الموت أفضل قصة قصيرة جديدة بقلم هلال زاهر الساداتى

الموت أفضل قصة قصيرة جديدة بقلم هلال زاهر الساداتى


05-02-2014, 05:42 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=442&msg=1419273051&rn=0


Post: #1
Title: الموت أفضل قصة قصيرة جديدة بقلم هلال زاهر الساداتى
Author: هلال زاهر الساداتى
Date: 05-02-2014, 05:42 PM

ونحن نرتشف الشاى ( المنعنع ) المخلوط بالنعناع فى صالون منزله الأنيق قال محدثى عن رجل أثير لديه افتقده بذهابه عن الدنيا ، وقال كان يسبقنى فى العمر بسنتين أو ثلاث على الارجح ، وكنت ارتاح نفسيا" عندما التقى به واشعر بسعادة تغمرنى فانا من الذين يلتذون بصحبة ذوى الذكآء من الناس والذين حباهم الله باللطف والتواضع وكأن ملمسهم عند القرب منهم والفرق كمن يلمس الحرير بيده والذى يطأ الحسكنيت بقدميه ، وكان ذلك الرجل ممن ينطبق عليه الوصف الاول ، وكنت عندما ازوره دوما"فى منزل بسيط من الطين بابه من خشب السنط كالأبواب القديمة لمنازل امدرمان التى تماثلها فى القدم ، ويشغل منه حجرة واحدة وبرندة ويشمل اثاث الحجرة سريرا" وكرسيين وثلآجة صغيرة عتيقة وتحوى البرندة دولابأ" بعرض الحائط ملان بالكتب وطاولة سفرة قديمة وكرسيين ، فالرجل له ولع بالقرآءة الجادة وهو حجة فى تخصصه والمامه بالثقافة عامة ويقضى جل وقته فى القرآءة مما يقلل من اختلاطه بالناس ولكن لا يقصر فى مشاركة اهل الحلة فى افراحهم واحزانهم ، وازدهرت اواصر المودة بينى وبينه لتطابق مزاجينا وكلفنا بالقرآءة وعدم همنا بزخرف الدنيا والجرى ورآء طلب المال واكتنازه ،وكان نابغة فى عمله الحكومى مما أهله لشغل وظيفة وكيل احدى الوزارات الهامة واوكل اليه تنفيذ احد المشاريع الكبرى فاكمل المهمة على أكمل وجه ، ولم يقبع فى مكتبه الفخم ( المكندش) فى الخرطوم وقراءة التقارير التى يرفعها له مرءوسيه بل انتقل للسكن فى ارض المشروع وشارك المهندسين والعمال خشونة المعيشة وتقلبات الطقس ولسعات الناموس والهوام ،ومع ذلك لم يشتكى أو يتضجر مع ان الكثيرين الحادبين يلحون عليه بان يرفق بنفسه ويعود الى مكتبه بالخرطوم ولكنه يرفض و يصر اصرار العابد المتبتل على العبادة لارضآء ربه ، وهزمه المرض باصابته بالملاريا ونقله الى الخرطوم للعلاج ورقد بسرير المستشفى ، وشدد عليه الأطبآء على عدم العودة للسكن هناك حيث يكمن الخطر على حياته . ولم يتزوج وهو يقترب من سن الستين وهى سن الاحالة على المعاش ولم يبن منزلا" ولكن امتلك سيارة صغيرة كورية الصناعة وفرتها الحكومة لكبار الموظفين ويدفعون ثمنها بالتقسيط ، وكما ذكرت انه كان يسكن تلك الحجرة فى البيت الصغير المبنى من الطين مع ابن اخته وزوجته ورثه عن اخوته وخالاته الذين ذهبوا الى رحمة الله ولم يتبق له غير أخ واحد يعمل فى الجنوب وتزوج امرأة جنوبية وآثر العيشة هناك .
وقطعت عليه حديثه مندهشا" قائلا" ( هل من الممكن ان يوجد مثل هذا الرجل المتجرد فى عالمنا اليوم أو سوداننا تحديدا" ،أم هو ولى من أوليآء الله ؟ ) واجابنى : ( على النقيض من ذلك فهو انسان بسيط ولم اشهد منه اهتماما" زائدا" أو غلوا" فى العبادة ، وكان بعد ان يفرغ من عمله فى الوزارة يذهب الى احد فنادق وسط الخرطوم وهو زبون دائم هناك ويتناول وجبة الغذآء مع زجاجتين من البيرة ثم يذهب الى منزله فى امدرمان ويبقى هناك حتى اليوم التالى ، وهو لا يشرب الخمر ليلا" بل يقضى ليله فى المطالعة وكتابة بحوث تتعلق بتخصصه فقد كان يراسل بعض المجلات العلمية المتخصصة . ولكن تقدرون وتخلف الاقدار أو تضحك أحيانا" فقد اغتصبت الحكم فى السودان جماعة عسكرية دينية أو هكذا زعمت وقلبت حياة الناس رأسا" على عقب ، وكان من ضحاياها كل العاملين فى الخدمة المدنية والخدمة العسكرية بما اسموه الصالح العام ، واحلوا مكانهم اشياعهم ومنتسبيهم ، وكنت انا وصاحبى الوكيل من ضمن الضحايا ، وقاطعته مرة اخرى بقولى ( أولم يعطونكم معاشات مجزية بدلا" من تلك القليلة التى اعطوها لنا عندما حكموا علينا بالرفت من الخدمة ) فاجابنى بأسى : ( ليتهم فعلوا ذلك فقد كان المعاش واحدا" متساويا" للمدير والخفير وضئيلا" لا يكفى ضرورات المعيشة ، وقد نتج عن ذلك مآسى لست بصدد سردها الان ) ، فانا قد اغتربت ووجدت عملا" فى ديار الغربة ولما عدت فى عطلتى السنوية هرعت الى دار صديقى الوكيل ، وهالنى منظره فقد نحل جسمه واشتعل راسه شيبا" وكان يرتدى بنطلونا" ذهب لونه "وقميصا" تآكلت ياقته وهو الذى كان فى قمة الاناقة فى ملبسه ، ورأيت عربته فى الحوش الصغيرمغطاة بمشمع يعلوه الغبار مما ينبئ بانه لم يستعملها لمدة طويلة ، وعندما سألته عن ذلك قال انه لم يركبها منذ زمن لغلآء البنزين ولندرة تنقلاته ولكن رخصها واخرج لى من احد ادراج الطاولة اوراق الترخيص وفتحها مشيرا" لى الى بنود رسوم الترخيص ، وقرأت فى استغراب 18 بندا" اذكر منها ، دمغة الجريح ـ صندوق الشريعة ـ ترعة الرهد ـ صندوق الشهيد ـ رسوم التأمين ـ وجملة مبلغ الترخيص يزيد على معاشه الشهرى ، وعلقت على ذلك بقولى : ( والله الواحد لو عايز يرخص ليه طيارة ما يدفع لكل الحاجات دى ! ) وقال لى قبل وداعه بتاثر بالغ ان الدنيا على رحابتها ضاقت فى عينيه واسودت ايامها مما يعانونه من الظلم الفادح والمعاناة المؤلمة فى كل شئ .
وبعد عام من لقآئى به وعودتى الى المهجر جآءنى خبر موته بان أطلق رصاصة من مسدسه على رأسه .
هلال زاهر الساداتى