يقول المفكر المصري سمير أمين عن مشكلة الهوية ( إن المجتمعات التي تطرح مشكلة الهوية، هي المجتمعات التي تعاني أزمة عميقة، فالمجتمعات الأخرى، لا تتساءل مثل هذا التساؤل، بل تواصل مسيرتها و تتغير دون أن تساءل عما سيؤدي إليه، هذا التطور، فالتساؤل عن الهوية هو دائما عرض من أعراض الأزمة و التأزم و المأزق) فالهوية تعبير عن أزمة تتمثل في غياب الحرية و الديمقراطية و ضياع الحقوق، و هي قضية تبرزها النخب في الدائرة الثقافية في كل المجتمعات، و برزت في المجتمع السوداني، ليس في الحقل السياسي، إنما برزت كإشكالية في النخب التي تشتغل بقضايا الثقافة و الأدب و الفنون، و كونت لها منتديات و مجموعات في قضايا جدلية، و انحصر الجدل حولها في عقود الستينات و السبعينات و الثمانينات في الساحة الثقافية السودانية " الغابة و الصحراء و أبادماك" ثم إنداحت لبعض الحقول، في عقود التسعينات و العقد الأول من القرن العشرين و حتى الآن أصبحت قضية أساسية في الأجندة السياسية، و وصولها إلي الحقل السياسي هو تعبير حقيقي عن أزمة سياسية. و إشكالية الهوية كانت مدخلا للمثقفين السودانيين، لمناقشة قضايا سياسية و لكن بأدواتهم، و ذلك يرجع لغياب الحرية و الديمقراطية، خاصة إن السودان منذ الاستقلال حتى اليوم، محكوم بنظم شمولية عسكرية، استمر حكمها أكثر من خمسين عاما، و اقل من عشرة سنوات لحكم ديمقراطي لم تكتمل أركان تأسيسه، هذا الغياب الكامل للحرية و الديمقراطية ، والتي تعد بيئات صالحة لازدهار و نمو الإبداع، كان لابد أن يدفع المثقفين السودانيين أن يقدم رؤيتهم في إشكالية نظام الحكم، لذلك أختار قضية الهوية باعتبارها مرتبطة بقضية الحقوق. و لا يمكن أن تطرح قضية الهوية دون الخوض في العوامل التي أدت إلي بروزها علي أجندة البحث، و لأنها أخذت من بيئتها التي طرحتها، و تحولت إلي الحقل السياسي، أخذ الجدل فيها شبه جدلا بيزنطيا، لأنه اعتمد علي الخطابات المفعمة بالأيديولوجية، الأمر الذي جعلها تتجاوز الحقوق الأساسية، و تعتبر هي إشكالية قائمة بذاتها، و هي تحل بحل القضايا السياسية، و حتى النخب السياسية جعلتها في أجندتها هروبا من الحديث المباشر علي قصورها و فشلها في تحقيق زيادة رقعة الحريات و خوفها من التحول الديمقراطي. و هذا يذكرني بحديث الباحث أحمد حيدر في كتابه " إعادة إنتاج الهوية" حيث يقول ( إن الهوية تنزع إلي أن تستكمل و جودها الثقافي بالوجود السياسي، إي إنها ترمي علي أن يكون ذات قوة فاعلة أو مؤثرة في الواقع الاجتماعي فالهوية هي المجتمع نفسه و هو يعمل علي إعادة إنتاج ذاته و لذلك كانت القوة السياسية للهوية هي قوة المجتمع ذاته و هو يعمل علي استعادة سلطته) إذن هي قضية سياسية مرتبطة بالحقوق السياسية و لكنها تعد مدخلا للتعبير السياسي في الحقل الثقافي. و لماذا هي قضية سياسي مرتبطة بالحقوق؟ عندما تعجز الدولة عن إنجاز مهامها في كل أقاليم البلاد، و يغيب العدل و القانون، و تقمع الحريات، و لا يوجد هناك طريقا لتوصيل الصوت و الرأي، يبرز العنف كأحد الأدوات السياسية، تعبيرا عن الرفض للسياسة القائمة، و تبرز الهوية كعامل مثير للجدل و لكن تثار بهدف إنها تستبطن حقوق أخرى تعجز النخبة عن إثارتها بشكل مباشر، لذلك تلجأ لقضية الهوية حتى تستطيع من خلالها إثارة جميع التظلمات، و لكن بعد الوصول إلي تفاهمات سياسية، و تتحول الدولة من الشمولية إلي الديمقراطية، و تتعدد المنابر التي تقبل الرأي الأخر، و تطرح القضايا بأريحية، تتراجع قضية الهوية، لأنها مرتبطة بالحقوق السياسية و الثقافية. و قضية الهوية أثيرت قبل الاستقلال في ثورة 24، و أيضا عقب انفجار تمرد 1955، الأمر الذي أثار حفيظ إبراهيم العبادي عندما قال:- جعلي و دنقلاوي و شايقي أيه فايداني---- غير خلاف خلي أخوي عاداني خلو نبأنا يسري مع البعيد و الداني ------ يكفي النيل أبونا و الجنس سوداني استطاع المجتمع أن يتجاوزهإشكالية الهوية، من خلال نشر الثقافة و التعليم، في المجتمع و تكوين المؤسسات التي أتاحت للنخب أن تقدم تصوراتها " نادي الخريجين و من بعد مؤتمر الخريجين" في ممارسات ديمقراطية، كانت مقبولة بمحدودية مساحة الحرية في وقت المستعمر، و عندما بدأ الصراع من أجل الاستقلال، حيث جاءت المؤسسات السياسية و أصبحت بديلا للبناءات الأولية، خاصة في التعبير عن القضايا الوطنية، و لكن عندما فشلت النخب في عملية الاستقرار السياسي، و ضاقت مساحة الحريات بفعل النظم الديكتاتورية العسكرية، و توسعت النزاعات في العقود الماضية، و أصبح العنف هو سيد الموقف، تم التراجع عن البناءات القومية، و رجع الناس إلي البناءات الأولية" العشائرية و القبلية" و ظهرت النعرات الإثنية بصورة كبيرة، بهداف البحث عن الحماية، لذلك زحفت قضية الهوية من ساحتها الثقافية إلي الساحة السياسية، لكي تأخذ بعدها بقوة تعبيرا عن إشكالية الدولة. يؤكد ذلك ما ذهب إليه الدكتور أسامة الغزالي حرب في كتابه " الأحزاب السياسية في العالم الثالث" حيث يقول ( أزمة الهوية تحدث عندما يصعب انصهار كافة أفراد المجتمع في بوتقة واحدة تتجاوز انتماءاتهم التقليدية الضيقة، و تتغلب علي أثار الانتقال إلي المجتمع العصري بتعقيداته المختلفة، بحيث يشعرون بالانتماء إلي ذلك المجتمع، و التوحد معه) و إذا اعتقد البعض إنهم سوف يصلون إلي تعريف بالهوية و حل كإشكالية قائمة بذاتها، يكونوا قد وقعوا في وهم الذات، فهي قضية مرتبطة بالأزمة السياسية و قضية الحقوق، خاصة قضية العدل و الحرية و الديمقراطية، أما إذا كانت النخبة تريد إثارة قضية جدلية لكي يصبح جدلا بيزنطيا لا طائل منه تناقش كموضوع قائم بذاته. و اله أعلم،. و نسأل الله التوفيق.