البروفيسور عبد الله الطيب : أحاديث لما يزل أريجها باقياً

البروفيسور عبد الله الطيب : أحاديث لما يزل أريجها باقياً


09-27-2016, 01:04 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1474977851&rn=0


Post: #1
Title: البروفيسور عبد الله الطيب : أحاديث لما يزل أريجها باقياً
Author: عبدالله الشقليني
Date: 09-27-2016, 01:04 PM

01:04 PM September, 27 2016 سودانيز اون لاين
عبدالله الشقليني-
مكتبتى
رابط مختصر
البروفيسور عبد الله الطيب : أحاديث لما يزل أريجها باقياً



مضى الشهُداءُ الأولون وقُتِّلَتْ .. بُناةُ المعالي من لؤىِّ بن غالب
يَظَلوُّنَ في خَشْناءَ مِن شدَّةِ الأذى .. ويُمْسون صَرْعى تَحتَ ضوء الكواكِب
وما زالت الأقدارُ تَرْفعُ باطِلاً .. وتطمسُ ذا نور من الحقِّ ثاقب
وكَيفَ تَلَذِّينَ الحياة وما صَفَتْ .. بعلمِك إلاَّ للِّئام الأشائِب

من قصيدة للبروفيسور" عبد الله الطيب المجذوب "، نَظمها بعد سقوط ألمانيا سنة 1945 م . وكان العرب يُعلّقون آمالاً بهتلر ، وحُنقاً على إسرائيل . وقد أشار الدكتور "طه حسين " في الأدب المُعاصر إلى هذه القصيدة كاملة ، وقد نظمها البروفيسور" عبد الله الطيب" قبيل سفره الأول من السودان إلى الخارج ببضعة أشهُر .واقتبس البروفيسور "عبد الله الطيب" من البيت الشِعري : (صَرْعى تَحتَ ضوء الكواكِب ) من إشارة إلى ما اشتُهر من قول الصحابي" علي بن أبي طالب "يوم معركة الجَمل ، حين رأى مصرع الصحابي " طلحة " : ( أعزز عليَّ بأن أرى قريشاً صَرْعى تَحتَ ضوء الكواكِب ) .

يا له من صنَّاجة العربية ، يُخرِج الدُرر من التراث ، الذي فقدته أُمّم الناطقين بها !.
(1)

أول ما جمعني معه عام 1975 ، عندما كُنا نعمل في جمعية الفنون بجامعة الخرطوم ، بالتعاون مع جمعية طالبية أخرى ، من أجل استنفار كل منْ أسهم ويُسهم في أعمال الفنون التشكيلية . كان رئيسها من طلاب الجامعة آنذاك، هو الآن البروفيسور "صلاح حسن" من جامعة " كورنيل " بالولايات المتحدة الأمريكية ،وهو الذي تخصص في دراسة الفنون التي تسمى بالأفريقية ، و الذي استضاف لاحقاً، ذلك الفن العريق إلى حظوته الأكاديمية . فيه لمحات من حياة البشر الذين خرجوا من إفريقيا ، وانتشروا في العالم . والفن هو جزء من ذاكرة الإنسان القديم ، حين تتبَدَّى بغموضها الأثير في أعمال الفنون التشكيلية المنتشرة في عالم اليوم . وكان السودان ممثلاً في الفنانين التشكيليون والأجانب من أصول سودانية ، قد وَلَجوا دروب العالمية ، من بابها الواسع . وكان البروفيسور" صلاح حسن " من ضمن الذين أنجزوا دراسات مقاربة لقضية تمسّ الأوجاع الحقيقية المغروزة الآن في خاصرة الوطن .وأنجز مع مجموعة عشرة من الكتاب السودانيين وغيرهم ، السفر الموسوعي عن دارفور بالإنجليزية، نشرته جامعة "كورنيل ".ذلك جزء من مآل الذين نمت بذرة الفنون التشكيلية فيهم منذ حياة الطلب ، حيث كُنا نستضيف الفنانين التشكيليين من خريجي وطلاب " كلية الفنون الجميلة " وهو اسمها السابق و أيضاً الهواة . وصار معظم هؤلاء طرفاً متميزاً في نهضة الفنون التشكيلية بأنواعها في العالم .
(2)
تأسيساً لما ذكرنا ، استضفنا في" جمعية الفنون بجامعة الخرطوم" الفنان التشكيلي " عبد الله عبد القادر " عام 1975 وكان حينها يعمل موظفاً في وزارة الزراعة في الخرطوم ، وهو من منطقة " مدني السُني " ، الحاضرة الثانية من حواضر سودان سبعينات القرن الماضي . كان الفنان التشكيلي" عبد الله عبد القادر " يرسم بالخيوط الملونة والمنسوجة على براغي صغيرة الحجم ، مثبتة على لوح خشبي . وكان يرسم على اللوح رسماً تشكيلياً، كخلفية تشكِّل جسداً فنياً مُكملِاً لتشكيلة الخيوط الملونة الغزيرة بأشكالها فوق اللوحة . هارمونية على خطى النهج الموسيقي . كان الكمبيوتر في زماننا ذاك طفلاً رضيعاً عندنا ، رغم أنه قد شبَّ عن الطَّوق خارج فضاء السودان . لأن العمل اليدوي الذي كان يعدّه الفنان التشكيلي " عبد الله عبد القادر "بمهارة وصبر ، أضحى اليوم في حاضرنا إنجاز يتم بالبرامج الرقمية .

