هل كان السودانيون احباشا؟ بقلم عبد الحفيظ مريود

هل كان السودانيون احباشا؟ بقلم عبد الحفيظ مريود


12-12-2014, 05:24 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1418401459&rn=0


Post: #1
Title: هل كان السودانيون احباشا؟ بقلم عبد الحفيظ مريود
Author: عبد الحفيظ مريود
Date: 12-12-2014, 05:24 PM

mailto:[email protected]@gmail.com
لو كنتُ مجلس الوزراء،لأفردتُ جلسة كاملةً لساعتين متتاليتين للبروفسير على عثمان محمد صالح،أو "عم على" عالم الآثار الفذ،والأستاذ الجامعىّ المرموق ليقدّم للوزراء ،وبالتالى الحكومة أجمع،إضاءات مهمة تسندُ إستخطاطها – كما يقول كمال أبو ديب،وهو يعنى الإستراتيجية – للعشرين سنةً القادمات.فما هو ذلك الشيئ المهم ،الأثرىّ،الذى سيضع الحكومة والسودان أجمع فى طريقه الصحيح؟؟
من الواضح أنّ حزمة من المعارف الأساسيّة ظلّتْ غائبة عن السودانيين،أسّستْ لربكةٍ كبرى، وركاكةٍ بالغة فى توجيه دفّة مركبهم.غير أنّهم غير ملومين – بشكلٍ مؤكّد – فى إرتكاب ذلك الجهل، إذْ لم يكنْ متعمّداً.فالثابت أنّ الأميّة الشائعة حالت دون تطوير معارفهم،لإسترداد فعلهم الحضارىّ ،وقد كانوا مركزاً مهمّاً للفعل الحضارىّ ،حتى بُعيدَ الإسلام.
أزاح البروف على عثمان الستار عن مدينة أثرية مهمة. حوالى 15 كيلومتراً شمال "جبل أم على" فى ولاية نهر النيل، أسماها "مدينة عيزانا". وعيزانا هو أحد أهم حكام إثيوبيا فى القرن الرابع الميلادى.وربّما كان هو الذى حوّل إثيوبيا إلى المسيحية.وقد غزا مملكة مروى،وتغلّب عليها وحكمها لما يزيد عن الأربعمائة عام.وهو الذى ظلّ الدكتور جعفر ميرغنى ، مدير معهد حضارة السودان،ينفى وجوده،وتأريخه فى السودان،مرجّحاً أنّه محض أسطورة.لكنّ مسلّة أكسوم فى إثيوبيا تؤكّد أنّ عيزانا قهر مروى وحكم أهلها،وبنى مدينة شامخة،حصينة وسط الجبال شمال عاصمة مروى "البجراوية" وأنّه أودعها أسرار غريبة.لكنّ أحداً من الرحالة أو المؤرخين لم يستطع أنْ يكتشف المدينة المسيحية القديمة،هذه.جميعهم سواء العرب أو الأعاجم الأوربيين.وقد ظلّ المؤرخون والآثاريون السودانيون يطرقون سيرتها،بحذر شديد.لكن ماذا تضيف مدينة أثرية بُنيتْ حوالى عام 350م للمعارف السودانية ،وكيف يمكنها أنْ تعيد ترقيع النسق الحضارى ،وتجيب عن أسئلة الهوية وتسهم فى التخطيط لمستقبل السودان؟ لماذا هى على تلك الدرجة من الأهميّة؟؟
ثّمة رؤية عميقة جداً يعالج من خلالها "عم على" – البروف – موضوعة العلاقات الخارجية. إذْ لم يكن السودان يوماً عمقاً لمصر،بقدرما كان مركزاً حضاريّاً قائماً بذاته،صانعاً ومنتجاً لمقولاته الأساسيّة.فضلاً عن أنّه كان أصيلاً فيما يصدر عنه.وقد بدأتْ أصواتٌ عالمةٌ مصريّة تتحدّث عن أنّ الحضارة هى أصلاً حضارة نوبيّة فى المقام الأوّل،هى التى مدّتْ ظلّها المتفرّد – بجسارة – على مصر.وهى رؤية تذهب إلى أنّ السودان كان ظهراً لإثيوبيا،وربّما متداخل متكاملٌ معها إلى حدّ بعيد.ذلك أنّ الدوافع التى حدتْ بعيزانا لغزو السودان ،واستمراره فى حكمه 400 سنة،هى دوافع خلاّقة للسيطرة على المركز الحضارىّ ومدّ جسور التواصل "الرّحمىّ" الحضارى القديم .وبالتالى يمكن إعادة فهم تاريخ العنج،والتأريخ الوسيط من خلال هذا الكشف المهم.لكنّ الجوهرىّ أيضاً فى هذا الكشف هو أنّه خوّل للبروف ولعلماء الآثار والمؤرخين والأنثربولوجيين تعضيد نظريات البروفسير عبد الله الطيب ،والبروفسير حسن الفاتح قريب الله حول هجرة الصحابة الأوائل ،وهجرة جعفر بن أبى طالب إلى الحبشة،بالدلائل المادية التى لا يرقى إليها الشك،بأنّها كانت إلى السودان ،وليس إثيوبيا.وأنّ النجاشىّ كان حاكم هذه المدينة،شمال "جبل أم علىّ"،ولم يكن نجاشيّا فى إثيوبيا.وهو باب يفتح كوّةً مهمة حول التأريخ المشترك لشبه الجزيرة العربية "السعودية" واليمن وإثيوبيا والسودان، ليتيح تقييم دور البحر الأحمر ودور البجا،وسكّان شرق السودان فى الإسهام الحضارىّ فى فترات مهمة .
