الحركة الإسلامية: لا فرقة ناجية عبد الله علي إبراهيم

الحركة الإسلامية: لا فرقة ناجية عبد الله علي إبراهيم


07-01-2014, 07:22 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=457&msg=1419307167&rn=0


Post: #1
Title: الحركة الإسلامية: لا فرقة ناجية عبد الله علي إبراهيم
Author: عبدالله علي إبراهيم
Date: 07-01-2014, 07:22 AM



كتب خالد التجاني النور كلمة قيمة عن مأزق الحركة الإسلامية في مناسبة الذكرى الخامسة وعشرين لانقلابها في 30 يونيو 1989. وقيمة الكلمة في أن الكاتب لم ييسر مهمة استنقاذ الحركة من سوءة الإنقاذ بل عسرها. والسياسة عسر والفكر كذلك. فلم يقبل من مصلحيّ الحركة أن يلقوا باللوم على الانقاذ لإفسادها في الأرض ليخرجوا منها خروج الشعرة من العجين كل في توقيته الخاص. ووصف خالد الاقتصار على هذا اللوم بأنه تشخيص لسطح أزمة الحركة مع إنقاذها. فالانقلاب ليس شغلاً سياسياً سطحياً تورطت فيه الحركة مغمضة العين. كان الانقلاب هو آخر حيلها في المسارعة للحكم هربأ من وعثاء الديمقراطية. كان ثقافة وإرادة وعزيمة. وسبقها للهرب من هذه الوعثاء عبد الله خليل والشيوعيون وسائر البرجوازيين الصغار. ومتى كان الانقلاب، الخيانة المثلي للميثاق الديمقراطي، هو آخر كروت حركة ما فهذا يعني أن السلطان أغواها وتجردت من القيم. وهذه مأساة خاصة لحركة بنت أكثر مجدها على العزف على وتر الأخلاقيات.
قلت مراراً منذ صراع المنشية والقصر إن ليس ثمة فرقة ناجية في الحركة الإسلامية في معاقرتها للانقلاب. كلكم خطأوون. وأهدى السبل للخروج من اللوم واللوم المضاد هو تشخيص الحالة التي تجردت بها الحركة من اعتبارات السياسة والخلق والثقافة خلال عقودها في السياسة المباشرة منذ ثورة أكتوبر. فهذا التجرد هو الذي هيأها بالعاقبة للانقلاب حتى صار عقيدة فيها. على فرق الإسلاميين أن تنظر إلى ارتجالها السياسة حتى وقع المحظور فأنكسر مرقها. وكنت نصحتها للدخول في المهمة العسيرة التي زكاها لها خالد أن تبدأ من كتاب للأكاديمي الأمريكي الأسود المسلم عبدو مالقم سيمنون في كتابه: "في أي صورة ما شاء ركب: الإسلام السياسي ومآل البندر في السودان" (جامعة شيكاغو للنشر، 1994). وهو كتاب ألحفت على الإسلاميين تعريبه ونشره منذ استعرضته لمجلة "الإثنوغرافي الأمريكي" (مجلد 55، العدد رقم 2) وفي تنويهاتي العديدة له في الصحف السيارة. فقد جاء سيمنون لدراسة موضوع كتابه بدعوة من الحركة الإسلامية بعد إنتفاضة إبريل 1985 لينصحها عن التغير الديمغرافي والثقافي لمدينة الخرطوم الذي قد يؤثر على إرث المدينة الثقافي العربي الإسلامي. وهذا وعي محمود للحركة تستبق به الحادثات بالفكر وتٌعلى الإستراتيجية على التكتيك. ولكن الحركة سرعان ما انصرفت عن سيمنون حين صدع بحق لم يحز القبول منها. وقال إنها اكتفت بإهماله بصورة سودانية شمالية وهي أن تٌترَك لشأنك بمنتهى الأدب.
وضع سيمنون أصبعه على العاهة الأصل في استراتيجية الحركة وتكتيكاته. فقال إنها تعاني من عشوائية تلبستها ولا برء لها منه. وعرَّف هذه العشوائية بأنها تحويل أجندة سياسية لا معنى لها إلى نظريات متفائلة لإدارة التطور الإجتماعي. فقد ساغ للحركة بهذه العشوائية أن تزج بأجندتها السياسية الشاطحة في الممارسة العملية: أب جزم. وسبب ذلك أنها أصبحت مؤسسة مكتفية في ذاتها ولذاتها صعرت خدها حتى للإسلام الذي كان مرجعها أول مرة. فزعمها تمثيل أغلبية سكان القطر، أي المسلمين، ومواردها الغراء من استثماراتها العديدة، خَيّل لها أنها مما لا يحتاج إلى حليف أو مٌكَمِل. وانتهت الحركة الإسلامية بذلك إلى مدابرة للتاريخ او قطيعة معه لأنها ظنت أن استرايجيتها مما يمكن إقحامه في مجرى الممارسة العملية متى شاءت بغير التفات لشرط الزمان والمكان. فالتغيير يقع، بحسب ظن الحركة، متى قالت كن فيكون. وما انقلاب 1989 الذي ارتكبته في رابعة النهار إلا شاهداً عدلاً على عشوائية الحركة وثمارها المرة.
وعشوائية الحركة، المؤدية إلى انغلاقها، عندي أقدم. فقد عالجت في كتابي "بئر معطلة وقصر مشيد: إفلاس الفكر اليساسي السوداني،الحركة الإسلامية واليسار والديمقراطية الليبرالية" (القاهرة 2006) اضطراب مشروعها المركزي في التمكين لشرع الله الذي تؤوب به الدولة إلى الدين عن طريق التراضي على دستور إسلامي. وقد وجدت في كتب الدكتور عبد اللطيف البوني التي أرخ بها لسيرة الدستور الإسلامي فينا مادة غاية في التماسك العلمي. فالذي نخرج به من قراءة كتابات البوني أن الحركة الإسلامية ألحت على أسلمة الدولة بدستورً إسلامي لا يتناغم مع التدافع السياسي والاجتماعي الذي دارت رحاه في البلد. وقد ساقها هذا إلى عزلة خلت به من الحلفاء الإستراتيجيين أو "لطويلة" كما نقول. والمظاهر التي هي موضوع نظري التالد والطريف هي الآتية:
1- قصرت الحركة دون استنهاض حركة سياسية واجتماعية لتنزيل أسلمة الدولة دون حاجة إلى المسارعة الفطيرة إلى الله. فحتى دعوى الحركة تمثيل الأغلبية المسلمة ظل مجرد عبارة لم تٌلزِمها بأخذ رأي الجماعة هذه مأخذ الجد أو التوقير. فدعواها تمثيل الأغلبية أعفاها من استكمال نفسها بالجماعة بالديمقراطية لظنها الكمال والمرجعية في نفسها. وقد اضطرت للانقلاب بلوغاً للحكم حين رأت من الملأ ما كرهت وتوجست من تدبيرهم من جهة أسلمة الدولة.

