سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم

سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم


09-21-2004, 09:51 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=341&msg=1282033891&rn=0


Post: #1
Title: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: tariq
Date: 09-21-2004, 09:51 PM


نستأذن الدكتور حيدر في نقل كتابه القيم ( سقوط المشروع الحضاري في السودان ) والذي نشر على صفحات جريدة البيان الاماراتية خلال الايام السابقة في اجزاء تجاوزت الثمانية .

****** ****** *****


الحلقة الاولى
لماذا لم يتكرر النموذج الإيطالي في الخرطوم؟
كان انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في صبيحة الجمعة 30 يونيو 1989 اختباراً حقيقياً لصدقية ديمقراطية الحركات (الإسلاموية) ولإيمانها بالتداول السلمي للسلطة عن طريق الانتخابات والاختيار الحر. كما ان قادتها جعلوا من السودان مختبراً أو معملاً لاجراء تجربة حكم إسلامي أو مشروع حضاري إسلامي من دون ان يملكوا رؤية فكرية واضحة ولا كوادر مؤهلة لتطبيق تغييرات إسلامية معاصرة في بلد شديد التعقيد بسبب تنوعه الثقافي ومساحته وموقعه الاستراتيجي.
ومن البداية وجد (الإسلامويون) أنفسهم مواجهين بتعليل وتسبيب قيام الانقلاب، وبالذات في الحالة السودانية. كان عليهم تقديم منطق قوي لعقلنة الانقلاب على نظام سياسي كانوا جزءاً أصيلاً منه. فقد حصلوا على اثنين وخمسين نائباً في برلمان (1986ـ 1989) من مجموع 301 نائب. وشاركوا في أكثر من تشكيل حكومي ائتلافي وتقلدوا مناصب وزارية سيادية.
فالترابي، على الرغم من عدم فوزه بمقعد برلماني، الا انه كان وزيراً للخارجية وللعدل، ثم تولوا رئاسة الجمعية التأسيسية في واحدة من الترضيات الكثيرة، وصاروا حكاماً للأقاليم ومحافظين. وكانت لديهم هيمنة على غالبية الصحف بسبب قدرتهم المالية، اذ كانت هناك أكثر من خمس صحف يومية تعبر عن الجبهة الإسلامية بالاضافة لاختراقات عدد من الصحف الأخرى ومن الصحفيين.

قصدت القول، ان (الإسلامويين) السودانيين كانوا أكثر نظرائهم استفادة واستمتاعاً بثمار الديمقراطية، مهما كانت سلبيات هذه الديمقراطية في مجتمع نامٍ مثل السودان. فهم لم يتعرضوا للقمع والتهميش كما حدث لنظرائهم في بلاد عربية أخرى، بالذات تلك التي حكمها عسكر.
ففي السودان، حتى النظم الديكتاتورية لم تخص (الإسلامويين) باجراءات قمعية محددة غير تلك التي تفرضها طبيعة هذه النظم الشمولية للاحتفاظ بالسلطة المطلقة. لذلك كشف انقلابهم عن موقفهم الانتهازي من الديمقراطية باعتبارها مجرد وسيلة تمكنهم من العمل والانتشار وممارسة الضغوط على الآخرين.
لجأ (الإسلامويون) الى ذكر أسباب ظرفية أي نتيجة أسباب مباشرة استوجبت القيام بالانقلاب بالاضافة للسبب الاستراتيجي وهو تحقيق البرنامج والأيديولوجيا التي تؤمن بها الحركة (الإسلاموية) وتسعى الى تطبيقها عند استلام السلطة. وكان التبرير الأخير يقوم على فرضيتين تحاول الأولى اثبات فشل وعجز النظام الديمقراطي وعدم صلاحيته لظروف السودان. والثانية والتي لم يفصح عنها في البداية: تطبيق الشريعة الإسلامية وقيام نظام إسلامي أو مشروع حضاري إسلامي.
مبرر فشل الديمقراطية
اقتبس الباحثون في السياسة جملة الجنرال ابراهيم عبود في بيان الانقلاب السوداني الأول (17 نوفمبر 195 باعتبارها تدل على فلسفة العسكريين في الانقلاب وعلى وجهة نظر واسعة الانتشار. اذ بعد ان قدم صورة قاتمة للأوضاع القائمة آنذاك، يقول: «ونتيجة لذلك ومن المسلك الطبيعي ان ينهض جيش البلاد ورجال الأمن لايقاف هذه الفوضى».
فقد تحدد الانقلاب وصفه المسار الطبيعي للتطور السياسي. وهذه هي طريقة حل الأزمات أي بالقضاء على الديمقراطية نفسها، مما يعني امكانية التضحية بالديمقراطية عوضاً عن تطويرها والصبر عليها.
فالديمقراطية عند الانقلابيين جميعاً وعلى رأسهم (الإسلامويون) السودانيون (الجبهة الإسلامية القومية) ليست مبدأ ولا قيمة فكرية وأخلاقية بل هي واحدة من أدوات الوصول الى السلطة السياسية. وهذا الفهم الأداتي للديمقراطية سبب الاستخفاف بالممارسة الديمقراطية، فقد كان الإسلامويون وراء حل الحزب الشيوعي رغم عدم دستوريته، كما ان أهم مكونات الديمقراطية هي قبول الآخر المختلف.
وحاولت الحركة الإسلاموية افشال التجربة الديمقراطية من خلال مؤسساتها نفسها بالذات البرلمان والصحافة. ففي البرلمان اشتهر عضو الجبهة الإسلامية محمد الحسن الأمين «بنقطة النظام» كطريقة لتعطيل العمل. بالاضافة للغياب عن الجلسات والتهديد بمقاطعة الحضور. وكان الهدف ان يعجز البرلمان عن القيام بمهامه الدستورية. أما الصحافة فقد هبطت الجبهة الإسلامية القومية بأخلاقيات العمل الصحفي وبلغة الحوار والخلاف الى درك سحيق وهنا أيضاً الغاية تبرر الوسيلة. وكانت صحافة الجبهة بعيدة عن قيم وخصال السودانيين.
ولم تعد الصحافة سلطة رابعة كما هو متوقع. ورغم ذلك جاء البيان الأول، ليقول: «أيها الشعب السوداني الكريم ان قواتكم المسلحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها ظلت تقدم النفس والنفيس حماية للتراب السوداني وصوناً للعرض والكرامة وتترقب بكل أسى وحرقة التدهور المريع الذي تعيشه البلاد في شتى أوجه الحياة وقد كان من أبرز صوره فشل الأحزاب السياسية بقيادة الأمة لتحقيق أدنى تطلعاتها في الأرض والعيش الكريم والاستقرار السياسي حيث مرت على البلاد عدة حكومات خلال فترة وجيزة .
وما يكاد وزراء الحكومة يؤدون القسم حتى تهتز وتسقط من شدة ضعفها وهكذا تعرضت البلاد لمسلسل من الهزات السياسية زلزل الاستقرار وضيع هيبة الحكم والقانون والنظام. أيها المواطنون الكرام، لقد عايشنا في الفترة السابقة ديمقراطية مزيفة ومؤسسات دستورية فاشلة وارادة المواطنين قد تم تزييفها بشعارات براقة مضللة وبشراء الذمم والتهريج السياسي ومؤسسات الحكم الرسمية لم تكن الا مسرحاً لإخراج قرارات السادة.
ومشهداً للصراعات والفوضى الحزبية وحتى مجلس رأس الدولة لم يكن الا مسخاً مشوهاً، أما رئيس الوزراء فقد أضاع وقت البلاد وبدد طاقاتها في كثرة الكلام والتردد في السياسات والتقلب في المواقف حتى فقد مصداقيته..
أيها المواطنون الشرفاء: «ان الشعب مسنود بانحياز قواته المسلحة قد أسس ديمقراطية بنضال ثورته في سبيل الوحدة والحرية ولكن العبث السياسي قد أفشل التجربة الديمقراطية وأضاع الوحدة الوطنية باثارة النعرات العنصرية والقبلية حتى حمل أبناء الوطن الواحد السلاح ضد اخوانهم في دارفور وجنوب كردفان علاوة على ما يجري في الجنوب من مأساة وطنية وانسانية».
الحق على الطليان
يلاحظ أي شخص يقوم بتحليل مضمون هذا البيان المغالطات الكثيرة التي يحتويها، كما ان البيان بتضليله يكشف مبكراً كيف سيكون حكم الانقاذ. هناك خلط متعمد بين فشل بعض الأحزاب وفشل الديمقراطية نفسها، ويحاولون اثبات فشل الأحزاب بتعاقب الحكومات. هذا دليل ضعيف والا كيف نفسر ما يدور في ايطاليا وعدد الحكومات التي تتعاقب خلال عام واحد فقط أو منذ الحرب العالمية الثانية؟
كل عدم الاستقرار الايطالي لم يبرر الانقلاب وفي الوقت نفسه لم يؤثر على الاقتصاد ليسبب التدهور. يتحدث البيان عن ديمقراطية مزيفة وهذا يعني أنهم يريدون أخرى غير مزيفة ولكن مطلب عدم التزييف لا يأتي بالدبابات وقوانين الطوارئ وأجهزة الأمن. ولا يحترم البيان الشعب السوداني ـ حسب الفقرة الثانية ـ الذي، مسنود بانحياز قواته المسلحة «قد أسس ديمقراطية بنضال ثورته في سبيل الوحدة والحرية» فهل من المنطق القضاء على ديمقراطيته بدعوى العبث السياسي؟
ويربط البيان بين الديمقراطية والوحدة الوطنية، ويحمل السياسيين اثارة النعرات العنصرية والقبلية حتى حمل أبناء الوطن الواحد السلاح ضد اخوانهم. ومن يتابع ما حدث الآن في دارفور وجنوب كردفان، يتأكد له ضرورة الديمقراطية. فالانقلابيون رغم العنف الزائد لاخضاع تلك المناطق لم يستطيعوا حل المشكلات بل أوصلوها حد الكارثة.
يبدو ان كل الأسباب التي حاول (الإسلاميون) ايرادها لاثبات فشل الديمقراطية وتبرير انقلابهم، صارت ضدهم لهم. فكأن البيان الأول يصف مآل الانقاذ الحالي. وفي فقرة أخرى يقول البيان: «أيها المواطنون الشرفاء، قد امتدت يد الحزبية والفساد السياسي الى الشرفاء فشردتهم تحت مظلة الصالح العام مما أدى الى انهيار الخدمات المدنية وقد أصبح الولاء الحزبي والمحسوبية والفساد سبباً في تقدم الفاشلين في قيادة الخدمة المدنية وأفسدوا العمل الاداري وضاعت على أيديهم هيبة الحكم وسلطات الدولة ومصالح القطاع العام».
يعلم الجميع الآن سجل الانقاذ في التشريد والفصل التعسفي والذي لم يتوقف، فقد جاءت الخصخصة لتكمل الفصل للصالح العام لأسباب سياسية. كما ان الانقاذ تسببت في خروج جماعي من السودان وافراغ البلاد من العناصر الحية سياسياً واقتصادياً. ويقدم السر سيد أحمد صورة قلمية ومعلومات احصائية جيدة، يكتب «يروي سليمان خضر وهو شيوعي اعتقل عدة مرات في بدايات عهد الانقاذ .
وكسرت يده وهو تحت التعذيب في بيوت الأشباح، انه عندما طلب أذناً بالسفر الى الخارج للعلاج كانت هناك مماطلة في الاستجابة لطلبه. ونتيجة لالحاحه وضغوط بعض المنظمات الدولية بخصوص حالته، استدعاه أحد ضباط الأمن ليعرض عليه ان يتم تسهيل خروجه شريطة عدم عودته الى السودان مرة أخرى وأن له مطلق الحرية في الانضمام الى المعارضة الخارجية ان كان يرغب في ذلك.
ويعتقد بعض المراقبين ان نسبة لا تقل عن 80 في المئة من الناشطين السياسيين والنقابيين الذين تحفظت عليهم الانقاذ عامي 8919 ـ 1990 هاجروا الى الخارج، مشكلين الجسم الكبير للتجمع الوطني الديمقراطي بسبب المضايقات التي تعرضوا لها وعمليات الاحالة الى الصالح العام، التي جعلت كسب العيش من الصعوبة بمكان في مجتمع تسيطر الدولة على النشاط الاقتصادي فيه.
وتشير أرقام رسمية الى ان اجمالي عدد الذين أحيلوا الى المعاش منذ عام 1904 وحتى العام 1989 بلغ 32419 موظفاً، بينما شهدت الفترة بين (30 يونيو 1989 و 29 سبتمبر 1999) احالة 73640 موظفاً، أي ان الذين أحيلوا الى المعاش في عهد الانقاذ يتجاوز ضعفي الذين أحيلوا الى التقاعد خلال كل العهود الاستعمارية والوطنية من مدنية حزبية وعسكرية سابقة» (صحيفة الشرق الأوسط 20 مايو 2001).
حاول البيان تقديم مبررات للانقلاب مركزين على فشل الديمقراطية. ولكن الوجه الآخر للمسألة، هو فكرة التمكين لدى (الإسلامويين) لأن الديمقراطية بسبب الحريات والمعارضة لا تعطيهم السلطة المطلقة اللازمة لتطبيق المشروع الحضاري.
وهنا يلاحظ ان تفاصيل المشروع الإسلامي على أرض الواقع تصطدم بموضوعات الحريات وحقوق الانسان. لذلك لابد من وجود سلطة سياسية قوية وموحدة ولها الغلبة على الآخرين.
وقد قالها معاوية بن أبي سفيان وسار عليها الكثيرون من بعده بما في ذلك الجبهة الإسلامية بعد استيلائها على السلطة: «أما بعد فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم، ولا مسرة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة». وقد قالها رجال الانقاذ كثيراً بألفاظ مختلفة ومعنى واحد.
استمر رجال الانقاذ في تبرير وتسبيب قيامهم بالانقلاب. ثم صاروا يذكرون أسباباً مباشرة. وبعد حين أرجع رجال الانقاذ قيامهم بالانقلاب الى ابعادهم عن السلطة بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في منتصف مارس 1989 قبل أشهر قليلة من الانقلاب. وكانت القوات المسلحة قد رفعت مذكرة القيادة في العشرين من فبراير 1989 والتي اعتبرها البعض انهياراً دستورياً وبداية نهاية للحكم المدني. ثم شرعت الجبهة الإسلامية القومية في اضعاف النظام المنتخب حتى يصل درجة تجعل أي تحرك عسكري مقبولاً.
فانطلقت المظاهرات من بداية ابريل تحت دعاوى مختلفة مثل تأييد قوانين سبتمبر 1983م حين بدأت مناقشات تجميد القانون الجنائي، أو استغلال سقوط بعض الحاميات العسكرية في الجنوب مثل اكوبو. واضطر وزير الداخلية مع تصاعد المظاهرات، الى اذاعة بيان في 17 ابريل 1989 يناشد فيه التجمعات السياسية التوقف عن تسيير المواكب والمظاهرات.
ولكن نائب الأمين العام للجبهة على عثمان محمد طه، صرح في اليوم نفسه لصحيفة حزبه «الراية» قائلاً: «ان المظاهرات سوف لن تتوقف الى ان يتم تطبيق الشريعة الإسلامية (عبد الرحمن الأمين ـ ص 189) ثم سادت الفوضى والضعف وقد ساهمت الجبهة في ذلك واستغلت هذه الأوضاع للقضاء على النظام المنتخب.
وكانت الجبهة في حل من الالتزام بحماية الديمقراطية. فقد رفضت التوقيع على اعلان الدفاع عن الديمقراطية. ولم يؤد زعيمها قسم الولاء للدستور لأن الترابي لم يكن نائباً في الجمعية التأسيسية. كما أنها لم تشارك في الحكومة الأخيرة التي أطاح بها الانقلاب، لذلك ليس للجبهة وزراء التزموا بحماية حكومتهم. هذه مواقف فقهية وليست سياسية ولكن الجبهة وظفتها حسب فهمها للدين والسياسة.
وقائع لقاء سري
سعت الجبهة الإسلامية الى الوصول الى السلطة السياسية وهذا وضع عادي لأي حزب ولكن من المهم تحديد وسائل الوصول هل هي صندوق الانتخابات أم على ظهر الدبابات؟
كان الخيار العسكري مطروحاً منذ استيلاء النميري على السلطة في 25 مايو 1969م وتحالف الأخوان المسلمين والامام الهادي المهدي الذي دخل في مواجهة عسكرية مبكرة في مارس 1970م مع النظام، وفقد الأخوان المسلمون أحد قادتهم د. محمد صالح عمر واعتقل الشيخ محمد الصادق الكاروري وفر مهدي ابراهيم الى اثيوبيا. ثم كانت معسكرات التدريب لاعداد جيش شعبي يهدف الى الاطاحة بنظام النميري عن طريق القوة.
أوردت صحيفة «الشرق الأوسط» ما أسمته وقائع لقاء سري تم بين الفريق عمر حسن أحمد البشير ومحمد ابراهيم نقد السكرتير العام للحزب الشيوعي، في منزل المحامي عبد الباسط سبدرات وزير التربية والتعليم حينذاك وسأل نقد البشير عن بداية التفكير في تكوين تنظيم إسلامي داخل القوات المسلحة فأجابه البشير بأن ذلك كان عام 1971م بعد ان نفذ الشيوعيون انقلابهم بقيادة الرائد هاشم العطا الذي أعدمه النميري. وقال البشير انه شعر بالخطورة على الإسلام من ذلك الانقلاب.
وعلى المستوى الشخصي أحس بالقلق على أفراد أسرته ممن ينتمون الى الحركة الإسلامية، وأضاف البشير: «كنت حينما حدث انقلاب الشيوعيين في الفاشر ومعي زميلي فيصل علي أبو صالح (وزير الداخلية سابقاً) وكنا إسلاميين ومتدينين. وفكرنا كثيراً وسألنا أنفسنا: هاهم الشيوعيون ينظمون أنفسهم داخل الجيش ويغيرون النظام لمصلحتهم.
فلماذا لا نعمل نحن من أجل الإسلام؟ ومنذ ذلك التاريخ بدأنا نعمل لتجميع من نثق فيهم من الضباط وكنا نختار المتدينين الذين يؤدون الصلاة ولا يشربون الخمر وهكذا.. وكان لنا صوتنا داخل القوات المسلحة ودورنا في الاطاحة بجعفر نميري حتى كتب الله نجاح الحركة والعمل لانقاذ السودان» (الشرق الأوسط ـ 26 يوليو 1991).
يحلل الشيخ حسن الترابي العلاقة مع الجيش بطريقة مختلفة، ففي سؤال: الى أي مدى نجحت الحركة الإسلامية في السودان في تجاوز القسمة بين ما هو مدني وعسكري؟ يجيب بأن «من فضل الله وتوفيقه للحركة الإسلامية انه هيأ لها شيئاً من البصيرة حتى تحاول ان تستدرك كثيراً من عيوب الطبقة التي نشأت فيها، وهي الصفوة المتعلمة التي لم يكن أخطر ما فيها هو القطيعة بين ما هو مدني وما هو عسكري، ولكن القطيعة بين الصفوة والجمهرة العامة».
ويضيف بأن الحركة حاولت ان تعالج بعض أمراض الشرائح الداخلية ومن بينها الغيرة بين ما هو مدني وما هو عسكري. ومن جهة يقول بأنهم قسموا الصفوة عموماً ازاء قضية الإسلام واستنصروا بالجماهير ـ حسب قوله ـ مما سهل هزيمة «الطبقة الليبرالية العلمانية»، ثم أصبحت ان تتجاوز الحركة المكر والاستعمار في الجانب الآخر: العسكري والمدني.
يضيف الترابي: «.. فالحركة الإسلامية لم تقصر علاقتها على عناصر محددة تجند سرياً وتنظم ولا يمكن ان تفلت أبداً من المراقبة الوثيقة ولكنها آثرت ان تخاطب القوات المسلحة خطاباً عاماً مفتاحاً، وبهذا الانفتاح دخلت قطاعات كبيرة من القوات المسلحة في الجامعات وتأهلت للدراسات الإسلامية الشرعية. وبعد انتفاضة الحركة الإسلامية (هكذا!!) أصبحت الحركة تدافع عن القوات المسلحة وعن تعزيزها وعدم تخذيلها بتمجيد المتمردين وانحازت الحركة الإسلامية انحيازاً واضحاً للقوات المسلحة».
ويورد الترابي سبباً آخر لوجودهم داخل الجيش «.. ان القوات المسلحة كلها تستمد من المدارس، والمدارس غلبت عليها الوطنية في الخمسينيات، ولذلك كان الضباط الذين تولوا السلطة في آخر الخمسينيات من هذا القرن وطنيين، وغلبت عليها اليسارية في الستينيات وغلب الإسلام في السبعينيات من هذا القرن. ولذلك كان الضباط الذين تولوا السلطة إسلاميين بالضرورة، لأن المناخ العام كله كان إسلاميا». (مجلة قراءات سياسية، السنة الثانية، العدد الثالث، صيف 1412هـ ـ 1992م ص 17ـ 1.
تاريخ من خيال
يقدم حسن مكي، مؤرخ ومنظر الحركة، على الرغم من الصفات التي تضفي عليه، تاريخاً خيالياً لدور الجبهة الإسلامية في السودان وبعد شطحات بعيدة عن الأكاديمية والموضوعية، يصل مكي الى مسببات اللجوء الى العمل الانقلابي ابتداء من انتفاضة ابريل 1985م، يقول: «في هذا السياق، عقدت الحركة الإسلامية اجتماعاً وقررت بنتيجته تحريك الجيش ضد النميري، معتبرة ان الظروف مؤاتية للاجهاز على السلطة» ويضيف: «والحركة الإسلامية التي كانت جاهزة عام 1985م للانقضاض على النميري كانت أكثر جمهورية عام 1989.
لكنها كانت لديها مشكلة تتمثل في طريقة اخراج مشروع السلطة طرحت الحركة استلام السلطة على ان يكون الإخراج اخراجاً وطنياً، ويتماشى مع طبيعة القوى الاقليمية الموجودة. ورأت انه لابد ان يكون في الحرب خدعة، بحيث يقوم الانقلاب على الطرح القومي والاعلان انه يأتي للقضاء على الحركة الإسلامية .
ولعقد مصالحة مع جون قرنق وتم اشراك عناصر الاستخبارات المعروفة باتصالاتها بالأميركيين والمصريين في الانقلاب». (مجلة شئون الأوسط، العدد 38، فبراير 1995، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت، ص 15ـ 16).
يمارس (الإسلامويون) «خدعتهم» باستمرار حتى ان اتضحت بنية وسياسات السلطة، وعند كل أزمة أو محاولة للانفتاح يعود الانقاذيون الإسلامويون الى نفي الأيام الأولى. وبعد سبع سنوات سئل البشير عن أسباب نفي الانقلابيين لأي علاقة مع الجبهة الإسلامية في بداية الأمر، وأجاب عكس المعلومات التي سبق ذكرها: «أؤكد لك انه لم تكن هناك في بداية الأمر أي علاقة لثورتنا الانقاذية بالجبهة القومية الإسلامية أو قادتها أو عناصرها. ويعلم الجميع اننا قمنا آنذاك باعتقال كل القيادات السياسية بما فيها الدكتور حسن الترابي.
ولكن التنظيم الذي كان يجمع بيننا كضباط عسكريين داخل الجيش السوداني كان إسلامياً، يهدف الى تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد، ومن هنا كان التقاؤنا بالجبهة الإسلامية، وهو التقاء في المبادئ والبرامج وليس التقاء تنظيمياً» (مجلة الوسط العدد 224 بتاريخ 13 مايو 1996).
كشف الشيخ حسن الترابي في مؤتمر صحفي عقده يوم 18 ديسمبر 1999 مع تفاقم الخلاف مع الرئيس السوداني، انه رأى البشير لأول مرة في حياته في الليلة التي سبقت انقلاب الثلاثين من يونيو 1989 وأضاف: «ليلتها اتفقنا على ان يذهب هو الى قصر الرئاسة وأنا الى السجن العمومي». (الحياة ـ 19 ديسمبر 1999).
وبرر الظروف التي أدت بهم كحركة إسلامية الى تنظيم انقلاب عسكري: «أغلقت في وجوهنا جميع الأبواب لممارسة العمل السياسي اذ تعرضنا للاعتقال في عهد الرئيس السابق جعفر النميري كما تعرضنا للابعاد عن الحكومة الموسعة التي كان يرأسها الصادق المهدي الذي اعترف فيما بعد بالضغوط التي مارسها عليه القادة العسكريون لابعادنا. كذلك اعترف لنا نميري بالضغوط الدولية عليه لاعتقالنا» (الحياة ـ 19 ديسمبر 1999).
كشف الصراع بين الترابي والبشير حقيقة التآمر العسكري على الديمقراطية. وفي تصريح للبشير عقب خلافه مع الترابي، قال: بأنه ملتزم بعضوية الحركة الإسلامية منذ ان كان طالباً في المرحلة الثانوية. وأضاف: «اننا نفذنا قرار الحركة الإسلامية باستلام السلطة ولا نزال على العهد». وأعلن انه لن يسمح بحل المؤتمر الوطني مثلما حلت الحركة الإسلامية «اننا لا نخجل من الزي العسكري».
وأكد ان الجيش السوداني سيظل حامياً للشريعة الإسلامية (الراية القطرية 15 ديسمبر 1999) وبعد أيام قليلة كان الترابي يقود حملة دعائية ضد البشير في الصحف، ومن بين ما قاله ان البشير اضطلع بدور ثانوي في تنفيذ الانقلاب واتهم جناح البشير «بسرقة الثورة من صانعيها ومنفذيها». وكشف عن أسماء أفراد الميليشيات التابعة له والتي نفذت عمليات الاعتقال لكبار السياسيين ورجال الدولة آنذاك واعتقاله هو شخصياً ومساعده ابراهيم السنوسي ( «البيان» يوليو 2000).
في حوار مع د. علي الحاج أجراه الأستاذ عبد الوهاب همت ومتداول في الصحيفة الالكترونية في الانترنت نجد هذه المعلومات الخطيرة، رغم ان الحاج قال بأن الوقت لم يحن بعد لكشف الكثير حول ما يتردد أخيراً عن المحاولة الانقلابية المنسوبة الى حزبكم المؤتمر الشعبي والخلافات بينكم والمؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) هل نحن أمام مسرحية جديدة من الإسلاميين كما حدث في انقلاب 30 يونيو 1989 حينما ذهب البشير الى القصر وذهب د. الترابي الى السجن حبيساً وما هي أسباب هذه الخلافات؟
الخلافات الداخلية أمر عادي ولكن نهجنا ان أي خلافات تحسم داخلياً بالشورى والتشاور وفي الأخير نصل لرأي جماعي وهذا هو ما يخرج للاعلام.. أما عن انقلاب 30 يونيو 89 فقد كان قراراً اتخذته هيئة الشورى في الجبهة الإسلامية القومية ولم يكن قراراً فردياً وهيئة الشورى تتكون من 60 عضواً وأن النصاب كان مكتملاً عندما تم اقرار الانقلاب وكان هناك حوالي 3 أو 4 أشخاص غير موافقين على القرار.
ولكن ما حدث أو ما يتعلق بذهاب الترابي للسجن أسيراً والبشير للقصر رئيساً فقد كانت هناك مجموعة ثالثة عليها ان تسافر خارج السودان وأنا كنت على رأس وفد من الأحزاب الأخرى ذهبنا الى أميركا وبريطانيا وكل ذلك كان جزءاً من التكتيك (وهذا الكلام أصرح به للمرة الأولى) أما تخطيط الانقلاب فقد أوكل أمره للأمين العام .
وقد طلب منه مجلس الشورى ان يختار الأشخاص المناسبين لأن الأمر يحتاج لدرجة عالية من السرية وقد اختار الأمين العام الدكتور حسن الترابي 6 أشخاص وقد كنت أنا ضمن هؤلاء السبعة أشخاص وقد خططنا للانقاذ قبل فترة وكل ذلك مدون وموجود.. أما عمر البشير فلم يكن عضواً في هيئة الشورى لذلك فهو لم يكن يعلم بأي شيء عن أمر الانقلاب لأن العسكريين الإسلاميين غير موجودين كفصيل ممثل داخل هيئة الشورى ونحن لا نعرفهم الا بالأسماء الحركية وقد كان الأمين العام يقوم بالتنوير كل ثلاثة أشهر على مسار الأمر.
طريقة تفكير
الرئيس عمر البشير ذكر في لقاء تلفزيوني أجراه معه أحمد البلال الطيب عن الكيفية التي قام بها في تمويه الضباط وتحركه من ميوم الى الأبيض ومن الأبيض الى الخرطوم وذكر مجموعة من الوقائع كيف تقول ان دوره كان ثانوياً؟
كما ذكرت لك نحن لا نعرف عمر البشير بالاسم لأننا نستخدم أسماء حركية وسط الجيش وعندما تم احضار عمر البشير من ميوم لم يقم عمر البشير بذكر أسماء الأشخاص الذين أحضروه وهم الأخوة عمر سليمان من أبناء كردفان الذي لا يزال يتعرض للاعتقال لأنه من المؤتمر الشعبي..
كما لم يذكر اسم النحيلة الذي كان يقيم معه عمر البشير في الأبيض ومن ثم تحرك للخرطوم وقد كان حضوره للخرطوم للتنفيذ فقط لا غير.. البيان الأول كان جاهزاً قبل حوالي 3 أو 4 أسابيع من الانقلاب وقد تم تسجيله في شريط فيديو بمباني منظمة الدعوة الإسلامية بالخرطوم وكل الذين ساهموا في هذا الموضوع ما زالوا أحياء.. الحركة الإسلامية مسئولة عن كل ما يتعلق بأمر الانقاذ وهدفنا لم يكن اقامة ديكتاتورية مدى الحياة فقد كانت لدينا خطط مرحلية تنفذ على فترات..
أما في ما يتعلق بأن السلطات قد وضعت يدها على المحاولة الانقلابية الأخيرة واعتقلت مجموعة من الضباط بدعوى أنهم كانوا يجتمعون في القيادة العامة فلماذا لم يتم تسجيل لمحاضر اجتماعاتهم أو تصويرها ونشرها لوسائل الاعلام اذا كان الأمر صحيحاً. هذه مجرد كذبة وفبركة من قبل أشخاص جهلاء لا يجيدون صنعة الأمر.. في موضوع الانقاذ فقد أدينا بيعة وقسماً مغلظاً لم يكن هدفنا ان نستعلي على الناس ونكون.... نحن فقط.. لأن الحركة الإسلامية لا تفكر بهذه الطريقة

Post: #2
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: tariq
Date: 09-21-2004, 10:55 PM
Parent: #1


سقوط المشروع الحضاري في السودان -الحلقة الثانية
في مواجهة انتقاد التحرك الانقلابي، رجال «الإنقاذ» يستعينون بمدفعية ثقيلة من أجهزة الإعلام
تأليف :د. حيدر ابراهيم
في سؤال للشيخ الترابي يقول: «من خلال التجربة التي قمتم بها في الثلاثين من يونيو 89 يتساءل الشارع لماذا لا يعتذر الترابي للشعب عن هذا المسلك ويطلب العفو منه؟. طبعاً نحن لسنا الحركة السياسية الوحيدة التي دبرت انقلاباً في هذا البلد فحزب الأمة كان هو الأول والحزب الشيوعي كان الثاني ونحن الثالث، والحزب الاتحادي هو حزب رفض أن يدخل هذه الساحة إلا أن يكون من كرام المواطنين الذي يؤيدون نظام عبود لأنه قام بغالبه من تراث أقرب إليهم.
ثانياً: نحن تحدثنا عن الخطأ (ايش) تعني هذه اللغة ويريد بعض الناس بلغتهم هم يريدون أن أقول للفرد منهم أعتذر إليك وأرجو أن تعفو عني فأنا أعتذر إلى الله سبحانه وتعالى. فمن اليوم الثاني بعد خروجي شهدت الندوة في الجامعة وتحدثت عن أين كان الخطأ وأين كان الصواب، لكن بعض الناس على وتيرة!! ويريدون أن يجلس الترابي تحت أقدامهم ليقبلها ويقول لهم أعتذر إليكم (طيب) ليعتذر السادة الكبار الذين أيدوا عبود ويدانوا.
فأنا أقول إنه في السياسة يجب أن نترك الأمر للشعب يدين من يدين ويسحب ثقته ورصيده ويعذر من يعذر حتى ولو أخطأ أو تجاوز، لأن كل السياسيين خطاءون، والفساد لم يكن هنا بل في كل النظم وفسادات الرأي كل مرة هي التي تشغل صحفنا وكلامنا حتى يذهب هؤلاء ونبكي على الماضي (ما بكيتم من شيء إلا وبكيتم عليه) أنا أعرف السودانيين، فقد قامت الثورة ضد عبود من كل أنحاء البلد .

