الفصل الأول من رواية البعث

الفصل الأول من رواية البعث


06-22-2003, 01:21 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=463&msg=1261430327&rn=0


Post: #1
Title: الفصل الأول من رواية البعث
Author: emadblake
Date: 06-22-2003, 01:21 AM

البعث_________________________________

لا يجد الإنسان نفسه في مطب حرج إلا ويشعر بأن الحياة بدأت حصارها المجنون، ذلك قدر لابد منه، كان على عبيد الله أن يواجهه ويحاول افتعال كافة السبل الممكنة لتجاوزه، وحده الجنون يكفي لمواجهة الجنون وتحويل الوقائع المفاجئة لفرص مفيدة، لكن الحياة أحيانا كثيرة لا تقبل القواعد المعروفة والمألوفة، الرحلة يا عبيد الله تحتاج الصبر، وأنت طائر الوجع، أنت سيد الحزن الذي لا يقاوم، أنت الذي صنع فرحته من العدم وحكم عليها بالموت سريعا، تذكر الليلة كالبارحة، كان الفصل خريفيا، والسماء لم تكتنز بعد بالوعود الصادقة، الأمطار لم تأتي بحنينها القديم، تعيد ذكريات الطفولة والحلم المثقوب، حلمك أنت وحدك لا غير، حلم أن تبني مجدك إنسانا عظيما، أعرف أنك سئمت الملل، ووجدت في العمر المتبقي فؤادا تعرف كيف تنبت فيه جنتك المفقودة، فؤادك أنت، وحدك، ودائما كنت وحدك لا رفيق لك في الدرب.
مرت سنوات وسنوات قبل أن تكتشف حجم المفارقات التي تحفل بها الحياة، جنون المدن وصلافتها البدوية الفجة، الانتحار البطيء الذي يشهق في وجهك صباحا ومساء، العيون التي جرحتك بلا مبرر، كان كل شيء من حولك يمتد حبلا بلا نهاية، ذكريات موجعة ومؤلمة عذبتك قبل أن تلاقي العذاب مرتين، قلت لي : " العمر صخرة تنكسر بالخوف من المجهول "، صدقت الآن بعد أن تغيرت القوانين فجأة وصار عليك أن تفهم أن الآخرين يجب أن نضع لهم مقدارا ولو يسيرا من الحذر، أعرف أنك ستقول لا يستحقونه، الجرذان مثل الكلاب لا تحفظ الود، لكن الجرذان الميتة تعفن البيوت، أنت تبحث عن الراحة والسعادة وتريد أن تقضي باقي أيامك في السجن بلا قلق، سيمر بك القلق حتما، ستخاف، ستتوجع، ستحن إلى زمن لم تكن فيه أنت أنت، كنت تبحث عن ذاتك المفقودة بين وجع المدن، الآن وجدتها قل لي بربك ماذا حصدت غير حبل المشنقة، ينتظرك في الصباح الباكر، سيقابلك السجانون بالبنادق، سيهتفون في جسدك الهزيل، سيرمونك بأقذع الألفاظ، سيجرونك يسارا وأماما، يلعنون يوم ميلادك وفرحك، ويوم خرجت لتقول لا ، الذي يقول لا يجب أن يعرف العواقب، أنت معاند لن تفهمني أبدا، ستقول لي الحقيقة يجب أن تقال حتى ولو كان ثمنها الموت، هاأنت تحصد الموت الذي كنت تتمناه.
الموت في سبيل المبادئ حرية جديدة يحيا بها ميت الأحياء، ذلك افتراء منك، من ما لا يحب الحياة حتى النخاع، يريد الحرية وهو حي يرزق، يخرج بها من دائرة العدم إلى الوجود، أن يكون إنسانا له مغزى، لكن الحرية ثمنها عسير، لا عليك، الآن ربما تحدث مفاجآت من نوع ما، نحن في بلد كثير التقلبات، صدقني قد نستيقظ في الصباح لنجد أن الشمس تشرق من مغربها، هؤلاء الساسة يجب أن نحترمهم مهما كانت فجاجاتهم القذرة، أنت لا قبيلة تشفع لك ولا مال، ولم تعش إلا بفؤادك اليتيم، الذي مثلك عليه أن ينسني للعواصف الهوجاء، هي تقتلع الجذور، فكيف ببائس مثلك، لم يثق في صخرة العمر، كان يود المجهول بافتراضات لم يحسن تقديرها، هذا هو المصير عليك أن تتحداه إذن بكل شجاعة، أعرف أن الشجاعة لا تنقصك، لكن الموت صعب، الموت للحر الذي يتلذذ بالحياة نوع من العبقرية التي يتأخر ميلادها، ولا يستفيد منها.