لم تكن الجغرافيا هى الجغرافيا،قطعاً.ولم يكن النيل والأودية والخيران،على ما هى عليه اليوم.وبالتالى لم تكن المنطقة الراهنة ،"جبل أم على" وما حولها من قرى ومدن هى هذه.وعليه فلا معنىً لمقاربة التأريخ وفقاً لنهر النيل الحالية،ولا شمال كردفان،التى ستلعب هى الأخرى، دوراً مهماً فى فهم علاقات مروى تلك،وعلاقات الحبشة،إثيوبيا الحالية،وشرق السودان،بشبه الجزيرة العربية واليمن،حتى يتمّ ربط الهجرتين بالمنطقة.غير أنّ ذلك ليس محض تبذير بحثىّ موغل فى فرضياته.وإنّما يلقى بضوء ساطع، كاشف لفهم علاقات الحاضر والمستقبل.يسير "عم على" غرباً ليؤسّس لعلاقات لاحقةٍ أصيلة تربط طريق الحج الإفريقىّ بالمنطقة وتأثيراته أيضاً الثقافية،العرقية،السياسية وغيرها.إذْ ليس من قبيل الصدفة أنْ تكون للمنقطة صلاتٌ ضاربة فى العمق بغرب إفريقيا،حتّى بلاد السنغال.وليس من قبيل الصدفة أيضاً أنْ يخترق طريق الحج الإفريقى السودان،واضعاً معالمه البارزة.ففى ذلك التشابك الكثيف،تكمن عناصر قوّة السودان التأريخية والراهنة والمستقبلية، وفهمها ضرورىّ – جدّاً – لوضع إستراتيجيات السودان القادم،الذى ليس من الجكمة التقليل من دوره الريادىّ فى المنطقة،وربّما إفريقيا كلّها.
تمثّل "مدينةُ عيزانا" إنقلاباً رؤيوياً للإرث السودانىّ فى عدد من المجالات.من بينها علم الأنساب السودانىّ،وعلاقات المجموعات الإثنية ببعضها،وبالأصول الخارجيّة.وقد سبقتْ نتائج فحوصات الحمض النووى التى قامت بها جامعة الخرطوم ،هذا الكشف.لكنّها تمثّل إنقلاباً فى حقل مهم وأساسىّ،وربّما تعيدُ ترميمه – كليّاً – وهو حقل تأريخ الأديان فى السودان.ذلك انّ الكنائس التى وُجدتْ فى المدينة ترجعُ المسيحية إلى وقتٍ أبْكَرَ مما هو متعارفٌ عليه. ونجمة داوود التى وُجدتْ، مقروءةً بنجمةٍ أخرى ومعبدٍ يهودىّ عثرتْ عليه البعثةُ البولندية، فى ولاية نهر النيل، أيضاً، سيعيدُ تعريف علاقة اليهودية بالسودان،وهو أمرٌ سيشكلُ صدمةً بالغةً للوثوقيين السلفيين، والكلاسيكيين من الباحثين، على حدّ سواء.وربّما يعزّزذلك خلاصاتٍ كان قد وصل إليها النيل أبو قرون فى كتابه "نبىٌّ من بلاد السودان" يجرى على ذات درب البروفسير عبد الله الطيب فى تأملاته البحثية بشأن سيرة النبىّ موسى بن عمران،عليه السلام.
