ذات يوم صيفي و أنا عائد إلى منزلي ، ألتقاني الأديب و القانوني الراحل الاستاذ عمر علي أحمد و سألني ما إذا كنت أكتب هذه الأيام ، فكان يقول إنه يحب ما أكتب . فأخبرته إني عائد لتوي من صحيفة الأيام حيث دفعت باخر مقال ، و تأخرت هناك لأني ألقيت الاستاذ السر مكي و تحدثت معه عن اخر ما جاء في عموده ( أضواء و مفارقات ) و صفحته الأسبوعية ( لقاء الأربعاء ). فوقف الأستاذ عمر في منتصف الطريق ليقول لي إنه لم ير كاتبا صحفيا يحب الشعب السوداني من جوه قلبه بهذا القدر الذي تعبر عنه كتابات السر مكي . كان ذلك منذ حوالي العقد و النصف . و منذ تلك اللحظة أطلقنا عليه لقب حبيب الشعب . و كان ذلك سبب التسمية . ( إن العنصرية هي شكل من أشكال الجبن البشري ) . ( حريتك لا تنتهي حين تبدأ حرية الاخرين إنما حريتهم شرط لتلك ) . كانت تلك اخر العبارات التي رددها الراحل الكبير الأستاذ السر مكي . و في حقيقة الأمر هي اخر ما يقدمه و يدعو له الرائد السياسي لأخيه الإنسان . غير إن تلك الأقوال التي كان يقولها و يكتبها حبيب الشعب ، لم تكن تخرج من ذات رومانسية متأملة أغرقتها فيوضات دلقتها لغة الكون ، إنما هي تخرج من ذات ملتحمة بالواقع الذي يعيش فيه ، و يعيش به ، و يعيش له . فقد كان الراحل الكبير مشروعا سياسيا و اجتماعيا يمشي بين الناس ، كان يفتح ذراعيه للجماهير ، ليضم كل الفئات التي لها مصلحة مباشرة في التغيير .. في حقيقة الأمر ، يقوم مشروع السر مكي السياسي و الاجتماعي ، بالأساس ، على اشراك الجماهير في وضع أولوياتها و دعمها في تقرير مصيرها بنفسها . ولعل هذا ما تفرد به حبيب الشعب عن سائر السياسيين الذين حظيت أو ابتليت بهم بلادنا . إذ كانت و ما تزال هذه القيادات تفكر بطريقة أبوية حيث تعتقد أنها تعرف مصلحة الشعب و تريد رفاهيته و باتالي تحاول سوقه إلي ذللك الاتجاه . و ربما يكون هذا الأمر هو الخلل الكبير الذي أدى إلي عزل الجماهير ، و حجب عنها القدرة لتصوغ مشروعا سياسيا و اجتماعيا ، يترجم امالها و احلامها ، و تجلى ذلك الخلل في ما أصبح يعرف بالدورة الشريرة من الانقلابات و فترات الديمقراطية العجولة المضطربة . قرأ السر مكي هذا الأمر قراءة صبورة و عزا ذلك إلى ما أسماه هشاشة التفكير السياسي منذ الاستقلال في العام 1956 ، و كتب عنها سلسلة مقالات نشرتها الأيام تصلح لتكون مرجعا هاما يضرب بسهم وافر في قضايا التغيير و يرسم إضاءات على طريق صوغ المشروع الوطني الضائع أو المضاع ليقبل عليه الشباب يكبرون به و يكبر بهم . قاد هذا التفكير السوي السر مكي لدعم مشروع الحركة الشعبية بالطريقة التي طرحها بها الدكتور جون قرنق . و هو المشروع الذي ساهم في إيقاظ جموع المهمشين لينخرطوا في عملية التغييرلإعادة توزيع الثروة و السلطة بحسبانها الضامن الوحيد للاستقرار و التطور الذي نستحقه . فكان تفكيره أن تواصل الحركة الشعبية انحيازها لقضايا الجماهير و اشراك هذه الجماهير في القرار الذي هو مصلحتها بالدرجة الأولى ، و كتب كثيرا في هذا الاتجاه ، و حذر من أن تفقد الحركة الشعبية زخمها وسط الجماهير، التي