أنت جربت سجن الذات وعذاباتها، لكنك لم تجرب السجن الحقيقي، الموت بحبل يلف حول رقبتك، أو بالرصاص الذي لا يدع لك فرصة أن تفكر في مرارة الهزيمة، هذه في حد ذاتها نعمة لا ينالها إلا الغرباء مثلك، ستقول لي أنك ضحيت من أجلهم، هؤلاء البؤساء الذين كانوا يحلمون بك مخلصا لهم، مسيحا منتظرا يقف على حافة النهر، يصنع الوطن الجديد، الذي فيه الناس مجردون عن الأنانية، رحماء بينهم، يصنعون الحب من وراء كل شقاء، لا يعرفون الكراهية والبغضاء، لكنك خذلتهم بموتك، بالحبل الذي التف حول رقبتك الصغيرة، وخذلتهم عندما صلوا في الليل ينتظرون نهاية العالم قبل الفجر، قبل أن ينال الجلاد مبتغاه ويحرق السفينة التي ظنوا أنهم سيركبون على ظهرها في الصباح محمولين إلى أرض الخلاص التي وعدتهم بها، ألم تقل لنا أن موتي يعني نهاية العالم وأن لا شجر ولا حجر سيبقى من بعدي، أنا الأول والأخر، ألم تقل أن رحيلك هو بداية عالم جديد، سيولد وراء ميلادك الموعود، كنا نقدسك، ما زلنا، وسنظل نؤمن بأنك رفعت إلى السماء، أنت لم تمت، باق فينا تحقق لنا معنى أن نكون، سنصلى لك طويلا، وستصلي لنا من سماواتك العلية، سننتظر عودتك عند ملتقى النهرين، في فجر يشبه فجر صعودك إلى السماء.
تلك رحلة كان لابد لعبيد الله أن يعيش تفاصيلها المملة اللذيذة، شاء أو أبا، فالمرء في هذه الحياة عليه أن يركن للأقدار تسوقه أنى شاءت، وكيفما أرادت، كان عبيد الله يؤمن بذلك، لكنه لم يكن متأكدا من شكل النتائج والمفاجآت التي يحملها عالم لا يعرف السكون، ولا المودة، أفـكاره ربما سبقت الـزمن الذي عاش فيه، كان يقـول
لنا : " هذه أكذوبة كبيرة، أن يكون زمن ما أصغر من الأفكار المطروحة فيه، الزمن هو الزمن، الناس هي التي تصغر عقولها وتكبر".
بكينا بدموع غزيرة فاضت على النهرين، لم يدخل المساء سريعا مثلما تعودنا في السنوات الماضية، لقد تأخر كثيرا في هذا اليوم، ونحن ننتظر الرجل الذي غاب وراء النهر، إلى السماء، كانت رائحة الخرطوم لا تطاق، ثمة عساكر يتراصون على الطرقات عند الجسور تحسبا لأي طارئ يمكن أن يحدث، الجنرالات في الجيش تغلفوا بالخوف الذي لم يعلنوه جهرة، كانت ثكنات الجيش سوداء كالحة في الليل رغم الإضاءة الباهرة التي غمرت المكان دون سائر الأمكنة في المدينة، في ليل شتوي قاسي يشعر النفوس بالوحدة والعذاب القديمين، وأن نهاية العالم قد اقتربت حقيقة لا خيال.
خرجت بسيارتي القديمة ماركة (الهانتر) من منزلي العتيق في وسط الخرطوم، لم أحدد هدفا ما، أخرجتني الوحدة والقرف الذاتي المرير، كان أولادي قد سافروا إلى عطبرة يقضون الإجازة مع الأهل، لم أسافر معهم، عشر سنوات كاملة لم أرى عطبرة ولم اشتم رائحة القطارات الصاعدة والهابطة لا تفتر، كأنها تئن وتصرخ بعد أن تشرد الآلاف العمال الذين كانوا يقومون على رعايتها وصيانتها، في تلك الليلة تذكرت سنوات طفولتي هناك، كم كنت معبأ بالجنون والرغبة في الانعتاق، لكنني لم أجد هذه الحرية الحلم ذات يوم، كانت حياتي مطبات في طريق صحراوي طويل من الرمل الذي تغوص فيه الإطارات ولا تخرج، حياة بدأت قبل أن تبدأ، وانتهت حتى لو أنها لم تنتهي في واقع الأمر، جرحي يزداد يوما بعد يوم، وفاجعتي كبرت اليوم بعد أن ضاع آخر خيوط الحقيقة التي تشبثت بها، يا رب هل سنجد يوما ما هذه المدوخة، أم سنظل غرباء، أكاد أجزم بأن هذه الغربة لن تغادرنا أبدا، ستظل ديدننا شئنا أم أبينا، سنسير في الطريق وسنلاقي الموت في لحظة من إخلاصنا الغريب للوجع والكبرياء فينا.
أوقفني الجندي موجها البندقية نحوي، سألني :إلى أين ؟ لم أرد عليه، أعرف أن حظر التجوال لم يرفع عن البلد، وأن الحذر قد اتسعت دائرته بعد أحداث اليوم القاسية بالنسبة لي، قدمت له بطاقة هويتي، تأملها في ضوء السيارة، وأمرني بأن أظل واقفا في مكاني حتى الصبح، حاولت أن أتكلم، مانعني الكلام، لا مخرج إلا أن أنتظر أحد الجنرالات الذين يأتون لمراجعة الخارجين عن القانون مثلي، تسمرت بالصبر، وقفت ساعتين كاملتين رأسي إلى جدار الخيمة القائمة وراء النهر عند الجسر، كنت كأنني لست هنا، لم أولد يوما ما ولم أجرب الحياة، لعنت الوطن الذي أخرجني رجلا غبيا، لعنت المعرفة التي دوختني، لعنت كل الجنود الذين تراصوا في الطرقات، لكني قلت لا ذنب لهم الأزمة في رؤوس الجنرالات الوقحين، لا أدري كيف مضى الزمن وأنا واقف، لا حراك ولا بصق، لو بصقت لقالوا لي مما تتأفف أيها العجوز.