لقد دأبتْ إثيوبيا، خاصةً بعد ميلس زيناوىّ، وهو رقمٌ مهم فى تصحيح مسارات البناء الوطنىّ والعلاقات الخارجية لإثيوبيا، دأبتْ فى تفهيم أصول علاقاتها الأزليّة بالسودان.والواقع أنّ ذلك سابق لزيناوىّ بقرابة قرنٍ من الزمان، على أيّام الخليفة عبد الله التعايشىّ. لكنّ السودان لم يكنْ ليفهم – بتلك البساطة – أصول وجذور علاقاته الإستراتيجية مع إثيوبيا. ويرجع ذلك بشكل أساس إلى أنّه لم يستطع انْ يستوعب مركزيته الحضارية جيّداً، وأهميته المتبادلة فى المستوى الإستراتيجىّ بالنسبة لإثيوبيا وشبه الجزيرة العربية واليمن.ويمكن فهم ذلك وفقاً للتشويش الرؤيوى الذى ظلّتْ تحدثه مصر- على أهميتها – فى تحديد خياراته الإستراتيجية.وسببه أنّ دخول محمد على باشا،وكتشنر لعبا دوراً فى تضخيم العلاقات مع مصر، بينما هى فى الواقع أقلّ أهميةً من العلاقات مع إثيوبيا،شبه الجزيرة العربية وغرب إفريقيا.ومن شأن الحقائق العظيمة المرتبطة ب"مدينة عيزانا" أنْ تعيد توضيع الأشياء وفقاً لحجمها الحقيقىّ.
يستهجنُ مراقبون وسياسيون وخبراء استراتيجيون التردّد السودانىّ المستمر فى ترفيع مستوى علاقاته مع إثيوبيا إلى درجة التكامل. على الرغم من أنّ إثيوبيا ظلّت تلعب أدوار جسيمة فى الشؤون السودانية منذ وقت طويل.وظلّتْ تحرص على تقديم براهينها العمليّة على حرصها على علاقات ذات شأن كبير مع السودان،على كافة المستويات.على أنّ جذور الأزمة فى التخطيط السودانىّ ترجع إلى عقدة نفسيّة – على الأرجح – تسعى بشكل محموم لإثبات ما هو جلىّ فى موضوعة الهويّة والأصول والأنساب. ويقيناً سيتغيّر الوضع لو أمعنت الحكومة والسياسيون جميعاً النظر فيما يقوله ويتوصّل إليه العلماء بصبر وتجرّد.
سيسعى مقالى هذا،القصير المتعجّل، إلى تحريض مجلس الوزراء لتثقيف الحكومة،وتثقيف الممسكين بالملفات المهمّة والمخطّطين، لنحصل على الأقلّ، على نتائج مختلفة من شأنها أنْ تؤسّس للمستقبل.بدلاً من ركوب الطائرات ذهاباً وإياباً من أديس أبابا، فقط لنفاوض أو لنوقّع. يمكننا أنْ نتعلّم من "أشقائنا" الأحباش أكثر من غيرهم، كما يمكننا أنْ نعتمد عليهم إستناداً إلى أخوّةٍ حقيقية، لا تتعامل معنا بوجهين، ولا تنصب لنا فخاخها الغادرة.
كما يمكن لهذا المقال أنْ يحرّض وزارة الثقافة أنْ تسعى لدى رئاسة الجمهوريّة لتكريم "عم على" – فخامة البروفسير على عثمان محمد صالح – وتدعم مقترحاً خجولاً بالإعتناء بما يفعل، والتفكير فى مركز ثقافىّ باسم الشريف زين العابدين الهندىّ، يشرف عليه "عم على".

Post: #2
Title: Re: هل كان السودانيون احباشا؟ بقلم عبد الحفيظ مريود
Author: محمد على طه الملك
Date: 12-20-2014, 01:40 PM
Parent: #1

مشكور أخي عبد الحفيظ على هذا المقال الرائع الذي يلفت الانتباه لأبحاث وكشوف العالم السوداني بروف علي عثمان محمد صالح بما حوته من اضاءات حول علاقة البقعة بمحيطها الشرق أفريقي ..
