خراب دارفورفي ظل الدولة العرقية

خراب دارفورفي ظل الدولة العرقية


05-15-2004, 01:41 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1084581686&rn=0


Post: #1
Title: خراب دارفورفي ظل الدولة العرقية
Author: د.علي دينار–فيلادلفيا
Date: 05-15-2004, 01:41 AM

خراب دارفورفي ظل الدولة العرقية
د.علي دينار–فيلادلفيا-أمريكا
[email protected]


يهدف هذا المقال الى تسليط بعض الضوء على مستجدات الاحداث في دارفور من إحتراب ‏وهدنة ومساع لمناقشة القضايا السياسية والأنسانية، كما يهدف أيضاً لتحليل دور الحكومة ‏ومليشياتها في خراب دارفور، وتحليل الموقف السياسي والعسكري للمعارضة المسلحة في ‏دارفور، ودلالات هذه الأحداث في السعي نحو غد مشرق لكل الدارفوريين.‏

(1) الدور الحكومي للخراب:

منذ الهجوم الأخير على كتم في سبتمبر2003، قامت الحكومة ‏ومليشياتها بتكثيف الهجوم العسكري، وأتباع سياسة الأرض المحروقة، ليس فقط ضد قوات ‏تحرير السودان، بل تحديداً على المواطنين اللآمنين، في شتى أنحاء دارفور من غير القبائل ‏العربية. وقد أتىالهجوم الحكومي على مناطق عديدة في دارفور بفظاعة ووحشية لم يخبرها ‏سكان الأقليم، من ترويع وتقتيل وتدمير، تفننت الحكومة ومليشياتها في إتباعه.‏
لعل من أهم واجبات الدولة، أياً كانت، هو توفير الأمن لمواطنيها، ليس فقط بأشخاصها ولكن من ‏خلال المؤسسات التابعة لها والتي كان من المفترض أن يكون جل همها المواطن البسيط، وليس ‏ الإتكاء عليه لبلوغ أهداف أخرى لاتمت له بكبير صلة. فقد أهملت جل الحكومات المتعاقبة ‏العمل الجاد نحو تحسين معاش مواطنيها، وعوضاً عن ذلك فقد تمترست، وبإختيارها في حربها ‏في جنوب السودان ناشدة باهر الإنتصار العسكري، وإن أتى ذلك على جثث الأبرياء، وحينما ‏تعذر لها ذلك، دلفت وبكل بساطة نحو فصل الجنوب وفي فى صمت مريب.‏
إن ماحدث من خراب، وبأيدي الحكومة في دارفور، كان من السهل تجنبه منذ البداية، إن كانت ‏حقيقة تسعى لتجنيب الأقليم هذا الخراب، وقد توفرت لهذه الحكومة العديد من السوانح كان ‏بأمكانها، وهي الأقوى عسكرياً وسياسياً تفادى ويلات هذه الحرب، إلا أنها آثرت خلاف ‏ذلك. فهي لم تستجب وتحترم آلية فض المنازعات التي كانت جارية حينها في الفاشر في فبراير ‏‏2003، حيث أفلحت في الأتصال بكل الأطراف المسئولة في النزاع. وذات الحكومة لم تنصت ‏لآراء وفد أبناء الأقليم يوم ذهبت للطينة، وبدلاً من مباركتها لتجنب الخراب قامت بإلغاء المؤتمر ‏الصحفي للجنة الوساطة. وهى المدركة لحجم هذه الحركة عسكرياً وسياسيا منذ بداية الصراع، ‏ورغما عن ذلك فقدً آثرت مواصلة الخط الجهادي المصادم،على النقيض لما يجري في نيفاشا.

