من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )

من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )


05-11-2014, 12:51 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=480&msg=1418145953&rn=0


Post: #1
Title: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-11-2014, 12:51 PM

تقديم :

حيث أن أصدق الشعر أكْذبه :

قال :

جايز إنك في غيابي تقلبي الدنيا عليْ
بس أنا قبل أعرفك .. قلبت الدنيا عليك

***

مبالغة ... ولكنه ممكن الحدوث :

Post: #2
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-11-2014, 12:53 PM
Parent: #1

تناديه أمه منذ أن كان طفلاً بالــ ( دُخْرِي ) .
واستوعب معنى المسمى تماماً وجعله قالبا لحياته فتخندق فيه و جعله نبراسا يقود خطواته.
يفرهد بدواخل أمه أملٌ بأن يكون بالفعل ذخراً للأسرة .
وأنه مدَّخر كما الـ ( دافْنِنُو في بطن المطامير ) ..
وأنه كما ( البركاوي والبتمودة ) في القساسيب ..
وعندما ضاق به الحال في البلد ... هاجر كبقية الطيور ..
وفي غربته لم يعمل إلا بوظيفة ( أمين مستودع ) ...
ولكى يقوم بدور ( الدخري ) ، ولكى لا يخيب ظن أمه والأهل ، لم يقصر مع ( أي زول ) ..
شارك في كل ( فزعات الأهل ) ..
( شيلة ) الشفيع ( ود خالتو ) ..
( برندة ) العَمَّة ( حفصة ) التي كسحتْ مع المطر
( طهور ) أولاد الزين ( الجار الساكن في الشارع خلف بيتهم ) ..
عملية الغدة لـ ( فاطنة ) زوجة ولد عمو ...
تصليح ( التاكسي ) بتاع ( تاج السر ) صاحب أخوه بابكر
وعندما أتاهم ( إيد ورا و إيد قدام ) .. بعد أن مكث عاما في سجون غربته لأن ( جرد حساب الشركة التي يعمل بها ) أكتشف نقصا في المخزون لم يكن له يد فيه ولكن بفعل فاعل خبيث ، عندها فقط لاحظ أن كلمة دخري اندثرت حتى من على ( خشم أمه ) ..
كما لاحظ أن ( الشفيع ود خالتو ) لم يأت لزيارته متعللا بالمشغولية .. و أن زوجته تعاني من تبعات الحمل و( الوحم ) ..
و ( العمة حفصة ) لم تستضِفْه في برندتها الجديدة .. فقد أجلسته على ( عنقريب الحبل ) في الحوش مع كوب من ماء الزير ..( موية زرقا )
و ( الزين أبو وليدات الطهور ) ألقى إليه بتحية باردة أمام البيت و لم يقم بتعريفه بأولاده حين إلتقاهم معه.. بل إكتفى بالقول : دة الزول ال رسل ليكم حاجات الطهور... بتتذكروا؟
و ( فاطنة ) رجعتْ من بيت الجيران و لم تأت للسلام عليه .. فقالت له شقيقته بأنها قالت لها : ( يطرشني ما سمعت الدخري جا ) ..
و ( تاج السر صاحب التاكسي ) .. أوقف التاكسي و سلم عليه و إلتقط زبوناً ثم إنطلق.
تسلل إلى غرفته و نظر إلى نفسه في المرآة، فخُيّل إليه أنه يرى وجهه كعملة معدنية تطير في الهواء لتستقر إما طرة أو كتابة.

Post: #3
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-11-2014, 12:58 PM
Parent: #2

أن تصبر ( إخلاص ) على غياب زوجها عنها سبع سنوات طوال و هي الشــابة الممتلئة صحة و عافية ..
فذاك أمر كالمشى حفاة على الشوك في عز الهجير ..
( إخلاص ) الشـابة التي يقول عنها ( عبد النبي ) عندما يراها و هي تنحني لتملأ الصفيحة من النيل :
(و الله الفرسة دي عاوزة ليها خَيَّال عندو صحة .. البنية ما عندها حظ ..)
ثم يتابعها و هي ترتقي (القيف) بصبر و أناة و قوة لتفرغ الماء في الزير ..
يتماوج جسدها المتناسق مع كل خطوة تحرص فيها على توازن ما تحمله على رأسها ..
و يُظْهِر الفستان المبلل بالماء تقاسيم جسدها بدقة تجعل (عبد النبي) يبلع ريقه مراراً ..
و يلعن الزمن في سرِّه و ينهال على الأرض بطوريته في غيظ مكتوم ..
أن تصبر و تتناسى رغباتها الجسدية و شوقها العارم . فهو أمر يفوق الصبر المدلوق على القيام بنسْج (برشٍ) من سعف النخيل في أيام القيظ تحت نخلاتٍ يهرب الظل عنها سريعاً ..
و يزيد أيضاً على الصبر الطويل في مراقبة محصول القمح و حباته تنبثق من فتـحات التربة تقاوم الســموم
و رياح الهجير و تقابل موجات ( الزرازير ) و بغاث الطير حتى موعد الحصاد ..
تتناسى و لا تنسى ..
تتذكر و تهرب من الذكرى بمزيد من التفاني في أشغالها اليومية ..
تشغل نفسها حتى النخاع لتطفيء غضب الرغبة و تقتل نَتْح المتعة التي لم تدم مع عريسها المهاجر سوى بضعة أشهر .. كانت ثمرته ( محمد ) .. يؤنس وحدتها .. ترى فيه وجه أبيه .. و تلك اللحظات التي مرت كلمح البصر .. تتحدث معه عند هجعة الليالي و هي تداعب شعره ..
تبثه أمانيها بعودة الغائب ..
أحياناً تأمل في أن يرسل في طلبهما .. فيبدو بعيداً صعب المنال ..
و تارة تلفها الأمنية و تتجسدها كروح أخرى تنام و تصحو معها ..
تأتيها أسئلة وحيدها البريئة : أنا عاوز أشوف أبوى ..
تخنقها عبرة و تلجم لسانها غصة ، فتروغ عن أمنيته بدندنة أغنية تهدهد لهفته و تجعله يغفو تجلل نومته أحلام طفولته الحيْرى ..
تمر أيام الصيف الطويلة بقيظها و سمومها ،لا يبرد جوفها غير قطرات ماء الزير ونسمات آتية عبر صفحة النيل ..
سكون ساعات النهار لا يقطعه غير صوت (طلمبات ) الماء تزيد من وجع رتابة أيامها ..
ليل الصيف بأنجمه المتلألئة تسامرها طوال الليل و حتى مطلع الفجر ..
تحسبهم نجمة نجمة .. تتابع المتهاوي منها في الأفق البعيد .. فتعيد الكرة لتبدأ العد من جديد ..
يذكرها بليلة دخلتها و بخجلها و بخوفها اللذيذ الذي سرعان ما بدده زوجها بروحه الدمثة.
تجربتها كأنثى تغادر دنيا العذرية و وصولها إلى عوالم أخـرى كانت مجرد حواديت كُنَّ يتناقلنها في خجل من تجارب صديقات و قريبات ..
يا لليل الصيف ذاك .. و يا لليالي الصيف بعدها ....... فكلما زحف بطيئاً آتياً بتثاقل تزحم رأسها تلك الأيام بعطرها و أهازيج فرحها ..
يأتي الصيف الآن ..يموسق ليلها صوت نباح الكلاب البعيد ..
و ضفادع يعلو نقيقها و يخفت ..
و صوت أوتار (طنبور ) يئن يحمله الهواء تارة و تارة يذوب مع أصوات أخرى ..
و أنفاس طفلها هي الوحيدة التي تجعل أوتاد روحها تنغرس بصلابة في أرض حياتها المجدبة ..
تتوالى شهورها .. و سنواتها .. و شوقها يكبُر سنوات عمرها بمراحل ..
و يأتي الشتاء قارساً يحمل زمهريره بين طياته ..
تحتضن وحيدها تتلمس الدفء ..
تبحث فيه عن عبق زوجها ..
فتحتضنه إليها بقوة .. تقبل جبينه الصغير .. تداعب شعرات حاجبيه ..
تمرر أصابعها على خديه الناعمين ..
تتحسس شفتيه الصغيرتين بلطف بأطراف أناملها ..
تمسك يده و تتمعن في أنامله ..
تلمس أطراف أذنيه الباردة .. تسحب الغطاء و تضعه على رأسه ..
و تبدأ في دندنتها الليلية و طيف زوجها يتراقص أمامها كضوء لمبة الجاز يداعبه تيار هواء فالِت من بين فرجات الباب ..
تنطلق مع المنطلقين عند سماع ( اللوري يطلق صافرة معينة يعرف بها الكل هوية السائق ) ..
تتمعن الآتين .. و قلبها يكاد يقفز من بين أضلعها ..
تنطلق الزغاريد و نوبات بكاء الفرح المكتوم ..
و يختلط حابل الآتين مع نابل المستقبلين ..
و تختلط بدواخل ( إخلاص ) و يتمازج مشاعر وجِلة شتى ..
و رويداً رويداً ينفض سامر الجمع و ينطلق اللوري إلى وجهة أخرى مخلفاً غباراً كثيفاً يزيد من كثافة ضباب روحها المعتمة و قلبها الولهان ..
ينظر إليها وحيدها و الإمتعاض مرسوم على وجهه ..
تهرب من نظرته و تسحبه وراءها.
الطريق أمامها تحجبه دمعات تقف معاندة و مكابرة .
تنطلق لا تلوي على شيء و هي ترتب لبرنامج بقية يومها المعروفة يكلله الوجع الذي طال ..

Post: #4
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-11-2014, 01:00 PM
Parent: #3

هناك أغنية نوبية قديمة
لا أعرف شاعرها و لكنها متداولة في قرانا و أمصارنا النوبية..
تقول مطلع الأغنية :


إقدونقا نسووو سابلا
سابل صفين نوقلا
Egedoonga Nassoa Sabila
Sabil Safiyyan Noagila


الترجمة :
شفتو الخروف بتاعنا في طرف الحِلة الشمالي ؟
و في الطرف الشمالي في بيت صفية ؟


و لا أدري ما الذي يذهب بخروف الشاعر أو الشاعرة إلى طرف الحِلَّة الشمالي و بالتحديد في بيت صفية.
و لكن حسب إعتقادي بأن الداخل في بيت صفية : ( مفقودٌ مفقودٌ يا ولدي
.. ) أو ربما كان زوج صفية جزاراً غير قانوني ( بدون رخصة ) و يقوم بذبح أي خروف سائب يدخل في حدوده الإقليمية و المرسومة .. فيختفي في ظروف غامضة (حتى الجلد ما بتلقاهو )

و على منوال الأغنية أعلاه ... فإن صاحبنا المشلهت في الخرطوم ..
و على سوء حظه المقيم .. عشق فتاة غير مقيمة في الخرتوم ... بل مغتربة مع ذويها في جدة ..
و ينافسه في حبها زول مغترب .. أحواله متيسرة ...
نازل و طالع معاها في إجازاتها الصيفية ... ( روزنامتو بنفس إيقاع روزنامتها ) .. و ظابط أمورو مع كفيلو

فقال صاحبنا المتمرغ بكتاحتنا ... الغارق في الفلس ... الغاطس في الهيام حتى أذنيه:






يا مَلْمَلة ...
يا ست الناس و ست الحلا
إنتي بي جدة .. سادرة و غافِلة
و أنا بي هنا متوكر عايْش القلْقلة
و كلُّ ال تشوفِك بسْألا :
Brootoakka Nassoa Jeddela
Jeddel Bab Shareefin Soogila


( مِسْ كولاتك ) .. كيفن بهْمِلا
إنعل أبو الرصيد
ما يا هو بيت القصيد
كلو مكمَّل فيك ..
يا سبب كل البهدلة
Jennag Naintan , Nay Toari Irbaintan Eegila
Nai Nowwarin Noorka moanoasa , jo teegi Aisila



ال إسمو أمجد دة ... سبب مغستي ..
و سبب كل البلا ...
يخمو البلا ... شَبَه رَخَم الخلا ..
Menniyle
Aygo Ikkon Jamman Irkila
Jamma Toara , Jamman Fala
Tar Amjadta Eddin Jerka Tera, Taron Iylinna Fala
تصدقي ...
من كتر حبي
فكرتَ كيف تكون الحلْحلة
دعيت ربي يوم العيد ..
أبوك و الكفيل تقع بيناتُم مشكلة
و تجونا بي هنا
و البيت لصق البيت
و هات يا صهْللة
Ikka min Ajbee Tar Wildila?
Taron Inna Aakkokkan,
Habbaikkoan koffimo ideen Soogila
Taron Iylinna Fala

شن قلتِ يا ملْمَلة ؟

****

ترجمة فورية لكلام الزول الممغوس دة :


يا مَلْمَلة ...
يا ست الناس و ست الحلا
إنتي بي جدة .. سادرة و غافِلة
و أنا بي هنا متوكر عايْش القلْقلة
و كلُّ ال تشوفِك بسْألا :

بروتوكا نسو جدلا
جدل باب شريفن سوقلا
Brootoakka Nassoa Jeddela
Jeddel Bab Shareefin Soogila

شفتو البنية في جدة ؟
و في جدة في سوق باب شريف؟

Jennag Naintan , Nay Toari Irbaintan Eegila
Nai Nowwarin Noorka moanoasa , jo teegi Aisila

جنق نينتانن ناي توري إيربينتان إيقلا
ناي نورن نوركا مونوسا جو تيقي إيسلا
منو ال بشوف الجنة و يرمي نفسو في النار بكامل قواه العقلية؟
منو ال بيابى ضل المقيل و يروح يقعد في الهجير ؟

Menniyle
Aygo Ikkon Jamman Irkila
Jamma Toara , Jamman Fala
Tar Amjadta Eddin Jerka Tera, Taron Iylinna Fala

منيلي
أيقو أكن جمن إركلا
جمن تورا جمن فلا
تر أمجدتا إدن جركا ترا ، ترن إيلنا فلا
بتمنى
أنا و إنت هناك في البلد مع بعض
ندخل و نمرق سوا
و أمجد دة ترميهو ورا ضهرك
إن شاء الله يمرق من نفسك

Ikka min Ajbee Tar Wildila
Taron Inna Aakkokkan,
Habbaikkoan koffimo Ideen Soogila
Taron Iylinna Fala

أكا من أجبي تر ولدلا
ترن إنا آقككن
هبيكون كفمو إدين سوقلا
ترن أيلنا فلا
شنو ال عاجبك في أمجد دة؟
لو كان ما مغترب : كان ما بسوى قرش في سوق الرجال
إن شاء الله يمرق من نفسك

***





و لا يهمك يا زول ... ال بيبيعك بيعو

Post: #5
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-11-2014, 01:04 PM
Parent: #4

ونواصل دلْق حكاوي الإغتراب

Post: #6
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: صالح عبده
Date: 05-11-2014, 01:04 PM
Parent: #4

لو سألني عن حالي واحوالي انت مالك ومالي
لوحالي بيهمك مانسيتني وماجفيتني وكنت سالي


واصل ابا جهينة.

Post: #7
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-11-2014, 01:10 PM
Parent: #6

تحياتي اخي صالح عبده

نواصل

Post: #8
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-11-2014, 01:13 PM
Parent: #7

مدينة جدة ،،
الشقة لمغترب سوداني يسكنها مع زوجته وأولاده وبناته ،،
شقة واسعة في حي من أحياء جدة القديمة ،،
هو من قبيلة المحس من الشمال و هي من بنات الجزيرة ،،
هما في منتهى الكرم والأريحية والصبر وطول البال ،،
يستقبلون المعتمرين في كل المواسم ،،
ويستقبلون الحجاج والحاجات ،،
ويستضيفون بقلب قوي شجاع كل الزائغين من الحج والعمرة الباحثين عن العمل والعاطلين عن العمل والهاربين من كفلائهم ،
و الحردانات أزواجهن إلى حين حضور الأجاويد ،
كل هؤلاء من أهل الشمال والجزيرة ،،
لذا تجد الشقة خليط من الثرثرة باللغة النوبية و إنبهال الكلام بلهجة أهل الجزيرة الموغلة في الدارجة السودانية و التبداوية ،،
و تأتيك أحيانا زخات من الدوبيت و المسادير منطلقة من الصالون ،،
و تنطلق من حين لآخر أغنية باللغة النوبية من مسجل في ركن قصي بنفس الصالون ،، فيختلط حابل ذاك بنابل هذا.
أهل العوض يعرفون أن البساط احمدي ،، لأن ست البيت ( بنتهم وهم أخوالها وأعمامها )،،
أهلنا المحس ،، ماخدين راحتهم بالكامل ،، فصاحب البيت هو ولدهم و أبن حتتهم.
اللغة النوبية تنطلق دون توقف و هذا ما يزعج أهل العوض و يجعلهم ( يطنطنون تحت تحت : و الله ما فاهمين الــتَكْتَح ).
فيستعملون كلمات لا يعرف أهلنا المحس مغزاها فهي من الدارجة ( العميقة الموغلة في مفردات بيئة أهل الجزيرة ) ، حتى أن واحد من عندنا سمع من أحد أبناء الجزيرة كلمة : ( متل أَتَكَنٌو ) فحسبها ماركة ساعة يابانية فحاول أن يسأل عن سعرها و يقتنيها..
ها يا زول إنت بي صُحَك ولا بتهظر ؟.
بانوراما الشقة تبدو جليا في الأحداث التالية:
عُمْرة في عز الحر ،، الشقة عامرة بأهل الجزيرة وأهل الزوج المحسي ،، نساء ورجال ،، شيبا وشبابا.
الصالة وغرف البيت ،، والسطوح ،، لا مكان يخلو من البشر ، كتل متراصة دون ململة.
الصالون جردوه من الطقم وتم فرش المساحة كلها بالسجاجيد والأبسطة والمخدات والملايات والبطاطين والألحفة.
العمائم في كل ركن ومعلقة خلف الأبواب على المسامير ،، وشالات من كل الأشكال والأحجام بعض العراريق موضوعة على المخدات لتجف من العرق ..
تقبع حفاظة ماء كبيرة بالقرب من الباب وترقد عدة أكواب بلاستيكية على الغطاء.
حقائب من مختلف الأشكال والأحجام تملأ الأركان.
سلال النفايات البلاستيكية عامرة ببقايا ( الصعوط ) وقشر الفواكه و التسالي.
المكيف الصحراوي لا يتوقف ليل نهار ،، تشفق عليه وأنت تسمع أزيزه فكأنه يشتكي لك من البلل الدائم و نشفان القش والسيور.

الزوجة تقف منذ الصباح الباكر كعادتها كل يوم ،،
تطبخ حلة ماكنة من ملاح الويكة ،،
ثم ( تلخ ) عجينا لزوم القراصة وآخر لزوم الكسرة.
الابن الأكبر لا يجد كراسة الرياضيات ، فقد أخذها أبن خالة أمه وأقتطع منها عدة ورقات لزوم ( تضريبات المنصرفات ) ثم رمى بالكراسة تحت السرير.
حوض الغسيل مسدود المياه طافحة وسائلة حتى باب غرفة النوم بسبب إستفراغ حاج عبدالله فيه إستفراغا كثيفا بعد إن التهم ( خمسة سندويتشات شاورما ) يبدو أنها كانت بايتة ومليئة بالمايونيز المضروب.
المسجل الجديد في البيت لم يعد يعمل ، فقد وضعه أحدهم على خط 220 فاحترقت فيوزاته.
أشتبك ( صالح ) مع ( الخير ) لأن الخير أنطلق ( يدوبي ) بأعلى صوته فإنتهره ( صالح ) : إنت هسع مش جيت من بيت الله ؟ أقرا ليك قرآن ولا حديث يا أخي ،، بعدين صوتك دة مزعج خالص.
انتهى الاشتباك بأن أقنعوا ( الخير ) بالذهاب للسطوح لإفراغ موهبته ، فخرج و هو يهجو ( صالح ) بأبيات من الدوبيت وهو يضغط على مخارج حروفها كمذيع برنامج ( البادية ) حتى لا يلتقط ( صالح ) معانيها.
الحاجة بتول تصر على أن تترك ست البيت عملها في المطبخ و تناولها غويشات و ( أحفظ مالك ) والخواتم التي تخص حفيدتها لتملأ عينيها من الأصفر الرنان.
( إسماعيل ) يحاول جاهدا أن يفهم فئات العملة السعودية ، فهو لا يعرف الفرق بين الفئات الورقية ، فقد أشترى علبة بيبسي و أعطى صاحب البقالة البنغلاديشي ورقة ( أم خمسين ) دون أن ينتظر الباقي و رجع إلى البيت و هو يتجشأ غازات المشروب( ويصر عينو بعد كل تجشؤ ) ..
أحد الجيران المصريين ، يشتكي لصاحب البيت بأن أثنين من الضيوف طرقوا باب شقته منتصف الليل وهم يصرون على أن هذه هي شقة الزول ، حتى وبعد أن أتى المصري بزوجته وعياله و قال لهم : أنا صاحب البيت يا قماعة ، شأتكو التانية اللي في الوش دي،، حرام عليكو ،، عاوزين ننام بأة ..
البنت الصغيرة و هي تبكي لأمها : يمة ،، الراجل أب صلعة داك أكل كيس الشيبس بتاعي كلو.
( حمد ) بأعلى صوته من الحمام : يا جماعة صابونة الجن دي قدر ما أدسها ما ألقاها.. وبعدين منو دة البيستعمل بشكيري دة ؟
يرد عليه ( جبريل ) بصوت خفيض و هو يغمز ( لحاج بابكر ) : الصابونة ما بتاخد معاهو غير دعكة واحدة أب جسما زى أبو القنفد دة ،، هو بي نضمو دة عاوز ليهو صابونة شحدة ساي.

( كرار ) وهو يضحك حتى يستلقي على قفاه وهو يشير بأصبعه إلى رأس ( السر ) المحلوقة وقطع من القطن تتناثر في عدة أماكن من رأسه : إنت الزول دة حلق ليك بي أسنانو ولا شنو ؟
جو الصالة يعبق برائحة غريبة ، فقد أشعلتْ الحاجة زينب قطعة من القماش لتستنشق دخانه مقتنعة بأنه علاج للصداع النصفي الذي يلازمها منذ زواجها من ( صابر ) ذي الثلاث زوجات قبلها تحت إلحاح أبيها الطامع في ثروة ( صابر ). لا تبالي باحتجاجات بقية النساء و تواصل الاستنشاق و هي تقول : ربنا ما يوريكن وجع الشقيقة دة ،، و الله لو قالوا ليكن إتبخرن بي بعر غنم كان ما بتابَنٌو. حاجة ما بتتقابل.
وتشد نفسا عميقا حتى تدمع عيناها.
( الرضية ) تدخل خلف ست البيت في غرفة النوم ، و تطلب منها على استحياء سلفة لأنها ترغب في شراء ( تياب و شباشب ) للمتاجرة بها في الحلة بالسودان. ست البيت وهي محرجة تعتذر لها و تقول : والله زوجي ليهو شهرين ما أدوهو الراتب ،، بيدوهو على قدر مصاريفنا.
فتلوي الرضية بوزها وتخرج و هي تتمتم : تلقاكي خاتاهن رُزَم رزم.

منتصف الليل ، ينطلق شخير ، بدأ منخفضا ، ثم بدأ يعلو شيئا فشيئا من الصالون ،، فينطلق الاحتجاج من سكان الغرفة المجاورة ، سرعان ما هدأتْ الاحتجاجات فقد بدأ صوت شخير آخر بغرفة المحتجين يفوق درجته ذاك الآخر بأكثر من درجة على مقياس ( شِخْتَر ) ..
( الحاجة سكينة ) تتسلل إلى المطبخ لتسكت جوع بطنها ، فهى قد حردتْ العشاء بعد ملاسنتها مع ( الرضية ) بسبب انتقاد الثانية لها بأن ( توبها ) ما توب واحدة في عمرها. تصطدم بحلة كبيرة على الأرض فيتحدث صوتا أيقظ ست البيت التي جاءت مهرولة إلى المطبخ ،، مما حدا بالحاجة سكينة بأن تتظاهر بأنها تريد أن تشرب الماء ،، فناولتها ست البيت ( جك الماء ) فكرعته كله حتى تنسى الجوع ، و عادت إلى فراشها و هى تلعن الرضية و تلعن المكابرة...
ينتهي موسم العمرة ..
و تبقى الشقة كميدان معركة انجلت لتوها ...
لتستعد لموسم آخر ..

Post: #10
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ismeil abbas
Date: 05-11-2014, 01:23 PM
Parent: #7

واصل يا ريس متابعين.

Post: #11
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-11-2014, 01:27 PM
Parent: #10

حياك وأبقاك يا سمعة
دمتم بخير

Post: #13
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: عباس الدسيس
Date: 05-11-2014, 01:29 PM
Parent: #7

يا سلام يا ريس
ما أحلي حكاويك
متابعه
تحياتي وتقديري

Post: #31
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 12:58 PM
Parent: #13

الأخ عباس

سلام وتحية

مشكور على المرور

نواصل

Post: #9
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ودقاسم
Date: 05-11-2014, 01:17 PM
Parent: #6

الوارف أبوجهينة
اكتب ، فبنا نهم للقراءة..

Post: #12
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-11-2014, 01:28 PM
Parent: #9

أبا طلال
مشتاقون يا ود قاسم

تواجدكم هنا بهذا الملف يغري بالكتابة

Post: #14
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: Mohammed almoez Eizaldeen
Date: 05-11-2014, 02:03 PM
Parent: #12

تسلم يا أبوجهينة ... أرجو المتابعة

إبنك / محمدالمعز عزالدين ..... ولله ليك وحشة وأنا سعيد جداً أنو أقابلك بعد المدة الطويلة دي

Post: #15
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 09:24 AM
Parent: #14

الإبن العزيز المعز

سلام كبير
مرحب بيك هنا بيننا في هذا الوطن المصغر
تلفونك أرجو أرساله لي في الخاص
تحياتي

Post: #16
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ولياب
Date: 05-12-2014, 09:30 AM
Parent: #15

أدب رفيع ويراع يسكب مدادا كالشهد ، هكذا أنت يا أستاذي . دمت بخير .

Post: #32
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 01:00 PM
Parent: #16

إبن العم النوبي الهميم ولياب

سلام يغشاك

لك الشكر على المرور البهي

Post: #17
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 09:34 AM
Parent: #15

دار هذا الحوار في دار جمعيتنا بالرياض بين عمنا فايد رحمه الله و خالنا حسن :
حسن : تصدق يا فايد ،،، أنا في السعودية إشتغلت أي شغلة ،، حتى كمان إشتغلت مؤذن جامع.
فايد : و الله إنت زول شفتة ،، لكن شغلة مؤذن دي متعبة يا حسن ؟
حسن : متعبة شديد ،، مافي إجازة كلو كلو .
فايد : حتى يوم الجمعة ؟
فقال حسن : يوم الجمعة دة بالذات أكعب يوم.
هذا الحوار دار بينهما و كل واحد متغطي ببطانية و كل واحد في على سريره مستقبلا الحائط و هما لا يشعران بوجودي. لم أستطع الإنتظار من الضحك. فإنسحبت بهدوء.

Post: #18
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 09:37 AM
Parent: #17

أحد الأمراء الكبار طلب من مدير أعماله أن يعين غفيرا سودانيا على بوابة قصره الجديد و التي ستسكنها عروسه الجديدة.
مدير الأعمال يحب السودانيين جدا ،، فقام بواسطة أحد السودانيين بتعيين ( واحد بلدياتنا كبير في السن ) معروف بالصرامة و الجدية ،، و قال له مدير الأعمال : لا يدخل القصر أحد حتى أسمح لك بأن تدخله.
زولنا وضع هذا الكلام حلق في أضانو.
جاء الأمير مع السائق لقصر عروسه المحروس من زولنا دون علم مدير الأعمال ،، أطلق السائق البوري فأطل زولنا من شباك صغير و قال و هو عابس الوجه مقطب الجبين : نعم ،، بتضرب بوري مالك ؟
فنزل السائق و قال له بصوت خفيض : دة الأمير فلان صاحب القصر ،، و القاعدة جوة ديك زوجته الجديدة. أفتح الباب قبل ما تخرب بيتنا و بيتك.
فقال الزول : و الله لو أهلو كلهم جوة ما يخش ،، إلا المدير يكلمني شخصيا.
هنا أحس الأمير بالجدل الدائر بين الإثنين ،، فنادى السائق ، و فهم منه ما يحدث ،، فإتصل من هاتف السيارة على المدير الذي أتى مهرولا ببيجامة النوم. و تم إحتواء الأمر.
في الصباح نادى الأمير زولنا و قال له : الحين عرفتني ؟
أيوة يا طويل العمر و أنا متأسف.
لا ما تتأسف ، إنت زول تمام ، و عشان كدة أنا زودت راتبك.
و لا زال زولنا يقف منتصبا عند البوابة رغم سنواته التي تعدتْ الستين خريفا ، يدفع الزكاة و الضرائب و يحسب الأيام بالتاريخ الميلادي مستعجلا الإجازة ليرى رفيقة دربه و أولاده و أحفاده ،، و يحسب الأيام بالهجري ليستلم راتبه و ينطلق للسفارة لإرسال المصاريف الشهرية.

Post: #19
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 09:41 AM
Parent: #18

نواصل

Post: #20
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 10:45 AM
Parent: #19


الغربة طاحونة ، و حباتها ( المدقوقة و المدروشة بين رحاها هم المغتربين و ضجيجها يصيب أسرهم هنا و هناك فتجعلهم يعيشون في حالة من إنعدام الوزن ).
أهلنا في الشمال ، مارسوا الإغتراب منذ عهد الملكية في مصر ، الملك فؤاد ..
و منذ أيام الملك فؤاد والدون جوان الأرناؤوطي فاروق ، أو قيل قبل ذلك.
سألوا أحد جهابذة الإغتراب ( و هو من إندينا ) :
ما رأيك في الإغتراب ؟ فقال : العشرة سنوات الأولى صعبة.
معنى هذا أن سنوات الغربة عندنا تقاس بالحزمة ( كالسنة الضوئية )،
كل حزمة تساوي عشرة سنوات.
يعني أربعين سنة غربة تساوي أربعة حزم و كل حزمة إغترابية تكون حبلى بالبحث عن كفيل أو عمل أو تأشيرة للذهاب و العودة بها أو طلبات لا تنتهي إن لم تنتهي كل الحزم بمرض السكر أو الضغط أجاركم الله و إيانا.
تسأل واحدة عن زوجها : متى يأتي ؟ فتقول لك : بعد نص حزمة.
لأنه لو قالت بعد خمسة سنوات ، الواحد بيشوفها كتيرة ، بالضبط زى ( الجنيه بالقديم و الجديد )
نحن أحسن شعب نختزل الزمن بصبر عجيب ،
حتى أن أحد الظرفاء قال ، إن المدفون في ذلك الميدان ( ليس أبو جنزير ) بل هو سيدنا أيوب عليه السلام ، جد كل السودانيين الصابرين، فرضعنا منه هذا الصبر الجميل و لم نفطم منه إلى يومنا هذا ، و تسرب إلى جيناتنا الوراثية ، فإنساب إلى شراييننا و تحكم في فصائل دماءنا.
كل واحد فينا شايل همو ، و هم ناس تانين ، و شايل قصص في راسه ، منها المضحك و منها المبكي و منها المضحك المبكي .
ويقال أن واحد آخر أنه أتى للسعودية قبل أن تبدأ شعيرة العمرة ( يعني دة يكون جا مع أبرهة.

***
زولنا حمد ، زول سوداني ، فنجري الطباع ، فارع الطول كأجداده من سلالة تهراقا ، وسامته لا تخطؤها العين ، مشلخ شلوخا غائرة كخطوط المحراث في أرض بكر.
عندما إلتحق في الرياض بعمل لأول مرة قبل كم حزمة إغترابية ، سأله بدوي : ما هذه الشرطات على خديك؟
فقال له حمد مازحا و بهمس : أنا حأقول ليك بس ما تقول لي زول. في بلدنا الواحد لو ما قتل ليهو أسد أو نمر يعتبر ما راجل و ما بيعرسوا ليهو ، أها أنا صارعت نمر و قتلته ، و لكنو عمل فيني الشرطات دي.
البدوي تراجع مصدقا و هو يفتح فمه مندهشا و متوجسا خيفة. و لكنه لم يجهد تفكيره و يسأل نفسه : ما هذا النمر الذي يختار الجضيمات فقط و يقوم بتشريطها بهذا الإتقان الهندسي ؟
أوقف القدر في طريق حمد فتاة إسمها ( ريتا ) ..
فتاة جنسيتها ( خاتفة بلدين .. كلون بشرتها خاتف اللونين ) ..
فالوالد من قلب أثينا و الأم سليلة أمهرا ( بت عماً لي مادلينا ) فكانت للناظر متعة للعين و قلبه ، و الكمال لله ، كل شيء فيها بديع و جميل ،
حبشية ... أبوها إغريقي سليل هوميروس و أمها سليلة الأمهرا ، ولدت في أثينا ، و ترعرت في أديس ، و إغتربت في السعودية.
تتابعها بعيونك و أذنك عندما تتحدث و هي تحاول تقليد لهجتنا الحبيبة ،
فكأنها تتكلم و فمها مليء بحلاوة هريسة ،
و خاصة عندما تأتي بكلمة بها حرف العين ، فيخرج الحرف و هو شبعان من ريقها ، من جوة جوة الحلق. فتتمنى لو قالت أمامك طوال اليوم ( يا علوية عيونك عسلية ).
أحب حمد ريتا ، حبا ملك عليه فؤاده و لبه و جعلت مجاري شلوخه تتوهج كلمبة النيون و تمتليء بدماء العشق التي تغلى في عروقه. و بادلته ريتا حبا بحب. و ( الساعة الـ يقولو ليها حمد ، الكلام يكْمل و يقيف.)
قلنا له و نحن نظهر الشفقة و نضمر الحسد : دي ما معروفة مسلمة ولا مسيحية ، يعني أهلك ما حيرضو ..
لم يجعلنا نكمل تعليقنا الغتيت ، فقد قال و الشرر يتطاير من عينيه : و الله لو بقت راهبة ولا من السيخ ما بخليها...
تزوجها حمد ،
مازحه أحدنا بغيظ مكتوم و حسد بائن بينونة كبرى:
أولادكم حيطلعوا مشلخين جاهزين و إنت عامل لي شلوخك الغريقة دي.
المثل يقول ( البيحبك بيبلع ليك الظلط ) ، و لكن كان حمد بيبلع ليها الدراب و ( الكُرْكُتي ) و كتل الإسمنت المرورية.
فعندما دعانا لأول مرة لوجبة غداء ، قال لنا : ريتا عملت لينا أكلة سودانية بإيديها.
و حضرنا في الموعد المضروب ،
و نحن نشحذ أسنانا لإلتهام وجبة سودانية بأيدي أجنبية.
و حمد يدخل و يمرق ( كأم العروس ) تارة يستحث ريتا و تارة يمدح في ريتا و عمايلها السودانية،
ثم أتت الصينية مغطاة بطبق سوداني ، و عروق من الجرجير تتدلى معلنة أن المائدة ستكون عامرة ،
و إنكشف الطبق عن صحن ( ماكن ) يمكن أن يسبح فيه طفل عمره ستة شهور بحرية تامة ،
و داخله شيء أشبه باللحاف المطبق أو شملة الدخان قبل أن تصير قديمة ، أطلق عليه حمد إسم القراصة ،
كان لونه داكنا يميل للون الكاكي الغامق ، فقلنا ربما من نوعية الدقيق ،
و عندما سكب حمد ( الملاح ) و الذي من المفترض أن يكون ملاح الويكة ، إندلق سائل هلامي يمكن أن تحسب من خلال شفافيته عدد حبات الفلفل الأسود و حبات الويكة الناشفة و أجزاء من الماجي التي لم تذب في الحلة.
و إندلق السائل بعد عدة محاولات من حمد و كأنه يضع لك مرهم بنسلين في العين ،
و الذي غاظني و جعل الدم يصعد إلى نافوخي هو أن حمد ما إنقطع عن شكر هذا الهلام و هذا اللحاف القابع في طشت الغسيل الذي أمامنا :
قال و هو يبلع بنهم و تلذذ : بالله ما شاطرة إنو الواحدة تتعلم تعمل الحاجات دي و بالسرعة دي ؟
فقلت له متهكما : الكلام على الأستاذ يا شيف الهيلتون.
لم يفهم مغزى تهكمي و واصل إبتلاع الكتل العجينية و نحن نتسلى بالسلطة المليئة بالشطة الحبشية.
عند خروجنا ، قالت ريتا : الأكل عجبكم ؟
قلت لها و أنا أفكر في أقرب مطعم : و دي عاوزة كلام ؟ تسلم الأيادي يا مدام ريتا.
لكزني صديقي : تسلم الأيادي و تبوظ المصارين ، مش كدة ؟
معذور حمد ، فقد كان يرى فيها كل شيء حلو.
ثم إختفى عنا حمد ، و لفترة طويلة ضاعت أخباره عنا وسط زحام الحياة و حزمنا الإغترابية تأكل لحظاتنا ، ثانية بعد ثانية.

Post: #22
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: حمزاوي
Date: 05-12-2014, 10:57 AM
Parent: #20

واصل كفاحك
وانت اللذيذ وانت الظريف

ونتابع

Post: #24
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 11:22 AM
Parent: #22

تحياتي لك الخال حمزاوي
مشكور على المرور
نواصل

Post: #25
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: Mohamed E. Seliaman
Date: 05-12-2014, 11:24 AM
Parent: #20

تحياتي

السبب عدم معرفتكم بالشيرو(:
كاستغرابنا من التركين (:
__________
غايتو شقة جدة أشفقت على حال الوليدات فيما يخص المدرسة.
-----------------------------------------------------------
قلت لي زمان كيف الولد دفق الكحل في جالون الموية ؟
بعدين معاك عندك واحدة تانية متابعنها لعقد من الزمان وماك راضي تتمها
حقت صاحبك المسعود وأمه راتي لي مكفوله الهندي أو بنغالي

Post: #27
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 11:36 AM
Parent: #25

البروف محمد E سليمان
سلام كبير

ما شاء الله على ذاكرتك ( ما نديك عين )

عشان خاطرك حأكمل ليك قصة صاحبي المسعود

تحياتي لك

Post: #21
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ismeil abbas
Date: 05-12-2014, 10:57 AM
Parent: #19

Quote: ينطلق للسفارة لإرسال المصاريف الشهرية


الكلام ده متى؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!!


Post: #23
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 11:17 AM
Parent: #21

أقرا العنوان يا سمعة ( ما قبل عهد سودانيزأونلاين )

Post: #26
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: mahmed alhassan
Date: 05-12-2014, 11:32 AM
Parent: #21

ســلام يا ريس

تسجيل حضــور ومتابعـــة ,,,,,,

Post: #30
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 12:38 PM
Parent: #26

أخي محمد الحسن

سلام مربع

وين إنت يا زول ؟
مشتاقون
تحياتي للأسرة لغاية ما نشوفكم

Post: #28
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: سامى عبد المطلب
Date: 05-12-2014, 11:38 AM
Parent: #19

يا سلام عليـــــــــــــــــك استاذنا أبو جهينة كتابة تشهيك الحـــروف

Post: #29
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: محمد جمعه الخير
Date: 05-12-2014, 12:09 PM
Parent: #28

حضور ومتابعة بي شغف .

Post: #34
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 01:04 PM
Parent: #29

الأخ محمد جمعة
تحياتي وسلامي
لك الشكر على المرور والتعليق الباهي

نواصل

Post: #36
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: معتصم سليمان كاشف
Date: 05-12-2014, 01:10 PM
Parent: #29

يا حياك الله ورعاك يا استاذى

طالما جبت حتة من نفحات المرحوم فايد ... بالله ما تنسى قصة المارشال .. وكيف كان مصرعه والمعينات التى ساعدتك فى ان تصيب المرشال العظيم فى مقتل.

نتابع بشغف ..لاننا نعيش بعضا مما تكتب كواقع حى

لك التحية

Post: #37
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 01:13 PM
Parent: #36

إبننا العزيز معتصم
سلام وتحايا

ما شاء الله أنت في هذا الحوش الكبير وما ظاهر ؟
سعداء بوجودك

سآتي بقصة المارشال
تحياتي للأسرة الكريمة

Post: #115
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: طارق ميرغني
Date: 08-07-2014, 09:36 PM
Parent: #29

يا ابو جهينووووووووووووووووووووووووا

زمن دخولنا لسودانيز بقي متباعد

ربنا يستر حالنا

اول مره اشوف البوست ...تصور !

حيضطرانا نتابع سودانيز بشغف بعد طول غياب

Post: #33
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 01:02 PM
Parent: #28

الأخ سامي
تحياتي الطيبات
ولك الشكر على المرور والتعليق البهي

Post: #35
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2014, 01:10 PM
Parent: #33

عندما كان الإغتراب نوعا من المغامرة غير مضمونة العواقب والجوانب ، وسفر إلى المجهول
قرر صاحبنا الإغتراب
ولكن رفيقة دربه كان رأيها مخالفا
توسلتْ إليه أن لا يفعل
وعلى لسانها ، كتبتُ له هذه الأبيات :

****



مكانك هنا
متروسة بيك كل الجهات
لا شَرْق البعاد بعيد شرَّق خيالك
لا غَرْب الجفا تاه غرَّب سؤالك
مكانك هنا ..
بس إنت و أنا
شمال نبْض القلب .. يمين حَدَق العيون
وفوق سقْف الهُدُب .. مُدَوْزِن همْس الدندنة
قُرْبك هنا ... رغم البعاد
مُوَنِّسْني صمت السهاد
معذبني .. و كاسيني العَنا
رضيانة بيهو ... و عافية منك ..
و راضية عنّك .. رغم الضنا
خليك هنا ... تملا الكون غُنا
أبداً ما عنك غِنا
راجياك هنا ..
تفرش العتْمات سنا
ما إنت يا سيد الدُنا
مالي دنياى هَنا
سُكْناك هنا
لا شرق البعاد ... غاب شرَّق ودادك
لا غَرْب الجفا ... فات غرَّب مِعادك
عايشاك بداية و غاية مُنَى
متحكر جوة الحشا ترياق شِفا .. و أحضان دَفا
عاوزاك هنا ... لو طال غيابك ..
تلقاني.. ياني ال أنا
قِبْلة وفا
راجياك هنا لا بطرا البعاد
لا بقول حسيت جفا
مكانك هنا

Post: #38
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: عبد الماجد مصطفى
Date: 05-12-2014, 02:36 PM
Parent: #35

ابو جهينة ،،، تحياتي

قمة في الروعة ،،، والجمال

انا يادوب ،، خلصت قصة اخلاص ،،،
وحسيت اني ،، رويت ،، تب ،،
مع انو لسة عطشان ،،،
تسلم ياخ ،،
ومتابعين للاخر .