وبعدها خرج عبود بعد فترة إلى السوق جرى الناس وراءه يرددون (ضيعناك وضعنا وراك يا عبود) فهذه أخلاق الشعب، لكن أنا أتكلم عن التقويمات وهذا التقويم ليس من الترابي بل من كل المؤتمر الشعبي ومن كل حركة الإسلام.
د. الترابي كيف تقيم تجربة حكم الإسلاميين في السودان؟
كانت محاولة للرجوع إلى الأول. دستور أشبه بدستور المدينة وانتخابات مثل انتخابات عثمان وعلي ولا تشبه ولاية العهد التي تأتي بالقوة وبسط حريات مثل المدينة وعهود مع الآخرين، وحاولنا هذه لكن من أول مرة (بتعصب) ولذلك ما رسخت في الناس، والشعب لم يمارس حرية لذلك لم تعش (حوار أجراه كمال الصادق وعماد عبد الهادي، في صحيفة «الأيام» 25 مارس 2004).
ملابسات انقلاب
يحاول الشيخ الترابي أن يبرر الخطأ بخطأ فهل قيام الآخرين بالانقلاب يعطيهم الحق في الانقلاب على الديمقراطية؟ ومثل هذا التفكير يسقط الوازع الأخلاقي، إذ طالما هناك من يقوم بجريمة أو خطيئة، فيمكن للاحقين أن يجعلوه سابقة أو قدوة!
يقول علي عثمان محمد طه عن الانقلاب: «إن هذا الانقلاب لم يكن انقلاباً حزبياً بالمعنى المباشر، صحيح أنه قد تكون للجبهة الإسلامية وللعناصر الإسلامية نصيب كبير في آلية ذلك الانقلاب لكن بالقطع أن الانقلاب روحه وجوهره ومضمونه كان عملاً وطنياً استدعته الضرورة الوطنية التي فرضتها المهددات التي كانت تضغط على وجدان ونبض كل مواطن يريد أن يعيش في أمان ويريد أن يرى الأمور تسير إلى الأمام في ظل ما كان يكتنف الأوضاع من تدهور وضبابية وتخبط» (صحيفة الرأي العام 9 يوليو 2002).
عالجت كثير من الكتابات الجيدة التي نشرها حيدر طه وعصام ميرغني (أبو غسان) وعبد الرحمن الأمين والسر أحمد سعيد، ملابسات قيام الانقلاب ووصفوا الظروف السابقة واللاحقة لتنفيذ وإنجاح الانقلاب. لذلك لن نعيد متابعة الأحداث ولكن نهتم بطريقة التفكير والموقف من الديمقراطية.
مما جعل القوات المسلحة بديلاً تدخره الجبهة لإدارة الصراع عوضاً عن التداول السلمي للسلطة. وهذا يكشف عن ثانوية الديمقراطية كأولوية في فكر الجبهة وممارساتها وهذه سمة مازالت تلازمهم على الرغم من الفشل السحيق الذي لازم مشروعهم الحضاري الذي جاء عن طريق الانقلاب. ولم يفطنوا بعد إلى أن غياب الديمقراطية هو مقتل المشروع.
ظن «الإسلامويون» السودانيون أن العالم العربي على أبواب ثورة إسلامية ستعم المنطقة. وقد كان هتاف الطلاب «الإسلامويين» بعد الثورة الإيرانية يبشر بتعميم الثورة مرددين: إيران في كل مكان! فقد كان «الإسلامويون» مترددين في استخدام العنف الثوري والانقلاب في السودان ولكن ضعف الحكومة المنتخبة كان مغرياً كما أن الأوضاع الإقليمية فتحت شهيتهم لتجاوز التردد.
وبدأت «البروفة» بما أسمته الجبهة الإسلامية «ثورة المصاحف» ضد حكومة الائتلاف الحزبي ـ النقابي ـ العسكري التي أبعدتها من السلطة في فبراير 1989. ونشط «الإسلامويون» في رمضان / إبريل 1989 ولكن لم تصل البروفة إلى نهايتها إذ لم يتجاوب معها الشارع السوداني لأن شعاراتها الخاصة بتطبيق الشريعة لم تكن أولوية كما أن الحكومة كانت منتخبة بغض النظر عن عيوب الليبرالية .
ولكنها تختلف عن الدكتاتوريات الانقلابية التي قامت ضدها الانتفاضات والثورات الشعبية. ويرى أحد الباحثين «الإسلامويين» أن الحركة لم تكن تسعى حينها إلى قلب الوضع وإنما تهيئة الظروف للتغيير الذي سيأتي. ولكن ـ حسب الأفندي ـ فأن الثورة «التي جهد الإسلاميون السودانيون في احتوائها كانت قد انفجرت فعلاً في أنحاء أخرى من العالم العربي.
اشتعلت الثورة في شوارع الجزائر في أكتوبر من العام 1988م. الصراع في تونس وصل نقطة حرجة في العام 1987م حيث أدى لإزاحة بورقيبة من دون أن يحسم قضايا أساسية. شوارع مصر اشتعلت بما يشبه الحرب الأهلية. اليمن هربت إلى الأمام من مشاكلها بالديمقراطية أولاً والوحدة ثانياً من دون أن تتجاوزها تماماً، والأردن والمغرب فعلا شيئاً من ذلك. ثم جاء زلزال الخليج وحربها فصدع النظام العربي من أساسه». (الأفندي: 19).
كان للمناخ العام دوره في أن يسارع الترابي في إظهار جانب لينيني في شخصيته من خلال موقفين: إدراك جيد للأزمة الثورية أي التوقيت، ثم اندلاع الثورة في أضعف الحلقات، فالثورة الشيوعية ـ الاشتراكية اندلعت في روسيا وليس انجلترا أو ألمانيا. كما حدث التغيير الإسلامي في العالم العربي في السودان وليس مصر ولا المغرب.
واعتمد الترابي على الخارج مقتبساً فكرة الدولة القاعدة التي يروج لها القوميون العرب (مثل نديم البيطار وغيره). وبالفعل فتح السودان في مطلع التسعينيات لكل الإسلامويين المطاردين في بلادهم واستضاف السودان من أسامة بن لادن حتى راشد الغنوشي ومحمد الهاشمي الحامدي.
من الملاحظ أن نجاح الانقلاب تسبب في توجه شمولي قوي داخل الحركة «الإسلاموية» وتنكر الكثيرون لكل المواقف المؤيدة للتعددية حتى وإن كانت غامضة عند البعض. ولكن بعد الإنقاذ لم يعد مفهوم الديمقراطية أو التعددية يثير الاهتمام بل اعتبر المؤيدين للتعددية السياسية أقلية مارقة لا يأبه لها ـ كما قال المهندس الطيب مصطفى (10 فبراير 199 واضطر د. الطيب زين لكي يرد عليه أو يجادله بأنهم ـ أي الداعين للديمقراطية ـ ليسوا مجموعة صغيرة شاذة، يكتب:
«والحقيقة غير هذا تماماً فالحركة الإسلامية السودانية وقفت دائماً مع التعددية السياسية وعملت بمقتضاها في الساحة السياسية، أما التغيير الذي طرأ من بعض قادتهم في الآونة الأخيرة فالسبب الرئيسي فيه هو ما حدث صبيحة 30 يونيو حين استولى انقلاب عسكري على السلطة ووجدت الحركة الإسلامية نفسها في موقع التمكين في النظام الجديد.
أراد هؤلاء البعض أن يتمسكوا بالرزق الذي ساقه الله إليهم! وليس هناك من غرابة أن يسعى السياسيون المحترفون إلى التمسك بتلابيب السلطة حين تتاح لهم الفرصة ولكن لا يجمل بنا أن ننسب ذلك إلى حكم الإسلام الذي منع أتباعه حتى من تزكية النفس ومن طلب الولاية، ولا ينبغي لنا أن نتنكر لموقف الحركة الإسلامية الأصيل من قضية هي أم القضايا في العمل السياسي المعاصر.
والموقف الذي تتخذه الحركة الإسلامية السودانية من قضية التعددية سيؤثر كثيراً على مواقف الآخرين من الحركات الإسلامية التي تناضل في بلاد كثيرة لتنتزع حق المشروعية في العمل السياسي وتنافس الآخرين على نيل ثقة الجماهير وتمثيلها في الأجهزة التشريعية ومن ثم تكوين الحكومات أو المشاركة فيها إن حظيت بالأغلبية المناسبة.
ومثل ما يتذرع الطيب وبعض إخوانه بما حدث في الجزائر وتركيا ضد الحركات الإسلامية ليدافعوا به عن احتكارهم للسلطة ومنع الأحزاب الأخرى عنها سيتذرع آخرون بما يحدث في السودان ليقولوا ان الحركات الإسلامية غير جديرة بحرية العمل السياسي لأنها لا تؤمن بهذه الحرية لغيرها». (الرأي العام 15 فبراير 199.
حماس للتغيير
بعد سنوات يأتي قيادي كان من المتحمسين للتغيير خاصة وأنه من العناصر الشمولية التي شاركت في حقبة النميري كوزير للداخلية وتقلد مناصب تنفيذية ودستورية مختلفة. يردد أحمد عبدالرحمن الكلام نفسه الذي قال به المعارضون في رفضهم لانقلاب الجبهة: ـ «أولاً يجب أن يترسخ فينا قناعة أن هذا الوطن لا يمكن أن يحكم إلا بمشاركة كاملة وواسعة من كل أهل السودان في صناعة القرار وفي توزيع عادل لما يتوفر من مال وإمكانات .
وهذا لا يمكن أن يؤمن إلا بالأخذ بنظام فيدرالي متطور جداً وغير نمطي» وندهش حين نجد أن أحد رجال المشروع الحضاري، يدعو: «لماذا لا نسعى لتكوين أحزاب وفقاً للموديل الأميركي تكون مهمتها قاصرة على تكوين الحكومة! هكذا يصل تأصيل السياسة الإسلامية في الحركة. ويكرر أثناء الحوار إعجابه بالنموذج ويقول مرة: «هنالك مثال أمامنا لا أجد حرجاً في الإشارة إليه هو مثال الولايات المتحدة الأميركية» (أخبار اليوم 24 يونيو 2004).
في حوار مع د. جعفر شيخ إدريس الذي يرى أن الحركات الإسلامية تفتقر إلى تصور وسائل تغيير الحكم وكيفية التعامل مع الحكومات وكيفية ممارسة الحكم. أجاب: «هذه مسألة واقعية فالحركات الإسلامية لم تتفق حتى الآن حول تصور لتغيير أنظمة الحكم فالبعض يقول بالانقلابات والبعض بالديمقراطية وعن نظام الحكم لا يوجد تصور حتى الآن عن كيف يكون شكل نظام الحكم وعندما أقول هذا لا أستثني نفسي فنحن كحركات إسلامية قصرنا في هذا الأمر» (حوار أجراه صبري الشفيع في صحيفة الرأي الآخر 12 مايو 199.
في مقابلة نشرت أخيراً في « اسلاميك لاين نيت» بتاريخ 29 سبتمبر 2003 حاور مراسل الموقع والمهندس أبو العلا ماضي وكيل مؤسسي حزب الوسط المصري (ذا التوجه الإسلامي) والدكتور أحمد عبد الله مستشار الشبكة، الشيخ حسن الترابي، ويمثل الحوار وثيقة هامة في فهم دوافع وملابسات وظروف، نورده كاملاً للتاريخ والتوثيق.
في سؤال عن تقويم تجربة الحركة التي بدأت بالدعوة والانتشار ثم المشاركة في عهد النميري ثم السيطرة الكاملة على الحكم في ظل حكومة الإنقاذ وانتهت بالصدام والاستبعاد عن السلطة والسجن. أجاب بأن الدعوات الدينية والحضارية تبدأ بشعارات عامة ولغربتها عن المجتمعات التي تولد بها فهي دائماً ما تحاط بالشبهات ولكن لصدقها دائماً ما تجتاز العقبات وتبلغ مرحلة الانتشار وتتواكب عليها الابتلاءات وهذا ما حدث في السودان.
ويقول أنهم لم يكن من الممكن أن يصلوا إلى السلطة ديمقراطياً بسبب معارضة الغرب الصريحة لذلك كان لابد من اللجوء لوسائل أخرى «ومن قراءتنا للتاريخ الذي أكد في جميع مراحله على أن الديمقراطية لا تولد إلا عبر الثورات بدءاً من الثورة الفرنسية، ومروراً بما حدث في إنجلترا وأميركا، فقد رأينا أننا لا نستطيع الوصول إلى السلطة إلا بمنهج الثورة الشعبية، إلا أننا قد أخذنا عهداً على أنفسنا ألا يكون حكماً قبلياً أو طائفياً أو عسكرياً».
ويمضي الترابي ليقول: «وعندما صعدنا إلى السلطة في السودان، وبدأنا نحكم بالشورى وسلطة الشعب، واعتمدنا الحرية أساساً لكل الناس كفروا أو آمنوا ما اتخذوا اللسان سبيلاً للتعبير لا السنان، فإن نظام الحكم الذي تعاهدنا معه، وأقسمنا اليمين قبل الوصول للسلطة، عندما تمكن تفارق معنا فرقاناً بيناً، لأن بنيته العسكرية والذهنية لا تنتمي لهذه الأفكار، وإنما نيته قائمة على الغدر بالعهود».
ولكن ما الذي دفع إلى هذا الصدام المروع على الرغم . . . بينكم؟
شح المال من ناحية، ومحاولتنا الدعوية إقامة علاقة «عزة» مع العالم لا «عزلة»، نأخذ منه ويأخذ منا، نجادله ونحاوره، ولكن على قدم المساواة، كل تلك العوامل حركتها عقلية العسكر من ناحية، والتحريضات الكثيرة على الإسلام وأهله من قبل تملك السلطة والمال في العالم من ناحية أخرى، كل هذا أدى في النهاية إلى الفرقان المبين. ولكننا كنا نود أن نختلف ونتحاور، إلا أنهم أبوا إلا ما رأوا.
ولذلك زجوا بنا في السجون، ولكن نحن لسنا مفاجئين، فالصحابة قتل بعضهم بعضاً عندما جاء الصراع على السلطة والخلافة الراشدة القائمة على الانتخاب الحر والعقد والمساءلة تحولت وانهارت انهياراً كاملاً، وهذه كانت تجربتنا الأولى في البلاد، ومن يدري؟ لعل القادم يكون أكثر خيراً.
ولكن ألا تتفق معنا يا دكتور في أن العامل الرئيسي لفشل هذه التجربة يكمن في خياراتها المبدئية، فأنتم عندما قبلتم الوصول للسلطة عن طريق انقلاب عسكري كنتم ترسمون هذه النتائج بأيديكم قبل أن تحدث؟
يا أخي هذه كانت ضرورة، فالعهود القديمة رفضت أن تفسح مجالاً لنا، وحتى الديمقراطية في الغرب ـ كما قلت لكم ـ لم تنجح هكذا بدون ضغوط وثورات، ولكن الخطأ من وجهة نظري هو عدم اللجوء للناس والقيام بثورة شعبية، فالاعتماد على العسكر هو الذي أوقعنا في هذا الخطأ، فحين قالوا لهم: «أخرجوا هؤلاء من الحكم أو نخرجكم» أسرعوا بإخراجنا والزج بنا في السجون، ولكنني أؤكد مرة أخرى أنها كانت ضرورة، فلم نكن لنصل إلى السلطة بدونها.
مبرر المشروع الحضاري
أما المبرر الاستراتيجي اللاحق، فهو ادعاء العمل على تأسيس مشروع حضاري يقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية. وبعد أن تم تثبيت السلطة أمنياً، بدأ النظام تدريجياً في الإفصاح عن وجهه لذلك نلاحظ في 1991 وما بعده ظهور بعض المنظرين والمبررين للانقلاب العسكري بقصد تحويله إلى ثورة وتجديد ومشروع حضاري عوضاً عن كونه انقلاباً وعملاً تآمرياً قامت به فئة قليلة حسنة التنظيم والمباغتة.
وهذا التحويل يقصد به إنزال العسكر من رماحهم التي استخدموها في الفصل الانقلابي ويتقدم مثقفو الطغمة ليملأوا أجهزة الإعلام تنظيراً وتجميلاً وتبريراً، وهذا ما لا يستطيعه العسكر وهم أصحب شعار: «البيان بالعمل» أو «احكموا علينا بأعمالنا» وكان من الواضح أن انقلاب الجبهة الإسلامية يحتاج إلى مدفعية ثقيلة من الإعلام وتزييف الوعي في الداخل والخارج.
ومن الواضح أن النظام كان يدرك ضعف قاعدته الشعبية في السودان، لذلك اهتم بعلاقات الخارج وصورته لدى الآخرين بغض النظر عن تقويم شعبه له. وقد قام الإسلامويون في الخارج بدور مهم في مساندة إخوانهم السودانيين وكأنهم استندوا على المبدأ القائل: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً». وقد قام «الإسلامويون» غير السودانيين بتنسيق حملة إعلامية تمتد من اليمن والأردن ومصر وشمال إفريقيا وفلوريدا في الولايات المتحدة وماليزيا.
وفي الوقت نفسه نشر الإسلامويون السودانيون في الصحف والمجلات الأجنبية أكثر مما كتبوا في الداخل، مثل مجلة قراءات سياسية (مركز لدراسات الإسلام والعالم ـ تامبا، فلوريدا) مجلة الإنسان (دار أمان للصحافة والنشر (بقطر) ثم صحف الشعب المصرية والقدس في لندن والمستقلة (لندن) وكثير من الصحف الأردنية واليمنية.
رغم هذه الكثافة والانتشار فإن «الإسلامويين» لم يقدموا فكراً عميقاً بل اكتفوا بالملاحقة الإعلامية الدفاعية ورد الهجوم والنقد، وتسريب المعلومات الكاذبة ضد المعارضين. فقد قدموا الدعاية بطرائقها الشمولية التي تجيدها النظم الدكتاتورية القمعية التي تقصي الآخر وتنفي الحوار والاختلاف. اكتفى «الإسلامويون» بالتلفزيون والإذاعات والصحف الرسمية في تكوين وعي زائف لدى مؤيديهم وكان سباب وصراخ الرائد يونس اليومي سوط عذاب على الشعب السوداني، استمر خلال الفترة الأولى واختفى في ركام التاريخ مثل سلفه يونس بحر في إذاعة برلين أثناء الحرب النازية.
حاول المنظرون الإسلامويون في كتاباتهم الخارجية أن يكونوا منهجيين وعقلانيين في تقديم مشروعهم الحضاري باعتباره تجديداً في الفكر الإسلامي تنزل على الواقع السوداني أو على تجربة الانتقال للحكم الإسلامي في السودان. والدليل على نهاية المشروع «الإسلاموي» أن الأسماء التي كانت تدافع وتنافح عن المشروع ابتعدت بعد سنوات قليلة ولم تعد تحس بالانتماء تماماً للنموذج القائم في شكل سلطة الإنقاذ الحالية، ومن هؤلاء:
التيجاني عبد القادر حامد، محمد محجوب هارون، الطيب زين العابدين، عبد الوهاب الافندي. ولم يبق سوى كتاب الأعمدة اليومية الذين يلاحقون الأحداث العابرة والتي غالباً ما تكون مظاهر خارجية لحقائق أعمق.
ولكن الحركة «الإسلاموية» الحاكمة تكتفي بمخاطبة أجزاء دنيا من العقل وقد ترضى بمجرد الانفعالات والعواطف. الكتاب الإسلامويون والأكاديميون بالذات حين ينشطون في السياسة فهم يتنازلون تماماً عن العلمية والمنهجية في تفكيرهم وأقوالهم. ويقعون بسهولة في تزييف الأيديولوجيا ودهموية الشعارات، على الرغم من كل محاولات التشبث بقدر من الموضوعية والعلمية.
فيفترض في أي مفكر أو عالم أو أكاديمي أن يبدأ بتعريف وتحديد المفاهيم أو المصطلحات خاصة حين يكون قد شرع في تطبيقها على بشر. فنحن الآن أمام «مشروع حضاري» يطبق من دون أن يرهق مفكرونا بتحديد ماذا يقصدون بهذا اللفظ الذي تحول إلى تشريعات وقوانين وممارسات وأدوات لقمع الناس أو لتمييز الناس؟
ثم ألا يحتاج هذا المشروع إلى تنظير وتعميق فكري؟ وهذا يظهر في الإصدارات والكتابات التي تتناول الموضوع على مستوى أعلى من المقابلات الصحفية والأحاديث الإعلامية. يشهد الجانب الفكري فقراً مدقعاً لا يتناسب مع الضجيج وأعداد المتعلمين داخل النظام.
من البداية نلاحظ تعدد تسميات التجربة السودانية، فهي المشروع الحضاري أو المشروع الإسلامي السوداني أو مشروع النهضة الحضارية الشاملة أو النموذج الإسلامي في السودان. وهناك من يرى عملية التحديث والحداثة من منظور إسلامي. لذلك نصطدم بمفهوم واسع وليس شاملاً يقول كل شيء ولكن لا يقول شيئاً.
فالترابي حين يرى النموذج أو المشروع الحضاري من خلال دور الحركات الإسلامية، فهو يقصره على التوحيد، يحدد واجبها بقوله: «أن تبدأ بإحياء التوحيد في الحياة السياسية حتى تكون إخلاصاً لعبادة الله لا ابتغاء للسلطة، وتجرداً للخير العام، لا حباً في إرضاء شهوة السلطة والسيطرة على الآخرين. وحتى تكون علاقات السياسة علاقات أخوة في الله ووحدة وعدالة.
ولا تصبح علاقات صراع سياسي ـ كما هي في العالم قاطبة ـ صراع أحزاب وطوائف وشخصيات وأقطار» (حسن الترابي، في كتاب: المشروع الإسلامي السوداني: قراءات في الفكر والممارسة، الخرطوم، معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، 1995، ص 11) والفكرة الأساسية في المشروع الإسلامي ـ حسب الترابي ـ هي انتفاء الصراع، وهذا ما يميز مشروعه عن النموذج الغربي بدءاً من صراع الإغريق القدماء كما يعبر عنه المسرح والدراما وانتهاء بصراع الاقتصاد والعلاقات العالمية والتعددية كما يظهر في المجتمعات الحديثة. باختصار تتحقق في المشروع الإسلامي الوحدة والانسجام.
معالم مشروع
ويحدد منظر آخر معالم المشروع الإسلامي السوداني بطريقة طموح تجعل منه مقدمة للمشروع الحضاري الإسلامي الشامل. يكتب أمين حسن عمر: «فمشروع السودان للإنقاذ الذي يأتي توطئة من بين يدي النهضة الشاملة بإذن الله يصلح أن يكون نموذجاً للمشروع الحضاري الشامل» (المرجع السابق، ص 37) ثم يعرف قائلاً: «ومشروع النهضة العربية والإسلامية مشروع انبعاث حضاري.
وذلك أنه يمثل استمراراً لحضارة كانت قائمة بل كانت رائدة، ولها أفضال كثيرة في كل ما آل إليه العالم المعاصر من رفاهة وتقدم، ولذلك فإن دعاة الحضارة العربية والإسلامية لا يطالبون بمقعد بين الأمم المتحضرة، بل يطالبون بهذا المقعد في الطليعة والمقدمة. وهم لا ينافسون على مقعد شاغر بين الأمم المتقدمة، وإنما يطرحون مشروعهم بديلاً للمشروع السائد.
ويقدمون أنفسهم قيادة بديلة للعالم على طريق التقدم الاجتماعي والحضاري». (المصدر السابق، ص 23) والسودان حين اختار مشروعه أصبح مؤهلاً لهذا الدور الذي لا يحتاج لقوة مادية أو تكنولوجية لأن المقاصد مختلفة، فيختم الباحث: «يمكن أن نلخص غاية مجتمع النهضة والرشد ومقاصده بأن نقول أن المجتمع يقصد إلى الإحسان، الإحسان في عبادة الله ليتخلص من كل عبودية أخرى لأهواء الناس أو الحاجة أو الآخر المستبد» (المصدر نفسه، ص 35).
والمشروع ينتهي كما عبر باحث آخر إلى تكامل المجتمع، حتى يستطيع إقامة العدل: «فهو مجتمع رباني عادل مشحون بالقيم الأخلاقية العالية، إذ هي ضمانته الكبرى للبقاء والنماء» (أحمد الطاهر إبراهيم: حركة التشريع وأصولها في السودان. الخرطوم، مطبوعات الحركة الإسلامية الطلابية، 1995، ص 90).
يتردد مصطلح الحداثة والتحديث في كتابات بعض «الإسلامويين» حين يصفون النموذج السوداني، وهذا ما نلاحظه في كتابات عبد الوهاب الأفندي الأخير: «الثورة والإصلاح السياسي في السودان، لندن، ابن رشد، 1995). ولكن الأفندي يعجز عن الربط المنطقي والتاريخي بين التحديث والأسلمة، وذلك لوجود أكثر من تحديث في السودان كما ذكر، على الرغم أنه يقرر بثقة قاطعة:
«ربما يكون السودان البلد الوحيد في العالم الإسلامي الذي تطابق التحديث فيه مع مزيد من الأسلمة والتعريب». (الكتاب المذكور، ص 86) ولكنه يقول في الصفحة نفسها: «ومن هذا التفاعل بين الإحيائية الصوفية والتحديث الإسلامي ولدت حركة المهدية، التي انبثقت من رحم الطريقة السمانية، ومن الرفض الشعبي لـ «التحديث» الذي سعت إليه الإدارة التركية المصرية. نحن أمام «تحديثين» وكالعادة لم يعرّف أو حتى يحدد مظاهر كل تحديث.
وحين يتابع تاريخ الحركة الإسلامية التي تتبنى المشروع أو النموذج الحالي، يقول أن التوجه الإسلامي «وضع الإسلام على قمة الأجندة السياسية، وربط التحديث والبناء القومي بالإسلام» (ص 111). ويقدم وصفاً للنموذج أو ما يسميه بالبعث الجديد تظهر من خلاله التناقضات يقول: «أن بعض مظاهر البعث الجديد جمعت بين خواص الثورة الحديثة وبين خواص البعث الإسلامي الأول، فمثلت بالتالي مزيجاً شديد الانفجار من المطالب والرؤى الحديثة والدوافع والحوافز التي وفرها الإسلام الأصيل» (ص 211).
ويذكر الباحث أحد التناقضات الرئيسية: «أن مفهوم الدولة الحديثة القابضة والمسيطرة على كل نواحي الحياة غريب على الإسلام وقيمه وتقاليده» (ص 205) ووجود الدولة الحديثة من الشروط الأساسية لعملية التحديث ويستحيل في غيابها نجاح عملية التحديث بالذات في المجتمعات العالمثالثية.
ومن جهة أخرى هناك «إسلامويون» يرفضون مبدئياً ربط مفهوم التحديث بالنهضة الإسلامية أو بالبعث الإسلامي، ويفضلون مصطلح تجديد. لأن المقصود «مشروع إحياء واستمرار وتقدم (أي مشروع تجديد حضاري) لا مشروع لحاق وتنافس وتقدم في سياق الحضارة الغالبة أي ليس مشروع حداثة بل مشروع تجديد (أمين حسن عمر في كتاب المشروع الإسلامي السوداني، ص 23). (د. حيدر إبراهيم علي، جريدة الحياة اللندنية، 4 يوليو 1996).

Post: #3
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: tariq
Date: 09-21-2004, 11:30 PM
Parent: #1


