تنكيسةُ الإبهام !

تنكيسةُ الإبهام !


02-24-2011, 11:43 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=307&msg=1305830683&rn=0


Post: #1
Title: تنكيسةُ الإبهام !
Author: shazaly gafar
Date: 02-24-2011, 11:43 AM

تنكيسةُ الإبهام !

شاذلى جعفر شقَّاق


أفرغتِ المائدةُ محتوياتِها تماماً فى جوفِ الأُسرة التى لا تزال بها حاجةً للمزيد

من الطعام ، انتقد الصِّغارُ فتاتَ الرغيف حتى تبرَّجتْ (أُم رمَّاح) المنقوشة بالمسمار – إسماً – على حاشية

الصينيَّة .. تبدَّى النصف الأعلى لصورة الطفل الرَّاكِض – داخل الطبق – عند انحسار السائل

الأصفر إلى النصف الأسفل !

- بلِّغ هارون البقَّال – وبالخطوة السريعة – إنَّا نُريد

كيس رغيف نُكمل به غداءَنا .

هكذا قال الوالد لأحد أبنائه المتكدِّسين حول اللهفة ، بلع الإبنُ

احتجاجَه البرئَ وقد ودَّع المائدةَ بغرْفَةٍ أُخرى – وكان على عجَل – من السائل

الأصفر المُسمَّى مجازاً بالعَدَس ! ثم شيَّع – مِن أسفل إلى أعلى – لسانُه

أنْفَه من المرفق إلى الكوع إلى بطن الكفِّ وبين الأصابع ، ثم انطلق كالإعصار .

وبعد قليل يعود الطفل الصغير لاهثاً ومُخيِّباً أمل إخوته المتحلِّقين

حول الانتظار .. لعَق خنْصرَه وبنْصرَه وإبهامَه شاهراً

عينَه على ما تبقَّى من العَدَس فى قعر الإناء وهو يقول :

- إنَّ هارون البقَّال قال لى قُل لأبيك : لا استطيع أن أعطيكم

رغيفةً واحدةً ؛ لأنَّ دَيْنكم صار ضِعْفَى أجرِكم الشهرى ولا زال

بيننا وبين آخر الشهر عشرون يوماً ، هذا إذا لم تتعلَّلوا

بعدم استلام الراتب اللعين فى أوانه – الأسطوانة المشروخة- ما لنا

ولهذا الهُراء ؟ أخبره إنِّى أُريد مالى فحسب !!!

ضحك الوالد حتى غاصتْ عيناه بين جفْنَيْهِ وهو يقول

بصوتٍ جهورىٍّ صقلتْه الأيامُ للتغلُّبِ على النبرات ، وبما

يشى بخطابِ التعوُّدِ والتكرار :

- لا يوجَد رغيف يا جماعة.. بماذا نُكمل غداءنا؟

صاحتْ الأُسرة بصوتٍ واحدٍ على طريقة التظاهرات الشعبية :

- بالماء الزلال ؛ الماء .. الماء !

تبارى الأبناء فى اكتراع الماء الزلال من مصدره العتيق ؛ الزير

القابع تحت شجرة الليمون .. تنازعوا فيما بينهم الكوزَ

المُعفَّر بالعدَس وأشياء أُخرى ، المتفانى فى ديمومة

غرْفِه جيئةً وذهابا ؛ فارغاً ودِهاقاً على مَرِّ السنين ! تباهى الصغار ببطونهم

المُنتفخة العارية أمام والدِهم الذى باركهم بقوله :

- حسناً ، يُمكنكم الذهاب للهو واللعب الآن !

فانتشَروا فى أرض الله لا يلوون على شئ ، وظلُّ العصْر يتمدَّد

عجلان ، يطلى فناءَ الدار الصغيرة بالسكينة رغم لَغَط

الأصائل وثرثرة الشوارع ومرَح الأَزِقَّة الطفولى و غمغمات

الأحياء القصيَّة .. خِلسة الخلوة ولحظة الخلود إلى

الذات يبعجان دخيلةَ الوالد المترعة بالخواطر ، المُتخمة

بتراكمات فِعل الحياة وأفاعيل البشر فى هذه الأرض الزاخرة وطرقاتها

المتلاطمة .. الصوت الناعم ينتشله كطوقِ نجاة من لُجَّةِ تهويماته تلك :

- أتُريدُ أباك يا عزيزى؟ هيَّا إليه إذاً .

قبَّلتْ ذاتُ الصوتِ الناعم الرضيعَ ذا الشارب الأصفر ثم

غرسته فى صدرِ والده المُستلقى على قفاه فى ظلِّ الغُرْفةِ

المُمتد حتى خاصرة حائط السور الشرقى .. لاعَب الوالدُ صغيرَه ؛ أضحكه

كثيراً بلثمات شفتيْهِ المتقاربة المتواصلة لتلك السُرَّة البضَّة ذات

النتوء البارز .. بعد قليل تشاغل الرضيع صاحب العينين

النبيهتين عن والد ه بحركةِ فأرةٍ صغيرةٍ خرجتْ يائسة

مِن المطبخ .. حوَّلتْ تجاه نظراتِه عصفورةٌ حائرةٌ تنزَّلتْ

على المنضدة ؛ حشرتْ منقارَها تحت جناحِها الأيسر ؛ أخرجتْه

ثم طارتْ !.. عاود الرضيعُ الاهتمامَ بوالده ؛ أنشبَ أظافرَه

الناعمةَ فى الخدِّ المتجعِّد ..عبثتْ أناملُه الرقيقة بالشارب الكَثِّ ..

كانت الذبابةُ الخضراء قد غطستْ داخل كوب الشاى البارد

ثم ولَّتْ دُبُرَها .. جاءتْ أُخرى نشوى ؛ حطَّت على حافة الكوب .. حطَّتْ فوقها

أُخرى فاختلط الطنينان !.. دندنتْ صاحبة الصوت

الناعم بأغنية مفعمة بالعواطف الجيَّاشة وهى تُخرج التلفاز من داخل

الغُرْفة إلى فناء الدار .. جعجع التلفاز الأرعن .. هتف باسم البُحبوحة العنقاء ..

شدَّ أوتار الرخاء الخرساء ..عزف يوتوبيا شعاراتِه الجوفاء

أمام الواقع المُعاش ثم أطلق حُنجُرتَه للهواء الطلق فى

ذلك المساء وكلِّ مساء ! .. رفع الرضيع يدَه تجاوباً مع التلفاز ..

تقافزتْ ضحكاتُه حتى سال لعابُه ؛ فما انفكَّ التلفازُ يعوى

والرضيع يرقص ضَحِكاً ، يرفع يده مُنكِّساً إبهامَه ، حتى صرختْ أمُّه

التى تلقَّفتْه قبل أنْ يسقط على الأرض مِن على ذلك الصدر الساكن سكونَ اليقين !



وبس