هذا المقال عبارة عن امتداد لمقال سابق نشر بصحيفة القدس العربي على جزئين في عدديها رقم 2718 الصادر في يوم الجمعة 06/02/ 1998م ورقم 2719 الصادر يومي السبت/الاحد 07/08/02/1998م تحت عنوان " نقد التجربة السياسية السودانية " . فقد اقتضت المستجدات تدارك بعض ما غفل عنه من تصورات حول شكل وكيفية إدارة الدولة في السودان. فبعد مرور نحو (18) عاماً على تاريخ النشر، يبدو وكأننا لم نتدبر الماضي ولم نعتبر. فالأفق السياسي بات أكثر انسداداً من ذي قبل ، ولم يعد هناك من أمل يرتجى ، بعد أن أضحى شعار المسئولين اعادة الأشياء سيرتها الأولى !!!. التي لو كانت محمودة فلماذا أتوا.!!! سردنا في مقالنا المذكور مراحل تجريب السودان لضروب أظمة الحكم السياسية والإدارية ، وقلنا إن ذلك كان كافياً لأن يكوّن لدى سياسينا ، لو توافروا على البصيرة والضمير، مخزوناً سياسياً يعينهم على أن يبحروا بالوطن إلى بر الأمان. وخلصنا في مسألة المفاضلة بين الأنظمة إلى أنه لو كان نجاح أي نظام سياسي يقاس بتوفيره الحريات وتحقيق التنمية والأمن والإستقرار مع ضمان التداول السلمي للسلطة ، فإن الأنظمة العسكرية/ الشمولية غالباً ما تغلب قضايا التنمية والأمن والإستقرار على قضايا الحرية والتداول السلمي للسلطة، كونها تحاول بناء مشروعيتها على ما تحققه وتنجزه في هذه المجالات حيث لا مشروعية دستورية لها ، في حين تغلب الأنظمة الديمقراطية قضايا الحرية والتداول السلمي للسلطة على غيرهما وتعمل على بناء دولة العدالة والمساوة وسيادة القانون ، لاستمدادها الشرعية من الدستور والسند الجماهيري. ومع مسالب النظام الديمقراطي ، كونه يقوم على الصراع والتنافس الحزبي على السلطة والمكايدات ، ومع صعوبة نجاعته في بيئة اجتماعية تسود فيها القبلية والمحسوبية ويعمها الفساد، فإنه يبقى النظام السياسي الأفضل المتاح للتبادل السلمي للسلطة ، وبالاخذ في الاعتبار استيلاده من رحم حروب ومعاناة طويلة ، فإن غرسه في بلادنا قد يقتضي بعض التحوير والمزاوجة ببعض الموروثات. إن المشهد السياسي الراهن في بلادنا ينطوي علىى أربعة قضايا تحدد مستقبل ومصير كل حكم ونظام. و لا أمل في الإستقرار والتقدم دون وضع معالجات ناجعة وعملية لها . فهناك :-
• الطائفيةالسياسية التي لازمت حياتنا منذ الإستقلال وحتى يومنا هذا وأصبحت رقماً سياسياً تعذر تجاوزه، مع استحالة نمو وتطور واستدامة الديمقراطية في ظلها. • ثم قضية الشريعة الإسلامية التي اضحت قميص عثمان السياسة السودانية ، وشكلت احدى أكثر القضايا نفوذا وتأثيراً في تاريخنا السياسي المعاصر . • و القبلية التي أطلت برأسها اليوم بأكثر واشرس مما كانت عليه من قبل، كنتيجة حتمية لتفكك وتصدع الإحزاب الوطنية الكبيرة، التي استوعبت الكافة في فترة من الفترات ، وعند تصدعها لم يجد منتسبيها من ملجأ يحتمون به وينتسبون اليه ، سوى العصبة والقبيلة. فكان أن قامت على أساسها الكثير من الأحزاب والتنظيمات ما بات يشكل مهدداً رئيساً لوحدة واستقرار البلاد. • ثم قضية تسيس الخدمتين المدنية والعسكرية وتدخل الأخيرة في السلطة . ولا بد أن يكون أهل الحوار قد تطرقوا لهذه القضايا المحورية بشيء من التفصيل في اجتماعاتهم وقتلوها بحثاً في مداولاتهم وحواراتهم ، وليس من السهل أن يجمعوا حولها برأي ولربما اختاروا حلاً وفاقياً وسطاً يرضاه الجميع خوفاً من فشل وانهيار الحوار مع ادراكهم لطبييعته النظرية وضعف مردوده العملي. ونقترح من جانبنا الحلول والمعالجات التالية التي وإن كانت صادمة وموجعة للبعض وتستوجب الكثير من التنازلات والتسويات التاريخية من كل الأطراف ، فإنها ناجعة وباترة للداء بإذن الله وتوفيقه . 