سقوط المشروع الحضاري في السودان ـ الحلقة الثالثة
هل كانت البداية خاطئة؟، أربعة عناصر تشكل المشروع الحضاري كما تصوره منظرو الإنقاذ
تأليف :د. حيدر ابراهيم
يحلل الكاتبان أمين والتيجاني وضع السودان قبل الإنقاذ بأنه وقع ضحية تبعية مؤسسية للغرب في مجال المؤسسات الدستورية والحزبية ومؤسسات الثقافة والتعليم الحديث والإعلام بالإضافة إلى التبعية الطائفية حيث تحالفت النخب العلمانية المتغربنة مع الطائفتين الكبيرتين بهدف التواصل مع الجماهير التقليدية. وهذان هما مصدر الأزمات التي أدت إلى أن يكون السودان دولة أسيرة ومن هنا ينطلق المشروع الحضاري، يقول الكاتبان:
ـ «إن مشروع النهضة الإسلامية المعاصرة في السودان يهمنا هنا من حيث هو مشروع للتحرير من الهيمنة الإمبريالية الغربية، ومن حيث أنه مشروع لإعادة البناء الاجتماعي وفق رؤية تجديدية للدين تجمع بين الأصل السابق للظاهرة الاستعمارية والعصر التالي لها. كما يهمنا من حيث أنه يوفر طاقة معنوية هائلة تمكن الشعب من تجاوز واقع التخلف بأقل قدر مما يتوفر من الإمكانات المادية والوسائل التقنية» .
(ص 25).
هذه هي الغايات أما الوسائل فقد عاد الكاتبان إلى تراث الحركة الإسلامية الحديثة منذ عهد جمال الدين الأفغاني حسب قاعدة: أن مشروع النهضة بالأمة لا يتحقق إلا بمشروع الرجعة للكتاب، لأن الأمة قرآنية. وترى الحركة الإسلامية في السودان ـ حسب الكاتبين ـ أن الاستعمار خرج ولكن خلف دولة أسيرة مرتبطة بالمصالح الاستعمارية من خلال ممثليه في قيادة مكونة من الصفوة الحديثة والزعامات الطائفية التقليدية. أما عامة الناس فقد تحول التدين لديهم إلى شعائر وطقوس خاوية من معاني القرآن والدين الحق.
ويوصلنا الكاتبان إلى دور «الإسلامويين» بقولهم: ـ «لذلك فقد استبان للثلة الصالحة والطائفة القائمة بالحق من أبناء المسلمين في السودان، أن هذا الأمر لا يصلح أخره إلا بما صلح به أوله، وما صلح به أوله إلا بإصلاح النفوس. فلا سبيل لتحرير البلاد قبل تحرير النفوس ولا لاعمار البلاد قبل أعمار النفوس. والنفوس إذا تحررت وعمرت بالإيمان والشعور بالعزة والاستعلاء تفجرت طاقاتها الهائلة في الاجتهاد والجهاد».
(ص 26) .
لذلك اعتبر أن أهم مقاصد المشروع الحضاري هو صياغة الإنسان الحر، وهذا ما يفرض على المشروع ألا يكون «طقوسياً» بل هو مشروع حضاري لتحرير الأنفس والآفاق وأعمارها.
(ص 26).
إذن، كيف يمكن «بناء نظام إسلامي معاصر يرتكز على قيم الدين ولكنه يتجاوز، من جهة العصبيات العشائرية والطوائف التقليدية كما يتجاوز من جهة أخرى، الأشكال الغربية الجاهزة التي تقطع الناس عن كل ثقافة دينية، وينفذ بصورة مباشرة إلى العمق الجماهيري، وإلى الطاقة الروحية الكامنة فيه» وعندما استولى «الإسلامويون» على السلطة في 30 يونيو 1989 اتبعوا منهجية ـ حسب الكاتبين ـ قامت على هذه العناصر: أ ـ الثورة ، ب ـ النظرة الاستراتيجية ج ـ الاعتماد على الذات د ـ الجهاد الشعبي المستمر.
الحلقة الشريرة
يرى منظرا المشروع الإسلامي البديل أن مبدأ الثورة هو أهم ما يميز المشروع، ويقصد بها: ـ أ ـ فك علاقة التبعية للإمبريالية الغربية سواء أكانت أشكالاً مؤسسية ام أنماطاً سلوكية ب ـ تفكيك العلاقات الطائفية سواء أكانت علاقات استراتيجية كالتي بينها وبين أتباعها في الريف، ام علاقات تكتيكية كالتي بينها وبين العلمانيين في المدن.
ج ـ النفاذ إلى العمق الجماهيري المسلم وإخراجه من هوامش الحياة وإعداده ليخوض معاركه المصيرية بنفسه والثورة ـ حسب المفهوم المعروض ـ لا يمكن أن تتصالح مع الغرب والطائفية، وهي ليست عملاً عسكرياً أهوج، ولكنها عمل دؤوب نحو «إحياء الأمة بالتذكير والتفكير والموعظة الحسنة، والقدرة وترفّع الهمة».
أما العنصر الثاني، فهو أن يسير المشروع «على هدى رؤية استراتيجية معلومة». وخلافاً لكثير من الثورات التي انشغلت بعد المرحلة الأولى للوصول إلى السلطة، بهموم وقتية ومعارك جانبية دون أن تضع خطة عظمى. ولكن الإنقاذ بعد عامين فقط، قررت ـ حسب الكاتبين ـ العمل: «على تجاوز مرحلة الإنقاذ إلى آفاق النهضة الحضارية الشاملة، وذلك بحشد الطاقات إلى أهداف كبرى». وعملت وفق هذه الرؤية على وضع «استراتيجية عشرية شاملة خططت فيها كل قطاعات المجتمع في السياسة والاقتصاد والزراعة والعلاقات الخارجية والسلام».
يرتبط العامل الثالث بما سبق مباشرة، وهو مبدأ الاعتماد على الذات باعتبار «أن تحرير الولاء لله والاستقلال بالقرار وتأسيس الحياة الاجتماعية» لا يتم دون ذلك المبدأ ولكن يستدرك الكاتبان بأن الاعتماد على الذات لا يقصد به الانغلاق على النفس ورفض الآخرين أو معاداتهم. ان أي عون يأتي من الخارج لا يفيد شيئاً إذا كان الداخل خرباً.
المفهوم الرابع في نظرهما هو الجهاد الشعبي، لأن «الطريقة أو الحيلة الأساسية التي استطاع بها المستعمر أن يطيل بقاءه في بلاد المسلمين هي أن طمس معنى الجهاد الشعبي المقدس وأبرز مفهوم العسكرية المهنية حيث ينقسم المواطنون إلى فئتين: فئة تحمل السلاح وفئة تحررت منه.
أما حاملو السلاح فهم صنائع الغرب وموالوه الذين يفرضون الخيار الحضاري الغربي على رؤوس المسلمين ويسدون كل النوافذ أمام الانبثاق الإسلامي» وهذا النص يكتسب أهمية قصوى في فهم سياسة نظام الجبهة في عسكرة المجتمع وتنمية العنف.
كما أنه يهمش دور القوات المسلحة أو على الأقل يوظفه أيديولوجياً وسياسياً لنظام حاكم وهي حلقة شريرة تفتح الباب أمام الانقلابات وكل منتصر يفرض رؤيته على بقية الأمة. اهتدى دعاة المشروع الإسلامي ـ حسب المقال السابق ـ إلى ضرورة إعمال فريضة الجهاد ليس تمنياً لملاقاة العدو، وإنما إكمالاً لعملية التحرر النفسي والعقلي، ولعملية فك حلقات التبعية والخروج من حالة الحصار والأسر التي يفرضها الأجنبي ويقضي على الولاءات القبلية والطائفية.
هذه طروحات عالمثالثية وطنية وليست إسلامية وقد نجدها عند فرانز فانون صاحب كتاب «المعذبون في الأرض» وعند رواد حركات التحرر الوطني من نكروما ونهرو ونيريري وكاسترو وكابرال وغيرهم. وعند مفكرين أمثال سمير أمين ومنظري التبعية في أميركا اللاتينية، وفي منظري لاهوت التحرير المسيحيين، ولدى التقدميين الإسلاميين مثل علي شريعتي ومحمد خاتمى.
ولكن السؤال هو هل تستطيع الحركة «الإسلاموية» برؤيتها الدينية وأصول عضويتها الاجتماعية والطبقية وطريقة تنظيمها أي العلاقات الحزبية والبناء التنظيمي والشخصية الكاريزمية أن تنجز مهام الثورة الوطنية؟ فالحركات «الإسلاموية» تقدم برنامجاً غير واقعي كما أنها تعجز عن تأسيس دولة وطنية قوية باعتبارها الوسيلة لتحقيق شروط النهضة. فالدولة الدينية لا تقوم على حق المواطنة ولا تضم كل المواطنين بل تقصي الكثيرين.
وقد طرح الإسلامويون هذا السؤال على أنفسهم: كيف تستطيع طليعة إسلامية ما أن تدير دولة حديثة أي أن تسير جهازاً بيروقراطياً عريقاً يرابط مفاهيمياً ومصلحياً بالقوى الأجنبية المعادية، وتسخره لتوطيد أركان الإسلام وتربطه بأصوله في الاعتقاد والاجتماع؟ (التيجاني عبد القادر حامد: السودان وتجربة الانتقال للحكم الإسلامي. مجلة قراءات سياسية السنة الثالثة. العدد الثالث، صيف 1992، ص 46) ويتفرع ـ في رأيه ـ عن هذا السؤال تساؤلات فرعية كثيرة مثل: ـ
1 ـ ما هي الصورة التي يجب أن يتحول إليها العمل الدبلوماسي الحالي، هياكلاً ومقاصد وثقافة؟
2 ـ ما هي الصورة والفلسفة الإسلامية التي تنظم فيها القوة العسكرية، تدريباً وعناصر وأهدافاً مرجوة؟
3 ـ ما هي صور التنظيمات التي تتخذها القوة العاملة في دولة إسلامية حديثة وكيف تكون العلاقات بينها وبين رأس المال الخاص ورأسمال الدولة.
4 ـ ما هو شكل النظام السياسي الإسلامي الحديث وما هو هرم السلطة فيه وما هي علاقته بالفاعليات الاجتماعية الرئيسية؟
5 ـ ما هي خطط نمط التعليم في نظام إسلامي حديث وما هي علاقته بالأصول الإسلامية وبالحضارة الغربية، وبالطبقات الدنيا في المجتمع وبالخدمة العامة؟
6 ـ كيف تدار حركة الاقتصاد في نظام إسلامي معاصر؟ (المصدر السابق، قراءات، ص 46 ـ 47) .
يعترف الكاتب بعدم وجود إجابات مثالية جاهزة على الرغم من أحاديثهم عن أن الإسلام هو الحل وأن الشريعة تحتوي على كل الإجابات. والسبب في غياب الإجابات وهو أنه أثناء حكمهم أي من خلال التجربة والخطأ وبالفعل جعلوا من السودان معملاً كبيراً للتجارب. وبعد أكثر من عشر سنوات على استيلاء الحركة الإسلاموية على السلطة يعود الكاتب نفسه ليقيم التجربة بنفسه ويطالب ـ بعد كل هذه السنوات والأخطاء بانتهاج استراتيجية جديدة، ويسأل نفسه:
«أو لم تكن لدينا استراتيجية من قبل؟ وهل كنا طيلة العهود الماضية نسير خبط عشواء؟ ونقول ليس الأمر كذلك، فقد كانت لدينا استراتيجية ثابتة وناجحة، ولولا وجودها لما تحقق نصف ما نراه ماثلاً في العمل الإسلامي في الدولة، وكان علينا يوم ذاك أن نجلس على الأرض وأن نعيد قراءة الواقع الجديد.
وأن نرتب على ذلك استراتيجية جديدة ولكن أغمضنا أعيننا وسرنا في مرحلة الدولة باستراتيجية ما قبل الدولة وبعدد محدود من الشعارات الجميلة التي لا تستند إلى عمق فكري ولا تتحول إلى فعل محسوس وتحولت الشعارات وبقايا الاستراتيجية القديمة إلى نوع من الأيديولوجيا المغلقة» (الصحافي الدولي 4/3/2000). ويضيف أن الأفكار التي فسرت الواقع ذات مرة، لم تدرك كم تحرك الواقع بعيداً عنها. وكان الكاتب قد بشر عام 1992 بأن التجربة سوف تنجح لأنها احتمت بالعمق الشعبي وعدد المسافات التي سارت عليها: الدفاع الشعبي.
الدبلوماسية الشعبية والغذاء الشعبي والتعليم الشعبي المستمر ونظام المؤتمرات الشعبية (قراءات ص 49 ـ 52) فهي أي الثورة لا تخشى الشعب بل تثق فيه ثقة عظيمة ولكنها ظلت تخاف الشعب فعلاً والدليل قوانين الطوارئ المستدامة والقبضة الأمنية المستمرة مع ممارسة التعذيب والقهر وكل أساليب الفترة الأولى ولكن بطريقة ناعمة تخاف الإدانات العالمية بينما لا تستحي من شعبها. فأزمة الإنقاذ أنها لم تكسب الشعب ولم توسع قاعدتها الشعبية. جاء مع ذلك الانشقاق الداخلي ـ الذي حذر منه.
كان «الإسلامويون» في حالة تفاؤل ظاهري يقصد تعميمه إعلامياً وخلق أجواء قبول أو انتظار أو أمل بين المواطنين. يكتب محمد محجوب هارون: «أن ثورة الإنقاذ تطرح مشروعاً حضارياً، مضامينه إسلامية، ووسائله إعادة تفعيل الدين وتشغيل دينامياته وتحريك سكونه، وغايته بناء مجتمع إسلامي في أمثل صورة ممكنة» (قراءات سياسية، العدد الثالث صيف 1992، ص 7
ويؤكد بعد مضي ثلاث سنوات أن الإنقاذ قد انطلقت فعلاً في إنجاز المشروع الحضاري ابتداءً من الإنسان الذي تمت صياغته في هذه الفترة القياسية، يقول «. . ولكن الثورة بما استنهضته من همم الرجال والنساء، وبما أحدثته من تعبئة للمجتمع قدمت نماذج تقدمت اختياراً للشهادة ووهبت الروح مهراً لمشروع التغيير في ملحمة عادت بالسودان تاريخياً إلى عهد المهدويين الذين خرجوا في عشرات الألوف في مواجهة رصاص الأجنبي فداءً لدولة الإسلام (. . . ) .
ويبقى مطلوباً أن تنتقل روح الفداء والاستشهاد إلى أروقة المجتمع والدولة وأن تضحى تعبيراً دائماً في واقع الحياة اليومية». ( المصدر السابق) . وظل الجهاد الأكبر أي جهاد النفس بعيداً عن سلوك نظام الإنقاذ، فقد استثمر الكثيرون دماء رفاقهم كغطاء في تكريس الفساد والابتزاز باسم من تقدموا في المعارك، على الرغم من أنهم كانوا أقلية في العدد مقارنة بالطبقة الجديدة التي أصبحت تستمتع بثمار السلطة من امتيازات مالية وسيارات فخمة مظللة ومنازل وهواتف محمولة ورحلات للخارج وأرصدة في البنوك وأعمال في السوق.
كشف الانجازات
يقدم هارون كشفاً بإنجازات الإنقاذ خلال ثلاث سنوات وكأنه يقول هذا ما فعلته الإنقاذ في ثلاث سنوات فكيف سيكون المستقبل إذا امتدت بها السنوات؟ ففي الاقتصاد، شملت جهود السنوات الأولى «عدة محاور شملت ملاحقة الفساد الذي خلفته حكومة الصادق المهدي، وضبط وعدالة توزيع السلع التموينية وتوفيرها وتشجيع الاستثمار».
ويرى أنها نجحت بالفعل في «إعادة تكييف السلوك الاستهلاكي للمجتمع من خلال تجارب توزيع المشتقات البترولية والمواد الغذائية مثل السكر والخبز». والنجاح الثاني تمثل في قيام الدولة وأجهزتها باكتشاف الفرص المتاحة والإمكانيات المهدرة في الحياة الاقتصادية. وعلى الصعيد الأمني. يرى الكاتب، أن الدفاع الشعبي أهم فكرة وأكثرها عبقرية في المسألة الأمنية. ويبدو أن الإنجاز الحقيقي للمشروع الحضاري والذي ابتهج «الإسلامويون» به كثيراً هو ما أورده ـ هارون ـ في تعداد الإنجازات:
ـ «وليس ثمة شك الآن أن الثورة استطاعت ترميم الأجهزة العسكرية في البلاد (الجيش والشرطة) وتأسيس جهاز استخباري، بحيث أضحت هذه الأجهزة مجتمعة ذات كفاءة مقدرة انعكست في ضبط الأمن الداخلي وتصاعد حرب الجريمة من جهة، وتأمين الثورة سياسياً من جهة أخرى، ودفع عجلة السلام، بمجهود حربي» (نفس المصدر السابق) .
ولم يكن مصادفة أن تقارير انتهاكات حقوق الإنسان قد تزايدت في هذه الفترة بالذات. فقد تجاوزت الأجهزة الأمنية التي يمجدها الكاتب كل الحدود الأخلاقية والدينية والمهنية. وقد نشرت منظمة العفو الدولية في إبريل 1992 شهادات من سجناء اعتقلوا في الخرطوم خلال شهر يوليو 1991 وضعوا فيها تحت التعذيب وتعرضوا لسوء المعاملة في كل أجهزة الأمن وبيوت الأشباح.
على مستوى السلطة السياسية الحاكمة يعني المشروع الحضاري: التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية. وكما قالت القيادة في عيد الاستقلال الثاني بعد الانقلاب: «الثورة عقدت العزم على ألا ولاء ألا الله ورسوله. وأن تطبيق الشريعة الإسلامية يكون قدوة لمن أراد السير في الطريق القديم». ويقدم فهم النظام للاستقلال الحقيقي بقوله:
«ثورة الإنقاذ جاءت لتحقيق الانعتاق من قيود الذل والهوان والتبعية للمستعمر وثقافته وقوانينه». وأكد أن استقلال السودان اكتمل بإعلان تحكيم الشريعة الإسلامية، مبيناً أن السودان لن يسأل أو يعتمد أو يلجأ أو يخضع لغير الله». (السودان الحديث 5/1/1991). ولكن الإنقاذ حاولت تجاوز الواقع بدون أدوات التغيير الحقيقية وليست المتخيلة ، فقد كانت شعارات كبيرة منها:
تحرير ولاء المجتمع من المؤسسة التقليدية بأنماطها الطائفية والعرقية والقبلية والحزبية، إلى عهد الولاء لله بتمكين المشروع وترى التحدي العاجل هو تشكيل الشخصية الحضارية الإسلامية بدلاً عن الشخصية القومية السودانية. كان نظام الجبهة الإسلامية في 1992 يدعي أنه قد أكمل تقديم النموذج الإسلامي للحكم والذي يجذب الشعوب الأخرى وهذا ما يهدد الغرب في نظرهم، يقول الشيخ الترابي:
«ليس لنا فضل مال لندعم به حتى الإسلام الشعائري فضلاً عن الإسلام السياسي. وليس لنا قوة جيش حتى نصدر بها الإسلام السياسي بالفتح، وكل الذي يمكن أن يتهم به السودان أنه نصب مثالاً ونموذجاً لدولة إسلامية في بلد كان منسوباً للتخلف والضعف. وربما يوحي ذلك لمن هم أقوى من السودان بأن يسيروا على طريق السودان لأنهم أولى بقوتهم السياسية والاقتصادية أن يقلدوا نموذج السودان.
وهذا موضوعياً صحيح لأن قيام دولة إسلامية يشجع الإسلاميين من كل الدول الأخرى بقوة النموذج فقط وإشعاعه أن يقيموا دولة سياسية لأن كثيراً من المسلمين مهما كانت أشواقهم لقيام دولة إسلامية يظنون أن قيام دولة إسلامية في السياق الدولي الذي لا يقبل ألا نمطاً حضارياً معيناً، أمر عسير وتترتب عليه نتائج وخيمة ولكن هاهو السودان نصب دولة إسلامية. ويبدو أنه تمكن من ذلك بغير أزمة تطيح به. .
وهذا هو ما يمكن أن يتهم به السودان، وإذا كان الأمر كذلك فالتهمة صحيحة». (القدس العربي: العدد 890 يوم 21 ـ 22 مارس 1992) . يعتبر هذا النص أهم مرتكزات فكر وممارسة «الإسلامويين» والذي حدد سياسات النظام في الداخل والخارج. فالنص تلخيص للرؤية التي وصل إليها نظام الإنقاذ بعد ثلاث سنوات من الانقلاب ولم يتعرض «لأزمة تطيح به». يقصد بذلك مقاومة من الداخل تقوم بها المعارضة.
ولكن ضعف الآخر ليس دليلاً على قوة النموذج. كما أن النظام كان يتوقع خلال تلك الفترة أنه قادر على إنهاء الحرب الأهلية في الجنوب بأي وسيلة ثم يمكن له الاستقرار بالشمال. كما أن انتهاء حرب الخليج الثانية دون سقوط صدام أعطاهم الشعور بأن الشمولية والقمع خير وسيلة لاستمرار في السلطة حتى لو واجه مثل هذا النظام عاصفة الصحراء.
يضاف إلى ذلك الأزمة الجزائرية والصدام مع جبهة الإنقاذ التي كادت أن تكسب الانتخابات، أعطاهم دفعة معنوية بأن التيار الإسلامي صاعد في كل المنطقة العربية. شهدت الفترة الأولى للإنقاذ تقارباً وثيقاً مع إيران باعتبارها النموذج الأمثل واقعياً، لذلك حاولت الإنقاذ الاستفادة من خبرات طهران.
توالت زيارات المسئولين الإيرانيين وأصبح الوجود الإيراني كثيفاً وتبنت إيران بعض المشروعات. طريق السلام (الرنك ـ ملكال ـ جوبا) وعلى الرغم من الحديث عن استقلالية القرار السوداني، لم تكن السلطة تجد حرجاً في التدخل الإيراني الذي عادة ما يدرج ضمن الأخوة الإسلامية. ولم يكن السفير الإيراني في الأيام الأولى ـ مجيد كمال ـ يتحرج في تقديم النصائح والتصرف وكأنه مسئول سوداني.
وهذا مثال لأحاديث السفير يؤكد فيه أن السودان وإيران سوف يتبادلان التجارب فيما يتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية مبيناً أن وفوداً من المختصين في البلدين ستلتقي خلال الأيام المقبلة. وأكد أن إعلان الشريعة يشكل بداية حياة جديدة للشعب السوداني المسلم، مبيناً أن طريق الشريعة محفوف بالصعاب خاصة من قبل أعداء الله والماديين الذين يعرفون بأن الإسلام يمثل صحوة للشعوب ضد الاستعمار. وأبان أن الغرب سيمارس الضغوط على السودان كما حدث في إيران. ويختتم حديثه:
«أن الشريعة على الصعيد الداخلي تتطلب التنفيذ الصحيح للأحكام الإسلامية بعد صدور القرار السياسي» مؤكداً أهمية العلماء وأهل الدين والتقوى في تنفيذ الأحكام. وعدد مواصفات القائمين على تنفيذ الشرع والجهود التي بذلها الإمام الخميني في تأهيل الكوادر العلمية والفقهية لتنفيذ القرارات الإسلامية الكبيرة التي أصدرتها الثورة الإيرانية (الإنقاذ الوطني 7/1/1991).
النقد الذي تأخر
يعتبر هذا الإعجاب بالنموذج الإيراني ملمحاً مهماً لتجربة السودان الذي لم يفطن للنقد الذي بدأ الإسلاميون في الخارج يوجهونه لإيران حين رأوا الممارسات بعد سنوات. هناك من قال: «أن الثورة الإسلامية هناك أثبتت قدرة فذة في إزهاق الباطل، لكنها لم تكن بنفس القدرة في الكفاءة في محاولة إحقاق الحق» (هويدي، 198 وهذا كلام محمد حسنين هيكل عن:
«مدافع آيات الله» فالمدافع تهدم ولا تبني، وهذه مهمة ناقصة: «إن سلاح الدين يمكن أن يؤدي دور المدفعية يهدم معاقل النظام القديم، لكن انتصار الثورة يحتاج في مثال الحرب إلى المشاة يحتلون المواقع. ومشاة الثورة هم المفكرون والفنيون والعلماء والخبراء إلى آخره، وخشيتي أنه قد ينجح في هدم النظام القديم، ولكن بناء نظام جديد يحل محله مسألة أخرى». (الأهرام 7/6/1989).
ومن الواجب التوقف عند تحليل لأحد الباحثين الإسلامويين الجادين والذي يبرز كيف ملأت اليوتوبيا عقول الإسلامويين لذلك لم يروا الأخطاء الأولى التي قام أساس الدولة الإسلامية المزعومة. يكتب الأفندي: ـ «فالفكرة التي استبطنها التغيير الجديد أقوى من أن تحجب، والاتجاه أوضح من أن يجهل أو يتم تجاهله.
والحلم الذي انطلق منه التغيير حلم عاشت عليه الأمة بأكملها قرابة أربعة عشر قرناً، فمنذ انهيار الخلافة الراشدة في العقد الرابع، وقلوب المسلمين معلقة بذلك اليوم الذي يتسنى فيه تنصيب هذه المؤسسة» (ص 24) . ويضيف: «ومن وسط كل هذه الغيوم الداكنة، يطل فجأة التغيير السوداني، فهذه المرة الأولى منذ رحيل عمر بن عبد العزيز التي تتولى فيها الحكم في إقليم إسلامي سلطة لا ولاء لها ألا للشرع ومبادئه». (ص 25) .
يثير د. الأفندي قضية الأزمة الأخلاقية في الحركة الإسلامية في وقت مبكر ويمكن للقارئ أن يتابع مصير المشروع الحضاري بقراءة الفصل الخاص بالتقويم والنقد الذاتي، ولكن كل هذا جاء متأخراً وبعد الانقسام، يورد القصة التالية: ـ «في منتصف الثمانينيات، استضفنا في مقر مجلة «أرابيا» الشهرية في بكنغهام شاير الدكتور حسن الترابي، حيث قدم تحليلاً للوضع في السودان، وتوقعاته لفرص الحركة الإسلامية في النجاح في المستقبل، إضافة إلى توضيح لمنطلقات الحركة وشرح لمواقفها.
وفي النقاش أثير سؤال حول «المسألة الأخلاقية»، وما يقال عن براغماتية الحركة التي تمثلت في التحالف مع نميري، وما يتناوله الشارع السوداني عن سلوك أفراد الحركة، خاصة بما يتعلق بدنيا المال والأعمال. كان رد الدكتور الترابي واضحاً وحاسماً على هذه الاتهامات. فهو لم يرفضها، ولكنه رفض مبرراتها ومنطلقاتها، وقد جاء في إجابته:
أن خصومنا يريدوننا أن نبقى في برج عاجي أو جو معقم، بعيداً عن الحياة وشئونها، فنعيش كالرهبان في دير ونشتغل بالتسبيح والصلاة، بينما ينفردون هم بإدارة شئون الدنيا، فإذا زاحمناهم في هذا المضمار، صاحوا يا للويل والثبور، كيف يهبط الإسلاميون من علياء الطهر إلى الاشتغال بالمنافسة السياسية وإدارة الأعمال؟ هذا يعني أنهم تركوا الإسلام وراءهم ظهرياً!
هذه الإجابة لا تخلو من وجاهة، بالطبع ترجع جزئياً إلى ضرورة منطقية تتعلق بكون الحركة اتخذت طابع الحزب السياسي الساعي لتولي السلطة، وكان د. الترابي قد تبنى في مطلع الستينيات الدعوة لتحويل الحركة من حزب سياسي إلى حركة ضغط» (القدس العربي 7 سبتمبر 1999) .
تطورت الحركة سريعاً في مجال تكثير الأنصار بالذات بين المتعلمين كما ظهر في انتخابات الخريجين وانتخابات الاتحادات الطلابية، ومن ناحية ثانية راكمت الموارد المالية. لهذا دخلت الحركة في معارك الصراع على السلطة السياسية وهي لا تنكر أو تخجل من هذا الهدف باعتبار ذلك هو الوضع الطبيعي لأي حزب أن يصل إلى السلطة.
وقاد الترابي هذا التوجه الذي مكن الحركة اقتصادياً كما استطاعت التغلغل في المؤسسات وبالذات الجيش: ـ «وكانت فلسفة الترابي في هذا رؤية يمكن ترجمتها بالتالي: أن أنصار علي ما كانوا ليخسروا لو أنهم اتبعوا أساليب معسكر معاوية (وهو بالمناسبة النهج نفسه الذي تتبعه إيران الإسلامية ـ على الأقل في فترة ما قبل خاتمي ـ حيث تنتهج الدولة نهجماً صارماً للدفاع عن الدولة، بمعنى آخر فأن القاسم المشترك الأدنى ـ أخلاقياً ـ هو الذي يجب أن يحكم قوانين اللعبة». (نفس المصدر السابق) .
ويضيف مؤكداً الأزمة: «وقد شهدت فترة ما بعد يونيو 1989 تدنياً متزايداً ليس فقط بالالتزام الأخلاقي، بل في الإيمان بدور الأخلاق في المنظومة الاجتماعية. وفي حوار خاص مع أحد كبار المسئولين أخبرني الرجل مرة بأنه أصبح فاقداً للثقة في الدوافع الأخلاقية لكل الخلق، بينما أخبرني الرجل نفسه مرة أخرى في معرض حديث آخر بأن المال قادر على اجتراح المعجزات. وسمعت آخرين يتحدثون عن فاعلية الردع والتخويف، وكان هذا في حال إسلامي مخالف اعتقل بغرض «تلقينه درساً».
وقد تفشى هذا الاعتقاد وسط النخبة في إشارة أولاً إلى أنه يلقى الدعم من القيادة على أعلى المستويات، كما أنه يشير إلى غياب العقول عند كثير ممن يردد هذه المقولات، ويتأثر بما يرده من فوق بغير كثير من التفكير.
وقد بلغ الأمر حداً جعل الأجنحة المتصارعة في صراع القوى الأخير تتهم بعضها البعض في دوافعها. وإذا كان أحد الجانبين ـ أو كلاهما ـ صادقاً، فإن هذا يعني أن الحركة الإسلامية ـ بمفهومنا عنها كحركة تلتزم الإسلام وقيمه ـ لا وجود لها في السودان، وأن كل ما عندنا هو حفنة من الانتهازيين تجري وراء المكاسب والمغانم». (المصدر السابق) .
يكاد تقويم د. الأفندي أن يكون هو المفسر الوحيد لدافع الكتابة عن المشروع الحضاري، لأنه كان الوعد بالسمو الأخلاقي وهذا ما يمكن أن يكون الإنجاز الحقيقي لو حدث، ولكن كما يقول الكاتب: «والدرس من كل هذا هو أن هناك حداً أدنى من الالتزام الأخلاقي والديني لا تستحق الحركة بدونه أن تنسب إلى الإسلام.
وإذا كان جائزاً لأي حركة سياسية أن تناور في محيطها بما يناسب ظروفها، فأن مثل هذه المناورات محدودة بخطوط حمراء لا يصح تجاوزها وإلا فقدت الحركة هويتها وبوصلتها. ولعل المناسب للحركات الإسلامية التي لا تستطيع أن توفق بين طموحاتها ومقدراتها والتزامها الأخلاقي، أن تتحول إلى جماعة ضغط راغبة عن السلطة، قائمة بالشهادة لله، مبلغة لدعوته، إلى أن يتحول الرأي العام لصالحها» (القدس العربي، المصدر السابق).
السؤال الآن: هل كانت البداية خاطئة وهل طريقة الوصول إلى السلطة بعنفها وقمعها وخديعتها ودهائها كان لابد أن توصل منطقياً إلى نتيجة خاطئة؟

Post: #4
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: tariq
Date: 09-22-2004, 01:20 AM
Parent: #1


سقوط المشروع الحضاري في السودان ـ الحلقة الرابعة
إشكاليتان تعترضان طريق الترابي، لماذا لم تقدم «الإنقاذ» نظرية تأصيلية عن الدولة؟
تأليف :د. حيدر ابراهيم
كانت تجربة حكم الجبهة الإسلامية القومية في تحالف مع العسكريين اختباراً حقيقياً لجدال وسجال استمرا منذ القرن الماضي حول الدولة في الإسلام. وبعد ذلك ما هو موقف الأحزاب والتيارات الإسلامية في الديمقراطية؟ فنحن الآن أمام تجربة عينية ملموسة وصل فيها إسلاميون تجديديون إلى السلطة السياسية في نهاية القرن العشرين. وكانت لهم اجتهادات وتنظيرات في موضوعي الدولة والديمقراطية.
والآن في يدهم سلطة سياسية كاملة وبدون مشاركة أي طرف قد يحد أو ينقص اطلاقية وشمولية سلطتهم. فكيف كان التطبيق؟ وكيف نزّلوا اجتهاداتهم ونظرياتهم إلى أرض الواقع؟
وقد كانت التجربة الإسلامية في الحكم في السودان احراجاً لجميع الإسلاميين الصادقين في كل أنحاء العالم، ووضعتهم في موقف لا يحسدون عليه. واضطر الكثيرون إلى تأييد ومناصرة (الإسلامويين) في السودان، وفقاً لبعض تفسيرات: «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً». واكتفوا بتأييد نظام يرفع شعار المشروع الحضاري الإسلامي، بغض النظر عن ممارساته وبعدها أو قربها من الإسلام.
لأنه من ناحية معنوية ورمزية لا يمكنهم تصور سقوط أو فشل نظام ينسب نفسه إلى الإسلام، في وقت تعاني فيه الحركات الإسلامية من الملاحقة والاضطهاد والتهميش.
لذلك بحث (الإسلامويون) عن تبريرات تقلل من وقع الأخطاء التي لازمت حكم الجبهة الإسلامية في السودان. وكان الحديث عن الحصار والتآمر على النظام الحاكم مدخلاً لاعطاء النظام السوداني الحق في الاستمرار في «التجاوزات». وكلمة «تجاوزات» تسعى إلى وصف التعذيب وغياب الديمقراطية والعدل بطريقة تبريرية ومخففة، باعتبار أن هذا الوضع ليس هو الأصل في الحكم الإسلامي. ولكن التجاوزات كانت هي القاعدة في تجربة الحكم الإسلامي.
لا ينوي الكاتب تكرار النقاش حول مواقف الجبهة الإسلامية من الدولة والديمقراطية من الناحية النظرية، فقد سبق تناول الموضوعين بتفصيل في كتابي: «أزمة الإسلام السياسي ـ الجبهة الإسلامية القومية في السودان نموذجاً» و«التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية» ولن أعيد عرض تلك المواقف النظرية الا بمقدار مساعدتها في اختبار صدقية الإسلامويين على مستوى الممارسة والواقع.
ومن البداية كان واضحاً أن الفكر الإسلامي عموماً لا يملك أي نموذج ارشادي مستمد من التاريخ لشكل ومضمون الدولة. وعلى الرغم من التمجيد لنموذج «مجتمع المدينة» فقد عجز الحكام (الإسلامويون) السودانيون عن التأسي بروح ذلك النموذج، اذ ليس المطلوب اتباع مؤسساته وتنظيمه. وأعني بالروح قيم ذلك المجتمع مثل العدالة والمساواة وتكريم الانسان.
وزهد الحاكم وعفته وبعده عن الترف والكبرياء والتكبر. وكان عليهم مهمة التأسيس لدولة إسلامية في نهاية القرن العشرين مع غياب مرجعية تقدم شكلاً مفصلاً أو تقريبياً لدولة إسلامية تاريخية. وهناك خلط واضح في الفكر العربي ـ الإسلامي بين مفهومي الدولة من جهة والحكومة أو الادارة من جهة ثانية.
يرى كثير من الباحثين صعوبة وصف الدولة الإسلامية، اذا لم يكن ذلك أمراً مستحيلاً. والسبب في ذلك ليس قلة المعلومات والمصادر ولكن من عملية تكوين الدولة ذاتها. فقد كان العرب يعرفون دولة طبيعية دنيوية دهرية، هدفها في ذاتها، بمعنى أنها تتوخى الشهرة والمال والقهر. (العروي، 1984: ص91) ويرى العروي أن العناصر المكونة لما نسميه الدولة الإسلامية، هي:
الدهرية العربية، الاخلاقية الإسلامية، التنظيم الهرمي الآسيوي. فالعنصر الأول هو المحافظة على توازن القبائل والعشائر والأسر. والثاني يعمل على تهذيب الأفراد أي اخراجهم من خلق إلى خلق جديد. أما التنظيم الآسيوي فقد أنشئ منذ عشرات القرون قبل الإسلام لخدمة أهداف دنيوية داخل وضع اجتماعي معين. والسؤال هو:
«هل يتصور أن يتحول ذلك الجهاز إلى أداة طيعة تخدم هدفاً روحياً مستحدثاً وهو بين أناس لا خبرة لهم به؟ الأقرب إلى الواقع المعهود هو أن يبقى وفياً لهدفه التقليدي متجاهلاً دعوة الإسلام، لا مؤثراً فيها ولا متأثراً بها» (العروي: ص92).
يبدو أن «حزب التحرير» الذي يدعو إلى العودة إلى نظام الخلافة هو أكثر اتساقاً مع أصول الدين بسبب غياب اجتهاد في تأسيس دولة إسلامية حديثة صرفة أي غير متأثرة بما هو غربي أو غير إسلامي عموماً.
«حزب التحرير» لا يحاول القيام بعمليات توفيقية صعبة بين الديمقراطية والإسلام بتحوير مفهوم الشورى إلى مترادف غربي هو الديمقراطية. ويقسم ابن خلدون النظم إلى ثلاثة: الملك الطبيعي وهو الاجتماع الضروري للبشر ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية. والنوع الثاني الملك السياسي وهو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار.
أما الثالث فهو الخلافة: «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة اليها، اذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة (نيابة) عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به». (ابن خلدون: ص244).
وهنا يكمن مأزق حداثة الحركات الإسلاموية عموماً، فهي في القرن الحادي والعشرين تنوس بين الدولة الحديثة أي النظر العقلي وبين الخلافة أي النظر الشرعي. ولذلك تواجه قضايا معقدة مثل حقوق الانسان والأقليات ووضعية المرأة ومدى حرية التعبير ونوعية الأحكام الحدية... الخ. والدولة الإسلامية هي الخلافة حتى ولو تغيرت التسميات لأنها تتميز بكونها تطبق الشرع أو تحكم بمقتضى النظر الشرعي، كما أسلفنا.
الحرب والمال
يكشف الاستخدام اللغوي المُبيّن في المعجم عن الفكرة السائدة لطبيعة الدولة عند العرب المسلمين. اذ تعني الدولة: الاستيلاء والغلبة. والدولة: الغلبة والسلطان. ويرى العروي أننا اذا لخصنا تعريفات الدولة فإننا نجد أنها تتناول جميعها ميدانين: الحرب والمال وتؤدي معنيين: الغلبة والتناوب. وأن الغلبة في الحرب تؤدي إلى الاستيلاء على المال والاستقلال به.
ولكن الحرب سجال ولا دوام لسلطة جماعة واحدة (ص 114) وهو يختار الدولة السلطانية عوضاً عن الخلافة أو الدولة الإسلامية، ويمكن أن نقول دول المسلمين أو دولة الإسلام أي نظام تقام فيه شعائر الإسلام ويعيش فيه مسلمون مؤمنون.
ويعتقد أن شعار الإسلام دين ودولة يصف الواقع القائم منذ قرون أي حكم سلطاني مطلق يحافظ، لأسباب سياسية محضة، على قواعد الشرع، وليست بأي حال تعبيراً عن طوبى الخلافة (ص 122) فالخلافة أو الدولة الشرعية الإسلامية مجرد طوبى أو يوتوبيا، لم تتحقق في الواقع ولكنها حلم أو مثال ظل مجرد فكرة يتمناها الفقهاء ويدعون اليها حيث يكون الوازع الديني البحت هو أساس الحكم.
يلاحظ المتتبع لمفهوم الدولة لدى المفكرين والكتاب الإسلاميين عدم دقة التعريف الذي يختلط عادة بالدين وبالمجتمع، وهذا سبب غموض الموقف من القضايا سابقة الذكر والتي تحدد وظائف الدولة الحديثة وعلاقتها مع المواطنين بغض النظر عن دينهم.
لذلك نلاحظ أن الامام حسن البنا يربط الدولة «بالعقيدة الصحيحة والصلاح الشامل والتربية السليمة». (موصللي، 1993: ص90) وهو يرى الدولة الإسلامية: سور الأمة وتقوم بحراسة الناس في دينهم ودنياهم طبقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نزلت ببلد وليس فيه سلطان فارحل عنه، فان السلطان ظل الله في الأرض» (حسن البنا. 1969: ص194).
والدولة عنده واجبها الأول والأساس هو القيام بواجب الدعوة وأن تتبع في الحكم المنهج القرآني. ويرتبط مفهوم السلطة والدولة عند البنا بتحديده لمفهوم التوحيد المفضي إلى مفهوم حاكمية الله.
وعلى الرغم من أنه لم يطور المفهوم كما فعل المودودي وقطب إلى حده الأقصى، إلا أن الاستخدام «فلا حكم الا لله» تشمل السياسة والقضاء وكل السلطات (موصللي: ص105) وكان سيد قطب أكثر وضوحاً حين قال بأن الإسلام يرفض عبودية الانسان للانسان ويقصد أي سلطة يمارسها البشر من خلال القوانين والنظم الوضعية، فهي مخالفة لقوانين الله. ومن هنا يجيء التكفير ومفهوم الجاهلية.
واجهت الحركة (الإسلاموية) السودانية وزعيمها الشيخ حسن الترابي قضية الدولة على مستويين، الأول كاشكالية نظرية ثم كمشكلة حكم فعلي. فمن الملاحظ أن (الإسلامويين) السودانيين لم يقدموا مساهمات نظرية تأصيلية عن الدولة رغم كل الحديث عن الدستور الإسلامي والحكم الإسلامي في السودان والذي امتد منذ الاستقلال 1956.
ولم يختلفوا ـ نخبة وعامة ـ عن شعارات الأخوان المسلمين في البلدان الأخرى: «القرآن دستورنا». واكتفى بعموميات يتم تداولها في الندوات والليالي السياسية والصحف السيارة.
ولم يشغل (الإسلامويون) أنفسهم بتكوين أرضية فكرية تستند عليها دعوتهم مع أن الحركة تعج بالمتعلمين وتدعي أنها حركة مثقفين وصفوة فكرية. ولكن من يتأمل المكتبة السودانية والأدبيات السياسية يواجه بجدب وفقر (الإسلامويين) السودانيين الفكري. لذلك حين استولوا على السلطة لجأوا إلى التجربة.
والخطأ وكانت الأخطاء كثيرة بسبب تعقيدات الواقع السوداني والتطور العالمي في نهاية قرن مليء بالأحداث والتحولات حتى اعتبره البعض نهاية التاريخ. وواجه الإسلامويون السودانيون هذه التحديات غير مسلحين بمعرفة عميقة متجددة بالدين ولا بالحضارة الغربية الحديثة. وكان حلمهم بسيطاً تركوا التفكير والتنظير للشيخ الترابي، مما جعل ساحتهم الفكرية تبدو مثل مسرح الرجل الواحد.
اكتفى الشيخ الترابي بترديد كلمة التجديد وأطنب في الكتابة في الموضوع ولكن وهو السياسي والقانوني الذي شارك في تقديم نموذج في وضع دساتير بلدان أخرى، ولكن لم يقترح نظاماً حزبياً وكياناً سياسياً كما فعل لاحقاً في التوالي رغم شطحاتها ـ قبل وصولهم إلى الحكم. لذلك كان من الطبيعي أن يعتمد (الإسلامويون) على الأجهزة الأمنية والاعتماد عليها حتى اليوم في التمكين ـ حسب لغتهم.
وبعد تجارب الحزب الواحد: المؤتمر الوطني ومشاركة بعض الأحزاب المسجلة، ازداد اعتمادهم على الأجهزة الأمنية لذلك ليس من الغريب أن يتشاور مدير جهاز الأمن مع الصادق المهدي في القاهرة، ولا يقوم بالمهمة الأمين العام للحزب مثلاً. ويقول أحد المشاركين في السلطة عند قيامها: «الجهاز الوحيد الذي كان له من الانتشار والقدرة كي يتولى بعض مهام التنظيم السياسي كان جهاز الأمن. فقد أعطى أولوية كبيرة لبناء أجهزة أمنية فاعلة للأسباب التي أسلفنا.
وقد كانت هذه الأجهزة هي الوحيدة المطلعة على كافة ملابسات الوضع، والوحيدة التي تملك حرية الحركة الكاملة، والوحيدة القادرة على تأمين قنوات الاتصال بين جميع المراكز الفاعلة في النظام. ومن هنا أصبحت الأجهزة الأمنية تلعب الدور الأكبر ليس فقط على صعيد تأمين الحكم، بل أيضاً على صعيد التنسيق السياسي» (عبد الوهاب الأفندي: ص46).