بالتأكيد فإن رفع أميتنا حول سيرة ومسيرة التاريخ في بلادنا وارتباطها الوثيق بمحيطنا الجغرافي ..
يفرض على القادرين مواصلة البحث والنقاش وكتابة المقالات التنويرية التي تساعدنا في فهم مجريات الماضي وارتباطه بما عليه الحال ..
وكما اشرت ظهرت دراسات وكتابات عديدة مؤخرا تشير لمركزية هذه البقعة وبعدها التأثيري على محيطها حتى على المستوى العقدي ..
ومثلما فعلت كنت قد لفت بدوري الانتباه وناقشت في مقال مؤلف الدكتور بركات موسى الحواتي ( الذاتية السودانية ) ..
وهو مؤلف قاربته في مقالي بمجريات الاحداث في البقعة وأثرها فيما نحن عليه في الحاضر ..
استأذنك في عرضه هنا لتتكامل الرؤى بما يثري معارفنا.




Quote: تنازع العقل السوداني بين التفرد الذاتي واتجاهات الجذب الإقليمية
بقلم / محمد علي الملك
لعبقرية المكان ونظرية الحتم البيئي ، تأثيرات بالغة الأهمية ، في تشكيل وصياغة بنية الحياة والتساكن البشري في مكان ما ، عبر عنها الدكتور ( بركات موسى الحواتي - في مؤلفه المنشور - الذاتية السودانية – صفحة 41 ) قائلا:
( تكاد الرقعة بكل ما تحمل من أبعاد – الموقع ، والمساحة والشكل والمناخ والنباتات والتضاريس ، أن تسجل الحضور الأساسي في تشكيل وتوجيه تاريخ الأحداث فيها ، من حيث اطرادها وقوة أو ضعف تأثيرها ، ومن حيث تواصل أو تبلور وتجانس الجماعات بها أو نفورها ، ومن حيث رموز فلسفتها ) انتهى.
موجزا ما انتهى اليه نفر من علماء الجغرافيا السياسية ، بأن مميزات الموقع المناخية والإستراتيجية ، تمنح وتتيح دوافع التقدم ، وهي التى توجه السكان إلى التلاؤم بين دواعي ظروفها ، واحتياجاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
عند النظر للقطر السوداني بموقعه الإقليمي والقاري ، بمناخاته المتعددة وتضاريسه ومياهه وبيئته الحية ، وحدوده السياسية المطلة علي عشر دول برا وبحرا ، أراه مستكملا لشروط عبقرية المكان من حيث التوصيف ، وإذا استصحبنا نتائج الحفريات الأثرية ومؤلفات المؤرخين وخارطة جغرافيته البشرية علي مر الحقب ، لا يمكن الجزم بامتلاكه لذاتية ساكنة مستقرة ومتفردة.
ذلك علي الرغم من أسبقية وسطه النيلي منذ عصور ما قبل التاريخ الميلادي ، في استشراف مرافئ الحياة الحضرية والمدنية المستقرة ، غير أن تلك السمة الإيجابية هي نفسها التي منحته ميزات جاذبة فتحت اليه أبواب الهجرة من والي الجهات الأربعة.
من الملاحظ أن دوافع الهجرات البشرية ظلت علي ثبات قاعدتها منذ القدم ، حيث البقعة الحضرية تشكل بؤرة الارتكاز ونقطة الجذب الرئيسة لمحيطها.
بتتابع الهجرات اليها وتكدس السكان في وحولها ، تبدأ البؤرة في خسارة مقوماتها الذاتية ، ومع دوران عجلة الزمن ترتخي قبضتها ويكتسب المهاجرون بثقافتهم قوة تنافسية ، عندها يذر الصراع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي قرنه ، وتنداح حلقاته اتساعا بين الكيانات البشرية المتساكنة ، وفي غياب منهج وقانون يضبط الحقوق ويعالج التفلتات ، وخطط تضمن توزيعا عادلا للثروة ، ينتقل الصراع لحيز الاحتراب واكتساب الحقوق بمنطق القوة المسلحة ، تلك هي المرحلة الكارثية حيث تدمر المعالم الحضرية وتفقد الرقعة الكثير من قوتها البشرية وبنيتها الاقتصادية ، وتعود الرقعة بمن تبقى من سكانها الي نمط حياة أكثر تخلفا ، لتبدأ دورة جديد في صياغة وبناء حضارتها ببطء عبر دورات الزمن وتعاقب الأجيال.
