أولاد السكـة حديـد! (مذكرات زول ساي) ! بقلم فيصل الدابي/المحامي

أولاد السكـة حديـد! (مذكرات زول ساي) ! بقلم فيصل الدابي/المحامي


02-20-2015, 02:40 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1424439621&rn=0


Post: #1
Title: أولاد السكـة حديـد! (مذكرات زول ساي) ! بقلم فيصل الدابي/المحامي
Author: فيصل الدابي المحامي
Date: 02-20-2015, 02:40 PM

01:40 PM Feb, 20 2015
سودانيز أون لاين
فيصل الدابي المحامي - الدوحة-قطر
مكتبتي في سودانيزاونلاين



قال الزول الساي الما بقعد ساي وما بسكت ساي:
أولاد السكة حديد نسيج وحدهم لأنهم يعتبرون بدو وحضر في ذات الوقت، فهم حضر لأنهم يعيشون مع آبائهم من البرادين والسائقين في المدن الكبرى وهم بدو لأنهم يتنقلون كثيراً مع آبائهم من مدينة إلى مدينة! والدي كان براداً في السكة حديد أي أنه كان ميكانيكي وابورات بخارية، أنا ولدت في مدينة عطبرة ، تعلمت المشي في مدينة كسلا، وتكلمت في مدينة كوستي! ولهذا أصبحت مثل راجل التلاتة نسوان الذي ينزعج بشدة ويحاول الابتعاد عن مشكلة تحديد الانتماء بأقصى سرعة إذا سُئل: أي واحدة من الثلاثة تحبها أكثر؟!
السكة حديد في مدينة عطبرة ، مدينة كسلا ومدينة كوستي، كانت تعني لنا الحياة ، كنا نصحو من النوم على إيقاع صفارات السكة حديد ، درسنا الابتدائي في مدارس السكة حديد، كنا نتناول الفطور والغداء على إيقاع صافرات السكة حديد التي يسمعها الجميع من أبعد المسافات، أغلب أخوالي في عطبرة وكوستي وسنار، ومنهم حامد (المشهور بالمواطن) وجبريل وحسن وعلي ، كانوا عمالاً بالسكة حديد، وكانت عجلاتهم تنقلهم وتنقل الخيرات لمنازلهم وأولادهم، لقد ولدنا ، ترعرعنا وكبرنا من خيرات ومرتبات السكة حديد، أخي معتصم عمل عطشقجي سفري بالسكة حديد بكوستي وكسلا وطاف كل مدن السودان سائقاً لقطار لديزل ، أنا نفسي عملت بوظيفة عامل نظافة بسكة حديد كسلا قبل دخولي لجامعة الخرطوم حيث كنت أجمع الاسطبة والقمامة وأقوم بتكسير الفلنكة المسقية بالزيت واستفدت مادياً ومعنوياً من تلك الوظيفة المتواضعة والشاقة ، كنت أسافر دائماً بالقطار ، واسطح على ظهر القطار رغم أنني كنت احمل عادةً تذاكر الدرجة الثانية المجانية بحكم أن والدي عامل سكة حديد! ومن المفارقات التسطيحية العجيبة التي أذكرها هي أنني تنقلت ذات مرة من سطح عربة إلى سطح أخرى حتى وصلت إلى عربة المنامة التي تلي رأس الديزل مباشرة ، بغرض تفادي بصاق بعض المسطحين الذي يحمله الهواء إلى الخلف، لكنني ندمت على ذلك أشد الندم فقد كاد شعر رأسي يحترق من الشرارات التي كانت تنبعث من رأس الديزل وتتطاير إلى الخلف ولم أتمكن من مغادرة سطح المنامة الملتهب إلى سطح آخر آمن حتى توقف القطار في المحطة التالية!