1- الإقرار بأن الديمقراطية أو الشورى قيمة دينية قبل أن تكون إطاراً مستجلباً ، فنحن مستخلفون لإعمار الأرض باسم الله وبما يرضي الله. ولنا ان نختار ونوكل من يرأسنا في أداء هذا الإستخلاف على أن نراقبه لنقومه ونحاسبه متى اخطأ. وهي افضل نظام سياسي متاح . فإذا أقررنا ذلك تعين علينا أن نحمي هذه الديمقراطية مما يقوضها ويحول دون استمراريتها واستدامتها بما سيأتي ذكره من تدابير. 2- أن تكون جمهوريتنا برلمانية لا رئاسية وذلك لما سياتي من تدبير. 3- أن نقر بأن إدارة الدولة السودانية ظلت وستظل ، ربما إلى أمد غير قصير ، رهينة القوى الطائفية ممثلة في ببيتي المهدي والميرغني ، يتنازعانها ويوجهانها بأغلبيتهما الميكانيكية التي استعصى اختراقها على كل المحاولات ، فأنصارهما وإن مالا الدكتاتوريات العسكرية إلى حين ، فإنهم ما يلبثوا يعودون إلى أصولهم الطائفية . ولذلك فلا مناص من استصحاب ذلك في حواراتنا والتراضي على الدخول في تسوية تاريخية مع هذين البيتين ، يخرجان بموجبها من الحياة الحزبية السياسية إلى الأبد ، بما في ذلك النأي عن تشكيل أو تأييد أو مباركة أي حزب سياسي علناً أو سراً بأي صيغة من الصيغ. وفي مقابل ذلك توافق جميع الأحزاب والتنظيمات السياسية والفعاليات الأجتماعية على أن تخصص لهما وحدهما منصب رئاسة الجمهورية (البرلمانية)، يتنافسانه حصراً فيما بينهما ، بأن يقدم كل بيت منهما مرشحاً للرئاسة ، تسميه كلية أسرته، فيعرض المرشحان على الشعب في إنتخابات قومية ، يكون الفائز فيها الرئيس والآخر نائبه. مع النظر في اعطاء أبناء البيتين الأفضلية في التعيين في سلك القضاء والسلك الدبلوماسي إذا استوفوا الشروط المطلوبة. وأن تحدد سلطات رئاسة الجمهورية في أمور أهمها تعيين وعزل وقبول استقالة رئيس وأعضاء الجهاز القضائي ورئيس واعضاء المراجعة العامة ورئيس وأعضاء المحكمتين العليا والدستورية ولجنة الإنتخابات. وقد يكون في نظام كهذا نوع مزاوجة بين الملكية والجمهورية ، ولعله أن يكون مناسباً لنا ولاستقرار بلادنا. 4- أن تتراضى جميع الأحزاب والتنظيمات السياسية ، الإسلامية منها والعلمانية ، على بقاء قوانين الشريعة الإسلامية القائمة ، وطي صفحة النقاش حولها والتنافس باسمها ، والتوقيع على وثيقة بذلك . وأن يستتبع ذلك منع قيام أو تأسيس أو تسجيل أي حزب على أساس ديني وحظر الزج بالدين في السياسة. 5- منع قيام وتأسيس الأحزاب والتنظيمات السياسية على أساس قبلي أو عرقي ، أو الدعوة والمناداة بذلك في برامجها ، مع إعطاء كل أبناء الوطن حقاً متساويأ في التنافس على الوظائف والعمل والإقامة في أي مكان من أرض الوطن والترشح لأي منصب دون النظر إلى عرق أو إنتماء قبلي أو جهوي. 6- النأي بالجيش عن السياسة والتجارة ووضع الضوابط الضامنة لذلك. والتواثق الصادق على عدم الإعتراف أو التعاون مع أي إنقلاب عسكري. 7- التاكيد على حيادية الخدمة المدنية والنأي بها عن السياسة وتعيين وكلاء الوزارات على أساس الكفاءة والأقدمية الوظيفية ووفقاً لتنافس حر ونزيه ، بما يضمن تعامل رئاسة الجمهورية مع وكلاء الوزارات في تسيير الشئون اليومية للدولة في حالة غياب الحكومة لأي سبب من الأسباب فلا تتأثر البلاد والعباد بأية هزة سياسية . وأخيراً فقد يرى البعض قضايا أخرى لا تقل أهمية عن تلك التي ذكرنا، كقضية الهوية ، وقد تكون حظوظ القبول بما اقترحنا من معالجات ( خاصة "3" و"4" منها ) منعدمة أو ضعيفة ، فهكذا حظ بلادنا من الإسقرار !!! حمى الله بلادنا وحفظها من القلاقل والإضطرابات وحقق لها الاستقرار في إقليم أقبل وسيقبل على مزيد من الهزات . " والله خير حافظا وهو ارحم الراحمين" فيصل علي سلمان