لو رصدنا أحداث التاريخ ، تجلى ذلك المعيار فيما آلت إليه احوال حضارات سادت ثم بادت ، لا بسبب انكسار قوتها العسكرية فحسب ، بل لاختلال منهج الحكم في عمليات الاستيعاب والدمج وتخلف معايير الضبط و سوء توزيع الثروة ، ومن ثم اختلال ميزان العدالة اجتماعيا واقتصاديا .
وهو نفسه المعيار الذي ضعضع حضارات الرقعة السودانية في العصور المروية والنوبية ، فلا الغزو الأكسومي ولا ثورة الشيخ عبد الله جماع وتحالفاته إبان الممالك النوبية ، كانا السبب الأساسي في ذوبان الحضارتين اجتماعيا وثقافيا ، بل كانت العلة تكمن في فشل صيغة الحكم في بؤرة الرقعة ، من حيث الحفاظ علي توازنها وقوة سيطرتها علي الجسد الاجتماعي المخترق من قبل هجرات تسربت اليه ببطء وتساكنت مع كياناته ، ونجحت إلى حد كبير في الحفاظ علي كياناتها وتغذيتها بما يمنع انصهارها التام في ثقافة الجسد الأم أو ثقافة البؤرة.
مثل هذا القصور ظل مصاحبا لكافة الأنظمة التي حكمت رقعة السودان القديم والحديث ، الي القدر الذي بدا معه التاريخ الحضاري للرقعة السودانية ، فاقدا لعنصر التسلسل المترابط مع الجذور ، ووروده في شكل جزر معزولة غير مترابطة ثقافيا وسيسيولوجيا.
لعل البعض يعزو فشل بنية الثقافة النوبية في تدجين الثقافة العربية الغازية ، لما خالطها وتبعها من فكر عقدي كان يملك منطق الحجة الأقوى في منافسته للعقائد السائدة في الرقعة آنذاك ، غير أن هذه الحجة تبدو غير منطقية وضعيفة عند قياسها بثقافات أخرى ، غزتها الثقافة العربية بلسانها وعقيدتها مرفوعة فوق أسنة الرماح وفشلت في اقصائها ، مثل ثقافة الفرس على سبيل المثال ، بل واجهت الثقافة العربية عجزا في اختراق ثقافات أخرى أقل شأنا في الغرب الأفريقي و الهند وجزر الجنوب الأسيوي ، حيث افلحت تلك الثقافات في استئناس الفكر العقائدي المصاحب بقبول تعاليمه ومبادئه ، ثم عزلها عن اللسان العربي المصاحب عن طريق الترجمة ، وحصرها في إطار ضيق لا يتعدى القدرة علي تلاوة القرآن بلفظ عربي ، ولو أعملنا التفكر في المنهج الذي تتبعه بؤر الحضارة الغربية المتسيدة اليوم ، لوجدناها مدركة لذلك المعيار ، فلا تسعي لحجر أو استعداء المهاجرين إليها بل توفر لهم قنوات التعبير عن خصوصياتهم الثقافية علي تعددها ، غير أنها تلتزم منهجا ضابطا بما اشترعته من خطط وسنته من قوانين وأقامته من مؤسسات تنفيذية متخصصة ، تعمل بدقة متناهية في تيسير عمليات استيعاب المهاجرين ، وتفكيك ثقافاتهم المصاحبة ، لإعادة دمجهم في مجتمع البؤرة وثقافتها السيدة ، فضلا عن اشتراع ضوابط أخرى تحكم تصرفات مجتمع البؤرة في مواجهة المهاجرين ، وتضمن توفير حقوق متساوية بينهم جميعا وتوزيع عادل للدخل.
بشيء من المقايسة نلمس أن الصراع الاجتماعي في السودان ، كان من ضمن أسبابه الرئيسة قديما والي الآن ، القصور الذي اعترى هذا الجانب ، فالثقافة العربية التي فرضت وجودها منذ نجاح ثورة المستعربين ، واجهت خللا منهجيا طوال فترات الحكم الوطني ، عجز عن تسوية مخلفات السياسة الاستعمارية واستكمال عناصر الدمج الاجتماعي والثقافي بين الكيانات المتساكنة ، ومن ثم خلق هوية وطنية يلتف حولها الجميع.