السكة حديد كانت تعني الموت أيضاً ، في عطبرة وبالقرب من خليوة ، كان المرحوم دقله راكباً حماره وكان حماره يسير بين القضيبين ، لم يسمع دقلة صافرة القطار القادم نحوه بسرعة البرق لأنه كان يعاني من الصمم ، فرمه القطار مع حماره ووجد الناس صعوبة كبيرة في فرز أعضاء جسم دقله من أعضاء حماره، ومع علمنا بذلك الحادث المأسوي الفظيع، كنت أنا وإبن خالي عصام وإبن خالتي البدري نمارس هواية اللعب والسير بين قضبان السكة حديد كلما سنحت لنا الفرصة غير عابئين بالموت الذي قد يأتي راكضاً نحونا من أحد الاتجاهين في أي لحظة! إبن خالتي العزيز المرحوم خالد توفي في مدينة عطبرة عندما صدمه قطار ، لكن الحياة كانت تفلت من الموت بين قضبان السكة حديد في بعض الأحيان، أذكر جيداً أنني نجوت من موت محقق بفضل العناية الالهية فذات مرة، قررت القيام بمجازفة خطيرة بحكم خفة عقلي كمراهق طائش في ذلك الوقت فقد خرجت عبر سلم إحدى عربات القطار ثم قمت بمحاولة اعتلاء سطح القطار بينما كان القطار يندفع بسرعة كبيرة ، وعندما سحبت جسمي للأعلى بحركة اكروباتية ، انزلقت إحدى قدميّ بين العربتين لكنني استعدت توازني بسرعة قردية وتمكنت من الصعود إلى سطح القطار وأنا لا أكاد أصدق حتى الآن أنني نجوت من الموت بين القضبان في تلك اللحظة المرعبة! ذات مرة كنت مسافراً بالقطار من كسلا إلى عطبرة ، كانت الساعة الثانية والنصف ليلاً تقريباً ، كان الجميع نائمين ، شخص واحد كان مستيقظاً وكان يحدق في الظلام ، فجأة رأى ذلك الشخص جسماً بشرياً يسقط من القطار ، صاح ذلك الشخص ثم فتح الباكم، وفجأة توقف القطار، ترجلت مع مجموعة من المسافرين ورحنا نركض إلى الخلف بين القضبان آملاً في العثور على الشخص الذي سقط ليلاً من القطار ، فجأة شاهدنا منظراً لا يُصدق ولا يُنسى أبداً، كانت هناك طفلة صغيرة جالسة بهدوء وبخير في الرمال الناعمة وسط ثلاث رؤوس صخرية حادة ، حينما أضاء أحدهم نور البطارية في وجهها الصغير، ركزت عيناي في نظرات عينيها الصغيرتين، أقسم بالله العظيم أنني لم أر في حياتي مثل تلك الطمأنينة التي كانت تلمع في عيني تلك الطفلة الصغيرة، حملنا الطفلة بسرعة وعدنا إلى القطار، ثم بدأنا رحلة البحث عن أمها ووالدها ، كانت المهمة شاقة لأن بعض الركاب كانوا ما يزالون نائمين، بدأنا نبحث عن أم الطفلة في عربات الدرجة الثالثة ثم في عربات الدرجة الثانية ثم في عربات الدرجة الأولى، أخيراً قرعنا باب إحدى الغرف في إحدى عربات النوم ، فُتح الباب بهدوء ، أطل رأس إمرأة شبه نائمة لكنها ما أن شاهدت الطفلة حتى استيقظت دفعةً واحدة وأطلقت صرخة مدوية وصاحت فينا: في شنو؟! بتي مالا؟!