Post: #39
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: معتصم سليمان كاشف
Date: 05-13-2014, 01:18 PM
Parent: #38

فوق.. ثم فوق
لمتعة البوست

تحياتى يا كبير

Post: #41
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-13-2014, 02:31 PM
Parent: #39

الإبن معتصم

شكرا للعتالة

نواصل

Post: #40
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-13-2014, 02:29 PM
Parent: #38

الأخ عبد الماجد

سلام كبير
وشكرا للمرور والتعليق البهي

نواصل

Post: #42
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-13-2014, 02:37 PM
Parent: #40

المصريون ، أطلقوا علينا إسم البرابرة ، إنطلاقا من مفهوم معين. فقد قام الملك فاروق بتعيين السودانيين في مصر و خاصة النوبة في سلاح الهجانة ، يركبون على الجمال و هم يجرون بالأرض سيطان عنج ، كانوا يحرسون حدود الدولة ، و إن حدث أي هرج أو مرج في القاهرة يطلبهم الملك فاروق فينزلون وسط الدارة و يلهبون ظهور أولاد بمبة بهذه السياط و التي لا يتحملونها. فأطلقوا علينا هذا الإسم تشبيها لنا بالقبائل الهمجية البربرية.
المهم إنو واحد من البرابرة ، عاش في تلك الحقبة تاجرا ميسور الحال في أم الدنيا ، و كان بعين واحدة ( المتشاءم يقول له أعور ، أما المتفاءل فيقول أنه بعين واحدة )،
ففكر أن ( يلَغْوِس ) شوية في حياته ، و يعمل تحلية و يتزوج مصرية ( تجعل حياته في الغربة طرية و لينة ). فتزوج واحدة من باب اللوق ، وعاش مبسوطا مفتول الشاربين منفرج الشفتين ، يدخل عليها كل يوم و هو يحمل أكياس الفاكهة واللحمة البتلو ، والبسبوسة ، و دامت حاله هنية و رضية، إلا أن دوام الحال من المحال ، فأفلس ، و صار يدخل يوميا على زوجته خالي الوفاض ، فتسأله زوجته و هي تزم شفتيها ( ها ... ما لقيتش شغلة ولا مشغلة ؟ ).
فيقول و هو كسير العين ( لا ).
وإستمر الوضع لبضعة أسابيع ،
و في يوم فتحت له الباب بحيث ظهر وجهها و صدرها فقط و قالت له : ها ، مافيش جديد ؟
فقال : لا
فقالت و هي تخبط على صدرها : يا لهوي ... و كمان أعور ؟؟؟؟؟؟
و تطايرت ملابسه و حاجياته من البلكونة ، قطعة قطعة ، يلتقطها و عينه الوحيدة تذرف دمعا غزيرا.
****

اللهم إختزل حزم إغترابنا .. و أرجعنا إلى أهلنا في وطن يسوده السلام .
و كل حزمة إغتراب و أنتم بألف خير.

Post: #43
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-13-2014, 02:57 PM
Parent: #42

أظن الكثيرين منا قد مروا بتجربة دخول مكان ما ، فتفاجأ بشخص أنت ( متلوم معاهو تب و تقول في سرك (أريتو الواطة إنشقت و بلعتني ) ،
و خاصة لو متلوم في تقديم واجب العزاء أو مقصر في حاجة معاهو كان ممكن تعملها ليهو ، أو زول ( زايغ منو ) لأي سبب.
أها عبد الكريم المغترب جاء في إجازة و دخل بيتو في الخرطوم الذي تسكن فيه أصغر زوجاته الثلاثة لوحدها حيث ان الأولى والثانية في البلد بأقصى الشمال،
دخل و هو متورد الخدين بفعل كريم ( جليسوليد ) الذي يحبه ، و إبتسامة عريضة ، وعمة جديدة لنج تقول لعمة ترباس أبعدي غادي ، و عطر ( بروفيسي ) نفاذ يسبقه ،
و فتح الباب و هو فارد ذراعية لاحتضان أصغر الزوجات، فإذا بزوجتيه من البلد قاعدات ( وش ) و إبتسامة تحاكي إبتسامة الموناليزا مرسومة على الشفاه و لكنها صفراء لها بريق متحفز ينذر بالسوء.
لم يستطع المسكين أن يبدأ بالسلام فوقف كالمتسمر على الأرض و هو ينقل بصره بين الثلاث و كأن مؤامرة ما قد حيكت ضده.
فبادرته أم العيال الكبيرة :
تجي الخرطوم بعد سنة في إجازتك من دون ما تقول لينا ؟ إنت قايل الأخبار بتندسَّ ؟ نحن متابعنك من يوم ما خشيت سوق باب شريف في جدة تلقط في حاجات الإجازة يا راجل الهنا.
و نظرت إليه نظرة ، ذكرته قصة ريا و سكينة ( فبسمل و حوقل و قرأ المعوذتين ) و لم يكمل قراءة آية الكرسي قبل أن تقول الثانية من تحت أسنانها :
داير تبرطع هنا و بعدين تجينا في البلد مهلهل و منتف و تقعد ليك أسبوع و تقول عندي عفش مشحون و تفرتق للخرطوم . مش كدة ؟
و لكزته في صفحته لكزة ( إنفدس لها ) دون أن ينبس بكلمة.
المسكين كان يمني نفسه بعناق طويل مع حبيبة قلبه الصغيرة ، و لكن ها هما تقفان كالجستابو أما ناظريه. فإبتلع ريقه الجاف و خلع عمته الكبيرة و تشهد.
قالت الكبيرة : أفتح الشنط.
فقال و هو يتلعثم : في الحقيقة
و لم تعطيانه الفرصة ، فقد هجمت الزوجتان على الشنط ، و في ثوان معدودة ، كانت محتويات الحقائب قد تكومت في ثلاث أكوام متساوية.
فقال : بس المقاسات كلها ...
قالت الثانية : نحن عارفين جايب الحاجات أغلبها مقاس الست الصغيرة. بس برضو نحن بندورن ضيقات، ما دام منك بنقبل أي شي ، إن شاء الله ما يدخلن من الرقبة.
و حدرت ليهو حدرة ، إنخلع لها قلبو الماهو رهيف.

البيت كان مكونا من حجرتين. و مكث عبد الكريم خمسة و أربعين يوما ( يباصنو التلاتة بيناتن زى خرطوش الشيشة )
لم يجد فرصة حتى يشيل الفاتحات التي تنتظره أو تسجيل قطعة الأرض التي إشتراها ،
دخل معسكر مقفول ، كل ما فعله هو زيارة والديه و إخوته برفقة الزوجة الكبيرة لزوم المراقبة اللصيقة.
و عندما إنتهت الإجازة ، كان عبد الكريم في حالة ( تحنن العدو ).
قالت الكبرى في وداعه بالمطار و هو يستند على عكازة :
أها الإجازة الجاية بتكلمنا ولا نجي برانا في مواعيدك زى السنة دي؟
فقال عبد الكريم : علي الطلاق بالثلاثة منكن التلاتة ما أجي ، إلا كان تجي جنازتي.

Post: #44
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-13-2014, 03:09 PM
Parent: #43

الخوف من الفرح
***

تخاف اقتراب يوم ( وقفة العيدين ) لسبب راسخ في ذاكرتها المُتعَبة ..
تصيبها هاتان المناسبتين برعب يزحف ببطء ليشل حركتها و تفكيرها.
تقف كل أحاسيسها متحفزة و كأنها ترصد خطراً داهم .
ثم تفاقم الخوف ليشمل ليلة الكريسماس و ليلة رأس السنة الميلادية و أول السنة الهجرية ..
كل فرح آتٍ يوقظ فيها حالة إستنفار لكل قبيلة الخوف الذعر ..
صار إحساسها بالفرح تحكمه بوصلة تتجه نحو الريبة و التحفز ..
لا تقوم بُوصَلتها بتوصيل تداعيات الفرح إلا أن إكتملتْ كل أركانه و أمسكتْ به بين يديها و من تلابيبه.
و حتى حينئذ .. لا تقدر على التعايش معه حتى الإرتواء ..
لا تزال تذكر تلك الليلة كأنها صورة مجسمة تُعرض أمامها على (بروجكتور) أو من خلال شاشة سينما مقعرة .
فقد أتى شهر رمضان .. و أمها تلهج بالدعاء منذ أول يوم فيه بأن يعود زوجها الغائب سالماً غانماً ..
و ما أن إنتصف الشهر المبارك .. إمتلأ البيت بصخب مميز ..
( الخبيز و الكعك و البسكويت و الغريبا ) ..
و أخوتها الصغار يملئون البيت ضجيجاً للفت الإنتباه لمطالبهم التي لا تتعدى الأحذية و الملابس الجديدة..
تذكُر عندما أتتهم البشارة بأن والدها سيكون بينهم ليلة العيد .
إزدادت رقعة الفرح في البيت ..
تطاول عبق الخبيز و تلفَّحَ بنكهةٍ محببة ليتعدى مساحة بيتهم ..
و إتسع البيت و إمتد الحوش ليغمر الشارع كله ..
أحسَّتْ وقتها بأن الفرح موسوم على جباه الأسرة كلها ..
الليلة السابقة ليوم الوقفة .. لم يعرف أهل البيت النوم ..
ظلوا يتحدثون عن ما كان يقوله أبوهم لأمهم حين يغضب و حين يرضى ..
و تلك تتذكر مزاحه المحبب ..
و ذاك يحاكي مشيته و ضحكته ..
وضعوا اللمسات الأخيرة لكل ما هو آتٍ من أيام سعيدة ..
و هي صامتة تختزن حبها و شوقها لتطلقه دفعة واحدة بين أحضانه ..
مر اليوم متثاقلاً .. و كأن الشمس تريد إختبار صبرهم ..
دق قلبها بعنف و هم في المطار شاخصين بأبصارهم ينتظرون طلعة أبيهم الوقورة بلحيته القصيرة وإبتسامته الواسعة ..
تقف متحفزة لتجري و تكون أول الفائزات بحضنه الدافيء ..
خرج القادمون الواحد تلو الآخر ..
تحسد كل من يحتضن قادماً.
خفق قلبها بنبض متسارع كلما ظنت أن أحدهم في طول أبيها أو في حجمه ..
رويداً رويداً .. إنحسر سيل القادمين ثم توقف..
خيم صمت مطبق على الجميع ..
تبادلوا النظرات الحَيْرى بينهم ..
تساءلوا إن كانوا متأكدين من الرحلة و موعدها ..
دخلوا و تأكدوا من أن هذه هي رحلته ..
رجعوا للبيت صامتين .. لا يجرؤ أحدهم أن ينظر للآخر ..
دلفوا للبيت حيث كان جرس الهاتف يرن كقرع ناقوس ضخم ..
هرعت الشقيقة الكبرى و تلقت المكالمة ملهوفة ..
كان آخر شيء تتذكره قبل أن تروح في غيبوبة طويلة هو منظر شقيقتها تصرخ و ترتمي على الأرض مولولة ..
عندما أفاقت .. و عرفت تفاصيل موت أبيها في طريقه للحاق برحلة العودة .. خُيِّل إليها أن موعد العيد قد تراجع في روزنامة بيتهم عدة سنوات إلى الوراء .

و بدا لها الحوش الواسع و كأنه ركن منزوٍ في غرفة معتمة ..
رمقتْ أمها بنظرة مختلسة .. كان وجهها بدون أي تعبير .. كانت كلوحة مرسومة على قطعة من الصخر الأصم .. تنظر إلى لا شيء ..

Post: #45
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-13-2014, 03:20 PM
Parent: #44

في الرياض ، هناك أحياء قديمة من الطين ، بعضها تم تلجينها بواسطة البلدية لأنها لا تصلح للسكن الآدمي ،، و رغما عن هذا يسكن بعضها الهاربين من الكفلاء أو الذين ( كبوا الزوغة ) من العمرة و الحج.
إجتمع نفر من السودانيين و هم من قرية واحدة ( و كابين الزوغة ) في إحدى تلك المنازل الملجنة ،،
و على ضوء شمعة أقسموا ( بالله و بالملح و الملاح ) بأن يعمل نصفهم لإطعام القابعين في المنزل ،، ثم يعمل النصف الآخر في اليوم الذي يليه ليرتاح الفريق الأول ،،
ثم يجمعوا ما كسبوه و يرسلوه لذويهم بالسودان ( تكافل لا نظير له ).
و سارت الأمور بنظام و ترتيب .
و ذات يوم ،، وقع أحدهم في كمين شرطة المتخلفين بشارع البطحاء العام ،، و لكنه فاجأ الشرطة بأن قال لهم : تعالوا معاى ،، في جماعة تانين ساكنين معاى.
و قادهم للوكر العامر بأهل قريته.
فأعتقلتهم الشرطة و هم نيام يحلمون بالزوجة و العرس و البوكس أبو قبينتين.
و تم عمل كمين للذين كانوا يعملون يومها ، فإصطادوهم واحدا تلو الآخر بسهولة و يسر بفضل وشاية صاحبنا ( الغتيت ).
و عندما سأله زملاؤه في سجن الترحيل عن وشايته بهم قال و هو يحدر طاقيته المتسخة للأمام :
نان أمشي براى أركب فوق حمارتي العرجا و إنتو تجوني بي بوكسياتكم و شنطكم ؟
فضُرِبَ الذي وشى ضربا مبرحا و لم يبالوا حينئذ بالملح و الملاح.

Post: #46
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: محمد عبد الماجد الصايم
Date: 05-14-2014, 06:30 AM
Parent: #45

ملفاتكـ دسمة يا ريس .. أمتعتنا وأحزنتنا .. وضحكتنا!!

Post: #47
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: نصر الدين عثمان
Date: 05-14-2014, 10:57 AM
Parent: #46

[فيم الإقامة بالزوراء لا سكني بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
ناءٍ عن الأهل صفر الكف منفردٌ كالسيف عرِّي متناه من الخلل
فلا صديق إليه مشتكى حزني ولا أنيس إليه منتهى جذلي
طال اغترابي حتى حنَّ راحلتي ورحلها وقرى العسالة الذبل
وضج من لغب نضوي وعج ما ألقى ركابي ولج الركرب في عذلي
أريد بسطة كف أستعين بها على قضاء حقوق للعلى قيلي
والدهر يعكس آمالي ويقنعني من الغنيمة بعد الكد بالقفل
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العمر لولا فسحة الأمل
لم أرتض العيش والأيام مقبلة فكيف أرضى وقد ولت على عجل]
(الطغرائي)

الريس (أبو جهينة)..
[من ملفات الاغتراب والمغتربين (منذ عهد سودانيز وإلى يومنا).....]
ولما كانت الغربة اللعينة - قاتلها الله- قد أطبقت بقبضتها الفاتكة على الجسد بإحكام ولم تسلم منها الروح.. بيد أن الانفلات عنها أصبح بعض من مستحيل.. كمن ينشد المداواة على طريقة (البصيرة أم حمد)!؟ فقد حزمت أمري وولجت تلك الملفات وحلقي يغص بطعم هذا (الرحيق المر).. وتلافيفي مشلولة عاجزة عن تلمس طريق للخلاص....
تحسرنا على ما آلت إليه حالة (الدخري):
Quote: تسلل إلى غرفته و نظر إلى نفسه في المرآة، فخُيّل إليه أنه يرى وجهه كعملة معدنية تطير في الهواء لتستقر إما طرة أو كتابة.

وأحسسنا بمكابدات (إخلاص) وهي تكبح زئير تلك الرغبات (المشروعة) بأسنانها وأظافرها عساها تجد خلاصاً من تلك الأورام التي لا ترحم:
Quote: وصوت أوتار (طنبور) يئن يحمله الهواء تارة و تارة يذوب مع أصوات أخرى..
و أنفاس طفلها هي الوحيدة التي تجعل أوتاد روحها تنغرس بصلابة في أرض حياتها المجدبة..
تتوالى شهورها.. و سنواتها.. و شوقها يكبُر سنوات عمرها بمراحل..
و يأتي الشتاء قارساً يحمل زمهريره بين طيات..
تحتضن وحيدها تتلمس الدفء..
تبحث فيه عن عبق زوجها..
فتحتضنه إليها بقوة.. تقبل جبينه الصغير.. تداعب شعرات حاجبيه..
تمرر أصابعها على خديه الناعمين..
تتحسس شفتيه الصغيرتين بلطف بأطراف أناملها..
تمسك يده و تتمعن في أنامله..
تلمس أطراف أذنيه الباردة.. تسحب الغطاء و تضعه على رأسه..

وتستغرقنا تلك الصورة (الكوميدرامية) أصحاب (شقة جدة) وربعهم ذي الشعبتين (المحس) و(الجزيرة).. (تضامننا) مع أصحاب الدار و(تفكهنا) مع أولئك الربع!؟
Quote: بانوراما الشقة تبدو جليا في الأحداث التالية:
عُمْرة في عز الحر،، الشقة عامرة بأهل الجزيرة وأهل الزوج المحسي،، نساء ورجال،، شيبا وشبابا.
الصالة وغرف البيت،، والسطوح،، لا مكان يخلو من البشر، كتل متراصة دون ململة.
الصالون جردوه من الطقم وتم فرش المساحة كلها بالسجاجيد والأبسطة والمخدات والملايات والبطاطين والألحفة.
العمائم في كل ركن ومعلقة خلف الأبواب على المسامير،، وشالات من كل الأشكال والأحجام بعض العراريق موضوعة على المخدات لتجف من العرق..
تقبع حفاظة ماء كبيرة بالقرب من الباب وترقد عدة أكواب بلاستيكية على الغطاء.
حقائب من مختلف الأشكال والأحجام تملأ الأركان.
سلال النفايات البلاستيكية عامرة ببقايا (الصعوط) وقشر الفواكه و التسالي.
المكيف الصحراوي لا يتوقف ليل نهار،، تشفق عليه وأنت تسمع أزيزه فكأنه يشتكي لك من البلل الدائم و نشفان القش والسيور.
الزوجة تقف منذ الصباح الباكر كعادتها كل يوم،،
تطبخ حلة ماكنة من ملاح الويكة،،
ثم (تلخ) عجينا لزوم القراصة وآخر لزوم الكسرة.

ويكللنا الفخار بفعل زولنا.. ذاك (الهمام) الذي لا (يحلل) ولا (يتحلل):
Quote: و لا زال زولنا يقف منتصبا عند البوابة رغم سنواته التي تعدتْ الستين خريفا، يدفع الزكاة و الضرائب و يحسب الأيام بالتاريخ الميلادي مستعجلا الإجازة ليرى رفيقة دربه و أولاده و أحفاده،، ويحسب الأيام بالهجري ليستلم راتبه و ينطلق للسفارة لإرسال المصاريف الشهري.

و انحناءة احترام وتقدير لهذا المحب الكبير (حمد) متمثلاً قول (ابن أبي ربيعة) [ألا ليت أم الفضل كانت قرينتي هنا أو هنا في جنة أو جهنم]
Quote: أحب حمد ريتا، حبا ملك عليه فؤاده و لبه و جعلت مجاري شلوخه تتوهج كلمبة النيون و تمتليء بدماء العشق التي تغلى في عروقه. و بادلته ريتا حبا بحب. و ( الساعة الـ يقولو ليها حمد، الكلام يكْمل و يقيف.)
قلنا له و نحن نظهر الشفقة و نضمر الحسد: دي ما معروفة مسلمة ولا مسيحية، يعني أهلك ما حيرضو..
لم يجعلنا نكمل تعليقنا الغتيت، فقد قال و الشرر يتطاير من عينيه: و الله لو بقت راهبة ولا من السيخ ما بخليها...
تزوجها حمد

وتحية لهاتين (الزوجتين) المقاتلتين وهن يحيلن (عبد الكريم) ذاك الزوج (المراوغ) إلى فار مذعور:
Quote: فبادرته أم العيال الكبيرة :
تجي الخرطوم بعد سنة في إجازتك من دون ما تقول لينا ؟ إنت قايل الأخبار بتندسَّ؟ نحن متابعنك من يوم ما خشيت سوق باب شريف في جدة تلقط في حاجات الإجازة يا راجل الهنا.
و نظرت إليه نظرة، ذكرته قصة ريا و سكينة (فبسمل و حوقل و قرأ المعوذتين) و لم يكمل قراءة آية الكرسي قبل أن تقول الثانية من تحت أسنانها:
داير تبرطع هنا و بعدين تجينا في البلد مهلهل و منتف و تقعد ليك أسبوع و تقول عندي عفش مشحون و تفرتق للخرطوم. مش كدة ؟
و لكزته في صفحته لكزة (إنفدس لها) دون أن ينبس بكلمة.

ويتملكنا الحزن حد البكاء مع تلك الابنة المفجوعة في أبيها:
Quote: كان آخر شيء تتذكره قبل أن تروح في غيبوبة طويلة هو منظر شقيقتها تصرخ و ترتمي على الأرض مولولة..
عندما أفاقت.. و عرفت تفاصيل موت أبيها في طريقه للحاق برحلة العودة.. خُيِّل إليها أن موعد العيد قد تراجع في روزنامة بيتهم عدة سنوات إلى الوراء.
و بدا لها الحوش الواسع و كأنه ركن منزوٍ في غرفة معتمة..
رمقتْ أمها بنظرة مختلسة.. كان وجهها بدون أي تعبير.. كانت كلوحة مرسومة على قطعة من الصخر الأصم.. تنظر إلى لا شيء..

و(تأملنا) حكاية هذا (العاثر) الذي عز عليه ركوب حمارته العرجا وحده:
Quote: و عندما سأله زملاؤه في سجن الترحيل عن وشايته بهم قال و هو يحدر طاقيته المتسخة للأمام:
نان أمشي براى أركب فوق حمارتي العرجا و إنتو تجوني بي بوكسياتكم و شنطكم؟


شكراً لك (أبي جهينة) فقد أمتعنا.. وأحزنتنا .. وأضحكتنا - كما ذكر ود الصايم بحق - متعك الله بالصحة والعافية ودمت

Post: #49
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-14-2014, 11:33 AM
Parent: #47

لله درك يا نصر الدين
فقد لملمت أطراف كل الذكرى التي يذخر بها النافوخ في مرورك اوالذي إغترف من بئر الغربة ما هو يدخل في موازين السالب والموجب في هذه المنافي

التحية لك

***

نواصل

Post: #48
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-14-2014, 11:28 AM
Parent: #46

تحياتي إبن الخال ود الصايم

هكذا هي الغربة ، حياة كاملة تحمل في طياتها النقيضين ، بل أكثر من أطراف متناقضة
ومشيناها خطى كُتبتْ علينا ... ومن كتبتْ عليه خطى مشاها

Post: #50
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-14-2014, 11:55 AM
Parent: #48

شتاء عام 1978 / ، مدينة الرياض .............
بدايات عملي في السعودية .........
يومها أتصل بي عسكري من البوابة في مقر عملي وقال لي أن شابا ورجلا عجوزا يريدان مقابلتي لأمر عاجل وهام.
قلت له هل أنت متأكد من أنهم يريدونني شخصيا.
قال نعم
ذهبت وأنا أشك في أنهم يقصدونني، فالذين أعرفهم بالرياض يعدون على أصابع اليد ولا يوجد بينهم رجل عجوز.
قلت في سري : ربما بعض الأقارب أتوا زيارة للسعودية.
وجدت رجلا عجوزا، يبدو عليه أنه ينوء بحزن ثقيل ، و إبنه يسنده خشية سقوط متوقع في أي لحظة وآثار دموع لا زالت تتلألأ على خديه.
رآني فلمعت في عينيه المحمرتين من البكاء الطويل ، لمعتْ بوادر أمل وليد بين حناياه. فالرجل لا يعرفني غير أنني سوداني أعمل في لدى مسئول كبير .
أولاد الحلال من أهلي بالسودان دلوه على عنواني، فهرع إليَ متشبثا كقشة وسط خضم من بحر إحباط تكتنفه في شيخوخته..
..مشكلتك شنو ؟
فبكى الرجل بكاءا جعلتْ العسكري ينظر للإتجاه الآخر ولا أدري إن كان يخفي دمعة أم حاول أن يجعل العجوز يعتقد بأنه لا يرى دمعاته العزيزة.
ما أقسى بكاء الرجل، و خاصة إن كان مظلوما أو مقهورا.
و راح الإبن في بكاء مكبوت. وقفت حائرا ،
فأنا بين رجلين لا أعرفهما يقابلاني لأول مرة ، حتى أنني أرتبت في الأمر ، فربما حدث مكروه لأحد أعرفه و هم يعرفونه.
استأذنت الحارس وأدخلتهما معي للسكن الخاص بي في موقع العمل لأستمع للرواية منهما بهدوء.
عرفت منهما أن الرجل له إبن آخر ، جاء قبل سنة ، ثم انقطعت أخباره نهائيا.
و تناقل الناس عن سر اختفاءه قصصا كثيرة ، ولكن الأب و أبنه بعد أن أتيا بتأشيرة عمرة ، وأتيا للرياض ( زوغة ) ، عرفا بعد التقصي والبحث المضني، أن الإبن المفقود، بعد قدومه من السودان ، إستلم عمله في بقالة ، و بعد عشرة أيام بالتمام والكمال ، إنقض عليه رجال المباحث و مكافحة المخدرات في البقالة و إقتادوه لظلمة السجن بعد أن إستخرجوا من تحت بلاط المحل كميات من المخدرات المهربة وحبوب الهلوسة وممنوعات أخرى. وما أدراك ما السجن في ذلك الزمان ، فالداخل مفقود والخارج مهدود. لا زيارات ولا معلومات ، حتى إن رحت لتسأل فأنت في موضع شبهة.
انتهى الأب من الحكاية و دموعه تجري بلا انقطاع، يمد يدا معروقة ليمسح بها دمعاته.
الذي لفت نظري في قصته، أنه تم القبض على الولد بعد عشرة أيام من حضوره من السودان، وهذه المدة ليست مدة كافية لعمل علاقات تجارية في صنف الممنوعات. والشيء الثاني هو هذا الصدق المتدفق من الرجل وهو يحكي لي عن كيفية تربيته لأولاده، وثقته بابنه المفقود وفي أخلاقياته وتمسكه بأهداب دينه.
الذي آلمني أن الأم بالسودان، بكت على ولدها فلذة كبدها حتى راح بصرها. ثم ألمتْ بها حمى لبضعة أيام، وفارقت الحياة وهي تهذي باسم ولدها المختفي وكانت آخر كلماتها لزوجها وهي تمسك بيده : ولدي أمانة في رقبتك. إن شاء الله ما تموت قبال تلقاهو ، قولوا ليهو أمك عافية منك لله و الرسول.
هاهي الأم، ترسل أبنها للغربة لكى يعود محملا بطلبات شيلة إخوانه لتفرح أمه بزواجه من بنت أختها اليتيمة التي قامت بتربيتها بعد أن فقدت الأم و الأب في حادث غرق مركب، ولكن هاهي الأقدار تخبئ لها شيئا آخر، فلا هي كحلتْ عينيها برؤيته، و لا هي فرحت بزواجه، لله في خلقه شئون.
ضاقت عليَ الحجرة على رحابتها، وأنا أرى هذه المأساة يجسدها هذا الشيخ القابع أمامي ينظر فقط إلى فمي ليسمع مني حرفا يعيد إليه الأمل، وعشت في صراع عنيف، فالموضوع ليس بسهل، والأمر يحتاج إلى مجابدة وصبر وحكمة وفي النهاية اعتبرتها مغامرة محفوفة بالمخاطر.، ولكن هزيمة الأمل في نفس هذا الرجل المثقل بالحزن أصعب وأمرَ عشرات المرات.
قلت له وكأن كلماتي تخرج من قاع سحيق، تخرج وكأن صدي صوتي يملأ المكان : شوف يا عمي. إنتو خليكم معاى هنا كم يوم، ورغم إنو الموضوع صعب جدا، لكن بإذن الله و حوله وقوته ، أنا ما حأرتاح إلا موضوعكم دة يخلص ونطلع ولدكم من محنتو.
هب واقفا ليلثم رأسي، فوقفت أنا ولثمت رأسه مطيبا خاطره، فبكى أبنه و أبكاني.
ليلتها لم أنم. أضرب أخماسا في أسداس. فأنا أعرف دهاليز مثل هذه المواضيع. ففي سراديبها عقبات ومصاعب ومحاذير وخطوط حمراء وما فوق الحمراء.
وعندما نودي لصلاة الفجر، رحت لأوقظ الرجل، فوجدته على سجادة الصلاة وهو يرفع كفيه ولا زالت حبات من الدمع تقف متحجرة على خديه ، سمعته يدعو :
يا رب ، ما ترجعني خايب ، يا رب بحولك وقوتك توفق الجنا دة يلقى ولدي عشان ترتاح أمو في قبرها ، يا رب لو ولدي حى خليني أكحل عيوني بي شوفتو.
وصليت الفجر، وكنت قد عزمت على أمر وتوكلت على الحى القيوم وقلت لا بد أن أمضي فيه رغم وسوسة الشيطان بأن أرجع. ولكن صورة الرجل، وصورة الأم التي فارقت الحياة وهي تهاتي بولدها ، كان يسحثني للمضي قدما، وتلهمني قوة غريبة للاندفاع.
وكتبت طلبا ضمنته كل القصة بعد أن دبجته بكل الحقائق والنواحي الإنسانية فيه ونظرتي للموضوع من ناحية أن ظلما فادحا قد يكون قد وقع على هذا الشاب.
قال لي المسئول الرفيع بعد أن قرأ الموضوع بكل روية : المذكور معرفة أم قريبك ؟
فقلت دون تردد : قريبي يا طويل العمر
فقال : يعني واثق من كلامك المكتوب دة ؟
قلت بلا تردد : مية بالمية
وطبعا المذكور لا هو قريبي ولا حتى من قبيلتي، و لكن الحمية السودانية بالإضافة لموضوعه ككل، جعلته في تلك اللحظة قريبي رغم أنني أعلم تمام العلم مغبة كلمتي وإدعائي بأنه قريبي.
فقال لي المسئول : حنشوف موضوعو ، ولو طلع مذنب ، أنا والله بحبسك معاه.
هذا ما كنت أحسب حسابه. فالرجل يعني كل كلمة يقولها، وأنا أعلم تماما بأن إحدى أصابع يديه لو عاكسته ، فهو مستعد لقطع يده. فما بالكم بهذا السوداني الذي سيضيع زمنه وزمن ضباطه ؟
بالرغم من معرفة هذا المسئول لي حق المعرفة وعلاقتي الحميمة مع أبنائه، إلا أن كل هذا لن يشفع لي لو تأكد أن الشاب مذنب ،، (فهو ما عندوش يمة أرحميني في العمل والرسميات )، رغم أنه أب مثالي ورجل يقدر العشرة والعيش والملح.
موقفي هنا هو ما يطلق عليه السودانيين : الضحك شرطو.
تم تكليف ضابط كبير ليتابع ملف القضية متابعة لصيقة وعمل تقرير للمسئول في خلال شهر من تاريخه.
واستدعاني الضابط فأخذت الأب والابن معي، وأعطيناه كل المعلومات التي طلبها وتصورنا للأمر.
وخلال هذا الشهر، راودتني الكوابيس والأحلام السوداء كل ليلة، فأحيانا أرى نفسي مسجونا وأنا أضرب بالسياط، وأحيانا أرى نفسي مقتادا إلى المشنقة، وأحيانا أرى نفسي في بئر سحيقة ، أنادي الناس ولكن ما من مجيب ، وأحيانا أرى نفسي هاربا وجمهرة من العساكر والكلاب تطاردني.كنت أصحو من نومي مذعورا أتصبب عرقا.
لا فكاك من الأمر، ولا تراجع.
شهر بالتمام والكمال، وأنا إن ناداني أحد باسمي، أجفل كالملدوغ، وصرت عصبيا، ولكنني كنت أداري عصبيتي وخوفي من العجوز وأبنه.
أبتسم وأنا في جوفي مشروع بكاء، أضحك وأنا أتململ في دواخلي متوجسا خيفة.
رن جرس التلفون في غرفتي بعد صلاة العشاء، كان في الطرف الثاني الضابط الكبير، بعد أن حياني ، قال لي :
بكرة الساعة سبعة ونص صباحا تكون عندي إنت و والد الشاب المذكور.
وقبل أن أستوضحه الأمر، أنهى المحادثة.
ليلتها لم نذق طعم النوم، ثلاثتنا. فتارة نمتطي مركب إبليس، فتتقاذفنا أمواجه حتى ندخل السجن، وتارة نلعن إبليس وندعو الله بالستر ونطمئن أنفسنا بحسن الختام وأن الجولة ستكون لصالحنا. أدخل وأمرق زى أم العروس. والعجوز لم يكف عن الدعاء ، و إبنه يجلس مذهولا يحدق في لا شيء.
كنا هناك قبل الموعد بنصف ساعة.
جاء الضابط، وأفزعني تجهم وجهه، لم يرد على أسئلتي التي انهمرت عليه كالمطر. لملم بعض الأوراق وقال لنا : تعالوا معي
كنت أسمع دقات قلبي بكل وضوح، والتي طغتْ على كل الضجيج في المكان، كنت أحتاج لمن يسندني تماما كالعجوز الذي يسنده أبنه والذي ما أنفك يدعو الله منذ ليلة البارحة.
دخلنا على المسئول، فأدى الضابط التحية ، فقال له المسئول :
خلك برة شوية
ثم قال لي بصرامة : إيش اللي خلاك تتأكد من إنو قريبك بريْ ؟
نطقت بكلام، لكنه يبدو أنه لم يتجاوز اللوزتين فلم يخرج.
فقال لي المسئول : إنت ما سمعت سؤالي ؟
فشرحت له وجهة نظري بعد جهد جهيد وأنا أضغط على كل كلمة لتخرج واضحة.
ثم ران صمت رهيب على المكتب وهو يقرأ من بعض الأوراق التي بين يديه، وبين الفينة والأخرى يرمقنا بنظرة حادة كنظرات الصقر الجارح.
ثم ضغط على زر جرس مثبت على مكتبه، فدخل الضابط، وأقترب منه، فهمس له ببضع كلمات، فخرج الضابط، وعاد ومعه شاب، أو بالأصح بقايا شاب، نحيف بالكاد يستطيع المشي، نظراته زائغة، حليق الراس، ما أن رآه العجوز حتى أطلق صرخة مخيفة نابعة من أعماق أعماقه، ثم وقع على الأرض، فرفعناه أنا والضابط ، وهو يردد وكأنه يهذي : بتول ولدك عايش ، لقيتو قبال أموت يا بتول.
فخرج المسئول والضابط وتركا المكتب لنا في لفتة إنسانية لن أنساها، أنقلب المكتب إلى ساحة تراجيديا لا يتحملها الكثيرون.
وقف الشاب الهزيل ينقل بصره بين والده المطروح أرضا وبين شقيقه الذي كان يقبله ثم ينظر إليه ليعانقه مرة أخرى وقد تحجرت الدموع في عينيه. ثم أنحنى الشاب على والده و رقد بجانبه يحتضنه يهدهده كرضيع، و قد نسي تماما أنه في مكتب مسئول خطير من أهل الحل والربط في الدولة.
منظر الشاب وهو يحتضن والده الذي بللت لحيته الدموع وهو لا زال يهذي ، جعلني أقف كمن يكون في حلم. منظر كان يحتاج إلى كاميرا ، فالكلمات تعجز عن نقل صورة الأب يرتعد من المفاجأة في حضن إبنه كطفل صغير.
دخل المسئول ، فأوقفت الأب بمساعد الضابط والأبن ، فقال المسئول للشاب :
ما عندي شي أقوله لك غير الحمد لله على السلامة. والظلم اللي وقع عليك حنحاسب المسئولين عنه محاسبة شديدة.وأبشرك بأنو أنا شخصيا حأكون كفيلك وحتشتغل معي لو بغيت ، وممكن تروح السودان تقضي ستة شهور وتجيني بتأشيرة جديدة. ويش قلت؟؟؟
فقال الشاب بدون تردد: كتر الله خيرك و كتر من أمثالك ، بس طلبي الوحيد إنو نسافر للسودان وما عاوزين شي تاني. كتر ألف خيرك.
طبعا لا ألومه ،، فقد قاسى بما فيه الكفاية.
وألح المسئول عليه كثيرا وأشركني في المحاولة، ولكن الشاب أصر على موقفه بكل تأدب وحسن تخلص، وكأنه يقول للمسئول لقد شبعت من بلدكم ولن أنسى هذا الجزء من حياتي
وعندما إقتنع المسئول بأن الشاب جاد في طلبه، أمر له المسئول بمبلغ كبير من المال وتذاكر العودة له لوالده وشقيقه،
وقال لي المسئول : لو أراد أحد منهم أن يأتي للعمل ، أرجو أن تخبرني لكى نرسل له تأشيرة عمل وتذاكر.
فهمنا فيما بعد ، أن البقالة كانت لشاب يماني وكان تحت المراقبة، و كان من سوء الطالع أن يعمل معه السوداني الشاب قبل المداهمة وفر اليمني لليمن بعد أن أحس بالمراقبة اللصيقة لمحله حيث كان اليمنيون وقتها يتملكون ويؤسسون المحلات التجارية وكانوا يتنقلون بحرية من وإلى السعودية دون حسيب أو رقيب ، فأتت مداهمة المحل على الأخضر واليابس دون فرز ، فما دام المحل مشبوه ، فإن الذي يعمل به هو المسئول بصرف النظر عن تاريخ بدء عمله.

وعند وداعهم بمطار الرياض القديم ، عانقني الأب طويلا بحيث لم أستطع الفكاك منه و هو يبكي ويدعو لي بحرارة صدق: نجازيك كيفن يا ولدي.
ظلت هذه الواقعة لفترة طويلة عالقة في ذهني ، وقد كانت تداعياتها نقطة تحول كبيرة في كل معاملاتي بدول المهجر التي قضيت فيها حزم غربتي.
لم تنقطع علاقتي بهذ الأسرة الكريمة التي ظلت تحكي هذه القصة لكل من يزورهم ، ولا زالت العلاقة حميمة إلى درجة أن كل الأسرة حتى أطفالهم يطلقون على لقب قريبنا، وهو لقب أعتز به كثيرا.

Post: #51
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: نصر الدين عثمان
Date: 05-14-2014, 12:24 PM
Parent: #50

Quote: وعند وداعهم بمطار الرياض القديم ، عانقني الأب طويلا بحيث لم أستطع الفكاك منه و هو يبكي ويدعو لي بحرارة صدق: نجازيك كيفن يا ولدي.
ظلت هذه الواقعة لفترة طويلة عالقة في ذهني، وقد كانت تداعياتها نقطة تحول كبيرة في كل معاملاتي بدول المهجر التي قضيت فيها حزم غربتي.
لم تنقطع علاقتي بهذه الأسرة الكريمة التي ظلت تحكي هذه القصة لكل من يزورهم، ولا زالت العلاقة حميمة إلى درجة أن كل الأسرة حتى أطفالهم يطلقون على لقب قريبنا، وهو لقب أعتز به كثيراً.

يا الله.......
يا لروعــة هذا (الفعل النبيل) ويا لسموه .....
والله إنه ليكفر كل (مرارات الغربة) وقساوتها ..
عيني عليك يا (أبو جهينة)..
(إن لله عبادا اختصهم بقضاء حوائج الناس حببهم إلى الخير وحبب الخير إليهم أولئك الآمنون من عذاب النار يوم القيامة)
جعله الله في ميزان حسناتك ومتعك الله وأسرتك بالصحة والعافية وحفظكم

Post: #53
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-14-2014, 08:26 PM
Parent: #51

لك الشكر نصر الدين

مروا بي سودانيون بالغربة ، تقف قصتي في تواضع تام أمام مواقفهم

دمتم

Post: #52
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: Anas Babekr
Date: 05-14-2014, 06:55 PM
Parent: #1



العزيز ابو جهينة ,,,,,,, ما أجمل كلماتك حين ترسم الاحداث

حلقت بنا بعيد فى الفضاء


قديما كنت اتسأل كيف صبر الوالد علي سنين الاغتراب الطويلة , لاكن ادركت ان السودانيين محبين للأغتراب حين مررت بنفس موقف الوالد بعد اغترابي الاختياري ,,,,

تحياتي عبر الشاشة والكيبورد


Post: #54
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-14-2014, 08:31 PM
Parent: #52

تحياتي أنس

مشكور على المرور

السودانيون حبهم للبلد لا يُضاهَى ، هاجروا ولسان حالهم يقول ( مجْبَرٌ أخاك ولا بطل )
وعندما تزايدت أعداد الهجرة ، أصبحت الهجرة زادا يوميا يمضغه كل بيت

لله در الوطن

دمتم

Post: #55
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: محمد عبد الماجد الصايم
Date: 05-15-2014, 08:00 AM
Parent: #54

قصة مؤلمة والله يا ريس .. لكن نهايتها سعيدة والحمد لله..
ربنا يثبت الأجـر

Post: #56
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: حمد عبد الغفار عمر
Date: 05-15-2014, 10:14 AM
Parent: #55

يديك العافية يا ريس

سفر جميل ممتع

Quote: يوم الجمعة دة بالذات أكعب يوم.


تصدق الزول دا عبر عني تماما

ياخ أنا يوم الجمعة دا جسمي بكون معسم ومربط تربيط ما عادي

رغم إنو يوم روحي وفيه صلاة الجمعة وتستجاب فيه الدعوات

Post: #57
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: حسين ديقول
Date: 05-15-2014, 01:51 PM
Parent: #56

أبو جهينة ............ تجربة اغتراب


تسلم يا ريس ومشكور على تقديم هذه الدورس والعبر

Post: #62
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-16-2014, 02:14 PM
Parent: #57

تحياتي اخي حسين

الغربة رغم فوائدها الا انها تترك شروخا وندوبا من الصعب جبرها
مشكور علي المرور

نواصل

Post: #60
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-15-2014, 05:31 PM
Parent: #56

تحياتي ابن العم. حمد
زمان كان عندي نفس الإحساس يوم الجمعة لما كان هو اليوم الوحيد أجازة في الأسبوع
حسع اجازة يوم السبت خففت من هذا الشعور نوعا ما

دمتم

Post: #58
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: walid taha
Date: 05-15-2014, 04:16 PM
Parent: #1

من أول الخيط أنا مستمتع

Post: #59
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: welyab
Date: 05-15-2014, 04:46 PM
Parent: #58

عزيزي أبو جهينة لك التحية
مصادفة وفي دار السفارة السودانية بالرياض علمت بوجود هذا البوست من إخوة ( بورداب الر ياض ) حيث كنت قد قررت أكتب عن بعض الملاحظات

عودة الجبايات الغير مشروعة في سفارة الرياض

Post: #61
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: عزيز
Date: 05-15-2014, 07:15 PM
Parent: #59

يا ريس

لك التحايا والحب والتقدير

ما اجمل قلمك وأروع سردك..

حزنت بمقدمي للرياض ولم يسعدني الحظ لقاك..

