محطة المظلة ( بانوراما )

محطة المظلة ( بانوراما )


09-29-2015, 11:27 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=480&msg=1443522431&rn=0


Post: #1
Title: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: ابو جهينة
Date: 09-29-2015, 11:27 AM

10:27 AM Sep, 29 2015
سودانيز اون لاين
ابو جهينة-السعودية _ الرياض
مكتبتى فى سودانيزاونلاين



تبقى محطات الإنتظار في شوارع المدن العتيقة كلافتة إندثرتْ معالمها .. وبورتريه يكتظ بشتى الصور

****

بشكل يومي تقف بمحطة البص غير بعيدة عن المظلة و هي تتأبط بعض الكتب ودفاتر دون حقيبة ..
تنتظر ( البص ) بإتجاه مدرستها الجديدة ..
تنبثق أفكار مشوشة عن الطريق وركاب المركبة وزميلات المدرسة.
تتحسس ( ضفائر شعرها ) للتأكد من ثباتها..
وتتحسس مصروفها في جيب زيها المدرسي..
تحشر جسدها النحيل بين الركاب وتجلس مبهورة ..
تبحلق من النافذة تراقب بيتهم و هو يبتعد رويداً رويداً ..
يدخل مرمى بصرها منظر آخر..
ها هي الأيام تلوك تروس حياتها الرتيبة وتمضغها بين طياتها لتلفظها في صفحة جديدة من صفحات الحياة ..
يتداعى إيقاع حياتها منذ أن عرفتْ هذا الشارع وقبل أن تقوم المظلة منتصبة في منتصف الشارع ..
تقطع الشارع مسرعة و هي تتلفت يمنة و يسرة عملاً بنصيحة أمها ..
لم تكن تعلم بأن مظلة ( المحطة ) هذه ستكون جزءاً من حياتها يوماً ..
بل و ستشكل إطار أيامها القادمات.
تبدو لها المحطة كبيت عرس ..
يجتمع الناس مثرثرين ثم تختفي كل الشخوص ، و لا يبقى منها ما يحفز الذاكرة لإسترجاعها .
تتعفر ساقاها بتراب السابلة والعربات .
مشاويرها بين بيتها و بين ( الدكان ) و ( الطاحونة ) و ( الفرن ) يجعلها تمر جيئة و ذهاباً على الواقفين في إنتظار البص.
يتصالح لون بشرتها مع لون الشارع ..
تنزلق كل حبات الغبار تحت مياة ( الماسورة ) التي تتوسط الحوض في فناء منزلهم .
تطأ بقدميها الحافيتين حبات الحصى هنا و هناك غير عابئة ..
تتقافز و كأنها تلاعب صديقاتها لعبتهن المفضلة ..
تقف متفرجة على تزاحم الواقفين للصعود على متن ( البص ) المتهالك .
بفضول زائد تتوقف لتعرف من ينزل من البص ..
( حجة سعاد .. شايلة قفة )
( قريب ناس نهلة شايل كيس فواكه )
( عمة صاحبتي نوسة المجنونة نازلة تحدث في روحا )
و تراجع أسماء الأطفال في سرها ..
تلَوِّح غير مبالية عندما يوليها البص ظهره
نفس الوجوه كل يوم على محطة ( المظلة ) ..
( العم سالم ) بحذائه الرخيص تتسلل منه موجات الحرارة من سطح الأرض الملتهبة بأشعة الشمس التي ما فتئتْ ترسل لهيبها منذ بواكير الصباح .. يتصبب عرقاً لا يفلح منديله القطني القصير من جلْب الهواء المعدوم أصلاً .
يقف وحيداً في إنتظار ( البص ) الذي لا تبدو أي بارقة أمل في وصوله، فيستند على حافة المظلة الأسمنتية ، تلسعه حرارة الإسمنت فيبتعد عنها ينظر إلى جهة قدوم البص كمن يبحث عن مواساة بالبحلقة بعيداً.
يرفع رَجُلُ تكتنف أساريره موجة من القلق رأسه إلى ما تبقى من المكتوب على طرف المظلة :
( مظلة المرحومة الحاجة ... ) و يتمتم بكلمات غير مسموعة و كأنه يترحم على روحها ..
تلاشتْ بقية الحروف تماماً كما تتلاشى دعوات الذين يقفون يومياً تحت المظلة إتقاء الهجير و القيظ ، فهي قد اندثرت منذ أن واروا جثمانها الثرى و نفضوا أيديهم عند الإنتهاء من تدشين هذه المظلة ..
( حاجة أمينة ) تحمل ( قفة ) فارغة ، و بيدها اليمنى ( مطْبقة ) تُطْبِق عليها بقوة بيدها اليسرى.
نفس الوجوه تتْرَى على المكان .
الغريب عن المكان يبدو كالوشم في ظاهر اليد.