(3)

من بعد الغروب ذات يوم من أيام العام 1975 ، زرنا مسكن البروفيسور" عبد الله الطيب " عندما كان مديراً لجامعة الخرطوم .وكان مجاوراً لمباني " كلية الهندسة والعمارة " بمجمّع وسط الجامعة . وهو مسكن تنقل قاطنيه تعاقبوا خلال الحقبة الاستعمارية ، حتى شغله مدير جامعة الخرطوم .كنتُ برفقة الفنان التشكيلي " عبد الله عبد القادر " ، لأنه وعد زوج "عبد الله الطيب" الفنانة التشكيلية " جريزلدا " بإعادة لوحة اشترتها من المعرض ، على وعدٍ بإعادتها بعد انتهاء العرض ، وكُنا قد أقمناه داخل كافتيريا " كلية الهندسة والعمارة " في ذات التاريخ . تعرّفت على الرجل ، وصافحته أول مرة ، وكانت الفنانة التشكيلية " جريزلدا " غائبة عن مسكنها . تجاذبنا معه أطراف الحديث دون أن يعرف أنني إذ ذاك طالب في جامعة الخرطوم . ودون أن أشعر وجدت في الرجل مسحة من حنين الآباء وقلوبهم الوَجِلة وتقوّاهم وتبّتلهم بقبس من الذكر الحكيم وفق ما يتيسر المقام والمقال ، يكاد أن يمسسك نوره وقد غالبُك الضياء . صاحب الدار جالس يُلاطفنا . نسيج وحده ، ونحن نشهد سماحة تعليقه على اللوحة بأذان صاغية . وقال البروفيسور إن " جريزلدا " لديها معرفة بهذا الضرب من الفنون ، أما هو فلم يزل ضمن ناشئة العارفين بهذا الفن . خرجنا من مسكنه بعد الضيافة المُعتادة ، وكانت تلوح في ذهني أسئلة عن الرجل وبنيانه العلمي، وتواضعه الجّم .
(4)