هل كبرت فعلا، وتجاوزت الستين من عمري، ربما كان هذا واقعا، لكن الحياة في أحيان كثيرة تنعدم فيها التفاصيل ولا نحس بالزمن كيف يمضي قاربه بنا، لماذا أنا عجوز الآن في هذه اللحظة بالذات، عندما قال لي جنرال الدورية ذلك في هجاء قذع مغلف بالشتيمة، فكرت قليلا مع نفسي وسط هزيمة سياط الأغبياء من حولي، أكتشف لأول مرة أن الأمر حق وعليّ احتماله مهما كانت النتائج، العمر لم يبق فيه باق أذن، والحياة ذهبت أدراج الريح العاصفة في بلد لا يرحم.
تأمل الجنرال وجهي بقسوة، لم يخاطبني بكلمة، تناثرت نظراته الغبية على وجهي، شعرت بمرارة أن تفقد حريتك في وطنك، لطمني في لحظة تلاشى فيها الزمن، قال لي : أنت من المأجورين، لم أرد عليه، أعرف أنه لا يفهم، ولن يسمعني، عليَ بالصمت، وليكن ما يكن، لا شيء سيكون جديدا، لقد تعودنا على هذه المرارة وهذا الغباء الفج، كان وجه الجنرال يسود في الظلام، ويبيض بكلاحة مع الأنوار الصاعدة والهابطة لسيارات الجيش، أجهزة اللاسلكي تعمل بشكل غريب، لا تفتر من هذه الأيدي الملوثة بدمنا وحلمنا، ظللت واقفا في مكاني بأمر الجنرال الشاب، يبدو في الثلاثين من عمره، كأنني رأيته من قبل، حاولت أن أتذكر وجهه المكور والمعلم بدائرة على الجبين تقول بأنه يكثر الصلاة، اعترفت دواخلي بأن إضاعة نعمة التفكير في تذكر مثل هذه الوجوه حرام، ألم نتعلم ذلك من عبيد الله، ألم يقتلوه فجر اليوم ببنادقهم الكافرة، بعد لحظات تذكرت أن الشاب كان يقابلنا في بوابة قاعة المحكمة حاملا أوراق القضية المزعومة، ممثلا للإدعاء العام، لا يدخل القاعة الصغيرة، يكتفي بتقديم الأوراق لرجل آخر تولي مهمة أن يكون كائل الاتهامات لعبيد الله.
عندما بدأت في ترتيب خطوط هذه الرواية في ذهني كنت أود الكتابة عن سيف الدين السوداني الذي أغتاله المشير النعمان وأنا صبي في المدرسة المتوسطة، وقد بدأت الكتابة في غربتين، غربة ذات وغربة وطن، وأن كانت الأولى أقسى عليّ، عبيد الله إذن هو سيف الدين الذي ذهب ولم يرفع إلى السماء، وكان يوم ذهابه خذلانا مبينا لاتباعه الذين كانوا ينتظرون أن يتغير العالم في ذلك اليوم أن يحدث أمر عجيب مثلا أن تقصف السماء الأرض، أو يعلن أسرافيل ساعة البعث، وقد لا أكون دقيقا في التعبير الأخير، لأن سيف الدين كان يؤمن بأن البعث الحقيقي هو بعث العقول لا الأجساد .
والرجل الذي خرج في الشارع كئيبا يوم قتل سيف الدين ليس من اتباعه، ولم يراه يوما في حياته، لكنه لم يستطيع أن يستوعب فكرة موت مفكر، مهما كان الأمر لا يمكن احتمال الفكرة، أن يقتل إنسان صاحب رسالة كان يرغب في أن يغير العالم، لان الذين يمتلكون رغبة قوية في تغيير العالم مدعمة بالأفكار السامية قليلون جدا، ولا أدري أي تصاريف يذهب الدهر نحوها، هل كانت حكمة ما تنتظر أهل السودان وراء مقتل سيف الدين وبقاء رجل مثل حمد النحلان، هذا ليس كلامي، هذا ما قاله أحد أصدقائي ونحن نعيد التفكير في الطريقة التي تسير بها الأقدار في هذه الدنيا، ولو تعاملنا مع الأمر بمنطق الأستاذ سيف الدين لفهمنا أن هناك حكمة ما وعلينا أن لا نستعجل الجواب، ففي يوم ما سوف تنكشف حجب الغيب ونفهم السبب لو بقينا على قيد الحياة. نفس الأقدار لم ترحم النحلان حين ضحكت له لساعة ثم عادت به إلى حصار السجن، كنت أضحك كما الأقدار عندما تمرد اتباع النحلان عليه وأقول الآن فهمت سببا لتفكيري القديم، فيما كنت أفكر سأقول لكم.