(2) حول آليات الخراب:

أتخذ جنوح الحكومة وبسياساتها وأفعالها نحو خراب دارفور أشكالاً ‏عديدة، ومردود هذا الخراب للاسف سوف يمتد لمقبل السنين. هذا الخراب يبدو جلياً في ‏العلاقة العضوية والتنسيقية بين الحكومة و"قواتها الصديقة" من ابناء الأقليم لخراب ديارهم . فقد لجأت الحكومة ‏الى تاسيس قوات أفرادها من بعض القبائل "العربية"، تسليحا ًوتدريباً وتنسيقاً تجلى في غاراتها العديدة على مواطنيها من القبائل غير العربية. فالحكومة وبركونها لهذا ‏الاسلوب قد نجحت في تعميق وتجذير الصراع بين مجموعات قاطنة، متعايشة ، ومتصاهرة.وهي محاولة محسوبة النتائج تسعى لان يؤدي هذا ‏الصراع إلى حرب عرقية شاملة، وقودها الأبرياء العزل.
ومتى كان الصراع في دارفور عرقياً بالصورة التي لجأت ‏الحكومة الى إخراجها وتنفيذها؛ أين أنتصاراتها خلال هذه الفترة من هزائم نكراء للجماعات ‏المحاربة في دارفور، كم من أسرت، وكم من قتلت، وما هو حجم الآليات المدمرة؟ فالحكومة وبتصويرها ‏للحركة بكونها حركة قطاع طرق وعصابات نهب مسلح، تدفع بالمرء لتصديق أن الدولة قادمة ‏لحماية مواطنيها وحفظ أرواحهم وأملاكهم وأعراضهم. فجل ‏الإنتهاكات من قصف بالطائرات وحرق للقرى وتدمير لمقتنيات المواطنين وحرق للزرع ‏والضرع، واغتصاب، وتعذيب، يتم كل هذا بمعرفة الدولة ومشاركتها في حرابة مواطنيها، والسؤال المشروع: أين يقع هذا من تعاليم الأسلام الغراء، التي يتشدق بها قادة الأنقاذ، وهي منهم براء. إن ‏المنحى العرقي المستخدم في الخراب من قبل دولة الإنقاذ، يتجلى من خلال أعراق مليشياتها المستخدمة في جنوب السودان وجبال النوبة ‏وكلها تعني الحاق أقصي ما يمكن من دمار تجاه الأخر، وتعميق الكراهية بين المجموعات ‏القاطنة. ذات السياسة إستخدمتها حكومة الصادق المهدي وقبلها حكومة سوار الدهب وجميعها ‏سياسات غير مسئولة قننت لما هو صائر اليوم. هذا المسلك أضر كثيراً بحياد وقومية المؤسسة ‏العسكرية، بوجود صنو لها مدعوم بجهات سياسية وأيدلوجية لممارسة التدمير.‏
‏ أن أستخدام الجنجويد ليس الغرض منه إلحاق الأذى الجسيم بالخصم وكفى، وإنما أيضاً لبذر الشقاق بين سكان دارفور. وتحت عباءة الجنجويد يمكن وبسهولة كبيرة لأفراد من الجيش ‏النظامي إلحاق دمار أكبر دون تحمل المسئولية الاخلاقية والسياسية المترتبة على الممارسة، ولكن ظهرت جريمة التنسيق والتواطؤ من براثن المكالمة الهاتفية المشؤومة بين أحد ‏الطيارين في مسرح العمليات في دار زغاوة والقائد الأرضي، آمراً إياه بحرق ونهب وتدمير كل ‏الابار، واخذ مقتنيات المواطنين "غنيمة". وهى عين السياسة المنتهجة في "الجهاد" ضد الحركة الشعبية وفي جبال النوبة. و لم يشفع الأرث الديني لمواطن دارفور والدولة منهمكة بإذكاء جذوة العرقية بينهم. ولا زال السؤال قائماً، لماذا حرابة مواطن ‏دارفور بضراوة أكبر من رافعي السلاح من أبناء الأقليم؟‏

(3) الإغتصاب كآلية لحسم الصراع بين الفرقاء:

أن أستخدام الأغتصاب كسلاح ضد الخصوم ليس هو بالأمر الفريد ‏في تاريخ البشرية، وقد حدثت ويحدث بمبررات كثر. ففي الحروب الأهلية ممثلة في الحرب الصربية-‏البوسنية، وحروب رواندا، ومؤخرا سجن أبوغريب، كلها قد كشفت عن أستخدام العنف الجنسي ‏ضد الخصوم. ومع وصول الجبهة إلى دست الحكم، ورغم نهي الدين الحنيف، والسجية الأنسانية ‏ضد هذه الظاهرة، ألا أن إفادات المعتقلين في بيوت الأشباح وغيرها، حكت كثيراً عن تعرض ‏السجناء للأغتصاب. وفي حرب الجنوب وتحت الأطار الجهادي للحرب، كان الحديث عن الاختطاف والسبي، وهي في مجملها تعني أن الأغتصاب كسلاح، كان واسع الأنتشارايضا. وفي ‏أحداث دارفور مع ذات الدولة الأسلامية، "الحامية لشرع الله"، شهد الأقليم صورا أفظع من ‏ابوغريب، من إغتصاب جماعي طال حتى الفتيات القصر على مرأى ومسمع من الأقارب، ‏من ذات الجيش الحكومي ومليشياته المحاربة. في صور لم يعرفها الأقليم من قبل، وهذا أمر دخيل ‏على سلوكيات الدارفوريين جميعا، رغم حراباتهم. أن جرماً كهذا، لم يتم تسجيله في الذاكرة ‏الجماعية لكل هذه المجموعات القاطنة المتعايشة المتزاوجة، ولنا أن نتساءل عن كنه التراكمات ‏التاريخية الغائرة في اللاوعي التى تحمل كل تلك الرغبات فى الحاق الأذى النفسي والبدني بالآخر وبكل هذه الوحشية على ‏مرأى ومسمع من الدولة "الحامية". ولمواطني دارفور كل الحق في السؤال: من هو المسئول عن ‏إدراج الإغتصاب كسلاح ضدهم؟ أن الوحشية التي تمت بها ويتم بها إقتراف مثل هذه الممارسات تدعو الى الاسى و ‏يعلم مقترفيها بأن المستهدف الأول ليسو هم جماهير النساء المفترسات فحسب، بل كل المجموعة ‏العرقية، لتمريغ كرامتها وعرضها، ولنا أيضاً التساؤل من هو المستفيد من كل هذا؟!
إن مسلك أي حكومة في إنحيازها لمجموعة ضد أخرى هو دائماً مفتاح الكوارث وصيرورتها ‏حتى في حالة خروجها من مجرى الأحداث نتيجة لما تراكم من أحن، وذلك بشغل المواطنين كل ‏مهاجم للأخر على أساس قبلي، بدلاً من مواجهة جور الدولة. وقد افلحت هذه الحكومة وبنجاح ‏منقطع النظير في إذكاء جذوة العنصرية في حربها في جنوب السودان، وجبال النوبة والآن في ‏دارفور. وفي دارفور قديماً وحاضراً، يجد كل حصيف مدرك بأن ما يجمع القبائل المتحاربة ‏‏(عرباً وزرقة) لهو أكبر مما يفرقها، ورغم وجود هذه المنازعات فأن آليات فضها وتسويتها ‏وحياد الدولة كانت دائماً صمام الأمان ومفتاح النجاح. أن تسارع السياسات الجائرة في الأقليم ‏وأحتضان السلطة المركزية لمروجي سياسات التطهير العرقي، دون وضع في الأعتبار مستقبل ‏الإقليم ورفاهيته، هي النتيجة المنطقية لما آلت إلية الأحداث الآن من خراب في الديار، وخراباً في ‏ذمم من رهنوا ضمائرهم لخدمة أغراضهم الضيقة وفي سبيل ذلك إنصرفوا كشحاً عن تعديات ‏البعض، وإستغاثات الآخرين.‏

(4) المعارضة المسلحة في الميزان:

وضح جلياً منذ إندلاع الشرارة الأولى في حرب الدولة بأن ‏هنالك أكثر من حركة مسلحة معارضة، أجمعت على منازلة الإنقاذ. ورغم الإنتصارات السريعة ‏المفاجئة المباغتة ضد الجيش الحكومي والذي يبدو بأنه قد أخذ على حين غرة، فأن الرد الحكومى ‏ضد من أتت القوات المعارضة لأنصافهم كان أقوى، وأوجع، وأخبث. رغم كل هذه الأنتصارات ‏الأولية الساحقة الماحقة على جند الحكومة، إلا أن هذه الفورة لم تكن مصاحبة طوال هذا الوقت ‏بخطاب سياسى على ذات القوة صنواً لهذا الحركة المسلحة، وقد دفعت هذه الفجوة السياسية-‏الإعلامية بتنظيمي "العدل والمساواة" و"الحزب الفدرالي السوداني" بتوفيرهما لشكل من اشكال الغطاء النظرى السياسى، وكل اخذ فى نسب هذه ‏الأحداث إليه. وشهدت هذه الفترة وجود أكثر من فصيل مسلح مقاتل، بدرجات متفاوتة من ‏الأنتصارات، دون وجود كيان مسلح جامع للتنسيق بينها، مما سهل كثيراً مهمة الحكومة في ‏تضخيم وتقليل من أرادت، وفقاً لحساباتها. وسياسياً، عجزت حركة تحرير السودان، وهي الفصيل ‏الأقوي ومشعل الشرارة في دارفور، عجزت في تطوير خطاب سياسي جامع لرؤيتها لدارفور ‏المستقبل، خلافاً لجماعة العدل والمساواة التي نجحت في إفراد نظرتها، قبيل أحداث دارفور عن ‏رؤيتها لسودان المستقبل المنصف لمهمشيه، كما أن للفدرالي معتقده في أن مفتاح حل مشاكل ‏السودان ستفرج بتبني نظاماً فدرالياً للحكم. إلا أن جميع هذه التنظيمات لم تفرد رؤيتها لمسائل ‏دارفور تحديداً، قبل الخراب، وبعده، كما لم تكن متفقة في الألتفاف حول تصور عريض لمسائل ‏الحرب والسلام فيما يخص دارفور، وعموم السودان. ومع تعدد المنابر والرؤى والمواقف ‏السياسية في الداخل والخارج، كان الذبح والحرق ماض وبوتائر متسارعة من جند الحكومة ‏ومليشياتها.‏

(أ) حول المسار العسكري للمعارضة:

كان النجاح نصير الحركات المسلحة المعارضة بداية إلا ‏أنه وبعد أحداث كتم ، فإن الخاسر الأول هم الأبرياء، من غير القبائل العربية ‏حسب سياسات الحكومة. لم تفطن المعارضة المسلحة من أن إلحاق الأذى الجسيم بجيش الحكومة ‏وآلياتها، قد تدفعها للإنتقام مستعينة بأبناء دارفور ذاتهم لحرابة أهلهم ومواطنيهم. وتحولت ‏المعارضة المسلحة بعد سير جحافلها الواثقة في السهول لمناطق الفاشر، مليط وكتم، تحولت إلي ‏قوات محاصرة في مناطق جبلية وصحراوية، وصارت في العديد من الأوقات في حالة دفاع ‏متواصل وفي هذه الفترة تم حرق ماتبقى من قرى وتمت مواصلة سياسات الأرض المحروقة ‏بأناسها دفعاً بهم للمدن، أو هواماً، أو نزوحاً لمناطق أخري خارج دارفور. كانت ولا زالت هذه ‏السياسات الحكومية تتم ضد الأبرياء العزل، ولم تفلح قوات المعارضة المسلحة من حماية ‏مواطنيها، ناهيك عن وقف الجيش من سياساته الأجرامية. ويبقى السؤال قائماً عن جدوى الحركة ‏المسلحة في حالة عجزها عن حماية من أتت لإنقاذهم؛ هل يستحق الخيار العسكري كآلية لإجبار الحكومة ‏للجلوس على طاولة المفاوضات كل هذه التضحيات والخراب، ومواطني دارفور لم ‏ينوروا ولم يبصروا عن المحصلة المرجوه بعد كل هذا الخراب؟ وهل هذا هو الخيار الأمثل في ‏دارفور من أجل انتزاع الحقوق المشروعة؟هل الأجدى توفير السلاح لحماية المواطن ضد ‏المعتدى عليه أم الأجدى إتخاذ سياسة مغايرة تماماً لما جرى ويجرى الآن؟ أن ركون الحكومة ‏لإتفاقية أبشي الأولى وحينها كانت الأضعف ميدانياً، هو خلافاً لموقفها عشية محادثات أنجمينا ‏الأخيرة حيث إنصاعت الحكومة للمفاوضات ليس لضعف عسكري، ولكن لضغوط الرأي العام ‏العالمي في إداناته المتكررة للمجازر العرقية في دارفور.‏