موقف من الديمقراطية
ظهر موقف (الإسلامويين) السودانيين منذ البداية تجاه الديمقراطية والتعددية والتي يرى فيها الفرقة والفتنة مقابل الوحدة والشوكة. ولـ (الإسلامويين) نظرة أبعد من الرفض سياسياً للتعددية بل موقف فلسفي ثابت يقود إلى حاكمية الله من خلال التوحيد. ففي سؤال عن فكرة النظام الديمقراطي في الحكم وجه للشيخ الترابي: هل تغير موقفك من هذه المسألة أم لا؟
وما هو انعكاس ذلك على تجربة الحكم الإسلامي في السودان؟ كانت الاجابة: «ان هدف الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية هو العودة بالأمة إلى نقاء المجتمع الأول والانتقال بها من التمزق والشتات إلى الوحدة والانسجام.
ورد الخلق عن كل ما يمكن أن يفتنهم من متعلقات... بالله سبحانه وتعالى، ورد القوى المتباينة إلى الله سبحانه وتعالى والى هدي الدين، ورد نسبية الظروف والأمكنة إلى الأزلي المطلق الخالد. ولو نزلنا إلى النظام السياسي فهو تقريباً محاولة للربط والبدء بما هو ابتلاء وقدر من تباين المناسك والأعراف ورد إلى أصل الوحدة بالدين لا بوسيلة القهر» (الترابي: 1992: ص19).
ويرى في الشورى محاولة لجمع مسيرة المسلمين الخالصة حيث يسعون إلى اجماع يمثل وحدتهم، وينبغي لهذه الصورة السياسية التوحيدية أن تجسد في مؤسسات سياسية تعبر عن المسلمين وتبرز هويتهم. وهذا الرأي يتعارض مع القول بأن الإسلام دين الفطرة، لذلك أقر بالاختلاف والتنوع والتعدد بين البشر، بحكم انسانيتهم. وبالتأكيد تواجه مسألة الوحدة بمطلب الحرية والتي يمكن أن يضحى بها بسهولة ولو خشينا من الانقسام والاختلاف. ويربط الترابي الحرية بالصراع العدائي لذلك يأخذ على الغرب أنه عرف الصراع في المسرح والاقتصاد وفي العلاقات السياسية والدينية وبالتأكيد في العلاقات الدولية.
ويؤكد: «ولأنه صراع مطلق ليس فيه عامل موحد من ايمان بالله، ولذلك، هو في صور التعبير السياسي، عرف بعض عصوره عهد الحزبية» (ص30) ولا يرى أي داع لكي يقلد المسلمون هذه الصور وألا يخجلوا من رفضها مهما كانت التسميات جذابة أو سائدة مثل الديمقراطية أوالتعددية الحزبية.
وكل هذه النظم ـ في رأيه ـ لا تعبر عن مضمون الإسلام وهو التوحيد والنظرية التوحيدية السياسية، ولكن الذي يعبر عنه، هو نظام يقوم أولاً على الايمان منطلقاً لسيادة الشريعة كدستور في الحياة السياسية العامة، وثانياً على الحرية رمزاً لعقيدة التوحيد حيث ينبغي أن يكون كل فرد متجرداً لله.
لابد من التوقف عند مفهوم الحرية ـ عند الإسلاميين ـ في سياق التوحيد مقابل التعدد. فالحرية لا تعني الحق في اعتناق الآراء والأفكار والتي ستكون بالضرورة مختلفة ومتنوعة، ولكن هي نفي الخضوع لغير الله ويكون الفرد متجرداً لله لا تفتنه عصبية لحزب ولا لقبيلة. لذلك حين يتخذ مواقفه في الشورى مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمناصحة يقول الترابي:
«تكون حرة بغير عصبية كتل حزبية، ولا أهواء أفراد ومجموعات في نظام الضغوط ومجموعات الضغط» (ص31) وواضح أن الأحوال الحزبية والطائفية بالذات، والقبلية في السودان قبل الانقلاب، كانت ماثلة في ذهنه وهي التي شكلت هذه الأفكار التي تغلق حق الخيارات المفتوحة للفرد بهدف حجب حق تلك المؤسسات التقليدية في العمل والحركة وحتى الاختيار والذي يراه الترابي غير حقيقي بل فرضته ضرورات الجهل والتبعية للآخرين، فهو يرفض الحرية خشية سوء الاستخدام.
العقيدة فوق الحرية عند (الإسلامويين) ويولّد الحال التقديسي الشامل للعقيدة الخوف من الحرية. ولابد من التحوط من خلال التنظيم الواحد والعنف لايقاف أي تمدد للحرية وسط الجماهير. وقد يصبح ردع الحرية ـ للوقاية ـ من الواجبات والفروض التي تتقدم على سواها، لأن باب الحرية تأتي منه رياح خطرة لا يجب التهاون معها.
وتظل مسألة حق المسلم في التعبير عن رأيه وفي الوقت نفسه ضرورة توحيد الرأي العام أو تنظيمه على الأقل لكي لا تذهب به التيارات، من معضلات الفكر السياسي الإسلامي ومن نواقص الحكم الإسلامي.
ولكن الترابي يرى امكانية التضحية بالحرية حين يقول: «... الشعب المسلم غير مهيأ ولا تزال فيه عصبيات ولو أطلقت له الحرية فأنه لا ينطلق بالإسلام وانما ينطلق بكثير مما ورثه من قبل.. وبذلك تتعقد علينا هذه المشكلة بأنها تطرح في مرحلة انتقال... لذلك اذا أطلقت الحرية استغلت تلك الحرية لتدخل منها مُدخلات غريبة على الدين.
واذا توجهت تلك الحرية نحو الإسلام وُئدت وأُجهضت وفُرض على المسلمين نظام قهري حتى لا يتمهد لهم طريق الإسلام» (الترابي: الحركة الإسلامية في السودان: ص8586) وعلى الرغم من أن الموقف الإسلاموي من الحرية يبدو في ظاهره وكأنه طارئ بقصد الدفاع ـ راهناً ـ عن العقيدة من أخطار داخلية: الطائفية، وخارجية:
الحضارة الغربية، الا أنه موقف أصيل لم يدرك أن الدين أعطى حق الاختيار، ولكن غلبة السياسوي على التفكير الديني السوداني وضع (الإسلامويين) في مأزق رفض الحرية في مجتمع لا يمثلون فيه ـ كحزب ـ أغلبية تمكنهم من الهيمنة من خلال الانتخابات الحرة. فأعطوا أنفسهم حق الوصاية على الشعب حتى يصل الرشد وينضج ثم يمكن له بعد ذلك أن يختار بحرية.
السؤال الصعب
يردد (الإسلامويون) أن غالبية الشعب السوداني مسلم وله ارتباط ـ بطريقة أو أخرى ـ بالمشروع الحضاري الإسلامي المطروح. وهذا القول ليس دقيقاً، والا لما احتاج الإسلاميون ـ ممثلين في الجبهة الإسلامية القومية ـ للانقلاب على القوى الإسلامية الأخرى المشابهة لكي تفرض برنامجها الإسلامي. فقد كان من الممكن من خلال العمل السياسي السلمي أن تحقق الجبهة الإسلامية أهدافها المعلنة.
ولكنها بعد الانقلاب أدركت الاختلاف بين إسلامها المتضخم سياسياً وبين إسلامهم ـ أي السودانيين ـ الثقافي والاجتماعي والروحي. وحين وقفت هذه القوى معارضة بشدة للنظام الجديد على الرغم من شعاراته الإسلامية ولم يستطع النظام الا استمالة عناصر قليلة من أعضاء تلك الأحزاب وتم اغراء أغلبهم بمناصب رسمية والبعض الآخر كان مختلفاً أو غاضباً من حزبه السابق.
وكان من الطبيعي أن يطرح (الإسلامويون) سؤالاً مهماً حين حاولوا انشاء تنظيم شعبي: «كيف تستطيع ـ أي الحركة الإسلامية ـ من جهة، أن تحرك هذا الوجدان الصوفي السالب إلى الرصيد من أن يتحول إلى فقاقيع هوائية فارغة وأن تجعله ينصب في أطر البناء الحضاري المنضبط؟» (التيجاني عبد القادر حامد 1992: ص34).
وصار من المتوقع أن تهمش هذه القوى على الأقل لفترة، ويتبع ذلك عدم التورط في أي شكل انتخابي مفتوح وحر. خاصة وأن الأحزاب السودانية التقليدية أفرغت الديمقراطية من مضمونها بل شوهت وظيفتها لكي يحدث عكس المطلوب في النظام الديمقراطي، يكتب أحد الباحثين الإسلامويين: «فصارت الديمقراطية في مثل هذا المناخ هي الأداة المسلطة لتزوير الارادة الشعبية الإسلامية وتدوير السلطان السياسي والاقتصادي بين الطائفتين (الختمية والأنصار) وخلفائهم في الريف وحلفائهم من النخب المثقفة في المدن» (التيجاني 1992: ص43).
كان من الطبيعي أن تمارس السلطة السياسية كل الوسائل لكي تضمن استمرارها وتؤمن وجودها، فالدولة أصلاً هي احتكار شرعي أو غير شرعي للعنف، فكيف يكون الحال اذا استندت هذه الدولة على الدين وأعطت نفسها حقاً مقدساً يضاف للحق السياسي. وقام المنظرون بتمهيد الظروف للعنف على أرض الواقع، بحيث يصبح جزءاً عادياً وليس نشازاً وخروجاً عن الأيديولوجية التي يتبناها النظام.
اذ يقول الشيخ الترابي بصراحة مباشرة: «السودان اليوم وهو يتقدم نحو الإسلام، يبدأ أولاً بالغاء ما مضى لأن الدين يبدأ بالنفي ثم يثبت العبادة لله سبحانه وتعالى، لأنه قبل الايمان يكون الارتهان للمعبودين من دون الله. فالبداية هي تنظيف الساحة وطهارتها ونفي خبثها، ثم الصيرورة إلى ساحة العبادة والتوحيد والايمان. والسودان يبدأ المشروع بنفي النظم القديمة وبجمع السلطة وسلبها من أهواء البشر وصراعاتهم» (الترابي، 1992: ص32).
واذا كان الشيخ الترابي يبدأ بالنفي، فإننا نجد أن منظراً آخر ينطلق من التفكيك وهي خطوة عملية أكثر من مفهوم النفي غير المحدد. ويرى التيجاني عبد القادر أن سيرورة التأصيل التي ابتدرتها الحركة الإسلامية منذ أكثر من نصف قرن، هدفت إلى تفكيك الدولة القومية ـ دولة ما بعد الاستقلال وتقطيع لعلاقات التبعية الكبرى التي تقوم على الهيمنة الطائفية (1992: 43).
وسيكون أطراف المعركة هي الطائفية والامبريالية، خاصة بعد أن وصلت الحركة إلى السلطة. ويرى أن «العامل الحاسم في هذا الأمر سيكمن في قدرة الحركة الإسلامية السودانية على مقاومة دواعي الانشقاق الداخلي، وفي قدرتها على اعادة البناء الاجتماعي وفقاً لعملية اجتهاد وجهاد تقوّي احداهما الأخرى دون خروج على الأصل أو انقطاع عن العصر» (1992: ص54) .
ومن الواضح أن هاجس (الإسلامويين) هو ما يعتبرونه «الانشقاق الداخلي» ومعالجته بإعادة البناء الاجتماعي لذلك لم يكن غريباً أن ترفع الحركة حين حكمت: شعار اعادة صياغة الانسان السوداني وهذا الهدف شبه النازي لا يعترف بالاختلاف أو التعدد، فهناك ـ في تصورهم ـ انسان واحد منمّط في سلوكه وتفكيره ورؤاه، ليس لديه حق الاعتراض أو المخالفة خاصة والأمر يتعلق بتطبيق مشروع حضاري إسلامي.
فقد يدخل الاختلاف السياسي إلى دائرة خطرة يخرج من المعارضة السياسية إلى مجال الكفر والتجديف. وتعتبر عملية التنميط والغاء الفوارق في كل شيء حتى اللبس والشكل، من الأدوات المهمة في النظم الشمولية لأنها تضمن الخضوع والطاعة والاستقرار أو ما يدعى الوحدة الوطنية وهي الصفة المفضلة.
تسعى النظم الشمولية ومنها نظام الإنقاذ رغم بدائيته إلى تحقيق السيطرة الكلية على المواطنين، وهذه العملية كما تعرفها حنة أرندت: «إن السيطرة الكلية، هي التي تجهد في تنظيم تعددية الكائنات البشرية وتمايزهم اللانهائيين وكأنما البشرية كلها ان هي الا هوية ثابتة من ردود الفعل. هكذا يتسنى لكل مجموع من مجاميع ردود الفعل هذه أن يُستبدل بأي مجموع آخر.
أما المسألة فتكمن في أن يصطنع شيء ليس موجوداً، مما يعني أن يصنع نوع بشري يشبه الأنواع الحيوانية الأخرى والتي تقضي حريته الوحيدة في الحفاظ على نوعه» (أرندت، 1993: ص206).
لجأ ستالين في التجربة الشيوعية وهتلر في ألمانيا النازية إلى اعداد النخبة اعداداً أيديولوجياً، ومن خلال الارهاب في معسكرات الاعتقال أو السجون. وينقسم المواطنون إلى خاضع إلى التلقين الأيديولوجي أو إلى معزول ومضطهد ومرعوب داخل السجون. وبالتالي تغيّب كل ما هو مخالف للنظام الشمولي، وهذا مجتمع مصطنع يخلو من العفوية والابداع وهذا الجدب أو الفراغ هو ما يملؤه النظام لأنه يمتلك وسائل الاعلام والتعليم والمؤسسة الدينية، ولا يسمح للأسرة بتنشئة مختلفة.
ولكن المجتمع الموحد والانسان المنمط هي منتهى البشاعة والفجر والرتابة عند العاديين أو الطبيعيين من البشر. ولكن هتلر كان يرى أن «أعظم أعمال الحركة النازية انما يكفي في أن ستين ألفاً من رجاله يصيرون اذ يُنظر اليهم في الخارج، شبه شخص واحد، وأن هؤلاء الأعضاء هم في الحقيقة موحَّدو الأشكال، فليست الأفكار ما توحدهم فحسب، بل حتى تقاسيم الوجه التي تكاد تكون متشابهة:
أنظروا إلى هذه العيون الضاحكة وهذا الحماس المتعصَّب، فتكتشفوا.. كيف أن مئة ألف رجل في حركة يتوصلون إلى أن يكونوا على النموذج الواحد نفسه» (أرندت: ص177) ويكاد أصحاب التنظيم الشمولي الواحد يكتسبون أنثروبولوجية خاصة تجعلهم يظهرون وكأنهم ينتمون إلى عشيرة أو قبيلة واحدة ذات أصل واحد أو جد مشترك.
وصار من الممكن معرفة عناصر الجبهة الإسلامية بعد استيلائهم على الحكم من خلال شكل خارجي موحد: اللحية، طريقة الكلام وتحريك الأيادي، الابتسامة، مفردات اللغة، الملبس، نوع الاستهلاك والاهتمامات... الخ

Post: #5
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: tariq
Date: 09-23-2004, 02:56 AM
Parent: #1


سقوط المشروع الحضاري في السودان ـ الحلقة الخامسة
متى يتحول الشعار إلى واقع؟، الخوف من فقدان السلطة يلقي بظلاله على مسيرة «الجبهة»
تأليف :د. حيدر ابراهيم
ابتدع منظرو المشروع الحضاري في السودان مقولات غامضة في الفحوى وصعبة التحقق. إذ كان الانقلابيون غير واثقين من تأييد الشعب الذي كان ينتظر ليرى، ووقف في البداية متفرجاً لأن الأحزاب خذلته ولكنه لا يرى البديل في الدكتاتورية العسكرية. هذه الحيرة نفسها كان يعيشها الإسلامويون بعد أن وقعت السلطة في أيديهم بسهولة لم يكونوا هم أنفسهم يتوقعونها. ولذلك لا يجب التفريط فيها مهما كانت الوسائل.
والأهم عدم المغامرة بإشراك الجماهير غير المضمونة وفي الوقت نفسه عدم إظهار العداء للجماهير، يكتب أحد منظريّ النظام:
«فهي ثورة لا تخشى الشعب، بل على العكس من ذلك تثق فيه ثقة عظيمة وتنفتح عليه انفتاحاً كاملاً، فهي بالتالي لا تدعو لحكم الفرد أو تسلط الحزب، وهي من ثم تقبل التعددية والتنوع، ولكنها تفرق تفريقاً بيناً بين التعددية الحزبية التي تتخذ ذريعة لتمزيق الأمة والحفاظ على المصالح الأجنبية، والتعددية الملتزمة بالنهج الإسلامي والمنحازة لمصلحة الوطن ولمصلحة الجمهور المستضعف من المسلمين ( التيجاني عبد القادر ص 52) ».
تبنى الحكم الجديد نظام المؤتمرات الشعبية، وهذه صيغة ليس فيها أي اجتهاد أو إبداع فقد سبق إليها العقيد القذافي في ليبيا دون أن ينسب التجربة إلى الإسلام ولكن العقيد والشيخ يتفقان في رفض الديمقراطية الغربية أو الانعتاق والتحرر من تقاليد المؤسسات الغربية، كما تقول كتاباتهما وأدبياتهما السياسية. ويرى منظرو الإنقاذ أن نظام المؤتمرات الشعبية «وعاءً للتعبير والفعل السياسي وهو نظام يتجاوز الأطر والتراتيب القيادية القديمة في المجتمع ويتيح للمواطنين مجالاً جديداً للتنظيم يعتمد على الكفاءة الشخصية والاستقامة في السلوك والاستعداد للتضحية والبذل». (التيجاني، المص��ر السابق، ص 52).
ومن الملاحظ أن من أهم أهداف هذا التنظيم إبعاد أو عزل القيادات القديمة بصورة تبدو شرعية وديمقراطية. كما أن الترشيح في المؤتمرات الشعبية على أساس شخصي يعني التخلي عن الانتماء الحزبي. ولا يقوم هذا النظام بأي مهام تشريعية. ومن الصعب تأصيل هذا النظام إسلامياً فهو الأقرب إلى الديمقراطية المباشرة في أثينا القديمة وليس في مجتمع المدينة.
قدم الإسلامويون في السودان طبعتهم من نظام المؤتمرات الشعبية الليبية وكأنها النظام الإسلامي النموذجي ويقول الترابي: «أنه نموذج سوداني سنجربه ونحسنه ثم نهديه إلى المسلمين ومن بعد ذلك إلى الغرب الذي لا يعرف كيف تمضي مسيرته الديمقراطية. والشيء الوحيد الذي يبقي ديمقراطية الغرب صالحة عند أهلها هو أن البديل قبيح وهو الدكتاتورية والحكم القسري». وسأله في هذا الصدد صحافي: أليس من الأسهل للسودانيين تجربة ما مارسوه من قبل كالانتخابات مع وضع ضوابط؟ فأجاب بطريقته المعروف: «طبعاً الأسهل أن يفعلوا ذلك.
ولكن ليس هو الأقرب إلى قيمهم الدينية. كما أن الأسهل للناس أن يشربوا الخمر وأن يبيحوا الجنس ولكن ليس هذا من قيمهم الدينية. نحن نقدم إلى الناس منهجاً متوازناً يختارون به حاكمهم ولكن من دون سلطة المال والمنصب ومن دون تأثير الطائفية أو القبيلة». ثم يعلق على تقديم البرامج والدعاية الانتخابية قائلاً: «في أخلاق الإسلام لا يولى السلطة من طلبها ولا نريد لحب السلطة أن ينزرع في نفس المرشح حتى يتكلم ويبالغ في الحديث عن محاسنه وطيباته.
الدعاية والمال أفسدا الانتخابات في الغرب، ونحن نريد انتخابات إسلامية كالتي جرت بين (الخليفة الراشد) عثمان والخليفة الراشد علي وهو منهج لم يطبق من قبل» (حوار أجراه جمال أحمد خاشقجي، مجلة الوسط، العدد 145 بتاريخ 7/11/1994) ولم يقل أن تلك الانتخابات انتهت بالفتنة الكبرى، كما قفز على كل سنوات التاريخ الممتدة خلال هذه القرون.
انتقد بعض «الإسلامويين» ـ لاحقاً ـ هذه المحاولة لأن التفريق بين التعددية الحزبية والتعددية الفكرية، غير واضح. ولا يوجد أي ضمان ألا تتحول المدارس الفكرية داخل التنظيم إلى أحزاب. كما لا يمكن نفي صفة الحزب الواحد عن النظام إلا باعتباره فضفاضاً. ولو سمح بالحرية الكاملة فلابد أن تعود قيادات حزبية قديمة (الأفندي ص (3 وهذا الخوف من فقدان السلطة حقيقي لأن الجبهة الإسلامية القومية في انتخابات 1986 لم تحصل إلا على حوالي 5 ـ 7% من مجموع الأصوات رغم أن مقاعدها فاقت الخمسين ولكن هذا يعود إلى تقسيم دوائر الخريجين حيث فاز بعض النواب بأصوات لا تتعدى بضع مئات من الأصوات بالذات ف�� دوائر الأقاليم النائية.
اتخذ «الإسلامويون» موقفاً شديد الارتباك حيال الأحزاب والتعددية الحزبية مما يدل على أنهم لم يجتهدوا مطلقاً في الوصول إلى صيغة جديدة لوضعية الأحزاب في نظام سياسي إسلامي حديث ومازالوا متوقفين عند الفهم القديم لكلمة الأحزاب والتي لم تكن تعني تشكيل حزب سياسي ولكنها تعني التعصب والوقوف معاً ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ورغم أن الإسلامويين أنفسهم عملوا كحزب أو تنظيم سياسي بل ووصلوا إلى السلطة من خلال هذا الحزب إلا أنهم حاولوا التنظير ضد الأحزاب. بل اسموا نظامهم: ديمقراطية خالية من الحزبية والأحزاب حسب غلاف مجلة «السودان الآن» (مارس 1995) والمتابع لتصريحات قيادات الإنقاذ يجد هذا الارتباك والتخبط حيال الحزبية بيناً.
سئل محمد الأمين خليفة رئيس المجلس الوطني الانتقالي آنذاك: على ذكر الاتصالات القائمة بينكم وبين زعماء الأحزاب السياسية. هل هناك أمل لعودة الحزبية إلى السودان؟ فرد قائلاً: - «نحن لا نتفاوض معهم لإعادة الحزبية، فالحزبية أضاعت أهدافاً كبرى عن السودان لذلك كان عندنا أكثر من 50 حزباً سياسياً وهذا مضر ولكننا اخترنا التعددية ولكن ليس التعددية السياسية أي تعددية فكرية ذات نهج رباني وليس النهج العلماني المتبع في بقية الدول التي نراها الآن تتخبط ولا تدري لها نهجاً سياسياً. فنحن اتخذنا هذا النظام السياسي ليس لإعادة الحزبية بل العكس أي قتل الحزبية وإعلاء القيم التعددية الفكرية» (صحيفة الشرق الأوسط 10 إبريل 1995) .
وفي رد لمجذوب الخليفة أحمد وزير الزراعة الحالي ووالي الخرطوم على سؤال: يصفك البعض بأنك من المتشددين وصقور النظام وترفض عودة الأحزاب والتعددية السياسية فما هو رأيك؟ يقول: «عودة الأحزاب أمر يختلف عن عودة الديمقراطية والشورى وهي أمر آخر. وأقول أن الطائفية هي التي أضاعت الاستقلال تماماً بعد أن أجمع الناس عليه وأضاعت أكتوبر بعد كل التضحيات وأيضاً إبريل».
يضيف: - «ولذا نؤكد ما نقوله بأن لا عودة للأوضاع التي كانت قبل 30 يونيو 1989 ولا عودة للأحزاب بمنهجها وهيكليتها في ذلك الوقت لأنها فشلت في إدارة السودان وحكم عليها أهل السودان بالفشل وإذا حاكمنا تلك الأحزاب بموجب الدستور الحالي نجد أنه لا مكانة لها (...) لأن الشعب قد حكم عليهم وأيضاً حكمت عليه الإنقاذ، وجاءت بدستور وبمفاهيم جديدة لا يمكن أن يتوافق معه». (صحيفة المستقلة اللندنية 3 أغسطس 199 .
شكل محسن للشمولية
هذا شكل محسّن للشمولية يرى البديل في نظام غير شرعي جاء عن طريق الانقلاب ويضع دستوره بنفسه من دون مشاركة شعبية حقيقية ويجعل منه حكماً لقيام حزب أو عدمه. ثم يطابق النظام بين حكمه على الأحزاب وحكم الشعب. فالشمولي يقول أنا الشعب بينما يخضع هذا الشعب لقوانين الطوارئ والقوانين الاستثنائية وبحرمة كل وسائل التعبير، ويفكر ويقرر نيابة عن الشعب دون أن يكتسب النظام هذه الوكالة أو النيابة عن طريق انتخابات حرة.
عقب انتهاء المؤتمر الثاني للمؤتمر الوطني، صرح الترابي: «إن المؤتمر الوطني حزب سياسي يرعى الحياة العامة وأنه ناد للجميع»أما الرئيس البشير فقد قال: «ان السودان بصدد توصيات المؤتمر الوطني قد توحد بدون قبلية وطائفية وحزبية» ولكن الترابي عاد في اليوم الثاني ليصرح: «ان السودان لا يعرف إلا حزباً واحداً هو حزب الله» (صحيفة «البيان» 23 فبراير 199 . وأشار الرئيس البشير في احتفال بقاعة الصداقة لتكريم القيادة السابقة لحزب المؤتمر الوطني إلى: «أن حقوق الشعب السوداني لن تصادر مرة أخرى لحزبية أو طائفية أو عسكرية بعد أن وصل السودان إلى مرحلة النضج السياسي» (صحيفة البيان 16 مارس 199 .
واصل الدكتور حسن عبد الله الترابي رئيس المجلس الوطني السوداني رفضه للديمقراطية عموماً، ولعودة الأحزاب في السودان بشكل خاص، بقوله: «إن الذي يحدث عندنا باسم التعددية أو الديمقراطية الغربية هو أقرب إلى الديماجوجية أو الغوغائية، التي تقود حفنة من الأفراد والبيوتات إلى السلطة، بدون ممارسة الشورى الحقيقية، لا في داخل الحزب نفسه ولا في داخل القطر عامة».
وأضاف، وهو يتحدث عن النظم السياسية المختلفة، ان «الأحزاب على أساس التعددية الغربية أصبحت تحصيل حاصل لوحدة تلك الشعوب، التي باتت تتفق اجتماعياً حتى في شكل ربطة العنق، ومواضع ابتدار الكلام والسلام، وغيره من أساليب التعامل، وأن اختيار القادة أو الزعامات السياسية في الغرب لم يعد على أساس البرنامج السياسي، اشتراكياً مثلا أو رأسمالياً، أو عمالاً وأصحاب عمل، إنما على أساس أشكال فقط، مثل» كاريزما «ذلك المرشح أو غيره، إذ لم تعد هناك فوارق في البرامج السياسية، أو اختلاف على وحدة البلد أو هويته».
ودعا الترابي إلى بسط المزيد من الحريات على المستوى السوداني والمستوى الإفريقي والعربي، من أجل المزيد من الوفاق والتوافق بين الأفكار السياسية والاجتماعية المختلة، بغرض الوصول إلى صفة وحدة وتوحد يتفق عليها الجميع لتقوية النسيج الوطني والقومي والعالمي، من أجل تنمية الموارد البشرية المحلية والقارية والعالمية، لمنفعة الجنس البشري عامة والسودان وإقليم إفريقيا والمنطقة العربية خاصة.
وقال ان «التحزب والتشيع الذي يؤدي إلى التفرقة والشتات ضد عقيدة الأمة على المستوى القطري والقاري، ويقود إلى الحروب والنزاعات التي تضعف الجنس البشري موارد وبشراً».