قيل أن أغادر الوطن مغتربا، كانت تشغلني فكرة أن أكتب كتابا أقارن فيه بين سيف الدين السوداني، وحمد النحلان، قد تبدو للبعض أن المقارنة ستكون غريبة لكنها ممكنة، ولا أستطيع الآن تحديد مصدر منابعها، ربما جاءتني في ساعة حلم أو في اليقظة وأنا أدخن أو ربما في المرحاض، لا أعرف بالضبط، كنت أتخيل أن النحلان وسيف الدين توأمان عاشا برؤية واحدة لكن كل منهما سلك طريقا مختلفا عن الأخر، قد يقول البعض أن النحلان وأتباعه كانوا وراء مقتل سيف الدين، ولا أناقش هنا صحة ما يقال، وحتى لو كان ذلك صحيحا، فهو لن يمنع التشابه بين الرجلين، فالأفذاذ يدفع بعضهم بعضا.
التشابه بين الرجلين كان الخروج على السائد والمألوف، جاء النحلان بمشروع لتجديد التراث الديني ولم يكمل المشروع لأنه انشغل بالسياسة وبناء الدولة فيما بعد، الدولة التي أصبحت طامة كبرى عليه، وجاء سيف الدين بمشروع الحكم الربانية وهو مشروع تجديدي في خلاصته، يريد أن يغير السائد في وعي الناس للدين، أجزم بأن حمد النحلان الذي قابلته مرة واحدة في حياتي وصافحني بقوة في عام 1993 في دار تجديد منهجية التراث الديني الواقعة بالخرطوم، كان له نفس أهداف سيف الدين، لن أقول أنه جبن في الطرح، لكنه أراد أن ينتصر بالمكر والحيلة فهزمه الله، ذلك لأن الله لا يغفر لمن يريد مدانته في سبل مكره، لقد خلقنا الله لكي نكون مثله، لكنه لا يرضى لمكرنا أن يتطاول عليه.
هناك سيدة ترقد الأن في المستشفى العسكري بأمدرمان وهي تعرف الكثير عن تفاصيل هذه الرواية، ولا أدرى ماذا سيكون مصيرها، قد تموت أو تحيا، هذه السيدة ويفضل لي أن أسميها الآنسة رغم تجاوز عمرها الخامسة والأربعين، استفادت كثيرا من تجربة الصراع الديني في السودان، في أعمالها الفنية التشكيلية، وللأسف الشديد لم يتعرف عليها أحد كثيرا ليكتب عن تجربتها العميقة، أعنى أحد المهتمين السودانيين، وكنت في فترة ما أتوقع أن تكون هناك مبادرة للكتابة عنها من أحمد العركي الذي كتب كثيرا عن رموز الحركة التشكيلية السودانية وهو الذي ابتدع مصطلح التأصيل في التشكيل، لكنه لم يكتب عنها، ولا يمكنني أن أفهم سببا لعدم كتابته عن رمز هام وإستراتيجي في الحركة التشكيلية السودانية الحديثة.
قبل أن يهاجمها المرض، أو داء اليأس على وجه التحديد، كانت سعاد نصر الدين معبأة بالحلم والطموح، ومثلت الحياة بالنسبة لها متعة كبيرة جدا، خاصة عندما تجلس في غرفتها المربعة ذات الطلاء الأزرق، تحاول أن تعيش تفاصيل حلمها الجميل للحياة في لوحة جديدة، تطلق عليها البعث، كان المساء نفس ليلة الإعدام المشؤومة لسيف الدين، وقد أحبت أن تأتي اللوحة لتحكي عن حركة الإنسان في التاريخ، أي كان هذا الإنسان وأين كان، الإنسان الذي رسمته أمس أو الذي ترسمه له اليوم. كان معنى الإنسان لسعاد نصر الدين يختلط في أحيان كثيرة رغم عمقها الفكري والمعرفي بالرجل الذي أحبته ذات يوم وهي طالبة في الجامعة وهرب منها دون أن تلحق به، أو ربما هربت هي منه، ليست متأكدة الأن بدرجة كبيرة كيف كانت الوقائع أو كيف سارت، حتى تحولت بعدها لآنسة عجوز، تزوجت الفن.
منذ صغرها وهي طفلة تلعب بالطين، راودها حلم أن تصبح فنانة تشكيلية، عندما رأت مستر بيكر الرحال النمساوي عابرا بالرميلة بصحبة رسام يسجل له وقائع الحياة والناس، والتي ضمنها فيما بعد في كتاب ضخم عن رحلاته في وادي النيل، ربط فيه الصورة باللوحة بالذكريات والخواطر. نجد ان هناك فارقا زمنيا لا يمكن بعد معرفته استيعاب رؤية سعاد لمستر بيكر، لأن بيكر جاء في رحلته إلى السودان مع قبائل العبارين في عام 1816 م فيما ولدت سعاد بعد هذا التاريخ بأكثر من مائة وخمسين سنة، لكن نفهم هذا الأمر فأن ود ضيف الله صاحب كتاب الطبقات سوف يحل لنا هذه الإشكالية التي في نظره بسيطة جدا.