مودتي كاملة

Post: #63
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-16-2014, 10:03 PM
Parent: #61

وليد : متعك الله بالصحة والعافية
تحياتي

***

ولياب

سلام كبير
هناك قصص عن الموضوع ...
سنأتي بها في سياق الملف

***

الأخ عزيز
تحياتي

للأسف لم نتشرف بلقياك بالرياض
نتمنى أن تعاود الزيارة
دمتم بخير

Post: #64
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-16-2014, 10:08 PM
Parent: #63

مقدمة : هذه القصة جرت أحداثها أيام كان ( شريط الكاسيت ) يلعب دورا هاما في التواصل في ثمانينيات القرن المنصرم.

***
بعد عدة رسائل إلى زوجها كان يكتبها لها شقيقها الصغير، اعتقدت (سميحة) إلى حد الاقتناع بأنه ربما كان شقيقها لا يستطيع التعبير كتابةً عن كل ما تمليه عليه شفاهةً، أو من المحتمل أن يكون بأنه قد لا يكتب كل شيء ويقوم باختزال كل تعبير تفصح عنه.
وتصر عليه بأن يكتب كل شاردة و واردة من كلامها، ثم تجعله يقرأ ما كتب، و رغم هذا فهي على يقين بأنه ربما يكون قد أخطأ في نقل أحاسيسها بكل عمقه.تشرح له وهي لا تفصح عن كل مكنوناتها وكأنما تريده أن يفهمها ومن ثَم يقوم بتفصيل وتشريح مقاصدها.
أطلقتْ آهة وزفرة طويلة : الله يرحمك يا أبوي، التعليم كان أهمّ لي من الزواج.
انطلقت (لست سعيدة) المعلمة وهي تنوي أمراً حسمته في لحظة حنق وضيق.
شكتْ إليها هواجسها من تقصيرٍ مزعوم من شقيقها حيال نقل كلماتها بصدق إلى زوجها، وطلبتْ منها إعارتها ( المسجل وشريطاً فارغاً ). ..
ابتسمت ( ست سعيدة ) وناولتها ما طلبتْ ومازحتها : أذهبي وأترسي الشريط بال في قلبك كلو.
ليلتها وبعد أن أكملتْ كل أعباءها المنزلية، دلفتْ غرفتها وأغلقته من الداخل وانبطحت على بطنها على السرير الخشبي، ثم تنحنحتْ وتلفتتْ متوجسة وكأن هناك من يسترق السمع.
قرَّبتْ فمها من المسجل وقالت بصوت هامس: ألو .. ألو .. شريف .. إزيك .... أنت سامعني ؟
ثم أعادت الشريط من أوله واستمعت إلى كلماتها وهي سعيدة كما لو اكتشفت عالماً مجهولاً تطؤه بقدميها لأول مرة. فهي لأول مرة تسمع صوتها ينبعث من جهاز أصَم.
ثم بدأتْ حديثها ذي الشجون.
بدأته بشوقها، وبلياليها الطوال وحيدة تحدق في السقف، ورسائلها التي تشك في صياغتها وفي وصولها إليه أصلاً. ثم تخلل شوقها المبثوث ترديدها لمقاطع من أغنيات جديدة لم يسمعها شريف من قبل، ترنّمتْ بها بكل خلجة من خلجاتها، يمازج غناءها مشروع ضحكة على محاولاتها.
قالت في غنج ودلال :
( ما تضحك على صوتي يا شريف .. أوعدك حأرسل ليك الأغاني دي في شريط ) ..
وتواصل التسجيل وهي تفرك قدماً بقدم مستلقية على بطنها تداعب ضفيرة شعرها المنسدلة أمامها.
ثم ذكّرتْه بكل من تزوجن بعدها من الفتيات ثم سافرن إلى أزواجهن في الخليج.
اختتمت الشريط بقائمة طويلة من الطلبات.
ثم أخرجت الشريط وقبّلته من الجانبين، ولفته بقطعة من القماش وخاطته بخيط متين.
وفي الصباح الباكر انطلقت به إلى الحاج (سيد) المسافر لأداء العمرة ليسلمه إلى زوجها.
وقف الحاج (سيد) يلوح بيديه مودعا، ولولا حياءها لهتفتْ بالحاج (سيد) من وسط الجموع أن يضع الشريط جنباً إلى جنب مع ( جواز السفر الخاص به ) إمعاناً في أن يكون محفوظاً ومصاناً.
ظلتْ تترقب الرد، إما بشريط مماثل، أو أن يبشرها أحد القادمين بأن أوراق سفرها في معيته وحوزته.
كلما راحت للسلام على أحد القادمين من السفر، تتوقع أن يأخذها منفردة ويهمس لها بالأمل الذي يرقد كجذوة نار في دواخلها.
تتمتم في سرها :
( الله يسامحك يا شريف، كل الجايين من السفر بقو يعرفو أنا عاوزة شنو بعد السلام عليهم )
تحاول أن تتذكر كل كلماتها التي سجلتها بالشريط.
تتأسف أحياناً على كلام لم تقله، وأحياناً على كلمات لوم لم تكن ضرورية.
وظلتْ تنتظر، وعجلة حياتها رتيبة رتابة أيام القرية وسكانها.
وذات صباح لن تنساه، ومن آخر القرية، أتى خبر زلزل كيانها فرحاً ..
فقد بشرها شقيقها بأن ( إسماعيل) أتى البارحة من الخليج وقال له بأن لديها معه أمانة من زوجها.
لم تنتظر حتى تكمل بقية أعباءها المنزلية.
حشرتْ قدميها في أقرب ( حذاء ) ثم انطلقت لا تلوي على شيء.
ألقت بالتحية على القادم وهي تستحثه بعينيها لكي يعطيها الأمانة.
ورغم أنها كانت تتوقع خبراً عن سفرها إليه، إلا أن الشريط في يد إسماعيل كان كالكنز النفيس.
استلمت الشريط ولم تنتظر حتى تكمل كوب العصير المقدم لها.
أستلفت المسجل مرة أخرى من (ست سعيدة) وهرعتْ إلى غرفتها وأغلقتها من الداخل بعد أن قالت لأمها : ما تنتظروني في الغدا.
ابتسمت أمها ابتسامة ذات مغزى وهي تشيعها بنظراتها إلى باب غرفتها.
احتضنت المسجل وحشرتْ فيه الشريط، و جلست القرفصاء وسط غرفتها على سجادة مهترءة.
خالت الوقت دهراً حتى ابتدأ الشريط يلفظ حديث زوجها :
( حبيبتي ونور وعيني وشمعة ظلام غربتي .. )
إلى هنا رقص قلبها طرباً وتفتحتْ كل مسامه لتستقبل هذا البوح الذي يهدهد كيانها الملتاع.
وابتلعت ريقها مراراً ..
ثم أعادت الشريط من أوله لتستمع إلى هذه الكلمات الست. فهمستْ : أنا شمعتك يا شريف وسايبني الزمن دة كلو ؟
ثم واصل صوت زوجها :
( سلام كثير وشوق لا يوصف، بشوفك في الشغل وفي السكة وفي البيت وأنا باكل وأنا بلعب كوشتينة مع العزابة.. أما الأحلام بالليل .. خليها على الله .. لو قلت كل يوم بحلم بيكي يمكن حتعتبريني مبالغ ). ..
إلى هنا استطاعت أن تسمع دقات قلبها بوضوح تام تسابق الشريط في جريانه، ثم واصل زوجها عبر الجهاز القابع في حضنها :
( طبعاً ما حأقدر أجي السنة دي برضو .. صاحب الشغل مبسوط مني و زاد لى المرتب وحيعوضني بدل الإجازة قروش .. عشان كدة ما حآجي السنة دي .. سامحيني ).
غاص قلبها بين ضلوعها .. و لكنها واصلت الاستماع:
( قلت لصاحب العمل أنا ما حأقدر أقعد هنا بدون زوجتي أكتر من كدة . عشان كدة لو سمحت أنا حأستقدم زوجتي تعيش معاى هنا عشان الغربة تبقى طرية شوية )..
كادت سميحة أن تزغرد .. ولكنها واصلت الاستماع :
( الخبر الجميل يا حبيبتي إنو وافق .. و دلوقت إبتدينا نعمل في الإجراءات عشان تجي هنا جنبي ).
قبلتْ المسجل عدة مرات واحتضنته ليلاصق وجنتيها المحمرتين فرحاً سروراً.
ثم واصل : ( شوفي يا ناهد .. أهم حاجة التوكيل ال مع إسماعيل تسلميه لخالك سليم عشان يقوم بكل الإجراءات .. يعني العقد واستخراج جواز السفر ولما أرسل التأشيرة برضو هو حيقوم بالإجراءات في السفارة) اتسعت حدقتا (سميحة) .. بدا لها المسجل وكأنه حيوان له أنياب وأظافر يكشر عن وجه قبيح لينقض عليها.
أعادت المقطع من جديد وهي في ذهول، والاسم يتردد صداه في دواخلها كقرع الطبول :
( شوفي يا ناهد .. شوفي يا ناهد ؟ ).
تساءلت بصوت مرتفع : ناهد ؟
إن كان قد أخطأ في أسمها .. فما حكاية التوكيل والعقد والخال سليم ؟
أعادت الشريط من الأول لتتأكد من أن الصوت هو صوت شريف ..
ضربتها كلمة ( ناهد ) في قاع نافوخها بمطارق عنيفة، فتحول كل ذلك الكلام الحلو الذي في المقدمة إلى شيء كفحيح الأفاعي، فسحبتْ الشريط مرة أخرى إلى المقطع الذي أطلق عليها رصاصة الذعر ..
ظلتْ تستمع إلى المقطع حتى حفظته وهي تنظر إلى لا شيء ..
أفاقت على الطرق المتواصل على باب غرفتها وصوت أمها يقول : سميحة افتحي الباب .. إسماعيل عاوزك.
هرعتْ إلى الباب وهي تتمنى أن يكون الشريط ليس من شريف ..
قال لها إسماعيل وهو يبدي قلقاً واضحاً : معليش يا سميحة أنا أديتك شريط مش بتاعك.
قالت بلهفة يشوبها الأمل : بس دة صوت شريف.
قال إسماعيل : معليش يا سميحة أديني الشريط .. أنا مجرد موصل وبس .. وما على الرسول إلا البلاغ ..
ظلت سميحة تردد كمن أصابتها هلوسة من جراء الحمى : بس دة صوت شريف .. بس دة صوت شريف يا جماعة. صوت شريف ال بعرفو وسط مية صوت.
دخل إسماعيل وأخذ الشريط وهو يضع في حسبانه المشاكل التي تنتظره هنا من أهل ناهد الذين سيعتقدون أنه أراد أذكاء نار القتال مبكراً بين سميحة وناهد .. والتقريع الذي سيناله من شريف عند عودته فقد يظن أنه أعطى سميحة زوجته الشريط عن قصد حتى يفسد عليه موضوع زواجه من ناهد ..
سميحة .. من يومئذ .. كرهتْ هذا الاختراع المسمى ( مسجل ) .. وتنفر جافلة إن رأت شريطاً حتى وإن كان مترعاً بأغانيها المحببة.

Post: #65
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-17-2014, 10:06 AM
Parent: #64

نواصل تصفح كتاب الاغتراب والغربة
فآل صفحات مترعة بكل اعتلالات الحياة وخلجان القابضين علي الجمر

نواصل

Post: #66
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-18-2014, 09:50 AM
Parent: #65

حباه الله وجها يحاكي البدر في ليلة التمام ..
ورث الوسامة من والديه فيما ورثوه مع فقر مدقع و عزة نفس تناطح السحب ..
أمه كانت تخفيه عن أعين الزوار ، لا تفرق بين قريب أو بعيد ، و بين رجل أو امرأة ..
تتحجج بنومه إن أرادت إحدى الجارات رؤيته.
وُلِد بعد ثلاث صبايا يفوقهن بهاءا و جمالا ..
و لتبعد العين و الحسد عنه .. فقد قصتْ شعره و تركت له ( قنبورا ) في منتصف رأسه .. و تقوم بإلباسه ملابس فضفاضة ليبدو مترهلا غير متناسق .. تتدلى من عنقه خرزات منظومة في خيط حريري أحمر اللون فاقعه.
كل هذا ما كان ليقلل من وسامته ..
شغفته كل بنات الحي بصمت و تمنّينه و هن موقنات بأنه أمر بعيد المنال.. فهن يشعرن بأنهن أقل جمالا و وسامة منه ، بل تفوق وسامته جمال أجمل جميلة بينهن ..
وضعته الكثيرات في مقدمة خيالهن يداعب أحلام يقظتهن ليل نهار ..
لم يدخل في معارك أقرانه بشوارع الحي ..
قليل الكلام .. لا تعدو ابتسامته إلا أن تكون مشروع ابتسامة ..
شهد له الكل بحسن الأدب والخلق ..
عندما فاجأ المرض اللعين والده الحبيب وأقْعده عن العمل ، أصر على قطع دراسته الثانوية ولالتحاق بعمل يقيم الأوَد ..
فألحقه أبوه بورشة لتصليح السيارات ...
في زمن وجيز كان قد أَلَمَّ بكل خبايا المهنة وجادها تماما ...
ثم نادى منادي الهجرة التي دغدغتْ أحلام من هُم في سنه.
و بعد جهد جهيد أقتنع والديه.
عندما وقفت أمه وأخواته لتوديعه بالمطار حيث كان متوجها للخليج للعمل .. لم تنفك أمه توصيه بأن يتمالك نفسه و أن لا يجعل للشيطان سببا للدخول إلى قلبه حين لحظات الغضب.
أستقبل وجهة الغربة و في قلبه غصة ..
فوالده المريض لا يقوى على تحمل أعباء أسرته ..
والغربة سياحة في المجهول ..
وعانقته أولى أيام اغترابه .. فأستقبلها بعزم على النجاح .

لم يدم به الحال كثيرا .. فقبِل بأول عمل عرض عليه كسائق عند أسرة فاحشة الثراء ..
هكذا وصاه العجوز السوداني الوقور الذي قابله عندما كان يؤدي مناسك العمرة ( شوف يا ولدي بديك نصيحة لوجه الله .. في البلد دي أصلك ما تفوت الشغل البجيك .. أقبل بيهو و بعدين فتش الأحسن .. )
تمسك بهذه النصيحة وعمل بها ..
يقوم عند الفجر لتوصيل الصغار إلى مدارسهم ..
ليعود بهم عند الظهر ..
ثم يبدأ برنامجا من نوع آخر بقية يومه و جُل ليله ..
برنامج صاحبة الدار وبناتها وصديقاتهن ..
فهذه تريد أن تذهب إلى السوق ..
و تلك إلى صاحبتها ..
و تلك تريد أن تقوم بجولة غير معلومة الوجهة والمقصد ..
وأحيانا يسهر طوال الليل يقبع في السيارة منتظرا الأسرة خارج قصور الأفراح .. أو في الأسواق ..
رغم كل هذا ، فقد كان سعيدا .. منتظما في إرسال ما تحتاجه أسرته ..
و تعافى والده بعد أن أرسل له ثمن العلاج والدواء ..
و تزوجت أخته الكبرى ..
و تمت خطبة الأخريات...

ثم ...
بدأتْ الريح تأتي من حيث لا تشتهيها سفنه المنطلقة في أمل ..
فقد تولَّهتْ به إحدى بنات رب عمله..
تعلقتْ به تعلقا جنونيا ..
بدأتْ بالحملقة في ملامحه ..
ثم تخطتْ مرحلة دهشتها لتدخل في النظر إليه طويلا مبتسمة وملاطِفة ..
تكاد تحتويه بعينيها ..
ثم بدأتْ تهتم به اهتماما زائدا ..
تخلق الأعذار لتخرج معه منفردة ..
تطلب منه أن يضع شريط الكاسيت ثم تسأله رأيه في كلماتها ..
ثم بدأتْ رحلة أخرى ..
تدس له بين طيات المقعد الأمامي رسائل غرام ملتهبة ..
تهديه خلسة زجاجات العطر التي لو قام بشرائها لتدهورتْ ميزانيته لشهور ..
ثم قامت بما لم يكن في الحسبان ..
فعندما دلف بالسيارة داخل ( الفيللا الفخمة ) ، تأخرتْ عمدا عن النزول متظاهرة بالبحث عن شيء، وعندما تأكدتْ دخول أخواتها للداخل .. كشفت عن وجه ينضح شوقا و يضج رغبة ، ثم طبعتْ قبلة محمومة على خده وأسرعتْ الخطى إلى الداخل ..
الذهول لم يترك له أي فرصة لتفادي قبلتها المباغتة ..
وقف كمن تسمر على الأرض .. تلفّت يمنة و يسرة .. و شخص ببصره إلى الأعلى .. فربما لمحهما أحد من الأدوار العلوية ..
أزدرد ريقه .. و جلس على حافة سريره في غرفته الصغيرة و مكان القُبلة يصيب خده بخدر يلسعه كوقع السياط ..
يوما عن يوم تزداد الفتاة جرأة ..
يرن هاتفه بعد منتصف الليل .. فيهب مذعورا ظنا بأنهم يريدون منه الذهاب إلى مكان ما .. إلا أنه يفاجأ بصوتها الذي ينساب و هو يذوب رقة و يتكسر غنجا و دلالا و يتموج لوعة و شغفا :
تحبني زى ما أحبك ..
قال بحزم : أنا بحترمك و بس ..
تقول و كأنها تنوي البكاء : أنت تكذب .. لو أنت صادق مع نفسك خلى عندك الشجاعة و الجرأة و ناظر في عيوني باكر ..
قال مندهشا : ليه ؟
قالت و كأنها تلقنه درسا جديدا : لو بتحبني ما حتقدر تناظر جوة عيوني .. ويش رأيك ؟؟
قال متوجسا : أرجوك أقفلي السماعة .. ممكن أبوك يعرف إنك متصلة بي ..
قالت في تحد سافر : أنا ما يهمني .. أنا بيهمني حبك و بس ..
قال متوسلا : طيب أسألك سؤال : شنو نهاية حبك دة ؟؟ أنا في الأرض و إنت في السما ..
قالت بثقة : إنت بس خليك صريح و صارحني بحبك و خلي الباقي على .. بلاش أرض بلاش سما.
قال و قد بدأ الخوف يدب في قلبه : لازم أعرف إنت ناوية على شنو ..

نقاش يومي يدور في حلقة مفرغة تسوده الرغبة أحيانا و أحيانا يردعه خلقه الذي تربى عليه ..
و تارة يمسك وسواس لعين بتلابيب رغبته يوبخه على جبنه و تردده .. ويهمس له بأن إمض في هذا الطريق المفروش بالورد رغم الشوك النابت على أطرافه ..
و تارة أخرى تجرجره نخوته إلى جادة العقل : يا زول إنت عندك أخوات .. خاف ربك ..

وتعاود الفتاة الكرة تلو الكرة وتضيِّق عليه خناق الحب و العشق و هي في دهشة من متاريس صده وأسوار مقاومته .. و هي التي يتمناها أبناء أعرق الأسر .. و زاد هذا من عنادها وتحديها فراحت سادرة في غى عشقها المستحيل ..
تهديه العطور ..
تختلس قبلة رغما عن تقهقره فزِعا ..
تعتصر يده في عصبية و هي تتظاهر بإغلاق الباب ..
تسبق أخواتها في ركوب السيارة في المقعد الذي خلفه مباشرة لتمد يدها وتسرق لمسة مرتجفة على خده .. فيتأفف فتقرصه على أذنه قائلة : ( يا ######## ) ..
يتصبب عرقا حتى في عز برد هذه المدينة الجاف.
تمادت يوما ..
قالت له بالهاتف : أنا بروح عند صديقتي بجيب شيء و برجع ..
إنتظرها داخل السيارة ..
قالت له : تعال أفتح الباب ..
نظر إليها نظرة ذات مغزى .. فهو يعرف أنه لم يعوّدهن على فتح أو غلق الأبواب لهن .. نظرة تدل على أنه يعرف ما ترمي إليه ..
قال لها محذرا : أعملي حسابك .. ما تعملي أي حركة من حركاتك ديك ..
و ما كاد يفتح الباب حتى فاجأته بأن طوّقتْه بكلتا يديها ..
أحس بوهج لهيب أنفاسها تحرق عنقه ..
حاولت أن تقبله على شفتيه ..
تملص منها و دفعها فإستندتْ على السيارة ..
أفاقت من نزوة جنونها و ثورة شبقها ..
ونظرت إليه قائلة وأنفاسها تتلاحق : أنا وراك والزمن طويل .. ولعلمك .. أنا أي حاجة عاوزاها لازم آخدها ..

ظل طوال الليل أرِقا .. يقلب الأمر على كل جوانبه ..
ثم ماذا ؟؟ لو لاحظ أحد أفراد الأسرة فإنها الكارثة ...
حتى و إن شكاها إلى والديها .. فهل سيصدقونه هو أم سيصدقونها هي إن هي أنكرتْ كل دعاويه ؟؟
أصابه الذعر عندما وصل إلى هذا الإستنتاج ..
ظل ساهرا .. وطيف أسرته هناك يتراقص أمام ناظريه ..
يهتف هاتف بداخله : يا زول ألحق نفسك و روح شوف ليك شغلة تانية قبال البنية تسوي ليك مصيبة.
لكنه مرتاح هنا و قد عرفهم و عرفوه .. بل و يقدرونه و يكرمونه ..
قرر أن يستعمل معها كل أنواع الصد والتحذير والتخويف ..
لا بد أن يردعها تماما .. و يوقف تماديها ..
لكنها فاجأته بنقلة نوعية في جرأتها قبل أن يلملم شتات نفسه ..
فقد قام مذعورا من نومه و هو يجدها مندسة معه في السرير بجانبه بقميص نوم يشف عن كل جسدها
تعلقتْ به متشبثة بعنقه ..
قاومها ..
و لكن كانت تدفعها رغبة جامحة وقودها عشق كالبركان تفور حممه قبل أن يلفظها شواظا من نار يحرق الأخضر و اليابس ..
إنزلق من على السرير .. و هي متشبثة بعنقه .. فإنزلقت معه وإرتميا على الأرض ..
قام و هو يحاول التملص منها .. فطوقته من ظهره وإرتمتْ به على السرير ..
ثم طوقتْ خصره برجليها و أطبقتْ على صدره بيديها وأراحتْ رأسها على ظهره و أنفاسها تعلو على لعناته و تحذيره ..
و عندما عرف أنه ( ولات حين مناص من فورة نزوتها ) .. تحول إلى ذلك الوحش الكامن فيه عند الغضب .. فسحبها من جدائل شعرها الطويلة المنسدلة .. ثم صفعها صفعة طرحتْها أرضا ..
قالت و هي تمسح الدم السائل على أطراف فمها وكلماتها تخرج في حشرجة وينزف ألما : إنت مش بشر .. إنت عديم إحساس ..
تقدم منها مادا يديه ليرفعها من على الأرض .. و قد فاضت نفسه بعشرات الأحاسيس .. شعر بندم على معاملته ..
ضربته على يده بغضب .. و لوتْ شفتيها .. و أشاحت بوجهها عنه ..
جلس بالقرب منها .. أمسك بذقنها الصغيرة و رفع وجهها إليه .. وكفكف دمعها .. و مسح برفق على بقايا الدم على أطراف فمها ..
نظرتْ إليه بإمتنان ، فهمس يائسا :
يآآآآآه .. كم هي جميلة .. ؟
وشجعتْه مزامير حزينة تعزف على وتر اللحظة على أن يدلق عليها كل أسفه القديم و الجديد .. بل كل جبنه و تردده .. و كل نخوته المدلوقة على عتبة رجولته ومشاعره ..
و سبحا سويا في غمامة من حميمية .. وعتاب صامت .. و عفو هامس ..
نسي تماما أين هو .. و من هو .... ومن هي .
تقوقع في صدفة ندمه و شرنقة هذا الذي عافه خلقه و خوَّفه من العيب ..

و عندها .. ألْفَيا ( أبوها ) واقفا بالباب .. و خنجر الخيانة الذي ظن أنه كان مغروسا منذ زمن يجعل الدم يغمر عينيه بغضب مزلزل .. و في حسبانه وقتها أنها ( همتْ به ) و أنه ( هم بها ) دون أن يرى برهانا من براهين ربه حينئذ ..
لم يكن أبوها في سماحة و عفو (عزيز مصر) فيقول لها ( إقلعي عن هذا وتوبي(..
و لم يستشر أحداً ليعرف من أين قُدَّ القميص .. من دُبُر أم من قُبُل
بل إنتصر لشرفه المراق في غرفة (سائق) أجنبي.
.... .....

و هناك ..
حيث يكون القلق و الأمل كفرسيْ رهان ..
جربتْ أسرته كل السبل لتعرف مكانه .. بعد أن إنقطعتْ مكالماته و رسائله .... و إنقطع المصروف عنهم ..
ما فتئوا يسألون كل من يعرفون في بلد إغترابه ..
طرقوا أبواب كل الطيور العائدة إن كانت تعرف له طريقا ..
فيأتيهم الرد أحيانا ليطمئن قلب الأسرة المكلومة : ( و الله الزول دة زى ال سمعنا إنو راح أمريكا ولا أستراليا .. غايتو ما متأكد) ..

فيلمع بصيص من أمل .. ليعود لتخبو جذوته عندما يأتيهم رد قاطع:
و الله كنا بنشوفو في السوق .. لكن طولنا مما شفناه .. وما قال لينا إنو مهاجر لبلد تانية ..

تعبتْ الأم .. و مرض الأب مرة أخرى ..
و جرفت الحياة البنات في تيارها مع أزواجهن ..
و سكتت الأم عن السؤال المباح ..
و سكن الحزن الأبدي في مقلتيها و بين حنايا قلبها المكلوم .. تواسي نفسها برفقة زوجها المريض الذي تقرأ في عينية تساؤلا لا ينتهي ..

Post: #67
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-18-2014, 07:35 PM
Parent: #66

نواصل تقليب صفحات الملف

Post: #68
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: نجم الدين سعدابى
Date: 05-18-2014, 08:37 PM
Parent: #67

أخى أبو جهينة قلب كل الصفحات
فإننا حتما لن نرتوى من زمزم كتابتك الممتعة
حقيقة إننى من المتابعين لكتاباتك كلها منذ أكثر من ثلاثة أعوام
أتصفح مكتبتك بإستمرار حيث أننى أجد فيها ما يروم فؤادى

المهم على قول تبارك
واصل

ولك ثلاثة فدادين من الود

Post: #69
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-19-2014, 10:27 AM
Parent: #68

الأخ نجمد الدين سعدابي

تحية وسلام
أسعدني مرورك وتعليقك
لك كل الشكر على متابعة هذه الحصيلة التي ترقد بشكل أو آخر في قاع ذاكرة كل الطيور المهاجرة ( رد الله غربة الجميع بخير وسلامة وعافية )

دمتم

نواصل

Post: #70
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: أبوالزفت
Date: 05-19-2014, 11:29 AM
Parent: #69


حزمتين ونص
امتلاء منها صهريج الذكريات
بحلوها ومرها وقليلها حلو
( رد الله غربة الجميع بخير وسلامة وعافية ) كما اسلفت يا ابو جهينة

Post: #71
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: نصر الدين عثمان
Date: 05-19-2014, 12:59 PM
Parent: #70

Quote: و عندها .. ألْفَيا ( أبوها ) واقفا بالباب .. و خنجر الخيانة الذي ظن أنه كان مغروسا منذ زمن يجعل الدم يغمر عينيه بغضب مزلزل .. و في حسبانه وقتها أنها ( همتْ به ) و أنه ( هم بها ) دون أن يرى برهانا من براهين ربه حينئذ ..
لم يكن أبوها في سماحة و عفو (عزيز مصر) فيقول لها ( إقلعي عن هذا وتوبي(..
و لم يستشر أحداً ليعرف من أين قُدَّ القميص .. من دُبُر أم من قُبُل
بل إنتصر لشرفه المراق في غرفة (سائق) أجنبي.


بدأت قراءة تلك الحكاية.. فوجدتني متوجساً من هذا المصير الفاجع الذي ينتظر هذا الفتى (المعيون).!؟

قال تعالي:

Quote: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [4] قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [5]


ثم قال:
Quote: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [33]

صدق الله العظيم
____________
تسلم أبو جهينة

Post: #72
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-19-2014, 05:55 PM
Parent: #70

معقولة
ابو الزفت
بركة ال شفنا اسمك بعد غيبة طويلة
تحايا سامقات لك وعلك بخير
مرورك هنا بنكهة أيامنا الاولي في هذا الحوش
دمتم أبدا
لا زال الملف مترعا
نواصل

Post: #73
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-21-2014, 10:48 AM
Parent: #72

السنة الثانية من غياب زوجها في عوالم الإغتراب دونما أي أخبار عنه وعن مكان تواجده :
***
تمايل فتيل الشمعة راقصا بفعل نسمة مرت متباطئة وكأنها تعرف أن الجسد المُسْجَى على السرير الخشبي المتهالك يحتاج إلى هواء ينعشه.
ظلت الأم تعدل من جلستها بين الفينة والأخرى على الأرض مفترشة ( حصيرة ) مهترءة وفي يدها ( منشّة ) تصطاد بها هواءا شحيحا في الغرفة الطينية ذات النوافذ الضيقة.
بينما يدها الأخرى تمررها على جبين الصبي، فيلسعها فيح الحمى.
أنين فلذتها يأتيها في حشرجة متقطعة .
جسده واهٍ والبطن خاوية، فلا شيء يسد الرمق.
تمتمت : أواه أيها الحبيب، فديتك روحي، ما بيدي حيلة.
فبالكاد سيأكل وجبته الثانية ( فول حاف ).
روشتة الدواء لم تستطع أن تأتي بها كاملة ، أكتفت بدواء واحد ( على قدر ما تملك من ملاليم ).
باعت آخر ( أساورها ) المتبقية وذهبت بثمنها للطبيب وعادت بدواء واحد.
فاجأتها عدة أسئلة : ماذا لو أستمر يرتعش هكذا ؟
من سيقرضها؟ فقد اقترضت من كل الجيران.
وماذا سيأكل غدا؟ وعشرات الأسئلة تطن في أذنها، تتجاهلها وتعصر قطعة القماش المبللة وتضعها على جبين الصبي.
نزلت دمعة حارة بللتْ خدها المتقرح.
تمتمتْ : كيف كان سيكون الحال لو لم يكن هذا البيت المتهالك ملكا لزوجها؟
تقف أسئلة حائرة بلا إجابات في حلقها : أين أنت يا ترى؟ هل أنت حي نرجو عودتك ونحتفظ بباقي كرامتنا التي تمنعنا من سؤال الناس؟ أم ميت أنت فنبكيك ونعلن تسوّلنا وتطفلنا على موائد الكرام واللئام؟
ثلاث سنوات مضت منذ أن أخذ نصف ما تملكه من ذهب وسافر لأداء العمرة ولم يعد. كل الذين من حولها، لا يملكون سوى مواساتها بكلمات الشفقة وزيارتها من حين لآخر ومساعدات لا تقيم أودا.
تصاعد الأنين من صدر الصبي .
وتكوّمتْ أبنتها على الأرض بجانبها، تتلاعب بضفيرتها المتسخة.
بكت الطفلة طويلا لأن حذاءها المقطوع لن تستطيع أن تنتعله في المدرسة بعد اليوم.
غير بعيد وقف ( ال ك ل ب ) الهزيل كعادته يتثاءب بعد أن تعب من انتظار ما يسد رمقه هو الآخر، ثم حشر ذيله بين فخذيه في كسلٍ وتراخٍ .وأغمض عينيه متناوما.
تململ الصبي، فحادثته أمه، لكنه كان يهذي.
التقطت منه بضع كلمات فخنقتها عبرة، فدفنت رأسها في طرف ثوبها المتسخ المعبق برائحة دخان المطبخ ، فأهتز جسدها و ( سرير ) الصبي .
أزداد الصبي هذيانا، أرتعش وأنتفض، ثم تشنج.
هبتْ صارخة تضمه إلى صدرها، فتقيأ عليها.
أفاقت البنت على ولولة الأم، فتشبثتْ بأطراف ثوب أمها خائفة مذعورة.
جفل ( ال ك ل ب ) وهرول خارجا.
حملته بين يديها وانطلقتْ تدق على أبواب جيرانها.
لم تخَف من ظلام الليل الحالك، فتنقلت بين كل الأبواب تطرقها.
تشنج الصبي، ثم تقوس جسده وتباعدت رأسه وقدماه عن حضن أمه .
نبحت كلاب الحي ، وهي لا تسمع غير نبضات قلبها وأنين فلذتها.
تجمع الرهط من أهل الحي، ولكن بلا حول لهم ولا قوة.
تبادلوا حمله من يد لأخرى، والأم تلطم و تئن وجعا وفزعا.
ثم هدأ الولد، حسِبَته قد فارق الحياة.
تصبب العرق البارد من على جبينه الصغير ونزل منحدرا على وجنتيه الباهتتين.
حملته راجعة لبيتها لتسهر معه ومع مرضه.
ذهبت مبكرة لمتجر الحي الوحيد، حدجها التاجر بنظرة فهمتْ مغزاها.
توسلت إليه أن يقرضها بعض المال.
قال لها وهو يخبط طاولة المتجر : هو أنا فاتح المحل دة سبيل ؟ ديونك أكتر من تمن بيتكم.
ظلت تتوسل وهو يسد أمامها كل أبواب الأمل.
جاءت أبنتها مهرولة تطلب مصروف يومها.
تجاهلتْها الأم.
رجعت خائبة، ونظرات الابن الزائغة تدعوها لمعاودة الكرة مع التاجر.
استوقفتْ أستاذ مدرسة القرية تسأله إن كان بإمكانها بيع البيت في غياب الزوج.
أكد لها استحالة الأمر.
حتى مجرد الرهن لا يمكن.
فماذا ترهن وماذا تبيع ؟
هالتْها إجابة محتملة فصرخت في صوت مكتوم : الشرف؟
ثم أردفتْ : الموت أهون يا بنت الرجال.
مسحتْ دمعة قهر بطرف ثوبها، ورفعتْ رأسها بشموخ مهرولة لصغيرها.
بدأتْ الحمى تدب من جديد في جسده المتهالك.
وعيون الصبي تغور في المحجرين.
نظر إليها في توسل ورجاء .
زادتها نظراته وجعا على وجع.
ناداها بصوت خافت، وأمسك بيدها بقوة لا تدري من أين أتى بها.
فاجأها صاحب المحل واقفا على عتبة الباب دون استئذان.
تجاهلته وهي ترنو إلى أبنها فزِعة.
أزداد ضغط يد أبنها على يدها.
نظر الرجل إليها نظرة أخافتها، لكنها رمقته متحفزة، فوقف مكانه مترددا .
انزلقت يد الصبي إلى جنبه وارتسمت على محياه بسمة هادئة.
لمستْ جبينه فألفتْه باردا كالثلج، رفعته بين يديها، وحدقت في وجهه،
لم تعد أنفاسه تحرق عنقها.
خمدت حركته تماما وتراخى جسده النحيل.
أنسحب الرجل كما جاء.
ضمت وليدها إليها، دونما عويل.
لثمتْ جبينه وأبقتْ شفتيها على خده و كأنها تنفث فيه الروح.
ابتلعت حزنها والجسد البارد يغوص بين حناياها.

Post: #74
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: نصر الدين عثمان
Date: 05-21-2014, 11:14 AM
Parent: #73

Quote: نظر الرجل إليها نظرة أخافتها، لكنها رمقته متحفزة، فوقف مكانه مترددا.
انزلقت يد الصبي إلى جنبه وارتسمت على محياه بسمة هادئة.
لمستْ جبينه فألفتْه باردا كالثلج، رفعته بين يديها، وحدقت في وجهه،
لم تعد أنفاسه تحرق عنقها.

يا لها من صورة................
(و كنّا عِظاماً فصِرنا عِظاماً
و كنّا نَقوتُ فها نحنُ قوتُ)
قاتل الله الفقـــــر....

Post: #75
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-22-2014, 09:29 PM
Parent: #74

تحياتي نصر
ولك الشكر علي المتابعة
نواصل تقليب الملف

Post: #76
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-22-2014, 09:33 PM
Parent: #74

تحياتي نصر
ولك الشكر علي المتابعة
نواصل تقليب الملف

Post: #77
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-23-2014, 09:37 PM
Parent: #76

القاهرة ..ستينيات القرن المنصرم
منحه الله وسامة في محياه و مكرا في عقله ، رضع هاتين الصفتين من فهلوجية مقاهي السيدة زينب و المطرية والفيشاوي ..
قصد ضمن ما قصد في تاريخه الحافل ، ( معلمة ) من المعلمات اللائي يملكن قهوة كبيرة وسط القاهرة..
تجلس متربعة على كرسي ماكن .. تدخن ( شيشة ) محشوة بالمعسل ماركة ( زغلول ) ..
تعطي أوامرها لصبيانها و كمية من المصوغات الذهبية لها وقع الصاجات في أيدي الراقصات في ملاهي شارع محمد علي و الهرم ..
تملقها زولنا .. تملقا مدروساً بحنكة و دهاء شديدين
يجلس مبتسما في ركن قصي .. و هو الذي يمتاز بأسنان أمامية كبيرة و ناصعة البياض ..
ثم يطلق إبتسامته التي تشع من على البعد تجاهها .. فتلمع كالبرق الخاطف من بين أسنانه ناصعة البياض و بشرته الشديدة السمار .. ( بورتريه أخّاذ ) ...
و يرمش بعينين بريئتين واسعتين ..
تسأل صاحبة القهوة صبيانها : ( هو مين سمارة دة اللي عامل لي فيها كازانوفا يا واد ؟ ) ..
أتاها بكل أدب ..
مطأطيء الرأس .. كسير النظرات ..
و نفث فيها مكره كما أفعى مجلجلة..
أملس كالثعبان ...
دلق عليها كل ما في جعبته من دهاء ..
صب عليها تودده ..
أحاطها بثوب التزلف ..
و هي مبهورة بهذه الوجاهة السمراء ..
( يا سمارة إنت بتجيب الكلام دة منين ؟ أنا كنت فاكرة البرابرة ما بيعرفوش الكلام اللي زى العسل دة ) ..
و صار زولنا يتقرب و يزداد كل يوما قربا ..
أفردتْ له كرسيا بجانبها ..
- ( هات حلبة حصا يا مقصوف الرقبة لسمارة ) ..
و يشرب زولنا هنيئا مريئا ..
و تنهال أوامر المعلمة لصبيانها ..
- كركدي .. يا أبن المعفنة لسمارة
فيقرطع زولنا هنيئا مريئا و يكرّع في وجه الصبيان المقهورين المغيوظين ..
- مغات .. يا أهبل هنا لسمارة
فيشرب بربرينا و يزداد كل يوم نضارة ...
- قهوة .. يا مدهْول لسمارة
- ليمونادة .. يا مفعوص لسمارة
و صبيان المعلمة يرمقونه بغضب و حقد ..
و تطورت علاقة زولنا بالمعلمة ..
فإنقلب الإستلطاف إلى إعجاب ..
ثم ( تدهورتْ ) الحالة إلى حب ..
ثم إلى عشق ..
ثم إلى ريدة عديل كدة ..
فقالت له : إسمع يا سمارة .. أنا و الحمد لله ربنا فاتحها علي و الحالة تمام .. و عندي شقة كبيرة فوق القهوة مفروشة من مجاميعو .. و زوجي المعلم مات و ما خلفتش يعني ربنا ما أرادش.. و مافيش راجل ملا على حياتي زيك .. إيه رأيك ... ؟
لم يضيع زولنا الفرصة .. فهي التي إنتظرها طوال هذه المدة .. متربصا ..
قال : بس أنا خايف الناس يقولوا داخل على طمع
قالت و هي تخبط على صدرها الممتليء ذهبا و شحما : حد يستجري يقول كدة .. أنا أقطع لسانو من لغاليغو ..
وافق بثقل مصطنع .. و في دواخله تعربد فرحة كبيرة .. فقد إقترب من خطته التي رسمها ..
لم يدفع قرشا أحمرا ..
قامت المعلمة بدفع كل التكاليف ..
دخل بمجهوده الشخصي ..
فهو شاب في عنفوان الشباب و هي تعدت الأربعين .. بها مسحة من الجمال لا تخطؤها العين ..
يأتيه الأكل و هو يرتدي ( البيجاما المخططة ) ..
من الحمام إلى غرفة النوم إلى السفرة و بالعكس ..
يحتسي البيرة الباردة صيفا ..
و الكونياك شتاءا ..
يشخط و ينهر في صبيان المعلمة بسبب و بدون سبب : يا أولاد بمبة يا أولاد الذين .. وين المطلوب ..
تذوق الأفيون و الحشيش ..
نامت المعلمة في عسل سمارة ..
قام بتخديرها بكلامه عن الخلفة : يا ريت يا معلمة ربنا يكرمنا بس بولد واحد ..
فكبر في عينيها ..
يلبس بنطلونا و قميصا فتضع عليه ( عباءة ) من الجوخ الأصلي كان لزوجها المرحوم .. و يحمل عصاه المطعمة بالصدف و الفضة .. و يجلس على القهوة وسط حسد الجالسين و المارين ..
كان يخشى أن يأتي يوم تنقلب عليه المعلمة قبل أن ينفذ ما قرر فعله.
لذا كان يتحاشى مناكفتها أو حتى الجأر بالشكوى مهما كان الأمر.
إستمرأتْ فحولته و تمادتْ في حشوه بكل ما لذ و طاب ..
فتكوَّر خداه و لمعتا و إزدادت سمرته لمعاناً
و برزت كرشه .. و غلُظتْ رقبته
حمام بالفريك
صواني اللحم بالفرن ...
كباب
طواجن السمك
تمرمغ في رمال الأسكندرية و رأس البر
قالت له يوماً و هي تلْقمه حمامة محشوة بالأرز : أوعى يوم تفكر تسيبني .. أنا أقطعك و أرميك في البدرون زي ريا و سكينة ما كانوا بيعملوا ...
ثم واصلتْ : إنت فاهم يا سمورتي
قالتها و هي تخبطه بيدها على صدره
لأول مرة يرتعد خوفا قربها ..
فلم ينم ليلتها

ثم نضجتْ الفكرة التي إختمرت طويلا في رأسه ..
خطط .. و حسب حساب كل شيء ..
و في غمرة زحمة القهوة أول الشهر .. حيث الزبائن متكدسون داخل و خارج القهوة ..
ربط زولنا عدة ملايات مع بعضها البعض ..
ثم ربط طرف الملاءات بالسرير الضخم الذي يتوسط الغرفة ..
ثم إنزلق من الشباك و هو يحمل كنزا ثمينا من مدخرات المعلمة ..
و عندما وطئتْ قدماه الأرض .. سمع صوت المعلمة : و حياة روح أمك يا بربري .. دة أنا حأخلي يومك كحل ...
و رأى معها إثنين من الصعايدة و كل واحد فيهم في حجم شجرة الجميز و شنب الواحد زى ( كليقة البرسيم ) ..
كان هذا آخر شيء يتذكره قبل أن يجده بعض أهله مرميا بالقرب برميل الزبالة عند طرف الشارع ..
***
أخونا الآن يعيش شبه متصوف في الحاج يوسف ..
أمازحه أحيانا :
بالله ما إشتقت للحلبة حصا ؟
فيبتسم إبتسامة مريرة .. يتحسس آثار كدمة قديمة خلَّفتْها أحداث تلك الليلة ...