وحول النظام الأمثل لدول العالم الثالث، ومن بينها السودان، قال الترابي ان «التحزب الذي يكون هدفه الوصول إلى السلطة، وتهميش دور الآخرين، يقود إلى الصراعات التي تصل في بعض الأحيان إلى الحروب بين أبناء البلد الواحد، وأن إيجاد صيغة توافق عن طريق الحوار في إطار الحريات الكاملة، ولكنها تخرج على صيغة وحدة الأمة، يمكن أن تكون انموذجاً لنظام سياسي يرضى به الجميع، ويقود إلى اختيار قيادة البلد على أساس المقدرة والكفاءة والجدارة عموماً». (الشرق الأوسط 17/9/1997).
ولكن بعد عام فقط، يعلن د. حسن الترابي رئيس المجلس الوطني السوداني أنه «سيتم رفع الحظر المفروض على تشكيل الأحزاب منذ عام 1989 وقال في تجمع بأم درمان الليلة قبل الماضية»: «الآن وبعد أن رسخنا العقيدة في المجتمع علينا أن نفتح الباب لمن يرفضون الانضمام إلينا وتركهم ينضمون إلى الأحزاب التي يريدونها».
وأضاف: «ان أحزاب الشيطان عندما تظهر ستجد في وجهها بلداً موحداً يصون العدالة ويدافع عن الاستقامة في الحكم» (الراية القطرية 20/9/199.
يؤكد د. غازي صلاح الدين أن الديمقراطية الشعبية أفضل من التعددية والشمولية، مستنداً على أن وظيفة الإنسان وبالتالي المجتمع هي عبادة الله كما تقررها الآية الكريمة، ويوضع هذا الهدف أمام كل المبادئ التي تحكم نشاط المجتمع. ويؤيد موقف الترابي من الديمقراطية التعددية، بقوله: «لئن كانت فكرة الصراع أساسية في النظم الغربية، فأن نقيضها فكرة الاجتماع والوحدة، هي السائدة على نظرية سياسة المجتمع في الإسلام ولا تجد آية أو إشارة من سنة رسول الله صلى ا لله عليه وسلم تمتدح الخلاف في أي شكل من أشكاله.
بل عكس ذلك هو الصحيح، فالقرآن كله حض على نبذ الخلاف وتوحيد الصف (...) إن الإسلام، نظرية وتطبيقاً يدعو إلى سوق المجتمع صفاً واحداً نحو غاياته» ويسبب ذلك بأن التعبئة في النظام السياسي الإسلامي وظيفة أساسية فهي مرتبطة بقضية الجهاد والعبادة والتعاون على البر والتقوى ومطلب الدين هو جمع الصف، لذلك، يقرر ـ قاطعاً ـ الأفضل هو نظام الديمقراطية الشعبية. (مجلة الملتقى 1 ـ 15 مارس 1990، العدد الأول ص 16 ـ 17) . وفي مقابلة صحافية أخرى يقول صلاح الدين: «مستقبل الممارسة الديمقراطية، بالنسبة لنا لا نقيسه بتعدد الكيانات السياسية، وإنما بمدى اتساع دائرة الحرية والشورى، ومدى قدرة الن��ام السياسي على تمكين كل مواطن من قول رأيه في قضايا الحكم والمعاش» (مجلة العالم العدد 575 بتاريخ 28 يونيو 1997) .
غياب الموضوعية
ظن د. غازي صلاح الدين حين كان الأمين العام للمؤتمر الوطني (التنظيم السياسي) أن تنظيمه لن يتحول إلى حزب سياسي كما يشاع في الأوساط السياسية والصحافية (الحياة 9 يناير 199 وصرح بأن الفترة المقبلة ستشهد تطويراً لنظام المؤتمرات يشمل إتاحة قدر أوسع من الديمقراطية. وأوضح أنه يعادي الطائفية السياسية لا الدينية لأنها تاجرت بالدين واستغلت الإنسان.
وأضاف: «ان نظام المؤتمرات اختير بعد تمحيص دقيق لكل التجارب المحلية والخارجية وأنه استوعب كل الانتماءات السياسية وحقق الوحدة الوطنية ووحدة الهدف ونجح في تعبئة الشارع السياسي نحو الأهداف الوطنية (...) أن نجاح تجربة المؤتمرات يتمثل في قدرة السودان على الصمود في وجه الضغوط الدولية التي تقودها الولايات المتحدة وفي نجاح السياسات الاقتصادية والاجتماعية، إضافة لخلق تنظيمات سياسية وتشريعية استطاعت أن تقوم بدور حقيقي بعيداً عن الهيمنة أو الوصاية» (الحياة 9 يناير 199 .
من الواضح أن الإسلامويين ـ حتى من يعتبر ضمن القيادات الفكرية والتنظيرية ـ لا يمتلكون رؤية موضوعية أو موقفاً متسقاً تجاه قضية الديمقراطية والتعددية السياسية بسبب الحس السلطوي الطاغي الذي يدعي تحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية تبرر الشكل السائد للتنظيم.

يعتبر النائب الأول علي عثمان محمد طه أكثر شخصيات الحكم نفوذاً وتأثيراً رغم صمته وغموضه، لذلك يمثل رأيه الموقف السائد خاصة بعد أن انتخبته الحركة الإسلامية أميناً عاماً في مؤتمرها السادس الذي عقد مؤخراً.
ففي سؤال عن اتهامه بالشمولية والتشدد، قدم التحليل التالي للوضع السياسي: «لأتحدث بموضوعية عن التطور السياسي في السودان أحس بأن البنية السياسية القديمة للسلطة بتركيبتها القديمة لم تعد قادرة أن توفر آليات للتبادل السلمي للسلطة بتركيبتها القديمة وهي موضع اتفاق بين كل الأطراف. ولذلك القوى السياسية أمام امتحان لتقدم برامج وتنشئ علاقة مع المجتمع ومع الرأي العام يجعلها موضع تقدير ووزن سياسي مقدر يمكنها من أن تقود.
وقد أحجمت القوى السياسية عن خوض الانتخابات الأخيرة لأسباب كثيرة أضيف إليها استشعار العجز الداخلي ولأن هذه الأحزاب ليست في موضع تنظيمي أو جماهيري يمكنها من أن تخوض انتخابات لتضع شعارات الإنقاذ في محك التجربة لذلك أسباب مقاطعة الانتخابات هي أسباب ذرائعية تعود بالأساس للقدرة الحقيقية للأحزاب ولو أن الإنقاذ تريد أن تحكم منفردة فإن هذا الوضع يناسبها. ولكننا نهيئ الآن المناخ لنبرز آليات التنظيمات السياسية لتطرح منافسة حقيقية وبرامج تتيح فرصة الاختيار الحقيقية. وأشعر بأن المزاج العام للشارع السياسي غير مقتنع بقضية الحزبية فهو يبحث عن برنامج قومي ولا يجد الإجا��ة عند حزب بعينه».
يقول عن تصوره المحدد للتعددية، ضرورة الاتفاق حول برنامج قومي والاتفاق على أولويات وضرورة الموازنة بين الأمن والسياسة وبالتالي تحديد دور الجيش والأجهزة الأمنية وهذا أساس أي استقرار، ويختم قائلاً: - «مرة أخرى أقول أن التجربة القائمة الآن أن القوات المسلحة هي جزء من المجتمع ومن التركيبة السياسية التي تؤثر وتتأثر بالقرار العام. ولا يمكن لفكرة سياسية أن تقوم على استبعادها وإقصائها ولأنني واضح في هذا الأمر يعتقد البعض أنني شمولي» (صحيفة الخرطوم 19 مايو 2001) .

إشكالية الدستور
لم يعد يكفي أن يرفع «الإسلامويون» شعار (القرآن دستورنا) كما كانوا يفعلون خلال مرحلة الدعوة والتعبئة والتجييش والمواكب التي تحاصر البرلمان أو في الخطب السياسية في المؤتمرات والندوات والليالي السياسية أو حتى في الجوامع والمساجد والمناسبات الدينية. الآن، صار المطلوب تحويل الشعار إلى واقع يتمثل في دستور يجسد القرآن ويسير الدولة والمجتمع حسب تعاليم الدين. وظل نظام الإنقاذ يحكم بمراسيم دستورية تصدر عن رئيس الجمهورية ومن خلال المرسوم الخامس الصادر في 31 ديسمبر 1991 تقرر إنشاء المجلس الوطني الانتقالي واختير له 299 عضواً وعين العقيد محمد الأمين خليفة عضو مجلس قيادة الثورة السابق رئيساً له.
وقام المجلس الوطني الانتقالي في الفترة السابقة لانتخاب المجلس الوطني بوضع الأسس الدستورية للنظام السياسي. وبهذه الطريقة أوجدت الإنقاذ أمراً واقعاً طلبت من الآخرين قبوله وأعطت لنفسها سشرعية دستوريةس من خلال مجالس معينة أو ذات عضوية مشروطة بالانتماء للجبهة الإسلامية كما حدث لاحقاً. وقد أثار المرسوم الثالث عشر جدلاً واسعاً وفي النهاية ارتكز الدستور الحالي على روحه وكثير من نصوصه. وينطبق على مجمل هذا الوضع، القول بأن ما قام على باطل فهو باطل، وهذه هي المغالطة الكبرى لشرعية الإنقاذ التي لم تلجأ إلى انتخابات حرة لاختيار رئيس الجمهورية أو انتخاب أعضاء المجلس ا��وطني أو إجازة الدستور والقوانين.
تضمن المرسوم الدستوري إجراءات انتخاب رئيس الجمهورية وأهلية الترشيح للمنصب، واختصاصاته وتوزيع سلطات رئيس الجمهورية كما نص المشروع على الأعمال الإجرائية أمام المحاكم والتي تمنح الحق للمتضررين بالطعن أمام المحاكم العليا في أي من أعمال رئيس الجمهورية في حال تجاوز النظام الاتحادي الدستوري أو حقوق الإنسان الدستورية. كما اشتمل المشروع على النظم والهيئات والمؤسسات الاتحادية والقوات النظامية وتشكيل مجلس الوزراء واختصاصاته والمسئولية التضامنية والفردية للوزراء.

بجانب الطعن في الأعمال الوزارية أمام المحكمة العليا وفق القانون. وتطرق المشروع إلى تكوين المجلس الوطني وشروط العضوية ومدة المجلس التي تمتد لأربع سنوات والمهام التشريعية للمجلس وحرية التداول داخل المجلس والإجراءات المالية والإدارية والقانونية المتصلة بعمل المجلس بجانب اختيار الولاة ووزراء الولايات والمحافظين.
وأكد عبد العزيز شدو النائب العام ووزير العدل أن المرسوم سيكون أساساً لدستور السودان. وقال لدى مناقشة المرسوم في المجلس الوطني أمام اللجنة المكلفة بتقديم دراسة حول الدستور برئاسة أحمد عبد الحليم رائد المجلس أن المرسوم لم يحظر على أي سوداني ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية مشيراً إلى أنهم الآن لا يخشون من المعارضة بل «ندعوهم لترشيح أنفسهم كمعارضة لهذا النظام».
وأضاف أن المرسوم أبلغ رد على الافتراءات التي تثار حول السودان، مؤكداً أنه يجيء تعميقاً للتجربة الديمقراطية الجديدة التي يقدمها السودان. ومن ناحية أخرى، أوضح محمد الأمين خليفة أن المرسوم يعد من أميز المراسيم وقال أنه يحمل في طياته التأصيل وأنه جاء أيضاً بالوعد الذي قطعته الثورة بتسليم السلطة للجماهير. ورأى د. علي الحاج محمد الوزير بديوان الحكم الاتحادي أن المرسوم يعد مدخلاً لمشروع السلام مؤكداً أن معيار التمييز لرئاسة الجمهورية هو المواطنة بغض النظر عن توجهاتهم السياسية.
أما أحمد عبد الرحمن فقد أضاف: أن الإنقاذ لازالت تبحث عن المشروعية، مشيراً إلى أن هذا المرسوم يعد اجتهاداً لأجل التعايش السلمي. كذلك أكد أحمد إبراهيم الطاهر مستشار رئيس الجمهورية: أن النظام السياسي مزيج من النظامين البرلماني والرئاسي. (صحيفة الرأي الآخر 18 ديسمبر 1995) . شعر حكم الإنقاذ لأول مرة بشيء من الاسترخاء جعل الرئيس البشير يدعو إلى إلغاء حظر التجول الليلي في الخرطوم والذي استمر من يوم الانقلاب وحتى أكتوبر 1993.

وبدأ النظام يهتم بقيام المؤسسات مثل المجلس الوطني الانتقالي ونواة الحزب الحاكم وحل مجلس الثورة الانتقالي في 16/10/1993 وينبه د. حسن مكي إلى تداعيات هذه المرحلة ويحدثنا لأول مرة عن قيادة الباطن ويبدو أن هذه هي بذور الانشقاق الهائل الذي هز الحركة لاحقاً، ويكتب بدقة نادرة عن تفاصيل هذه المرحلة: - «لم تتضح وضعية قيادة حركة الباطن، الأمين العام ومساعدوه ولقد كان ذلك خطأ غير مبرر.
إذ كيف تظل قيادة الحركة خارج حلبة إدارة السياسة وخارج ساحة الدولة الرسمية، كما كثرت الهمهمة عن الازدواجية، واستدعى ذلك إدخال قيادات الباطن كوزراء وكان أهم أولئك علي عثمان الذي أصبح وزيراً للتخطيط الاجتماعي ـ ولكن لم تكن القضية كذلك بهذه البراءة، إذ كانت هناك قوى سعت لتجريد نائب الأمين العام من صلاحياته في الحزب تحسباً لمعارك المستقبل.
وكان أبرز ما تم إنجازه في هذه الفترة، إقامة مؤتمر الذكر والذاكرين الذي فتح الإسلاميين على القوى الصوفية والقوى المتدينة بوجه عام، وكان إقبال القوى عظيماً ولكن لم يتم استيعاب هذه القوى ولم يتم السير بالتوصيات إلى نهاياتها ربما خوفاً من أن تصبح نقطة ارتكاز للنظام بعينها عن الحركة الإسلامية ـ ورمزها وكذلك فتح مؤتمر النظام الأهلي القوى القبلية والجهوية للحركة الإسلامية ولكن كذلك لم يتم استثمار السانحة لحسابات تتعلق بالتطور السياسي وإعادة ترتيب بناء نظام القوة على مستوى رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء والحزب والبرلمان الانتقالي.
وأهم من ذلك علاقات أجهزة الباطن، والأمين العام وسيطرته على آليات الشركة السياسية القابضة مثل المجموعات العسكرية والأمن الشعبي، حتى جاءت لحظة قرر فيها الأمين العام حل الأمن الشعبي ويبدو أن القرار كان رسالة محسوبة، لأنه كان يريد فك ارتباط هذه الأجهزة به وبالرئيس، ومن العجيب أن الرئيس هو الذي قام بمعالجة قرار الأمين العام وإعادة الأمن الشعبي ولكن في ظل قيادة جديدة لها حسابات ومع الأمن الرسمي (صحيفة الرأي العام 25 مارس 2001) .
شهدت هذه الفترة نشاط الحركات الإسلامية القادمة من الخارج ويبدو أن الترابي قد استقوى بها ولكنها أحرجت موقف السودان عالمياً. ثم كانت محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في 21 يونيو 1995. ويرى البعض أن المحاولة جاءت في وقت اشتد فيه الصراع بين مجموعات الباطن ـ كما سماها د. مكي ـ ولكن يظهر أن الأمور كانت خارجة عن اليد حيث «لم تكن هناك لا إدارة فكرية ولا رقابة ذات حصافة ولا مزاج قادر على فهم مآلات الأمور والفرق بين المغامرة والعمل المدروس» (المصدر السابق) وقد قاد هذا الحدث إلى نتائج بعيدة المدى وعمل النظام مجهودات جبارة للخروج من هذا المأزق. لذلك تسارعت خطوات الخروج من فترة ما سمي بالشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية.

Post: #6
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: Hani Abuelgasim
Date: 10-20-2004, 05:10 AM
Parent: #1

أ. طارق!!!!!

دا الكتاب كاملا ؟؟؟؟ .. نحن في الانتظار

شكرا لك على جهدك الرائع .... وين الباقي أو وين نلقاه؟؟؟

Post: #7
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: AnwarKing
Date: 10-21-2004, 12:41 PM
Parent: #6

شكراً يا أ.طارق...
الأخ هانئ..الكتاب فى مكتبة آفاق جديدة - شارع صيدلية كمبال- قرب موقف مواصلات أمدرمان .

أنور

Post: #8
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: tariq
Date: 10-21-2004, 02:41 PM
Parent: #1

الاخ هانئ ،، سلام
اعتقد بأنه الكتاب كاملا واعتذر عن عدم نقل البقية لاسباب خارجة عن الارادة واعدك بنقله كاملا الان .

الاخ انور ،، سلام
شكرا للتوضيح ... ورمضان كريم لكما معا

Post: #9
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: tariq
Date: 10-21-2004, 02:43 PM
Parent: #1


سقوط المشروع الحضاري في السودان ـ الحلقة السادسة
من يحمي الدستور؟، كتابات منظري «الجبهة» تؤكد تراجع أهداف المشروع الحضاري
تأليف :د. حيدر ابراهيم
في تعليق لأحد (الاسلامويين) على الأجواء السائدة أوضح الدكتور حسن مكي المفكر الاسلامي ان الحركة الاسلامية بعد 1989 أصبحت تدافع من منطلق الخوف على ضياع السلطة ومن منطلق فقه الطاعة، من منطلق الحفاظ على مشروعها مما أوجب على الناس ان يحتفظوا بأفكارهم وبنقدهم ويدخروه. وأشار الى ان حكاية الادخار هذه قد ألغت المحاسبة والنقد الذاتي والمدافعة الداخلية.
وجعلت كل فرد من الحركة الاسلامية يتطور بطريقته الخاصة، لذا كان الاختيار الأول للحركة هو موضوع التعددية فبدت كأن أطرافها ليست شيئاً واحداً ولا تنطلق من منطلق فكري أو تأصيل فكري واحد لبعد عناصرها عن بعضها البعض. لذا كان التحرك بردود الأفعال في عملية سريعة عاطفية قائمة على العاطفة. وتوقع ان تكون هناك شطحات وتشنجات في هذه المرحلة.
ولكن في المرحلة المقبلة ستكون هناك استجابة لأن الناس تحركوا الآن وبعضهم خائف على موقعه وعلى وظيفته بينما آخرون يريدون نسج بطولات من الكلمات (القدس العربي مارس 20 مارس 199. قال سراج الدين حامد عضو المجلس الوطني ان شوارع الخرطوم يمكن ان تشهد صراعاً مسلحاً اذا عادت الأحزاب بصورتها القديمة. وقال:
«ان جهود الحكومة من أجل تعددية منضبطة تمثل رغبة عامة، ولا يرفضها الا قلة داخل تيار الانقاذ تمثل المنتفعين من الوضع الراهن»، وأضاف «ان السودان يحتاج في الوقت الراهن الى ارادة سياسية قوية تتخذ قراراً تاريخياً في شأن الوفاق وتوسيع دائرة المشاركة بالكيفية نفسها التي اتخذت فيها قرارات سياسية مثل الفيدرالية واقرار مبدأ تقرير المصير».

وقلل من «تأثير التيار المعارض للوفاق والرافض للتعددية على سياسات الحكومة الوفاقية» على رغم اقراره بـ «احتلال هؤلاء لأجهزة الاعلام وسيطرتهم على الأجهزة الحساسة اضافة الى تعاطف الميليشيات العسكرية معهم». وانتقد محاولات هذا التيار للتأثير على رؤى أعضاء المجلس الوطني ومسار مداولات الدستور. وقال «ان مواقفهم لا تضع الاعتبار الكافي للتهديدات التي تواجه البلاد وتنطلق من رؤى خاصة ونظرة ضيقة». (الحياة 23 مارس 199.
ووافق أحمد عبد الله يوسف عضو المجلس الوطني، رئيس نواب دارفور على هذه الانتقادات، معتبراً «ان أعداء التعددية داخل تيار الانقاذ يمثلون أصحاب المناصب من فاقدي المؤهلات الذين تعني التعددية اليهم فقد مناصبهم وانقطاع مصالحهم». وأكد سعي المجلس الوطني الى اقرار تعددية سياسية، مشدداً على «ان لا معنى للدستور اذا لم يتضمن صراحة مبدأ التعددية السياسية غير المقيدة».
وكشف ان اجتماعاً سيعقد بين نواب دارفور ورئيس المجلس الدكتور حسن الترابي لتسليم مذكرة تتضمن تعديلات جوهرية على مشروع الدستور تشمل اقرار التعددية وانتخاب الولاة انتخاباً مباشراً، والنص على منصب رئيس الوزراء ومجلس تقسيم الموارد بين الولايات. والزامية قرارات المجلس الوطني للحكومة وتقليل ونسبة المعينين في البرلمان من 25 الى 10 في المئة (الحياة 23/3/199.
نظمت مسيرات طلابية وشعبية أمام مبنى البرلمان السوداني لمطالبة النواب بعدم اجازة نصوص في الدستور تقضي بالسماح بعودة الحزبية الى البلاد. وبدا ان التظاهرات تعبر عن رأي تيار متشدد في الحكم السوداني يعتبر ان اقرار حرية التنظيم يمثل ارتداداً على نهج الحكم المحلي وحمل المشاركون في المسيرات لافتات ترفض عودة الأحزاب .
ورددوا هتافات داخل البرلمان منها «الوفاء للشهداء» و «سحقاً سحقاً للأحزاب». وقال متحدث أمام مسيرة نظمها اتحاد طلاب جامعة أم درمان الاسلامية «لا نريد حزبية ولا نريد خيانة أمانة الشهداء الذين ضحوا من أجل الوطن». وقال عضو البرلمان سليمان طه مخاطباً المسيرة «ان العودة الى الأحزاب تعني ردة ونكسة وشيئاً يخالف الشريعة الاسلامية». وقال رئيس البرلمان السوداني الدكتور حسن الترابي مخاطباً مسيرة أخرى من محافظة شرق النيل في ولاية الخرطوم «ان الدستور المرتقب لن يخالف القرآن وانه سيأتي ضد القبلية والعصبية والحزبية».
من جانبه أبدى القيادي الاسلامي عضو البرلمان عصام أحمد البشير عدم ارتياحه الى المسيرات وقال «ان الدعوة الى التعددية لا تعني العودة الى الممارسات القديمة» وأكد ان «من حق أي جماعة ان تعبر عن رفضها لأي اقتراح لكن بصورة لا تتسبب في حدوث توتر».
ورفضت لجنة تابعة للبرلمان ادخال أي تعديل على المادة 27 المتعلقة بحرية تشكيل التنظيمات السياسية في الدستور بعد اعتراض عدد من النواب عليها. وحسم الجدل داخل اللجنة باجراء اقتراع أقر الابقاء على نص المادة كما تلقاها البرلمان من رئاسة الجمهورية. وأثار غموض في النص على حرية تشكيل الأحزاب جدلاً واسعاً واتهامات للحكومة بالتراجع عن موافقتها على اقرار حرية التنظيم. (الحياة 19/3/199.
ما أثار انتباهي
تعرض مشروع الدستور لنقد شديد من القانونيين والسياسيين باعتباره دستوراً معيباً في ديمقراطيته ومدى حرياته ولكن ما آثار انتباهي تصريح وتعليق لدفع الله الرضي رئيس اللجنة الفنية للدستور. وقال دفع الله ان الموضوعات الخلافية مثل الديمقراطية وتعريفها قد بدأت تتبلور وان أوراقاً عديدة تجري حالياً مناقشتها بواسطة اللجان الفرعية.
وأعلن ان هناك رأياً قد تتبلور حول التعددية الحزبية وألزم ذلك الرأي ضرورة ايجاد ضوابط للتعددية لتجنب الأخطاء الماضية. وقال ان من بين تلك الآراء برز رأي ينادي بضرورة وضع قانون للأحزاب يمكن ان يكون جزءاً من الدستور وذلك في هيئة جدول يكون ملحقاً له.. وعن المنابر ذكر ان البعض تحدث عنها لكنها كانت مجرد فكرة لم يتوفر لها التبلور اللازم.

وأشار الى ان تجربة نظام المؤتمرات قد طرحت ضمن البدائل لكن كل الذين نادوا بتطبيقها اشترطوا ايجاد اصلاحات على التطبيق الحالي. وقال البعض رأى انه يمكن الجمع بين نظامي التعددية والمؤتمرات.
وعن الموضوع الحريات ذكر رئيس اللجنة الفنية ان الرأي حول الحقوق قد تبلور عن امكانية حمايتها بواسطة المحكمة العليا «الدائرة الدستورية» باعتبارها المعنية بتفسير الدستور واعلان عدم دستورية القوانين.
وأشار الى ان رأياً أكبر اتساعاً قد برز حول من يحمي الدستور نفسه؟ خصوصاً وان الحماية الأساسية تكون بواسطة الشعب نفسه، لكن هذا الأمر يحتاج الى وعي وفهم شديد للدستور ومقاصده والى تعميق ذلك المفهوم حتى يتغلغل وسط قطاعات الشعب المختلفة، ويصبح أمر الدستور جزءاً من حياة الناس اليومية ويستقر في الوجدان بحيث لا يكون هناك مجرد تفكير في التقول على الدستور باعتباره أمراً مرفوضاً.
ورأى الرضي ان مسألة الانقلابات العسكرية كانت تشكل ظاهرة من الماضي وكانت لها أسبابها في العالم الثالث لكنها الآن انحسرت نتيجة الوعي السائد. وأضاف نحن ندرس الآن تجربة تركيا التي يحرس الجيش فيها الدستور وتجربة ايران التي يحرس القانون فيها مجلس الفقهاء المختص بحماية الدستور.
كما انه جرى تكليف بعض جهات الاختصاص باجراء دراسة أكاديمية بمسألة حراسة الدستور، وقال انه معلوم ان ايمان الناس ووعيهم سيؤدي الى انهاء ظاهرة الانقلابات العسكرية الا انه لابد من التحسب الى ان يتحقق الوعي اللازم بمرور الزمن ولابد أيضاً من استعراض الوسائل بحماية الدستور (القدس العربي 9 أكتوبر 1997).

ولكن البعض من المحامين انتقد قيام المحكمة الدستورية خارج السلطة القضائية، وقال حسن عبد الماجد المحامي ان انشاء المحكمة خارج القضاء يمس استقلالية القضاء ويهدف لأغراض سياسية وقال ان التعلل بنقص الكفاءات في الجهاز القضائي أمر غير مقنع باعتبار ان الحكومة هي التي قامت بفصل القضاة عبر الصالح العام.
أمن على ذلك مصطفى عبد القادر المحامي الذي قال ان قيام المحكمة خارج القضاء يمثل السابقة الأولى عالمياً وأوضح ان ذلك يتعارض مع قانون الاجراءات المدنية «83» والقضاء العسكري «96» ودعا الحكومة للابتعاد عن انشاء محاكم ذات صبغة سياسية.
لكن أمين بناني المحامي، عضو المجلس الوطني قال ان الخوف من انحياز المحكمة الدستورية قبل ان تبدأ أعمالها ليس له ما يبرره ودعا القوى السياسية لاتاحة الفرصة للمحكمة لممارسة عملها ومن ثم الحكم لها أو عليها، مشيراً الى ان المجلس الوطني سيظل مراقباً لأعمالها وقادراً على التدخل متى ما رأى الحاجة لذلك.
وقال بناني «للرأي العام» ان غالب القطاع القانوني بالمجلس الوطني دعا لأن تبقى المحكمة الدستورية جزءاً من المحكمة العليا إلا ان غالبية أهل المجلس رأت ان تمضي كما جاءت في مقترح رئيس الجمهورية خارج السلطة القضائية.
ودعا بناني الفريق البشير لاختيار أعضاء المحكمة من ذوي الخبرات والتجارب سياسياً وقانونياً من الذين عملوا بالمحكمة العليا تماماً كما استعان بكبار رجالات القضاة من أمثال النحاس ودفع الله الرضي وخلف الله الرشيد من أهل الحكمة والخبرة في مجالات ذات صلة بالعمل القانوني (صحيفة الرأي العام 29 يونيو 199.
الكارثة الحقيقية
يقول غازي سليمان ان الحكومة لم تودع مسودة الدستور التي أعدتها لجنة قومية برئاسة خلف الله الرشيد وأودعت مسودة بديلة، يقول: «اذا كانت بنود المسودة الأصلية تتكون من 206 مواد فإن المسودة البديلة التي أودعتها الحكومة أمام المجلس تتكون من 145 مادة فقط، أي ان هناك مواد تم اسقاطها جملة وتفصيلاً، أما الكارثة الحقيقية فهي اسقاط المادة 41ـ 1 من المسودة الأصلية والتي تقول:
للمواطنين الحق في التجمعات وانشاء التنظيمات السياسية والنقابية والثقافية والعلمية، تم اسقاط هذه المادة واستعيض عنها بالمادة 27ـ 1 وتقول: للمواطنين حق (التوالي) والتنظيم لأغراض ثقافية أو اجتماعية أو مهنية ولا تقيد ألا وفق القانون. وهذا يعني بكل وضوح الارتداد عن مبدأ اقرار حرية التنظيم السياسي والتداول السلمي للسلطة والرجوع عن التعددية والاصرار على النظام الشمولي».
وضرب غازي سليمان مثلاً آخر حول المواد التي تم تغييرها فقال: «يلاحظ أيضاً ان المادة 33 من المسودة القديمة التي تتحدث عن حق المواطنين في الأمن والطمأنينة وعدم التعرض للتعذيب قد تم حذفها جملة وتفصيلاً ولم يستعض عنها بأي مادة بديلة. أما المادة 35 من المسودة القديمة والتي تتحدث عن ضمانات الاعتقال والتي تقول:
يتوجب ابلاغ كل شخص يتم توقيفه واعتقاله بأسباب ذلك كتابة ويجب اخطاره باسم الشخص الذي قام بالاعتقال ومكان الاعتقال، ويجب ابلاغه سريعاً بأي تهمة توجه اليه وان يقدم خلال 24 ساعة للمحاكمة أو الافراج عنه، ولا يجوز اعتقال الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة، بل يجوز اطلاق سراحه بضمانات معقولة وغير مرهقة، هذا النص الذي يتوافق مع الحقوق السياسية والمدنية وحقوق الانسان تم استبداله بنص فضفاض من المسودة البديلة تحت الرقم 32 وتقول:
الانسان حر لا يعتقل أو يقبض أو يحبس ألا بقانون يشترط بيان الاتهام وتيسير الافراج واحترام الكرامة في المعاملة. هذا نص عام في تقديرنا لا يمنع التعذيب والاعتقال الاستبدادي السائد الآن) (صحيفة الشرق الأوسط 11 مارس 199. تحفظ الكثيرون من ذوي الاتجاهات الاسلامية على دستور 1998 لعدم ذكر الدين الرسمي للدولة وعلى المواد 24 و 25 الخاصتين بحرية العقيدة.