كانت سعاد تصنع أشكالا من الطين أجمل من التي كان التيجاني يوسف بشير يصنعها في قصيدته الجميلة التي درستها سعاد في المدرسة الأولية، لكن التشابه بين سعاد والتيجاني في أن كل منهما كان يحطم الطين بعد أن يصنع منه جسدا جميلا، يكاد أن يكون معبودا صغيرا، أذن كان من النادر أن يعجبها الشكل الذي تصنعه، وقد ظلت هذه العادة تلازمها حتى بعد أن أصبحت فنانة محترفة، لا ترضى بمستوى اللوحة إلا بعد أن تعيد رسمها أكثر من عشر مرات، وفي لوحة البعث التي جسدت فيها يوم القيامة كانت المحاولات قد وصلت لخمس وثمانين محاولة غير مرضية، كانت ببساطة تبحث عن سر اللوحة، أو التميز وكان يحيرها معنى الغرابة والتفرد في العمل الفني، فكثير من لوحاتها التي بدأت لها غير ذات معنى وجدت حفاوة كبيرة في معارضها بنيروبي وباريس.
إلى أن دخلت كلية الفنون الجميلة وتتلمذت على يد أحمد العركي كانت مشغولة بفكرة البناء والهدم، وبعد تخرجها بأربع سنوات استقرت على معايشة مفهوم البناء والهدم بأسلوب منطقي جدا عندما أفتتحت مكتبا للديكور الداخلي في الخرطوم، وكانت تشترط على عملائها أن لا يسـألوا عن موعد تسليم العـــمل، تقول لهم : " سأبني وأهدم وأغير حتى أصل للديكور المناسب ". لبعض العملاء من أثرياء الخرطوم الجدد لم يكن الأمر مقبولا، لكن الذين يفهمون في الفنون، ولهم رغبة صادقة في تشكيل ديكور عصري لمنازلهم ممتزج برائحة الحضارة النوبية القديمة وبعض الزخارف الأفريقية كانوا يلتزمون الصبر، ويدفعون مبالغ كبيرة لم تكن سعاد تطلبها منهم، أو تتوقعها، وهذا طبيعي لامرأة نشأت فقيرة .
حياتها وبعد 45 سنة مليئة بالإنجازات المغيبة تبدو بالنسبة لها قصيرة، وهذا ما فكرت فيه الأن في المستشفى، وفكرت أكثر أنه لا جديد في حياتها بعد كل هذه السنوات والأموال الطائلة التي جمعتها، وسألت نفسها بخنق : " هل يرهن الفنان حياته للسـراب، لا يحقق حلمه ؟ " لكنها تداركت السؤال بعد تفكير بسيط " هل أنا متأكدة من حلمي تماما ؟". كانت صادقة مع نفسها، وهذه واحدة من الأزمات التي ورطتها في حياتها، وقد قلت لها قبل أن أكتب عنها في الرواية :
- لن يصدق الناس وهم يقرؤون الرواية بأن هناك امرأة سودانية بهذا النبل والوعي العميق للحياة !
- حتى لو لم تكن متأكدة من حلمها، ضحكت وهي تقول ذلك.
- دعيني أقول أن حلمك ذلك الرجل الذي هرب منك ذات يوم.
- لست متأكدة أنه هرب، ربما أنا الذي هربت.
لم اقدر على مواصلة الحديث معها كانت تحس بالإعياء المبكر، وكانت إجازتي في الوطن على وشك النهاية، شهر واحد فقط، وقد لا أستطيع زيارتها مرة أخرى، عليّ بالسفر إلى الشمال، ومن ثم العودة إلى الخرطوم فالطيران إلى الخارج. فهمت بذكائها دون أن اشرح لها كثيرا مرادي، أنني أخطط لـنهاية الرواية قبل نهاية العام، فقـالت لي : " أخيرا وبعد رحلة من الإنجازات، لا أحس بثمرة لحياتي .. أكتب هذا، وأنا مسؤولة منه أمام الذين سيقرؤون الرواية".
هأنذا أكتبه رغم مرارة كبيرة حاصرت روحي وجسدي في الطريق البري إلى الشمال، كان سببها أخر كلمات قالتها لي وهي تودعني على باب شركة الديكور في حي العمارات بالخرطوم : " الفن رسالة قذرة .. في دولنا علي البنت أن تكون ربة منزل أو عاهرة ".
" أنت ترسمين لنفسك أم للناس يا سعاد لو أجبت على هذا السؤال سوف تتجاوزين يأسك؟ لماذا تصرين على أن كل شيء اصبح بالنسبة لك معاد ومكرر، وتحلمين في أحيان كثيرة لو عدت تلك البنت الريفية البسيطة التي تزوجت أبن عمها وأنجبت أولادا، لكن هل كنت ستحتملين الحياة بالشكل الروتيني ؟ أبدا لن تفكري بهذا الشكل الذي تفكرين به الأن في أن حياتك روتينية وثقيلة، لأنك تفكرين داخل تجربتك وواقعك الحالي، يجب عليك أن تخرجي من دائرة معاشك حتى تفكري بشكل جيد، تخيلي أنك بنت صغيرة، سعاد التي لم تكبر بعد، ولكن كيف ستتخلين ذلك وقد صار الواقع، عليك أن تواجهي جراحك الأن، الجراح التي تؤلمك فعلا وأنت في إعيائك الشديد، بعد الحادثة التي تعرضت لها بسبب الإرهاق والتفكير الدائم. ما الذي سيقوله الناس عنك خاصة بعد أن تورطي مع هذا الكاتب المتهور في أن يزجك في رواية، ليتسلى الناس بحكايتك، هل تهاتفينه الأن وتقولي له دع هذا المشروع، هذا جنون، لكنك كنت دوما تؤمنين بالفن ودور الأدب في حياة المجتمعات، وقد قلت له بالعبارة الواضحة : لقد قبلت عرضك دون مقابل لإيماني بأن تجربة حياتي ملك للجميع. تتردين الأن في مهاتفته، ولتفكري في الأمر بشكل جاد، كم أنت غبية رغم ذكائك، هل ترك لك رقم هاتفه أو بريده الإلكتروني، لم يترك لك عنوانا، ولا حتى من يكون اسمه، هل من الممكن أن يكون اسمه _____ حتى لو كان الاسم صحيحا أو مستعارا هل ستصلين أليه. ثم لتكوني موضوعية ألم تشترطي عليه بعد أن قص عليك فكرة الرواية ألا يحتل سيف الدين السوداني أو حمد النحلان أو خالد المسافر مساحة أكبر منك فيها، ووافق على هذا الشرط، ولكن هل لك أن تجزمين بأنه سيفِ بالوعد ".