ذلك النقص لم يفت علي فطنة نفر من المفكرين والأدباء الحادبين منذ فجر الاستقلال ، فاجتهدوا في صياغة منهج يستوعب التباين الاجتماعي والثقافي ، ويعيد صياغة الهوية السودانية علي ذاتية متفردة ، تعبّر عن ثقافاته المتعددة بحرف عربي يمجد عرقه الهجين ، في كلية اقليمية افريقية الأرض والبيئة والمناخ ، اصطف من ورائها عدد من الأدباء والفنانين والمفكرين ، وتلقفه بعض أذكياء السياسيين ، محاولين صياغته في شكل شعار التف حوله السودانيون إبان مرحلة الكفاح ضد المستعمر ، غير أن الشعار فقد قوة دفعه الوطني ، بسبب عدم التوافق على تأطير فكرته ، وإعادة صياغتها في شكل برامج وخطط عملية تكسر حدة السيطرة التقنقراطية على مؤسسات الدولة التنفيذية ، ومن ثم تحويله إلى سياسات تسير عليه الدولة وتبني علية مناهج التربية الوطنية .
وتجدر الإشارة هنا لمخلفات الصراع بين القطبين الاستعماريين حول مستقبل السودان ، وما أثارته من فتن ، شقت الصف الوطني وهدمت روح الثقة والتعاون بين الكيانات السياسية المتنافسة.
في سبعينات القرن المنصرم سك الباحث والمفكر السوداني الدكتور نور الدين ساتي مصطلح ( السودانوية ) ململما في إطاره فكرة الذاتية السودانية ، وللتفريق بين دعاة السودانوية ودعاة الأفرقانية كتب السفير - د. خالد فرح ( مقال نشر بتاريخ الثاني من ابريل المنصرم بصحيفة سودانايل الإلكترونية ) واصفا السودانوية بأنها ( .. تتجاوز محض انتماء بحكم الميلاد أو الجنسية أو الجذور ، أو سائر متعلقات الحالة المدنية أو الهوية الشخصية للفرد ، إلى الارتباط العقدي الدغمائي ، أو الإيديولوجي بمثال تجريدي لكيان سوداني متميز.
لم تجد اجتهادات دعاة السودانوية - رغم غزارة إنتاجهم الأدبي والفني – من يلتقط القفاز ، ويحيل الفكرة إلى برامج عملية تسير عليه سياسات الدولة ، سواء في عهود الدولة العسكرية الشمولية أو التعدد الديموقراطي.
كان لتنافس الجهات الإقليمية المحيطة بالسودان - بحكم التداخلات الاجتماعية والثقافية - أثره وإسهامه بطريقة مباشرة وغير مباشرة في أزمة الحكم وعدم الاستقرار السياسي ، و توهان قادة وأجهزة الدوله التنفيذية والنخبة الثقافية شئنا ذلك أم أبينا ، فالاتجاه العروبي - ومركز جذبه شمال الوادي ، هو المحور الأقوى والأبعد أثرا وتغلغلا في الحياة العامة ، ظل حريصا علي بسط نفوذه الثقافي والسياسي علي السودانيين ، منذ ما قبل زمان حكم محمد علي باشا ، وحافظ علي وجوده في الكيانات السياسية التي نشأت عقب الاستقلال ، ولم يعد غائبا عن الافهام ، أن اختراقات هذا المحور تتصاعد احيانا الي حد استخدام القوة لتغير أنظمة الحكم ، غير أن أثر هذا المحور من حيث دعم الوجود البشري ورفده ، أمسى ضعيفا الى حد كبير منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي .
تاريخيا ظلت علاقة شمال الوادي بجنوبه منفتحة ثقافيا واجتماعيا منذ القدم ، غير أن موقع شمال الوادي الإستراتيجي ، كان يعرضه دوما للغزو والاستباحة والاستحواذ من قبل حضارات العالم المتوسطي ، الأمر الذي كان له أثره في تعريض بنيته الاجتماعية والثقافية لتغيرات متلاحقة من زمن لآخر ، بسبب ذلك - ظلت تتباعد الخطى بين شقي الوادي لردح من الزمان ، وتفضي أحيانا لتوترات حادة حالت دون الاندماج بين شطري الوادي ، على الرغم من توفر حافز المكان وغياب عوائق طبيعية تعيق التواصل .