ويعلق الشيخ عطية محمد سعيد: «... وعدم النص في هذا الدستور على ان الاسلام هو دين الدولة الرسمي فيه استخفاف بالاسلام والمسلمين الذين يشكلون أغلبية ساحقة من السكان فكيف أغفل ذكر الدين الرسمي في دستور السودان في عهد الانقاذ في الوقت الذي ارتفعت فيه رايات الجهاد تعلن على الملأ عودة الاسلام الى الحياة مخضباً بدماء الشهداء من شباب الاسلام بالسودان .
وأخيراً انني أتساءل وأرفع صوتي حتى يسمعه ولاة الأمر الذين جاءوا الى السلطة على أكتاف الاسلاميين وبثقة الشعب السوداني المسلم هل هذا هو الدستور الذي ظلت الحركة الاسلامية تعمل له لأكثر من نصف قرن، وهل هو الدستور الذي من أجله وقف الاسلاميون في وجه الأحزاب وزعماء الطائفية والشيوعيون والعلمانيون وقوى الاستكبار في المشرق والمغرب.
وهل هو ذلك الدستور الذي سالت من أجله دماء شهدائنا في الناصر وبور وتلشي وتوريت وتركاكا وجبل سندرو. اللهم لا. (صحيفة الرأي العام 20 مايو 199. أميل للاستشهاد بمظاهر تراجع أهداف المشروع الحضاري من خلال كتابات ومواقف الاسلاميين و(الاسلامويين) أنفسهم. فهذا رجل أفنى عمراً طويلاً يدعو لدولة اسلامية وهو قد عاش ليرى رفاقاً له يسنون مثل هذا الدستور الوضعي ومع ذلك يتحدثون عن عدم تراجعهم عن الشريعة.
تصاعدت حملة أئمة المساجد والدعاة في السودان ضد الدستور الجديد. ونشطت الجماعات الاسلامية في توزيع المنشورات المعارضة للدستور في المساجد والجامعات ودعت الى اسقاط مشروع الدستور الذي سخرت له الحكومة كل امكاناتها البشرية على أعلى المستويات وجندت له كل أجهزتها الاعلامية لحث المواطنين على المشاركة في الاستفتاء واجازة مشروع الدستور الذي وصفه الاعلام الحكومي بأنه الحدث السياسي الأبرز بعد استقلال السودان في العام 1956.
الى ذلك أصدر طلاب أنصار السنة في الجامعات بياناً سياسياً انتقدوا فيه مشروع الدستور، وقالوا انه أشار الى الاسلام في خمسة مواضع «غامضة المعنى ضبابية المضمون». وقالوا ان الدستور لم يحدد هوية البلاد ولم يحسم أمر الدولة الاسلامية وأعطى الديانات الأخرى شرعية دستورية في أول سابقة من نوعها في السودان، في وقت حسمت دول اسلامية كثيرة هذه المشكلة بجعل الاسلام دين الدولة الرسمي.
وقال البيان ان المادة الرابعة ذكرت ان الحاكمية لله وهي كلمة فضفاضة لا تعني الشريعة الاسلامية، واعتبروا المواد (1، 4، 24، 33، 37، 65، 139) مخالفة لمقاصد الشريعة الاسلامية وانه جاء مخيباً للآمال، ويعتبر علمانياً والمشاركة في الاستفتاء عليه جريمة. وقد أعربت الجماعة انها كانت تأمل ان يجيء الدستور محدداً للهوية الاسلامية للأمة السودانية ولكن جاء عكس ذلك. (صحيفة الحياة 11 مايو 199.
وأصدر مجلس أمناء هيئة حفظة القرآن الكريم بياناً، قال فيه انه «بعد الاطلاع على وثيقة الدستور، ثبت ما يلي: لقد رد الدستور الأمر كله لله رب العالمين تشريعاً ومنهجاً، لصالح الدنيا والآخرة، وأمن الدستور على ان العمل عبادة لله تعالى، جاءت معاني القرآن الكريم ومضامينه منثورة بين مواد الدستور ومستلهمة فيه، وكفل الحريات العامة وحرية العبادة، وبين الحرمات والحقوق والواجبات، وعليه يمكننا بكل اطمئنان الاقرار بأن وثيقة الدستور تلبي طموحات شعب السودان، ويجب الحفاظ عليها».
وقالت جماعة الأخوان المسلمين، التي يقودها الصادق عبد الله عبد الماجد، «ان القول بأن الشريعة الاسلامية واجماع الأمةـ استفتاء ودستوراً وعرفاًـ هي مصادر التشريع، قول يحتاج الى وقفة». وأضافت ان «الدستور حمل مخالفات شرعية، منها انه لم يشترط ان يكون الحاكم مسلماً.
وهذا أمر لا يملك أحد تغييره أو انقاصه، ثم انه جعل مصدر التشريع مشتركاً بين الشريعة ومصادر أخرى، من استفتاء وعرف، وهذا أمر لا يملك أحد ان يغيره أو يضيف اليه أو ينتقص منه، فالشريعة عند المسلمين هي مصدر التشريع، ولا نحتاج لغيرها، فهي المهيمنة على كل أمر خارج عنها، ولا يجوز شرعاً ان يلي قضاء المسلمين غيرهم، والدستور جعل غير المسلم يمكن ان يحكم بين المسلمين، فكيف يطلب من المسلم ان يطيع حاكماً أو قاضياً غير مسلم، ومن الأمور التي يجب النص عليها حكم المرتد، الذي أغفله الدستور».
وأضاف البيان ان «هذه الأمور وغيرها مما يتعلق بالمسائل التي لا حق لأحد الاجتهاد فيها بتغيير أو انتقاص هي مما وردت به النصوص». وأصدرت الكنيسة الكاثوليكية «خطاب حقائق» حمل رأيها في الدستور، ووصفته بأنه «دستور اسلامي»، وناشدت رعاياها «عدم المشاركة في الاستفتاء» لأن «الدستور المعروض اسلامي»، وقالت «ان أحداً لم يستشرنا عند وضع الدستور، وهو لا يحمل وجهة نظرنا، والحكومة مصرة على انتهاكات حقوق الانسان» (صحيفة الشرق الأوسط 11 مايو 199.
حسب المناسبات
يبدو ان الموقف من الدستور، يتحدد حسب المناسبات في مخاطبة الفريق البشير لحشد طلابي بمناسبة الذكرى السنوية «لملحمة الميل 40» قال: «ان عهد الانقاذ للشهداء هو ان لن نتراجع ولن تنتكس تلك الرايات التي حملها المجاهدون والدبابون، ولن نتراجع عن الشريعة الاسلامية مهما تكالب علينا الأعداء وسنرد عليهم بمزيد من الجهاد «الدبابين» ويضيف:
«نقول لبعض الحالمين بتراجع الانقاذ أننا مجتمع اسلامي شورى وبايعنا الشعب السوداني على بسط الشورى ولكن الشورى لا تعني الردة والانتكاسة والعودة الى ما قبل 30 يونيو» وقال للحشد: «ان التعددية لا يصنعها الذين يكتبون في الصحف أو يتحدثون في التلفزيون» (الشرق الأوسط 19 مارس199.
تعتبر الانقاذ ان مشروع دستور 1998 أهم انجازاتها وانعكست التطورات الداخلية والخارجية على الدستور. وقد اشتملت مواده على أفكار يصعب نسبتها الى الاسلام. تقول المادة الأولى عن طبيعة الدولة: «دولة السودان وطن جامع تأتلف فيه الأعراف والثقافات وتتسامح الديانات، والاسلام دين غالب السكان، وللمسيحية والمعتقدات العرفية أتباع معتبرون» وهذا موقف شديد التسامح غريب على (الاسلامويين)، اذ لم يقل ان الاسلام المصدر الرئيسي أو الوحيد للتشريع.
وفي المادة الرابعة: «الحاكمية في الدولة لله خالق البشر، والسيادة فيها لشعب السودان المستخلف، يمارسها عبادة لله وحملاً للأمانة وعمارة للوطن وبسطاً للعدل والشورى، وينظمها الدستور والقانون». وتنص المادة السادسة عن الوحدة الوطنية: «الوطن توحده روح الولاء، تصافياً بين أهله كافة، وتعاوناً على اقتسام السلطات والثروات القومية بعدالة دون مظلمة.
وتعمل الدولة والمجتمع على توطيد روح الوفاق والوحدة الوطنية بين السودانيين جميعاً، اتقاء لعصبيات الملل الدينية والحزبية والطائفية، وقضاءً على النعرات العنصرية» وتحدثت المواد من العشرين حتى الثانية والثلاثين عن الحريات وجاء كأنه اقتباس من مواثيق وصكوك حقوق الانسان العالمية عدا المادة (26) التي تقول:
(أ) للمواطنين حق التوالي والتنظيم لأغراض ثقافية أو اجتماعية أو مهنية أو نقابية لا تقيد الا وفق القانون. (ب) يكفل للمواطنين الحق لتنظيم التوالي السياسي، ولا يقيد الا بشرط الشورى والديمقراطية في قيادة التنظيم واستعمال الدعوة لا القوة المادية في المنافسة والالتزام بثوابت الدستور، كما ينظم ذلك القانون.
مفهوم التوالي
ظل الترابي يواصل ممارساته الفقهية واللغوية ويلعب بالبيضة والحجر فهو يريد النظام الشمولي ليضمن السلطة وفي الوقت نفسه تزايدت الضغوط الداخلية والخارجية على نظام الانقاذ الذي جاء السلطة بالانقلاب العسكري بعد ان أصبحت الانقلابات كالزائدة الدودية في الجسم السياسي وتجاوزها التاريخ وصار الجنرال الآتي بالانقلاب مثل انسان الكهف المشعر.

وفي وسط حيرة الترابي المجدد الاسلامي وصاحب الثقافتين: الاسلامية والغربية والممارس للسياسة في تعددية السودان التي يعيب عليها القصور ومع ذلك يمارس السلطة داخل مؤسساتها، في هذا الجو المتناقض تفتق ذهن الترابي عن مصطلح التوالي. فقد نصت المادة الفقرة الثانية من المادة 27 من مشروع دستور السودان لسنة 1998 على:
«يكفل للمواطنين الحق في التنظيم التوالي السياسي ولا يقيد الا بشرط الشورى والديمقراطية في قيادة التنظيم واستعمال الدعوة لا القوة المادية في المنافسة والالتزام بثوابت الدستور كما ينظم ذلك القانون». وأصبحت كلمة «التوالي السياسي» هي شاغل الناس وأثارت المخاوف وهي كلمة حمَّالة وجوه كثيرة. قدم الترابي تفسيراً لكلمة التوالي السياسي المثيرة للجدل.
والتي وردت في مسودة الدستور بدلاً من حرية التنظيم السياسي، وانها تعني التفاعل المستمر لحركة المجتمع وتفيد انه من حق أي أشخاص الاجتماع والموالاة لعرض سياسي أو ثقافي أو اجتماعي وفقاً للقانون بعيداً عن استعمال القوة المادية وبضوابط الشورى والديمقراطية في قيادة التنظيم (صحيفة «البيان» 16 مارس 199.
من جهة أخرى يقول «علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية السوداني ان حرية التوالي والتنظيم الواردة في مسودة الدستور الدائم قصد بها الاشارة الى اننا نحاول في اطار التأصيل ومعالم شخصيتنا ان نتوصل الى تنظيم لحركة التداول السياسي من خلال ترتيبات خاصة بنا وليس عن طريق البناء على ما هو موجود من التجارب الأجنبية.
وأضاف ومن هنا أتت كلمة التوالي بظلالها اللغوية الأصيلة وبظلالها الواسعة بحيث لا تقوم حرية التنظيم على الموالاة السياسية فقط بل أعمق من حيث التوالي الاجتماعي ومن أجل قيام برنامج واسع يحدث وقعاً في الحياة ولا يقتصر على الناخبين. وأكد ان التوالي ليس حكراً للمنبرية أو التنظيم السياسي بمعناه الذي عهده الناس ولكنه اطار لكي تبنى عليه التجربة القادمة بعيداً عن اتفاقات الماضي.

وفي حوار مع د. مجذوب الخليفة نجد موقفاً آخر:
ـ «يتخوف البعض من ان مصطلح التوالي يحمل في طياته شمولية جديدة، وفي أحسن أحواله ديمقراطية شبيهة بديمقراطية السادات. ما تعليقكم؟
ـ أولاً قبل ان أصل الى هذا ان موقف الانقاذ في مسيرتها مع المعارضين، ان عادوا الى السودان ووافقوا على الدستور كما دخل الرسول (صلى الله عليه وسلم) مكة، وقد دخلنا مكتنا في الانقاذ وانجزنا ما وعدنا وأكملنا برنامجنا وديننا ورضى الله عنا ان شاء الله وعن السودانيين عامة نقول لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء، فاني أسميهم الطلقاء الآن وأقول لهم من دخل الاجماع الشامل حول البيت وطاف فهو آمن.
ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أراد ان ينأى بنفسه في تنظيم خاص به فهو آمن مع الثوابت، ومن قفل داره فهو آمن، مع الثوابت هذه صورة التنظيمات الجديدة في اطار الثوابت الشيء الآخر، نحن لم نشوه الشورى، ولن نقدم ألا شورى حقيقية يرضى عنها الله سبحانه وتعالى، ويرضى عنها مجتمع السودان في حرية ان يقول الشخص رأيه وان يتطلع الى المشاركة .
ولا رقيب عليه الا الله سبحانه وتعالى ثم الثوابت بالدستور ولم يبدأ في مسيرتنا كما بدأت الثورة المصرية، ولذلك لم تنته الى ما انتهت اليه في عهد السادات من صورة ما للديمقراطية كانت اجتهاداً وفق بلادهم ووفق أحوالهم، ولكننا نتطلع ان نقدم نموذجاً للعالم كله وفي نظرنا سيكون أجمل ما طبق في الوطن العربي وحتى في الدول الغربية». (القدس العربي 31 مارس 199.
ضجة بلا طائل
أثار تعبير التوالي السياسي حفيظة الكثيرين من بين المهتمين بالدور السياسي للاسلام وعلاقته بالديمقراطية. ولم يقف الأمر عند علمانيين أو متغربين، بل وقف البعض من داخل الحركة الاسلامية نفسها ضد هذه الحيل الفقه/سياسية التي يمارسها الترابي. فقد تصدى الأستاذ فهمي هويدي في مقال بعنوان:
(«بدعة التوالي» أضعفت مصداقية مشروع الدستور السوداني) بصحيفة الشرق الأوسط 4 مايو 1998 للمفهوم لأنه يضر بوضوح موقف الاسلاميين من الديمقراطية والتعددية خاصة حين يأتي من شخص كالترابي سمعه يقول: «ان الديمقراطية سنة الأنبياء ويجب ان تكون العقيدة المطلقة للحركة الاسلامية» وذلك في خطبة عامة خلال الثمانينيات.
فهو يؤكد غموض النص حيث استبدل في المشروع مسألة حق المواطنين في تنظيم «التوالي» السياسي بحقهم في انشاء التنظيمات السياسية. ورجع الى دراسة لكمال الجزولي نشرت في صحيفة «الرأي الآخر» قال فيها ان لفظ «التوالي» يأتي في «لسان العرب» تحت مادة ولى التي جرى تحريرها في سبعة عشر عموداً ربما لا يقل عن أربعين معنى باشتقاقات بلا عدد أو حد، الأمر الذي يثير أكثر من سؤال حول المقصود بالتوالي في الدستور. ويخلص الأستاذ هويدي الى ان المشكلة ليست في المصطلحات بل هناك قضايا تحتاج الى أجوبة.
فهناك جدل برز حول التعددية السياسية، هل هي اسلامية مرغوبة أم كفرانية مرفوضة وهذا يمثل انتكاسة ثقافية وسياسية لأن هذا الموضوع حسم في العالم المعاصر والاختلاف ليس حول المبدأ بل حول الآليات والكيفية. ثانياً اعترف المشروع بالتعددية الثقافية (لأنها واقع) ولكنه عالج التعددية السياسية بغموض تمثل في اللجوء الى مصطلح التوالي.
يبدو ان ادخال تعبير التوالي السياسي، لاحقاً، كان بمثابة استدراك ووضع ضمانات قانونية يمكن الرجوع اليها لتقييد التعددية. فقد ظهر أثناء نقاش لجان الدستور المتخصصة ان أعضاء المجلس الوطني من (الاسلامويين) (أعضاء المؤتمر الوطني) يخشون عودة التعددية. قال العقيد يونس محمود ان التعددية ردة عن المبادئ، خاصة .

وان الانقاذ كان مجيئها على أنقاض الأحزاب ولا معنى للعودة لها مرة أخرى. وأضاف ان كلمة توالي في المادة 27 المقصود والغرض منها تقييد شكل التنظيم ومبادئه حتى لا تأتي تنظيمات تطيح بالمؤتمر الوطني. تساءل عن سر الحديث عن التعددية بعد رفضها في السابق هل هو خوف من الغربيين. وقال ان العودة الى عهد الحزبية مرة أخرى بمثابة نكوث عن المبادئ.
وطالب محمد أحمد الفضل بتضمين نصوص واضحة فيما يتعلق بالمادة 27/1 والاشارة بوضوح ألا حكم للأسر والبيوتات. وقال يجب ألا نتحدث عن التعددية لمجرد ارضاء المعارضين. وتساءلت علوية علي موسى عن سبب غموض هذه المادة وقالت يجب ألا نتحرج ونحدد رأينا هل نحن حزبيون أم غير حزبيين لأن ذلك يهم القواعد التي نمثلها.
قال محمد الحسن الأمين بأن هناك نظرة ان التعددية ربما أعادت زعامات أخرى للحكم مثل الصادق والميرغني وغيرهم، ولكن يجب عدم الخوف من ذلك لأنه يمكن النص على تجريم الأحزاب التي تقوم على الأسس الطائفية. وقال مكي بلايل ان الدستور تناول ثلاثة أشياء الحاكمية لله والسيادة للشعب والحرية للناس.
وان النص على التعددية واضح غير مفهوم شرعية التنظيم ولذلك فان كلمة توالي تعيق هذا الفهم يجب الغاؤها. أما يس عمر الامام فيرى ان البحث عن الاجماع بحث عن المستحيل وكلمة توالي تعبير عن التجانس والادارة والمنهج الواحد ويفهم التوالي بمعنى التعدد بشرط ألا يكون جهوياً أو عنصرياً أو وراثياً أو موالاة لقوة أجنبية (رصد صحيفة «البيان» 16 مارس 199.

Post: #10
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: tariq
Date: 10-21-2004, 02:45 PM
Parent: #1


سقوط المشروع الحضاري في السودان ـ الحلقة السابعة
اتجاهان في التعامل مع مفهوم غامض، «الجبهة» تهدر إمكانية تقديم نموذج لتوافق الإسلام والديمقراطية
تأليف :د. حيدر ابراهيم
أعود إلى تأكيد أن الحركة الإسلامية / «الإسلاموية» لا تتوافق مع فكرة الديمقراطية والتعددية خشية الاختلاف والفتنة ويدافع الترابي عن مفهوم التوالي ويفسره بالحرية والتعدد شرط التوحد ونبذ التفرق، وأن وثيقة الدستور نابعة من الدين والعرف وحولت التباين السوداني إلى توحد.
ويرى في الفترة الحالية أن المشكلة ليست من يحكم بل هي قضية توجه نحو مجتمع حضاري، ويرى أن المؤتمر الوطني يهدف لجمع كل الطاقات والتجارب السابقة حتى يوجد إطاراً واسعاً.
وقال: «ان العالم كله يستقبح الحزبية والعصبية» وأنه شخصياً يستقبح وجه الحزبية والعصبية القديمة ولا يريد وجهاً آخر يستقبحه وأنه لا يمكن الخروج من الدين من أجل الوفاق. (في برنامج تلفزيوني رصد صحيفة الشرق الأوسط 5 إبريل 199.
وغريب هذا الاستقباح فالحزب حسب أحد التعريفات هو: «ممارسة سياسية أي تحرير الإمكانيات الشعبية من قيودها كي تمارس حضورها الفاعل في الشأن اليومي الذي هو شرط الفعل السياسي من حيث هو فعل وطني جماعي».
«الإسلامويون» يرفضون أو يتعالون على الديمقراطية باعتبار شمولية وكمال النظام الإسلامي، المصطلح المفضل لدى الكثيرين منهم فهو أكبر من مفهوم الدولة وقد يشمل المجتمع كله على أن يكون موحداً تماماً. ففي سؤال وجيه لغازي صلاح الدين، يقول: «مشكلة كثير من الحركات الإسلامية أنها حين ترفع شعارات تطبيق الشريعة الإسلامية والإسلام هو الحل تتوهم مباشرة أنها الوصية على الدين كله فتتخلى عن المبادئ الديمقراطية كيف تنظرون لهذه المسألة من واقع تجربة عشر سنوات لحكم الإنقاذ في السودان؟» كان رد غازي:
«نحن نؤمن بالإسلام ابتداءً لأن الديمقراطية والتجارب الإنسانية الأخرى في إدارة الحكم مسائل لاحقة والمؤمن مكلف أن يعتقد الاعتقاد الصحيح ويعمل للدنيا والآخرة» (صحيفة المستقلة اللندنية 31 مايو 1999) وفي سؤال عن ديمقراطية الدستور، أجاب: «كلمة ديمقراطية كلمة فضفاضة جداً وتحتاج إلى تعريف وأحتاج إلى القول هنا أنه ليست كل ديمقراطية إسلام وليس كل إسلام ديمقراطية».
هدر الامكانية
كانت تجربة «الإسلامويين» في حكم السودان فرصة لتقديم نموذج واقعي لعدم تناقض الإسلام والديمقراطية. فقد كان بعض المفكرين المسلمين يحاولون إبراز ديمقراطية (وليس شورى) الإسلام مقابل ديمقراطية. فهناك كتاب مثل العقاد ومالك بن نبي وغيرهما عقدوا هذه المقارنة. وكان هناك اتجاهان في التعامل مع مفهوم الديمقراطية.
الأول يراها فلسفة ورؤية للكون، فهي ليست مجرد آليات لطرق الحكم إنما مشروع غربي مارس القهر والذل على المسلمين ويعكس خطابه الإعلامي على الأقل عداء ظاهراً. لذلك يقول أبو الأعلى المودودي أن الديمقراطية ليست من الإسلام في شيء فلا يصح إطلاق كلمة الديمقراطية على نظام الدولة الإسلامية. ويرى أن مصطلح الحكومة الإلهية أو الثيوقراطية الأصدق في التعبير عن النظام الإسلامي ولكنها تختلف عن الثيوقراطية الأوروبية.
كما يرى آخرون أنها تعطي الفرد الحرية المطلقة وتساوي بين الإيمان والألحاد. أما الاتجاه الثاني فيرى أنها مصطلح حيادي وقابل للتبني بدون أن يكون هناك خطر على الهوية الخاصة. وأن الديمقراطية ليست عقيدة ولا تتضمن موقفاً عقائدياً أو فكرياً بذاتها مثل الماركسية ولا تتضمن موقفاً رافضاً للعقيدة كالليبرالية مثلاً. إنها صيغة لتحويل الحرية إلى نظام حياة. (محمد حسن الأمين مجلة العالم السنة 19 العدد 417 فبراير 1992).
يؤكد مشروع حكومة الجبهة الإسلامية من البداية على ضرورة قضية الدولة المتكاملة ويحاول المشروع تفكيك لا شرعنة الدولة الليبرالية وأن تحل محلها جماعة إسلامية أو المجتمع حسب فهمهم. وقد صرح الترابي بقوله: «أن المجتمع هو المؤسسة الأولية في الإسلام وليس الدولة» (المائدة المستديرة في 10 مايو 1992 في تامبا، مركز دراسات الإسلام والعالم) وهذا ما يسميه الترابي حياة التوحيد وهي ليست مجرد التوحيد الديني بل غياب الاختلاف في كل مناحي الحياة والوجود وبالتأكيد السياسة على قمة ذلك، يقول:
«لا ينبغي للمجتمع أن يعمل على نهج والأسرة على نهج آخر والدولة على نهج ثالث. سيتصادمون ويتناسخون فيتساقطون جميعاً وما تغذيك به بيئة المنزل يسلبه منك إعلام الدولة وما تغذيك به الدولة يعاكسك فيه أثر المجتمع. لابد من قيام مجتمع التوحيد الذي لا يعرف فرقاً بين تربية أسرية وتربية قانونية ولا بين تربية اجتماعية وتربية رسمية بل يسخر وسائل التأثير التي تحيط بالمرء من أي الجهات كانت حتى تسير متحدة فتذكر الناس بحياة واحدة هي حياة التوحيد» (الترابي. مشكلات تطبيق الشريعة الإسلامية ص 11).
ويرى الترابي «أن المجتمع الإسلامي الأمثل هو الذي يحصر وظائف السلطة فيما لا يتم إلا بالسلطة فقط ويوسع وظائف المجتمع بكل ما يمكن، لأن ذلك يعني أن غالب الحياة يديرها المجتمع بغاية دينية خالصة لا تشوبها شائبة باعث وضعي أو أرضي» (ص، 10 ، 1992) .
ويؤكد أحد منظري المشروع الحضاري فكرة تفكيك الدولة وإذابتها في المجتمع وهو في حالة الإنقاذ التنظيم الحاكم لأن بقية المجتمع لا تشارك في السلطة. لأن السلطة لا تنبثق من المجتمع بل تنزل الدولة وكأن المطلوب من المجتمع أن يصبح شركة مساهمة توزع أسهم السلطة أو جهاز الدولة على أعضاء التنظيم، يقول:

«غير أن خط الحركة الإسلامية الحديثة المتمثل في تفكيك دولة ما بعد الاستقلال العلمانية وإعادة ربطها بمنظومة المفهومات والقيم الإسلامية لم يتغير أبداً. صحيح أن مثل هذه المحاولة التأصيلية الكبرى لن تمر بسهولة، فسوف تنشط القيادة الطائفية لتحافظ على الوضع الراهن. كما سينشط حلفاؤها في الداخل والخارج لإحكام المحاصرة وعرقلة أي خطوة في اتجاه إقامة الدولة الإسلامية في السودان، ألا أن العامل الحاسم سيكمن في قدرة الحركة الإسلامية السودانية على مقاومة الانشقاق الداخلي» ( ص، 35 ـ 54، 1992) وهذا ما عجزت عنه الحركة وبالتالي تحولت إلى صاحبة دولة استبدادية.
ضبط المعادلة
يقدم حازم صاغية تحليلاً دقيقاً لتطور الدولة لكي تكون استبدادية، يقول: «الدول ذات الأيديولوجيا التوحيدية كانت الأكثر توطيداً للسلطة، فإن مفارقتها الكبرى أنها هي نفسها الأكثر إساءة للدولة بفكرتها كما بواقعها. فهي، في سلطويتها الطائفية، جمعت أسوأ الاستبداد الشرقي إلى أسوأ الاستبداد الحديث.
من الأول استمدت معادلة السياسة بالسلطة مضافاً إليها انعدام الرقابة على القرار، والاستزلام والتنفيع والمحسوبية. ومن الثاني اعتمد الحزب الواحد وتمت تقوية الجيش وتعزيز المخابرات، فضلاً عن توسيع القطاع العام الذي تمسك بخناق الحياة الاقتصادية للمجتمع بأسره» ( ص، 48، 1999).
من أهم تناقضات «الإسلامويين» مع الديمقراطية الموقف من المجتمع المدني، تبتلع المجتمع لأنها تسيطر على كل مناحيه ابتداء من الملبس وحتى حق التصويت. أدرك الترابي هذه الإشكالية، لذلك اهتم بما أسماه:
ضبط المعادلة بين المجتمع والدولة في بناء الحياة الإسلامية. يقول: «ما يحدث الآن في السودان هو ضبط المعادلة بين المجتمع والدولة في بناء الحياة الإسلامية.
والقضية اليوم هي التوازن والتكامل بين الطرفين. فالمجتمع يجب أن يتمتع بحرية واسعة في المجالين السياسي والاقتصادي والدولة تقوم بضبط الشذوذ عبر القوانين والسياسات. وأشار الترابي إلى أن الدولة تعيد الآن إلى المجتمع الكثير من السلطات السياسية التي كانت تحتكرها فتفتح نظام المؤتمرات والمجالس وتعيد إلى المجتمع النظام الاقتصادي فتحوله من قطاع عام إلى قطاع خاص يتولى التنمية والتكامل» (القدس العربي 12 مارس 1992).
من الواضح أن الترابي والإسلامويين عموماً يخلطون بين المجتمع والحركة الإسلاموية (الجبهة الإسلاموية القومية ثم المؤتمر الوطني) ويبررون ذلك بقولهم أن المجتمع السوداني مسلم بأكمله، فالإسلام الشعبي يدعو إلى عودة الحياة العامة إلى الدين ـ حسب رأيهم ـ وبالتالي أصبح الإسلام دين الراعي والرعية.
ويكشف الواقع كيف يحتكر أنصار الحركات السلطات السياسية ويهيمنون على الاقتصاد من خلال عملية الخصخصة التفضيلية، وعلى الرغم من إبعاد وتهميش كل المعارضين والمخالفين عن مجالات إصدار القرار السياسي ومصادرة الثروة، إلا أنهم ـ أي «الإسلامويين» ـ يدلسون فكرة المجتمع والحزب الواحد.
هذه الحقوق المهدرة
في مواجهة صحفية ساخنة مع إبراهيم السنوسي، وهو من القيادات النافذة والمتشددة داخل الحركة الإسلاموية، ومن المقربين للترابي الذي كلفه بمهام حساسة فقد كان نائبه كأمين عام في المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، ثم صار الأمين العام وتقلد منصب والي شمال كردفان، ثم انشق مع الترابي وانضم للمؤتمر الشعبي، كان السنوسي صريحاً بعد أن تغيرت الأمور ووجد نفسه خارج السلطة.

لذلك جاءت إجاباته عن التعذيب وبيوت الأشباح والممارسات غير الإنسانية، لتعترف وتبرر أفعال الحكام «الإسلامويين» بعد أحد عشر عاماً من الحكم وعلى الرغم من أنه كان يحاول التهرب من الإجابة عن الأسئلة الخاصة بالتعذيب ولكن الصحافية التي أجرت الحوار كانت حاذقة واستنطقته جيداً وأدخلته في مآزق أخلاقية كان يحاول تجنبها، ففي سؤال يقول:
يرى البعض أن انتهاكات حقوق الإنسان التي تمت في عهدكم كانت سبباً في انهيار العلاقات مع دول الجوار والعالم الأوروبي ما رأيكم في ذلك؟ أجاب: «عجبت أن تكون انتهاكات حقوق الإنسان كانت سبباً لسوء العلاقات بين السودان والدول العربية وأميركا وهل كان السودان وحده محلاً لانتهاكات حقوق الإنسان والعالم العربي ليس محلاً لانتهاكات حقوق الإنسان؟» .
بهذه الطريقة يحاول «الإسلاميون» تبرير الخطأ بخطأ آخر فهل تبرر تلك الانتهاكات أن يقوم أصحاب المشروع الحضاري بمجاراتهم وهم الآتون بمشروع رباني وأخلاقي، ويؤكد دائماً تمايزهم واختلافهم ولكن في هذه الحالات الحرجة يساوون أنفسهم مع الآخرين العاديين. ويرى السنوسي أن انتهاكاتهم مختلفة في أسبابها وأشكالها، يقول:
«أما ما حدث في الإنقاذ فإن (الإنقاذ) جاءت عبر بوابة العسكرية وفي ظروف استثنائية قلتها من قبل ذلك حيث كان السودان مهدداً في وحدته وفي معتقداته وكان لابد من تلك الإجراءات الاستثنائية من اعتقالات التي انتهكت فيها الإنقاذ حقوق الإنسان وهذا أمر لا نوافق عليه ولا نقره. وهذا ليس خوفاً الآن من أي جهة تحاسبنا ولكن خوفاً من الله سبحانه وتعالى ولو حدثت تلك الممارسات ندينها ولا ندافع عنها. » مسألة الأوضاع الاستثنائية والمهددات لا تبرر بأي حال تعذيب المعارضين لأن التهديد في هذه الحالة يكون للنظام الحاكم .
وليس للدولة والوطن. وفي سؤال آخر يجيب بضيق واضح: «وأنا لست من المنكرين بأنني واحد من قيادات الإنقاذ وكل الذي حدث من انتهاكات لحقوق الإنسان كان باجتهادات وكنا نرى فيه مصلحة للإسلام وللسودان حين أقدمنا على استلام الحكم وإن كان فيه خطأ فليغفر لنا الله سبحانه وتعالى وإن كان فيه صواب فان الله يجزينا عليه ثواباً وهذا شيء طبيعي!» (حاورته عفاف أبو كشوة، الصحافة 9 سبتمبر 2000) لا أدرى هل يتوقع الثواب على بيوت الأشباح والتعذيب حتى وإن كانت من أجل الإسلام والسودان؟
كرر حسن الترابي المنطق المعوج والمتهرب نفسه عند تطرقه لانتهاكات «الإسلامويين» لحقوق الإنسان، بالذات أثناء رحلته إلى بريطانيا والولايات المتحدة في مايو 1992. فقد تمت مواجهة الترابي في لندن وواشنطن بحالات محددة. ففي مطلع رحلته، وأثناء محاضرة عامة فاجأه محام شاب بترت ساقه بعد تعذيب في بيوت الأشباح، فقد وقف المحامي عبد الباقي عبد الحفيظ الريح في قلب القاعة ملوحاً بساقه الاصطناعية .
وقال بأن الأطباء في بريطانيا صنعوها له بعد أن اضطروا إلى بتر ساقه نتيجة التعذيب الذي تعرض له في مقر تابع لجهاز الأمن. لم يحاول الترابي أن يعد بالتحقيق في الحادثة وهو القانوني الشهير في اللحظة، وتجاهل الموقف ولكن في إجابة لاحقة على سؤال يقول: أثناء محاضرة لك في لندن في 27 إبريل الماضي أثبت محام سوداني أن ساقه بترت بعد التعذيب في مراكز الأمن السوداني؟
رد الترابي: «لم يثبت المحامي شيئاً. ولأنه فقد ساقه لم أشأ أن أجادله في حقيقة قطع ساقه. فأنا أعلم أنه قد بترت ساقه لأسباب صحية لأنه أصيب بالسرطان، وبعد ذلك حاولت المعارضة أن تستعمل هذه المأساة الإنسانية الصحية لأغراض سياسية. فلم يثبت المحامي شيئاً» (صحيفة الحياة 14 مايو 1992).
يقتضي الموقف الأخلاقي والديني والقانوني أنه طالما لم يثبت المحامي شيئاً، أن يثبت الترابي شيئاً آخر مخالفاً من خلال فتح التحقيق ثم إصدار بيان بنتائج هذا التحقيق. ولكن الترابي ورفاقه من «الإسلامويين» دأبوا على الاستخفاف بالشعب السوداني. إذ خلال هذه الرحلة نفى باستمرار أن ممارسات «الإسلامويين» هي انتهاك لحقوق الإنسان في السودان وفي مايو 1992 ألقى محاضرة مع نقاش مائدة مستديرة (10 مايو في منظمة دراسات الإسلام والغرب ).