Post: #78
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-25-2014, 11:17 AM
Parent: #77

في الغربة ،، تبدو لك لأول وهلة كل المشاعر تجاه الآخرين و كأنها شيء محدود الصلاحية تود أن تستهلكه قبل فوات الأوان.
تخاف من التوغل في مسام الأحاسيس فتكتفي بالمشي على أطراف جداولها خوف الانزلاق .
تمد يديك و تغترف لتنهل المتعة، فتبلل شفتيك دون أن ترتوي.
تغمر رجليك بالماء المنهمر في عتمور حياتك الماضية ، و لكن تخاف أن تسبح و تتوغل في أحشاء هذا البحر المفاجئ. تتحسس مشاعرك بأطراف أصابعك ،، تخشى أن ترتاح يداك على كتفها فتتوسدها و تنام.
خرجتُ بهذه القناعة منذ أول وهلة في غربتي ، و لازمتني طوال أيام التسكع في دهاليز الغربة ، المضيئة منها و المُعْتِمة.
( مدينة بطسبيرج ،،، ولاية بنسلفانيا- أمريكا ) ،، بهرتني بأنهارها الخمس ،، و أحسست في جوها الحار بأنني لم أبتعد كثيرا، و كأنني لا أزال في كنف النيل و روافده.
اعتدت ارتياد ذلك المقهى الذي يعج بالأفارقة الأمريكان .
تغيرتْ بشرة بعض الأفارقة هناك ،، اتخذتْ لونا خمريا خلابا ،، زاد من حلاوته الشعر الأكرت المتموج.
أحببت اللكنة التي يتكلمون بها اللغة الإنجليزية ، فهي ممطوطة ومختصرة وقوية النبرات.
يعرفونك ،، فتمتد أواصر الصداقة حتى بيوتهم و أسرهم.
الفتاة ذات العشرين ربيعا كانت تداوم على لبس بنطال الجينز الذي يتشبث بتفاصيلها، معانقا جسدها كنبات اللبلاب ،،، يلتف به بحميمية و كأنه يخشى عليه من نظرات هذا القادم من صحراء أفريقيا الذي لا ينفك يسترق النظر وهو يرشف فنجال قهوته بتأنٍ ورويّة حتى يتاح له الزمن الكافي لملء ناظريه من هذا القوام الملفوف كثمرة باباي ممتلئة رحيقا وعصارة تعلن عن نضوج مبكر.
لا أدري لماذا ذكّرني وجهها بوجه منقوش على إحدى العملات الأوروبية القديمة.
عنق ممدود طويلا يسخر من ( طويلة مهوى القرط ) ،، فالأقراط عندها يمكنها أن تتدلى و تتدلى ...
و شفاه أفريقية غليظة كصدفة انفرجت عن أكوام من اللؤلؤ المكنون.
تنظر إليها دون أن تمل أو تكل.
تبتسم ،، فترتفع حواف وجنتيها إلى أعلى لتغطي جزءا من أتساع عينيها ، فيزيدها هذا سحرا على سحر.
عندما سمعتها أول مرة تضحك ،، أطلْت النظر إليها مأخوذا ،، خيل إلى أن أجراس كنيسة تقرع مجلجلة صباح يوم أحد ،، فمازحني النادل العجوز قائلا وهو يغمز بعينه :
ألا تود أن تعلقها تعويذة في مقدمة سيارتك. ؟
معجبوها كثيرون ،، فخفت الاقتراب منها ،، فأنا لا أدري من يكون هذا أو ذاك.
اكتفيت لفترة طويلة أن أنظر إلى هذه التحفة الإلهية من على البعد.
أومئ برأسي فقط ،، فترد تحيتي بنفس الطريقة ،، وتبتسم تلك الابتسامة التي تجعل من قهوتي سائلا لا طعم له و لا رائحة ،، فأعاود الطلب مرة أخرى والعجوز يرمقني بمكر و هو ينصحني ضاحكا بشرب قهوتي قبل أن تفاجئني الفتاة بابتسامتها.
كان يلاحظ متابعتي لها.
فاجأتني يوما و هي تقف منحنية على طاولتي :
ألا تدعوني إلى طاولتك ؟
أحسست أن طاولتي امتدت لتسع المكان كله.
عطر رقيق يضوع منها ،، عطر يذكرك بأنك أبن أمك الأرض ،،،
ملأتُ رئتي منها.
قالت و هي تنظر إلى و كأنها تعرف مدى تأثير سحرها علي : قل شيئا يا رجل.
قلت : ضاع مني الكلام.
و أطلقت أجراسها ترن وتملأ المكان فرحا وصليلا ، و أنا أغوص في مقعدي متشبثا ببعض الثبات الكاذب .
جلستْ و هي تمضغ علكة تنفخها هواءا فأحس بأن أنفاس رئتي قد اختَزَنَتْها تلك العلكة ،،
تعيد العلكة إلى فمها فأحس بطعم النعناع في جوفي.
مجرد إحساس قوي و مفعم أحْدثه وجودها الصاخب أمامي.


قالت في غنج : من أين أنت ؟
قلت مرتبكا : أنا من تراب أرضك البكر ،، من أفريقيا.
قالت بثقة : نعم ،، عرفت هذا من أول وهلة .
قلت مزهوا : هل كنت تلاحظين وجودي كل يوم ؟
قالت : نعم
قلت : لم ؟
قالت متلعثمة : لا أدري ،، شيء ما شدني إليك ،، ربما نفس الدماء التي تجري في عروقنا ،، و ربما شيء آخر...... نفس أسبابك ربما.
و ابتسمت تلك الابتسامة التي تجهض كل محاولات تماسكي وتصيبه بالنزف الفاضح.
قلت : هلا حدثتيني عن هذا الشيء الآخر ؟
قالت : لا تكن ملحاحا ،هذه أول مرة أحادثك فيها ،أنا نفسي لا أعرف كُنه السبب، أحسه و لا أعرفه.
قلت مترددا : هل لديك صديق ؟
قالت و هي ترنو بعيدا :أصدقائي كثيرون ،، و لكن ليس لي صديق حميم بالمعنى المفهوم.
قلت في لهفة : لم ؟ فأنت في غاية الجمال.
قالت بنبرة يشوبها القلق : أنا أفرِّق بين من يريدني لجمالي ،، و من يغوص في روحي. أكثر الرجال الآن يستعجلون دعوة الفتاة لإشباع الغريزة قبل أن يعرفوا من هي و كيف تفكر. هذا ما اعتقده و أؤمن به.
قلت متشبثا ببارقة : معنى هذا أنه لم يفهمك أحد إلى الآن؟
قالت مبتسمة : ليس بهذا الشكل. و لكن أريد شخصا يحاورني ويتآلف مع ما أفكر به قبل أن تنزلق عيناه إلى جسدي.أريد رجلا يذوِّب عقله في عقلي قبل أن تلتهمني نظراته بنهم. أتفهم ما أعنيه ؟
قلت في نشوة المنتصر : بالطبع ،، بالطبع أفهم.
أحسست بشيء من الخجل ،، فكأنها أصابت هدفا بسهم صراحتها.
سبابتها تدور على أطراف الكأس بشكل دائري و هي تنظر إلي نظرات ذات مغزى،، كأنها تفصح عن حيرتها أمام شخص لا يمِت إلى عالمها.
قلت : أريد أن أتجول في المدينة ،، أيمكنك أن ترافقينني ؟
أومأتْ برأسها موافقة.

طيلة مدة مرافقتها لي ،، كنت أسألها نفس السؤال : ما هو الشيء الذي شدك إليَ ؟
تماطل أحيانا ،، وأحيانا تغضب ،، أرضيها بدعوة لمشاهدة فيلم ،، أو عشاء في مطعم فاخر.
ذهبنا لزيارة والديها في مصبغة ملابس يملكانها.
قابلوني بتوجس ،، و بترحاب حذر.
ثم انفردا بها في غرفة داخلية ،، سمعت بعض الحديث ،، كانا يسألانها عن مدى علاقتها بي ،، و ماذا تنوي أن تفعل . ارتفعت أصواتهم ثم هدأتْ.
في طريق العودة ،، ظللتُ صامتا.
قالت : ما بك ؟
قلت : لا شيء
قالت : هل سمعت حديثنا ؟
قلت : بعضا منه.
قالت ضاحكة : يحسب والداي بأنني سأهرب معك إلى بلدك.
قلت : و من أين أتتهما هذه الفكرة ؟
قالت : من صديق غيور خاصمْته قبل أن أخرج معك.
قلت : يا لها من طريقة للتخلص مني. ما رأيك أن تأتي معي لبلدي بالفعل؟
قالت بسرعة : لم لا تبق أنت معي ،، فعلى الأقل أنت هنا الآن ؟
أفحمتني بطلبها.
في ركن منزوٍ في ملهى ليلي ،،، حاولتْ أن تجعلني أنسى محادثتها مع والديها.
ملأتْ صحو الجو سحب داكنة كسحب خريف أفريقيا ، كدخان أزرق يعشعش في الرأس فيصيب الخدر أطراف الجسم ،،
وزمجر رعد في الدواخل معربدا كغريزة أُطلقتْ من عقالها فانفلتتْ تعدو كثور في مستودع الخزف.
تساقطت قطرات من المطر بصوت مكتوم ينقر على زجاج النافذة مخلِّفةً قطرات تخط خطوطا متعرجة ، ووميض البرق يشق جوف الليل في التحام وتجانس بين النار والماء ، بين الرغبة الجامحة وانكسارها ،، و للأمطار في النفوس فعل السحر ،، و تكسو الأجساد بنداوة قطرات الندى المنزلقة على أوراق الشجر ذات صباح بهي في غابة صنوبرية.


رغم صغر سنها ،، فقد أدهشتني بغزارة معلوماتها.
تتحدث عن مارتن لوثر كنج و تتلو من ذاكرتها مقتطفات من أقواله.
تتحدث عن تاريخ الجاز الأمريكي بتفاصيل دقيقة ،،
حدثتني عن سامي ديفس ، و عن جيمي براون ،، إنتهاءا بالروك و رقصة الفالس و بحيرة البجع ،، و الحرب الأهلية في أمريكا ، و عن الحرب الباردة،
وعن نضال السود في أمريكا و الذي تذكر كل مجرياته باليوم و التاريخ وأسماء الأشخاص.
تتحدث عن كل شيء في كل شيء ،، موسوعة متحركة.
بهرتني تماما.، كنت أظنها ستكون فتاة معجبة بجمالها ،، و تتكئ على هذا الإعجاب الذي يغمرها به كل من حولها.
رغم أنني لم أستطع مجاراتها في كل شيء ،، إلا أنها كانت سعيدة بمحاورتي لها. كانت مستغربة بمعرفتي عن مارتن لوثر و عن نضال السود و بمعلوماتي المتواضعة عن الموسيقى و تاريخ الأوبرا.
لا تؤمن بالديمقراطيين و لا بالجمهوريين ،، تعتقد جازمة أن الحزبين في نفاق مستمر لليهود و لهث وراء المصالح الخاصة. تحلم بحزب يضم المسحوقين من الشعوب الأمريكية يقوده أحد أبناء جلدتها.
طيلة الأيام التالية ،، و بشكل مفاجئ ،، كانت منطوية على نفسها قليلا ،، لم تعد تلك الفتاة المنطلقة على سجيتها. كسا محياها حزن عميق.
ذهبت كعادتي للقهوة لأقابلها ،، ناولني العجوز مظروفا أنيقا معطرا ،، نظرت إليه ، كان منها ، فتحته بيد مرتعشة ،، و قرأت :
***
أعذرني لأنني سافرت غربا إلى أوهايو دون أن أودعك.
سأكون عند عمتي لمتابعة دراستي التي انقطعت.
يقولون أن شمس أفريقيا ساطعة و محرقة ،، و أن غاباتها رائعة و دائمة الاخضرار ،، و أن لها سحرا أخاذا يجذب المرء إليه ليعود و يزورها مرات ومرات.و شاهدتُ كل هذا بعد أن رأيتك.... أحسست به تماما . رأيت أفريقيا بعيونك. لفحتني شمسها عندما وضعت يدي بين يديك.
طوال الأيام الفائتة كنت أصارع مشاعر شتى لا أستطيع أن أذكرها لك هنا.
و لكنني رأيت كيف أنه يمكنك أن تعيش هنا معي سعيدا .
أنا أيضا يمكنني أن أعيش معك في أي ركن من أركان الدنيا دون أي مبالغة.
و لكنك تدري أن طموحي في مواصلة الدراسة لا يحده حد.
و لي تطلعات كبيرة ،، تعرف بعضها جيدا.
أرجوك ،،، أبق معي و لا تعد إلى هناك ،، على الأقل الآن ،، أرجوك ..
لك حبي.. و قبلاتي..

***

رفعت نظري ،، العجوز يرمقني بتحفز ،، عرفت أنها قد حدثته بالأمر كله فقد كانت تثق به و تحبه كوالدها تماما،، نظراته كانت تقول أنه ينتظر إجابتي.
وضعت الخطاب في جيبي .
قرأته عدة مرات حتى كدت أن أحفظه عن ظهر قلب.
لأيام طويلة أخرج الخطاب من جيبي و أقرؤه ثم أعيده.
عدت للقهوة.
قلت للعجوز : لا أريد أن أقول لك وداعا ،، فهي كلمة صعبة على القلب.
قال : أهذا وداع أخير ؟
قلت : أخشى أن يكون كذلك.
قال : هي أيضا لن تأتي ،، أنا أعرفها تماما ،سأفتقدكما حقا. هل ستذهب إليها ؟
قلت : ربما. لا أدري تماما.
أمسك بكلتا يدي طويلا ، ثم قال و هو يربت على كتفي :
كنت في شبابي ،، أتبع صوت عقلي دائما في كل أموري ،، و لم أندم . المرة الوحيدة التي سمعت فيها صوت قلبي ،، حدث شرخ لم أستطع أن أجبره رغم كل هذه السنوات. أتمنى لك حظا طيبا يا بني.
ثم أنسحب إلى الداخل .
نظرت إلى مقعدها الخالي ،، موسيقى كلاسيكية هادئة تغمر المحل ،، ضحكاتها ترن في أذني كأنها تنطلق من كل مكان في المقهى كروح معذبة تهيم بين المقاعد و على الطاولات ،، وعطرها كأنه لا يزال ملء الرئتين.

Post: #79
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-25-2014, 10:13 PM
Parent: #78

يقولون ان الغني والجاه والثروة في الغربة عبارة عن وطن، وان الفقر في الوطن غربة،
هذه المقولة بها شيء من الصحة، وبها ما بها من مجافاة الحقيقة
بمعني ان لكل قاعدة شواذ

نواصل

Post: #80
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-26-2014, 11:53 AM
Parent: #79

أعجبتني و آلمتني في نفس الوقت قصة المغترب الذي ظل يرسل كل ما يدخره من مال إلى أحد أقربائه بالسودان لبناء منزله ....
و كلما سأله عن سير عملية البناء و مستوى ارتفاع السور عن الأرض ... يقول له قريبه : و الله الطوب بقى غالي عشان كدة ما اشتريناه.
و أحيانا يأتي الرد : السيخ معدوم من السوق.
و أحيانا : ما لاقين بنائين.
و لما وصل المغترب نهاية حد الصبر سأل قريبه :
البنيان بالضبط إرتفاعو وصل كم من الأرض ؟
فقال قريبه : حوالى مترين أو مترين و نص.
فقال المغترب و هو يبحث عن منفذ للخلاص : خلاص .. أسْقِف على كدة ..
حكاوي المغتربين مع البنيان و السماسرة والأراضي العشوائية طويلة و ذات شجون وأشجان.
والإعتماد على الأهل والأصدقاء في البناء أو إدارة أي إستثمار قد تملأ كتبا ..
في الثمانينات من القرن المنصرم ..
اشترى عدد من الأشقاء المغتربين أرضا بركن من أركان العاصمة المثلثة في حى جديد عن طريق أحد السماسرة ..
والسمسار هذا عرفوا طريقه عن طريق أحد الأقارب و الذي عرف طريق هذا السمسار عن طريق زميل له في العمل ( سلسلة طويلة تجعل الإمساك بطرف الخيط عند حدوث أي مشكلة كالبحث عن إبرة في كومة من القش أو كلعبة السلم والثعبان ).
ثم لظروف كثيرة أجبرتْ الأشقاء على عدم البدء في البناء وتركوا الأرض تدغدغ أحلامهم، فمساحتها ستكفيهم الثلاثة.
ثم كتبوا خطابا لوالدهم بالقرية بأن يذهب ويتفقد الأرض عند ذهابه للخرطوم.
و بالفعل ..
جاء والدهم للخرطوم ... منتفشاً كما الديك الرومي .. فأولاده أصبحوا من ملاك الأرض بالعاصمة المثلثة ...
أخذ الوالد معه أحد الذين يعرفون المنطقة المعنية معرفة جيدة وذهبا إلى حيث تقع الأرض ..
و لكنهما لم يجدا أي أرض فضاء في المنطقة المعنية..
كل الأراضي هنا مبنية والسكان يدخلون ويخرجون والدكاكين في كل ناصية والميادين يلعب فيها الأطفال وأعمدة الكهرباء تقف شامخة ...
و بعد تدقيق وبحث توقفا عند القطعة حسب الرقم المكتوب على عقد البيع الإبتدائي عن طريق المحامي والسمسار .. فوجدا منزلا به شجرة ضخمة تزقزق عليها الطيور .. والبوابة عليها جير أبيض من الجهتين و ترحيب بالحاجة عند مقدمها الميمون من الحجاز ..
الأب دخل في سراديب جديدة عليه ..
نهاية اللهث وراء الشرطة والأراضي والبحث عن السمسار والمحامي .. كانت لا شيء .. رجع خالي الوفاض. و هو يتمتم ( هو نحن شَبَه العاصمة ؟؟؟ )
الشقيق الأكبر يعاني منذئذ من مرض السكر.
وأحدهم رجع للقرية واستقر بها نهائياً وأقسم بألا يذهب للعاصمة المثلثة حتى و إن صارت ( سداسية الشكل ) ..
والأصغر .. قال أنه يتمنى أن يسمح له كفيله بالعمل بالسعودية حتى يموت ويدفن فيها.

Post: #81
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-27-2014, 09:22 AM
Parent: #80


Post: #82
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: جعفر محي الدين
Date: 05-27-2014, 10:06 AM
Parent: #81

شكرا يا ريس أبو جهينة

معايشة حية وتصوير جميل

وكل التضامن مع مظاليم الغربة هنا وهناك
وخصوصا سميحة

Post: #83
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-28-2014, 09:14 PM
Parent: #82

تحياتي أخي جعفر
ومشكور على المرور والتضامن مع الطيور المهاجرة

Post: #84
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-28-2014, 09:17 PM
Parent: #83

حكى لي أحد الزملاء المغتربين و الذي لم تكن أسرته معه في الغربة.
قال أنه عاد في إجازة الصيف و ذهب لأسرته بقريته .
و في تلك الليلة القمرية الجميلة ، حيث تمتلىء ضفاف النفس بالمشاعر التي تدغدغ الكيان بعد غيبة طويلة،
قبع ( عنقريبه ) في الطرف و عنقريب زوجته في الوسط أما إبنه ذي الخمس سنوات فوضعوا عنقريبه في الطرف الآخر وهما واثقان بأن سِنَةٌ من نوم سوف تأخذه في رحلة أحلام تدغدغ ليله.
و الهمبريب يداعب أطراف ( الملاية ) فتخفق بصوت له إيقاع يدعو إلى النوم.
زولنا ، ظل يتونس مع المدام و يتاوق من مرة لأخرى للولد ليتأكد من نومه حتى يتمادى قليلا أكثر من ( الونسة الدقاقة ) ونفسه الأمارة تقف أمام شاشة ونسته.
و لكن في كل مرة يجد أن إبنه و هو مستلقٍ على قفاه يداعب أصابعه مرة و تارة يتحدث إلى شخص مجهول ، و تارة ينظر إلى القمر من خلال فرجة بين أصابعه.
و عندما يئس زولنا من نوم الولد ، إنتهره قائلا : لو ما نمت بكرة ما حأوديك معاى نتفسح بالمركب ، حأخليك و أمشي بدري.
فإنقلب الولد على جنبه الأيمن و خلد إلى سكون أشبه بالنوم.
و عندما تأبط زولنا شرا و ناخ بكلَكْلَهِ كما بعير قطع لتوه رحلة درب الأربعين ،
قال الولد و هو لا يزال ينظر للجهة الأخرى : إنت برضو نوم يا بوى ، بكرة مش قلت حتقوم بدري ؟
فبهت الذي كان قد كشّر عن أنيابه و زمجر زمجرة أسد جريح و قرأ المعوذتين و سبَح في ظلمات النوم و هو كظيم.

Post: #85
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-29-2014, 02:27 PM
Parent: #84

بعض الذين اغتربوا كانت هناك اهداف معينة ينوون تحقيقها
بعد تحقيقها تتوسع طموحاتهم
وتتأرجح هذه الطموحات بين النجاح والفشل او محلك سر
فتطول الغربة وتصير أشبه بالادمان فلا يستطيع المغترب اتخاذ قرار بالعودة نظرا لتشعب المسئوليات
كتعليم الأبناء
او عدم اكتمال بيت او مشروع
او تشعب مسئوليات والتزامات اسرية
او لأسباب سياسية الخ.
نواصل من هذا المنطلق

Post: #86
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-29-2014, 02:32 PM
Parent: #84

مكرر

Post: #87
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 05-31-2014, 08:15 PM
Parent: #86

صالة السفر .. رغم رحابتها .. تبدو في عينيها كثُقْب إبرة ..
كُتَل البشر المتراصة ترتسم على وجوهها عدة إنفعالات ..
وجوم ..
وصمت ...
وهمس ..
وضحِك كالبكاء ..
وإيماءات كاذبة بالإصغاء ..
وعيون تتوه في لا شيء لتعود مرتدة للواقع من جديد ..
وثرثرة تنطلق لترْدُم هُوَة القلق القابع في النفوس ..
وأصابع تتشابك في عصبية وكأنها تُزَوِد بعضها البعض طاقة تستمد منها أسباب الصبر على الفراق الذي هو قاب قوسين أو أدنى ..
عطش الشوق الآتي .. وجوع اللهفة المرتقبة بين لحظة وأخرى تبدو على العيون التي تتلفتْ في جزع مكبوت يرقد على المآقي الحزينة التي سهِرتْ ليلة الأمس لتنهل من القُرْب الذي سينقشع مع جحافل الظلام ..
قالت وهي تتشاغل بربطة عنقه دون أن تجرؤ على النظر إليه : لا أدري كيف سأعيش بدونك في قادم أيامي ؟
قال وفي حلقه غصة : أعرفك قوية ومتماسكة ..
قالت بنبرة تؤكد النفْى : إلا في مثل هذا الموقف الذي لم آلفه من قبل.. فأنا أشعر بأنني هشًة .. أوْهَن من بيت عنكبوت .. وأضعف من جناح عصفور بلله المطر ..
قال بصوت مرتعش : لا تزيدي من أحزاني ..
قالت ودموع تنزلق وتحرق خديها : لا أجرؤ على أن آتيك بالحزن .. فأنت بشارة عمري ..
قال ليطمئنها : لا أخالك تضعفين و بين أضلعك قلب يحمل أسباب قوتنا .. و هو الذي سيشفيك من كل شوقٍ عِضَال ..
قالت دون وعى : فراقك أمر أقبله و لا أقبله و لكنني سأعيشه رغما عني ..
قال : سيمر الوقت سريعا ..
قالت و قد غالبها البكاء : سأقيس الفراق بمَزْوَلة الوقت وهرْولة النبض .. لذا فإن معاناتي مضاعفة ..
قال : ستكونين هنا فيما يخصني من إحساس.. فَيْضُ من الرحمة على وجودي بعيدا ..
قالت من بين حزنها : أنت يا صِنْو الكيان .. لكَ بعضَ ما لديكَ .. لِدَىً .. ( لكَ روحي خالصة نَجِيًة .. فهي بعض مما تملكه ،، أحملها لك عندي أمانة .. )
( و عندما إبتلعه الزحام يتعثر في مشيته ملوحا بيده .. وصوته لا يزال يرن في أذنيها .. بَدَتْ كل الوجوه حولها وكأنها صور مُسْتَنْسَخة منه ،، حتى في مشيته والتفاتته وتلويحة يده ،، فأهتز جسدها نحيبا مكتوما.. وابتعدت يلفها غمامُ شوقٍ مبكِر .. وخياله يتراقص متشحا دمعاتها .. )

Post: #88
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-01-2014, 10:54 AM
Parent: #87

قبلت دعوة أحد الأصدقاء للسفر في الإجازة الصيفية عن طريق جدة ـ بورتسودان ، حيث إشترى صديقي هذا ( باصا ) فاخرا و قرر العودة النهائية للسودان ضمن مشاريع أخرى ( للأسف كتب لها الفشل الذريع ).
كانت الرحلة تضم صاحب الباص و عائلته و ثلاث عوائل أخرى بالإضافة لشخصي و كنت بدون أسرتي التي سبقتني بالطائرة لحضور مناسبة زواج بالحصاحيصا.
إنسابت الرحلة جميلة من الرياض ، وسط حماسة الأطفال ، و حلل الأكل الطازة ، و كل واحدة تتباهى بالأكلة التي من صنعها.
تكهرب الجو بواسطة زوجة ،
عرفتُ من أول الرحلة أنها حتكون شوكة الحوت التي لن تتبلع و لا حتفوت.
فقد نسي زوجها العزيز شنطة مهمة في المنزل بالرياض بها بعض هدايا أهلها.
قالت بلهجة واثقة و آمرة : لازم ترجع تجيب الشنطة.
و حاولنا إقناعها بأننا قطعنا ربع المسافة لجدة ، و يمكن إرسالها في أي وقت آخر بالشحن ، فكانت تخاطب زوجها و كأننا غير موجودين أو أشباح :
إنت ما سامعني ، أرجع جيب الشنطة ، ولا بنرجع كلنا و ما في داعي للسفر.
و المسكين ينظر إلينا مستنجدا بتوسلاتنا لتليين موقف ( أسد الله ال بضرع ).
و هي بالفعل كالأسد وسطنا تضرع ،
و هو كلما هي زمجرتْ ، ( ينخ ) ... إلى أن وافق على الرجوع و اللحاق بنا في جدة لو ربنا هون و سهل له طريقة ذهاب و إياب سريعة من و إلى الرياض.
المهم ، ذهب للرياض و لحق بنا في جدة و الضيق بادٍ على وجهه ، و بالرغم من تعبه ، و بدلا من أن تشكره ، عنفته قائلة :
يعني كان تتصرف و تشتري البلوزات القلت ليك عليها و نسينا ما إشتريناها في السوق.
فقلت لها و أنا ( أتقلقل ) من الغيظ : يعني يخش السوق و نحن ننتظر هنا و الباخرة تفوتنا ؟
و كأنها لم تسمعني ، و واصلت الحديث مع زوجها :
يعني ديل لو كانوا أهلك كنت جريت و جبتهم.
و هو يبتسم إبتسامة لا مغزى لها ، خليط من الإستسلام و الإمتعاض و الإعتياد على تلقي الضربات فوق البردعة.
واصلنا الرحلة ، و أنا نادم على هذه الرفقة التي ( ترفع ضغط الدم و تفقع المرارة ).
وصلنا بورتسودان ، و حمدت الله أنني في الباخرة لم أقابل تلك الحية الرقطاء و ذلك السنجاب المنتوف.
و تحركنا من بورتسودان صوب الخرطوم بعد أن إنتهينا من كل الإجراءات و إشترينا ما نحتاجه ، و تماما عند تلك الطلعة المخيفة وسط جبال الشرق، و الباص يئن و يطقطق من حمولته في ذلك المنعرج الضيق ،
شق الصمت صوت الحيزبون : سجمي أنا نسيت البامبرز كلو.
لم يرد عليها أحد ، فالكل يركز على الطريق و على الهاوية على يميننا.
ثم كررتْ جملتها.
فقلت لها و أنا أقدح شررا من عيني : إستعملي دلاقين ولا توبك لو لزم الأمر ، و بعدين إشتري ليهو في كسلا.
قالت : إنت من الرياض مصاقرني مالك ؟. أنا بتكلم معاهو هو.
ثم وجهتْ كلامها للسنجاب الوديع : إنت بقيت تنسى مالك ؟ بتحب واحدة تانية ولا شنو؟ و الله إستعمل قمصانك الفي الهاندباق.
فنظر إليها بوداعة الطفل الغرير و إبتسم إبتسامة تعني أن لا مانع يا حبي الكبير.
و توالت مواقف رفع ضغط الدم ، و أنا إستغرب مثل عينة هذا الرجل. بعد كل كم كيلو متر ، نجد الزوجة إياها تتفنن في إذلال صاحبنا( ال رافع إيدو لي فوق طول الوقت) ، و مُسَلم أمرو لهذه الزوجة التي لا ترعوي.
كل الأسر تنزل عند كل محطة وقوف ، إلا هي ، تجلس و تصدر الأوامر له ،
حتى الأطفال هو الذي يقوم بتوصيلهم للحمام و عمل اللازم نحوهم.
و هي مستلقية على الكراسي الخلفية تبحلق في نقشة الحنة و تستمتع بموسيقى الأصفر الرنان الذي يملأ تضاريس جسدها من ( غوايش و سلاسل و ختم و حلقان ).
قالت واحدة معنا : أريتو راجل السرور. أهو الراجل ولا بلاش.
قالت الأخرى : بري. دة لو راجلي بطلقو في يوم واحد.
فقلت للأولى : يعني البسوي كدة يا هو الراجل التمام ؟
قالت بعد أن تراجعت عن موقفها قليلا : لا مش كدة مية بالمية ، بس أنا عاجبني فيهو الهدوء.
فقلت لها : هذا هو الهدوء الذي لن يسبق العاصفة أبدا.
فعواصف زوجته تملأ خياشيمه و رئتيه و قصبته الهوائية . هو ميت حى و لا يدري ذلك. كان الله في عونه و عون من كان على شاكلته.
عندما وصلنا الخرطوم بالسلامة ، و بصوت سمعناه كلنا ، قالت الزوجة لا فض فوها:
أنا بمشي أعزي بت خالتي في أبوها ، باخد لي تاكسي من هنا ، إنت روح البيت عند ناس أمي و خد معاك الأولاد و العفش لغاية ما أجيكم.
و دون مناقشة ، بدأ في تنفيذ الأمر بآلية يحسده عليها ( الروبوت ).

Post: #89
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-02-2014, 05:57 PM
Parent: #88

تحياتي وسلامي اباذر ديشاب
مشكور علي المرور وعلي رفد البوست بأصول الاغنية النوبية المشهورة
وعذرا لتأخري الرد فردود الفيس بوك الواحد ما بيلاحظها
دمتم

Post: #90
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-07-2014, 07:58 PM
Parent: #89

بعد أن عاش ( سليم ) أعواما من الرخاء ورغد العيش بغربته يحتضن أسرته.
توقفت فجأة تروس الترف وأرتكزت الحاجة بين جنباته وأخذ الفقر يطرق بابه صباح مساء والعوز يمسك بتلابيه.
اتخذ قراره سريعا بعودة أسرته لحضن الوطن، فمجابدة الحياة بالغربة لا تحتمل وجود أسرة كاملة العدد. .
قاومت زوجته فكرة الرجوع بكل ما أوتيت من حجج ، توسلت إليه ، فهي تعلم بأنه لا يستطيع العيش وحيدا دونها ودون أطفاله.
وعندما اصطدمت توسلاتها بإصرار زوجها (سليم) قامت بالاستعانة بالأجاويد ولكن دون فائدة .
ثم استعانت أخيرا بشقيقتها (حفيظة) والمعروفة بسلاطة اللسان، والتي تعيش معها بنفس الغربة ، والتي وقفت في وجه ( سليم) زوج أختها تناكفه وتحاججه وتارة تكيل له سيلا من الإهانات ، بل واتهمته بأنه ربما ينوي أمرا ويتأبط شرا بقراره هذا، وقالت أنه ربما ينوي الزواج من أخرى في غربته.
كل هذا لم يغير من ما خطط له (سليم) فهو يعرف ويعي تماما أن قراره في صالح الأسرة.
أذعنت زوجة (سليم) نهاية المطاف وعادت مع أطفالها وهي تعاني ألما نفسيا طال جسدها .
شقيقة الزوجة ( حفيظة )، فاجأها زوجها يوما بخبر زواجه من إحدى قريباته يتيمة الأبوين وتعيش في القرية لا حول لها ولا قوة وأنه سيرسل في طلبها لتعيش معهم بالغربة تحت سقف واحد ، فما كان من ( حفيظة ) إلا أن طلبت الطلاق وعادت للوطن بعد أن جعلت زوجها يرى عدة ( نجيمات عز الظهر ) وبعد أن جرّدت البيت من كل ما خف حمله وغلا ثمنه. وتم طلاقها.
بعد معاناة مع المرض لم تدم طويلا ، فارقت زوجة ( سليم ) الحياة بالوطن، تاركة أطفالها لليتم.
بعد أن أنقضت أيام العزاء ، جلس ( سليم ) يفكر في مصير أيتامه دون أم، وهو بعيد عنهم بالغربة.
لم يطل التفكير كثيرا ، وتم تقليب الأمر على نار هادئة كان وقودها العقل والأمر الواقع وأشياء أخرى ، وافقت(حفيظة) شقيقة المرحومة على الزواج من(سليم) لرعاية أطفال شقيقتها بجانب أطفالها من طليقها.
شرط (سليم) الوحيد كان أن تبقى (حفيظة) في السودان مع أطفاله وأطفالها إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. فقبِلت في التو و اللحظة دونما أي نقاش.

Post: #91
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-10-2014, 08:53 PM
Parent: #90

(عند بدايات إستعمال الهاتف الجوال في قرانا بأقصى الشمال، دار هذا الحديث الحميم بين مدثر المغترب وأمه بقريتها بأقصى الشمال ، وسنقوم بكتابة المحادثة بحروف عربية ثم بحروف إنجليزية ، ثم ترجمة المحادثة ) :
***

(1) مدثر الإبن المغترب : يووووو ... مسكاقمي ؟ أيْ مدثري
Yooooo … Maskagmi, Ay Moddassirri

(2) الأم : ( و يبدو عليها أنها غير مصدقة أذنها ) : مدسر ؟ حبيبني ... يويني ... أيلن ويلنتون فيو .. إر تارلقنو خرتوملا
Moddassir? Habebani, Yoayoni, Aylan Weelintoan Fiyo, Ir tarelgeno Khartoomila?

(3) مدثر ( و هو يغالب غصة ) : لا ووو يووو ... أي جديلتون آبنجر
La Woa Yoa, Ay Jeddailtoan Aabanjir

(4)الأم ( و هي غير مصدقة ) : إر مولنا منجكلقنمي
Ir Moalanna Minjikkalginame

(5)مدثر ( تخالط صوته عبْرة ) : أيْ ويرمل .. بس مولنا آقريق ألقي
Ay Weeramel .. Bes Moalinna Aagreeg Algi

(6)الأم ( صوتها يخالطه أمل ) : أيْ أداينقوسينكا تكن أيقا ماكة أدكتم ... شبين تار إرن خرتومقا دوككن
Ay Oddayangoassaini Tokkon Ayga makka Oddikittam … Shabbeen Tar Iron Khartoumga Dowwokkokkann

(7) مدثر : نورق جرداقل .. أي أرقن جديل آقر .. مولنا حسن درديركو ... جمال حبسكو ...عثمان آرتنتودكو .. ملتني منجنا .. تدن فبنجنا؟

Noarrog Joredagil Orgon Jeddail Aagir

(8)الأم ( و قد تداعت أركان آمالها ) : يويني ... ويداتار ديانكا
Yooyonie … Weedar Diyyanikka

(9) مدثر : إكا إسكن لا لا إمو .. بس أبو مَن دينا كدفيكو ... نوقوني خرتومل مروة منجكو .. تر أنقريكو أنسريكو منجا قريكوك فمنقاوجلي يو ؟

Ikka Eskin Lala Immo, Bes Aboan Man Dainna Kiddafeeko >> Noagoonee Khartoumil Marwa Menjikko >> Tar Annengareekko Issireeko Menja Geryikkoyi Famenjawjilo?

(10) الأم ( و هي تبكي ) : نور داري ووو أني ... سنا تسكتلي إكا نمين أيين آقي .. ديوكيقا فكر أنجي ؟؟؟

Noardari Woa Annee … Senatoskottilli Ikka Nammen Ayeen Aagi …. Diyoakkaigal Fakir Konjai?

(11) مدثر : إنا جلي كولنقجو .. مرِس خالصنقجو ... شهرويكة شغلا شهر أوتق هسن آقجرو ...
Inna Jelle Koolangjo ….. Maris Khalsangjo ….. Shaharwaikka Shogola Owottig Hossan Aagjiro

(12) الأم : أيقا أمركر إتار
Ayga Omrakir Ettar

(13) مدثر : أسون فنيلو ... بلْكِن أيقا شنقرتركة سلفكا إلكيق فإيدرتيل

Osoon Fanaro …. Belkin Ayga Shongirterekka Selliffikka Elkaig Fa Eedirtail

(14) الأم : إبون دينقا فكفي ولا ديننقا ؟ إكا إيقتيا أليتوكا ... إرن أنقرمنكن ويداتار
Iboan Daingal Fakoffi ًWalla Daininga ? Eron Angaramenkan Weedatar

( و عاد مدثر نزولا عند رغبة أمه ... ثم عمل سائقا لإحدى اللواري ينقل المغتربين و متاعهم ، يستمع إليهم و هم يحكون همومهم و هو يستمع كأنه يشاهد فيلما من إخراجه و تمثيله )

*****

الترجمة لغير الناطقين بها :

1. مدثر : يمة كيف حالك ... أنا مدثر

2. الأم : مدثر ؟ حبيبي ود أمي .. من أمبارح قلبي مطمن .. إنت جيت الخرتوم؟
3. مدثر : لا يمة .. أنا بتكلم من جدة
4. الأم : إنت زي الواقف جنبي
5.مدثر : أنا بعيد بس زي القاعدة جنبي
6.الأم : أنا مرضي بقى كتير ما تخليني أمرض أكتر من كدة ...تعال لي حالا لو إنت وصلت الخرتوم
7.مدثر : أحلف ليك بالله أنا لسع في جدة .. جنبي قاعد حسن درديري و جمال حفصة و عثمان ود الجزيرة .. كلهم قاعدين .. تتكلمي معاهم ؟؟؟
8. الأم : ود أمي .. تعال كفاية
9. مدثر : ما بقدر أقول ليكي لا .. بس أبوي الغرقان في الديون .. و بيتنا ال في الخرتوم لسع ما تميناهو .. و أخواني و إخواتي ال لسع بيتعلموا .. دة كلو نعمل ليهو شنو ؟
10. الأم : الله في يا ولدي .. تلاتة سنين ما شفتك ... لما أموت حتجي تبكيني ؟؟؟
11. مدثر : هنا الشغل بقى زي المشق .. قليل جدا ... شهر في و شهر مافي
12.الأم : تقدر تجيبني عمرة ؟
13 . مدثر : كدة أنشوف لو لقيت زول يديني سلفة حأرسل ليك عشان تجي عمرة
14. الأم : إنت حتسدد ديونك ولا ديون أبوك؟ أقول ليك الجد ؟ إنت لو ولدي تعال راجع

Post: #92
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-12-2014, 08:54 PM
Parent: #91

نواصل سرد هذه الحكايات من واثع الغربة والمغتربين
مما لا شك فيه أن بجعبة المغتربين الكثير
وبعض القصص هنا قد تتشابه احداثياتها مع قصص البعض
وليس بالضرورة أن تكون كل القصص واقعية

نواصل

Post: #93
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: مهيرة
Date: 06-13-2014, 01:17 PM
Parent: #92

القاص المبدع ابوجهينة

شكرا على هذه الحروف السلسالة العذبة والقص الذى اضحكنا واسال دموعنا ولامس شغاف القلوب

Quote: ثم ران صمت رهيب على المكتب وهو يقرأ من بعض الأوراق التي بين يديه، وبين الفينة والأخرى يرمقنا بنظرة حادة كنظرات الصقر الجارح.
ثم ضغط على زر جرس مثبت على مكتبه، فدخل الضابط، وأقترب منه، فهمس له ببضع كلمات، فخرج الضابط، وعاد ومعه شاب، أو بالأصح بقايا شاب، نحيف بالكاد يستطيع المشي، نظراته زائغة، حليق الراس، ما أن رآه العجوز حتى أطلق صرخة مخيفة نابعة من أعماق أعماقه، ثم وقع على الأرض، فرفعناه أنا والضابط ، وهو يردد وكأنه يهذي : بتول ولدك عايش ، لقيتو قبال أموت يا بتول.