واصلت سعاد التفكير مع ذاتها على سرير المستشفى، واقتنعت بعد تفكير طويل أن تنسى موضوع الرواية، عادت للتفكير في علاقتها بالفن، هل حققت متعة من وراء رهن حياتها للريشة واللون، ثم انخرطت في البكاء العميق.
بكاء الفنانين صادق، خاصة إذا ما كان الفنان صادقا في الحياة، ولهذا انهمرت دموع سعاد نصر الدين بقوة على اللحاف من تحتها، تراجعت بها الذاكرة ليومين مضيا كانت وفي مثل هذا الساعة تراقب وجهها في المرآة، وراء الستارة، بعد أن أزاحت الستارة جانبا، ثم عادت لتغطى المرأة حتى لا تواجه حقيقة عمرها الذي مضى، فبالنسبة للنساء إذا ما عبرن سن الـ 45 دون زواج، يكون كل شيء في الحياة لا قيمة له، ومن السخف أن تحاول تسلية روحها بقولها : " تزوجت اللون والريشة ".
المفاجأة التي لم تكن تتوقعها بعد أن أزاحت الستارة للمرة الثانية، وراقبت وجهها في المرأة، أن ترى فتاة في مقتبل العمر جميلة جدا، ولو لم تكن تتعامل مع الجمال في حياتها بشكل يومي، بل هو مهنتها، لما وثقت من ما سره قلبها لها، لكن إدراكها للجمال ووفق معاييره الأكاديمية الصعبة جعلها تحس بالسعادة، وأنها ما زالت قادرة على اجتذاب الرجال، إذن لا مبرر لإهمالها المتواصل لنفسها وتصرفاتها الرجولية، عليها منذ اليوم أن تخلع بنطلون الجينز، وأن تبدل تسريحة الشعر اليائسة وأن تدخل في الحياة بعمق.
ما أن دخلت الحمام وبدأ الماء يصب على جسدها حتى عادتها حالة القرف والإحساس بالشيخوخة المبكرة، ومن جديد عزت نفسها تحت الماء الدافئ بأن المال له سلطان مثل الجمال ولئن لم يرغب الرجال فيها لجمالها فسيرغبون في ثروتها، لكنه ستكون رغبة مزيفة، هل تبحث بعد هذا العمر عن حب مزيف.
تحت الماء، سافرت إلى بلاد كثيرة، زارتها بالفعل في أزمنة متفاوتة، حاضرت في أمكنة مختلفة عن فنون النوبة وحضارة البركل، وعن رحلتها الفلسفية في علاقة الإنسان بالفن والجمال، وأن الإنسان الذي لا يتذوق اللوحة، كما يتذوق الأكل لا حياة فيه، جمعت ملايين الجنيهات من المعارض والمحاضرات، وقبل أن تغلق الدش تذكرت أنها وحيدة، بدأت في ترقية الصابون على جسدها وملامسة الفراغ المجهول ما بين فخذيها، حركت أصابعها في بطء في البداية، ثم زادت الحركة تدريجيا وهي تحاول تجميع شتات صورة الرجل الذي غاب منها ذات يوم. تهشمت الصورة في ذاكرتها وصعب عليها أن تجمع الخطوط والنقاط المتناثرة، تداخلت صورة الرجل مع صور ولوحات وأشياء أخرى في حياتها، وفي لحظة ذابت فيها في حالة أشبه بالغيبوبة، تقاطعت مع طفولتها وهي تلعب بالطين، تدحرجت على البانيو، لكنها تماسكت بصعوبة، وهي تبصق دما على بلاط الحمام.
" الأن عليك أن تواجهين قدرا لابد منه، مصيرا كان قريبا منك وكنت تبعدينه عنك، اقترب الأن، ذلك هو طعم اليأس والحزن" قالت ذلك وهي ترش الماء على جسدها، تحس بتثاقله، لم تمتلك هذا الإحساس من قبل.أسرعت لارتداء البنطلون الجينز والقميص الأسود، رمت شعرها للوراء تعيد النظر إلى وجهها المثقل بالحزن، في بداية صيف غائظ في الخرطوم، مشت على السلم بتثاقل حتى أدركت نهايته، عانقها هواء الخرطوم الحار في شهر أبريل، أدارت السيارة البيجو تعافر الشوارع المرهقة بالحفر حتى وصلت المكتب.أغلقت الباب عليها، لم تسلم على أحد من الموظفين في الشركة، ولم تبتسم كعادتها، عاجلتها سناء بالكلام :
- العقود جاهزة للتوقيع.