وفي سؤال عن التعذيب والذي وصلت أصداؤه كل العالم ونشطت منظمات حقوق الإنسان. تعامل الترابي باستخفاف ولم يكلف نفسه كقانوني بالرد أنه ـ مثلاً ـ سيطالب بالتحقيق حين يعود، بل قال : السودانيون حساسون لكرامتهم فقد يسمون الكلمات الخشنة أو الإضاءة الشديدة أو التحقيق في منتصف الليل «تعذيباً».
وطالما الترابي يعرف حساسية السودانيين فلماذا يعرضهم نظامه لهذه التجارب المهينة؟ ولماذا اعتقل أصلاً وهل تم الاعتقال بطريقة قانونية؟ وفي مجلس النواب الأميركي أمام اللجنة الإفريقية التابعة للجنة العلاقات الخارجية خلال دفاعه عن سجل النظام في حقوق الإنسان رفض المقارنة بين اعتقال 20 إلى 30 شخصاً في السودان (حسب قوله) وبين دول أخرى تعتقل أكثر من 50 ألف شخص.
وكرر القول ان سجل السودان ليس الأسوأ في المنطقة، لذلك اعتبر إغلاق الجامعات مسألة عادية في كل العالم. وعن الهجرة الجماعية للسودانيين، يقول: «ان الناس يخرجون من السودان في كل العهود وهذا أمر يحدث في كل الدول» ولا يهم الأسباب والأعداد عند الترابي في هذه الحالة وهو الذي قبل رفض المقارنة بين أعداد المعتقلين في السودان وفي البلدان الأخرى. وكان الأجدر به أن يهتم بالمبدأ وليس الكمية لأن اضطهاد وتعذيب مواطن واحد هو خرق لقاعدة أخلاقية وإنسانية.
سؤال وجيه
في مقابلة صحافية مع الرئيس عمر البشير خلال الأيام الأولى، سئل: ماذا عن عملية تعذيب المعتقلين؟ أجاب: ان التعذيب المزعوم هو أيضاً من أكاذيب خصوم الثورة ومعظمهم من كانوا في المعتقلات هم الآن في الشارع ومن وجدت عليه آثار تعذيب فلماذا لا يظهرها للناس! (مجلة الملتقى 1- 15 مارس 1990 العدد الأول، ص 9). على الرغم أنها ليست هذه هي الطريقة القانونية للتحقق من صحة التهمة، فقد رأيت في ذلك الوقت آثار تعذيب على ظهور مواطنين من بينهم د. فاروق محمد إبراهيم.

لم يتخذ «الإسلامويون» أصحاب المشروع الحضاري أي مبادرة تثبت التزامهم وفق تعاليم الدين أو أعراف السودان أنهم ضد التعذيب والاعتقال والفصل التعسفي، وحتى هذه اللحظة يتهرب «الإسلامويون» من هذا السجل المخزي. وفي محاولة ساذجة للتمويه دعت الحكومة لمؤتمر في 11- 13 يناير 1993 تحت عنوان:
«حقوق الإنسان في الإسلام». ولكن نشكر الضغوط الخارجية وجهود التجمع الوطني المعارض التي فرضت بعض التراجع والخجل. وقبل سنوات دخلت حكومة الإنقاذ في معارك شرسة مع لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. فقد تحرك المجتمع الدولي بمنظماته الحكومية وغير الحكومية حين تنامت إليه أخبار ممارسات حكومة الإنقاذ والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان.
لذلك قامت الأمم المتحدة عام 1993 بتعيين مقرر خاص لرصد وضعية حقوق الإنسان في السودان واختير المحامي المجري غاسبار بيرو لهذه المهمة وقدم تقريراً أولياً في أواخر العام. وفي هذه الأثناء قام عدد من الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان بالنظر في شكاوى مقدمة ضد حكومة السودان من خلال آليات موضوعية معلومة في المجتمع الدولي.
وقد أرسل مقرر الأمم المتحدة المعني بالتعذيب العديد من المناشدات العاجلة وخلص في تقريره أن التعذيب يمارس بصفة معتادة في السودان. كما ذكر مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحالات الإعدام خارج نطاق القانون والإعدام بلا محاكمة والإعدام التعسفي في تقريره الصادر في ديسمبر 1993 أنه يشعر بقلق بالغ بسبب نطاق انتهاكات حقوق الإنسان التي ترد أنباؤها من السودان. كذلك عبر الفريق العامل المعني بالاعتقال التعسفي التابع للأمم المتحدة عن تدهور هذه الحقوق في قرار أصدره في العام نفسه.
وجاء التقرير النهائي في فبراير 1994 معبراً عن موقف إدانة واضحة: «لاستمرار وقوع انتهاكات جسيمة وواسعة النطاق لحقوق الإنسان على أيدي موظفي الحكومة ووكلائها وكذلك استمرار الاعتداءات على حقوق الإنسان التي يقترفها أعضاء فصائل الجيش الشعبي لتحرير السودان في المناطق التي يسيطرون عليها» (دموع اليتامى لا مستقبل بدون حقوق الإنسان السوداني، لندن، منظمة العفو الدولية 1995، ص 108- 110) .
وعلى الرغم أن المقرر حاول أن يكون موضوعياً وعادلاً ولم يسكت عن انتهاكات الحركة الشعبية إلا أن الحكومة السودانية رفضت التقرير بصورة قاطعة وقلبت الأمور بقدراتها الديماغوجية والإعلام المهرج وبادرت بمهاجمة الأمم المتحدة والغرب وحاولت أن تجعل منها معركة ضد الإسلام. وذكرت بأن هذا الموقف سببه استحداث الحكومة للقانون الجنائي لعام 1991 المستند على الشريعة حسب رؤية الإنقاذ.
ثلاثة محاور
ترى منظمة العفو الدولية أن هذا الموقف الحكومي يكشف عن السياسة التي تنتهجها الإنقاذ إزاء ضغوط المجتمع الدولي وتسعى لتغيير أسس المعركة. وتدور هذه السياسة على ثلاثة محاور: أنه عداء للإسلام، ثانيا، تسعى الحكومة لكسب تأييد الدول العربية والإسلامية والمنظمات الحكومية للحصول على مساندة دولية.
ثالثاً، أنشأت عدداً من التنظيمات الرسمية لصياغة ونشر آرائها حول حقوق الإنسان (المصدر السابق ص 111). وظهرت فلسفة الحكومة حول حقوق الإنسان في: «وثيقة السودان لحقوق الإنسان» التي اعتمدها المجلس الوطني الانتقالي في يوليو 1993، وتوضح الوثيقة بشكل خاص مكانة حقوق الإنسان في تفسير الحكومة للإسلام، وتهاجم الوثيقة:
«ظاهرة الاستغلال السياسي لحقوق الإنسان، من قبل أعداد متزايدة بين الدول والمنظمات الطوعية قد أصبحت محكومة في عامة سلوكها وفي تحركاتها المعلنة باسم حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية على وجه الخصوص، باعتبارات سياسية» مما أفضى حسب زعم الوصية إلى نسف السياسة القومية وزلزلة الثقة في المؤسسات الدولية« ورفضت الوثيقة القرارات التي اتخذت في المحافل الدولية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في السودان باعتارها مجافية للحقيقة والعدالة جميعاً» (المصدر السابق، ص 112- 113).
لم يقف احتجاج النظام عند هذا الحد بل تعرض مقرر حقوق الإنسان غاسبار بيرو لحملة شرسة ومسعورة، وصلت درجة أن طالب أحد «الإسلامويين» بجلده لأنه أساء للإسلام. واستخدم «الإسلامويون» ذخيرتهم في الابتزاز والمغالطات بطريقة يجيدونها تماماً حين يريدون مداراة الحقيقة ونصر الباطل. وهذه نماذج لإعلام الإنقاذ وحملته على مقرر حقوق الإنسان. نقرأ في الصحيفة الرسمية (السودان الحديث) بتاريخ 24 فبراير 1994 بعد ظهور التقرير، ما يلي:
«الحمد لله الذي كشف نوايا الغرب الشيطانية ضد الإسلام والمسلمين عبر هذا المدعي بيرو الذي تطاول في كفر صراح على قوامة الدين الإسلامي السمح وتشريعاته السماوية التي تعلو على قصور العقل البشري الضيق ومن دون أن تهزنا هذه البدع المشتركة فأننا نتوقع في هذا الزمان الغريب الكثيرين من أمثال سلمان رشدي الذي اقترب الآن من حافة الجنون الكلي عقاباً من الله سبحانه وتعالى بسبب جرأته الوقحة على قداسة القرآن الكريم. . . وغداً ستنتهي يا بيرو مثله لأنك مكرت وتطاولت والله خير الماكرين».
كذلك «اصدرت هيئة علماء السودان بياناً أدانت فيه مسلك غاسبار بيرو المقرر الخاص لحقوق الإنسان الذي زار السودان في ديسمبر الماضي مبعوثاً من الأمم المتحدة لرفع تقرير عن حقوق الإنسان في السودان إلا أنه استقى معلوماته من دوائر المعارضة وأعد تقريراً هاجم فيه قوانين الشريعة الإسلامية.
وطعن في مصدر التشريع وتعرض للشريعة بالزراية والاستخفاف. وانتقد البيان غاسبار بيرو الذي ورد فيه أن القانون الجنائي السوداني يحتوي على مكونين أو عنصرين يخالفان المواثيق الدولية مخالفة جذرية وادعى غاسبار بيرو زوراً وبهتاناً أن الحدود وهي التي تشمل النهب والسرقة الحدية والردة والزنا والقذف وشرب الخمر ثم القصاص الذي يمثل الجانب الثاني في القانون الجنائي الإسلامي السوداني أنها تشريعات تتنافى مع المواثيق الدولية.
وندد البيان بتصريحات غاسبار بيرو التي قال فيها بجرأة غريبة أنه لا يهمه من صاغ هذه القوانين ولا مصدر وحيها وإنما الذي يهمه فقط هو هل الشريعة تتفق مع المواثيق الدولية أم لا ومضى بيرو إلى أكثر من ذلك عندما دعا حكومة السودان إلى إلغاء الشريعة وقوانينها. وأكد البيان أن منهج الشريعة الإسلامية يقوم على رعاية الإنسان وحقوقه وعداوة الإسلام هي الدافع لكل هذه الافتراءات.
وأهاب بيان هيئة علماء السودان بالمسلمين قاطبة وبقياداتهم وبالدول الإسلامية أن تتصدى لهذه الهجمة الشرسة التي يقودها أمثال كاسبار بيرو. وقال البيان أن الدول الإسلامية عليها أن تراجع مواقفها من هذه المواثيق الدولية المزعومة التي يراد بها الكيد لعقائد المسلمين وشريعتهم إذ أن المقصود هو الشريعة الإسلامية وهويتها.
وأضاف أن تطبيق الشريعة الإسلامية هو من أصل العقيدة ولا مجال للتخلي أو التراجع عنه مهما كانت المواجهات ومعلوم أن الطعن في مصدر التشريع طعن في العقيدة ذاتها وفي كتاب الله وفي من بلغ بها. وأكد البيان أن التصدي لمثل هذه الترهات أمر واجب على كل مسلم وجوباً عينياً لا يجوز التغاضي عنه، ودعت هيئة علماء السودان السلطات إلى عدم السماح للذين يسيئون للسودان.
وشعبه ومعتقده بدخول البلاد إذ أنهم ليسوا طلاب حقيقة وناشدوا ولاة الأمر بالمضي قدماً في تطبيق الشريعة حتى تظل للسودان شخصيته المسلمة المحكومة بالشريعة في كل جوانبها. وأمن البيان على أن الشعب السوداني سيكون حامياً للدولة من كل أصناف المؤامرات والدسائس والكيد

Post: #11
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: tariq
Date: 10-21-2004, 02:46 PM
Parent: #1


سقوط المشروع الحضاري في السودان ـ الحلقة الثامنة
استراتيجية لها ثمنها، ضجة محتدمة يثيرها مشروع قانون الأمن في المجلس الوطني
تأليف :د. حيدر ابراهيم
أصدرت القيادة التنفيذية لمنظمة شباب الوطن بياناً قالت فيه أن ما أورده المقرر الخاص لحقوق الإنسان كاسبر بيرو في تقريره حول حقوق الإنسان بالسودان إنما يستهدف في مجمله المشروع الحضاري. حيث استند التقرير المزعوم الى بعض مأجوري الفنادق الذين يسعون لهدم هذا المشروع. وارتكز التقرير على إلغاء القانون الجنائي ممثلاً في الحدود والقصاص زاعماً ان هذا القانون لا يتفق مع الروح العامة للأمم المتحدة وميثاقها.
وأضاف بيان شباب الوطن أن كاسبر بيرو ومن خلفه لم يدروا أن المشروع الحضاري الذي يتجذر الآن بالسودان مهره الدماء التي سقت شجرة الشريعة بالسودان حتى أصبحت وارفة يتفيأ ظلالها كل المستضعفين في العالم، وأصبحت منارة وقبلة كل تواق للحرية ومحب للسلام (صحيفة الإنقاذ الوطني 12 فبراير 1994) .
وفي سؤال للقانوني عبد الرحمن شرفي عن رأيه في التقرير يرد: « ..لا نستبعد أن تقول تقارير حقوق الإنسان إن الصوم ينتهك تلك الحقوق بالعطش والجوع. إن الشريعة هي قضاء الله ورسوله ولا خيار لنا إلا نقبلها. أما أن نكون في مزاج بطرس غالي ونقبل نحن هوى اليهود فانه الهوان وضعف العزيمة في قلوب المسلمين الذين فتح أجدادهم بقوة الحديد خيبر، أنهم يريدون الانتقام لهزيمتهم في خيبر حينما ظهر دين الإسلام قوياً وعادلاً.
إن الأفضل للسودان اليوم أن يحتج على المنظمة الدولية التي تعمل بتوجيه أقلية وتتدخل حتى في خيارات الشعوب القائمة على عقيدتها. نعم أخرجوا من منظمة انكشف مستورها وبان تآمرها ضد الإسلام والمسلمين وإلا فتوقعوا أن تطالبكم المنظمة الدولية بتطليق الزوجة الثانية وإباحة المسلمة ليهودي وعدم تعظيم شعيرة الصلاة لأن فيها ضياع الوقت وعدم صوم رمضان لأن فيه هلاك النفس بالجوع والعطش والحفاظ على نفس الإنسان هو أهم حقوق الإنسان (صحيفة السودان الحديث، 22 فبراير 1994) .
ومن ناحية رسمية، طلب السودان من منظمات الأمم المتحدة حذف الفقرات المسيئة للدين الإسلامي ومعتقداته من تقرير بيرو وإلا فإن السودان سيرفض التقرير برمته ويراجع موقفه السابق في التعاون مع أجهزة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان لما بدر من هذه الأجهزة من استهتار بالمعتقدات الدينية وعدم احترام حق الشعب في الاختيار. جاء هذا في رسالة وجهها د. حسين أبو صالح وزير الخارجية لتلك الجهات (صحيفة الإنقاذ الوطني، 20 فبراير 1994) .
تعديلات وتراجعات
لم يتغير الموقف العالمي من حقوق الإنسان تجاه ممارسات نظام المشروع الحضاري السوداني ولكن النظام خلال الفترة الممتدة من الانقلاب عام 1989 حتى عام 1998 أجرى كثيراً من التعديلات والتراجعات جعلته أكثر قرباً من المفاهيم العالمية السائدة عن حقوق الإنسان وليس العكس. أي لم يقدم المشروع الحضاري مفاهيم إسلامية حديثة في حقوق الإنسان والديمقراطية والدستور تغري بقية العالم غير الإسلامي بتبنيها.
أكد د. أحمد المفتي مقرر المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ومدير إدارة حقوق الإنسان والقانون الإنساني بوزارة العدل قبل دورة 1999 بجنيف لمناقشة أوضاع حقوق الإنسان في السودان: ـ «أن الملف السوداني حول حقوق الإنسان في الأمم المتحدة لم يحدث فيه أي تغيير، وأعلن أن الدورة المقبلة ستناقش لأول مرة هذا الملف بعد إجازة وسريان التطورات الدستورية الأخيرة بالسودان، حيث اعتبر هذه التطورات المحور الأساسي الذي يرتكز عليه النقاش في الدورة المقبلة.

وأوضح المفتي أن كل المبررات لاتهام السودان زالت بنفاذ التطورات الدستورية على الرغم ما وجدته من تعتيم عالمي، ولفت للأنظار إلى موضوعات أخرى كإثارة قضية الرق. وقال المفتي أن الاتهامات في السابق كانت مسببة ببطء التحولات الديمقراطية، لكن الممارسة الحقيقية للدستور في المستقبل القريب ستكون بواقع الحال رداً قوياً على تلك الاتهامات.
وأوضح المفتي أن الدولة التزمت بتغيير عدد من القوانين للتماشي مع الدستور، مضيفاً أن الدستور نفسه يمنع معالجتها بمراسيم مؤقتة، وقال أن القوانين المقيدة للحريات تم إلغاؤها مثل المراسيم الدستورية السابقة» (صحيفة المستقلة 8 مارس 1999) . وفي حوار مع صحيفة «الرأي العام» نكتشف كيف وضع النظام السوداني نفسه تحت حكم قيم الغرب كما يسميها وحاول على قدر الإمكان أن «يرضي اليهود والنصارى»:
«يرى بعض المراقبين أن تحريك قضايا المعتقلين السياسيين في الآونة الأخيرة وإظهاره للرأي العام فجأة بأرقام كبيرة هي محاولة لتجميل الوجه من قبل الحكومة خاصة وأن هذا الإعلان والتوصيات ظهرت للسطح بصورة دراماتيكية في سياق زيارة المقرر الخاص لحقوق الإنسان إلى السودان والمعلن عنها كما ذكرتم الشهر المقبل حتى تكون ساعة زيارته المعتقلات فارغة والوجه حسن وحقوق الإنسان كما يقول بذلك المراقبون تبدو مصانة؟
ـ يا أخي أصلاً توجد هناك برامج للحكومة في مجالات حقوق الإنسان، وهذه البرامج المتعلقة بمعالجات قضايا حقوق الإنسان تركزت على جبهتين التطور الذي حدث نحو الشرعية الدستورية، والسلام وأعلنت الحكومة عن هذه البرامج والخطوات وهي الآن تسير وفق البرنامج. . ويمكنني القول هنا أن كافة معالجات حقوق الإنسان تسير.
وفقاً لهذه البرامج الموضوعة وليس لها أية علاقة بما تقوله، لقد بدأت هذه البرامج بمراحل منذ حل مجلس قيادة الثورة وتعيين مجلس وطني انتقالي فالمجلس الوطني الحالي المنتخب، إجازة الدستور، التوالي السياسي، لقد كانت هذه البرامج برامج كاملة لصيانة حقوق الإنسان التي تعني التحول نحو الديمقراطية .
ولم تكن لها أية علاقة بالأمم المتحدة «هذا برنامج معلن من زمان»، عندما كنا نطرح للأمم المتحدة هذه البرامج منذ بداية التسعينيات ونقول لهم أن الحكومة ماضية نحو كذا وكذا وهي تفعل الآن كذا، كانوا لا يصدقوننا، كانوا يقولون لن نصدق حتى نرى ما تقولون، هذا برنامج قائم بذاته والحكومة. . قامت بطرحه منذ أول يوم قدمت فيه (أجراه كمال الصادق بتاريخ 4 يناير 1999).
وفي الوقت نفسه قدم النظام قانون الأمن الجديد وقد أثار ـ لأول مرة ـ نقاشاً داخل المجلس الوطني وهذه تأثيرات الضغوط الخارجية والمعارضة.
«انتقد نواب المجلس الوطني في جلسته برئاسة اليسون منايا مقايا نائب رئيس المجلس مشروع قانون الأمن لسنة 1999 والذي تم عرضه وإجازته من قبل المجلس بعد جدل واسع ووصف خلاله القانون بأنه ضعيف ولم يأخذ حظه من المداولات بمرحلة العرض الأولى مشيرين إلى أن مشروع القانون يكشف حماية قوات الأمن من دون حماية الفرد قائلين إن تلك القوات يجب أن تجيء لتهيئة الحريات وليس تكميمها.
وقال العضو إبراهيم يوسف ضاوي إن القانون جاء متأخراً وكان يتوقع أن يأتي بعد إجازة الدستور مباشرة منتقداً الممارسة فيه ووصفها بأنها خاطئة ومطالباً بدراسته دراسة وافية فيما قال العضو عباس ناصر إن جوهر القانون هو حماية حرية الإنسان لكن القانون كرس أجهزة الأمن لتكميم أفواه المواطنين حسب ما ورد بالقانون على حد قوله. .
وقارن العضو الخير الفهيم بين قانون الأمن في العهد المايوي ومشروع القانون الجديد قائلاً إنه من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبت هو حل جهاز أمن مايو بخبراته وتجاربه الإفريقية حيث كان يضمن قدراً من الحريات والحقوق التي تضمن كرامة الإنسان ويشكل رداً على المؤسسات الدولية التي تشكك في أمن السودان مؤكداً على ضرورة أن يأتي قانون 99 قوياً غير أن فتحي خليل عضو المجلس الوطني قال إن قانون الأمن مهم وخطير .

ويأتي في إطار تنزيل السلطات وقال إن الجدل في القانون يكمن في التدابير التي يجب أن تتخذها قوات الأمن مطالباً بالحفاظ على أمن الدولة وعلى حريات الفرد مع وجود ضوابط للاعتقال وتوجيه اتهام محدد للمعتقلين وأن تكون هناك رقابة قانونية على أفراد الأمن مؤكداً أن إجازة القانون تحتاج إلى تأن وأبان العقيد يونس محمود أن القانون فيه موازنة ما بين حماية أمن البلاد .
وحماية الأفراد مشدداً على ضرورة أن يبعد الأفراد عما يزج به لاختراق القانون غير أن أحمد إبراهيم الطاهر قال إن دور قوات الأمن أكبر مما يظنه البعض مشيراً إلى الاختراقات التي حدثت بعد حل جهاز الأمن الخارجي بعد مايو وأصبح السودان مستباحاً إلا أن بناء جهاز أمن قوي أصبح ضرورة ليس لحماية شخص أو حزب.
وإنما لحماية البلاد وأبان أن الاعتقال يعتبر سلطة صغيرة وليس السلطة الجوهرية فليس المقصود اعتقال الأفراد وإيذائهم بقدر ما المقصود هن حماية الكيان السوداني والمجتمع مؤكداً أن القانون يجييء استجابة لدواعي الدستور مطالباً بأن يعامل مخترقه بالإنسانية ويكافح نشاطه التخريبي بالقانون وطالب سراج الدين حامد بتحديد الاختصاصات في القانون بحيث لا تمس حرية الإنسان (صحيفة الرأي الآخر 29 يونيو 1999) .
كان التاريخ أقوى من المغالطات والدجل وتزييف الوعي، فقد وجد النظام نفسه يتعامل مع تلك المنظمات ويراجع سياساته وليس العكس وأصبح السودان حريصاً على نتائج تصويت لجنة حقوق الإنسان في جنيف وهي التي وصفها ووصف مقررها بكل تلك الصفات السابقة. وهلل نظام المشروع الحضاري لقرار اللجنة بإسقاط المشروع القاضي بإدانة السودان.
وجاء في الأخبار: «وجه السيد الرئيس الأجهزة المختصة بالتنسيق لتطوير خطة الحكومة لتعزيز حالة حقوق الإنسان في البلاد انطلاقاً من قيم الدين وقيم أهل السودان» ويصرح علي محمد عثمان ياسين وزير العدل:

ـ «إن الحكومة لم تتخذ أي قرار في تاريخها الحديث (هكذا) يؤكد انتهاكات حقوق الإنسان» وأضاف: «إن حرص السودان على هذا الملف جزء أصيل من إرثه الحضاري وعادات السودان وتسامحهم وأن بلاده لن تدخل مثل هذه الورطة مرة أخرى وستعمل على الاستفادة من الدرس». ويقول ممثل الحكومة في جنيف ياسر سيد احمد أن هذا القرار سيلقي العبء على الحكومة ويحفزها على ترقية حقوق الإنسان (صحيفة الرأي العام، 17 إبريل 2003) .
الحياة غالية يا صاحبي
الأهم من كل هذا أن مجموعة الترابي أو أعضاء المؤتمر الشعبي لجأوا إلى هذه المنظمات «المغرضة» مثل منظمة العفو الدولية شاكين من سوء معاملة النظام الحاكم وانتهاكه لحقوقهم الأساسية. وصار المحبوب عبد السلام الناطق الرسمي باسم الترابي والمؤتمر الشعبي يستنجد عقب كل اعتقال لأي عنصر من هذه المجموعة، بمنظمة العفو ولجان حقوق الإنسان الأوروبية.
ومن فضل الدنيا علينا أن نعيش ونرى الترابي وقد هزمه الجنرال الزمن لكي يتحول إلى داعية ومنظر لحقوق الإنسان ويسعى لتأصيلها، نقرأ في كتابه الأخير: «فحكم السلطان حقاً لا يؤسس على أقدار نازلة على الرعية كأقدار الطبيعة، بل على تعاقدهم الحر على أن يختار ويرشد ويطاع.
وهو يستقر بقوتهم المطاوعة تثبيتاً وتأييداً (..) فلذلك، من تولى بين الناس السلطان، يحفظ ميزان تلك الوحدة المباركة ونظامها، فيبسط لهم وحداناً وجماعات الحقوق والرخص ليتمتعوا بحرياتهم، ويحمي لهم حرماتهم وحصاناتهم لئلا يعتدى عليها وتداس، ويلقي عليهم موجهات مرسومة خيرة وفضلاً، لا إمرة وجبراً، أن ينشطوا بما يليهم من حريات لتحيا فيستمد هو منها حياة وبركة». (ص، 141، 2004).

ويتساءل أحد حوارييه السابقين: محمد طه محمد أحمد، شامتاً: ـ «ثم إذا كانت الحياة غالية وعزيزة فمن المفيد أن يتذكر الترابي أنه حين كان يحكم فقد قبض على اللواء عثمان إدريس بلول قبل شهر كامل من حركة رمضان العسكرية ووضعه في السجن ولما حدثت الحركة وفشلت، أخرج عثمان بلول من السجن وأُعدم مع أنه ليس شريكاً في الانقلاب وتحولت زوجة اللواء إلى أرملة وأطفاله إلى أيتام» (محمد طه محمد أحمد، رداً على بيان أسرة الترابي الذي تقول فيه أن السلطة تريد اغتيال الترابي، الوفاق 14 يونيو 2004).
يظل موضوع انتهاكات حقوق الإنسان أي التعذيب بالإضافة للفساد، مقتل وعار الحركة الإسلاموية، وقد ارتبك من هم أكثر ليبرالية وانفتاحاً في تبرير هذا الموقف، ولكن الجميع مدانون فالصمت وعدم الإدانة والنقد الذاتي الواضح. ففي احدى المقابلات صرح د. الطيب زين العابدين بأن النظام مازال يحدد الحريات وعسكرياً شمولياً.
ويحتار كيف يتعامل مع هذه الحقيقة، يقول: «أنا من أبناء المشروع الإسلامي وانتقادي له من هذا الباب، لأنني لا أريد له أن يفشل أو يشوه ونقدي من هذا المنطلق وليس من منطلق المعارضة السياسية وإن ظهر اتفاق معهم في بعض وجهات النظر ثم أن مشاركتي أكاديمية. ولا يمكن أن تعقد لساني عن النصح والتقييم» (صحيفة ألوان 6 ديسمبر 1997) فهو لا يستطيع أن يذهب في نقده لنهاياته ففي هذه الحالة يحدث التشويه للمشروع كما أن المعارضة قد تستفيد من هذا النقد بقوة، حسب شعار شهد شاهد من أهلها. لذلك لا يمكن أن يبادر بطلب لفتح ملف التعذيب لكي تبرئ الحركة ذمتها علناً وصراحة ورغم ذلك نحترم الاعتراف بذنب الحركة.
يرى د. عبد الوهاب الأفندي أن نظام الإنقاذ أعطى أولوية كبيرة لبناء أجهزة فاعلة لأسباب يعددها كما يلي: «ان البلاد كانت ومازالت تعيش حالة حرب أهلية، لذلك أمر طبيعي أي نظام انقلابي ثوري ـ حسب رأيه ـ يريد إجراء تغييرات سياسية واجتماعية أساسية في البلاد، فالظروف تحتم الاعتماد على أجهزة ضاربة قوية للتغلب على المقاومة المحتملة لهذه التغييرات» (ص، 43، 1995).
«وأصبحت الأجهزة الأمنية تلعب الدور الأكبر ليس فقط على صعيد تأمين الحكم، بل أيضاً على صعيد التنسيق السياسي وكانت النتيجة أن أجهزة الأمن الجديدة استوعبت أعداداً كبيرة من الإسلاميين ـ وفق قوله ـ في صفوفها وهي لم تختلف كثيراً في هذا عن باقي الأجهزة والمؤسسات الحكومية ولكن الاختلاف كان في النوعية التي تم اختيارها وطبيعة المهام التي أوكلت لها. فقد كان لدى جهاز الأمن موارد أكبر نسبياً من باقي المؤسسات، كما أن روح المغامرة فيه والنفوذ المتزايد استهوى كثيراً من الشباب المتحمس (ص، 46 ـ 47، 1995) .
نحن أمام دولة أمن ومخابرات وتجسس أو هي حسب وصف النميري بأن للشريعة قانون طوارئ، يقول: «بأن نبي الإسلام أول من أعلن حالة الطوارئ في الإسلام تطبيقاً لنصوص القرآن الكريم الداعية إلى الحذر والاستعداد». وحين فتح مكة لم يغفل الحذر وهو صاحب الوحي، لذلك أعلن منادياً من دخل بيته وأغلقه عليه فهو آمن ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن.
وهذا الإعلان باللغة العسكرية والمفهوم العسكري الحديث ليس إعلاناً فقط لحالة الطوارئ بل أمر بحظر التجول (صحيفة الأيام 13 يوليو 1984، أوردها د. منصور خالد، الفجر الكاذب ص 84) . ويقول: إن الإسلام رغم كل المحاذير والتحفظات «له طوارئ، ندخل البيوت، نضبط، نفتش، من يشرب في الخفاء، من يزني، كل بيت سنفتشه وندخله، الإسلام أمرنا بذلك». (الصحافة، 25 مايو 1984) .
الاستراتيجية والثمن
كان النميري أكثر صدقاً ووضوحاً في تقديم قوانينه الشرعية رغم كل التدريب الذي كان يقوم به «الإسلاميون» لتوجيه الإمام المجدد. بينما منظرو المشروع الحضاري حاولوا في تقعر وافتعال تفسير حكم الإنقاذ القمعي، فهم فرحون بالسلطة وخائفون أيضاً، لذلك لم تكن الوسائل مهمة. ويكتب الأفندي تفسيراً يصعب فهمه رغم بلاغة الكاتب .

وقدراته اللغوية، فهو يرى «أن هذه الاستراتيجية كان لها ثمنها ولكن هذا الوضع أملته ضرورة كان أهمها ـ حسب رأيه ـ السعي لتجنب الإفراط الثوري! فيكتب حرفياً: منطق التحول الثوري، كما عبر عنه جاكوب بيركهارد وآخرون يحتم أن تتحول الثورة من تطرف إلى تطرف أكثر إلى أن تنهار في النهاية وتتحول إلى حكم استبدادي يجهد لإزالة الخراب الذي خلفته الفوضى الثورية.
الحل الذي تم تبنيه في السودان حذف هذه المرحلة، ولكن هذا لم يمنع أن العناصر الثورية المائلة إلى التطرف قد عبرت عن وجودها ونفوذها في الأجهزة التي كان من المفروض فيها النجاح في كبح جماح التطرف الثوري. وإذا كان السودان جنب مشاهد العنف ونصب المشانق في الطرقات فإن هذا لم يمنع بعض العناصر من معاملة الخصوم بأساليب هي المقابل السلمي للعنف الثوري ( ص 47، 1995) هل نفهم من كل الكلام الفخم وجود انتهاكات لحقوق الإنسان السوداني يقوم بها نظام سوداني؟ وهل يدين المؤلف الانتهاكات أم يخشى فقط على غلبة الأجهزة الأمنية على التنظيم السياسي؟
كان تأييد وتثبيت النظام الجديد يعمي «الإسلامويين» عن رؤية الجرائم والخطايا التي يعتبرها الآن «عبئاً» على النظام ولكن في أثناء تلك النشوة لم تكن حقوق الإنسان تمثل أي شيء أكثر من مناوشات غربية تعطل المسيرة الإسلامية. ونلاحظ أن (الأفندي) الملحق الإعلامي في سفارة السودان في لندن عندما زارها الترابي، كان يقلل من أهمية التطرق لموضوع حقوق الإنسان في السودان باعتباره موضوعاً محلياً وثانوياً بينما الترابي جاء ليحاور الغرب حول قضايا كبرى مثل الصحوة الإسلامية وعلاقتها بالغرب.
تورد تغطية صحفية لزيارة الترابي: «بيد أن حقوق الإنسان وهموم المعارضة لم تكن واردة أصلاً في حسابات الترابي، فقد كانت مهمته أكبر من ذلك حسبما يقول الدكتور عبد الوهاب الأفندي مؤلف كتاب (ثورة الترابي) جاء الترابي في مهمة تتعلق بقضايا استراتيجية ومستقبلية لابد من التعاطي فيها مع الغرب، إذ ان هناك حركة صحوة إسلامية لديها ديناميات محددة.