تلاتة حزم وشوية اغتراب ولسة ماشين فى السكة نمد

تحياتى

Post: #94
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-14-2014, 12:02 PM
Parent: #93

الكنداكة مهيرة
تحياتي لك
وين الغيبات. طولنا منك
اكملنا نفس حزمك الاغترابية، ولا زالت مواصلة الحزم من بترها قرارا يكتنفه الضباب
بل ضبابية حال البلد
حفظك الله ورد غربتكم وايانا
دمتم

Post: #95
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-18-2014, 07:49 PM
Parent: #94

رجعنالكم
رد الله غربتكم

Post: #96
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: بدرالدين بابكر مصطفى
Date: 06-21-2014, 08:06 AM
Parent: #95

يا ريس
سلام عليك يا زول يا كلس
كان تخلي لينا البوست دا في رمضان ياخ

بقيت زي عمنا العجبو الأكل كملو كلو، لحس أصابعو وقال للجماعة: تاني في؟

تحياتي مثنى وثلاث ورباع

Post: #97
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-21-2014, 02:35 PM
Parent: #96

سلام كبير بدر الدين
سنواصل حتي في رمضان بحول الله
فالغربة مترعة والمغتربون لا زالوا يغترفون من معينها ويتجرعون مراراتها
دمتم

Post: #98
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-22-2014, 10:28 AM
Parent: #96

سلام كبير بدر الدين
سنواصل حتي في رمضان بحول الله
فالغربة مترعة والمغتربون لا زالوا يغترفون من معينها ويتجرعون مراراتها
دمتم

Post: #99
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-22-2014, 10:03 PM
Parent: #98

ترجّل من العربة التي اقلّته من المطار.
كأنه لم يتغيب عن موطنه كل هذه السنوات الطوال.
ظل واقفا والليل يدلق على روحه هدوءا صاخبا، وسكونا بضجيج لا يسمعه الا هو.
وقف متأملاً بيته مستعرضا سكانه في مخيلته، زوجته وأطفاله.
تمددت جدران البيت وكبرت حتى وسعت كل زوايا الخواء بدواخله ..
وقف متفرساً في كل ما حوله، يُمْلي ناظريه وهو يجوب بهما كل انحاء المكان...
جال ببصره في الشارع يستعرضه بيتاً .. بيتاً
وجوه الجيران تتأرجح ملامحها في ذاكرته ..
طفت احداث ومساجلات على سطح ذاكرته المتعبة ..
إنتابته مشاعر شتى قبْل ان يطرق الباب الذي غاب عنه خمس سنواتٍ طوال..
خالطه شعور طاغٍ بالندم، فغربته الطويلة كانت بلا جدوى، فلا هو مكث بين دفء الأسرة، ولا هو عاد بما كان يؤمله من غربته.
غالَبَ دموعا تقف على اطراف مقلتيه وهو يتأمل بقايا عربته ( التاكسي ) تقبع امام منزله ..
دون أن يشعر هتف هاتف من دواخله المتلهفة :
( اهذا أنت يا رفيق الدرب ؟ اراك تقف متماسكاً اكثر مني ... هل ابوح لك بسر ؟ شوقي اليك كان يخالط حنيني الى تراب البلد والأهل ... ليتني بقيت معك اعانق الطرقات والازقة والحواري.)
رغم الظلام الحالك، كان يرى كل تفاصيله عبْر ما يختزنه في عقله من مواقف واحداث ..
اندلق مخزون ايامه الخوالي دفعة واحدة كبوابة مُشرعة تؤدي الى تصفح سِفْر قديم تختلط فيه بداياته ونهاياته...
رمق عربته العتيقة وحزن يكسو وجهه ويغمر كيانه ...
هيكل بلا احشاء ..
بقايا مقاعد بلا حشايا ..
نوافذ بلا زجاج ..
ومقابض مخلوعة عنوة ..
تلاشى اللون الذي كان يتلألأ تحت الشـــجرة الضخمة عقِبَ كل تلميع على شارع النيل امام الفنادق الفاخرة.
أوجه الشبة كثيرة بينه وبين عربته.
اخذ نفَسا عميقاً .. وتنهد ..
وقف وهو يتأبط حقيبته بيد وبيده الأخرى يتحسس جسد العربة الساكن ..
كأنَّ عِبْق (البخور) الذي كانت تُصِر زوجته على نثره كل اركانه به لا زال يفوح كما كان في الأيام الخوالي حيث كان يشده إلى ابتسامتها طيلة مشاويره في حنايا العاصمة وازقتها وحواريها حتى موعد قيلولته وهو يحكي لها تفاصيل يومه وهو يغالب النعاس.
لم يتمالك نفسه، وقد هيجته الذكرى.
تدارك دموعه قبل أن تنزلق، فغيَّر مجرى تسارُع الصور في مخيلته..
ربَتَ على هيكل العربة ..
بدأ بمقدمتها ....
مسح على بقايا طبقة الطلاء المخشوشنة برفق وحنو ..
ها هو المكان الذي كانت تتدلى منه ( المرايا ) ..
لم تعد هناك ..
إنداحت عشرات الوجوه من مكان (المرايا) تعكس وجوه زبائنه القدامى وهو يرنو إليهم عبْرها تارة وتارة يُبْقي نظره على الشارع ..
تنامى إليه لغطهم وأحاديثهم وكأنها لا زالت تتمســك بأهداب المقاعد وســــقف العربة وأرضيتها..
خطرفات جاره السكِّير الذي كان دائماَ يصادفه أول كل شهر حاملاً كيس الورق المتخم ورائحة الخمر تفوح منه وضح النهار ...
ضجة الوقوف عند بوابة المستشفى الميري ..
وهنا كانت تتأرجح ( المسبحة العتيقة ) التي أهدته إياها عمته ..
أما هنا فكان يرقد ( المصحف ) ملفوفاً في قطعة من القماش الأبيض ..
أدخل رأسه برفق من جهة باب السائق ..
تنامتْ إليه أصوات أغنيات قديمة تختلط بكم هائل من موسيقاها وإيقاعاتها ..
تخيل نفسه يدخل المفتاح ليفتح الباب صباحاً وهو ( يبسمل ويحوقل ) ...
نظر إلى ( مقود العربة ) الذي أمسك به أول مرة.
إنزلقتْ ذكرى أول مشوار، وهو يجول بأمه على شارع النيل عملاً بالنَذْر الذي قطعه على نفسه ...
( ندْراً علىْ لو اشتريت التكسي أول مشوار حيكون معاكي ...) ...
إبتسامة أمه يومها التي كانت تنم عن الرضا والسعادة الغامرة لا زالت ترقد على بقايا مقدمة العربة كصورة في إطار عتيق .. ودعواتها يتردد صداها في جنبات الهيكل الخاوية ..
ومن هذا الباب دخل العسكري ليلكزه بهراوته قبل أن يجرجره زملاؤه خارج التاكسي لأنه تجاوز ساعات ( حظر التجوال )، وتنهال عليه الصفعات وهو يحاول جاهداً أن يتحاشاها ويُسْمعهم تبريراته .
قفزتْ إلى مقدمة ذاكرته ليلة أن أحستْ زوجته بآلام المخاض ...
ليلتها أصر التاكسي على عدم التحرك وكأنه يتآمر على قدوم مولوده الأول .
ترك أصغر أولاده وأغترب وهو في الرابعة من عمره ...
وهاهو يعود إليه بعد غربةٍ حفرتْ في روحه اخاديد نازفة، يعلم الله كيف ومتى تُنْكَأ ...
غمرته سعادة تلك الأيام ..
انفرجت أساريره وهو قاب قوسين من أسرته وحفاوتها الدافئة ...
افاق على سكون الشارع، وعلى وقفته التي طالت يسبح في بحيرة تأملاته.
شوقه المختزن في دواخله أدخل الرهبة من اللقيا المفاجئة.
شعر بضجيج الهدوء المُطْبِق ..
وصَمْت عربته يكاد يملأ المكان بصخب عارم..
شلال ذكرياته التي سافرتْ به ثم القتْ برحالها على عتبات بيته وساكنيه، يلفه تماماً، ويجرفه بعيداً.
طرق الباب بيد مرتجفة، وهو يرمق ( التاكسي ) من طرف خفي وكأنه يستأذنه الانصراف عنه..
انفتح باب بيته واطلتْ زوجته ..
شهقتْ متراجعة وغير مصدقة ..
ثم نضح وجهها بفرحة مباغتة ..
هتفتْ بإسمه بصوت مخنوق ...
سرعان ما اطلقتْ زغرودة يخالطها بكاء في هستيريا متواصلة، وهي تنادي أولادها واحداً تلو الآخر في سعادة وبهجة طفولية غامرة..
عندما عانقها طويـلاً ودفن وجهه بين طيات عبقها الراقد بين حناياه أبداً، خُيِّل إليه بأن هيكل العربة المتهالك قد اكتسى رونقه القديم وأنه وقف على (اطاراته) الأربع وأطلق حشرجته القديمة لينطلق به مرة أخرى ليجوب شوارع المدينة...

Post: #100
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: عبداللطيف شريف على
Date: 06-24-2014, 03:06 PM
Parent: #99

كالعادة الريس وبستانه المزدان ...

لله درك ما اجمل ما نثر بنانك ...



وفى الانتظار على حمر الجمر ...

Post: #101
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-25-2014, 01:02 PM
Parent: #100

تحياتي عبد اللطيف
بكم نواصل

Post: #102
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-28-2014, 04:02 PM
Parent: #101

ولات حين غربة
على غرار ولات حين مناص

Post: #125
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 10-06-2014, 07:53 PM
Parent: #102

الغربة عند كل اهل الارض هي حقبة لاصلاح الحال
وكنا ضمن هؤلاء ، نطلق العنان لغربتنا ثم نعود
ولكن ما بال الغربة اضحت انسلاخا

نواصل

Post: #103
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 06-28-2014, 04:03 PM
Parent: #101

ولات حين غربة
على غرار ولات حين مناص

Post: #104
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 07-22-2014, 09:16 PM
Parent: #103

عدنا

Post: #105
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: Othman Al-Hasan Babikir
Date: 07-23-2014, 01:32 AM
Parent: #104


قلنا نتاوق للبوست ده .. ما طلعت منو إلا بعد آخر قصه ..!! ربنا إيديك العافية ياخ
واصل كفاحك ..

Post: #106
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-04-2014, 09:16 PM
Parent: #104

لندن .. ذات صيف من ثمانينات القرن الماضي
***
لم أشعر بهذا الإحساس منذ أمد بعيد ..
و كأني أتوجه منتشياً إلى المحطة الوسطى متأبطاً جريدة ( الأيام ) .. و بضع قطع من العملات المعدنية داخل جيب البنطال تموسق الخطْو .. و قشور الترمس التي أرميها خلفي تتبعني و كأنها رتل من النمل يتجه نحو خليته ..
و الانتعاش يمد لسانه لحرارة الجو و يَرْبِتُ على الجو الخانق داخل البص الذي انتهى زمنه الإفتراضي ..
الطريق من الشقة حتى ( الهايد بارك ) .. جعلني أسبح في نفس مساراتي القديمة من شارع معرض الخرطوم و حتى مدخل جامعة الخرطوم مروراً بالخرطوم الثانوية القديمة و النفق..
أتخيل أنني سأقابل كل أولئك الذين عرفتهم في براري الخرطوم ..
(الكوتش إبراهيم) .. بين نادي ( بري ) و كمائن الطوب قبالة ( الجريف شرق )..
(الطاهر) سائق التاكسي الذي لا تفرق بين سعاله و سعال عربته المتهالكة ..
(آمنة) موظفة بنك السودان التي تسكن بالقرب من نادي الشرطة و ابتسامتها الغامضة و هي تقف في انتظار حافلة نقل موظفات البنك...
( ألبينو) .. الجنوبي الأنيق الهندام و الوجه ..
وصلتُ الهايد بارك .. المتحدث هندي من السيخ يتحدث بخليط من لغته والإنجليزية ..
معظم الوقوف لا يتابع ما يقوله بل يتمعن في زيه و ما يزين أذنيه و أصابعه من أساور نحاسية و فضية و فصوص من أحجار كريمة تتلألأ.
مللتُ حديثه و عمامته البرتقالية الفاقعة اللون ..
ركبت تاكسياً لندنياً إلى ميدان الطرف الأغر .. عشقي الكبير في هذه المدينة الضبابية ..
عاجلني عجوز بقبضة من الحبوب لأطعمها الحمام الذي لا ينقطع جوعه في ذاك الميدان المزدحم ..
مزيج متنوع من الناس يجوب الميدان جيئة و ذهاباً ..
رأيتها تقف خجلى مترددة .. عرفت فيها غربتها عن المكان و عن ما يدور حولها ككل قروي يأتي إلى المدينة فتَنْفُر الدهشة و الريبة من العينين بشكل صارخ و سافر .. و تكتسي بحذر مشوب بالتقوقع و الإنفراد..
ينطق وجهها بروعة الجمال الأمهري .. بلون نبيذي أخاذ .. يتحدى خمرة باخوس ..
يرقد صليب موشوم على جبهتها يحدِّث عن دينها و ابتسامة تحكي عن دَيْدَنها ..
تملأ الابتسامة ما بين شفتيها ليَفْتَر عن صفين من اللؤلؤ المكنون و لثّة بلون العنب.. و حاجبيها الكثيفين دون رتوش و رموشها دون اكتحال لوحة مرسومة على مهل..
ينفرج ثغرها عن ابتسامة جعلتني أسترجع عذوبة غفوة الظهيرة على (عنقريب) من الحبل تحت ظل (راكوبة) على ضفاف النهر الخالد الذي يباركه أهله قبل أن ينساب إلينا منذ الأزل منزلقاً من هضابه..
أيا سليلة الأمهر .. ما سرُّك ؟؟
كانت حبات القمح التي نفحني إياها العجوز جواز مرور إلى التعرف عليها ..
أمسكتُ بيدها و دلقتُ فيها الحبات رويداً رويداً .. متعمداً الإطالة و أنا أحس بحرارة جسدها الإفريقي تسري إلى جسدي المتورم نشوة .. و أنا أبحلق في عينيها و في الصليب الموشوم على جبينها ..
وقفتْ مستسلمة لجرأتي ..
سرعان ما اختلطتْ ضحكاتها المتوجسة مع رفرفات أجنحة الحمائم ..
دعوتها إلى ذلك المطعم الذي أعشق طهيه الذي يذكرني بنكهة المرق في قدور الفخار بقريتي .. أستحثها على الأكل و هي تمضغ بفم مطبق ..
تواعدنا في المكان و الزمان أكثر من مرة .. فانطلقتْ بعفوية الأطفال ..
تأتي دون تأخير مرتدية نفس الزى الذي كانت ترتديه عند أول لقاء و نفس الحذاء ..
ما أجمل أن تكون دليلاً سياحياً لفتاة بمثل هذا الجمال.
أمسك يدها النحيلة .. فتجفل و تسحبها .. ثم تعود لتضعها بين يدي كمن يقدم اعتذارا مبطناً ..
و هي ترمقني خَجْلَى ..
حكتْ لي عن ظروف خروجها من قريتها .. و كيف أنها وصلتْ إلى السودان و مكثتْ عند خالتها في ( الديوم ) ..
مرة بلغة عربية تدْغم فيها ما تشاء و تقلب الخاء كافاً و تُعَطِّش حرف العين حتى تشفق عليه من الإختناق ..
ضحكتْ كثيراً و هي تحكي لي عن سائق ( البرنسة ) السوداني الذي أنطلق بها دون أن يتوقف عند محطتها مما جعلها تقفز مذعورة بعد أن أنقذتها مطبات الطريق.. و كشفتْ عن ركبتها لتريني آثار السقطة على الطريق ..
توثقتْ علاقتها بي يوماً عن يوم ..
صارحتني بأنها تحتاج للعمل .... فقد ملَّتْ الاعتماد على صديقاتها في السكن.. و طال بحثها عن عمل ..
ألحقتها بالعمل لدى أرباب عملي في جادة Hill Street ..
تفانت في عملها لدرجة بعيدة ..
إضافة إلى ما يعتلج في قلبها البِكْر الذي ظلتْ تبديه دون مواربة و الذي لم يغبْ عن حدْسي.. فقد ظلتْ ممتنَّة للخدمة التي قدمتها لها بتوفير عمل شريف لها...
في أحيان كثيرة تتحول مشاعر الألفة بين أثنين إلى حب جارف لا يُبْقِ و لا يُذِر .. و بشكل خاص في الغربة .. لذا فقد خفتُ كثيراً من تلهفها على حضوري .. و تعلقها الشديد بي .. و تلك النظرة التي أعرف مغزاها جيداً.. صرتُ أتحاشى كثيراً من المواقف و امتنعتُ عن التعليق على تعليقاتها المبطْنة بالحب الكامن داخلها ..
شعرتْ بتملصي من لقاءاتها الحميمة ..
فآثرتْ أن تقطع شكها بيقينٍ يكفيها شر الحيرة و الارتباك ..
قالت و هي تتشاغل بتنظيف طاولة أمامي : ألا تحس بمشاعري نحوك ؟
قلتُ محاولاً الانفلات : أحس بها تماماً .. فأنت أخت عزيزة في هذه الغربة ..
قالت ممتعضة : لا أقصد هذا ..
قلت: ماذا تقصدين إذن ؟
قالت بثقة يشوبها الترقب : أنا أحبك .. أحبك كما لم أحب أحداً من قبل..
ثم سكتتْ و كأنها أحسّتْ بالتسرع في الفضفضة و الإفصاح عما يجيش بدواخلها ..
لم أستطع الإجابة ..
فأنا أحترمها .. و بالفعل هي التي جعلتْ من أيامي تلك شيئاً يمكن تجاوزه برفقتها الحلوة ..
و معشرها الطيب ..
قالت و كأنها وجدتْ مدخلا للحل : هل أفهم من هذا أن ديني يقف حائلاً بيني وبينك ؟
قلت : لا يا عزيزتي .. فدينك أنا أؤمن به كدين سماوي ..
قالت و هي تجلس على ركبتيها أمامي : أحبك .. و من أجلك سأعتنق دينك ..
ثم استدركتْ : يمكنني محو هذا الوشم من على جبيني مهما كلفني ذلك .. فأنا أعرف فتاة قامت بذلك ..
ثم تابعتني بنظرات ملؤها الأمل و الرجاء ..
ذبحتني كلماتها من الوريد إلى الوريد .. ذبحتني عيناها التي تبحث عن إجابة في عيني.
كيف أقابل كل هذه التضحية ؟ و هي تضحية أكبر من مشاعري مقارنة بإحساسها نحوي ..
لا يمكن أن أخدعها .. بل هذا آخر شيء أفكر به ..
طلبتُ منها أن ترجيء الأمر إلى حين ..
عذبني أكثر إحساسي بانكسار شيء ما في دواخلها .. فقد كانت تنتظر أن أبادلها شعورها فرِحاً ..
تعمدتُ المبيت عند صديقي في شقة أخرى لعدة ليالٍ متحاشياً تواجدها عند أوقات عملها ..
لم ينقذني من هذه الورطة إلا موعد سفري من لندن الذي أتى مفاجئاً دون سابق إنذار ..
ذهبتُ إلى شقتي ..
فتحتْ لي الباب و ردتْ تحيتي مهمهمةً ..
قلت لها : أعرف ما يدور في ذهنك ..
قالت دون أن تواجه نظراتي : أنت لا تعرف شيئاً من ذلك ..
قلت : لم تقولين ذلك ؟
قالت و غصة تقف في حلقها: لا تزعج نفسك بما قلته لك .. أرجوك أن تنسى كل ذلك ..
قلت : بل أطلب منك أن تعطيني بعض الوقت و ..
قاطعتني بعناد : أنت تعلم تماماً أن هذا هو الشيء الوحيد الذي لا يحتاج أن تعطي لنفسك فيه وقتاً للتفكير و التمحيص أو مهلة زمنية .. إنه أمر قاطع .. يكون أو لا يكون ..
ألجمتْني كلماتها النابعة من صميمها ..
ودعْتها .. و دمعات عصية تقف على أطراف مآقيها .. تكابر بها أنِفَتَها و عزة نفسها و كبرياءها . و ما أقسى مكابدة كبرياء مجروح ..
أمْعنْتُ في تناسيها .. و لكن ظلتْ كلماتها ترن في أذني لفترة طويلة ..
ما أقسى الحب من طرف واحد .. عذاب مستمر و ألم نازف .
عندما عدت إلى لندن في العام التالي .. وجدتها قد تركتْ العمل الذي ألحقتها به ..
بحثتُ عنها و سألتُ عنها كثيراً ... و لكن دون جدوى ..
دخلتُ غرفتي و صوتها يملأ الأركان .. بكل صدقها .. و عفويتها ..
تقبع طاولة مكتب صغيرة في غرفتي ..
بالدرج العلوي وجدتُ قصاصة من ورق .. كتبتْ عليها :
( لا زال الوشم على جبيني .. لم يعد يعني لي الكثير ..
و لكن لن أدعه يمسك بزمام قلبي و يوجهه ..
و بقيتُ على ديني .. أذهب كل يوم أحد و أجثو لله طالبة أن يمدني بأسباب نسيانك ..
هل تصدق : لم أستطع نسيانك و لو للحظة .. فليغفر لي قلبي تعلقي بك .. أو بالأصح .. فليسامح الرب قلبي .. فهو الذي قاد خطواتي نحوك ..
أذهب كثيراً لميدان الطرف الأغر .... و لأنني لا زلت أحبك .. أقول لك .. فليحفظك الله و ليبارك خطواتك أبداً ..
لك أبداً ... سارا ) ...

Post: #107
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-04-2014, 09:18 PM
Parent: #106

تحياتي عثمان الحسن
كل عام وأنتم بخير
دمتم

Post: #108
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: مصدق مصطفي حسين
Date: 08-05-2014, 12:13 PM
Parent: #107

كل عام وإنت بألف خير ياريس .....
أطيب تمنياتي لك وللأهل جميعا ،،
بالمناسبة أنا هنا من بدري بس إنت ما اخدتش بالك .

Post: #109
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-05-2014, 02:30 PM
Parent: #108

الاخ الفنان مصدق
تحياتي
وكل عام وانت والاسرة الكريمة بخير
يسعدني تواجدك والبيت بيتك

Post: #110
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-06-2014, 10:41 PM
Parent: #109

نواصل تقليب اوراق هذه الملفات
فهي مترعة ومزدحمة بالاحداث كازدحام اهل السودان في اركان العالم
قابلت شابا سودانيا يعمل في فندق بجزر البهامز
وهي جزيرة في منتصف المحيط
كانوا قد نفوا اليها شاه ايران قبل ذهابه لمصر
والجزيرة تعج بفنادق تمتلىء كل ادوارها الارضية بصالات القمار وماكينات القمار
وتلك قصة اخرى ساتناولها لاحقا

Post: #111
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-07-2014, 11:22 AM
Parent: #109

مكرر

Post: #145
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما �
Author: ابو جهينة
Date: 03-21-2015, 07:34 PM
Parent: #99

قبلت دعوة أحد الأصدقاء للسفر في الإجازة الصيفية عن طريق جدة ـ بورتسودان ، حيث إشترى صديقي هذا ( باصا ) فاخرا و قرر العودة النهائية للسودان ضمن مشاريع أخرى ( للأسف كُتب لها الفشل الذريع ).
كانت الرحلة تضم صاحب الباص و عائلته و ثلاث عوائل أخرى بالإضافة لشخصي و كنت بدون أسرتي التي سبقتني بالطائرة لحضور مناسبة زواج بالحصاحيصا.
إنسابت الرحلة جميلة من الرياض ، وسط حماس الأطفال ، و حلل الأكل الطازة ، و كل واحدة تتباهى بالأكلة التي من صنعها.
تكهرب الجو بواسطة إحدى زوجات المسافرين معنا ،
عرفتُ من أول الرحلة أنها حتكون شوكة الحوت التي لن تتبلع و لا حتفوت.
فقد نسي زوجها العزيز شنطة مهمة في المنزل بالرياض بها بعض هدايا أهلها.
قالت بلهجة واثقة و آمرة : لازم ترجع تجيب الشنطة.
و حاولنا إقناعها بأننا قطعنا ربع المسافة لجدة ، و يمكن إرسالها في أي وقت آخر بالشحن ، فكانت تخاطب زوجها و كأننا غير موجودين أو أشباح :
إنت ما سامعني ، أرجع جيب الشنطة ، ولا بنرجع كلنا و ما في داعي للسفر.
و المسكين ينظر إلينا مستنجدا بتوسلاتنا لتليين موقف ( أسد الله ال بضرع ).
و هي بالفعل كالأسد وسطنا تضرع ،
و هو كلما هي زمجرتْ ، ( ينخ ) ... إلى أن وافق على الرجوع و اللحاق بنا في جدة لو ربنا هون و سهل له طريقة ذهاب و إياب سريعة من و إلى الرياض.
المهم ، ذهب للرياض و لحق بنا في جدة و الضيق بادٍ على وجهه ، و بالرغم من تعبه ، و بدلا من أن تشكره ، عنفته قائلة :
يعني كان تتصرف و تشتري البلوزات القلت ليك عليها و نسينا ما إشتريناها في السوق.
فقلت لها و أنا ( أتقلقل ) من الغيظ : يعني يخش السوق و نحن ننتظر هنا و الباخرة تفوتنا ؟
و كأنها لم تسمعني ، و واصلت الحديث مع زوجها :
يعني ديل لو كانوا أهلك كنت جريت و جبتهم.
و هو يبتسم إبتسامة لا مغزى لها ، خليط من الإستسلام و الإمتعاض و الإعتياد على تلقي الضربات فوق البردعة.
واصلنا الرحلة ، و أنا نادم على هذه الرفقة التي ( ترفع ضغط الدم و تفقع المرارة ).
وصلنا بورتسودان ، و حمدت الله أنني في الباخرة لم أقابل تلك الحية الرقطاء و ذلك السنجاب المنتوف.
و تحركنا من بورتسودان صوب الخرطوم بعد أن إنتهينا من كل الإجراءات و إشترينا ما نحتاجه. و تماما عند تلك الطلعة المخيفة وسط جبال الشرق، و الباص يئن و يطقطق من حمولته في ذلك المنعرج الضيق ،
شق الصمت صوت الحيزبون : سجمي أنا نسيت البامبرز كلو.
لم يرد عليها أحد ، فالكل يركز على الطريق و على الهاوية على يميننا.
ثم كررتْ جملتها.
فقلت لها و أنا أقدح شررا من عيني : إستعملي دلاقين ولا توبك لو لزم الأمر ، و بعدين إشتري ليهو في كسلا.
قالت : إنت من الرياض مصاقرني مالك ؟. أنا بتكلم معاهو هو.
ثم وجهتْ كلامها للسنجاب الوديع : إنت بقيت تنسى مالك ؟ بتحب واحدة تانية ولا شنو؟ و الله إستعمل قمصانك الفي الهاندباق.
فنظر إليها بوداعة الطفل الغرير و إبتسم إبتسامة تعني أن لا مانع يا حبي الكبير.
و توالت مواقف رفع ضغط الدم ، و أنا إستغرب مثل عينة هذا الرجل. بعد كل كم كيلو متر ، نجد الزوجة إياها تتفنن في إذلال صاحبنا( ال رافع إيدو لي فوق طول الوقت) ، و مُسَلم أمرو لهذه الزوجة التي لا ترعوي.
كل الأسر تنزل عند كل محطة وقوف ، إلا هي ، تجلس و تصدر الأوامر له ،
حتى الأطفال هو الذي يقوم بتوصيلهم للحمام و عمل اللازم نحوهم.
و هي مستلقية على الكراسي الخلفية تبحلق في نقشة الحنة و تستمتع بموسيقى الأصفر الرنان الذي يملأ تضاريس جسدها من ( غوايش و سلاسل و ختم و حلقان ).
قالت واحدة معنا : أريتو راجل السرور. أهو الراجل ولا بلاش.
قالت الأخرى : بري. دة لو راجلي بطلقو في يوم واحد.
فقلت للأولى : يعني البسوي كدة يا هو الراجل التمام ؟
قالت بعد أن تراجعت عن موقفها قليلا : لا مش كدة مية بالمية ، بس أنا عاجبني فيهو الهدوء.
فقلت لها : هذا هو الهدوء الذي لن يسبق العاصفة أبدا.
فعواصف زوجته تملأ خياشيمه و رئتيه و قصبته الهوائية . هو ميت حى و لا يدري ذلك. كان الله في عونه و عون من كان على شاكلته.
عندما وصلنا الخرطوم بالسلامة ، و بصوت سمعناه كلنا ، قالت الزوجة لا فض فوها:
أنا بمشي أعزي بت خالتي في أبوها ، باخد لي تاكسي من هنا ، إنت روح البيت عند ناس أمي و خد معاك الأولاد و العفش لغاية ما أجيكم.
و دون مناقشة ، بدأ في تنفيذ الأمر بآلية يحسده عليها ( الروبوت ).

Post: #149
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما �
Author: ابو جهينة
Date: 04-22-2015, 09:27 PM
Parent: #99

***
نواصل

Post: #152
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما �
Author: درديري كباشي
Date: 04-24-2015, 07:40 AM
Parent: #99

سلام يا معلم ابوجهينة

سرد ائع وحكاوي تقرابالقلب

أنا طبعا تفاجأت بالبوست وأكتشفت أنه قدمي وكان من العام السابق حيث كنت في غياب .

خفت يكون فيه تضارب أو تطابق مع مفارقات في الغربة

لكن لقيت الحكاية تشبه طبخ الدجاج عن الشعوب

نفس الدجاج نحن نسويه دمعة

والحبش يسووه زغني

والهنود يطبخوه كاري

بس كمان لو كان عندي فكره عنه كان غايرت العنوان على الأقل

Post: #153
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما �
Author: ابو جهينة
Date: 08-09-2015, 12:01 PM
Parent: #99

عذرا
مكرر

Post: #155
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما �
Author: ابو جهينة
Date: 10-08-2015, 02:25 PM
Parent: #99

***

Post: #112
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: مجاهد محمد الهادي
Date: 08-07-2014, 01:15 PM
Parent: #92

أشكرك على هذه البساتين الوارفة من الحكي الطاعم الحميم الدافئ عمنا أبوجهينة

Post: #113
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-07-2014, 08:46 PM
Parent: #112

تحياتي مجاهد وشكرا على المرور الانيق
بكم نواصل
دمتم

Post: #114
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-07-2014, 08:58 PM
Parent: #113

( إهداء إلى تلك الصبية التي إكتوت بنار الغربة وهي في عقر دارها )

****
أتساءل أحيانا .. كيف كان يتم بث الشوق عندما لم تكن أسباب اللقيا متاحة تماما ..
على وجه الخصوص في قرانا الراقدة على ضفاف النهر الخالد.
وعندما لم تكن هناك هواتف .. أو بريد سريع .. أو هاتف محمول أو هذه التقنيات الحديثة .. تنْسرب منه إعتلاجات الروح وومضات الشوق في رسائل كنبض القلب يأتي بعدها الرد سريعا ليطفيء بعض الشوق إلى حين .. ؟
جاء الرد على تساؤلي هذا من الصبية الفنجرية ( دهيبة DIHAIBA) :
كانت والعهدة على روايتها الصادقة النابعة من روح تشرّبت بنفحات ملكات النوبة الشامخات.
كانت دهيبة ..
تقف حاسرة الرأس عند نخلة يمتد تاريخ غرسها إلى حياة جدها .. تتمسك جذورها بفخر وعناد بالتربة لتمتص رحيق الحياة من ذاك الأزلي الجاري شمالا أبد الدهر ..
والليل أبو الأسرار يزحف على القرية ،
وغمامة حزن غير مألوفة تزحف على روحها ..
تزفر زفرة تكاد تحرق جذع النخلة المهتريء ..
لم يكد حبها الوليد ينمو في أركان قلبها الغض ..
حتى سافر كطير مهاجر لتبتلعه الغربة ..
وتنقطع أخباره ..
لتعيش مبهورة بإحساس يغمر كيانها بنور وهاج لا تدرك جُلَ كنهه إلا ما تحس به يفرهد مدغدغاً إحساسها البِكْر ....
فتبتسم متوارية خجلاً حتى من نفسها ..
تعتصر بطنها بيديها ..
فقد هدها الشوق فأدمى أحشائها ..
تحفر بأظافرها على الجذع كلما طغتْ أمواج الحنين على كل بارقة أمل أو سانحة لقيا مرتقبة..
تغلق جفنيها بشدة علَّ الدموع تغسل بعضاً من هذا الحريق ..
لم تكد تهنأ بذاك السحر حتى أطلق المحبوب جناحيه فغاب في الأفق البعيد ..
إهتزتْ بعض السعفات (مُوَشْوِشَة) بحفيف مبحوح و كأنها ترْبِت على كتفها وتواسيها في لوعتها ..
قالت وكأنها تحدِث الغائب الحاضر : كان تصبر شوية .. كلامك كلو معاى ما كان أكتر من سلام الله والسؤال عن الحال والأحوال .. حسه بحتاج سؤالك دة أكتر من زمان ..
غرد عصفور يودع آخر شعاع من الشمس التي آذنت بالمغيب .. فخفق قلبها وقالت له بتوسل تعرف أن لا رجاء منه و هي تتابعه بنظرها : أريت روحي شايلاهو جناحاتك أطير بيها و أَبِل شوقي و أطّمِن عيني بي شوفتو .. و إن شاء الله بعد داك ما ترجع روحي تاني جُوَاى ..
وأعترتها رعشة القانع من أمل محبب لا سبيل إلى تحقيقه ..
الأمواج تغازل أطراف القيف في رقة ، فتلثمه وتتقهقر لتعاود إحتضانها مرات ومرات .. كأنهما في لهو بريء . ..
فتقول هامسة : ما ياها الموجات بتصابح القيف وبتماسيهو ، و يوم ما قال بفوت منك و أخليك ..
ثم قالت مستدركة بعناد كعناد طفل يطلب شيئا لا يدركه : أقول ليك الجد ؟ بخجل أمشي أملا الموية من طرف الجرف المُوالِفْني .. أخاف القيف والجروف يحِسُوا بنار الغيرة مالية حشاى ..
ثم قالت و شيء كالبكاء يقف غصة في حلقها : تصدق بقيت أغِير حتى من العصافير فوق الشدر .. و الوِزِين الفي البحر ..
تلفَتتْ حولها خشية أن يكون هناك من سمع تفكيرها المسموع ..
تشخص ببصرها للسماء ..
والليل بظلامه الحالك يبدأ في نشر أستاره ..
والنجوم تتلألأ ويتهاوى بعضها في الأفق اللانهائي هناك ..
قالت بتبتل وخشوع : يا رب ... يا إلهي ..
لم تستطع أن تكمل دعاءها ..
فقد إحتشدت عشرات الأمنيات والآمال في صدرها ..
فعجزتْ أن تتفوه بدعاء واحد ..
فأكتفتْ بأن قالت : آمين يا رب العالمين .. إنت عارف الجواى وعارف نيتي ..
صوت ( طمبور ) يئن ينقله النسيم عبر صفحة الماء الهادئة ، فينساب اللحن ليزيد جرحها إتساعاً فيتناغم صوت الأوتار مع ضربات قلبها .. فتنزل دمعات مدرارة على خديها ..
لا تبالي بمسحها .. فيغيب عن ناظريها آخر فصول غزل الأمواج المتلاطمة ( للقيف ) ..
وتنطلق صوب ليلها لتحتضن السهاد.

Post: #116
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-08-2014, 01:31 PM
Parent: #114

تحياتي طارق ميرغني
رغم ان اسمك يظهر عند فتح الجهاز على المنبر العام
الا انه لما افتح الموضوع لا اجد مداخلتك
حاجة غريبة

Post: #117
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-09-2014, 07:50 PM
Parent: #116

.


لم تكن مهنة ( راعي غنم أو راعي إبل ) قد ظهرت أيام إغترابنا الأولى بالسعودية. معظم الذين هجروا أراضيهم الزراعية في السودان ،، أو هجروا أعمالهم الهامشية و أتوا للخليج وللسعودية على وجه التحديد ،، كانت مهنهم الرئيسية عامل ،، أو طباخ ، أو سفرجي وأحيانا سائق. وعندما تشبّعتْ السوق السعودية بهذه المهن ،، إنبعجتْ مهن أخرى ،، منها مهنة الراعي. و لكن أغرب مهنة قابلتني عندما أتاني أحدهم وطلب التوسط له لعمل ،، فوجدت أن مهنته بالإقامة( عامل تربية نحل ).
صراحة ذهلت ،، فدار بيني و بينه هذا الحوار ( العسلي ) :
إنت عندك فكرة عن النحل ؟
قال : و الله في حياتي ما شفت لى نحلة طايرة. حتى العسل دة ما بحبو ،، أنا بحب الحاجات المرة و الحادقة .
( قال هذه الجملة و هو يزدرد ريقه و كأنه تذكر أشياؤه التي يحبها ).
فقلت له : من الذي أوحى لك بهذه المهنة ؟
قال : كفيلي إمتلأ سجله في مكتب الإستقدام بكافة أنواع المهن ،، فإبتدع هذه المهنة.
فأخذته و ذهبت به إلى صديق له أيادي و أرجل في أماكن العمل ،، فعرضته عليه ، فقال و عيناه تلمعان :
بالله عامل تربية نحل ؟ أنا بعرف واحد عندو مزرعة تربية نحل وإنتاج عسل،، والهنود الكانو شغالين معاه هربوا بعد ما عملوا ليهو مشكلة فنية في المزرعة.
شنو هي المشكلة ؟
قال : النحل ياكل طول النهار في الزهور ويشرب من موية السكر ،، بس مافي إنتاج بالمرة .
ثم وجه سؤاله ( لعامل تربية النحل ) :
ممكن تحل المشكلة دي ؟
فإلتفت زولنا و قال لي هامسا :
خليهو يبِل النحل و يقطِّرو عرقي.

فبُهِتَ الذي سأل

Post: #118
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-13-2014, 08:43 PM
Parent: #117

يوم الإثنين يبدو أنه كان يوماً حافلاً في دواخل ( جبارة ) ...
ليته دوَّن إحساسيسه ...
ليته قال للأقربين بأنه يحس بأنه مفارق هذه الفانية ...
و لكنه تصرف كـ ( جبارة ) تماماً ... كما عهدناه ..
كتم ما يحس به .. و أفرغه على من حوله و أضفى علي كل هذا و ذاك من شخصيته المشرورة على الدنيا و أهله فيها ..
إتصل بزوجته و أولاده و قال لهم و بطريقة غير معتادة : أنا مشتاق شديد...

و كعادته .. يختتم كل المواقف بضحكة ساخرة ... والقريبون منه يلاحظون تلك الإبتسامة التي تغمر كل وجهه .. غاضباً كان أم فرِحاً ..
ثم إتصل بإبن أخي و أوصاه بأمور دنيوية تخص إستحقاقاته بوزارة الزراعة التي كان مهندساً بها ..
ثم إنطلق من الرياض إلى ( وادي الدواسر ) بسيارته الصغيرة إلى مكان عمله ..


يوم الثلاثاء صباحاً جاءني صوت أخي حزيناً : جبارة مات في حادث ...

مشكلتي أنني لا أبكي وقت الفواجع ..
أحياناً أخدع نفسي بالتشاغل بأي شيء يعيداً عن الحدث المحزن ..
لا أحب حتى أن أخوض في تفاصيله ..
( أخاف أن أغرق في الحزن و لا أقدر على النجاة ) ..
تعاندني دمعاتي .. تتصلب في المآقي و تُقسِم ألا تنزل لتلطف بعض الحزن الساكن في الجوف ...

إتصلت بأخيه محمد .. وجدته صابراً محتسباً ..
إتصلت بأخيه نزار .. وجدته أصلب عودا ..
و إتصلت بأخته ( إحسان ) ... فكان الحزن مندلقاً نحيباً لم تشفع لدموعي أيضاً بالنزول ..
لا أستطيع حتى على إخراج كلمات المواساة..
أخته ( فريال ) بكتْه نادبة بأسلوب الحبوبات : يا سندنا و إتكالْنا ...

إلى الآن لم أتصل بالسودان معزياً ... أخاف أن أسمع من أمه بكاءاً فتخذلني دمعاتي ..
أكتب هذا و حروف الكيبورد غارقة في بعض دمعي الذي تكرم و جاد علي الآن فقط ..
غريب أمري و الله ..

المهندس جبارة مختار
خريج جامعة الخرطوم
أتى للسعودية قبل بضع سنوات ..
عمل في شركة زراعية ..
ذات يوم تعب من العمل فقال للمهندس المصري زميله : بروح أرتاح في البيت و أرجع ..
فقال له المصري : ليه تتعب نفسك رايح و جاي .. خدْلَك تعسيلة تحت الشجرة دي ..
فنام جبارة قرير العين .. واثقاً بأن أمة محمد ( كالجسد الواحد ) ...
فأتي المصري بصاحب العمل و قال له : شوف السوداني نايم وقت العمل و في مكان العمل.
فغادروه للسودان ...
غادر و هو يضحك مندهشاً من هذا التصرف ... أو على هذا الدرس الجديد الذي كلفه الكثير ..
مكث في أهله قليلاً ...
ثم أتى للعمل مرة أخرى للسعودية ...
بالطبع لا يدري أن الله قد أتى به لمكان موته و دفنه ...
القبر ينادي صاحبه ...
و الموت يدغدغ عقل الإنسان الباطن ...
فيودع أحبابه دون قلق ... و دون أن يشعر بأن ما يقوم به هو وداع مبطن بالرحيل ...

رحل جبارة في صمت ... على غير نمط حياته الصاخبة بالفرح الذي كان يزرعه ... و ضحكته المجلجلة و مشاغباته التي لا تنتهي.
مات بعيداً عن أسرته ... و عن أقاربه بالرياض ...

البركة في ولديه و بنتيه ..
و العزاء لزوجته المكلومة ..
و لأمه المفجوعة ..
و موصول لإخواته و إخوته ...
و كافة الأهل ...

Post: #119
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-13-2014, 08:44 PM
Parent: #117

يوم الإثنين يبدو أنه كان يوماً حافلاً في دواخل ( جبارة ) ...
ليته دوَّن إحساسيسه ...
ليته قال للأقربين بأنه يحس بأنه مفارق هذه الفانية ...
و لكنه تصرف كـ ( جبارة ) تماماً ... كما عهدناه ..
كتم ما يحس به .. و أفرغه على من حوله و أضفى علي كل هذا و ذاك من شخصيته المشرورة على الدنيا و أهله فيها ..
إتصل بزوجته و أولاده و قال لهم و بطريقة غير معتادة : أنا مشتاق شديد...

و كعادته .. يختتم كل المواقف بضحكة ساخرة ... والقريبون منه يلاحظون تلك الإبتسامة التي تغمر كل وجهه .. غاضباً كان أم فرِحاً ..
ثم إتصل بإبن أخي و أوصاه بأمور دنيوية تخص إستحقاقاته بوزارة الزراعة التي كان مهندساً بها ..
ثم إنطلق من الرياض إلى ( وادي الدواسر ) بسيارته الصغيرة إلى مكان عمله ..


يوم الثلاثاء صباحاً جاءني صوت أخي حزيناً : جبارة مات في حادث ...

مشكلتي أنني لا أبكي وقت الفواجع ..
أحياناً أخدع نفسي بالتشاغل بأي شيء يعيداً عن الحدث المحزن ..
لا أحب حتى أن أخوض في تفاصيله ..
( أخاف أن أغرق في الحزن و لا أقدر على النجاة ) ..
تعاندني دمعاتي .. تتصلب في المآقي و تُقسِم ألا تنزل لتلطف بعض الحزن الساكن في الجوف ...

إتصلت بأخيه محمد .. وجدته صابراً محتسباً ..
إتصلت بأخيه نزار .. وجدته أصلب عودا ..
و إتصلت بأخته ( إحسان ) ... فكان الحزن مندلقاً نحيباً لم تشفع لدموعي أيضاً بالنزول ..
لا أستطيع حتى على إخراج كلمات المواساة..
أخته ( فريال ) بكتْه نادبة بأسلوب الحبوبات : يا سندنا و إتكالْنا ...

إلى الآن لم أتصل بالسودان معزياً ... أخاف أن أسمع من أمه بكاءاً فتخذلني دمعاتي ..
أكتب هذا و حروف الكيبورد غارقة في بعض دمعي الذي تكرم و جاد علي الآن فقط ..
غريب أمري و الله ..