كنت وما زلت اعتقد أن معظم أولاد السكة حديد عُجنوا بمونة السكة حديد ، لهذا لديهم إرادة حديدية ، عناد حديدي وذاكرة حديدية، ولعل أبلغ تجسيد لذلك الواقع والخيال الحديدي هو أنني قررت ، عندما كنت في الرابعة عشر من عمري ، أن أتحول إلى قطار بشري وأسافر راجلاً بين القضبان من محطة كوستي إلى محطة الوساع، لم أخبر أحداً من أولاد الحلة ولا أهل بيتنا في مربع سبعة وعشرين بخطة الرحلة المجنونة، تحركت عند السادسة صباحاً نحو محطة الوساع ، دون زاد ولا ماء ، عندما بلغت الساعة الثانية ظهراً ، شعرت بالجوع والظمأ القاتل ولم تلح في الأفق أي محطة على الاطلاق ، عندها انبطحت على الارض وشربت من مياه راكضة متسخة أظنها تكونت من مطر سابق، ثم عدت أدراجي إلى مدينة كوستي ودخلتها حوالي العاشرة ليلاً ، ورغم أنني فشلت في الوصول إلى محطة الوساع كداري بعد مسيرة ستة عشر ساعة ، إلا أن فكرة القطار البشري ما زالت تسيطر علىّ بقوة حتى الآن، فحتى بعد أن امتلكت سيارة ، ما زلت أسير على قدميّ بلا توقف لمدة ساعة ونصف يومياً بهدف أو دون هدف ، فالمهم هو الانطلاق القوي والسير بقوة والاحساس بأنك حديد في حديد ولا نامت أعين السلاحف البشرية في أي مكان!
في الوقت الحاضر ، يُقال إن السكة حديد قد انتهت في السودان ، ورشة عطبرة ، عاصمة الحديد والنار، صارت صامتة وساكنة ومحاصرة بالنفايات، كل المحطات الكبيرة والصغيرة أصبحت مهجورة ، كل القطارات صارت متهالكة لعدم توفر قطع الغيار بسبب الحصار الأمريكي الجائر المفروض على السودان، الناس أصبحوا يسافرون بالبصات السريعة، والبضائع صارت تشحن بالشاحنات من بورتسودان إلى جميع مدن السودان ، لكنني أؤمن تماماً بأن السكة حديد مثل طائر العنقاء قد تشيخ لكنها ستعود شابة من جديد، السكة حديد قد تمرض لكنها لا تموت ، وغداً تسترجع سيرتها الأولى وتدوي صافرات السكة حديد من جديد ويسمعها القريب والبعيد، ففي كل دول العالم المتقدمة والنامية لم يتم أبداً الاستغناء عن السكة حديد لأنها الناقل الوطني الأرخص والأكثر أمناً!
ابني سامي ، الذي بلغ الثانية عشر عاماً، لم يشاهد ولم يركب قطاراً حقيقياً في حياته، سامي سافر عدة مرات بالطائرات بين السعودية ، قطر والسودان، وعندما حكيت له النذر اليسير من مغامرات السكة حديد كحكاية الطفلة التي سقطت ليلاً من القطار وحكاية القطار البشري، نظر إلىّ بحذر وقال لي: بابا ، لا أعرف ماذا أقول لك! قصصك أصبحت كثيرة هذه الأيام! لا أريد أن أقول لك أنت تكذب لكن سأحاول أن أصدق بعض قصصك القديمة! أوكى!