عجوز تتسارع وتيرة ما بين ( سفته ) الملفوظة و إخراج كيس (الصعوط) ليرمي بأخرى أسفل لسانه ..
سقف المظلة لا يقي من زخات المطر المتلاحقة ، لا ينقذهم إلا قدوم (البص) يطلق صافرة كأنها آتية من جسم آخر ، يتمايل و كأنه سيرتاح طويلاً في ظل المظلة الذي لا يكفى الواقفين.
أحكمتْ رباط الحزام و تأكدتْ من لمعان الحذاء .
تفرستْ في الوجوه .
لا غريب إلا شاب واحد تعتقد أنه يسترق النظر إليها .
ظلتْ تسمع يوماً بعد يوم صوتاً كانت تتخيله شخصاً يراجع دروسه هنا في العراء، أو كمن يقرأ من ( جريدة ) .
لا تعير الصوت اهتماما، ولكنه كان كالذي يُلح عليها بأن تلتفتْ لترى المصدر .
بحذر إلتفتتْ نحو مصدره .
فوجدته يبتسم لها ويكرر نفس الكلمات .
تفحصته بسرعة من قمة رأسه إلى أخمص قدميه .
كان متأنقاً رغم ملابسه الرخيصة، يعج شعر رأسه بسائل لامع ، ينحدر سائلاً قليلاً على جبهته بفعل الشمس.
فإبتسمتْ و هي تتذكر بقايا زجاجة ( الكريم ) الفارغة التي دلقتْ بداخلها بعض الماء هذا الصباح ليجود عليها ببعض ما تعلق بأركانه التي لعقتها أصابعها يوماً بعد يوم.
تمادى الشاب قليلاً ، فرمى لها بورقة جرفتها نسمة هواء مباغته بعيداً، فتبعها بناظريه و هو يتحاشى نظرات الواقفين الممتعضة.
وجدته يوماً جالساً بقربها مبهور الأنفاس في مقعد البص،لا يكاد يجرؤ على النظر في عينيها .
عندما حاول أن يدفع عنها ثمن التذكرة ،عاجلتْ ( الكمساري ) بالثمن بنظرة احتجاج صامتة ، فلامست ذراعها وجهه .
أحستْ بإنتفاضته وتبعثر كيانه ، والعرق يتصبب منه ليبلل ياقة القميص، ويزدرد ريقه .
نهضتْ ، فأفسح لها المكان و هو لا يجرؤ على النظر إليها .
إنزلقت هابطة في محطة وُجْهَتها ، و هي تكتم ضحكة تعربد بدواخلها .
ظلت المحطة كما هي .
والباص يلفظ فوجاً من البشر ويبتلع في جوفه كتلاً أخرى من الركاب .
والشاب في حيرة بسبب غياب الفتاة كل هذه المدة.
لا يدري من يسأل .
تقدم من العجوز وسألها بصوت خفيض : البت ال كانت بتمشي المدرسة كل يوم .. غايبة ليها كم يوم .. إن شاء الله هي بس طيبة ؟
رمقته العجوز و هي تصلح من طرف ثوبها و قالت بإمتعاض : وكت إنت شفقان عليها ما تمشي تسأل عليها في بيتا..؟؟؟
و لم تكمل ، و رمته بنظرة لها مغزى ..
تراجع إلى الخلف يلوك حيرته وامتعاضه.
البص يتهادى متمايلاً كعادته .
يلفظ ويبتلع في جوفه أكوام البشر.
تتسارع بقايا أوراق من الصحف القديمة وأكياس النايلون على أسفلت الشارع المتآكل ، يقف بعضها ليرتاح بالقرب من الكتل البشرية المتراصة في لا مبالاة وتواصل البقية ركضها كأنها على موعد في مكان آخر.
يمر ( لوري تراب ) فيهيل على الواقفين زخات من ( السفاية) ..
وتمرق عربة مكشوفة يتكدس بصندوقها عدد من أفراد الشرطة يرمقهم المنتظرون بنظرة خاوية لا معنى لها .
بين مرور عربة وأخرى، يخيم صمت مطبق، كلٌّ غارق في دنياه وأمورها.
تتهادى سيارة فارهة تسير على مهل و كأنه متعمَّد .
إنفتح زجاج السيارة مع هبة هواء ساخنة من السموم ، ذكرته بالورقة التي رماها لفتاته ..
لمحها على مقعد السيارة الأمامي، هي بعينها ..
رمته بنظرة سريعة وسرعان ما تحولتْ مبتسمة إلى سائق العربة الفارهة .
أحس بأن سقف المظلة قد إمتد ليغطي الشارع كله ، و أنه هو الوحيد الواقف في المحطة .
تبعها بعينيه بنظرة بلهاء ، حتى توارت عن الأنظار ..
إنتابه شعور لا هو بالغضب أو الامتعاض، ودخل في نوبة خواء روحي شامل.
أحس بأن أحداً يتفحصه خلسة .
فألتفت ليرى العجوز التي سألها عنها تنظر إليه و في عينيها سؤال يكاد يفصح عن نفسه .
عندما أتى البص، كان أول المندفعين إلى داخله يشق صفوف الزحام .