المهندس جبارة مختار
خريج جامعة الخرطوم
أتى للسعودية قبل بضع سنوات ..
عمل في شركة زراعية ..
ذات يوم تعب من العمل فقال للمهندس المصري زميله : بروح أرتاح في البيت و أرجع ..
فقال له المصري : ليه تتعب نفسك رايح و جاي .. خدْلَك تعسيلة تحت الشجرة دي ..
فنام جبارة قرير العين .. واثقاً بأن أمة محمد ( كالجسد الواحد ) ...
فأتي المصري بصاحب العمل و قال له : شوف السوداني نايم وقت العمل و في مكان العمل.
فغادروه للسودان ...
غادر و هو يضحك مندهشاً من هذا التصرف ... أو على هذا الدرس الجديد الذي كلفه الكثير ..
مكث في أهله قليلاً ...
ثم أتى للعمل مرة أخرى للسعودية ...
بالطبع لا يدري أن الله قد أتى به لمكان موته و دفنه ...
القبر ينادي صاحبه ...
و الموت يدغدغ عقل الإنسان الباطن ...
فيودع أحبابه دون قلق ... و دون أن يشعر بأن ما يقوم به هو وداع مبطن بالرحيل ...

رحل جبارة في صمت ... على غير نمط حياته الصاخبة بالفرح الذي كان يزرعه ... و ضحكته المجلجلة و مشاغباته التي لا تنتهي.
مات بعيداً عن أسرته ... و عن أقاربه بالرياض ...

البركة في ولديه و بنتيه ..
و العزاء لزوجته المكلومة ..
و لأمه المفجوعة ..
و موصول لإخواته و إخوته ...
و كافة الأهل ...

Post: #120
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-21-2014, 08:57 PM
Parent: #119

إستيقظ على غير عادته في الصباح الباكر ، وعشرات المطارق تهوي على رأسه ، فقد أكثر من الشرب بالأمس مع صديقه وجيرانه ..
إرتدى ملابسه على عجل ، و أيقظ زوجته النائمة بكامل هندامها منذ ليلة البارحة الصاخبة بمناسبة حفل الوداع ..
رشف كوب الشاى واقفا ..
عانق رفيق دربه وجيرانه الذين حرصوا على الحضور مبكرين لوداعهما مجاملة لصديقه الذي إستضافه ريثما ينطلق إلى وجهته ..
ليلتها ...سهر كل الجيران ،، و النساء في حلقة حول زوجته الروسية التي أصرتْ على نقش الحنة على كفيها وقدميها..
إنطلق في بواكير الفجر لمحطة الخرطوم ، وزوجته الروسية تعانق النساء والفتيات والصغار والدهشة تملؤها من هذه الحميمية و هي التي لم تمكث معهم سوى أسبوعين.... تردد كلمتى ( الله يسلمك ) بكسر الميم للإناث والذكور معا ..
الليل يلملم بقاياه ، وتباشير الفجر الجديد تدخل الرهبة إلى قلبه ،، فالأيام القادمة حُبْلَى بالكثير ، تذكره بأيامه الأولى روسيا.
ترجل من التاكسي عند محطة السكة حديد ودفع الأجرة و هو يتحسس المبلغ المتبقي في جيبه ( ورقتين من فئة الخمسة وعشرين قرشا ( طرادتين ) و بضع قطع من العملة المعدنية ..
تحسس علبة ( البرنجي ) في جيبه وجوازىْ السفر وعلبة الثقاب.
نظر إليها ، فرآها متجهمة الوجه تنظر حولها في قلق وإرتياب ، فهو لم يحدثها عن كل شيء هنا ، لذا تقبَلتْ واقع الحال بما يشبه الصدمة.
ليلة الأمس إحتستْ معه بضع كاسات من ( مشروب العرقي ) ، ثم أمطرته بلغتها الروسية بسيل من الإحتجاج ، إحمرَ وجهها وصار كقطعة طماطم ناضجة وقالت : لم أكن أدري أن هناك مشروبا في الدنيا أسوأ من ( الفودكا ) الرخيصة في ( كييف ).
عند محطة السكة الحديد ..
تربض عربات القطار في صف طويل ..
تسلل بحذر إلى عربة من عربات درجة النوم وساعدها على تسلق السلم الخشبي للسرير الذي في الأعلى ، ثم أغلق الباب بالمزلاج من الداخل ، وتمدد على السرير الأسفل .
راحت هي في سبات عميق واضعة الوسادة على رأسها.
راح يستعرض أيامه الخوالي في عطبرة ،،
الشوق يملؤه لهذه المدينة بعد غربة دامت ست سنوات...
إيهي يا مدينة الحديد والنار .. كيف أنت الآن ؟
أين يا ترى زملاء الدراسة ورفقاء الحى ؟
سبح في ذكريات تفوح منها رائحة معطف والده المعطون بزيوت الورش ، وليالي عطبرة تداهمها ( الكتاحة ) دون إستئذان..
عجلته ( الرالي ) و هو يجوب بها شوارع حى ( القيقر ) مرورا بشارع ( الرى ) حتى المكتبة القبطية وشوارع ( حى السودنة ) الهادئة لا يقطع وتيرة هدوءها غير صوت المياة المندفعة عبر الجداول الواسعة لتسقي الحدائق المسورة.
ثمار ( المسكيت ) ، كانت البديل للزونيا في الطريق المؤدي إلى ( حى العمال )، يهاجر إلي هناك مع أقرانه ( فرادى ومردوفين على العجلات ) أو إلى ( الداخلة ) لتمتليء الجيوب بالثمار الخضراء والصفراء الجافة.
ترى أين أنت يا ود سيد أحمد ؟ عندما رأى لأول مرة ( حجَة المَرَرُو ) تحمل وليدها مربوطا خلف ظهرها أطلق ساقيه للريح و هو يصرخ ( و الله عندها راسين ).
آخر عهده به كان في مدرسة الأقباط الثانوية و بيت الأستاذ ( باخوم ) القبطي و الذي كان يتلقى أحيانا ثمن الدروس الخصوصية ( دجاجة أو عتودأ حنيذا ).
تململتْ زوجته و هي تهذي في السرير ، قام وتأكد من أنها لن تسقط على الأرض.
لم يشعر بتحرك القطار فقد جرفته الذكريات.
نظر من النافذة ، هاهي مدينة بحري تتوارى شيئا فشيئا ،، والحنين إلى عطبرة يتزاحم في رأسه المثقل كضربات المعاول تتناغم مع دقات قلبه.
شعر بالخوف ، فهو لم يشترِ التذاكر ويحتل رغم ذلك غرفة كاملة بدرجة ( النوم ) المخصصة لكبار موظفي الدولة والسكة الحديد.
تذكر صديقه الذي كان والده مفتشا للتذاكر ،، و هو الذي شجعه للبعثة الدراسية وساعده كثيرا عن طريق خاله المُتَنَفِذ في إتحاد العمال آنذاك.
رنَتْ في أذنه أغنية لحسن خليفة العطبراوي تغنى بها في حفل زواج في حى ( أم بكول ) نزولا عند رغبة العريس المنتمي سرا للحزب الشيوعي ،، كان يرددها كثيرا في ( كييف ) ، حتى حفظتها ( ميزالونا ) زوجته عن ظهر قلب دون أن تعرف معانيها ( نحن من نفر عمروا الأرض ... )
كم هي وفية هذه المرأة ،، وقفتْ إلى جانبه كثيرا خصوصا عند أيامه الأولى و في دروس اللغة ، وأمدته بالمال عندما شح مورده ،، إقتسمتْ معه لقمتها. و هاهي تطرق المجهول معه بكل شجاعة ،، فهما لا يدريان إن كان سيوفق في إيجاد عمل أم لا ،، فقصة بابكر صديقه ماثلة أمامه ، و الذي تخرج من كلية علمية ونال الماجستير في تخصصه ،، ثم رجع للسودان وتسكع في شوارع الخرطوم يبحث عن عمل حتى حفيتْ قدماه ،، يشرب المنكر ليلا و يلعن الحكومة باللغة الروسية في بص ( أبو رجيلة ) و تارة في بيوت الأفراح مستأذنا الفنان بعد أن يقتلع منه المايكروفون وتارة في بيوت المآتم التي يدخل صيواناتها دون أن يتجشم عناء (رفع الفاتحة) مكتفيا بمصافحة أهل الميت متمتما بكلام مبهم غير معروف إن كانت بالعربية أم بالروسية ، وأخيرا تم تعيينه في وظيفة لا يدري حدود مسئولياتها في مكتب يعج بالملفات القديمة في وزارة الصناعة ، يحضر صباحا ويأكل الفول المصلح في صحن عميق.. تآكل معظم طلاؤه ، ثم يتجه لموقف الباصات متجها للكلاكلات يتقي شر أشعة الشمس بجريدة مشبعة بزيت الإفطار الصباحي يردد أغنية قوقازية بصوت أجش .. فأنطبعتْ شخصيته في أذهان سائقي الباصات و الكمسارية ، فكان ما أن ينطلق في الغناء حتى يقول السائق ضاحكا : يا ولد ما تاخد من الروسي الأسود دة ..
طافت به الذكرى في ميادين الكرة بالقرب من المدرسة الأميرية ،، وعبَقتْ خياشيمه رائحة الشواء في ميدان المولد ،، و صوت ( النوبة و المديح ) ينطلق كل ليلة ..
تذكر بار ( تساكوتلس ) و هم ينهبون منه زجاجات ( الشري ) يوم مظاهرات أكتوبر التي إكتسحتْ المدينة حتى ( شاليهات حسن عربي في المقرن ) التي لم تسلم من نقمة الناس و تفريغ شحنات غضبهم المتنامي ..
دوتْ في أذنيه صافرات الورش و البخار الذي تنفثه قطارات المناورة ،، و صخب العمال و هم يتدافعون بعجلاتهم عند مزلقان القطار المؤدي للسوق الكبير...
عربات الكارو تزحم طرقات السوق الكبير
طالبات الكمبوني بزيهم الكحلي المميز
صف سينما الجمهورية و السينما الوطنية
الإشاعة التي إنطلقتْ بأن أحدهم سيدلق كمية من السم في صهريج الماء بحى ( الفكي مدني ) إنتقاما من بعض المسئولين ...
ليل المدينة المغلف بحكاوي ( أبو جنزير ) .. الحقيقية منها و المختلقة ...
سمع طرقا عنيفا على الباب و محاولة لفتحه من الخارج ، فأيقظ زوجته على عجل و تهيأ لمعركة مجهولة العواقب.
فتح الباب و هو يرسم البراءة و الدهشة في آن واحد.
قبل أن يشده العسكري من يده ، كان قد إستبق دهشته وعانق مفتش التذاكر : عمي باشري ، الحمد لله اللقيتك.
كان محظوظا للغاية ،، فالمفتش صديق حميم لوالده ،،
جلس يحكي له سنوات إغترابه في روسيا.
ضحك العم باشري كثيرا ( قلبك قوي خلاص .. الشيوعيين علموك المجازفة ؟ ،، تركب مجانا كمان في درجة النوم ؟ يعني فقري و نُزَهي ) ..
سمح له بمواصلة الرحلة حتى الدامر بنفس الدرجة ، فالغرفة ( القَمَرة ) محجوزة لأحدهم من هناك حتى وادي حلفا.
عندما وطئتْ قدماه أرض عطبرة ، ودَ أن يسجد لله شكرا و يعفر جبينه بتراب هذه المدينة التي تسكن روحه.
إختلطت دموعه مع دموع أمه و والده و إخوته ،،
و الزغاريد تنطلق من الجارات و هن يسترقن النظر إلى ( قطعة الجبن ) الواقفة تتلفت في حيرة و توجس ، و نقش الحناء الأسود يشكل لوحة مع بشرتها ناصعة البيضاء.

وللقصة بقايا إغترابية .............

Post: #121
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-26-2014, 00:09 AM
Parent: #120

نواصل

Post: #122
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-26-2014, 09:09 PM
Parent: #121

الرياض ( غرة شوال 1399هـ )
أختي العزيزة :
قبلاتي لك ولكل أفراد الأسرة.
أكتب إليك وأنا أداعب أصابع فلذة كبدي ( فواز )،، ثم أعود للكتابة مرة أخرى وكأنه يلهمني الكتابة هذا العزيز الغالي.
يشبهني كثيراً،، هكذا يقولون.
أختي العزيزة.
أعرف أنك غاضبة مني لأسباب كثيرة، فأعذريني أولا لأني لم أكتب لك منذ سفري مع زوجي، وأظنك تعرفين السبب. وأعذريني لأنني أسْمَعْتك كلاماً جارحاً عند زواجي لتدخلك في قراري.
أعرف طيبة قلبك وحبك لي وأعرف أن قلبك لا يحمل حقداً على أحد.
أختي الحبيبة :
تذكرين تماماً إصرار الوالد على زواجي من هذا الشاب الذي أختاره لي، ولحظات ثورتي وجنوني ومقاومتي بكل السبل والتي كانت كصرخة في وادٍ، وتذكرين تماماً الوقائع والأحداث ولا داعي لذكرها هنا.
فأبي أراده صاحب وظيفة مرموقة ومن أسرة عريقة وأن يكون على خلق.
بالطبع تنطبق عليه كثير من هذه المواصفات،، ولكنني بكل بساطة كنت لا أعرفه ولم أحبه،، لأنه يختلف تماماً عن ما رسمته في مخيلتي لشريك حياتي.
مقاومتي كانت كبيرة وشرسة ،، أليس كذلك؟
لذا فقد إستعمل أبي ذلك السلاح الذي قطع به كل حبالي التي أتشبث بها،،
وأغلق أمامي كل طريق، و سد كل المنافذ حين قال :
( أنا بريء منك إن لم تتزوجيه ).
ماذا أقول وماذا أفعل بعدها؟ كانت متاهة لا قرار لها.
ثم وافقته أمي كعادتها بصمت مطبق ، ووقفت حائرة بيننا.
أختي العزيزة :
لقد أسمعتك كلاما جارحاً لأنك وقفت مع أبي ضدي وجاريت أبي في إصراره، لذا قلت لك في لحظة غضب: لم لا تتزوجيه أنت ؟
وأنا أعلم أنك وقتها كنت مخطوبة ،، فأعذريني أختي،، كلمة جارحة خرجت من قلب مجروح.
ثم ماذا ؟؟ هل تريدين أن أخبرك كيف سارت حياتي بعد وصولي إلى مكان عمله هنا بالغربة ؟؟
أعلم أن زوجي كان يعرف رفضي القاطع له،، فلماذا أَصَرَّ إذن على الإقتران بي؟؟
هل هو مجرد امتلاك أنثى؟
يريد فتاة جميلة تلد له الأطفال؟
لماذا أنا بالذات؟
تزاحمتْ الأسئلة في رأسي ولكنني لم أجد الإجابة الشافية لأي منها ،،
هل هو من النوع الذي لا يهمه رأى الفتاة ؟
هل هو من ذلك الطراز العتيق في لبوس رجل متمدن متعلم ؟
خفت كثيراً من انتقامه مني بعد الزواج في هذه الغربة بعيدا عنكم.
ولكنني فوجئت بمعاملة كريمة لدرجة أنني شككت في أمره،، فقلت ربما يريدني أن أركن إلى الإطمئنان قبل ذبحي بمعاملة إنتقامية لاحقة تجعلني أهرب أو أنتحر أو يصيبني الجنون في هذه الغربة.
ولكنه كان يوماً بعد يوم يزداد رقة وينساب لسانه بكلام يذيب الحجر .
طلباتي أوامر .
لا يغضب مهما فعلت أو قلت .
يتحاشى إزعاجي فيتسلل إلى الفراش بهدوء يدب كدبيب النمل إن تناومتُ .
يصمت إن تجاهلت الرد عليه .
يأتي محملاً بالأكل من المطاعم إن عرف أنني لم أطبخ بسبب أو دون سبب .
أتمارض،، فيقوم بأعمال البيت دون كلل أو ملل.
خفت يا أختي من هذه المعاملة. بل أصابني الذعر، فقد كنت أتوقع سياط الانتقام تلهب جسدي، ولكن رعونتي كان يقابلها بفيض من كرم الأخلاق.
خوف لا مبرر له أليس كذلك ؟ ولكنني خفت و سكن الجزع قلبي.
قلت ربما هذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة،، أو التنويم في العسل ثم تبدأ لسعات النحل.
فقررت يا أختي أن أغوص في مغزى تصرفاته ،، أو بالأصح أختبر غيرته.
ذات يوم لبينا دعوة عرس،، وفي الحفل تعمدتُ أن أتحدث مطولاً مع شباب لا أعرفهم وأمازحهم وأضحك بأعلى صوتي،،
رآني أكثر من مرة،، ولكنه لم يطرف له جفن ولم يقطب جبيناً.
رجعنا للبيت وأنا مستعدة لمعركة حتمية تنتهي بالضرب أو الطلاق، ولكنه لم يسألني حتى عن هؤلاء الشباب.
إنتابتني فورة غضب ،، قلت له :
ألم تلاحظ شيئاً في الحفل؟
قال بهدوءه القاتل : نعم لاحظت.
فَغَرْتُ فمي من الدهشة ،، إذن رأى كل شيء ولكنه لا يهتم؟
إذن هو في سبيل الإحتفاظ بي لا يبالي ؟
ولكنه فاجئني بهدوء ،، وقال بكل ثقة :
رأيتك تحادثين شباباً وأنا واثق أنك لا تعرفينهم وأنا لا أعرفهم أيضا،، كل ما في الأمـر أنني أعـرف أنني أثق بزوجتي وأعرف أنها يهمها كرامتها وشـرفها لذا لن أخاف عليها ولو كانت وسط غابة من الرجال.
صـفعني بهذه الكـلمات ،،
كنت أتوقع أن يثور ويتهددني وينذرني بعدم معاودة مثل هذه الأمور.
ولكن اللئيم ربما عرف مناورتي،، فجرَّعني دواءاً من جنس الداء.
توالت الأيام أختي العزيزة وأنا أتفنن في تجاهله،، وهو يزداد في إكرامي بإفراط لا يصدق.
أتحدث في الهاتف بالساعات،، فلا يسألني عن سبب إنشغال الهاتف.
أتعطر وأخرج في كامل هندامي لزيارة جاراتي،، فيعود للبيت،، فيدخل إلى المطبخ ويعد طعامه بنفسه ،، وعندما أعود يسألني إن كنت قد أمضيت وقتاً ممتعاً.
فأصاب بخيبة أمل كبيرة.
كل ما حدثتك عنه شيء،، وما حدث بعد الحمل شيء آخر.
عندما أحسست بالحمل وبدأتْ متاعبه ، جن جنونه يومها واقتادني مترفقاً ولهاناً كأن التي معه تحفة غالية من الكريستال،، كاد أن يحملني من على الأرض حملاً.
وعندما عرف من الطبيب خبر الحمل،، كاد أن يقبلني أمام الطبيب والممرضات لولا أن أشحت بوجهي المُحمَر خجلاً.
طوال أشهر الحمل،، وهو يتغيب عن عمله أكثر من مرة في اليوم،،
ويسألني عن ما تشتهيه نفسي،، فأكابر وأقول : لا شيء. لا أريد شيئاً.
كنت لا أطيق سماع صوته،، فحبست نفسي في غرفتي لا أخرج إلا للضرورة.
وهو يروح ويجيء طوال الليل بين غرفتي والصالون حيث ينام.
أعترف أنني كنت رعناء،، وتصرفت بغباء ،، ولكنه العناد ضد إصرار أبي.
يوم الـولادة،، كان كأم العروس، يدخل ويخرج ثم يـجلس ويقف،،
منذ إحساسي ببدء الطلق وحتى ذهابنا للمستشفى،، كان مذعورا يمسح العرق عن جبيني ويبتسم لي من خلف قلب وَجِل.
كنت خائفة،، مرت من أمام عيني صورة أمي وأبي وإخوتي،، مرتْ حياتي معه كشريط سينمائي، فطغتْ على روحي سحابة من ندم عظيمة ..
ندمتُ يا أختي،،
أقسم لك بالله ندمت ،
وددت لو قلت له سامحني ،،
وددت أن أطوقه بكلتا يدي وأطلب منه السماح ،،
إمتلأتْ عيناى بالدموع حتى حجبته عني ،،،،
ولكنني لأول مرة أشعر بأن بجانبي رجل يمكن أن أستند عليه وأن أعتمد عليه.
رجل يخاف علي خوفاً حقيقياً يعادل خوف الوالدين.
رجل يحيطني بظلال من الطمأنينة دون أن ينتظر حتى إبتسامة مجاملة.
لم يجد مني غير الإذلال،، حتى سـخـر منه كل معـارفنا وجيراننا.
عرفت الآن يا أختي أنه كان متشــبثاً بحبه متين الأركان ،،
وأصدقك القول،، أنني ناديته بأســمه لأول مرة منذ زواجنا وأنا أدخل غرفة الولادة،، فأسرع نحوي وكأنه وجد كنزاً،، متهلل الوجه تعلوه ابتسامة رضا كبيرة،، وأحاط يدي بكلتا يديه ولثم جبيني بقبلة أحسســت بحرارتها تقتل كل آلامي النفسية والجسدية وتذيب خوفي وتحيطني بطمأنينة وارفة.
وعـندما أفقتُ،، وجدته يجلس بـجانبي ينظر إلي بحنان ،، وقال وابتسامة عريضة تكلل فمه:
يشبهك كثيراً فواز
لم أعترض على الاسم هذا الذي ربما أختاره لشيء في نفسه،، فقد أختار إسما ينطبق على حالته ،، فقد فاز بي ،، وفاز بحبي.
أبني فواز ملأ على حياتي.
أحادثه إلى أن يعود زوجي، وأبثه اعتذاري عن ما سببته لوالده طوال الأشهر الفائتة فأحس براحة نفسية .
أختي العزيزة :
هناك أمر يقلقني الآن.
أحس إحساساً غريباً بدأ يدب في كياني.
أحس وكأن مشاعره قد فترتْ.
لم يعد متلهفاً.
شيء ما أنكسر في نفسه وبدواخله.
لا يتحدث معي،، ويتحرك بآلية ،، ويرد فقط على أسئلتي.
لم يعد ذلك المملوء شغفاً وشوقاً.
يا خوفي أختي العزيزة أن أفقد حبه حينما دخل قلبي.
هل تُراني واهمة ؟
أم أتراه أدمن تمردي وجموحي وصدودي ؟
أنا خائفة أختي العزيزة ،، أرجوك أكتبي لي

أختك : أم فواز

Post: #123
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 08-28-2014, 08:29 PM
Parent: #122

كان صلاح يعيش في سعادة و وئام مع زوجته سعاد و أولاده في بيت الإيجار بالخرطوم. والحالة و الحمد لله رضا،
و لكن بعض الزوجات يمْدُدْنَ أصابع اليد و ) يطبزن عيونن براهن(.
فقد بدأت تزن في إذن زوجها :
هي يا صلاح ، لمتين نقعد في بيت الإيجار ؟ مستقبل الأولاد ديل بعدين كيف ؟ شوف ناس فلانة و علانة ، قوم إغترب يا صلاح عشان نبني لينا بيت.

و كما هو معلوم فإن بعض ( الزَّن على الأذن ) أقوى من السحر. فقد توكل صلاح على الحى القيوم ، و إغترب و هو غير مقتنع.
وفقه الله في عمل ، و إستطاعت سعاد خلال سنة من عمله أن تشتري أرضا في منطقة عشوائية و تسوِّرها.
و بعد سنة أرسل لسعاد بأنه سيأتي في الإجازة ، فردت عليه : إنت يا دوبك سنة مما سافرت ، أقعد ليك كمان سنة و بعدين تعال. أحسن تستفيد من إجازتك في الشغل ) أوفرتايم )
و بعد السنة التانية ، عاجلته سعاد بأن لا تأتي لأننا شرعنا في البناء و حق إجازتك رسلو لينا نستفيد منو في حاجة هنا. و أحسن تشتغل في الإجازة و تاخد حقها قروش.
و إشترت سعاد قطعة أخرى.
و هكذا إلى أن أكمل صلاح خمسة سنوات بالتمام و الكمال ، كانت فيها سعاد قد أكملت بناء البيت ذو الستمائة متر مربع و بدأت تفكر في مشاريع أخرى.
و نسيت سعاد في غمرة النشوة بإنجاز أشياء كانت تقبع في أحلامها ، نسيت حقوق زوجها و أنه مشتاق لأولاده. و لكن الأيام تخطط لكليهما أمرا آخر.

خلال هذه السنوات ، كان صلاح يذهب كل يوم جمعه (ليتغدى) عند صديقه وزميل دراسته أحمد الذي أتى محرما لشقيقته المعلمة.
و توطدت العلاقة مجددا بينه و بين أحمد ، و لكنها كانت مع الأستاذة ذات نكهة أكثر حميمية ، فتزوجها على سنة الله و رسوله دون أن تدري سعاد.
و عند أول إجازة صيفية ، إشترى صلاح بالإشتراك مع الأستاذة لوري نيسان ، و ذهبا سويا للسودان ،
ثم رأسا لمنزله الذي قامت سعاد ببنائه ، بيت جهامة و مؤثث.
و بعد أن قامت الشكلة و العكة الكلامية و ( النبذي والذي منو) و هدأت النفوس ، و الرضاء بقضاء الله و أمره المحتوم. طارت شكلة لي رب السما مرة أخرى :

سعاد تقول أن اللوري يتبع مخططاتها التوفيرية. و البيت من شقاها.
و الأستاذة تقول أنها شريكة في اللوري ، و أن البيت لها فيه نصيب فهو من عرق زوجها ، و صلاح لايص في النص و هو يكورك :
يا جماعة أنا مت عشان تقسمو الورثة ؟؟؟؟ ، أنا حى يرزق. ملعون أبو اللوري و ملعون أبو البيت.

بالنسبة لصلاح ، كانت الإجازة غير عادية ،
فبالرغم أنه كان مشتاقا لأولاده و لسعاد ، و لكن نقة الزوجتين ، بالإضافة للحر الذي تضامن مع الضرتين ، جعله كل هذا يقطع هو و حرمه الأستاذة الإجازة و عادا لحضن المكيف الصحراوي.
أما سعاد ، فقد صارت تردد : براى السويتا بي إيدي. شلتها و قلعت بيها عيوني.

Post: #124
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 09-16-2014, 07:20 PM
Parent: #123

( لندن ... ذات شتاء )
أختي العزيزة :
سلام بقدر حجم إشتياقي لكم الذي لا يوصف.
حزنت كثيراً لعدم حضوري حفل زفاف إبنة الخالة الأخت العزيزة سارا.
أرسلت لها خطاب وبطاقة تهنئة.
في إنتظار شريط الفيديو مع طلباتي التي ذكرتها لك.
أختي الحبيبة :
عندما كنا نناقش في البيت موضوع ســفري إلى لندن ، كنتُ متحمسـة للغاية ....... و روح المغامرة وإكتشاف المجهول يغمران كل إحساسي و روحي، و لأن أبي يعرف طبيعتي العنيدة ، فقد وافـق على مضض رغـم إحـتجاج أعـمامي وأخوالي و رغم إنتقادهم له.
كم أحب أبي الحنون هذا ، فهو إن إقتنع بشيء ، لا يهمه رأى الآخرين ، أهم شيء أن يرضينا. يحفظه الله لنا.


أختي العزيزة :
بعد أن أتيت إلى هنا ، تملكني خوف خفي ، ربما لأنني دون الحماية الأسرية المدعومة بنصائح أبي وتحذيرات أمي ، حتى مناكفاتك وإنتقادك لي أعتبرها حماية إفتقدها.
و لكن ، إنها خطى كُتبتْ علينا و من كُتبتْ عليه خطى مشاها .
هذه كلمات مجنونك صلاح . أتذكرين ؟
ألا زال صلاح يبثك حبه ونجواه ؟ إلى أي مرحلة وصلت علاقتكما ؟ ألم يجد عملاً مناسباً بعد ؟ أرجو أن تخبرينني بالتفصيل عن كل شيء ....
أختي الحبيبة :
بالأمس فقط إنتقلت إلى شــقة أخرى في منطقة (ويمبلدون) ، وبالرغم من أنها بعيدة ، والمسـافة ( بالأندرقراوند ) مُملة ومرهقة ، إلا أنني مرتاحة الآن بعد أن إنتقلت من تلك الشقة التي حوّلتْها زميلاتي بالسكن إلى مكان مشبوه والعياذ بالله .

أختي :
الشاب الذي حدثتك عنه ،، لا أدري ماذا أقول لك عنه ، و لكن بإختصار تعلقت به تعلقاً فاق الحد.
إكتشفت بعد فوات الأوان أنه يصغرني بعامين..
أعرف ماذا ستقولين و وجهك يملؤه الدهشة .. و لكنني أحبه يا سلمى ،، أحبه حباً ملك على كل جوارحي،، هل حرام أن أحب من يصغرني ؟
هو الآن هاجسي و وسواسي ،،
إن لم أره يوميا ،، أكون كالضائعة و تنتابني حالة من الهستيريا.
صال و جال في قلبي و تنقل في جنباته حتى صار خياله أدرى مني بشعاب جوارحي.
عذراً أختي ،، أعرف أنك ستستغربين لحالتي التي وصلت إليها ،، و لكن هذا الرجل تسلل ببساطة إلى تجاويف عظامي و سكن مع النخاع .
يتلوى مع مفاصلي.
أحرقني ،، و تسرب إلى شراييني دماءاً.
إندس في تربتي ،، فأنبت فيها حدائقاً من زهور السوسن.
و لكن المضحك المبكي ،، هو أنني أســبح في بحر عذابي و حبي ،، بينما هو تائه في دنيا أخرى .. لم أتوقع أن يلهث وراء تلك الطائشة زميلته ،، التي تتنقل كما النحلة من زهرة لأخرى.
هل تصدقين ؟ هي لا تحس بوجوده ،، و هو يكابد و يجاهد كى يحظى بإبتسامة منها.
و أنا أتلوى في محرقة اللوعة ،، و هو لا يحس.

أعرف ،، ستقولين صارحيه ،،
و لكنني أقول لك ،، فضحتني تصرفاتي ،، كلهم يعرفون تلهفي عليه ،، فلو أشار بأصبعه سيجدني راكضة إليه ،، أجثو عند قدميه.
هل أنا عديمة إحسـاس و كرامة ؟ أعرف أنك لن تقولينها ، و لكن نظرات الكل هنا تقول بأنه يجب أن أنسحب بكرامتي.
و أنت تعلمين مبدأي في الحب ، فالحب ليس إمتلاك ، و لو دخلتْ مفاهيم الكرامة في قاموس الحـب ، لمات و إندثر.
( يضرب الحب ،، شو بيذل ) تنطبق هذه المقولة الشامية على حالتي تماماً ..
و فعلاً أحس أحيانا بالذلة و الإنكسار ،، و لكن ما أن أقول وا .. كرامتاه و أرغب في الإنتصار لعزتي و شموخي،، حتى ( يطبطب ) حـبه على ثـورتي فتهدأ فورة الكـرامـة و ينطفيء فتيلها المتقد و تموء عزتي كالقطة التي تتمسح بالأرجل ، و يرتعش شموخي كشمعة في مهب الريح.

رأيته بالأمس ،، متأنقاً متعطراً متهندماً ،، يقف بحيث تمر فتاته فتراه ، ألقيت عليه التحية ،، رد دون أن ينظر إلي ،، وقفت قربه ،، فنظر إلي و في عينيه إستعطاف و رجاء بأن أبتعد ،، فوقفت و أبديت عدم الفهم ....
فقال من بين أسنانه : كيف الحال ؟ معليش أنا مشــغول و منتظر واحد.
قلت في نفسي ،، أعرف أيها التائه عني ما تقصده ،، و لكن أرجوك إنشغل بي وحدي ، فأنا لن أدعك تنتظر ،، تعال وقتما تشاء ،، فسأكون أنا في الإنتظار ،، يتوقف الزمن عند محطة لقياك.
ستسألينني ،، ما الذي أعجبك فيه حتى تندلقين كل هذه الإندلاقة ؟ و أن هناك ألف رجل يتمناني .
أنا نفسي لا أعرف الإجابة على هذا السؤال .
حبه يحمل حراباً مضمخة بسحره الخاص ،، يحمل سيوفاً مدهونة بغموضه المحبب حتى مقابضها.
فقد مد يده ذات صباح جميل و صافحني بحنان دافق.
و هو أول سوداني أراه عند بداية غربتي ،، و فرهد قلبي كما قلب طفل عندما قال لي :
دة يوم جميل و سعيد إني أصابح واحدة من بلدي.
قالها و إبتسامته العذبة ترقد على جانب فمه و هو يقدم لي كوباً من العصير ،، شربته دون أن أعرف ما هو .
و من يومها ،، و أنا أذهب لنفس المكان ،، أجده فيه دائما ،، أتذوق طعم ذالك العصير في فمي ،،
و لكنه يتجاهلني من أجلها ،، و أجلس و أستحضر كلماته تلك ،، فتكتفي نفسي بصداها و رجع سحرها.
حبه يعطيني دافعاً للتفاني في عملي و دراستي .
قوية أنا بحبه ،، و ضعيفة أنا بحبه ،، تناقض فريد يتجاذب حياتي كتروس ماكينة ترفعني تارة ،
و تارة تغور بي إلى واد سحيق لا أمل في الخروج منه.
و لكن ..
تعرفين أختك ،، رغم طيبتي ،، إلا أنني عنيدة ،، لا بد أن أحظى بما أريد ، و بما أنني أتمتع بنَفَسٍ طويل و طولة بال، فسأنتظر حتى تمل منه تلك الغريرة ،، و أعرف أن الأمر مسألة وقت ،، حينها ســيلجأ إليَ ، فأنا أرصده بقلبي و عقلي ،، فلن أجعله يطأ أرضا أخرى غير رمال قلبي العطشى ،،
و وقتها ، عندما تعود طيوره التائهة لواحتي الظليلة الوارفة،سأعلمه معنى الحب، و ألقنه مفرداته،
و أبدأ معه من ألف باء غرامي دون كللٍ أو ملل ،،
و عندما يتذوق هذا الرحيق المصنوع من ترياقي ،، سأدسه هذا الحبيب في قوقعتي ، و وقتها سيعرف أن التي تـقبع هاجـدة و مستكينة بقربه ،، هي لؤلؤة كاد قلبها أن ينفجر من نبض حبه.

لك حبي أختي العزيزة ..

Post: #126
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 10-07-2014, 03:39 PM
Parent: #124

الاغتراب هو صراع الإنسان مع أبعاد وجوده،
و هذه الأبعاد هي البعد الحسي
و البعد القِـيَمي
و البعد الميتافيزيقي
****

قواسيب المقال من حصاد الترحال :
ساقتني الغربة أول ما ساقت .. إلى الخليج.
و لولا نفر كريم من أبناء جلدتي وقتها ممن حقنوا أنفسهم بترياق المنافي ، لولاهم لولّيت الفرار من أول شهر ..
فقد خففوا وطأة الغربة و هجير البعاد عن أرض الوطن .. ( يعزونني بكلمات و عيونهم تنضح بالتوق للوطن و بالشوق للارتماء في أي ركن من أركانه ).
فكانت هذه المرحلة نقلة نوعية في نهج الحياة.
في شمال البلاد ، حيث مسقط رأسي الذي لم أتشرف بزيارته إلا بعد أن ترسّختْ في ذهني قناعة بأن أتبرا هي موطني و مسقط رأسي .
ثم توغلتُ في أرض الشمال العريق ، كمعلم في مدارس منطقة حلفا و أرض ( السكّوت ) ودنقلا ثم أتبرا و الدامر ثم إلى حلفا الجديدة.
عام 1978م كنت قد صممت على ارتياد معهد الموسيقى لتنمية موهبة تلازمني منذ الصغر ، و هي موهبة العزف على آلة العود ، فجلست لاختباراته و لم أنتظر حتى النتيجة. عدت إلى حلفا الجديدة ، عدت إلى حميمية أهلها الذين تحس و كأنهم لا زالوا ضيوفاً على أرض البطانة.
و من ( حلفا الجديدة ) إلى عتامير نجد بلا أي تخطيط مسبق ، هو بلا شك نقلة نوعية تمتد إلى كل مناحي الحياة. بل هي كالصفعة على حين غرة.
فأنا أبن طينتي متشبثٌ بها أعمق ما يكون التشبث ، تنغرس روحي في أماكن و بلدات لها عبقها حتى و أنا أقبع في ذلك الزمان في ( دنفر كلورادو ) أو محاولاً تعلم التزلج في ( آسبن بكلورادو ) ، أقارن أعمدة ( التليفريك ) التي تنقل المتزلجين و المتزلجات ما بين الجبال التي تكسوها الثلوج ، أقارنها بأعمدة مصنع أسمنت أتبرا الواقع على طريق ( أتبرا و الدامر ) التي تنقل صخور الجرانيت من الضفة الغربية إلى المصنع بنفس مبكانيكية ( التليفريك ).. و شتان بين المنقولين هنا و هناك.
الغربة في الخليج تعطيك نوعاً من الركون إلى اتخاذ قرار بالعودة في أي وقت تشاء ، و أرتال المقيمين بها يعطونك نوعاً من إلفة رغم القلق البادي على الوجوه من انفصام داخلي سببه تغيير أنماط الحياة و التقيد بقوانين لم يألفوها ، و الساعة البايولوجية تعمل باستمرار وِفْقاً لما كانت عليه في ( حي أمبكول ) بأتبرا أو في ( بري اللاماب ) بالخرطوم ، بنفس تروسها وعقاربها و روزنامتها المغموسة بتوابل البلد و مياهه.
و لكن في الغرب الأقصى ، يتملكك إحساس بانسلاخ غريب فتنتابك حالة من تقريب الرؤى قسراً بين حشود الاندهاش اليومي و في كل لحظة ، و تكون في حالة مقارنة كل شيء بكل شيء هناك في مراتع البلد.
ثم جاءت المرحلة الأخرى من الهجرة .. إلى أوروبا الغربية بمدنها الساحرة ( باريس . لندن . فيينا . جنيف. مدريد. البندقية. أثينا. روما ، لوس أنجلوس .. آخن . ) ..
فكان الانبهار بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ..
و تلاشت رويدا رويدا مرارة الاغتراب .. و بقيتْ فقط أجراس الحنين تقرع في الذاكرة ..
و استمرأت السفر ، و التنقل من فندق إلى آخر .. أتحقق من دروس الجغرافيا و التاريخ التي تسكن قاع ذاكرتي ..
أذكر عندما وقفت لأول مرة في ( البيكاديللي ) أحدق في متحدث يتجمع حوله خليط من البشر من كل أركان المعمورة ، تذكرتُ أستاذي ( كمبلاوي ) عندما كان يقول لزميلنا الذي كان يكره حصة الإنجليزي كراهة الموت :
يا حسين إنت حقو يودوك البيكاديللي ، غصبا عنك كنت حتجينا لاوي لسانك.
كنا نظن أن البيكاديللي مدرسة صارمة لتعليم اللغة الإنجليزية.
وقفت متسمرا أمام الشقراوات و العيون الزرقاء. أقارن هذه بمارلين مونرو و تلك بصوفيا لورين.
أعود كل شتاء إلى السودان .. أطفئ عطش الشوق و أنا أتحرق للعودة لكى أنهل المزيد من ذلك الترف الحضاري. أدمنت مكتبات لندن و مقاهي الشانزليزيه و بحيرة جنيف و أحببت الاتكاء على الجندول في البندقية و ارتبطت بعُري المودة مع شواطيء Costa Del Sol في ماربيا على شواطئ الأندلس الإسبانية.
ثم جاءت مرحلة شد الرحال إلى أمريكا في منتصف الثمانينات ..
هناك تشعر بأنك قد تمددتَ و صرت في أتساع صحاري نيفادا و أن قامتك صارت في علو جبال وادي السيليكون.
عند زيارة ( ديزني لاند ) لأول مرة تذكرت أتبرا و دخول أول سيرك هندي لها.
و عند زيارة استوديوهات هوليوود .. استرجعت في مخيلتي كل أفلام ( الويسترن ) ..
(ستيف ماكوين) .. و (أودي ميرفي) الذي كنا ننطقه في حواري أتبرا ( وَد ميرفي ) و كأنه آتٍ من قرية (كنور) أو (التميراب) ..
لم تغيرنا الغربة .. و رغم الفوائد التي تم حصدها في بعض المناحي .. إلا أنها خلفتْ الكثير من المرارات و جراحا لا تندمل .. و أورثتْ النفس خواءا سببه الجوع الذي طال لتلك الأيام التي غبناها عن أحشاء الوطن ..