(ب) حول المسار السياسي للمعارضة:

لقد أبنا في ديسمبر الماضي عن ضرورة معرفة الرؤية ‏السياسية لحركة تحرير السودان، كبرى الحركات، لتنوير المواطن ببرنامجها السياسي، خلافاً ‏للمانفستو المعلن. وحركة تحرير السودان وهي المبادرة بنهج العمل العسكري ضد الإنقاذ مطالبة ‏أكثر من غيرها في تلافي هذا القصور، خاصة حينما كانت في وقت أفضل لمواجهته، وعن ‏ضرورة توحيد الواجهة الأعلامية ومد جسور التواصل مع كل مواطني دارفور، و تحديد موقفها ‏وعلاقتها بالحركات الأخر. كل هذا بدلاً من التركيز في أصدار بيانات عما يجري في مسرح ‏العمليات الحربية، أو في بلع طعم الحكومة في الحديث وبكثافة عن مليشيات الجنجويد. كما ‏لايمكن السكوت عن أن حركة تحرير السودان، وبظهورها للعلن ومن خلال المانفستو المعلن في ‏كونها حركة تحرير عسكرية-سياسية مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان، كان عليها الحديث ‏مع مواطنيها، بتطوير جناحها السياسي. ففي محادثات الفاشر في فبراير 2003، ومن خلال ‏مفاوضات الطينة، شملت مطالب الحركة: الاعتراف بها كحزب سياسي، العفو العام، أقامة ‏مشاريع تنمية في الإقليم، كبح جماح الجنجويد، الخ. وعين هذه المطالب هي ماتم الأتفاق عليها ‏في أبشي. و في محادثات إنجمينا في أبريل 2004 حيث فاجأ الوفد الحكومي الجميع في الموافقة ‏للإجتماع بعد أسبوعين لمناقشة القضايا السياسية للأحتراب. جاءت هذا الموافقة من ذات الكيان ‏والذي كان حتي بالأمس القريب واصفاً المعارضة المسلحة بكونها عصابة نهب مسلح، وهي ‏تدري حينها بعدم وجود إطار سياسي فاعل لهذه الجماعات تتناسب والخراب الماثل. وقد أتت ‏هشاشة الموقف السياسي لهذه التنظيمات مع رتل من الأنشقاقات المتواترة في صفوفها، وهو ليس ‏بالأمر المستغرب، في زمان والكل فية تواق للم الصف. ‏
إن الضغوطات الدولية، والتي هي وحدها قد أجبرت الحكومة على الجلوس حول طاولة ‏المفاوضات مع الحركات المسلحة، قد تستخدم هي ذاتها في تنصل الحكومة عما إقترفت من آثام ‏في دارفور. وفي هذا لا يمكن التقليل من الربط بين ما يجري الآن في دارفور، ولهفة المجتمع ‏الدولي لأنجاح مفاوضات السلام بين الحكومة والحركة الشعبية في نيفاشا، وأثر هذا في كيفية ‏حسم الصراع الدائر في دارفور، وبين كل هذه الأمال يقع مصير أبرياء دارفور، المهمشون ‏حقيقة. ‏
ومن كل هذا يمكن لكل حصيف أن يرى بأن الحكومة ومليشياتها رغم كونها في موقف عسكري ‏وعتادي قوى، إلا أنها الأضعف أخلاقياً وضميرياً، فيما تم ويتم إقترافة من جرم ضد الأبرياء ‏والعزل. وإن كان هنالك من "مفخرة" للدولة في كل هذه الأحداث، فيمكن إجماله بأنها قد شاركت ‏مع غيرها في خراب دارفور. فعجز الحركات المعارضة المسلحة في توصيل خطابها السياسي ‏لمواطني دارفور، فقد قامت الحكومة، وبإقتدار في توفيره.‏