التقيته في المرة الثانية ، عند زيارته لمكاتبنا في الإدارة الهندسية بجامعة الخرطوم، أوائل تسعينات القرن الماضي ، بعد أن تمّ تعيينه رئيساً لمجمّع اللغة العربية في السودان ، وكان يتبع رئاسة الجمهورية حينذاك . وهو من القرارات النادرة التي تصبُّ في مصلحة اللغة العربية في السودان ، باختيار عيناً ذات معرفة ودراية باللغة العربية وآدابها .و له عمل نشط في مجامع اللغة العربية ، علماً بأن البروفيسور "عبد الله الطيب " قد دخل " مجمع اللغة العربية بالقاهرة " مُرشحاً من قبل الدكتور " طه حسين " عام 1961 ، وكان " طه حسين " أول من دوّن مقدمة لسفرٍ البروفيسور "عبدالله الطيب" ( المرشد في فهم أشعار العرب وصناعتها – وهي خمس مُجلدات ) ولم يكتُب مقدمة لكاتب آخر خلال حياته ، لذا كان اختيار البروفيسور للمنصب وتأسيس " مجمع اللغة العربية في السودان" ،اختياراً صادف أهله على غير ما عهدنا من خيارات .
(5)
اجتمع البروفيسور" عبد الله الطيب " بالدكتور " عبد النبي علي أحمد " وكان الأخير يشغل منصب " مدير الإدارة الهندسية بجامعة الخرطوم " ، واستدعاني السيد مدير الإدارة وكُنت نائبه . وطلب البروفيسور " عبد الله الطيب "أن تقوم الإدارة الهندسية بجامعة الخرطوم ، بتصميم الإضافات التي تُناسب المرجلة الأولى من مبنى " مجمع اللغة العربية " ، وكانت قطعة الأرض التي وقع الاختيار عليها ، ملاصقة لمبنى الإدارة الهندسية بالجامعة ، ويطلان كلاهما على " شارع الجمهورية " . كانت قطعة الأرض المخصصة لمجمّع اللغة العربية بمساحة تبلغ 1200 متراً مربعاً. وكانت قطعة الأرض سابقاً تابعة لملكية جامعة الخرطوم . بها مبنى قديم من طابق أرضي ،شيدته "وزارة الأشغال" في زمن سابق ، بحوائط حاملة . *طلب الدكتور " والصديق " عبد النبي على أحمد " أثناء الاجتماع موافقة إدارة الجامعة على هذا التكليف ، لأن " مجمع اللغة لا يتبع " لجامعة الخرطوم ، وفق قرار التأسيس.وفي الختام تمّ للبروفيسور ما أراد ، وطلبنا احتياجات و النشاطات المطلوب إقامتها، لأننا بصدد المواءمة بين المتطلبات العصرية ذات البُعد الجمالي والهندسي ، ومتطلبات المرحلة الأولى من التأهيل بدأ بدراسة أساسات المباني القديمة وإن كانت جدران المبنى الحاملة ،تمكِّنها من تحمُّل طابق إضافي ،متَّبعين الموجهات المعتادة كتقليل الكلفة قدر المستطاع . كان التقدير الأولي ، يبلغ حوالى ستة عشر مليوناً من الجنيهات السودانية عام 1991.وكانت التقديرات قد أخذت في الحسبان الانخفاض المتواصل لسعر العُملة المحليّة ، و ضمور حجم العملات الأجنبية ، مع رفع شعار " نأكل مما نزرع " بعد الخصومة الاقتصادية والسياسية مع الآخرين ، والمعروفة بمحاولة نقل كل العالم في قاطرة قديمة تقود إلى المجهول !. وهو المشروع الذي يسير إلى حتفه ،في طريقٍ سدّ معه الأفق السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وكافة متطلبات النهضة .حار في علاج مأساة الوطن كل أطباء السياسة ، فالتنظيم السياسي الكهل الممسك بالسلطة، يرفُض العلاج ولو أنه على أبواب الغيبوبة الكُبرى!!! .
(6)

في يوم من الأيام جاء البروفيسور لمكاتبنا في الإدارة الهندسية ، وكان تأهيل مبنى " مجمع اللغة العربية " همّه الشاغل . أخذ مجلسه بيننا . استضافه زميلنا وصديقنا " محمد البشير " لتناول الشاي الأحمر . وأصرَّ أن نُجيب مطالبه جميعاً قبل أن يتناول الضيافة المتواضعة. وكان له ما أراد .واستأنسنا بالحديث معه ، وكانت له خصال اللطف وكاريزما جاذبة تُزينها هيبة العلم والتواضع . خليط هو من كل أولئك ومن غيرها أيضاً . سألتُه عن قضية تشابُه شعِر الشاعر " زهير بن أبي سُلمى " مع نص قرآني ، كان قد ذكره البروفيسور في حلقة تلفزيونية في القناة السودانية ، فقال لنا ساعتها تلك:- كان الشاعر في جاهليته أقرب ما يكون إلى الإسلام ، إذ قال :فلا تكْتُمُنَّ اللهَ ما في نفوسكم .. ليُخفى ، ومهما يُكتمِ اللهُ يَعلمِيؤخرْ فيوضع في كتابٍ فيُدّخرْ .. ليوم الحِساب أو يُعجَّل فيُنْقمِوتلك تشابه آية :إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ﴿١١٠ الأنبياء﴾ كمثال ،كما إني أزعُم أن الشاعر "زهير بن أبي سُلمى" كان يأتي للطّواف حول الكعبة كعادات العرب عند زيارتهم " مكة "، وأنه استمع إلى القرآن وقد تناقلته الألسن ، واقتبس عنه. وتداولنا الحديث مستفسرين عن أن نظمه الشعر كان في زمن الجاهلية ، والاقتباس المنسوب إليه تمّ من بعد الرسالة . كان حديثاً مُحفزاً لقراءة التاريخ ومقارنة النصوص ببعضها .
(7)
في جلسة عامرة بالود ، ضمَّت شخصي والدكتور " عبد النبي علي أحمد " والبروفيسور " عبد الله الطيب " . أغلق مدير الإدارة الهندسية الباب على مكتبه . وانفتح الحديث الخاص :تحدث البروفيسور " عبد الله الطيب " عن أن " الدفاع الشعبي " قد طلب منه أن يقدم محاضرة في اللغة العربية للمُجندين في مُعسكر " القطينة "! . وقد ردَّ البروفيسور على الطلب رسمياً ، ذاكراً أن الطلاب منذ القِدَم يسعون وراء العلماء ودُور العلم ، ويشدّون إليهم الرِّحال ، لا أن يسافر لهم العلماء . وطلب أن يحددوا عدد الطلاب ، وسوف يقوم "مجمع اللغة العربية " بإعداد برنامج دراسي في مقره بالخرطوم ، ويقوم على المحاضرات نفرٌ كريم من متخصصي اللغة العربية ، إن كان هنالك من ضرورة .وعلق البروفيسور على الموضوع:

