مايا ورضيعٌ آخر محمد محمود

مايا ورضيعٌ آخر محمد محمود


05-29-2014, 06:00 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1401339609&rn=0


Post: #1
Title: مايا ورضيعٌ آخر محمد محمود
Author: محمد محمود
Date: 05-29-2014, 06:00 AM


أحسست بسعادة غامرة عندما سمعت بخبر ولادة مايا ابنة مريم يحيى ودانيال واني وأنها بصحة جيدة رغم ظروف القسوة والبؤس والقذارة التي تحيط بمريم يحيى وهي في سجنها، برفقة ابنها مارتن ذي العامين، تنتظر تنفيذ حكم الجلد عليها ثم شنقها حتى الموت. في قلب مأساة الأم وهي ترزح في السجن (والتي تحاكي في واقع الأمر مأساة مجموع الشعب وهو يرزح في سجنه الكبير) تأتي مايا شمعة صغيرة مشتعلة، تصرخ بوعد الحياة والمستقبل. ولا نعلم كيف سيكون مستقبل مايا: هل ستنشأ وهي محاطة بحبّ أمها ورعايتها أم ستنشأ يتيمة محرومة من دفء صدر أمها وحنانها؟

ووجدتني وأنا أفكر في الرضيعة مايا أفكر في رضيع آخر --- رضيع فقد أمه وفمه ملتصق بثديها. وهو رضيع حكى لنا التاريخ عن أمّه لأن حياتها تزامنت مع أعنف لحظة في تاريخ يثرب والجزيرة العربية وهي لحظة صعود دولة محمد. إلا أن التاريخ لم يحكِ لنا عن مصير هذا الرضيع الذي لا نسمع عنه إلا للحظة خاطفة وهو ملتفّ بليل بهيم.

اسمعوا قصة عَصماء بنت مَروان وكيف لاقت حتفها.

يحكي الواقدي:

حدّثني عبد الله بن الحارث، عن أبيه، أن عَصماء بنت مَروان من بني أمية بن زيد ... كانت تؤذي النبي ... وتَعِيب الإسلام، وتحرّض على النبي ... وقالت شعرا ... قال عُمير بن عَديّ بن خَرَشة بن أُمَيّة الخَطْميّ حين بلغه قولها وتحريضها: اللهم، إن لك عليّ نذرا لئن رددتَ رسول الله ... إلى المدينة لأقتلنَّها- ورسول الله ... يومئذ ببدر- فلما رجع رسول الله ... من بدر جاءها عُمير بن عَديّ في جوف الليل حتى دخل عليها في بيتها، وحولها نَفَرٌ من ولدها نِيامٌ، منهم من ترضعه من صدرها، فجسّها بيده، فوجد الصبيّ تُرضعه فنحّاه عنها، ثم وضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها، ثم خرج حتى صلّى الصبح مع النبي ... بالمدينة ...

ونقرأ في رواية الواقدي أن محمدا قال عندما أخبره عُمير عما ارتكب: "لا ينتطح فيها عَنْزان"، ثم التفت إلى أصحابه وقال: إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغَيب، فانظروا إلى عُمير بن عَديّ ...
(كتاب المغازي، 1966، ج 1، ص 173)

هذا رضيع يقفز من صفحات التاريخ، بلا اسم ولا وجه --- ينحّيه عُمير بن عَديّ الذي تسلّل مستترا بظلام الليل لينتهك حرمة مسكن أمه وحياتها ويأخذها منه. والتاريخ، كما نعرف، لا يتوقف عند الأطفال، ناهيك عن أن يتوقف عند الرُّضعاء --- وهكذا فرواة التاريخ يصرفون نظرنا في الحال بعد مشهد القتل هذا ليحدثوننا أن عُمير بن عَديّ "خرج حتى صلّى الصبح مع النبي ... بالمدينة ... إلخ" دعونا لا نفعل ما يفعله التاريخ ولا نخرج مع الرواة ونبارح المشهد، دعونا نتوقف لحظة بإزاء جثة عَصماء بنت مَروان المضرجة بالدماء وأطفالها النيام وهذا الرضيع الذي امتدت له يدٌ في جُنح الليل وأزاحته عن صدر أمه. دعونا نعطي هذا الرضيع حظّه من الاهتمام ونتأمل هذه اللحظة وكأن مركزها هذا الصبي الصغير العاجز الذي لا يعي ما يدور حوله. إن فعلنا ذلك وأحسسنا بالأسى الذي لم يحسّه هذا الرضيع لحظتها (ولكنه أسى لابد أن الزمان اختزنه له في قابل أيامه) فإن ذلك ربما يفتح وعينا لقراءة بديلة للتاريخ تجعلنا منتبهين ونحن نجوس التاريخ لجماجم الضحايا الذين راحوا ضحية عنف الأقوياء في أي مكان أو زمان.
وعندما أفكر في هذا الرضيع الذي غشيه التاريخ لحظة فقده لأمه أجد ثمة خيط يربط بينه وبين مايا التي على وشك أن تفقد أمها. وعندما أقرأ عن تهديد الجماعات الإسلامية بأنهم سيُقيمون الحدّ على مريم يحيى إن استسلمت السلطات لضغط الرأي العام العالمي وحملات التضامن وأطلقتها فإنني أرى عُمير بن عَديّ قد انبعث من رماد التاريخ وعاد شاهرا سيفه منطلقا بين أهل السودان --- إلا أنني لا أراه هذه المرة متخفيا متسللا في جوف الظلام وإنما أراه حاملا سيفه في وضح النهار لا يأبه بضمير العالم.
خرجت مايا للعالم وهي "تحمل صليبها" --- ولدت مسجونة، وقررت محكمةٌ وهي ما تزال في رحم أمها أنها لن تنعم بها إلا لسنتين وأن يوم فطامها سيكون يوم خروج أمها من العالم، وولدت وهي في سجن آخر اسمه الإسلام لا تملك منه فكاكا طالما بقيت المادة 126 بين ظهرانينا، وولدت وقد حكمت عليها محكمةٌ قبل أن تولد أن تنبذ أمها وتمحوها من ذاكرتها وأن تقطع علاقتها بأبيها وأن تقبل أنها ابنة سِفاح عوقبت عليه أمها بمائة جلدة قبل شنقها. وما نستطيع أن نهمس به في أذن مايا وهي ترضع من ثدي أمها وتلتصق بصدرها أنها ولدت في عالم يحمل الكثير من مظاهر القبح وينضح بالكثير من الكراهية والتعصب إلا أنه في نفس الوقت يحمل قدرا كبيرا من الجمال والحب والتسامح وأن أعدادا متزايدة من الناس في كل بقاع الأرض قد وقّعوا ويوقعون كل يوم المذكرات والبيانات والاحتجاجات التي تساند حق أمها في الحرية والحياة، ونهمس في أذنها وهي تغالب النوم بأنها ربما تكون أفضل حظّا من ذلك الرضيع الذي فقد أمه في تلك الليلة البهيمة في المدينة، ونرى طيف ابتسامة على فمها وهي تستسلم للنوم.


محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.
[email protected]



* انطلقت حملات تضامنية عديدة للوقوف مع حق مريم يحيى في حرية الاعتقاد والحياة ويمكن للقراء التوقيع على المذكرة المنشورة في موقع الحوار المتمدن على الرابط:
http://ehamalat.com/Ar/sign_petitions.aspx?pid=596