2- فرطت الحركة في تحالفات قد يبدو الآن شذوذها إلا أنها مما كان متاحاً لها لو لم تركب رأسها. فقد كان بوسعها استصحاب حتى الشيوعيين والجنوبيين في تحالفات من نوع ما لو لم تستبد بها العشوائية الموصوفة التي ترى بأن بإمكان الدين أن يتنزل في المجتمع متى اتجه المسلم إلى تحقيق ذلك بعبادة خاصة وقلب سليم. فقد كتب الأستاذ عبد الخالق محجوب قبيل انتخابات 1958 يقول إنه لا يرى بأساً في الدعوة للدستور الإسلامي أو أي دستور آخر طالما اتفقنا على أن عدونا الذى نحشد له طاقاتنا السياسية والروحية في ذلك دستور هو الإمبريالية التي تجسدت آنذاك في مشروع أيزنهاور. واضاف أنه كانت بباكستان دولة عسكرية بدستور إسلامي ولكنها قبلت أن تدور في فلك مشروع ايزنهاور وحلف بغداد.

3- كما كان بوسعها أن تحسن صورتها نوعاً ما في نظر الجنوبيين ممن عدتهم أعداء إستراتجيين صليبيين لإسلمة الدولة. فقد جاء الدكتور بيتر نيوت مؤخراً بقول حول المأزق السوداني كان بوسع الحركة الإسلامية استثماره لتنزيل الشريعة الإسلامية بلطف وذكاء وكفاءة لا يجد حتى الخصم اللدود بداً من اعتباره. فقد قال نيوت إن المأزق السوداني يكمن في أن الشكوى من فساد قوانين موروثة من الاستعمار مثل السماح قانوناً بشرب الخمور أو البغاء لا يؤدي إلى تغيير تلك القوانين وإصلاحها كما في دول أخرى كثيرة بل إلى المسارعة في الدعوة إلى تغيير طبيعة الدولة إي إلى أسلمتها. وتجسد هذا المأزق بصورة درامية او تراجيدية عند نهايات عهد نميري. فقد قبلت الحركة الإسلامية ان تتدرج في تطبيق الشريعة من خلال لجنة مراجعة القوانين الوضعية لتتطابق مع الشريعة (1978). وقبلت بمزاج طيب أن تعرض مشروعات قرارتها على مجلس شعب النميري الكاذب. ويقع هذا في باب تغيير الأذى الواقع على المسلمين بالتشريع بالحسنى. ولكن سرعان ما أزعجها عن هذه الخطة المثلي الرئيس نميري الذي قرر، ومن وراء ظهر الحركة الإسلامية، أن يطيل عمره السياسي الإفتراضى بتديين الدولة. ونفضت الحركة يدها عن شغلها الصالح في لجنة مراجعة القوانين وفي أروقة مجلس الشعب لتنصر دولة نميري الإسلامية ظالمة ومظلومة. وهكذا أصبحت الحركة في عداد من نقض غزله بيده. واضاعت فرصة للإلحاح على إزالة آثار الاستعمار من قوانين مستهترة صٌممت بجفاء لتحكم أمة أكثرها مسلم. وهو مطلب لن يستنكره عليها إلا مكابر أو فاسق.

