-1- القوة هي المعرفة أو بلفظ أكثر انضباطا هي العلم ، فلا قوة بلا علم ، ولنكن أكثر دقة لابد لنا أن نذهب أكثر تفصيلا فيما نقصد بالقوة وما نقصد بالعلم ، فالعلم المقصود هنا ليس هو العلم المرادف للفظ science باللغة الانجليزية ، هو ليس العلم الذي يخضع للنظرية العلمية بمافيها من فرضية وتجربة واعادة التجربة وهكذا ، وان كانت تمثل جزء من العلم ولكنها ليست كل العلم ، هي فقط تتحرك في إطار صغير وحيز ضيق جدا في إطار العلم الأكبر والأكثر شمولا ، العلم بمعناه الفلسفي والجدلي الذي يربطه بصورة دائمة ومستمرة كمرادف للحقيقة فالفرضية العلمية في النهاية ومع كل ماأنتجته من معارف وعلوم كانت وستظل دائما تسعى للوصول إلى الحقيقة . هذا المفهوم ضروري جدا للتأكيد على قصور الفرضية العلمية الحالية وتطبيقاتها وإن كانت قد وصلت لفتوحات كبيرة في كل المجالات ، وإن كان عالم اليوم قد أخذ شكله الحالي المتطور والمليء بالمدهش من المعارف والاكتشافات إلا أنه يظل عاجز تماما عن تفسير جل كبير من الموجودات والظواهر بتطبيقاته وفرضياته الحالية ،فيمكن أن نقول وبكل ثقة أن العلوم الحالية لا تحمل في جعبتها إلا جزء فقط من الحقيقة ، هو نفسه هذا العلم يأخذ قصوره من كونه نسبي ، فلا يوجد مايدعى بالفرضية العلمية المطلقة ، فما كان في يوم من الأيام فراغا وعدما تبعا لنظرية علمية أصبح اليوم مادة ونواة وموجات كهرومغناطيسية ، الإطلاق صفة لايمكن إسقاطها على العلم ، لأن أصل العالم –بكسر اللام- وأصل كينونته العقلية يتمثل في قدرته على التشكيك وإحالة النسبية على كل شيء من حوله . -2- لابشر يمتلك الحقيقة الكاملة ، ولا يوجد على سطح هذه البسيطة ما يمكن أن نطلق عليه معرفة كاملة أو مطلقة وبالتالي لا وجود لقوة كاملة أو مطلقة ، فنحن جميعا نتحرك دوما وبصورة مستمرة في إطار النسبي الذي قد يتغير ويتبدل تبعا لتطور واقعنا ومفاهيمنا المختلفة . هذا الإطلاق المرفوض في الإطار العلمي المدعوم بالنظرية والتجربة والتطبيق هو بالضرورة مرفوض وبصورة أكبر في مجال الفكر الإنساني النظري في إطار الاجتماع ، السياسة والاقتصاد ، وكما قيل فلا مطلق سوى الله ، وبالضرورة التأكيد على أن الإطلاق نفسه هو في النهاية ليس سوى توقف ارادي عن التفكير هو الإيمان بمسلمات وجعلها حقائق دون اخضاعها لعمليات التفكير والتمحيص المتتابعة . إن مفهوم الإيمان نفسه لا يمكنه أن يستوعب الإطلاق فالإيمان يبنى اساسا على نفي الشك والشهادة التي يدخل بها الشخص في الاسلام تبدأ بالنفي ، نفي الشكوك(لا) ومن ثم تثبت وتفرد بـ(إلا) أن ( لا إله إلا الله ) . -3- الايمان المطلق بالافكار بالنصوص وتفسيرات النصوص التي تمثل هذه الافكار ايا كانت تقف في ميزان الافكار والسياسة في اقصاه يمينا كان او يسارا تقف كمعضلة كبيرة امام مسائل التغيير السياسي والاجتماعي فالتصور المسبق والمحدد للمجتمع بشكل واحد وبأسلوب وطريقة واحدة للتغيير كوسيلة لاغيرها للخلاص ، يقف بصلابة امام كل محاولة تغيير لايبدو انها ستؤدي الى هذه النتيجة ، او ربما استحل في سبيل منع هذه المحاولة ماكان محرما بالمفهوم الميكافيللي حين تبرر الغاية الوسيلة ، فيتحول فجأة ما كان مرفوضا الى ضرورة مرحلة لابد منها لانفاذ البرنامج دفاعا عن الامة ، عن الطبقة او عن الحزب ايا كانت العقيدة فالنتائج في كل الاحوال متشابهة ، تمترس خلق إطلاق لا يقبل النقاش أو التفاوض . هذا الايمان وكما سبق التوضيح يتعارض مع أبسط أشكال المعرفة التي ترفض تماما كل ماهو مطلق ومحسوم مسبقا لاسيما كان ذلك في مجالات الاجتماع والسياسة والاقتصاد . -4- واحدة من أعمق أزمات الفكر في مجتمعاتنا المتخلفة وفي مجتمعنا السوداني بصورة خاصة هي أزمة الفكرة المطلقة أيا كانت وكان شكلها ، هذه الفكرة المطلقة تسيطر تماما على من يعتنقها فيصبح مأمور بأمرها أعمى وأصم عما سواها وهو مايبرر استسهال الموت والدماء في سبيل الدفاع عنها ونصرتها ، واستصغار القوانين والمؤسسات العامة أمامها ،هذه الفكرة والعقيدة المطلقة يتضخم تأثيرها عندما يكون المجتمع في طور التكوين ، لم ترسخ تجربته أو مؤسساته فيكون حينها مجالا مفتوحا وواسعا للتجريب ، ترعى وتزدهر هذه الأنواع من الأفكار والعقائد المطلقة في المجتمعات التي تبغض التفكير، التي تقتات على الجهل والإيمان الأعمى ، التي تطحنها الأيام وظروفها فتلجأ إلى آمال وهمية بالخلاص ، خلاص إن لم يكن في الدنيا فليكن في الحياة الأخرى ، وهو الذي باعتناقه تتضاءل أهمية الحاضر واللحظة الآنية في سبيل انتصار أيدلوجي لابد أن يأتي بالدم أو بالسلم . الدعوة للتفكير ستبقى قائمة دوما مابقي العقل ، التفكير في كل شيء ، محاربة الحقيقة المطلقة والمسلمات العقلية عبر التجرد والتمحيص الدقيق لكل ما يطرح كصواب وحقيقة . التغيير المنشود ، السياسي منه أو الاجتماعي يحتاج بالتأكيد إلى تنازل مشترك من كل أصحاب الأيدلوجيات لمصلحة الواقع ومعضلاته ، التعامل المباشر مع الواقع وإسقاط البرامح والحلول مباشرة عليه هو المخرج ، مع ضرورة التأكيد على نسبية هذه الحلول والبرامج وقابليتها للتغيير والتعديل تبعا لتغير الواقع المتبدل بصورة مستمرة .