(5) نحو مستقبل مشرق:

دلت العديد من التجارب البشرية بأن السلاح وحدة رغم وميضة وفتكة، ‏ليس هو بالضرورة آت بنتائج إيجابية تتماشي والمقصد، فتجارب هتلر وملوسوفيتش، وأمريكا ‏في فيتنام والآن في العراق لخير دليل. وعلى ذات القدر ورغم عظم الكارثة في دارفور من دمار ‏للنفس والممتلكات، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة بأن ما تم وماسيتم إحرازه من مفاوضات ‏وغيرها ستكون متطابقة وحجم الخراب. وكل المبتغى أن يدرك أهل دارفور بأن هزيمة اليوم لا ‏تعني بتاتاً الخنوع، أو كونه نهاية المطاف. ولا أري من شعار مناسب في هذا الظرف خير من ‏عنوان مقال للأخ نصرالدين حسين دفع الله: "لن تكسرنا مليشيات الجنجويد". فجنجويد دارفور اليوم ليسو هم قصراً ‏على مليشيات الحكومة من أبناء دارفورة وماجاورها، بل هم كثر من أبنائها حلفاء النظام من ‏داخل السودان وخارجه، ممن باعوا أنفسهم وضمائرهم، بثمن بخس من أجل دريهمات مباركين ‏فتك الحكومة بمواطنيهم، أياً كانوا، هم أيضاََ حلفاء النظام بشقيه الحاكم و"المعارض"، المدافعين ‏عن سياسات الحكومة الجائرة، والجاعلين من دارفور ضيعة رخيصة لحسم صراعهم مع ‏منافسيهم للنفاذ لمكان صنع القرار بخراب دارفور، ونجدهم في مسلك وذهنية من هم في خارج ‏إطار السودان الجغرافي وقد كست غشاوة العرقية أفئدتهم، ناظرين لأحداث دارفور "كمهدد ‏للوجود العربي في دارفور"، وهم أيضاً الحالمين برفيع المناصب والمغانم لما يتم الآن من خراب، ‏قدحاً وذماً.‏
فدارفور وبتاريخها التليد وتفردها الأثني، هي مفخرة للجميع، إلا أن مشكلها قد أتى في زمان ‏شهد إندحار المشروع الحضاري للأنقاذ والتي رأت بألا خير في تنوع السودان العرقي والثقافي. ‏وحينما أطلت أحداث دارفور والحكومة سكرى بهذا الإطار الفكري، لم ترى خيراً في تعددية ‏دارفور، بل رأته نقمة وقد تحالفت أيدلوجياً مع دعاة النقاء العرقي من أبناءها والذين صارت ‏الغلبة لرأيهم، وتم لهم ما ارادوا. ودارفور، وأن تصافت القلوب وتحابت، وتم تحييد كل طامع ‏للسلطة في تجنبه للعرقية، لوسعت الجميع، فإن كانت الدولة هي حقيقة عادلة ومنصفة لكان لها أن ‏هبت لنجدة جميع مواطني دارفور دون إعتبار لعرق، أو لأصل وفصل. ولكن ظهر جلياً في ‏تاريخ السودان المعاصر ومن خلال التداول السلطوي للمركز تعاظم دور العرقية في التركيبة ‏الحاكمة، وهيمنتها السياسية والثقافية محدده علاقاتها مع الأطراف والتخوم. فإن كان هذا هو ‏أساس تركيبة الدولة الحاكمة، فعلينا بالتواضع فيما نرجو أن تصير إليه الأوضاع.‏