استقبلت زعيمها و منحته ثقتها في يوم مشهود في الخرطوم ، و تتحول إلى مجرد حزب سياسي يكتفي بما جاءه من نصيب في الثروة و السلطة بناء على اتفاقية السلام الموقعة في نيفاشا عام 2005 . و لكن تمضي الأيام و يحدث ما حذر منه السر مكي . فلم تقف الحركة الشعبية عند تحولها لحزب فحسب ، بل خانت جماهيرها و تنكرت لهم و عزمت على الإنفصال بحجة أن شريكها المؤتمر الوطني أعاق عملها و كأنها كانت تنتظر أن يتبنى المؤتمر الوطني مشروعها !! شرع السر مكي في محاولة تكملة نقائص الحركة الشعبية و ضعف أدائها ، و استكانتها ، و استمرائها للعمل المكتبي بعيدا عن الجماهير ، فنادى بعضا من أصدقائه الذين يشبهونه في طريقة التفكير ، طارحا عليهم محاولة دعم الحركة الشعبية و تشكيل نوافذ سياسية تطل بها على الجماهير لإدراكه أن الجماهير الواعية هي التي تصنع برامجها عبر التفافها حول مصالحها الحياتية المباشرة . فالسياسة عند السر مكي ليست مجرد شعارات و خطابات ، إنما هي ملامسة لما يهم الناس في اللحظة الحاضرة . و هو ما كان يطلق علية الطريق لتكوين الكتلة التاريخية . و لكن توقفت محاولاته تلك لأسباب لا أعرفها . كان السر مكي عميق البحث في جذور الثقافة الإنسانية عموما و السودانية خصوصا ، يوظفها ببراعة ، ليدعم مشروعه المتصالح مع مكونات الشعب السوداني ، باعتبارها اسس نهضته التي ينهض بها ، و من ثم يستطيع أن يساهم بها في حركة المجتمع الإنساني . كان يطربه التدين الشعبي المتسامح العطوف . و كان يحتفل بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب و هو يخاطب بطنه التي تقرقر من الجوع قائلا لها : قرقري أو لا تقرقري و الله لن تذوقي الطعام حتي يذوقه الفقراء أولا . كان السر مكي شديد الالتزام بالانحياز للفقراء و النساء ، شديد الحساسية تجاه إنصافهم ،عظيم الهم لهم كأنه نبي لم يأتي إلى هذه الدنيا إلا لإنصافهم و توفير الحياة الكريمة لهم . برحيل السر مكي فقد الشعب السوداني نصيرا عزيزا و قويا مدافعا عنه حتى اخر قطرة من قلمه . أعزي نفسي في فقده فهو من الذين ترى أن وجودهم كان كان ضروريا لهزيمة الشرور في هذا العالم المجنون ، فلكأن السر مكي لم يأت إلى هذه الدنيا إلا ليرسم الإبتسامة في الوجوه العابسة . و عزائي ما حفظته لنا التكنولوجيا من إرثه على صفحته الالكترونية .assirmakki.blogspot.com إن الإرث الذي تركه حبيب الشعب ليس ملهما فحسب ، إنما هو معلم بارز في تطور الفكر السياسي في السودان ، يرشد الأجيال لتتحسس خطاها و هي سائرة إلى مبتغاها ، مسلحة بما قدمه السر مكي من وعي نوعي ، يقوم على احترام الاخر و الاعتراف به ، و البناء على ماهو مشترك ، و الانفتاح على المستقبل و العالم . كان السر مكي حزبا سياسيا باكمله ، و كان مدرسة في صدق توجهاته لا يحيد عنها . كان يجمع ، بشكل عجيب بين الصرامة في التفكير و الوداعة في التعامل مع الناس .
اللهم يا سيد الأكوان و الأبدان و الأرواح ، يا أيها المتناغم الجميل الممتد ، القديم الجديد المتجدد ، الواحد الأحد اللامنقسم ، ارفعه مقاما فوق مقامه إنك أنت الرا فع المقيم .