4- كما كان بوسعها أيضاً أن تستند على تجربتها في مقاومة نظام عبود لتدرك أن ليس كل ما يلمع إسلاماً. فقد جاء الدكتور عبد الوهاب الأفندي بتنبيه مرموق لسيرة الحركة الإسلامية خلال ذلك العهد. فالحركة في قوله لم تهادن نظام عبود لمجرد أنه سعى حثيثاً لتديين الدولة بالجنوب. فلم تكف الحركة عن مجاهدة النظام على محجة الديمقراطية وضرورة استعادتها ليسلم الوطن كله من الأذى. بل قال قائلهم إن مسألة الجنوب سياسية ولن تحل إلا باستعادة الديمقراطية فكان لكلمته صداه الثوري في اكتوبر 1964. وقد وجدت الدكتور حسن مكي ينعى على الحركة بآخرة أنها لم تدعم عبود في مسعى أسلمة الجنوب بالذات. غير انني اعتقد أن كسب الإسلام من جهاد دولة عبود في سبييل الديمقراطية لهو أذكى وأوسم وأوثق من جهة حصر التبشير والتنصير وضبطه على المدى الطويل. فقد التزمت الحركة بموقفها الصارم من طغيان نظام عبود بمواطنة الجنوبي وحقه في حرية الاعتقاد ولم ترد الإكراه في الدين. وهذه سماحة في الدين: في أصله. . وأي كسب يعلو هذا الكسب.

5- وغلبت العشوائية على الحركة الإسلامية وهي تدعو لحل الحزب الشيوعي في سياق دعوتها لأسلمة الدولة بعد ثورة أكتوبر. فقد جاء في رواية السيد علي عبد الله يعقوب عن واقعة حل الحزب الشيوعي ما يفيد عن ضعف مناعة فكر الحركة الإستراتيجي متى اقتحمتها مقتضيات التكتيك. فقد قال إنه ما سمع بما فاه به طالب معهد المعلمين المنسوب للشيوعية عن حادث الإفك في الندوة المشهورة في شتاء 1965. وسره ذلك وقال إن حديث الطالب كفيل بحل هذا الحزب الشقي. وقصد من ساعته السيدين عبد الرحيم حمدي، محرر جريدة الحركة: "الميثاق الإسلامي"، وعبد الله حسن احمد، المسئول عن الحركة بجامعة الخرطوم، فما زادا أن قال إن هذا مما يحدث في الندوات فلا تثريب. وهذا قول فطري استفاداه من حداثية الحركة واعترافها بالرأي الآخر حتى لو أمض في القول. ولكن علي عبد الله، الأزهري ومعلم اللغة العربية والدين الذي ذاق الأمرين من حزازات الغرب التي الشيوعية هي أعلى مراحلها، لم يستسلم ل "حذلقة" رفيقيه ومضى إلى المعهد العلمي يلوى على شيء وهو استجابة المعهديين لأخيهم لا يسألونه على ما قال برهانا. وسارت الأمور كما أرادها على عبد الله يعقوب (وهو ممن ظل الدكتور الترابي يرميهم ب "محافظي الحركة") لا كما أرادها حمدي وعبد الله حسن أحمد من محدثي الحركة الذين ارتضوا الديمقراطية لهم وعليهم. ولم يكن مثل مناسبة حل الحزب الشيوعي مناسبة لكي يرسخ عند الإسلاميين أن الدستور الإسلامي . . هو الحل. أو الحل في الحل كما جرت العبارة.

لم تسنح فرصة للحركة الإسلامية للتحالف حول تنزيل ذكي ديمقراطي للإسلام في بئية سياسية معقدة كالسودان حتى أهدرتها. كان الانفتاح هو الإستثناء بينما كان الإنغلاق لحفظ بقية السودان أوالدين هو الأصل. وهكذا ضاعت من بين أيدينا حركة ولدت في بيئة للحداثة، واستعانت بالديمقراطية متى استصوبت ذلك، فأحسنت الديمقراطية لها. وسيبقى على الحركة متى أرادت أن تكون فينا رحمة وبركة أن تستنقذ نفسها من آثار عشوائيتها المتراكمة وأن تعيد اختراع نفسها من أفضل صلصالها. وهذا من عزم الأمور