- سنؤجل كل المواعيد، قالتها بصرامة وحزم شديدين.
- لكن؟
- قلت لكن سنؤجل، كغير عادتها صرخت فيها.
شعرت سناء بشيء غريب في ذلك الصباح، لم تتعود أن ترى سعاد تتحدث بمثل هذه الطريقة، هل يتحول الفنان فجأة لثور بيكاسو، حاولت أن تتكلم معها من جديد، لكنها صرخت فيها بعصبية :من فضلك أغلقي الباب ورائك، لا أريد أحدا، لا أريد كلاما كثيرا.
مضى ذلك النهار ثقيلا، أطول من كل نهارات حياتها، بدأ لها الفن مهنة قذرة لجمع المال والتجرد من معنى الإنسانية، كرهت يوم دخولها كلية الفنون الجميلة، ويوم بدأت تكتشف موهبتها في الرسم والتلوين، أحست بدوار وجنون خفي يطاردها، تأملت وجهها في الحمام الملاصق لمكتبها، كان ذلك يوم خصص لتأمل الوجه الغريب الذي حملته معها 45 سنة، وجدت أخاديد ومستنقعات استوائية تحاصر الوجه ولون غريب بدأ يكسو باقي أيامها في الدنيا، صرخت وحيدة، بكت وتنفست بصعوبة.
ينقضي النهار على عجل وأمامها عشرات المواعيد، لن تف بواحد منها، سألت نفسها لماذا تحاصر ذاتها هل تريد المزيد من المال، أم تبحث عن الشهرة ولما ؟.
" أنتِ في واقع الأمر لا تعرفين ماذا كان ينقصك بالضبط، لتقولين بصراحة أنني فقدت حنانا دافقا، صدرا يضمني، ويعيد إليّ أنوثتي الغائبة بين الألوان وفي السفر، وبين كتب الهرطقة التي عبأت رأسك باليأس، لماذا حكمت على حياتك بالموت، وكنت تفكرين دائما بأن هناك طرق أفضل للحياة، بإمكاننا أن نعيش بطرق مختلفة وأن نصنع حياتنا بأكثر من شكل، لكننا نختار طريقا واحدا لا نحيد عنه، هل هو القدر، إذا كان الأمر كذلك فهو نوع من العبث والسخرية القاسية، هل خلقنا الله ليعبث بنا ويستمتع بهذا العبث، أم تركنا لنواجه وحدتنا، نحن لا نقدر على العيش وحيدين مثله، وفي أحيان كثيرة تكون الحكمة والإدراك والوعي الكبير ضد الانتفاع بالحياة، أن يغالط المرء فطرته وتكوينه، يكون مكابرا، ليحصد النتائج الوقحة".
تراجعت ذاكرتك للوراء ببطء.. " كم من الرجال حاولوا الاقتراب منك، كنت ترفضين، هل كنت تفهمين أنك أنثى جميلة أم كنت تتحدين المجهول فحسب، لم تكوني معروفة كما أنت اليوم، لم يكن لك مالا، أو أدركك اليأس، كنت فتاة يافعة أو شجرة نخيل باسقة في جدول الحياة تتهادين ذات اليمين وذات الشمال معجبة بفلسفتك تجاه وعي العالم وفحوى الإنسان الجديد الذي أنتجته الحضارة المادية، مغترة بعنفوانك المداري ورائحة اللوحات المباعة في جاليريهات نيروبي لفتاة قادمة من جنون الصحراء على ضفاف النهر القديم. لماذا رفضت الزواج من سعد الطيب، وقلت سأتزوج الفن، الفن والزواج لا يجتمعان في بيت واحد، كان سعد قد لاحقك، وتعترفين أنه أول من رد إليك اعتبارك ساعة أغفل الآخرون الاعتراف بموهبتك الفذة، عرف أنك تتمتعين بصفاء البال وأنت تتلمسين الطريق وسط خنادق الإحباط والملل المتلازمين مع خوفك من الغد، علمك بأن الغد جميل وراسخ عندما نتحلى باليقظة، يجب أن لا نغفل ولو لثالثة واحدة حتى لا يداهمنا الوجع. استمر في اعترافه بك، وبرؤيتك الثاقبة للفن الجديد في السودان، وتوظيف الرموز الدينية في الفنون التشكيلية، كان أول من كتب عنك في صحف الخرطوم وصفك بأنك تنتمين لجيل مغمور لم يجد الشفاعة من لدن الأجيال الجائرة، أخرج فيما بعد كتابه عن تجربة سعاد نصر الدين الفنية، كنت كمن يحلم، لكنه كان واقعا، لم تصدقِ أن الأحلام الصغيرة يمكن أن تكبر وتكون واقعا في بلد لا يشفع لمبدعيه، تحدث عنك بإخلاص الناقد الذي يفهم ويحترم عمله. كان بإمكان سعد الطيب أن يكتب عن أشياء أخرى لكنه كتب عنك، ولم تقدري ما قام به من أجلك أنت وحدك، اعتبرت كتابه مجرد محاولة للحاق بك، بالفتاة المدارية التي أدركت فيما بعد كيف تشق طريقها في وعر العالم وتحقق الشهرة ".
