون، إن نسبة من صوتوا للانفصال من الجنوبيين ليست كما صوروها لكم.. و أؤكد لكم، أن الاستفتاء لو كان جرى بشفافية و نزاهة لما انفصل السودان أبداً.. و أسألوا تلاميذ الدورة المدرسية الذين ذهبوا للمشاركة في فعالياتها.. و أجهضها باقان أموم.. إسألوهم كيف كان استقبال سكان مدينة واو لهم بالطبول و الزغاريد.. و كيف انتكست الفرحة بعد إجهاض الدورة المدرسية.. فصارت أماكن إقامات التلاميذ أشبه ببيوت مآتم..!
· مهما كان الأمر، فما زال السودان و دولة جنوب السودان يشتركان في اسم السودان.. و لا زالا مفتوحين على الوحدة بحكم الرباط التاريخي و الاجتماعي و الاقتصادي بينهما.. و يمكن العودة إلى وحدتهما بصياغة مختلفة.. صياغة السودان الجديد الذي يتطلع إليه المخلصون من أبناء البلدين التوأمين.. و رغم أنف الانفصاليين..