ولأهل السودان العزاء الحار

ولأهل السودان العزاء الحار


04-27-2004, 03:15 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1083032122&rn=1


Post: #1
Title: ولأهل السودان العزاء الحار
Author: الزين يحيي عثمان-السعودية
Date: 04-27-2004, 03:15 AM
Parent: #0

الزين يحيي عثمان - المملكة العربية السعودية

صور عديدة تشكلت في ذهني وتزاحمت، وأسئلة عديدة طرحت نفسها عندما نعى الناعي الأستاذ القاضي محمد يوسف مضوى أحد أعمدة العلم والمعرفة القانونية في السودان، ولعل أكثر الأسئلة المحيرة هو لماذا هكذا أبناء السودان وعلمائه يؤثرون الرحيل عن هذه الدنيا الفانية في صمت ؟؟ ترى هل يرحلون ويتخيرون هذا الصمت من باب الإشفاق علينا نحن أهل السودان، لكي لانحزن على رحيلهم. أم ترى أنهم لا يريدون أن يزيدوا الناس في بلادي حزنا على أحزانهم.. وكأن لسان حالهم يقول.. كفي بأهل السودان ما بهم من أحزان وما يعيشون من ماسي.

لقد غيب الموت حقا أحد رجالات القضاء السوداني، ولكن لن يغيب وعيا ظل يتشكل على مدى حقب من الزمان، أسهم الراحل ضمن جيله بقدر في تشكيله. وفى يقيني أن هذا الوعي سيظل كما الشمس يضئ عتمة الزمان في بلادي، ويلهم أبناء الشعب السوداني التواقين دوما لتجديد الحياة الدافع لتحقيق رغباتهم وتطلعاتهم.

ففي وقت تكالب فيه رهط من متعلمي أبناء السودان، وتسابقوا لإرضاء نزوات الحكام العسكريين، استعصم الراحل العزيز ورفض المشاركة في الحكم إبان حقبة المشير جعفر محمد نميرى الذي قدم له شخصيا العديد من العروض. تلك حقيقة قد أوردها أيضا الدكتور منصور خالد وزير الخارجية في عهد الرئيس الأسبق النميرى بقوله في أحد كتبه التوثيقية ( جنوب السودان في المخيلة العربية ) في شهادة للتاريخ إن ثلاثة فقط من أبناء السودان الذين دعوا وقتها للمشاركة في الحكم – كان الراحل مضوي أحدهم _ ولكنهم رفضوا المشاركة بمبدئية.

وعندما اتيح لي يومها المتابعة والوقوف على تطورات الأوضاع في السودان كانت تستوقفني أخبار لقاءات الرئيس النميرى بوزرائه ومستشاريه وسفرائه وحوارييه الذين كان يحرص على تزويدهم بنصائحه الغالية كل في مجاله ومن بينهم علماء تركوا قاعات الدرس والعلم الذين نالوا فيه أرفع الدرجات العلمية وقنعوا بغنيمة كرسي الحكم.

حينها أدركت كم كان حكيما الراحل العزيز.. إنه واحد من عقد فريد من متعلمي السودان أدركوا بثاقب فكرهم وفى وقت باكر أن لا طريق لنهضة السودان وبنائه غير الطريق الديمقراطي التعددى وأن واجبهم الوطني يملى عليهم البقاء بعيدا عن مواقع سلطة لم يأت لحكم بلادهم بالانتخاب.

بهذه الاستقامة وبهذا الإدراك، ظل الأستاذ محمد يوسف مضوى يرحمه الله يعمل مع رفاقه لإرساء دعائم القضاء السوداني المستقل وترسيخ مبادي الفصل بين السلطات. قضاء يعيد الحقوق لأصحابها وينصف المظلومين.. وعندما حدثت مذبحة القضاء السوداني الأولى(1970) التي أعفى خلالها المشير جعفر نميرى كل أعضاء الهيئة القضائية وقضاة المحكمة العليا، ليصيب القضاء السوداني في مقتل ويضع سابقة سيئة أصبحت واحدة من علل السودان وظلت تتكرر على مر عهوده ولم تنج من هذا الداء حتى الحكومات المنتخبة ديمقراطيا. لقد أصبح كل واحد منهم يقرب أصحاب الولاء ويتخلص من الآخرين مهما كانت كفاءتهم في مجالاهم وإخلاصهم لعملهم.

ترك الراحل القضائية إثر ذلك، ولكنه خلف تراثا قضائيا، أحكاما متجردة ونزيهة أصبحت سوابق تعكف على دراستها الأجيال، وفوق ذلك سيرة عطرة.

ذهب الراحل العزيز إلى كل من نيجيريا ودولة الأمارات العربية المتحدة، مستشارا قانونيا وأستاذا جامعيا.. فقدم مثالا رائعا لأهل السودان. وتواصل عطاءه بعد عودته من المهجر، حيث أنخرط في سلك المحاماة.. فظلت الشجاعة والنزاهة زاده، والاستقامة والصدق مع النفس والناس ديدنه، فخط كتابا مليئا بالبذل والعطاء في كل مجال ارتاده، وأنجز كل مهمة أسندت إليه.. كان هناك حاضرا في جامعة الخرطوم حينما أصبح رئيسا لمجلسها.. أدار انتخابات السودان البرلمانية الثانية (1965) في أعقاب ثورة أكتوبر الشعبية وشارك في إدارة وتنظيم أول انتخابات يشهدها السودان ( 1954) تلك التي مهدت لقيام أول برلمان سوداني أعلن من داخله الرئيس إسماعيل الازهرى استقلال السودان في عام 1956م. وأدار تلك الانتخابات بحيدة ونزاهة شهدت بها جميع الأطراف المتنافسة من حكم السودان.

لقد قدم الراحل النموذج والمثال الرائع في كل لجنة تشرف برئاستها وكان عضوا فيها، وكذلك عند تمثيله قضاة السودان ورجالات القانون في عدد من المحافل القانونية الدولية ومن بينها محكمة العدل الدولية في لاهاي.. لقد ترك بصماته في كل مكان.

وبهذا التفرد أيضا، كان الراحل عن دنيانا قد شق طريقه في الحياة، بدءا بتعلم القران ودراسة الحديث في خلوة جده الشيخ المضوي بمدينة بربر الوادعة بشمال السودان، سالكا في سبيل العلم والتعلم دروبا وعرة وصلا بكلية غردون الجامعية وانتهاء بعاصمة الضباب في مطلع خمسينيات القرن الماضي.. ناهلا من العلم في شتى مظانه وضروبه فأضحى رجلا معلوماتيا ، يستظل الجميع بظله إلى أن مضى طيبا.

لا أملك إلا أن أتقدم بأحر آيات العزاء لأسرته ولأهله بمدينة بربر ولزملائه وطلابه ولأهل السودان قاطبة.. وأسال الله أن يسكنه فسيح جناته وأن يعطر ثرى قبره ويلهمنا جميعنا الصبر والسلوان.