Post: #2
Title: Re: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: الطيب عثمان يوسف
Date: 09-30-2015, 04:06 AM
Parent: #1

*** شكرا أبا جهينة على هذه السياحة الصباحية الراقية بمحطة المظلة .



Quote: هي تتذكر بقايا زجاجة ( الكريم ) الفارغة التي دلقتْ بداخلها بعض الماء
هذا الصباح ليجود عليها ببعض ما تعلق بأركانه التي لعقتها أصابعها يوماً بعد يوم



*** بوست بانوراما فعلا .

Post: #3
Title: Re: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: الطيب عثمان يوسف
Date: 09-30-2015, 08:43 AM
Parent: #2

فوق

Post: #4
Title: Re: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: ابو جهينة
Date: 09-30-2015, 10:58 AM
Parent: #3

أستاذنا الطيب عثمان يوسف
كل عام وأنت بألف خير وبركة

هناك أشياء عديدة في السودان تصلح أن تشكِّل بانورما ، إما كتابةً أو تسجيلا سينمائيا قصيرا.
مثال هذه المحطة
أو ست الشاى وزبائنها
الجالسون على لساتك العربات المغروسة في نواصي الشوارع
دكان الحى
إلخ .......

مرورك يُغْري بالسياحة في هذه المكامن
دمتم

Post: #5
Title: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: عمار عبدالله عبدالرحمن
Date: 09-30-2015, 06:18 PM
Parent: #4

لى حق اشتاق لكتابتك

تسلم ابوجهينة

Post: #6
Title: Re: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: ابو جهينة
Date: 10-01-2015, 05:11 PM
Parent: #5

تحياتي عمار
و كل عام وانتم والاهل بالف خير

مشكور على الكلمات البهية وبارك الله في ايامك

Post: #7
Title: Re: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: درديري كباشي
Date: 10-02-2015, 09:45 AM
Parent: #6

يا سلام عليك يا مبدع

القصة أخترقت كياني بقوة ثلاثية ..

لأننا عشنا طفولتنا وشبابنا على ضفاف محطة تتصف بهذه الصفات

محطة الحجر بكسلا

لها نفس الطبيعية البانورامية تتغير فيها الشخوص والاحداث والالوان على مدار الساعة

Post: #8
Title: Re: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: Osman Musa
Date: 10-03-2015, 04:27 AM
Parent: #7


سلام .
معاك الحجل بي الرجل من المظلة بارنك يا أستاذ .
والله عندك مقدرة عجيبة في أنك تكركرنا خلفك مستمتعين ,
لك التحية كبيرنا العزيز أبوجهينة .

Post: #9
Title: Re: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: وائل حمزه الزبير
Date: 10-03-2015, 05:22 AM
Parent: #8

الأستاذ ابو جهينة

السلام عليكم ورحمة الله وصباح الخير .. حقيقة سعدت بأن قابلتك في يومٍ ما .. وأسعد كثيراً بمتابعة جمال كلماتك أيضاً.

Post: #11
Title: Re: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: ابو جهينة
Date: 10-04-2015, 11:40 AM
Parent: #8

تحياتي عثمان موسى
كل عام وأنتم بألف خير
متابعتك تُغري بالمتابعة
لك الشكر أخي
دمتم

Post: #12
Title: Re: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: ابو جهينة
Date: 10-05-2015, 11:41 AM
Parent: #8

أخي عثمان موسى
تحايا وسلام
ولك الشكر على المرور
دمتم

Post: #10
Title: Re: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: ابو جهينة
Date: 10-04-2015, 09:16 AM
Parent: #7

تحياتي أخي الكباشي درديري

***
لأننا عشنا طفولتنا وشبابنا على ضفاف محطة تتصف بهذه الصفات

محطة الحجر بكسلا

لها نفس الطبيعية البانورامية تتغير فيها الشخوص والاحداث والالوان على مدار الساعة

***
كما ذكرتُ آنفا ، بأن هناك أماكن بالوطن العزيز ، تقبع محفورة بالوجدان تصلح أن ننتج منها أفلاما وثائقية ، ومنها المظلات ومحطاتها إلخ ...
أسعدني مرورك
دمتم

Post: #13
Title: Re: محطة المظلة ( بانوراما )
Author: ابو جهينة
Date: 10-06-2015, 09:12 AM
Parent: #10

الأخ وائل حمزة الزبير

سلام كبير وتحايا مقيمة

أسْعد الله أيامك وبارك فيها
يسعدني مرورك دائما وائل
دمتم