ومن خلال ماتم تدميره في دارفور، وقد صارت الغلبة العسكرية للإنقاذ، فأن ماتم خرابه يمكن ‏إعمار بعضه وهذا ليس الخراب الأول لدارفور، ونرجو أن يكون الأخير إن فطن الجميع لمغبة ‏هذا العمل. فدارفور قد خربها الزبير باشا رحمة عام 1874، متقصياً الزعيم موسى مادبو زعيم ‏الرزيقات، إلي أن وجد سانحة ضم دارفور كلها لزريبته؛ وخربت دارفور أيضاً في فترة المهدية ‏علي يد أعوان الخليفة من دارفور ذاتها ومن خارجها من أمثال عثمان أدم جانو، ومحمد خالد ‏زقل، وثارت دارفور كلها ضد القوات المهدية قبيل سحقها. ورغم هذا فأن سنين عمارية دارفور ‏هي أكثر من سني خرابها، فهي وإن خربت الآن، فليست هي نهاية دارفور، ككيان، وكمشروع، ‏وكأرث حضاري له أسهاماته الجليلة للأنسانية، سابقاً ولاحقاً. ‏
يأتي هذا الخراب أيضاً وأبناء دارفور في الحزب الحاكم لهم تمثيل كبير، وموقع أكبر في التنظيم ‏المعارض، إلا أن هذا الوجود الكثيف لم يترجم إلى كوابح لوقف الزحف التدميري لدارفور ‏بحواضرها وبواديها، بل وأن أبناء دارفور ممن إرتبطوا بالنظام هم الآن المدافعين عن سياسات ‏الدولة تجاه إقليمهم متدثرين بلحاف ذم المعارضة المسلحة. كما لم يوقف حزب الأمة وهو الذي ‏بنى إرثه السياسي من صناديق المقترعين في دارفور، ومن دماء من تم ذبحهم "كمرتزقة" في ‏محاولات الأطاحة بنظام النميري، وزعيم حزبه الأمة "المعارض" لم يقف ذات الوقفة في ‏معارضة خراب دارفور يوم تصدي لقرار لجنة الأنتخابات التي كونها سوار الدهب بتقليص ‏الدوائر الجغرافية في دارفور. ومع كل هذا، ألا أجدر بمواطني دارفور أجمعين التفكير جدياً ‏وعملياً في إنشاء كيان سياسي جامع لخير الإقليم خاصة، والسودان عامة؟ فقد دنا الوقت الآن ‏للعمل مع مواطني دارفور، أجمعين وهم قد أرتضوا العيش في ذات الأرض، وفي ظل دولة ‏سودانية ديمقراطية، هي للجميع، وبالجميع. فدارفور المستقبل هو وعاء للجميع، وليس حكراً ‏لأحد، فهي دار للـ : مساليت، التعايشة، الفور، الرزيقات، الزغاوة، المعاليا، التنجر، البني حسين، ‏الداجو، الزيادية، المسبعات، الفلاتة، الميما، التاما، البيقو، البرتي، الميدوب، أولاد الريف، ‏الواهية، الجلابة، البرقد، ألاسنغور، الشرفة، القمر، السلامات، العريقات، أم جلول، المراريت، ‏بني منصور، وغيرهم وغيرهم.. وهي فوق كل، هي لكل السودانيين.‏

فأي دعوة لأستثناء أحد، هي دعوة عنصرية ولا مكان لها في دارفور المستقبل. فدارفور في ‏تاريخها الطويل لم تكن طاردة، بل حاضنة ومستقبلة للجميع من داخل الأقليم وخارجه في إطار ‏السودان الجغرافي. وعلى دعاة التطيهر العرقي وحلفائهم بإدامة النظر إلى أنفسهم وغيرهم بتجرد ‏حيال نقائهم العرقي، أياً كان ومقارنة أنفسهم بالغير، وهل يرقي ذلك لكل الحرابة والدمار؟ وبعد كل هذا ‏الخراب، من هو الخاسر و من هو الرابح، أفراداً، وجماعات، ودول؛ كنتيجة منطقية لما آلت ‏وستؤول إليه الأوضاع في مقبل السنين في درفور؟‏


د.علي بحرالدين علي دينار
جامعة بنسلفانيا – فيلادلفيا

http://www.darfurinfo.org

14 مايو 2004