أما الاتجاه الأفريكاني ومركز جذبه دول المحيط الجنوبي والغربي ، لم يكن له وجود ثقافي مؤثر في الماضي البعيد مثلما هو في الحاضر القريب ، وكانت بوصلة الجذب تشير غالبا لاتجاه الشرق الافريقي ، عندما يخبو الضوء الشمالي تحت سطوة الغزو الاوسطي .
ولعل الأثر الأكثر بروزا ولا زال لمحيط الجذب الجنوغربي يتمثل في المجال الاجتماعي والعقدي ، حيث شكلت الرقعة بؤرة جاذبه لسكان ذلك المحيط ، وملاذا آمنا للهروب إليه من كوارث الطبيعة والنزاعات السياسية الدامية في بلدانهم ، فضلا عن فرص العمل اليدوي الواسعة المفتوحة من جهة ، وموقع السودان الجغرافي كمعبر للحجيج القادم من هناك ، وبالطبع كان لحلول الاسلام بديلا عن المسيحية بعد سقوط الممالك المسيحية ، سببا في اغلاق معبر التواصل الشرق افريقي وفتح معبر الغرب افريقي .
يفهم من ذلك - أن الرقعة السودانية منذ ظهورها ظلت تكويناته البشرية ترفد من خلال محيطه الجغرافي ، وبعد تأسيس دولته على يد المستعمرين ، فرضت حدود جغرافية لعبت دورا في غل يد الضبط لدى أجهزة الدولة التنفيذية ، بسبب انشطار الكيانات الاجتماعية الحدودية بين دول الجوار على تعددها ، فضلا عن غياب رؤية وهوية وطنية تجمع شتاته وتنظم تنوعه .
من الخطأ قصر عللنا عند حد مركزية الدولة وسوء توزيع الثروة ، فتلك منغصات يمكن تداركها
غير أن المهمة الأصعب هي كيفية تحويل فكرة الذاتية السودانية ، أو ما اصطلح عليه بالسودانوية
إلى مظهر قومي يعبر عن خاصيتنا المتفردة ، وإحالتها الي ارتباط عقدي دغمائي ، ولعل من أول مطلوبات ذلك - أن تتبني مؤسسات الدولة وكياناته السياسية ، سياسات تطبيقية تنشأ بمقتضاه مؤسسات تنفيذية متخصصة ، تعمل على ضبط مسارات الحركة الاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية والتعليمية ، لتعيد صياغة البنية الوطنية وفق ذاتية سودانية ، تكتسب القبول داخليا والاحترام خارجيا في المحيطين الإقليمي والعالمي .
غير أن استمرار العمل على تغليب الوعي العروبي الإسلامي ، علي ما سواه من وعي أفريقي أو العكس ، يقصي بلا شك قوى فاعلة في المجتمع ، ويصادر مستقبل الوطن لمصلحة التجزئة والتفكك
فنحن - كما جاء في مؤلف الأستاذ محمد ابو القاسم حاج حمد ( السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل ) :-
(نحن كما نحن أ ي كما شاء الله لنا غيبا ، وكما شاء لنا في تاريخنا الإنساني وموقعنا الطبيعي تجمع شتات من الأجناس وظواهر طبيعية متباينة ، تمظهرت في كثافة تخرج القوة الى فعل بفضل جاذب يستلب إرادة الشتات الي وحدة سودانوية )
تاريخيا فعلتها من قبل الدولة المروية ، عندما تخلصت من إرث الاستعمار الثقافي المصري نعم -
الذي نهض عليه الكيان السياسي المستقل لوادي النيل الأعلى ، واشترعت لنفسها عقيدة وثقافة ولغة تعبر عن ذاتيتها المتفردة .
فهل يفعلها الأحفاد في الألفية الثالثة ويعبرون ؟؟
أم سيبتلعنا التوهان بين ( شيمة ) تيارات الجذب الإقليمية وصراع السلطة ؟؟
قيل :- (ليس عيبا أن يعترف المرء بقصوره ولكن العيب أن يكرره ) .


Post: #3
Title: Re: هل كان السودانيون احباشا؟ بقلم عبد الحفيظ مريود
Author: حسن حامد
Date: 12-20-2014, 03:38 PM
Parent: #1

كثير من الشواهد واهما المورفولوجى وسحنات السكان التى توكد ان سكان شمال الخرطوم وحتى المنطقة النوبية من اصول اثيوبية ويمكن مقارنة شكل الجماجم والانوف والشعر