في رحلة العودة إلى المنزل منتصف الظهيرة كان عليها أن تمر على السوبر ماركت في حي الرياض كما تعودت يوميا لتشتري أغراضها المنزلية، كانت تقود السيارة على عجل، على عكس ما تعودت، وفي دائرة الازدحام وبين أفكارها المتزاحمة المشتتة اصطدمت بالشاحنة الكبيرة القادمة من بورتسودان.
لم تفتح عينيها إلا في المستشفى بعد يومين كاملين فاقدة للذاكرة تماما، كأنما ولدت طفلة من جديد، سألها الطبيب عن اسمها عن أبوها عن مهنتها عن... لم تعرف جوابا لأي سؤال كانت تهز رأسها كالطفل وتبكي، بعد أن غابت الذاكرة وتعثرت، كان الحادث في نهار منتصف أبريل، ولم تفق من الصدمة إلا بعد أربعة شهور، حيث استرجعت ذاكرتها تدريجيا، وخلال الشهور الماضية عرف الكثيرون بالخبر، كان الزوار يدخلون ويخرجون من فنانين تشكيليين وعملاء في شركة الديكور وأصدقاء وأهل، لم تحس بهم في دائرة غيبوبتها عن الوعي.
زارها سعد الطيب بعد أن قرأ الخبر في زاوية صغيرة في الصفحة الأخيرة بإحدى الصحف المحلية، تألم وهو عائد من رحلة غياب طويلة في مصر أن يكون الخبر متواضعا، لكن ذلك رسخ يقينه بأن موضوع الفن لم يعد يشغل الدولة، في ظل الحرب الدائرة في الجنوب ومفاوضات السلام الدائرية، وفي الصباح الذي زارها فيه إلتمعت عيناها على وجه ألفته قبل عشرين عاما، غاب عنها فجأة في زحام الحياة، وجهه بدا لها كأنه قادم من وراء أحجار البركل، كان ذلك اسم أول معرض أقامته في هيلتون الخرطوم قبل أن تمتطي صهوة جواد الشهرة، كان سعد يرتب اللوحات ويعلقها في أماكنها، ويحاور مدير الفندق الإنجليزي عن سعر الإيجار للجاليري.
عندما جلس بعمامته الضخمة وجدت نفسها تبتسم، تدخل في مغارات الذات الخفية، تخرج منها بفتاة ولدت للتو بعد غياب الذاكرة اسمها سعاد نصر الدين، شعرت بتراجع السنوات للوراء، قبل سنوات طويلة قررت أن لا تبتسم له بعد أن حدثت المعركة الفاصلة في صالة الفنون بوسط الخرطوم في إحدى الندوات الفنية، كان سعد الطيب قد تدخل وسط المناقشات ليقول أفكارا مغايرة للجميع عن تجربتها التشكيلية، قاطـعته بـقوة : " أنا أختلف معك، ولا أحب أن تتكلم عن أعمـالي بهذا المـدح المقذع ". استغرب الحضور، هل يرفض إنسان ما مهما أمتلك من الوعي أن يمدح وأن يقال عن تجربته بأنها متقدمة لم يستوعبها الناس بعد، لكن ذلك حصل، دون أن تفهم سعاد المبرر الحقيقي لفعلها، لكنها خرجت محفوفة بحالة من الألم والضيق والخوف المغلف بالحقد والغيرة، ضد من وفيما لا تدرك ؟!
عندما نصطدم بوقائع كبيرة في حياتنا، ولكي نتخلص منها بوقاحة يجب أن نعود أطفالا، فكر سعد بمثل هذه الطريقة وهو يركل قدميه إلى المستشفى، قرر أن يمضي إلى هناك وأن يجرب بعد عشرين عاما من الغياب، هل ستطرده، لربما، كانت التوقع مجهولا، وفي ذلك اللقاء الذي تفتحت معه الذاكرة الغائبة لشهور اكتست سعاد بالحياة من جديد، كانت أخاديد في الوجه الذابل تردم في عفوية، وكان زمن غائب في السماوات العلية يتدلى، أو ربما جاء زمن آخر لا ينتمي لزمن الأرض، كان بعثا من نوع فريد، في تلك اللحظات أكتشفت سعاد أن المحاولة رقم 86 لإكمال لوحة البعث لم تكن هي نهاية اللوحة فقد كانت هناك نقطة غائبة في مكان ما من اللوحة، انتبتها حالة من الجنون أن تغادر المستشفى في الحال إلى غرفة الأستوديو بالبيت لتضيف النقطة الغائبة منذ 16 عاما، النقطة التي تقول بأن البعث كامن فينا وأن علينا أن نكتشفه من خلال التوقعات والصدف، لا يوجد شيء في هذه الحياة يسير بنظام، هي لوحة كبيرة من الفوضى، وعمق هذه الفوضى يكمن في إدراك أننا يجب أن نكون، رغم كل الظروف.
كانت امرأة أخرى من زمن ثان ملونة برائحة الحزن والرغبة في التصالح مع الآخرين قد بعثت في ذهن سعد الطيب، في ذلك الصباح قالت له :لن أطلق الفن، صمت ظنها تفكر بنفس الطريقة القديمة، هل كان إحساسه الآني كاذبا.