Post: #127
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 10-27-2014, 09:05 PM
Parent: #126

الرياض ، صيف 1985م
أختي العزيزة سعاد
أبعث إليكم أطيب تحياتي وسلامي الكثير وأشواقي.
أما الشوق ،، فسأطفئ ناره قريبا لأنني حزمت حقائبي وحاجياتي وسأكون بقربكم قريباً.
مسألة وقت لإنهاء إجراءات الطلاق.
نعم يا سعاد الطلاق. فلا تستغربي حتى تسمعي تفاصيل الأسباب.
سأنفصل عن زوجي الثاني.
أعرف أنك ستصابين بدهشة كبيرة وإحباط أكبر.
و لكن و الله ليس بيدي شيء..
فزوجي الأول أنت تعرفين قصته ،، و كيف أنقلب إلى وحش وتجرد من آدميته بعد شهر من الزواج ،، فكان لا بد من الطلاق.
أما هذا يا سعاد فأمره عجيب وغريب ومريب ،، بل مريض نفسيا ويحتاج إلى علاج.
إنه لغز يمشي على قدمين.
فهو كما تعلمين أيضاً تزوج من امرأة قبلي وأنجب منها طفلين وطلقها ،، و يقول أنها حولت حياته إلى جحيم ،، هكذا قال لي.
و كما تعلمين ،، عندما تقدم للزواج مني ،، قلت له أنه لا بد أن نعرف بعضنا البعض تماماً لأنني لا أريد أن أكرر التجربة.
قال أنه يعرفني جيدا ،، و أنه رجل مثل كتاب مفتوح للكل ،، و لا نحتاج إلى وقت طويل للتعارف.
مكثتُ حوالي الستة أشهر أحاول أن أدلف إلى دواخله قبل أن أوافق عليه.
بالطبع الظواهر كانت مشجعة جدا ، فأعطيته الضوء الأخضر و تم الزواج.
يعرف هو تماماً كيف تزوجتُ و كيف تم طلاقي من زوجي الأول.
و إلى هنا كل شيء طبيعي وعادي.
ومرت الشهور الأولى كلها شهور عسل ،، رجل حنون و كريم.
حمدت الله أن عوضني خيراً عن صبري.
ثم بدأتْ المنغصات تأخذ طريقها إلى حياتي رويداً رويداً.
فاجأني يوماً بسؤال كان كضربة من فأس على الرأس : أحكي لي عن حياتك السابقة.
نظرت إليه طويلا قبل أن أقول له : ماذا تقصد ؟
قال : أقصد حياتك السابقة ،، زوجك الأول ،، كيف قابلتيه ،، و أين ؟ و بقية القصة.
أجبته : و ما الذي الفائدة التي ستجنيها من حكاية نسيتها وصارت طي النسيان ؟
قال : أريد أن أعرف فقط.
قلت : لا طائل من معرفتك لموضوع انتهى أمره و نسيته أنا تماماً.
فتغير لون وجهه و قال : ذكرى مؤلمة ،، أليس كذلك ؟ لا تريدين نبْش الجراح.
غاص قلبي بين قدمي يا سعاد وقتها.
سكتُّ و لم أرد و أنا في حالة ذهول تام.
قال : أنا مُصِر على سماع الحكاية.
فقلت في نفسي ،، لأحكي له و لأرى ماذا يريد.
فحكيت له أنه كان زميلي بالعمل ،، أعجبني خلقه واحترامه و أدبه ،، فتقدم لي و وافقت ثم تزوجنا و عندما وجدته عكس ما كان ،، طلبت منه الطلاق.
اختزلت الفترة البسيطة التي عشتها مع زوجي الأول في كلمات بسيطة و بالشكل الذي يهمه
فقال المجنون : ألم تخرجي معه ؟
قلت بثقة : كثيراً
قال في بلاهة : و كان يمسك يدك بيده ؟
لم أرد عليه ،، فسؤاله سؤال مراهق و ساذج لا يجدر أن يطرحه رجل تجاوز الثلاثين.
فصرخ بأعلى صوته : ردي على سؤالي.
لم أرد ،، فصفعني على وجهي.
نظرت إليه ،، فوجدت الندم على محياه ،، حاول أن يعتذر ،، فصددته بعنف.
هرولت إلى غرفتي و أقفلت على نفسي الباب.
ما هذا الحظ العاثر يا سعاد ؟
ماذا فعلت في دنيتي ؟
طوال حياتي كنت أتمنى أن أجد زوجاً أتفانى في حبه و خدمته ،، و لكن القدر يوقف في طريقي مثل هؤلاء ،،
الحمد لله على كل شيء
أختي العزيزة
أكتب إليك كل هذه التفاصيل حتى تحكيها لأمي و أبي و إخوتي ،،
لأنني لا أريد أن أحضر ثم يحاصرونني بالأسئلة و سرد التفاصيل.
إليكِ بقية القصة أختي ...
تصالحنا بعد عدة أيام بعد وعد منه بأن لا يتكرر ما حدث.
يتحاشى أن يسألني أي سؤال.
و أنا أتحاشى أي حديث يأتي على ذكر زواج أو طلاق أو حياتي السابقة ،،
عشت و كأنني على حافة جرف يطل على واد سحيق ،،
أيام من التوتر و الترقب و التوجس و القلق.
لا أنكر ،، أنه طيب و يحبني و يخاف علي ،،
و لكن ليس من حقه أن يسألني عن حياة مضت و اندثرت ،، كل ما يجب أن يعرفه عني هو أنه عندما تزوجني أنني كنت مطلقة.
جاء يوماً و هو ثمل بفعل الخمر.
عرفت أنه ستكون وراء الأكمة ما ورائها.
قال : أتحبينني ؟
قلت : إن لم أكن أحبك لما تزوجتك
قال : و هل أحببت زوجك الأول ؟
هكذا يا أختي ،، يتسلل من بين الأسئلة ليصل إلى شيء يريد أن يصل إليه و ليشبع بقعة ظمأ في نفسه. لا أدري كنهها و حقيقتها ،، و كأنه يريد أن يعاقبني لأنني تزوجت رجلاً قبله.
كأنه يريد أن يلعن القدر من خلال تعذيبي بهذه الأسئلة.
قلت له : لم تتح لنا الفرصة لنصل مرحلة الحب.
قال : إذن لو كانت هناك فرصة لحدث الحب؟
قلت من بين أسناني : أفعاله من البداية دلت على أنه شخص لا يمكن أن تحبه امرأة.
قال : إذن لماذا رضيت به زوجا ؟
قلت : قسمة و نصيب ،، ثم هل يمكن أن تترك هذه السيرة التي تصيبني بالغثيان ؟
فال : أرأيت ؟ لأن جرحك لم يندمل لا تطيقين سيرة زوجك الأول.
قلت بانفعال : أي جرح أيها المعتوه ،، لو كانت هناك جروح لعدت له و هو الذي ظل يلهث ورائي و لم يتوقف حتى ظهرت أنت في حياتي ،، ثم هل تريدني أن أسرد لك كل يوم سيرة حياته حتى أثبت أن جرحي قد اندمل ؟ أي جرح ؟
و عندما رأى الغضب بادياً على وجهي ،، أنسحب و غط في نوم عميق.
ظل يمعن في إثارة هذه النقطة كلما سنحت له الفرصة.
إن لم أجاوب على أسئلته ،، تنتهي المناقشة بمعركة كلامية أو يمد يده بالضرب.
اعذريني أختي ،، أكتب إليك و عيناي متورمتان من كثرة البكاء على حالتي هذه.
كان يظن أن هيجاني عند فتح هذا الموضوع سببه حزني على حياتي السابقة رغم أنه يعرف أنني أنا من طلب الطلاق.
ماذا تسمين مثل هذا ؟ هل أنا أول امرأة مطلقة تتزوج ؟
لا يدري المسكين أنني أريد أن أنسى كل الماضي و أريده أن يساعدني على النسيان ،، و لكنه من حيث لا يدري يأتي بحياتي السابقة كاملة و يضعها نصب عيني و يبدأ في تشريحها على منضدة شكه و ارتيابه ،، فيصيب الرذاذ قلبي المثقل و حياتي التي بدأت تميل كشمعة صغيرة في مهب الريح على وشك أن تنطفئ نار فتيلها.
أختي العزيزة
طلبت منه أن يكف عن مثل هذه الأسئلة لو أراد لسفينة حياتنا أن تبحر دون عقبات.
قال و هو يمسك بكلتا يدي : ألا تحسين بغيرتي عليك ؟
قلت في يأس : أتغار من شيء مضى ؟ أقسم لك بأن الرجل لم يحتل أي جزء في حياتي ،، فقد حوّلَ حياتي بعد أيام معدودة إلى كابوس ،، و اعتبرت نفسي لم أتزوج أصلاً ،، و عندما تقدمت طالبا الزواج مني ،، كنت أخطو كل خطوة معك و كأنني أزف لأول مرة. هل تصدقني أم لا ؟
قال : أصدقك يا عزيزتي ،، و لكنني عندما أتخيل أن رجلاً آخر عاش معك تحت سقف واحد يجن جنوني ،، سامحيني أرجوك.

قلت : إذن هل يحق لي أن أسألك تفاصيل حياتك الزوجية مع طليقتك ؟ و هل يحق لي أن أغار منها و هي التي عاشت معك أكثر من أربعة سنوات و أنجبت لك طفلين ؟ رد على سؤالي أرجوك.
سكت و لم ينطق ،، هل أدركت مدى أنانيته يا سعاد؟
و يظل يكرر حتى أشفق عليه أحيانا : سامحيني أرجوك
و يطوقني بذراعيه و أحس كأنه يريد أن يبدأ في بكاء مكتوم.
احترت في أمره.
يغمرني بحب و عطف.
ثم فجأة يطلق سهام أسئلته التي تصيبني بالدوار.
أتعتقدين أنه يحبني حباً شديداً و لكنه في قرارة نفسه الذاخرة بالأنانية نادم على أنني كنت متزوجة من رجل آخر ؟ لو كان هذا صحيحا ،، ماذا نسمي هذا ؟ في اعتقادي هو الجنون بعينه.
و سارت الحياة بيننا هادئة لا ينغصها شيء ،، و عذرته على أسئلته و ظننت أنني قد أفحمته بكلامي الأخير.
قال لي يوماً : لم تصرين على ارتداء هذا الفستان دائماً ؟
قلت : عزيز على نفسي جداً
قال دونما تفكير : هل أشتراه لك هو ؟
قلت : من هو ؟
قال : من غيره ؟ زوجك الأول ؟
هوتْ كلماته كالمطرقة على رأسي.
قلت و الشرر يتطاير أمام عيني : ما رأيك أنت ؟ بعد كل الذي قلته لك أتظن أنني أحتفظ بذكرى منه ؟
قال ببرود يجيده : ربما
قلت : إذن لا داعي لأن نعيش سوياً.
قال : أنا أعرف أنك لا زلت تذكرينه.
قلت : نعم ،، أذكره فقط عندما تذكره أنت ،، الفضل لك أنت ،، تذكرني به دائماً،، و كأنك ليس زوجي ،، كأنك في سباق معه للوصول إليّ رغم أنك زوجي و هو طليقي الذي أجبرتُه على طلاقي ،، أمرك غريب و محير،، هل أسألك سؤالاً ؟ هل تذكر كم مرة قلت لي أن زوجتك قالت و فعلت ؟ و هل تذكر كم مرة قلت لي أنك هاتفتها للاطمئنان على أولادك ؟ لثقتي بك فقط لم تتملكني الغيرة ،، لثقتي بأن حياتك معها كانت لا تطاق لم أسألك عن الموضوع ،، فلماذا هذا الموال الذي تردده كل يوم رغم أنني لا أملك شيئاً أتذكر به طليقي غير أسئلتك عنه ؟
قال : هل تريدين القول بأنك لم تقضي معه أياما حلوة ؟ ألم يقل أنه يحبك و قلت له بأنك كذلك ؟ ألم تخافي عليه إن مرض ؟ ألم تسهري على راحته ؟ ألم ........ و هل .. و ......
و انطلقت منه عشرات الأسئلة التي يمنعني حيائي أن أكتبها لك ،، و لكنه لحظتها سقط من نظري نهائياً ،، و لفظه قلبي بلا رجعة ،، و وقفت أستمع إلى صوته و كأنه يأتيني عبر مكبر للصوت في غرفة فارغة.
أسكتُّه بحركة من يدي و قلت له : رغم أن كل ما تقوله لم يحدث ،، و لكن هب أنه حدث ،، أليس من حقي كزوجة أن أقوم بكل ذلك حيال زوج اخترته بمحض إرادتي ؟ ألم تقم زوجتك بذلك نحوك ؟ ألم تقم أنت حيال زوجتك بكل هذا؟ هل ستتوقف طليقتك عن الزواج لأنها أحبتك يوماً و مارست معك حقوقها ؟ أتريد أن تعاقبني على حياة زوجية فاشلة و تريد أن تجردني في خيالك المريض حتى من أبسط حقوق المعاشرة الزوجية في حياة سابقة ؟ داخل خيالك المريض تريدني، و لكن عقلك الباطن يصور لك بأنني أوزع مشاعري ، تارة له في خيالي ثم لك الآن.
هل تقصد أنني كمطلقة كان يجب أن تكون علاقتي الزوجية مع طليقي علاقة مع وقف التنفيذ لأن سعادتكم سيأتي يوماً ما بعد طلاقه ليتزوجني ؟ كنت تريدني أن أكون عذراء حتى في مشاعري و تصرفاتي و الوفاء بحقوق الزوجية ؟ هذه ليست بغيرة ،، هذا مرض ،، أنت مريض. تحتاج بالفعل إلى علاج.

طوال حديثي هذا كان ينهال علي بالضرب حتى تعب هو و ليس أنا ،،
عرفت أنني لمست موضع الداء فيه و ضغطتُ على أورام مرضه النفسي بيدي ،،،،
ثم واصلت حديثي :
طلقني الآن إن كنت رجلاً ،، طلقني و أذهب و أبحث عن زوجة تجدها محفوظة و معلبة في انتظارك و مكتوب على جبينها أنها صنعت خصيصاً لك ،، أو أذهب و تصالح مع أم أطفالك فأنا قد عرفت الآن أنك أنت الذي حول حياتها إلى جحيم.

و قد كان ، ....... طلقني بهدوء.
...

ها قد عرفت كل شيء ،، فأرجوك أختي العزيزة لا تسألينني شيئاً عندما أحضر ،،
كما أرجو أن يقرأ خطابي هذا كل أهل البيت حتى يوفروا على أنفسهم مشقة السؤال و الاستماع إلى هذا الجنون ،، و يعفونني من الألم الذي ينهش قلبي.
محبتي لكم ،، و لا تقلقي سعاد ،، فأنا ما زلت قوية و متماسكة و إيماني بالله قوي و ثقتي في نفسي لا تحدها حدود.
سلام إلى حين اللقاء.

Post: #128
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 11-03-2014, 08:15 PM
Parent: #127

المصريون ، أطلقوا علينا ( نحن النوبة ) إسم البرابرة ، إنطلاقا من مفهوم معين.
فقد قام الملك فاروق بتعيين السودانيين في مصر و خاصة النوبة في سلاح الهجانة ، يركبون على الجمال و هم يجرون بالأرض سيطان العنج ، كانوا يحرسون حدود الدولة ، و إن حدث أي هرج أو مرج في القاهرة يطلبهم الملك فاروق فينزلون وسط الدارة و يلهبون ظهور أولاد بمبة بهذه السياط و التي لا يتحملونها. فأطلقوا علينا هذا الإسم تشبيها لنا بالقبائل الهمجية البربرية.
المهم إنو واحد من البرابرة ، عاش في تلك الحقبة تاجرا ميسور الحال في أم الدنيا ، و كان بعين واحدة ( المتشاءم يقول له أعور ، أما المتفاءل فيقول أنه بعين واحدة )،
ففكر أن ( يلَغْوِس ) شوية في حياته ، و يعمل تحلية و يتزوج مصرية ( تجعل حياته في الغربة طرية و لينة ). فتزوج واحدة من باب اللوق ، و عاش مبسوطا مفتول الشاربين منفرج الشفتين ، يدخل عليها كل يوم و هو يحمل أكياس الفاكهة و اللحمة البتلو ، و البسبوسة ، و دامت حاله هنية و رضية ، إلا أن دوام الحال من المحال ، فأفلس ، و صار يدخل يوميا على زوجته خالي الوفاض ، فتسأله زوجته و هي تزم شفتيها ( ها ... ما لقيتش شغلة ولا مشغلة ؟ ).
فيقول و هو كسير العين ( لا ). و إستمر الوضع لبضعة أسابيع ،
و في يوم فتحت له الباب بحيث ظهر وجهها و صدرها فقط و قالت له : ها ، مافيش جديد ؟
فقال : لا
فقالت و هي تخبط على صدرها : يا لهوي ... و كمان أعور ؟؟؟؟؟؟
و تطايرت ملابسه و حاجياته من البلكونة ، قطعة قطعة ، يلتقطها و عينه الوحيدة تذرف دمعا غزيرا.

Post: #129
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: Mohamed Foto7li
Date: 11-04-2014, 03:52 AM
Parent: #128

متابعة وليك التحية العم جلال

Post: #130
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 11-05-2014, 05:28 AM
Parent: #129

تحياتي فتوحلي
وين الغيبات
مشكور على المرور البهي

Post: #131
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 11-07-2014, 04:31 PM
Parent: #129

تحياتي فتوحلي
وين الغيبات
مشكور على المرور البهي

Post: #132
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: مجدي عبدالرحيم فضل
Date: 11-15-2014, 08:28 AM
Parent: #131

الريس

مرور للمطايبة

والمتعة


،،،،أبوقصي،،،،

Post: #133
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 11-16-2014, 06:46 PM
Parent: #132

مقدمة : هذه القصة جرت أحداثها أيام كان ( شريط الكاسيت ) يلعب دورا هاما في التواصل في سبعينيات القرن المنصرم، في إحدى القرى النائمة على ضفاف النيل.

***
بعد عدة رسائل إلى زوجها كان يكتبها لها شقيقها الصغير، اعتقدت (سميحة) إلى حد الاقتناع بأنه ربما كان شقيقها لا يستطيع التعبير كتابةً عن كل ما تمليه عليه شفاهةً، أو أنه من المحتمل لا يقوم بكتابة كل شيء و من ثَمّ يختزل كل ما تفصح عنه.
وبالرغم من أنها تصر عليه بأن يكتب كل شاردة وواردة من كلامها الشفهي، ثم تجعله يقرأ ما كتب، إلا أنها على يقين بأنه غير أمين في نقل أحاسيسها بكل عمقه.
تشرح له وهي لا تفصح عن كل مكنوناتها وكأنما تريده أن يفهمها ومن ثَم يقوم بتفصيل وتشريح مقاصدها.
أطلقتْ آهة وزفرة طويلة : الله يرحمك يا أبي، التعليم كان أهم لي من الزواج.
انطلقت (لبيت الست سعيدة) المعلمة وهي تنوي أمراً حسمته في لحظة حنق وضيق.
شكتْ إلى الأستاذة (سعيدة) هواجسها من تقصيرٍ مزعوم من شقيقها حيال نقل كلماتها بصدق إلى زوجها، وطلبتْ منها إعارتها ( المسجل وشريطاً فارغاً ). ..
ابتسمت ( ست سعيدة ) وناولتها ما طلبتْ وشرحتْ لها طريقة إستعماله، ثم مازحتها : روحي قولي كل اللي عاوزاه.
ليلتها وبعد أن أكملتْ كل أعباءها المنزلية، دلفتْ إلى غرفتها وأغلقته من الداخل وانبطحت على بطنها على السرير الخشبي، ثم تنحنحتْ وتلفتتْ متوجسة وكأن هناك من يسترق السمع.
قرَّبتْ فمها من المسجل وقالت بصوت هامس: ألو .. ألو .. شريف .. إزيك .... أنت سامعني ؟
ثم أعادت الشريط من أوله واستمعت إلى كلماتها وهي سعيدة كما لو اكتشفت عالماً مجهولاً تطؤه بقدميها لأول مرة. فهي لأول مرة تسمع صوتها ينبعث من جهاز أصَم.
ثم بدأتْ حديثها ذي الشجون.
بدأته بشوقها، وبلياليها الطوال وحيدة تحدق في السقف، ورسائلها التي تشك في صياغتها وفي وصولها إليه أصلاً. ثم تخلل شوقها المبثوث ترديدها لمقاطع من أغنيات جديدة لم يسمعها شريف من قبل، ترنّمتْ بها بكل خلجة من خلجاتها، يمازج غناءها مشروع ضحكة على محاولاتها.
قالت في غنج :
( ما تضحك على صوتي يا شريف .. أوعدك حأبعت لك الأغاني دي في شريط ) ..

وتواصل التسجيل وهي تفرك قدماً بقدم مستلقية على بطنها تداعب خصلات شعرها المنسدلة أمامها.
ثم ذكّرتْه بكل من تزوجن بعدها من الفتيات ثم سافرن إلى أزواجهن في الخليج.
اختتمت الشريط بقائمة طويلة من الطلبات.
ثم أخرجت الشريط وقبّلته من الجانبين، ولفته بقطعة من القماش وخاطته بخيط متين.
وفي الصباح الباكر انطلقت به إلى الحاج (سيد) المسافر لأداء العمرة ليسلمه إلى زوجها.
وقف الحاج (سيد) يلوح بيديه مودعا، ولولا حياءها لهتفتْ بالحاج (سيد) من وسط الجموع أن يضع الشريط جنباً إلى جنب مع ( جواز السفر الخاص به ) إمعاناً في أن يكون محفوظاً ومصاناً.
ظلتْ تترقب الرد، إما بشريط مماثل، أو أن يبشرها أحد القادمين بأن أوراق سفرها في معيته وحوزته.
كلما راحت للسلام على أحد القادمين من السفر، تتوقع أن يأخذها منفردة ويهمس لها بالأمل الذي يرقد كجذوة نار في دواخلها
تتمتم في سرها :
( سامحك الله يا شريف، كل القادمين من السفر يعرفون الآن ماذا أتوقع بعد السلام عليهم ) تحاول أن تتذكر كل كلماتها التي سجلتها بالشريط.
تتأسف أحياناً على كلام لم تقله، وأحياناً على كلمات لوم لم تكن ضرورية.
وظلتْ تنتظر، وعجلة حياتها رتيبة رتابة أيام القرية وسكانها.
وذات صباح لن تنساه، ومن آخر القرية، أتى خبر زلزل كيانها فرحاً ..
فقد بشّرها شقيقها بأن ( إسماعيل) أتى البارحة من الخليج وقال له بأن لديها أمانة معه من زوجها.
لم تنتظر حتى تكمل بقية أعباءها المنزلية.
حشرتْ قدميها في أقرب ( حذاء ) ثم انطلقت لا تلوي على شيء.
ألقت بالتحية على القادم وهي تستحثه بعينيها لكي يعطيها الأمانة.
ورغم أنها كانت تتوقع خبراً عن سفرها إليه، إلا أن الشريط في يد إسماعيل كان كالكنز النفيس.
استلمت الشريط ولم تنتظر حتى تكمل كوب العصير المقدم لها.
أستلفت المسجل مرة أخرى من (ست سعيدة) وهرعتْ إلى غرفتها وأغلقتها من الداخل بعد أن قالت لأمها : لا تنتظروني على الغداء.
ابتسمت أمها ابتسامة ذات مغزى وهي تشيعها بنظراتها إلى باب غرفتها.
احتضنت المسجل وحشرتْ فيه الشريط، و جلست القرفصاء وسط غرفتها على سجادة مهترءة.
خالت الوقت دهراً حتى ابتدأ الشريط يلفظ حديث زوجها :
( حبيبتي ونور وعيني وشمعة ظلام غربتي .. )
إلى هنا رقص قلبها طرباً وتفتحتْ كل مسامه لتستقبل هذا البوح الذي يهدهد كيانها الملتاع.
وابتلعتْ ريقها مراراً ..
ثم أعادت الشريط من أوله لتستمع إلى هذه الكلمات الست. فهمستْ : أنا شمعتك يا شريف وسايبني الزمن دة كلو ؟
ثم واصل صوت زوجها :
( سلام كبير وشوق لا يوصف، بشوفك في الشغل وفي السكة وفي البيت وأنا باكل.. أما الأحلام بالليل .. خليها على الله .. لو قلت كل يوم بحلم بيكي يمكن حتعتبريني مبالغ ). ..

إلى هنا استطاعت أن تسمع دقات قلبها بوضوح تام تسابق الشريط في جريانه، ثم واصل زوجها عبر الجهاز القابع في حضنها :

( طبعاً ما حأقدرش أجي السنة دي برضو .. صاحب الشغل مبسوط مني و زاد لى المرتب وحيعوضني بدل الإجازة فلوس .. عشان كدة مش حآجي السنة دي .. سامحيني ).

غاص قلبها بين ضلوعها .. و لكنها واصلت الاستماع:

( قلت لصاحب العمل أنا مقدرش أقعد هنا بدون زوجتي أكتر من كدة . عشان كدة لو سمحت أنا حأستقدم زوجتي تعيش معاى هنا عشان الغربة تبقى طرية شوية )..
كادت سميحة أن تزغرد .. ولكنها واصلت الاستماع :
( الخبر الجميل يا حبيبتي إنو وافق .. و دلوقت إبتدينا نعمل في الإجراءات عشان تيجي هنا جنبي ).
قبلتْ المسجل عدة مرات واحتضنته ليلاصق وجنتيها المحمرتين فرحاً سروراً.
ثم واصل المسجل : ( شوفي يا ناهد .. أهم حاجة التوكيل اللي مع (إسماعيل )تسلميه لخالك (الحاج سليم) عشان يقوم بكل الإجراءات .. يعني العقد واستخراج جواز السفر ولما أرسل التأشيرة برضو هو هيقوم بالإجراءات في السفارة )
اتسعت حدقتا (سميحة) .. بدا لها المسجل وكأنه حيوان له أنياب وأظافر يكشر عن وجه قبيح لينقض عليها ..
أعادت المقطع من جديد وهي في ذهول، والاسم يتردد صداه في دواخلها كقرع الطبول :
( شوفي يا ناهد .. شوفي يا ناهد ؟ ).
تساءلت بصوت يرتفع تدريجيا : ناهد... ناهد ...ناهد ؟
إن كان قد أخطأ في أسمها .. فما حكاية التوكيل والعقد والخال سليم ؟
أعادت الشريط من الأول لتتأكد من أن الصوت هو صوت شريف ..
ضربتها كلمة ( ناهد ) في قاع نافوخها بمطارق عنيفة، فتحول كل ذلك الكلام الحلو الذي في المقدمة إلى شيء كفحيح الأفاعي، فسحبتْ الشريط مرة أخرى إلى المقطع الذي أطلق عليها رصاصة الذعر ..
ظلتْ تستمع إلى المقطع حتى حفظته وهي تنظر إلى لا شيء ..
أفاقت على الطرق المتواصل على باب غرفتها وصوت أمها يقول : سميحة افتحي الباب .. إسماعيل عاوزك.
هرعتْ إلى الباب وهي تتمنى أن يكون الشريط ليس من شريف ..
قال لها إسماعيل وهو يبدي قلقاً واضحاً : معليش يا سميحة أنا أديتك شريط مش بتاعك.
قالت بلهفة يشوبها الأمل : بس دة صوت شريف.
قال إسماعيل : معليش يا سميحة أديني الشريط .. أنا مجرد موصِّل وبس .. وما على الرسول إلا البلاغ ..
ظلت سميحة تردد كمن أصابتها هلوسة من جراء الحمى : بس دة صوت شريف .. بس دة صوت شريف يا جماعة. صوت شريف اللي بعرفو وسط مية صوت.
دخل إسماعيل وأخذ الشريط وهو يضع في حسبانه المشاكل التي تنتظره هنا من أهل ناهد الذين سيعتقدون أنه أراد أذكاء نار القتال مبكراً بين سميحة وناهد .. والتقريع الذي سيناله من شريف عند عودته فقد يظن أنه أعطى سميحة زوجته الشريط عن قصد حتى يفسد عليه موضوع زواجه من ناهد ..
سميحة .. منذ تلك اللحظة .. كرهتْ هذا الاختراع المسمى ( مسجل ) .. وتنفر جافلة إن رأت شريطاً حتى وإن كان مترعاً بأغانيها المحببة.

Post: #134
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 12-13-2014, 08:58 PM
Parent: #133

( بورتريه يطابق كل مغترب ومغتربة )

***

وقف أمامها مثقل القلب ، لا يقوى على الكلام .. حاول أن يقول شيئا .. فلم تسعفه الكلمات ..
فقط سمع كلمة ( يمة ) تخرج منه دون أن يكمل جملة مفيدة ..
تردد بين إلغاء فكرة سفره و بين التشبث بالصبر و الثبات
.. (قلبي يقول لى سيب السفر ) ..
خانته الشجاعة ، فلم يجرؤ على رفع بصره نحو أمه الواقفة لا حول لها و لا قوة منكسرة الخاطر يكاد الألم ينفر من بين جسمها النحيل ..
عافية منك لله و الرسول يا حشاى.
تقف و تعابير شتى تعتلج بين حناياها و كأنها تريد إختزال سنوات وليدها المغادر هذا في ومضة سريعة لتكفيها في أيام غيابه زادا يطعم جوع شوقها و لوعتها.
( ما تقْطع الجوابات ) .. قالتها بنبرة مهزوزة لا تكاد تسمعها حتى هي ..
أما هو فقد إمتدتْ به اللحظة لتشمل كل سنوات حياته السابقة ، فوقف تأخذه رهبة الوداع ، يهم أن يقبل قدميها المعفرتين بالتراب. ( دعواتك لينا يُمَة ) ..
أحس بحفيف ثوبها المغمور برائحة ( التكل ) يتدثره و هي ترفع يديها لتعانقه .. ( أنا ما عندي غيرَك .. خلي بالك من نفسك .. ربنا يحفظك و يعدل طريقك .. )
إكتسى وجهها بحزن عميق و فاضت عيناها بدمع مدرار حجب عنها وجهه الحبيب ..
أمسكتْ بوجهه تتفحصه من خلال دمعاتها و كأنها تتملّى من تضاريس ملامحه ،، تأملته و هي تئن أنينا مكتوما يفتت قلبها المرهق و المحزون بأحداث شتى.
( لو ما الظروف ما بخليك تفوت يا حشاى ) ..
إحتبس البكاء في حلقه ، فأرتمى بين أحضانها المهتزة بنحيبها وتشنجها.
لسعته حرارة دمعها ، فإنطلق يبكي بكاءا بدأ مكتوما ، سرعان ما تحول إلى نحيب و عويل أتى بالواقفين لوداعه خارج المنزل فحالوا بينهما و هي تردد : ( ربنا يردك لى سالم و غانم .. ) ..
و عندما إبتلعه الطريق .. كأول خطوة في مشوار غربته مجهولة الأمد .. أحس بأن قلبه قد إنزلق إلى أخمص قدميه .. و رغما عنه .. عانق المجهول محاولا أن يسترضيه ليتعايش معه ..

Post: #135
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 12-22-2014, 06:17 PM
Parent: #134

تحياتي اخي مجدي
::::::::::

هذا هو عام 2014 يودع وروزنامته مترعة بالاحداث
فقدنا اعزاء
اغترب البعض في المنافي واراضي المهجر
وعاد البعض لحضن الوطن بعد ان اتخمته الغربة بالاحزان والبعض بالاحباطات
والبعض يحزم امتعته ليقالد فضاءات الغربة



يقولون ان الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة
مقولة قديمة لا اؤمن بها، فالغربة جسر والوطن مثوى


نواصل

Post: #136
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 01-03-2015, 06:22 PM
Parent: #135

( بانوراما الأرض و الترحال )

***

زيادة على طين الأرض الخصبة .. إبتداءاً من ذراتها على السطح ،، نزولاً حتى طبقة منسوب الماء ، ورث عبد الحليم فيما ورَث ، منجل و طورية ، و عدة بقرات و ثورين و قطيعا من الماعز قطعة أرض سيبني عليها بيتا يأويه مع أسرته ،،
كان العمدة قد حدَد مساحة الأرض عندما وقف و أخذ حجراً و رماه بكل ما يملك من قوة و بكل ما يحمل من إعزاز لوالد عبدالحليم..... و كان مكان سقوط الحجر هو حد مساحة حوشه المزمع بناؤه.

النخلات ... هذه ( العمَّات ) الحنينات ،، غرس والده ،، و غرس جده ،، و غرس يديه ، ( تأتي أُكُلها بإذن ربها ) في كل موسم دون تأخير أو تقديم ،،

كالأمهات يأتيهن الطلق في تلك الأيام الخوالي في موعد محسوب بحساب ظهور القمر و إختفائه ،،
ينجبن أطفالاً أصحاء ، يظل الحبل السري في ( الشافع ) و كأنه لا زال به مربوطا مهما إشتد عوده و قوِيَ ، و كأنه لا يزال موصولاً بأمه لم ينقطع ، يربـطهم بأمـهاتهم حتى بعد أن يكبروا و يتزوجوا و ينجبوا ، فينهلوا منهن تلكم العواطف الجياشة العفوية ، و يشربون عليها كؤؤسا مترعة من نصائح الآباء و حكمتهم ، و تقف الحبوبات كأسفار من الحكمة المَرْوية و المتناقلة بقليل من التحريف و التبديل دون إخلال بالمغزى الدفين.

تقف النخلات شاهدة على أن ( القساسيب ) الفارعة الطول كأجساد الأجداد العمالقة ، تقف شاهدة على أنها كانت دوماً مترعة بالقمح و الذرة و البتمودة و البركاوي و القنديلة، و شاهدة على أن ( مهور ) كل العرسان في العائلة تم دفعها منها ، و من خيرات الأرض ( صنوان و غير صنوان ،، دانية القطوف ) و من محصول التمر رغم وعورة طبقات (العنباج) و غزارة العشميق و وخزات الأشواك المسننة التي تقف مشْرعة على الجريد.

نخلاتنا ،، الباسقات ،، تسبح بحمد الرحمن في الغدو و الآصال ،،
تنادي فتياتنا المتشحات ( بالعفاف و الطرحة ) ،، أن يهززن إليهن بالجذوع ،، ليتساقط عليهن رطبا جنيا ،،
يدر عليهن طيبة في القلب و سماحة في المعاملة و طعاما سائغا لأطفالهن الذين ما أن ينطلقوا مشياً على الأقدام، حتى تتعلق قلوبهم بالمساجد و الخلاوي و طين الأرض و موية الدمير ، . يلبسون عراريقا مصنوعة من الدمورية و ( الوزن عشرة ( ، و يحْلقون ( نمرة واحد ) و يمشون حفاة الأقدام في عز الهجير ،، يحميهم الرحمن من كل ذات شوكة وعقرب و ثعبان .
كل الرجال أعمام و كل النساء خالات. ،، يقبلون الأيادي و يلثمون الجباه.
كما ورث عبد الحليم ، على الجروف أمتارا تمتد حتى داخل النيل ،،
يطلقون إسم (جَدِه) على الطريق الضيقة الملتوية التي تخترق (اللوبيا ).
و من خلال المزروع على الجروف حتى مربط المركب ( المُشْرَع )
و يستمر الإسم ملتصقا بهذا الدرب إلى أن يرث الله الأرض و ما عليها و من عليها.

جدران البيوت الطينية ،، تحكي طبقاتها ،، جهد الحبوبات و الأمهات و الأخوات و الجارات ،،
يتجمعن على ( الزلابية و اللقيمات ،، و كفتيرة شاى ضخمة تكفيهن شر الانقطاع عن العمل ،،
يتجمعن للياسة الجدران و أرضية الحوش ( يتنادين خفافا و ثقالا مثلهن مثل الرجال )،،
مشمرات عن أكمامهن يختلط عرقهن السائل مع الزنجبيل في أكواب الشاى
كل طبقة تحكي عن زمن مضى ،،
و جيل يعقبه جيل ..

و لو نبش فيها ( عالم جيلوجيا ) و تحدثت الجدران عن مكنوناتها ، لوجد بين طبقاتها قصصا لم تدخل أضابير كتب التاريخ عندنا ،،

طبقات تحكي عن ( بنات ) مثل السمحة بت العمدة ( سعدية ) أم شلخا ( زى جدول المالية ( ،،
التي كان التغزل البريء بها مباحا ،،
حتى صال أكثر من ( جميل بثينة ) في جمالها بتأدب لا يتجاوز خطوط ( الحشمة).
و جال أكثر من ( كثير عزة ) في صفاتها بفخر و إعزاز ،،
فيختلط الغزل بالأدب و العشق بالمباهاة في إعتلاج فريد ...

و لكن شعلة الحب التي تتوهج في قلوب هؤلاء العذارى ،، تظل في القلوب سرا يحرق الخيالات البكر ، يفرهد في الدواخل بأمل يخبو ثم يتقد كفتيل لمبة الجاز في عتمة الحجرة الطينية،،
حتى يأتي أمر العمدة في فرمان شفوي بأن زواج فلانة من علان بعد الدميرة و حش التمر ، ،،
فترضى من ترضى و و ترضخ من ترضخ ،،
و لسان الحال يقول : المكتوب في الجبين لازم تشوفو العين

و كم من جبين يظل ناصع البياض من لحظة الميلاد و حتى الممات ، و كم من عين رأت مكتوبا لم ترغب فيه و لم ترض عنه.]

و لوجد أيضاً الباحث فيما يجد لو قام بالتنقيب ،، قصة الداية التي تأتي من طرف الحلة في ليلة ظلماء غاب عنها القمر ، على ظهر حمار ( أعرج ) دونما سرج تعتليه ،، تدلدل رجليها المدسوستين في حذاء ( العروسة المصنوع من البلاستيك اللين ) ، و محتويات شنطة التوليد المعدنية التي تحتضنها ، في ( رجة و ضجة ) تموسقان خطوات الحمار ، و نباح كلاب الحى تزفها لبيت الحبلى ، معلنة أن الداية في مهمة لتضيف رقما جديدا في إحصائية القرية.

و لوجد أيضا ،، أن شيخ المسيد ،، بزوجاته الأربعة ،، يستل سكينه من ضراعه و يذبح الذبيحة تحت ظل شجرة ، مستقبلا و إياها القبلة ، مبسملا و محوقلا و مكبرا ،، و يرسل في طلب زوجاته مبتدئا بالكبرى ( حفاظا على التسلسل والترتيب الهرمي للإحترام ) و يقول لكل واحدة من زوجاته منفردة في همس و هو يتلفت يمنة و يسرة كمن لا يريد أن يسمعه أحد لشيء في نفسه ، و هو يناولها نصيبها من اللحم :
هاكي ،، كومك أكبر و أسمح ،، بس ما يشوفنو ضراتك.
دهاء فطري بدخل في صلب علم النفس.

يقول هذه الجملة لكل واحدة منفردة ،، حتى تشعر كل واحدة منهن بأنها ( ذات حظوة و دلال عند النصيح حديدو ) ، فتهرول بكنزها الحنيذ إلى ( التكل ) لتتفنن في طبخه و هي حريصة على أن لا تدخل عليها واحدة من ضراتها حتى لا ينكشف (تحيز ) بعلها ..

و لوجد المنقبون و الباحثون فيما يجدون بين طيات الجدران ،،
أن المغترب إلى مصر في ذلك الزمان ( الطاعم ) ،،
كان يأتي سنويا وقت يشاء ( بلا تصاريح للسفر ) ،
يعود محملا بصندوق إسكندراني خشبي ( السحارة ) ، و هو غاية الإغتراب و منتهى الأمل في ذاك الزمان البهي،،
فيوزع الكولونيا ،، و الصابون و ( القمر الدين )،،
و أقمشة ( غزل المحلة ) ،، و أقمشة ( الكرب روبر ) و ملاياتها ،،
و يوزع عشرات الرسائل التي أتى بها من هناك ،،
و يأخذ هذه على إنفراد و يقول لها وصية شفوية من زوجها ،،
و يأخذ ذاك في ركن قصي لينقل له رغبة إبنه في الزواج من تلك،،
فيحتفي به الرجال بدعوته على ( زير مترع بمشروب الدكاى ،، أو النبيت المدفون في باطن الأرض شهورا )
فيتحكر في الجلسة و هو يحكي مغامراته و صولاته و جولاته ،،
و يندفع يضيف من خياله الكثير كلما سمع إستحسانا من الحضور ،،
و تتوالى الدعوات من هنا و من هناك ،،
و يمتلىء بيته بالحملان و العتان و الدجاج و البيض ( في تكافل لا نظير له )

و لوجد الباحث والمنقِّب أيضا فيما يجد ،،
قصة الحزن الذي خيم على أهل القرية عندما إنقلبتْ المركب في عرض النيل ،،
و غرق عدد كبير من الفتيات الصغيرات ،،
و كأن النيل لا زال يرغب في ( قرابينه القديمة ) فأبتلع هذه الزهرات ، فكان في كل بيت مناحة ،
و في كل قلب جرح بليغ ،،
يجتر أهل القرية هذه الذكرى الأليمة ، كلما فردوا شراع مركب يمخر عباب النهر الخالد ،
و كلما غضبتْ الأمواج فأرتفعت مزمجرة تلطم جوانب المركب الخشبي فيتطاير الرذاذ على الوجوه ، و كأنها تنذرهم بأنها لا تزال عطشى للمزيد.

ذلكم هو عبد الحليم .. يوم أن مات والده ،، و ترك له هذا الميراث الذي لا يقدر بثمن ،، و هذه اللوحة الأزلية التي لم تتغير ألوانها على مر الزمان.

و تمر الأيام على ضفاف النيل ببطء لا يجارى سرعة دولاب الحياة في بقاع أخرى من المعمورة ،،

تمر بتراخٍ ، كبطء قواديس الساقية تجرها بقرة حردانة يلهب ظهرها سوط الصبي التربال المدندن بالغناء ،
بطاقيته الحمراء المهترءة و الساقية تئن في إيقاع سيمفوني مع صوته الشجي.

و ذنب البقرة الحرون يروح و يجيء ليهش الذباب و كأنه عصا ( مايسترو ) يقود كورال الساقية و التربال.

من القرية ... سافر سعد ، و جبر الله ، و حامد ، و سر الختم ،، وود نقد وعبد اللطيف وجابر ...
كلهم سافروا للحاق بركب الكسب السريع و العودة بحقائب تبهر الفتيات ،
و ليضوع منهم عطر ( البروفيسي و عطر الكاشيت) ،
و تتوهج على معاصمهم خواتم الذهب و الفضة و ساعات ( السيكو و الأورينت ) ،،
و ليعتمروا عمائم من ( التوتال الإنجليزي وارد عبد الصمد )
و ليوزعوا علب الماكنتوش و علب البنسون و ولاعات الرونسون و تياب ( أب قجيجة ) و بخور ( الند ) وارد باب شريف بجدة .. ...
و ( عبد الحليم ) صامد لا تغريه المغريات ،
قناعته فريدة ...
متشبث بأرضه ،،
حفرتْ أصابعه علامات صبره على مقبض المنجل و الطورية ،
و تزين راحتيه طعنات أشواك النخيل و آثار فتْل الحبال .
الشقوق في كعبيه و قدميه غافل عنها و عن صغائر أخرى.

صلب كصخور ذلكم الجبل الذي يقف شاهدا على أن أحد أحفاد أولئك العمالقة ، ما زال يحمل في جسده جينات الصمود
يقاوم قساوة السموم ،،
و يكرع من ماء النيل العكران بالطمي ،
و لا يشتكي من ( إلتهاب في المعدة ) أو ( جفافا في البشرة ).

و رغم هذه الصلابة في العود و هذه القوة في الشكيمة ،،
إلا أنه يحمل بين خافقيه قلبا عامرا بالحب و الوفاء لأرضه و لأهله.
يأتي المسافرون ،،
تنبهر الفتيات ،،
تفرح الأمهات ،،
تحبل الزوجات ،،
تنطلق الزغاريد في زخات معلنة عن زواج ،،
ثم تعود كل هذه الطيور المهاجرة لمنافيها.

و عبدالحليم ،، يستقبل ،،
و يكرم الوفادة ،،
و يودع ،،
ليعود و يستقبل ،،
حركة مستمرة في دولاب أيامه ،،
كحركة مواسم الزراعة ،، المحصول تلو المحصول و كحركة النهر الخالد ،، فيضان و إنحسار.

كل من وقف و حمل معه الطورية سافر و هاجر ،،
تركوه لهذه الأرض ،،
يفلح قدر إستطاعته و قدر طاقته ، يحمد الله إن تغدى ببضع تمرات ،، و يشكر الله إن تعشى ( بقراصة يطفو عليها السمن و الحليب ).
حاولوا أن يأخذوه معهم ،،
و لكنه رفض ،
و إستنكر محاولاتهم المتكررة ،، و دائما ما يقول لهم و هو يحدق في النهر عبر فرجات النخلات :

أنا و النخلات دي واحد ،، عروقنا ضاربة جوة الأرض و واصلة لغاية النيل .
لو ما غرفْت من موية النيل بإيديْ ديل و شربت ،،
و لو ما أكلت الدفيق المنقرو الطير ،،
و لو ما دخل جوفي الهوا الجايي يهفهف بين سعفات النخيل و قناديل العيش.
ما بحس إني عايش

و يتواصل عشقه لطين الأرض ..
و نخلاته
و جروفه ..
تنتظره محاصيل المواسم .. أو ينتظر هو مواسم المحاصيل ..
كلاهما سيان ..