- يبغون لي الذِّلة آخر العُمر ! .

وفي سؤال عن قضية الحرب الجهادية المُعلنة آنذاك، ومشروعيتها :تحدث البروفيسور حول الجهاد الحربي ،وقال إن أربعين من الصحابة والتابعين أفتوا بألا تُشن الحرب الجهادية على مناطق الهجرة الأولى ، ويُسمح بإنشاء المساجد والدعوة بالحُسنى . وهي تشمل في زمانهم : جنوب مصر وأثيوبيا الحالية وأريتيريا الحالية والصومال وتشمل مناطق جنوب السودان . وقال إن كثيرين من قادة الحُكم آنذاك في السودان ،كانوا يسألونه عن ذلك فُرادى، كأن الشّك يداخلهم في الأمر!.وعند سؤال البروفيسور عن الرأي العام ، وأن هناك كثيرون يريدون أن يعرفوا هذا الرأي في العلن ، أجاب البروفيسور " عبد الله الطيب " :

- أنا أعلم في اللَّغة والدِّين ، ولكني لستُ سياسياً . كثيرون ممن سألوا فُرادي ،كان ردي عليهم بقدر السؤال .

(8)
في ضحى يومٍ من أيام العُمر ،أوائل التسعينات من القرن الماضي وقد اكتمل تشييد " مجمع اللغة العربية " . قدِمنا للبناء وقد اكتمل . رأينا نحن في الإدارة الهندسية إن يُشير البروفيسور " عبد الله الطيب " أحد المُختصّين في تجميل الحديقة الأمامية للمبنى ، وكان المدخل الرئيس يُقسِّم المكان المُقترح للحديقة نصفين . وكانت في الجانب الأيمن للمدخل شجرة " جوَّافة " ، نَمَتْ مُختلَّة القِوَام . قبيحة تُغطي واجهة المبنى ، فرأينا تقليمها أو اقتلاعها واستبدالها بتجميل طبيعي يُلائم المدخل والمبنى . كان رأي البروفيسور أن يُبقي على الشجرة كما هيّ وذكر أن " العَيْن حَق ". وذكر لنا الأسانيد من آي الذكر الحكيم ومن موثوق الأحاديث، حتى تراجعنا عن مشورتنا تلك .*وحدث لاحقاً بعد عدة سنوات أن عاد من المملكة العربية السعودية ، بعد أن نال جائزة القرآن الكريم من المملكة العربية السعودية ، مناصفة مع أحد تلامذته . زار سفارة السودان بلندن . و عند مقدمه ، التقاه السفير " جمال محمد إبراهيم " وكان حينها يعمل نائباً للسفير الدكتور " حسن عابدين " سفير السودان في المملكة المتحدة . وعند مغادرته السفارة ، رآه أحد القادمين . وسأل عنه ، فقيل له إنه البروفيسور" عبدالله الطيب "، فقال :

- لم يزل شاباً لا تبدو عليه الشيخوخة !؟

وفي ذات اليوم ،سقط البروفيسور في غيبوبة ، لازمته إلى رحيله ! .نورد من الذكر الحكيم : " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ". التوبة 51. ما أعظمها سيّرة ، وما تجمَّل اليراع إلا بذِكر الأبرار الذين أسهموا في نهضة الثقافة بكل رافعاتها الممكنة ،من الذين نحسبهم من أهل الباسقات التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ، بإذن واحد أحد. نسأل مولانا أن يطعم البروفيسور " عبد الله الطيب " والدكتور " عبد النبي علي أحمد " من طعام أهل الجنة ، إنه نعم المولى ونعم النصير.المراجع :
- مقابلات شخصية مع البروفيسور عبد الله الطيب
- عبد الله الطيب ، أصداء النيل ، دار جامعة الخرطوم للنشر ، الطبعة الخامسة ، ...
- زهير بن أبى سُلمى ، ديوان زهير بن أبى سُلمى ،..

عبدالله الشقليني 24 سبتمبر 2016
*