فيصل الدابي/المحامي





مواضيع لها علاقة بالموضوع او الكاتب

  • فالنتيـن دى سودانـي!! بقلم فيصل الدابي/ المحامي 14-02-15, 04:34 AM, فيصل الدابي المحامي
  • ألف مرحب بتكريم الاستاذ/ بابكر صديق! بقلم فيصل الدابي/ المحامي 13-02-15, 03:21 PM, فيصل الدابي المحامي
  • في زول بكتب شعر في ام اولادو؟! بقلم فيصل الدابي/المحامي 12-02-15, 01:53 PM, فيصل الدابي المحامي
  • ماكينة الرياضة أهم من الذهب! بقلم فيصل الدابي/المحامي 10-02-15, 06:17 PM, فيصل الدابي المحامي
  • والله لن يفلحوا بعدها أبدا! بقلم فيصل الدابي/المحامي 10-02-15, 05:12 AM, فيصل الدابي المحامي
  • سقوط الرئيس! بقلم فيصل الدابي/المحامي 06-02-15, 06:08 PM, فيصل الدابي المحامي
  • اخيب رجل في العالم! بقلم فيصل الدابي/ المحامي 06-02-15, 03:52 PM, فيصل الدابي المحامي
  • أفضل شرطي في العالم! بقلم فيصل الدابي/ المحامي 06-02-15, 01:45 PM, فيصل الدابي المحامي
  • لماذا لا يشارك الشماليون في المصارعة النوبية السودانية؟! بقلم فيصل الدابي/المحامي 31-01-15, 03:52 PM, فيصل الدابي المحامي
  • فتح بلاغ ضد طفل عمره ثمانية أعوام! بقلم فيصل الدابي/ المحامي 31-01-15, 07:37 AM, فيصل الدابي المحامي
  • انتهاء مراسم العزاء بحفل زفاف! بقلم فيصل الدابي/المحامي 31-01-15, 07:31 AM, فيصل الدابي المحامي
  • شابة سودانية تتحول لشاب سوداني! بقلم فيصل الدابي/ المحامي 24-01-15, 04:14 PM, فيصل الدابي المحامي
  • يوميات في غوانتاناموا! بقلم فيصل الدابي/ المحامي 23-01-15, 01:27 PM, فيصل الدابي المحامي
  • أنـا لسـت شـارلي! بقلم فيصل الدابي/المحامي 14-01-15, 02:55 PM, فيصل الدابي المحامي
  • خيانة في ليلة الدخلة! بقلم فيصل الدابي/المحامي 12-01-15, 05:08 PM, فيصل الدابي المحامي
  • (قبضة مصرية وفك بيرق سوداني)! مـذكـرات زول ســاي! بقلم فيصل الدابي/المحامي/الدوحة/قطر 10-01-15, 05:51 AM, فيصل الدابي المحامي
  • (عندما أصبحت رئيساً)! مـذكـرات زول ســاي! بقلم فيصل الدابي/المحامي/الدوحة/قطر 09-01-15, 04:55 PM, فيصل الدابي المحامي
  • (عشاق الظلام)!!مذكرات زول ساي بقلم فيصل الدابي/المحامي 09-01-15, 01:38 PM, فيصل الدابي المحامي
  • مـذكـرات زول ســاي! (عيفونة ، شطة بي ليمونة)! بقلم فيصل الدابي/المحامي/الدوحة/قطر 06-01-15, 03:55 PM, فيصل الدابي المحامي
  • ذكـريـات زول ســاي! (حنكشة أولاد الأقاليم!) بقلم فيصل الدابي/المحامي/الدوحة/قطر 05-01-15, 02:16 PM, فيصل الدابي المحامي
  • مذكــرات زول ســاي! (شتائم سودانية)! بقلم فيصل الدابي المحامي 04-01-15, 09:52 AM, فيصل الدابي المحامي
  • مذكرات زول ساي! (السودانيون يحيرون قوقل)! بقلم فيصل الدابي المحامي 03-01-15, 02:32 PM, فيصل الدابي المحامي
  • ادينا واحد راس سنة بالبيض والطماطم وصلحوا! بقلم فيصل الدابي/المحامي 31-12-14, 02:04 PM, فيصل الدابي المحامي
  • هـل هـو رجـل أم إمــرأة؟! بقلم فيصل الدابي/ المحامي 31-12-14, 12:49 PM, فيصل الدابي المحامي
  • يا ليـتني كنـت تلفـازاً! بقلم فيصل الدابي/ المحامي 27-12-14, 06:19 AM, فيصل الدابي المحامي
  • أبو ماجدة! (قصة قصيرة) بقلم فيصل الدابي 20-12-14, 02:44 PM, فيصل الدابي المحامي