Post: #137
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 01-07-2015, 09:13 PM
Parent: #136

عودة

Post: #138
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 01-08-2015, 08:46 PM
Parent: #137


( عروس ... ) ..

****

الوجوه الكثيرة التي كانت في إستقبالها بالمطار حجبتْ عنها أفكارها المشوشة التي إنتابتها منذ أن عرفتْ أنها ستأتي إلى الرياض عروساً لرجل لم تره و لم تسمع صوته حتى.
لا تعرف عنه شيئاً غير أنه أحد أقرباء صديقتها التي دعتْها الصيف الماضي لعرس شقيقها ..
عانقتْ في المطار أشخاصاً لا تعرفهم .. نساءاً و رجالاً ...
كثيرون نادوها بإسمها و هي لم ترهم من قبل ... فتهمهم بالرد ..
كلمة ( مبروك ) كانت تتنامى إليها بلا معنى ...
علامة إستفهام كبيرة تقف بينها و بين ( البركة المدلوقة من الكلمة ) و بين ( العريس ) ..
عشرات التفاصيل و الأسئلة المُشْرعة تقف دونما إجابة..
عندما نصحتْها إحدى صديقاتها المقربات بأن لا تقبل بمثل هذه الزيجة .. ضاعت نصيحة الصديقة وسط زخم الهجوم الذي تعرضتْ له .. بل إتهموا صديقتها بأنها تحسدها على هذا العريس ...
و عندما إعترضتْ على الطريقة التي ستذهب بها ( كحقيبة مشحونة جواً ) لرجل لا تعرف عنه أي شيء سوى أنه مغترب و مقتدر .. ضاع إعتراضها أيضاً وسط قناعات كثيرة ..
فالبيت يعج بإخوتها من البنين و البنات ..
و حال والدها يغني عن السؤال ..
و إنهال الثناء على ( العريس اللقطة ) ..
وأنها محظوظة ...
و .. , و ...
ليلة العرس .. و في صخب الحفل .. كانت كمن ينظر إلى مشهد من خلال نافذة زجاجية مغلقة ...
تبتسم إبتسامة حذرة .. و أحياناً مصطنعة.
تتنقل نظراتها بين الحضور .. لتستقر من طرف خفي على عريسها ..
كان ثملاً .. لا تدري إن كان من الفرح أم بفعل شيء آخر ..
يتحاشى النظر إليها .. يهرع إلى أمه من حين لآخر و يهمس في أذنها بشيء و يعود مقطب الجبين.
يكتنفها أكثر من سبب لقلق متناهٍ .. أقلها ليلة الدخلة و تجربتها المقبلة للإنتقال من حال إلى حال.
صباح اليوم التالي ..
زال جزء من قلق ... بل قلق لم يكن له داعٍ ...
أيمكن أن يكون هذا هو الذي كال له الجميع الثناء ؟
أيمكن أن يكون هذا هو قالوا أن كثيرات سيحسدْنها عليه ؟
الحقيقة الوحيدة التي وقفتْ عارية هي مقدرته المالية ..
أما بقية الأشياء .. فقد إختزلتْها تلك الليلة في بضع ساعات لتعرف أنه لا يملك شيئاً غير هذا الثراء.
حينها تيقنتْ أنها تستحق نتيجة طريقة مجيئها ....
و تبدتْ لها الغرفة الواسعة كسرداب يملؤه صدى أصوات ليلة الأمس و الزغاريد و كلمات الوداع في المطار هناك وعبارات الترحاب هنا ... و همهمات هذا الجسد المسجى بجانبها ..
أصابتْها حالة من الدوار ... فراحت في نوبة بكاء مكتوم.

Post: #139
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: اخلاص عبدالرحمن المشرف
Date: 01-10-2015, 10:18 AM
Parent: #138

انكساراتنا , انتصاراتنا واشياءنا الصغيرة
سفر بني سودان بدفتيه عظات وعبر . ما مررنا به وحفر في وجداننا = ف وضعناه حلقة في ودانا=
بعضه رسم بسمه وكثير خلف غصه


استاذي ابوجهينه تجرأت ف كتبت وفي بوست قاص بارع مثلك هذه جسارة

Post: #140
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 01-10-2015, 12:12 PM
Parent: #139

تحياتي اخلاص
ولك الشكر على المرور البهي

اما بعد
فان كلماتك هنا :

::::


انكساراتنا , انتصاراتنا واشياءنا الصغيرة
سفر بني سودان بدفتيه عظات وعبر . ما مررنا به وحفر في وجداننا = ف وضعناه حلقة في ودانا=
بعضه رسم بسمه وكثير خلف غصه

:::

كلماتك وضعت اطارا لكل قصص ملف الغربة هذا
بل جمعت كل المحطات هنا في بورتريه واحد
دمتم

Post: #141
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 01-28-2015, 08:26 PM
Parent: #140


والدي العزيز
لك تحياتي وأسمى آيات تقديري ومحبتي ...
عذراً لتأخير إرسال خطابي هذا لك..
فقد إستغرق الحصول على سكن مناسب وقتاً طويلاً ..
ثم غرقتُ في تفاصيل إجراءات التسجيل للجامعة ..
وعشرات التفاصيل الأخرى التي لا أريد أن أزحم بها رأسك ..
والدي الحبيب .. شوقي إليك لا يوصف.
أرجو أن تقرأ رسالتي هذه بعناية و أن تتفهم دواعي لهجتي هنا ..
فالقلب مثقل و لا بد من فضفضة...
لم أكن متأكدة من أنك ستوافق على سفري وحدي بهذه السرعة ودون أي إعتراض ..
بل أصابني الذهول لسرعة إستجابتك لرغبتي في السفر.
فقد رفضتَ من قبل وبإلحاح سفر أخي غير الشقيق عندما توسل إليك هو وأخواله لتوافق على سفره للدراسة بالقاهرة ..
القاهرة التي على مرمى حجر يا أبي .. كان إصرارك عنيفا على عدم سفره إليها ..
ولكن حيرتي تبددتْ فيما بعد ...فلم أندهش بالطبع عندما وافقتَ على سفري وحيدة إلى هذه الأصقاع البعيدة .. إلى لندن.
جاءت موافقتك سريعاً و دون تردد ...
إختزلتْ موافقتك كل التوسلات التي كنت أنتقي كلماتها أياماً طويلة ..
نعم ... لم أندهش لموافقتك السريعة ..
و لكن ..
موافقتك على سفري .. تعرف أسبابها ..
فأنت تزيح عن كاهلك كل خيط يبعد عنك الشبهة التي ربما تلازمك طوال حياتك إن تم الكشف عن المستور ..
وأرجو أن تغفر لي ما سأقوله إن كان يدخل في نطاق العقوق أو التطاول يا أبي ..
فأنا أعتز بك جداً .. وتتطاول قامتي لتعانق السماء لأنك أبي ..
وسأظل أعيش مفتخرة بإنتسابي إليك .. فأنا ظفر في لحم أصبعك ..
وقبل أن ألِج هذا الأمر .. أقول لك بأنك يا والدي قد إرتكبت ذلك الخطأ الفادح في حياتك ..
وأعذرني يا أبي مرة أخرى ..
فأنت سليل الحسب والنسب .. إبن الأسرة العريقة ..
ورثتَ عن أبيك وأجدادك عزاً وجاهاُ .. وأسم أسرتك له وقْع الطبول.
ثم زوجوك إحدى بنات أعرق الأسر التي توازيك نسبا وحسبا ..
كنتما كفَرَسِىْ رهان ..
أنجبتما البنين والبنات .. يحسدكما الكثيرون عليهم ..
أتتْك الدنيا طواعية .. ووهبك الله كل شيء ..
فكيف أتيت بي ؟
أقصد لم أتيت بي إلى هذه الدنيا ؟ كان يكفيك ما أنت فيه من نعيم دانٍ وعز وافر .. وزينة الحياة الدنيا.
هذا سؤال تعرف أنت إجابته تماماً كمعرفتك راحة يدك ..
أنا لي رأى آخر .. قد يغضبك .. ولكني لن أعيش به بقية عمري ..
سيثقل كاهلي إن لم أبُحْ به إليك ..
وأنا مصممة على أن لا أموت و هو في جوفي ينحرني ليل نهار ويذبحني من الوريد إلى الوريد.
أنا يا أبي ثمرة طيشك وعدم مبالاتك ..
فقد أتيت بي لهذه الدنيا بسبب نزوة من نزواتك .. وبسبب مزاجك العالي ..
سامح الله أمي.
أنا لا أحتقرها .. ولا ألومها ..
فهي نسيج مختلف تماماً عنك.. دفعتها ظروفها أن تكون أحد أسباب توفير مزاجك العالي .. رحمها الله ..
بهرْتها بجاهك .. أغدقت عليها مالك .. ملكتها بحلو لسانك ..
فهل خدعتها يا أبي ؟ هل وعدتها بشيء ثم أخلفت وعدك ؟
يتعبني الآن أنني لا أعرف عنها شيئا ..
أستحلفك بالله أن تحدثني عنها و أنا الآن بعيدة عنكم وأنت في مأمن من كل ما يكشف سرك العظيم.
لا أعلم كيف تزوجتها سراً .. و لا أريد أن أعرف الآن ..
ولكن الذي أعرفه يا أبي أنك تزوجتها ربما درءاً للفضيحة بعد أن تكورتْ بطنها معلنة بداية الخطيئة والخطأ .. لتضمن بذلك سكوتها الأبدي ..
ودرءاً لإنتشار الفضيحة بين أهلك وأسرتك .. أليس كذلك ؟
وأخذْتني عندك .. وأنت تعلم مجريات الأحداث .. تعلمها يا أبي ..
أنكرتَ أولا أبوتك لي ..
وقلت للجميع أنني يتيمة تود كسب الأجر والمثوبة بتربيتي ..
وأنا وقتها صغيرة لا أعلم لِم أنا بعيدة عن والدتي و بين أسرتك التي لم ترحب بي كثيراً ..
ثم أفضيتَ إلى زوجتك بالسر الدفين في لحظة ندم ربما، فتغيرتْ معاملتها لي. بل تغيرتْ كلياً ..
رغم أني لم أعلم سر التغيُّر في معاملتها وقتها .. إلا أنني أعتقد بأن الله يحبني فقد ألهمني صبراً جميلاً ....
أفرغتْ زوجتك كل حقدها على ضرتها في شخصي .. و لولا لطف الله بي .. لكنت مشردة لا أعرف أسرة أو أهلاً .. و لا أدري أين كان سينتهي بي المصير ..
وتحت سمعك وبصرك جرتْ أمور ستظل محفورة في ذاكرتي أبد الدهر ..
أمور أقل ما أصفها بها الآن أنها توصمك بالظلم الفادح .. والظلم المر .
كأنك بسكوتك تجعلهم يعاقبونني على ما إقترفته يداك عن الظلم الذي كان يقع على..
عاقبتَ نفسك في شخصي ..
لا أكرهك .. لسببين :
لأنك والدي ...
ولأنك يوماً ما كنت ترتبط مع والدتي رحمها الله برباط مقدس .. رباط لم تعطه كل حقوقه المشروعة.
سامحك الله ..
كانت هناك جذوة عميقة داخل روحي تقول أنك أكثر من مُحسن و كافل يتيم..
كنتُ أسهر لحين عودتك وأذهب لفراشي بعد دخولك غرفتك .. كنت أغضب في دواخلي حينما تتطاول زوجتك عليك ..
وأطرق مكسورة عندما أراك منهزماً أمامها ..
و لكن .. أرَّقتْني كثيراً ولسنوات طوال أمور شتى ..
فأَن أنام دون عشاء عقابا لتقصيري بسبب الإرهاق أو التعب ، فهذا لم تعرفه لأنك كنت تأتي مخدراً ومخموراً و تُساق إلى مخدع زوجتك سَوْقاً ..
أن أُعاقَب يومياً على أخطاء الآخرين .. فهذا كان يفوتك لغيابك طيلة ساعات النهار ..
ولكن أيعطيك هذا العذر لكى لا تناديني وتمسح على رأسي وتسألني إن كنت أشكو شيئا ؟
ألم تستيقظ فيك يوماً عاطفة الأبوة ؟
أيعطيك هذا العذر حتى لا تفرق بين ما كنتُ ألبسه و ما كان تلبسه أخواتي ؟
أيعطيك هذا العذر حتى لا تراني أيام راحتك في المنزل وأنا منحنية أقوم بكل أعمال البيت بينما إخوتي حولك في صخب طفولي كنت أرمقه من طرف خفي وبداخلي سؤال يكاد يكتم أنفاسي ؟
سؤال كان دافعه شعور خفي بأنني جزء منك ..
أذكر سنوات طفولتي فأصاب بغصة تكاد تفقدني صوابي ..
ستبقى تلك الأيام كالشرخ يدخل منه صقيع عطش أيامي وجوع لياليها الطوال.
أحمد الله أن أعطاني القوة و الصبر ..
لا أود أن أؤنبك الآن ..
فلا فائدة أجنيها بتأنيبك ..
يكفيك صراعك الداخلي الذي عشته و تعيشه و ستعيشه.
كان من الأفضل أن تتركني في حضن أمي .. أو حضن مَن على شاكلتها بعد موتها ..
ما معنى أن أقتات الفتات في منزل أبي ؟
ما معنى أن ألبس أسمال إخوتي ؟
إخوتي ؟
يا للسخرية .. هم يعرفون فقط أنني يتيمة تعيش على إحسان الأسرة ..
الذي أعرفه أن الأبوة لا تتجزأ ... لا تفرق بين لحم ولحم ..
وليس هناك لونين للدم الذي يجري في العروق.
فكيف طاوعك قلبك على أن تجعلني أعيش دور المقطوعة من شجرة وسط إخوتي ..؟؟
بينما زوجتك التي تعرف الحقيقة تُشْهِر لك سلاح الفضيحة كلما حَنَ قلبك أو لُمْتَ نفسك على سوء معاملتها لي ؟
فكيف إستطعتَ أن تصبر كل هذه السنوات لتخبرني بالحقيقة؟
ليتك لم تخبرني .. ليتك تركتني أحبك فقط لأنك الذي أحسن إليّ بعد موت أمي.
أتدري ما الذي أحسست به عندما أخبرتني بالحقيقة و أنت منتشي بفعل الخمر ليلتها ؟
إمتدتْ يدي لتصفعك ..
نعم ..
أصدقك القول .. إمتدت يدي لتصفعك ..
ولكني أحسست أنها ملتصقة بي تماما لا حراك بها .. وأحمد الله على ذلك أيضاً.. فقد منع الله عني جريرة كبيرة.
لم تتركني زوجتك أكمل النظر إلى تعابير وجهك و أنت تكمل إعترافك الهزيل المبتور ..
فقد سحبتْك وكأنك طفل يجرجرونه إلى فراشه ..
وصباح اليوم التالي .. خرجتَ لا تلوي على شيء .. لم تطق حتى النظر في وجهي و أنا أزاول عملي اليومي.
يا لها من ليلة .. تلك الليلة ..
لم يغمض لي جفن ..
كانت الصدمة أكبر من عقلي و أنا في بداية مراهقتي أكابد ما أكابد ..
فكرت في الهرب .. ثم أحجمتُ متعلقة بأهداب محبة قد تأتي بعد هذا ..
ولكنني كنت واهمة ..
أرقبك من فرجة الباب في غرفتي الكئيبة و أنت تترنح تدلف إلى غرفتك مسنوداً عليها ..
رحمك الله يا أمي ...
لا أعرف كيف وافقتْ زوجتك أصلاً على دخولي المدرسة ..
و هذه محمدة أضعها في ميزان أعمالها الفارغ تماما.. وكرم منها رَسَمَ خُطى حياتي ..
و ربما قصدتْ أن تشغلني عندما أكبر بشيء حتى لا أواجهها أو أطالب بأشياء تراها هي أنها ليس من حقي ....
و لكنني وقتها كنت قد قررت أن أواصل حِفْظ سرك حتى لا تسقط من نظر أهل زوجتك وأهلك ..
أرأيت كيف كانت معادلتي صعبة وشائكة ..
تفوقي الدراسي منذ البداية كان سببه أن أرد لك الجميل كرجل يحسن إلى يتيمة.
ثم إزداد تفوقي بعد أن عرفت الحقيقة التي أخفيتها حتى عن إخوتي أنت وزوجتك ..
حاولت كثيراً أن أجلس جلسة مصارحة مع إخوتي .. ولكنني أضعف دائما أمام توسلاتك ..
فكن مطمئناً .. لن أحدثهم ..
حتى و أنا بعيدة عنهم الآن لن أفشي سرك حتى لا تتغير نظرتهم إليك ..
و لكن .. أرجو أن تسمح لي بأن أقول لك .. بأن لا نية لي في العودة ..لا نية لي أبداً ..
إن كان في العمر بقية ربما أراك مرة أخرى .. أرجو أن تزورني أنت ..
ورغم كل شيء .. قبلاتي لك ولإخوتي.. ولزوجتك ...
أسامحك أبي .. أسامحك ... من كل قلبي .. وسأدعو لك ..
أطلب الرحمة لأمي ..
وأغفر لي تطاولي ..
سأكتب لك دائما ..
إبنتك ...
سماح

Post: #142
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 02-22-2015, 11:50 AM
Parent: #141

قواسيب المقال من حصاد الترحال :

***
ساقتني الغربة أول ما ساقت .. إلى الخليج.
و لولا نفر كريم من أبناء جلدتي وقتها ممن حقنوا أنفسهم بترياق المنافي ، لولاهم لولّيت الفرار من أول شهر ..
فقد خففوا وطأة الغربة و هجير البعاد عن أرض الوطن .. ( يعزونني بكلمات و عيونهم تنضح بالتوق للوطن و بالشوق للارتماء في أي ركن من أركانه ).
فكانت هذه المرحلة نقلة نوعية في نهج الحياة.
في شمال البلاد ، حيث مسقط رأسي الذي لم أتشرف بزيارته إلا بعد أن ترسّختْ في ذهني قناعة بأن أتبرا هي موطني و مسقط رأسي .
ثم توغلتُ في أرض الشمال العريق ، كمعلم في مدارس منطقة حلفا و أرض ( السكّوت ) و دنقلا ثم أتبرا و الدامر ثم إلى حلفا الجديدة.
عام 1978م كنت قد صممت على ارتياد معهد الموسيقى لتنمية موهبة تلازمني منذ الصغر ، و هي موهبة العزف على آلة العود ، فجلست لاختباراته و لم أنتظر حتى النتيجة. عدت إلى حلفا الجديدة ، عدت إلى حميمية أهلها الذين تحس و كأنهم لا زالوا ضيوفاً على أرض البطانة.
و من ( حلفا الجديدة ) إلى عتامير نجد بلا أي تخطيط مسبق ، هو بلا شك نقلة نوعية تمتد إلى كل مناحي الحياة. بل هي كالصفعة على حين غرة.
فأنا أبن طينتي متشبثٌ بها أعمق ما يكون التشبث ، تنغرس روحي في أماكن و بلدات لها عبقها حتى و أنا أقبع في ذلك الزمان في ( دنفر كلورادو ) أو محاولاً تعلم التزلج في ( آسبن بكلورادو ) ، أقارن أعمدة ( التليفريك ) التي تنقل المتزلجين و المتزلجات ما بين الجبال التي تكسوها الثلوج ، أقارنها بأعمدة مصنع أسمنت أتبرا الواقع على طريق ( أتبرا و الدامر ) التي تنقل صخور الجرانيت من الضفة الغربية إلى المصنع بنفس مبكانيكية ( التليفريك ).. و شتان بين المنقولين هنا و هناك.
الغربة في الخليج تعطيك نوعاً من الركون إلى اتخاذ قرار بالعودة في أي وقت تشاء ، و أرتال المقيمين بها يعطونك نوعاً من إلفة رغم القلق البادي على الوجوه من انفصام داخلي سببه تغيير أنماط الحياة و التقيد بقوانين لم يألفوها ، و الساعة البايولوجية تعمل باستمرار وِفْقاً لما كانت عليه في ( حي أمبكول ) بأتبرا أو في ( بري اللاماب ) بالخرطوم ، بنفس تروسها وعقاربها و روزنامتها المغموسة بتوابل البلد و مياهه.
و لكن في الغرب الأقصى ، يتملكك إحساس بانسلاخ غريب فتنتابك حالة من تقريب الرؤى قسراً بين حشود الاندهاش اليومي و في كل لحظة ، و تكون في حالة مقارنة كل شيء بكل شيء هناك في مراتع البلد.
ثم جاءت المرحلة الأخرى من الهجرة .. إلى أوروبا الغربية بمدنها الساحرة ( باريس . لندن . فيينا . جنيف. مدريد. البندقية. أثينا. روما ، لوس أنجلوس .. آخن . ) ..
فكان الانبهار بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ..
و تلاشت رويدا رويدا مرارة الاغتراب .. و بقيتْ فقط أجراس الحنين تقرع في الذاكرة ..
و استمرأت السفر ، و التنقل من فندق إلى آخر .. أتحقق من دروس الجغرافيا و التاريخ التي تسكن قاع ذاكرتي ..
أذكر عندما وقفت لأول مرة في ( البيكاديللي ) أحدق في متحدث يتجمع حوله خليط من البشر من كل أركان المعمورة ، تذكرتُ أستاذي ( كمبلاوي ) عندما كان يقول لزميلنا الذي كان يكره حصة الإنجليزي كراهة الموت :
يا حسين إنت حقو يودوك البيكاديللي ، غصبا عنك كنت حتجينا لاوي لسانك.
كنا نظن أن البيكاديللي مدرسة صارمة لتعليم اللغة الإنجليزية.
وقفت متسمرا أمام الشقراوات و العيون الزرقاء. أقارن هذه بمارلين مونرو و تلك بصوفيا لورين.
أعود كل شتاء إلى السودان .. أطفئ عطش الشوق و أنا أتحرق للعودة لكى أنهل المزيد من ذلك الترف الحضاري. أدمنت مكتبات لندن و مقاهي الشانزليزيه و بحيرة جنيف
وأحببت الاتكاء على الجندول في البندقية و ارتبطت بعُري المودة مع شواطيء Costa Del Sol في ماربيا على شواطئ الأندلس الإسبانية.
ثم جاءت مرحلة شد الرحال إلى أمريكا في منتصف الثمانينات ..
هناك تشعر بأنك قد تمددتَ و صرت في أتساع صحاري نيفادا و أن قامتك صارت في علو جبال وادي السيليكون.
عند زيارة ( ديزني لاند ) لأول مرة تذكرت أتبرا و دخول أول سيرك هندي لها.
و عند زيارة استوديوهات هوليوود .. استرجعت في مخيلتي كل أفلام ( الويسترن ) ..
(ستيف ماكوين) .. و (أودي ميرفي) الذي كنا ننطقه في حواري أتبرا ( وَد ميرفي ) و كأنه آتٍ من قرية (كنور) أو (التميراب) ..
لم تغيرنا الغربة .. و رغم الفوائد التي تم حصدها في بعض المناحي .. إلا أنها خلفتْ الكثير من المرارات و جراحا لا تندمل ..
و أورثتْ النفس خواءا سببه الجوع الذي طال لتلك الأيام التي غبناها عن أحشاء الوطن ..

Post: #143
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما قبل سودانيز وإلى يومنا )
Author: ابو جهينة
Date: 03-08-2015, 11:28 AM
Parent: #142

بيت البكا في كاليفورنيا

إهداء إلى الزميل و الأخ ( ترهاقا ) أحمد ساطور و أم علاء

أغسطس 1992م .. لوس أنجلوس .. كاليفورنيا

يقدم رِجْلا و يؤخر أخرى أمام باب شقته في لوس أنجلوس ..
مد يده ليفتح الباب ..
تراجع عن الفكرة ..
هل يتصل بها بالهاتف و يخبرها بالخبر المحزن ؟
و لكنه قال لها أنه قادم للشقة ..
رغم أنها سألته : ليه صوتك متغير ؟ في شنو ؟
إلا أنه راوغها و قال أنه في الطريق ..
وقْع الخبر لا زال يصك مسامعه .. ( البركة فيكم .. والد زوجتك توفى ) ..
خبر الموت في الغربة له قرع الطبول الجوفاء ..
ينزل عليك الخبر فيشل حركتك .. فتتنازعك عدة أحاسيس في آن واح .. الحزن القاتل على الميت و أنت بعيد عنه .. و منظر الباكين هناك من الأهل و الأحباب .. و منظر الميت و آخر لقاء لك به و كم هو مؤلم أن يموت لك أحد في الوطن و أنت بعيد عنه لم تره منذ زمن .. إنه الفراق الطويل الموغل في الطول .... و ثم أخيرا التفكير كيف تصل إليهم على جناح السرعة و هم في غمرة حزنهم لتعيش معهم هذا العزاء الكبير و تقاسمهم اللوعة و الحسرة ..

كل هذه الخواطر جاشت في خاطره و هو يقف مترددا أمام باب شقته لا يعرف كيف يبلغها الخبر و هي التي كانت تتحدث عنه بالأمس القريب و كأن حاسة سادسة همستْ لها بأنه سيودع هذه الفانية على عجل ..
توكل على ربه و دلف إلى الشقة كمن يهرب من المطر إلى المطر بأن يهرع إلى رذاذه فهو أمر لا محالة واقع ..
عرفتْ بأن وراء الأكمة ما وراءها ..
تجهم وجهها ..
تعرفه تماما حينما يكون أمر يشغله ..
تعرف صمته .. و تعرف حدود حزنه ..
لذا فقد خمّنتْ بأن تجهمه يحمل خبرا جللا ..
رمى إليها بالخبر و هو يشيح بوجهه بعيدا عن مواجهتها ( أبوك توفي في كسلا ) ...
و لأن حزن نسائنا يخرج عند إبتدائه بزخم مزلزل كصوت هدير الرعد في ظلمة ليل بهيم ..
و لأن حزن نسائنا يستدعي تحزيم البطون بأقرب ( طرحة أو توب ) ..
و لأن حزن نسائنا يصيبهن بحرقة في البطون .. و يصيبهن في مقتل .. ينطلقن على سجيتهن في إرتجال حزين يعددن صفات الميت و صلاته الحميمة .. لا يتركن كرمه و مجاملاته و غضبه و حلمه .. و في غمرة الحزن يتساءلن عن مصير بقية الأسررة دونه حتى و إن كان قد ترك ثروة قارون وراءه لورثته ..
إنه حزننا النبيل .. يتدفق كماء النيل في فورة عنفوانه ..
و علا صوت أم علاء المفجوعة في الشقة التي لم تصمد جدرانها أمام هزة الحزن .. فسافر البكاء عبر الجدران إلى ممرات المبنى و الشقق المجاورة ..
أحمد ساطور يعرف مغزى أن يسمع الأمريكان في المبنى تصرخ كهذا صراخ ..
و قبل أن ينتهي من خاطرته دق عليه أحد جيرانه الباب ..
يعتقد بأن أبوعلاء يمارس عنفا منزليا بضرب زوجته ..
سأله أكثر من جار What is going on man ???
شرح لهم الموقف .. و لكنهم لم و لن يستوعبوا أن يكون حجم اللوعة بهذا الكم و الزخم من العويل ..
سرعان ما تغلغل الحزن و سكن في الدواخل ...
و كم من حزن يسكن دواخلنا .. لا يهب من رقدته إلا أن جاء حزن آخر يكسر صفحة بِرْكته الهادئة المستكينة إلى ذاك الحين ..

***

أم علاء .. عذرا إن كنت قد هيجت بعض الذكرى .. و لكن الحزن بالحزن يُذْكر ..

Post: #144
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما �
Author: ابو جهينة
Date: 03-15-2015, 08:50 AM
Parent: #143

نواصل أضابير الغربة والمغتربين

مع التحية لأخي الصديق الصدوق / الطيب بشير

Post: #146
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما �
Author: ابو جهينة
Date: 03-25-2015, 02:15 PM
Parent: #144

بعد أن عاش ( سليم ) أعواما من الرخاء و رغد العيش بغربته يحتضن أسرته.
توقفت فجأة تروس الترف و عشعشت الحاجة بين جنباته و أخذ الفقر يطرق بابه صباح مساء و العوز يمسك بتلابيه.
اتخذ قراره سريعا بعودة أسرته لحضن الوطن .
قاومت زوجته فكرة الرجوع بكل ما أوتيت من حجج و عناد ، توسلت إليه ، و عندما اصطدمت توسلاته بإصرار ( سليم ) قامت بالاستعانة بالأجاويد و لكن دون فائدة ، فتصدّت شقيقتها ( حفيظة ) التي تعيش معها بنفس الغربة للأمر و وقفت في وجه ( سليم ) تناكفه و تحاججه و تارة تكيل له سيلا من الإهانات ، بل و أتهمته بأنه ربما ينوي أمرا و يتأبط شرا.
كل هذا لم يغير من ما خطط له (سليم) فهو يعرف و يعي تماما أن قراره في صالح الأسرة.
أذعنت زوجة (سليم) نهاية المطاف و عادت مع أطفالها و هي تعاني ألما نفسيا طال جسدها .
شقيقة الزوجة ( حفيظة )، فاجأها زوجها يوما بخبر زواجه من إحدى قريباته يتيمة الأبوين و تعيش في القرية لا حول لها و لا قوة و أنه سيرسل في طلبها لتعيش معهم بالغربة تحت سقف واحد ، فما كان من ( حفيظة ) إلا أ طلبت الطلاق و عادت للوطن بعد أن جعلت بعلها يرى عدة ( نجيمات عز الظهر ) و بعد أن جردت البيت من كل ما خف حمله و غلا ثمنه.
بعد معاناة مع المرض لم تدم طويلا ، فارقت زوجة ( سليم ) الحياة ، تاركة أطفالها لليتم.
بعد أن أنقضت أيام العزاء ، جلس ( سليم ) يفكر في مصير أيتامه دون أم.
لم يطل التفكير كثيرا ، و تم تقليب الأمر على نار هادئة كان وقودها العقل و الأمر الواقع و أشياء أخرى ، وافقت(حفيظة) شقيقة المرحومة على الزواج من(سليم) لرعاية أطفال شقيقتها.
شرط (سليم) الوحيد كان أن تبقى (حفيظة) في السودان مع أطفاله و أطفالها إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. فقبِلت في التو و اللحظة دونما أي نقاش.

Post: #147
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما �
Author: درديري كباشي
Date: 03-26-2015, 08:26 AM
Parent: #146

يا سلام عليك يا ابو جهينة يا مبدع

صنعت خميسنا وجمعتنا

والله النت عندي قاطع في البيت وانا متكاسل من تجديده رغم نقة العيال وأمهم .. لكن هذا البوست حفذني اليوم لازم يتجدد حتى نكطمل السياحة في هذع المتعة

ربنا يخضر ضراعك ولا يجفف لك قلما

Post: #148
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما �
Author: ابو جهينة
Date: 03-29-2015, 08:53 PM
Parent: #147

اخي الاديب الاريب درديري كباشي

مرورك يحفزني اامواصلة

دمتم

Post: #150
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما �
Author: ابو جهينة
Date: 04-22-2015, 09:42 PM
Parent: #148

قصة من مجموعتي : أم عطية :

***

فرحتُ فرحا غامرا ، و حزنت في نفس الوقت لعودة أم عطية بهذ السرعة من السودان ، فقد إستقبلتها الملاريا في الخرطوم بالأحضان و نهشت جسمها النحيل و أدخلوها المستشفى قسم العناية المركزة ، حتى أن إبنها إضطر لأخذ إجازة طارئة و أتى بها إلى هنا قبل أن تمتع ناظريها بنيل قريتها و باسقات نخلها ، و كانت تمني نفسها بأن تحضر حصاد البلح و تستعيد غابر الأيام ( و شبابا كان و حزنا كان و شوقا كان. ).
و كنا نمني أنفسنا بحكاوي من ريحة البلد تعطر سماوات غربتنا التي تعطنت بطين الغربة الجاف.
زرتها في المستشفى ، كانت كل أنحاء جسدها النحيل به آثار زيارة البعوض ، ناديتها بصوت هامس ، ففتحت عين واحدة و إبتسمت نصف إبتسامة باهتة، ثم إستسلمت لسلطان نوم التعب و الإرهاق و فيح الحمى.
لم أنقطع عن زيارتها يوما ، و لساني يلهج بالدعاء لها. كنت كلما أذهب لزيارتها آخذ معي كمية من الإسنكرز التي تحبها ، حتى إرتفع رصيدها إلى ما يملأ ( جردلا) صغيرا.
عندما ذهبت آخر مرة لها بالمستشفى قبل خروجها منها ، وجدتها تلتهم الشوكولاتة بنهم و هي تقول : بالله النصيبة دي هناك طعمها غير هني ، أتقول الشوكولاتة كمان هناك بتجيها الملاريا.
ضحك الدكتور السوري و قال لها مداعبا :
ما توكليش حلويات كتير ، بعدين يجيك سكري.
فقالت أم عطية و هي ( تمتشق ) صباعا آخر من الإسنكرز : ما تخاف علي يا سكر إنت ، لو غطسوني في برميل شوكولاتة ، ملاريتنا دي بتجيب خبر السكر الفيها . هاك يا الحكيم ، تاخد ليك شوكولاتة ؟
و هي تلملم أغراضها من المستشفي ، إهتمت فقط بأخذ الشوكولاتة في كيس ماكن. ، و هي تعطي تعليمات لإبنها و زوجته بلملمة باقي الأغراض.

يقول إبنها و هو يغالب الضحك : دارت أمي على كل الأقسام بالمستشفى وهي تقول للمرضات : ما نجيكن في شيتن بطال. نفضوا فرشاتي ديل كويس يمكن في بعوضة جات زى ناس الزوغة في نص هدومي ، تقوم تجلبغ ليكم مستشفاكم السمح دة بالملاريا ، و الله جضيماتكن الزى طماطم الشتا دة يبقى بعدين زى الباذنجان المضبلن. دحين يا عطية البنيات بيحملن قرصة بعوضنا ؟ و الله يكبكبن الدم زى دش الحمام. نحن جلدنا ما بقى زى لفة القمر دين ، طبقات طبقات.

و تتضاحك الممرضات الفلبينيات من حديثها المتواصل غير المنقطع و هن يتحسسن خدودها المنقوشة بالشلوخ ، و كأنهن يردن التأكد من أنها حقيقية.
و في ليلة خروجها ، إجتمعنا عند إبنها في وليمة عشاء ( كرامة السلامة ) ،
فجلست على طرف السرير و قلت لها : و الله ألف حمد الله على السلامة . صراحة أنا شفقت عليك يا حاجة.
فقالت و هي تزيح السفة من جهة لأخرى بطرف لسانها : و الله أنا إشتقت ليكم في اليومين البسيطات ديل يا حشاى.
قلت لها و أنا أحاول أن ( أنكش ) كومة حديثها و أفتح صنبور حكاويها : الملاريا دي كيف حسيتي بيها بالأول ؟
قالت و هي تهز يدها اليمنى كأنها تدق على رق أو طار : بري ، بري يا ولدي، زمان البعوض تسمع صوتو يون و يزن فوق راسك و جنبك ، حسع عليك أمان الله النوع الجديد دة كاتم صوت زى جنريتر ناس حياة جارتنا في أم بدة. بعدين أنا سمعت إنو في بخت الرضا وعلي الجهات ديك البعوض بيجي في شكل عصابة ، إتنين يرفعوا الناموسية و البعوضة التالتة هي البتعضيك. لكن حسع البعوض في الخرطوم بقى شغلو إنفرادي ، الناموسة تجي و ترفع الناموسية و البطانية بي جنحاتا ، و تمد الإبرة حقتا و يا جلد جاك بلا .
ثم قالت : كان ما أخاف الكضب تسمع شفيط الدم زيما بتمص ليها في عصير بالشفاطة ديك. ( و ضحكت و هي تضربني ضربة خفيفة على ظهري للدلالة على المبالغة ).
قلت لها و أنا أداري ضحكتي : معقولة دي يا حجة ؟
فقالت و هي تعتدل في جلستها : إنت ما مصدقني ، لاكين أحلف لك يا جنا ، وكت تغز إبرتها في جسمك ، زى النغزوك بي ضفر الأصبع.
قلت لها : المستشفى هناك كيف ؟ زى هنا ولا أحسن ولا أكعب ؟
قالت : أنا وكت الحمى زادت فوقي ، غبيت و ما عرفت أنا وين ، أها لما فتحت عويناتي ، أنا كنت قايلة روحي في الرياض ، مستشفى زينة ساكت وحلوة ، قلت يا ربي عطية دة جا و نقلني بالسرعة دي ؟ أها و الخلاني أشك إني فعلا في الرياض ، أشوف ليك ممرضة من أمات عيون الزى خطرات عربية ناس مصطفي جاركم دة ، عويناتا قايلات كدى لافوق أتقول مشدودات بي مشابك من نص راسا. جنس الممرضات ديل أنا ما قابلني علا هني في الرياض.
قلت لها و أنا أستحث ذاكرتها و أستفز مخزونها : في جنس حفلات فاتنك يا حاجة ، حاجة تمام.
قالت و هي تسرع لحوض الغسيل لتفرغ السفة و توابعها : أصبر.
ثم عادت و قالت : الحفلات دي الشي الوحيد ال كنت متأسفة لي عدم حضورن. إن شاء الله عندكم الشرايط.
فوعدتها خيرا ، و خرجنا و نحن ندعو لها بالصحة و العافية.
قابلني إبنها في اليوم التالي ، و ما أن رأيته يضحك ، حتى عرفت أن في جعبته حكاية جديدة عن أمه ، و قبل أن أسأله قال : تصادف أن كان معها في الطائرة للخرطوم والد أحد زملاءنا بالعمل ، و هو مقيم مع إبنه بعد وفاة زوجته أم زميلنا ، كان ذاهبا لتعزية ، فأوصيته بوالدتي ، و أظنه بالغ في العناية التي لا تحبها . والدتي تتضايق من الإهتمام الزائد بها.
و تصادف أن رجع الرجل معنا على نفس الطائرة التي رجعنا بها للرياض ، فقالت أمي و هي تئن من وجع المفاصل من شدة الحمى : الراجل دة زاد على المرض. أنا مكجناهو من يومي.
يا يمة الكلام دة ما بيصح ، الراجل كان ماخد بالو منك لما جيتي للخرطوم براك.
قالت و هي تئن : الراجل دة طمعان في أملاكي.
قلت لها : أملاكك شنو يا يمة. ياهن الكم فدان و كم نخلة الفي البلد؟
قالت : يا الغبيان ياهن ، ديل الأملاك ، و المتلك ما بيعرف قيمتن ، لاكين هو المتل يد الفندق دة نجيض بيعرف ليهن. يعني أمال طمعان في شنو يتكبكب فيني كدي ؟ إنت شايف أمك دي ليلى علوي ولا شاكورا ؟ كلمو يغير محلو دة ، أنا بتلبش وكت أشوفو.

يقول : كان الموقف محرجا ، و الرجل يجلس قبالتنا ، و كلما سمع الوالدة تئن ، يسرع و يقف بالقرب منها عارضا خدماته ، فتصيح أمي و تقول : الليلة وووب ، الملاريا يا عطية. الكينين يا حشاى. الطيارة دي مالا أتقول واقفة في الإشارة.

و يهرول الرجل مرة أخرى و يضع يده على جبهتها ، فتبعده بحركة عصبية و هي تقول من تحت أسنانها : أنا راسي زى ليمونة المخلل ، الراجل دة ما يلمسني يا عطية.

يقول إبنها و هو يمسح دمعاته من الضحك : كنت في موقف لا يحسد عليه ، هل أضحك أم أغضب ، و الرجل لايفهم قصد أمي ، و يصر على خدماته. و يهرول إليها بحسن نية كلما تململت. و أنا أبرر تصرفات أمي له بأنها بسبب مخلفات الحمى الشديدة.

يقول ، عندما أتت المضيفة بكوب ماء لأمي ، أمسكتها الوالدة من يدها و قالت لها : يا بتي ، درجة أولى مافيها كرسي فاضي ، ودوني هناك وبدفع ليكم الفرق.

Post: #151
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما �
Author: ابو جهينة
Date: 04-23-2015, 09:19 AM
Parent: #150

التحية لأخي ( عطية ) ورد الله غربة الجميع سالمين غانمين

Post: #154
Title: Re: من ملفات الإغتراب والمغتربين ( منذ عهد ما �
Author: ابو جهينة
Date: 08-09-2015, 12:07 PM
Parent: #151

تردد كثيرا في الذهاب للقرية لوداع أمه ، خاف أن يضعف أمام دموعها فيلغي فكرة السفر.
كيف تسافر من غير ما تاخد رضاها ، على الأقل تدعو ليك بالتوفيق؟
تساءل صديقه.
فأجاب بعناد : لن ترضى ، أنا أعرفها ،، فهي تنتظر مجيئي كل أسبوع ، فتستقبلني وكأنني غبت عنها سنوات ، فكيف إن قلت لها بأنني سأسافر لتبتلعني الغربة.
سهر الليالي والأمر يتجاذبه.
ذهب إليها ،، قضى اليوم كله أمامها ،، حتى أنه لم يذهب لعرس أخت صديقه ،،
إندهشتْ أمه لهذا التصرف : روح جامل صاحبك.
قال دون النظر في وجهها : ما عندي نفس لأي حاجة.
ينظر إليها ،، ثم يتحاشى نظراتها كمن إرتكب جرما.
ثم حدق فيها طويلا ،، هذه الأم الصابرة ،، وقفتْ كالرجال بعد موت أبيه حتى تزوجت شقيقاته وأكمل تعليمه.
إمتلأ رأسها بالشعر الأبيض ، وخطَتْ التجاعيد خطوطا أفقية متعرجة على جبينها وأعرورقتْ يداها بفعل العمل الشاق.
للحظة كاد أن يقسم بأن لا يسافر ويترك هذه الشامخة .
و لكنه تذكر الفرصة التي ذكرها له صديقه عمر .
و الله يا ولدي ما عارفة المرة دي حالتك غريبة. قلبي ما مطمن.
طمأنها رغم أنه يعلم تماما بأنها تعرف بمجرد التحديق في وجهه إن كان يكذب أم يصْدقها القول أم يجامل.
في الصباح الباكر ،، دلف إلى غرفتها و قد أضمر أمراً وتأبط قرارا حاسما بعدم السفر.
وجدها ترقد على جنبها الأيمن ومسبحتها تتدلّى من يدها اليمنى، وإبتسامة كسْلَى ترقد على أطراف شفتيها.
عندما واراها القبر وتقبّل العزاء.
كان قد إتخذ قراره النهائي بالرحيل صوب مجاهل الغربة.
كان وجه والدته ذلك الصباح الذي فارقتْ فيه الدنيا، يلازمه في كل منحنيات المنافي التي تنقل فيها.