وهي مهمة أكبر من السودان والأوضاع الخاصة». (صحيفة الحياة 19 مايو 1992) وكان الدكتور الأفندي يظن انه سوف يخلب العقول الغربية بكلامه المعسول ولغته المتأنقة عن صحوة إسلامية توجد على سطح القمر، ولكن كان سؤال حقوق الإنسان في السودان هو سؤال الغرب الحقيقي حيثما حل الترابي ولم يسأل عن الرؤى الفلسفية التأصيلية للصحوة الإسلامية.
سوء الظن يسري
يقدم الترابي نقداً مخففاً بعد الانشقاق ويؤخذ على «الإسلامويين» أنهم تعرضوا لملاحقات ومراقبات وتشريدات وسجون وصنوف أذى في الإعلام. فما عجب لما استوى لهم الأمر منقلباً وتمكنوا من القوة بثورة الإنقاذ أن يأخذوها حاملين رواسب الثارات المستفزة فيقابلوا الآخرين جميعاً بروح المقاصة والمجازاة بالمثل، سيما أن الدفاع عن الأرض والولاية التي استخلفوا عليها دعتهم إلى الجهاد والاستشهاد .
وذلك لغير المتفقه التقيّ يهيج روح الثورة الغاضبة تصويباً على الأعداء لإهلاكهم والقضاء عليهم انتقاماً أو كبت معارضة بما يكاد ينسى مقاصد الجهاد ووصايا القرآن للمتقين الصابرين بكظم الغيظ والعفو والسماحة وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاق العدو المغلوب والمعارضين المؤذين، وثمة هدى الحكمة بأن التعايش والتدافع سلماً بين الحق والباطل مهما شق الصبر إنما هو منبت الصلاح.
فالرأي إذا لم يقابله بالجدال الحر رأي معارض يستفزه فيفجر فيه ما يغذيه ويثريه إنما يخمل ويفقر، والقوة مغالبة أو محاربة إذا لم تقابلها قوة تهيجها تفتر وتنتهي، بل ان الفطرة المنطوية على بعض شر المستعدة لأن تقذفه في وجه من يصارع إنما تلهم أصحابها إن لم يجدوا عدواً أن يتخذ بعضهم بعضاً عدواً لأوهى أسباب الخلاف.

فالذين احتكروا السلطة من أبناء الإسلام انصرفوا عمن قد ينتقدهم أو يباريهم فيضطرهم لتجويد أدائهم وتخريج حيثيات سياسية وثمراتها حقاً وخيراً على الناس أصبحوا يسيئون ولا يخاطبون أو يبالون بأحد، فسرى بين الناس سوء الظن بهم وتضاءل الرضا بما يفعلون، وأجهزة تأمين سلطتهم غدت تظلم وتستبد حتى إذا حسبت أنها قضت على الأعداء انقلبت على الأقربين لتصوب عليهم شرها البالغ. والذين احتكروا مؤسسات المال العام محصنةً لا ينافسها أحد كان يثاقل جهدهم ويخفق كسبهم (وثيقة حركة الإسلام).
من يقرأ هذا الحديث الذي كتبه الترابي لتقييم الحركة بعد اثني عشر عاماً، يدرك تماماً أن الترابي لا يدافع عن حقوق الإنسان ولكنه يتألم لأن السلاح الذي استخدمه قد ارتد إليه وقد قال ذلك صريحاً. فالحقد الذي ظن أنه سيوجه نحو «المصارعين الأعداء» قد تقذفه تلك العناصر إلى إخوانهم «إن لم يجدوا عدواً ان يتخذ بعضهم بعضاً عدواً لأوهى أسباب الخلاف».

Post: #12
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: tariq
Date: 10-21-2004, 02:47 PM
Parent: #1


سقوط المشروع الحضاري في السودان بغياب القضاء العادل ـ الحلقة الاخيرة
بدأ مسلسل التردّي عنف «الجبهة» في المدارس والجامعات يتحوّل إلى سياسة رسمية
تأليف :د. حيدر ابراهيم
كانت البداية كما اتضح ـ مثل أي انقلاب عسكري ـ تدشيناً لانتهاكات حقوق الانسان الأساسية، لأن العهد الجديد يعطل الدستور ويحل النقابات والاتحادات والأحزاب كما يوقف الصحف ويحظر التجول لساعة محددة واعلان حالة الطوارئ. هذه الاجراءات المصاحبة لأي نظام عسكري، أغلظ نظام الانقاذ في تطبيقها خاصة خلال السنوات الأولى. فقد قامت السلطات باعدام ثلاثة مواطنين بتهمة الاتجار في العملة والتي أصبحت تباع في الصرافات و«البراندات» في قلب الخرطوم وأعدمت 28 ضابطاً في 24 ابريل 1990 بعد محاكمة سريعة ـ كانت تسابق ـ حسب عضو بمجلس الثورة ـ أي وساطات أو تدخلات قد تحدث.
وتسربت معلومات عن وفاة د. علي فضل تحت التعذيب في 21 يناير 1991. وفي ديسمبر 1989 حكم بالاعدام على د. مأمون محمد حسين نقيب الأطباء بتهمة الدعوة للاضراب ولم ينفذ الحكم.وأوجدت الانقاذ عهداً من الارهاب السوداني يذكر بفترة روبسبير 1791 خلال الثورة الفرنسية، اذ اضافة للارهاب الواقعي كانت عمليات التخويف والترويع مقصودة نفسياً لتصوير الدولة بأنها لا تقهر وليس لها حدود وكوابح في حماية الثورة..
كانت السنوات الأربع الأولى مخصصة لإذلال واهانة الانسان بكل الوسائل لضمان كسر الكرامة وروح المقاومة. وينسب للترابي قوله إن الشعب السوداني «نسّاي وخواف» أي جبان وسريع النسيان اذ يمكن افزاعه لأنه شعب مسالم ثم ينسى سريعاً حتى اسم الشخص الذي أهانه أو أفزعه.
يبدأ مسلسل انتهاكات حقوق الانسان مع غياب القضاء العادل والمستقل، وكانت هذه أولى خطوات نظام الانقاذ. فقد كان المرسوم الدستوري الثاني: قانون الاجراءات والسلطات الانتقالية لعام 1989 اعلاناً صريحاً بتجميد السلطة القضائية حسب حالة الطوارئ، اذ يقول البند السادس: يختص بممارسة سلطات الطوارئ رأس الدولة وكل جهة تعمل بتفويض راجع اليه، ويجوز بمقتضى سلطة الطوارئ اصدار أوامر أو اتخاذ اجراءات في الشئون التالية:
ـ النزع والاستيلاء على الأراضي والعقارات والمحال والسلع والأشياء بتعويض أو بغير تعويض وفقاً للمصلحة العامة، الاستيلاء على الأموال والمحال والسلع والأشياء التي يشتبه بأنها موضوع مخالفة للقانون، وذلك حتى يتم التحري أو يفصل القضاء بالأمر، حظر أو تنظيم حركة الأشخاص أو نشاطاتهم أو حركة الأشياء ووسائل النقل والاتصال في أي منطقة أو زمان أو بأي شرط آخر، تكليف الأشخاص بأية خدمة عسكرية أو مدنية تقتضيها ضرورات الأمن مع حفظ حق الأجر عليها.
انهاء خدمة أي من العاملين في الدولة مع جواز منحه فوائد ما بعد الخدمة، اعتقال الأشخاص الذين في كونهم يهددون الأمن السياسي أو الاقتصادي مع حفظ حق الاستئناف للمجلس. والأهم من ذلك، يجوز لمجلس الثورة أو من يفوضه أن يشكل محاكم خاصة لمحاكمة أي متهم تحت هذا القانون وأن يحدد الاجراءات التي تتبع في التحري والمحاكمة، لا يجوز للمحاكم أن تنظر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في أي أمر أو قرار يصدر بموجب هذا المرسوم.
وأصبح من الممكن تعيين رئيس القضاء خلافاً لقواعد وقوانين تحدد كيفية الاختيار. وقام النظام بفصل أعداد كبيرة من القضاة وتم تعيين قضاة من أصحاب الولاء. وأجريت محاكمات تعسفية وسياسية كان من أشهرها، قضية يحيي بولاد المنشق عن الجبهة وانضم للحركة الشعبية وصار ممثلها في دارفور.
استباحة
صار نظام الانقاذ مطلق اليد واستباح البلاد: غياب رقابة قضائية فوق قوانين الطوارئ الاستثنائية. وتعددت الوسائل التي تحقق ما أسموه التمكين، وهذه شهادة قدمها ضباط شرطة سابقين تبين كيف أزال النظام أي كوابح ممكنة تمنعه من ممارسة الطغيان المطلق، تقول: ـ «أنه على الرغم من أن قوات الشرطة في السودان قوات نظامية ومدنية وذات صلة وثيقة بالجهاز القضائي الا في الحالات التي يعلن فيها الجهاز السياسي حالات الطوارئ مثل الحروب والكوارث الطبيعية وحالات انفلات عقد النظام الاجتماعي العام، فقد أدى الخلط بين المؤسسة العسكرية وقوات الشرطة الى الاضرار بالشرطة جهازاً وأفراداً.
ورأى النظام حسب مفهومه، أن يكون لجهاز الشرطة الولاء التام لنظام الدولة الجديد الذي أنشأه مع أن الشرطة قامت على الولاء والفهم لتقاليد القانون المدني السائد، فقاموا بأول أهداف التمزيق والبعثرة لاحلال جهاز جديد محلها.
وقد كان المنظور الاستراتيجي لمفكري جبهة الترابي هو تشتيت وحدات الأمن الاستراتيجي ومكافحة الشغب المعروفة باسم «الاحتياط المركزي» المكونة من ثلاث سرايا ضاربة وعالية التدريب والكفاءة وتستعمل أسلحة آلية، فقاموا بابعاد ثلثي هذه القوة الى دارفور بدعوى مكافحة النهب المسلح والحرب الأهلية ظاهرياً، مع العلم أن السبب الأساسي كان عدم مقدرة الحكومة اختراق هذه القوة بكوادر من داخلها تسهل السيطرة عليها كما فعلوا ذلك مع المؤسسة العسكرية.
كما عمدوا في خطة مدروسة وعلى مراحل الى تكوين اللجان الشعبية للرقابة والخدمات في الأحياء أولاً، ثم اعطائها سلطات تنفيذية تقلص الدور القانوني لجهاز الشرطة وربط هذه اللجان بمحاكم النظام العام لتجاوز الدور القانوني للقضاء، حيث أن رئيس القضاء الذي كان يفترض أن يكون حارساً للقانون علق على استئناف مقدم ضد احدى هذه المحاكم في أحد أحكامها بأن هذه المحاكم لا تتقيد بقانون ولا بالاجراءات ولا بالسوابق القضائية.
ثم أعقب هذه المرحلة اصدار قانون بدمج قوات الشرطة واللجان الشعبية في قانون واحد تتفوق بموجبه اللجان الشعبية على الشرطة في العدد وبالتالي تفرغ الشرطة من محتواها وعقيدتها القانونية في السلوك والتقاليد المتوارثة التي نشأت عليها.

تلك اللحظة تزامنت مع خطة أخرى لازاحة العناصر ذات الكفاءات العالية والمستنيرة. فقد تمت احالة ثلاثمئة ضابط الى المعاش من مختلف الرتب ابتداء من ملازم ثان الى فريق أول ليفسح المجال أمام كوادر الجبهة بتصفية الكوادر الوطنية والغيورة على الجهاز كدفعة أولى. وفي اطار هذه الخطة تمت في المرحلة الثانية احالة أكثر من خمسة عشر عميداً ولواء وفريقاً لافساح المجال أمام العميد عوض خوجلي وهو أصغرهم سناً ورتبة باعتباره كادر الجبهة الذي تم تجنيده خلال دورته التدريبية في المركز الافريقي الاسلامي.
مع العميد محمد الأمين خليفة. ثم بعدها تمت احالة 68 ضابطاً من مختلف الرتب ومن أكفأ الضباط الذين عرفتهم الشرطة خلقاً ونزاهة وعفة، وكان ذلك عقب اجتماع «الاحتياط المركزي» الشهير مع وزير الداخلية السابق اللواء فيصل أبو صالح. فقد اتهموا على ضوء ذلك بالعداء للنظام والعمل على الاطاحة به ومنعوا من حقهم في تعديلات قانون المعاشات ومنهم العقيد حمدي الصائغ وماضي خضر ومعاوية بكراوي والرائد النور يوسف (المجلة العدد 631، 11 ـ 17 مارس 1992، ص 24).
من الصعب رصد كل حالات الانتهاكات والتي شملت الألوف، ولكن يمكن متابعة التفاصيل في التقارير الكثيرة التي نشرت وتم تداولها علانية. ومن ذلك تقارير المقرر الخاص بحقوق الانسان ووقائع لجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة، والجمعية العامة للأمم المتحدة، وتقارير منظمات حقوق الانسان الاقليمية والدولية. وهناك كتابات مثل: د. أمين مكي مدني: جرائم سودانية بالمخالفة للقانون الانساني الدولي 1989 ـ 2000 (القاهرة، دار المستقبل العربي 2001).
وعلى الماحي السخي: شهادتي للتاريخ: بيوت سيئة السمعة. تحرير د. حسن الجزولي (المجموعة السودانية لضحايا التعذيب)، التعذيب في السودان: حقائق وشهادات (مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا التعذيب)، نشطاء بلا حدود: تقرير السودان 1989 ـ 1999 (البرنامج العربي لنشطاء حقوق الانسان). السودان: دموع اليتامى لا مستقبل بدون حقوق الانسان (منظمة العفو الدولية، لندن 1995) وسبق لها اصدار تقرير محدود التوزيع: السودان: ـ أزمة مستمرة في حقوق الانسان (1992) بالاضافة لتقارير شئون اللاجئين ومنظمة الغذاء العالمية ووكالات الاغاثة العالمية.
الكيل بمكيالين
تهمني مثل هذه الأمثلة لاثبات ضعف (الاسلامويين) السودانيين فيما يتعلق بقيم حقوق الانسان مطبقة على الآخر، فهم يطالبون وبالحاح بضرورة احترام حقوقهم حين تنتهك في مصر أو سوريا أو تونس أو الجزائر، ويصمتون عن السودان لأن الحكم اسلامي.
هذا هو عين الكيل بمكيالين والذي يظهر في كثير من الممارسات والأقوال لدى (الاسلامويين) وبالتالي حقوق الانسان ليست مبدأ بل وسائل لتوسيع الحريات ووقف القمع في حالات خاصة. دهشت حين وجدت مقالة كاملة للأفندي تدين اعتقال المدير التنفيذي لمنظمة الدعوة الاسلامية بينما لم يسطر قلمه حرفاً واحداً يذكر اسم لمعتقل أو معذب معارض.
وكنت أود أن اقتبس المقالة كاملة لبيان التعاطف والادانة ثم الاهتمام بالحقوق الأساسية الذي نزل فجأة على من كان يرى في الترابي انساناً مشغولاً بقضايا كبرى وليس لديه الوقت لاضاعته في ترهات حقوق الانسان والتعذيب وبتر السيقان! والمقال عنوانه: «زوار الفجر في الخرطوم يأتون عند الفجر تماماً» ويبدأه بهذه الجملة الدراماتيكية: «المشهد يصلح لأن يكون اقتباساً من كافكا، ولكن بعد أن يكون الكاتب قرأ: مزرعة الحيوانات لأورويل وتأثر بها ضابطان من جهاز الأمن يطرقان باب الرجل الكبير في موعد صلاة الفجر ويبلغانه أن مسئولاً كبيراً في الدولة يطلب مقابلته».
(صحيفة القدس اللندنية 18 يونيو 2002) هذا المشهد الكافكاوي كان سلوكاً يومياً لأجهزة الأمن ولا تقوم بالاستدعاء بل بالضرب والتعذيب والاختفاء، حينها كان الكاتب في الملحقية الاعلامية بلندن متحفزاً لنفي أي اتهام عن انتهاكات حقوق الانسان في السودان، هل كان الصمت من قبل مثقفي الحركة (الاسلاموية) باعتبار أولئك الأشخاص كفاراً أو علمانيين أو خونة؟

ركزت على الأفندي ليس لأي سبب أخر الا لأنه أكثرهم ليبرالية، ومع ذلك سكت عن قول الحق، فما بالك عندما يكون الحديث عن مواقف المهووسين والمتزمتين من قيادات الحركة؟
يمكن ارجاع ضعف حس حقوق الانسان لدى (الاسلامويين) السودانيين والحركة (الاسلاموية) السودانية عموماً الى أسباب سيكولوجية فردية وأخرى فكرية جماعية تكمن في الفقر النظري والفكري الذي لازم الحركة المهتمة بالتنظيم والسياسة الحركية. ولكن أي عمل سياسي حين يصل درجة تعذيب الخصوم واذلالهم وانتهاكات حقوق الانسانية الطبيعية يخرج من الفضاء العام أي السياسة ويدخل في أسوار المصحات النفسية مهما كان نبل الغاية التي يدعيها السياسي أو المناصر للسلطة أو المستخدم فيها.
فالاسلامويون السودانيون لم يدخلوا الاصلاح الديني ولا الاجتهاد والتجديد بل أدخلوا التعذيب والاذلال في السياسة السودانية كمنهج وطريقة تعامل منتظمة ومقصودة. ولم يكن مجرد تجاوزات أو استثناءات لسبب بسيط هو أن الجميع في السنوات الثلاث الأولى كانوا شركاء في الانتهاكات بالتوجيه أو التنفيذ المباشر أو التبرير أو الصمت أو التواطؤ بالهروب عن طرح ومناقشة الموضوع وانكار وجوده لاخفاء الاتهامات. فقد كان تأمين السلطة الاسلامية هدفاً مقدساً يجبُّ كل ما عداه، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد الطائفية والشيوعيين والمتمردين والمستعمرين والصهاينة.
وكل شيء مباح طالما الغرض تأسيس الدولة الاسلامية واقامة المشروع الحضاري الاسلامي في نهاية القرن العشرين، ليس كمجرد أفكار يرددها الأفغاني أو محمد عبده أو سيد قطب أو المودودي، ولكن من خلال تحويل الفكرة الى دولة فوق رقعة أرض تبلغ المليون ميل مربع وقطر له حدود مع تسع دول. فقد درج الترابي ـ آنذاك ـ عن الحديث عن الاشعاع الحضاري من السودان المتوقع في المنطقة.

وبالذات في افريقيا. هذا الشعور الدافق بالاستعلاء ظل ملازماً لـ (الاسلامويين) وهم جماعة صغيرة فقد كان شعار صحيفتهم في بعض الأحيان: «ولا تهنوا وأنتم الأعلون»، فما بالك وقد استولوا على سلطة كاملة وأقاموا نظاماً شمولياً رادعاً وعنيفاً؟
صدق من قال
كان كتابي «أزمة الاسلام السياسي: الجبهة الاسلامية القومية في السودان نموذجاً» وصفاً وتحليلاً للحركة وهي لا تزال تعمل وسط الجماهير مثل بقية الأحزاب والقوى السياسية ولم تنقلب عليها بعد، ولكنها بعد انقلاب 30 يونيو 1989 وجدت نفسها في وضع مختلف تماماً.
تحدث ذلك الكتاب عن عصابية (الاسلاموي) وهو يتنافس مع بقية القوى السياسية وهو الآن يمتلك جهاز الدولة ويفرض من خلاله عصابيته كفرد وفاشيته كدولة وسلطة مطلقة. قدمت وصفاً يميل الى تحليل نفسية (الاسلاموي) المتعصب والعصابي. وجاء الاختبار لصحته النفسية وعافيته من العقد والرواسب عندما وجد السلطة في يده ـ وصدق من قال: السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة بصورة مطلقة. وكان أمام (الاسلاموي) الاختيار بين الرحمة والسماحة مقابل القسوة والاضطهاد والاذلال.
وكل موقف هو انعكاس لنفسية وشخصية محددتين. يندرج هذا الميل الزائد للعنف الذي يفهم خطأ بأنه قوة، ضمن حالة السادية ولها جانبان فهي اضطراب نفسي ـ جنسي، حيث تشبع الحوافز والدوافع الجنسية من خلال ايقاع الأذى والألم على شخص آخر. وقد لا يكون ارضاء أو اشباع السادي بالحاق الألم الجسدي الحقيقي بالآخر بل من المعاناة العقلية والنفسية التي قد يسببها للآخر.
وهذا ما يفعله من يقوم بالتعذيب من خلال التخويف والتهديد. وقد يستخدم المفهوم خارج السياق الجنسي لوصف الأشخاص القساة بقصد أو يحصلون على المتعة باذلال أو السيطرة على الآخرين في مواقف اجتماعية (الموسوعة البريطانية، الجزء العاشر 1994، ص293).

يقول سارتر إن الانسان أكثر الحيوانات فحشاً وضراوة وجبناً. ويصور فيلم بازوليني «مئة يوم في سدوم» وحشية مجموعة الضباط الفاشيين في تعذيب الشبان والشابات، فقد صعب على العقل العادي أن يفهم أن يقوم انسان يحس هو نفسه بالألم والخوف والاذلال ثم يقوم بايقاع هذه المحن على انسان مثله.
لذلك يجمع علماء النفس أن مثل هذا الانسان مريض ومنحرف يتساوى في ذلك من يصدر الأوامر ومن ينفذها. وهناك من يقول بأن النظام قد استخدم المشردين والمجرمين للقيام بعمليات الضرب والسحل والتعليق على السقف والحرمان من النوم وغيرها من الممارسات.وأعيد هنا بعضاً من التحليل الذي ورد في كتاب «أزمة الاسلام السياسي» ويمكن للقارئ الرجوع الى مزيد من التفاصيل، فالأصولي يتعصب ـ للمفارقة ـ لأسباب مثالية.
فهو يمتلك شعوراً بوهم القدرة الكلية وهذا ما يجعله يقطع صلته بواقعه ومحيطه في التفكير واختيار الوسائل. فالمتعصب يرى مجتمعه كله فاسداً ويعمل على تغييره بقلبه ولسانه. وفي حالة حكم «الانقاذ» كانت هذه اليد هي السلطة والتي أعطت له الحق في تكوين أجهزة الأمن والتحقيق والمحاكمة والسجن أو حتى الاعدام. وهذا اتجاه تطهري لدى الفرد يسمح له بهدم الموجود من أجل انشاء عالم مثالي خال من المفاسد والرذيلة، ويقوم بتقسيم العالم مانوياً أو ثنائياً الى فسطاطين أو محورين: الشر والخير.
ومثل هذا الشخص ينمو وفي داخله شيء من البارانويا وهي ذهان من أعراضه نزعة مرضية نحو الشك والارتياب ولذلك يلجأ الى العنف والاقصاء بل المحو قبل أن يتيقن من حقيقة الظن أو الشك خشية أن يكون الوقت متأخراً. ولابد لمثل هذا الشخص من ايمان قوي لا يتزحزح أو ايمان العجائز الذي لا يتساءل، وفي هذه الحالة يحس بامتلاكه لحقيقة مطلقة وهي في حالة الأصولي مقدسة أيضاً. وهذا منتهى الكمال وبالتالي النرجسية التي تلازم الأصولي العصابي.

وتعميه عن رؤية أخطائه ولا يحس بأي تأنيب للضمير مهما فعل خاصة في حالة الاندماج في الموقف مما يعطل الجرمية أي الشعور بالجرم. ووجد العصابي الأصولي السوداني في تنظيم الحركة ثم في سلطة الانقاذ شعوراً بالانتماء والعلو أيضاً. فهو عضو في جماعة اصطفاها الله لتطبيق الشريعة وبالتالي يصبح كل الآخرين دونهم، ثم يتم تصنيفهم كأعداء وكفار وعملاء مما يجعل قمعهم واضطهادهم واجباً دينياً وليس مجرد خلاف سياسي أو معارضة، ويظهر السلوك العدواني تجاه معسكر الشيطان أو الشر بدون تسامح أو قبول للآخر.
وتحول العنف الذي مارسه (الاسلامويون) السودانيون باستمرار في الجامعات والمدارس الى سياسة دولة كاملة. وكل هذه شروط جاهزة لقيام دولة شمولية قمعية تقارب النظم الفاشية التي عرفتها أوروبا لولا الاختلاف في درجة التطور الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي أنتج تلك الأيديولوجيا في أوروبا الغربية. فالتخلف ينعكس حتى على نوعية الفاشية المطبقة. وأقام (الاسلامويون) دولة شمولية بدائية في فاشيتها.
يردد (الاسلامويون) أن حماية النظام الجديد اقتضت تلك الاجراءات الاستثنائية وهو أمر طبيعي لأي سلطة جديدة. وينسون في هذه الحالة ما يميزهم على الشيوعيين أو البعثيين أو الناصريين مثلاً فأين اسلاميتهم التي تبرر الانقلاب ذاته باعتباره تأسيساً مختلفاً تماماً؟
لجأت السلطة (الاسلاموية) الجديدة الى المفاجأة وتعميم الرعب والخوف فقد بالغت في استخدام العنف حتى درجة القتل أو الاعدام. وهذه نظرة قاصرة وانتهازية كانت على حساب شعارات كبرى ومواقف مبدئية مثل حقوق الانسان في الاسلام. فقد وجدت السلطة (الاسلاموية) نفسها بين خيارين صعبين: ـ تأمين النظام بأي وسيلة أو الوقوف الى جانب المبدأ وتعاليم الدين، واختارت الأول، على أن تحاول ـ كما ظهر مؤخراً ـ ايجاد المبررات كما فعلوا طوال السنوات الماضية بلا جدوى.

ولا أدري لماذا نقول بأن البكارة تفقد مرة فقط ولا نقول أن الطهارة السياسية والأخلاقية تفقد مرة واحدة وللأبد؟ وهكذا وضع الاسلاميون السودانيون رفاقهم في البلدان الأخرى أمام حرج حقيقي حول الموقف الفكري والعملي للمسلمين تجاه قيم حقوق الانسان.
يرى بعض (الاسلامويين) أن قسوة القانون والعقوبات ضرورية لتطهير المجتمع وردع المعارضين، فهم يرددون: المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف أو أشداء على الكافرين. وهنا يطرح تساؤل فلسفي وهو دور الأخلاق في تخفيف قسوة القانون عند تطبيقه، ففي الدولة الاسلامية غالباً ما يختلط المقوم الديني مع المقوم الاجتماعي ـ الانساني. يلاحظ العروى أن عمر وعلى (رضي الله عنهما) لم يمارسا التعذيب والقسوة في العقوبة.
«ويقف وراء هذا التوجه عامل دنيوي ـ اجتماعي يرتهن في مجمل الأصول البدوية والطبقية التي ساهمت في تكوين شخصيتهما الى الحد الذي يمنع من الحكم عليهما لاعتبارات دينية خالصة أي بوصفهما ـ رجلي دين من النمط الشائع. ومن دون أن نتعسف التشكيك في جدية ايمانهما الديني».
ولكن أعطيا في سياستهما هذه مثالاً على الدور الذي يمكن أن تلعبه الأخلاق في تخفيف قسوة القانون (ص 65) يمكن القول بأن الحاكم المسلم قد يحكم بالقدوة الحسنة والمثال قبل القانون، لذلك نام عمر. وكنا نسمع بأن بعض أعضاء مجلس الثورة لم ينم الليل كاملاً منذ أن قام الانقلاب ولا أدري هل في هذا مدح أم ذم.
عيب في الجوهر
لم يكن موقف أصحاب المشروع الحضاري من حقوق الانسان وليد الظروف الاستثنائية والانقلاب وتعرضه للخطر، ولكنه عيب فكري في جوهر رؤيتهم السياسية. فالحديث عن حقوق الانسان بالمفهوم السائد هذه الأيام غائب في أدبيات الحركة (الاسلاموية) منذ نشأتها الأولى. ففي كتابات (الاسلامويين) السودانيين النظرية والفكرية وهي قليلة أصلاً.
وتكاد تنعدم أي مساهمات عن حقوق الانسان حتى الترابي كتب عن الديمقراطية والشورى والدستور والقانون ولكن حقوق الانسان كحركة وقيم ومؤسسات لم تثر اهتمامهم. يقول البعض أن الاهتمام بقضية حقوق الانسان في السودان جاء متأخراً نسبياً، ولكن حتى مع الاهتمام الأخير وجد (الاسلامويون) السودانيون أنفسهم في موقف معادٍ لحقوق الانسان كحركة عالمية وثقافة جديدة لأنهم اصطدموا معها باعتبارهم سلطة وحكاماً وليس دعاة ومفكرين.
وكانت حجتهم تقوم على الخصوصية ورفض المصدر الغربي لحقوق الانسان. لذلك عندما هاجموا مقرر الأمم المتحدة لحقوق الانسان كانوا في الواقع يكرسون الانتهاكات. فقد حددت لجنة حقوق الانسان موضوعات محددة مطلوب توضيح في وضعيتها في السودان مثل: ـ التعذيب في المعتقلات والسجون، القتل والاعدام خارج نطاق القضاء.
والحجز والاعتقال والفصل من الخدمة والقيود على التنقل والسفر ومصادرة الأموال مع استمرار حالة الطوارئ وقيام المحاكم الخاصة. حاولت الحكومة السودانية تحويل الاتهامات ضدها الى اتهامات ضد الاسلام، فهي هنا تماهي نفسها بالاسلام. فكل من يهاجم حكومة السودان يهاجم الاسلام. واستطاعت جذب الانتباه الى ميدان آخر وهو علاقة حقوق الانسان العالمية بالاسلام. وتم تجاهل أو تعتيم القضية.
مثل هذا السجال لا يمنع السؤال عما هي الاضافات التي قدمها (الاسلامويون) السودانيون في تدعيم هذه القضايا سواءً من خلال التنظير والفكر أو الحركية والدفاع الفعلي ضد الانتهاكات؟ ابتعد (الاسلامويون) عن حركة حقوق الانسان حين انطلقت في السودان باعتبارها من أدوات عمل اليسار والشيوعيين وبالفعل كان هؤلاء هم المبادرون. كما أن الحركة نشطت بعد قوانين سبتمبر 1983 الاسلامية وبعد اعدام محمود محمد طه بتهمة الرّدة وكان (الاسلامويون) شركاء أو متواطئون آثروا الصمت أو التأييد الضمني وأحياناً المباشر وأن كانوا قد تبرأوا من هذا الموقف لاحقاً.

أما الموجة الثانية لحركة حقوق الانسان في السودان فقد كانت ضد ممارسات السلطة الانقلابية العسكرية والانقلاب هندسة ونفذه ودعمه (الاسلامويون) ومن الطبيعي ألا ينضووا الى أي حركة تحاول النيل من النظام. وهكذا حرم (الاسلامويون) أنفسهم من شرف الانضمام والعمل ضمن حركة الحقوق. وهذا عيب وخلل في حركة يفترض فيها المعاصرة والجماهيرية، فهي تنفي عن نفسها التقليدية بأنها تمثل النخبة المتعلمة في السودان والدليل على ذلك اكتساحها لدوائر الخريجين عام 1986.
فكيف أمكن ابعاد هذه النخبة المتعلمة من حركة حديثة تدعو لقيم حقوق الانسان التي يرون أن الاسلام سبق الجميع اليها؟ وفي هذا تناقض لماذا لم يكتشف الاسلاميون هذه القيم الانسانية التي دعا اليها الاسلام وبالتالي يكونون المبادرين في انشاء منظمات حقوق الانسان في السودان والعالم العربي.
يعود الضعف الفكري للحركة (الاسلاموية) في ميدان حقوق الانسان وغيره من الميادين وفي ذلك الكتابة عن الاسلام حصراً، الى كونها حركة غير أصيلة فهي رد فعل أو عمل مضاد للشيوعية، وبالتالي تعرف نفسها بالسلب.
وكانت ترى نفسها دائماً في مرآة الشيوعيين. لذلك حفلت صحف الحائط الجامعية والتي تحولت الى صحفهم ومجلاتهم وكتبهم على مستوى آخر بالهجوم على الشيوعيين وتفنيد عيوب الشيوعية. وقد أراح (الاسلامويون) من خلال تصنيف تبسيطي يدرجون فيه كل من يخالفهم كشيوعي، وقد سهل عليهم ذلك تحديد معسكر الشر والشيطان.

Post: #16
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: بكرى ابوبكر
Date: 08-04-2010, 06:29 PM
Parent: #12

وقع هنا لادانة الاعتداء على بيت الفنون
http://www.sudaneseonline.com/petitions

Post: #13
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: Agab Alfaya
Date: 10-22-2004, 05:27 AM
Parent: #1

شكرا يا طارق علي هذا المجهود

والتحية للدكتور حيدر ابراهيم
الرجل الذي يعمل في صمت ،رغم مؤمرات الصمت ،

Post: #14
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: Khatim
Date: 10-24-2004, 00:06 AM
Parent: #1

جهد عظيم يستحق الإشادة. التحية لدكتور حيدر.
خاتم

Post: #15
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: Elbagir Osman
Date: 10-24-2004, 11:21 AM
Parent: #1

هذا جهد جبارمن د. حيدر.
لا أتفق مع الفقرات التي تبحث عن أصول مواقف الإنقاذيين من حقوق الإنسان والديمقراطية في طوارئ الحكم التي لم يحسنوا التحوط لها أوفي الإمراض النفسية.
إنتهاكات الأسلام الساسي لحقوق الإنسان نتيجة منطقية لموقف فكري جذري لدى الحركة يقوم علي أن غير المسلم لا يتساوى مع المسلم. ويحل بالتالي أنتهاك نفسه وماله وكرامته.
وكذلك الموقف من الديمقراطية، فهو أيضاً فكري إصيل عند حركة الإسلام السياسي فالديمقراطية والحرية تقومان على هوى الأنفس وهو مضل. وواجب الإسلاميين إجبار الناس على اتباع الطريق القويم، كما يرونه هم، بأعنف الوسائل مع الإزدراء الكامل لتلك الأهواء المسماة بالديمقراطية والحرية. وبالتالي ففاشية الحكم ليست طارئاً ظرفياً بل عقيدة أساسية لديهم.

الباقرموسى

Post: #17
Title: Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم
Author: AnwarKing
Date: 08-07-2010, 00:44 AM
Parent: #15

ياخي البوست ده ليهو 6 سنوات الآن...!!