تداعيات في بلاد بعيدة

تداعيات في بلاد بعيدة


03-27-2007, 05:11 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=3&msg=1174968707&rn=0


Post: #1
Title: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-27-2007, 05:11 AM

ثمة أشياء في الحياة ، قد نقترب منها تزجيه لساعة فراغ ، أو لمجرد قتل الدقائق في مدينة لا يحدث فيها أمر ذو بال ، نفعل ذلك في العادة مبتسمين ضاحكين ، يغرينا بريق مرح زائف، يلتف حولها كهالة من الضوء ، حاجباً ما خلفه من عذاب ، قد ننفق العمر كله محاولين الخروج بلا جدوى من أسر ويلاته الحالكة.

لو علمن ما يتبع ذلك السؤال ، لاعتصمن بحبل الصمت ، لما ألقت السائلة ما ألقت ، بل لتبدلت مصائر إلى غير ما ذهبت إليه أقدام أصحابها طواعية من شقاء ، ولست أدري حقاً يا أصدقائي إن كان ذلك ما يدعونه " الفخ "، أو سعي الضحية إلى حتفها راضية.

ما زال أمامنا وقت طويل ، لتجف بحيرة الدمع في أعماقنا، لنرى جوانب الصورة الأخرى ، لنتعلم عبر سعير المحبة متى يكون التجاوز بديلاً لانتحار القيم ، ربما أبصرنا آنئذ الجمال داخل ما يبدو ظاهره من الدمامة بمكان ، ربما أدركنا أن في العمر متسع لغير النزاعات الصغيرة، أو لربما أعرضنا حتى عن العميان الخالدين " الذين ما كان ينبغي أن نضع في أيديهم مشعل النور السماوي".

تلك إذن حكمة السنوات، عصارة التجارب ، وثمن المعرفة العتيق ، ومع ذلك ، لست على يقين من أن كل شيء كان لابد له أن يتم وفق ذلك النحو، الذي زلزل ثوابت مدينتنا الإقليمية الصغيرة الواقعة عند ضفاف النيل الأبيض مرة واحدة و إلى "الأبد"..... قد لا أخالني قلتها هكذا، دون غصة في الحلق، "الأبد!"، تلك الكلمة، ما إن أذكرها ، حتى يتغلغل في داخلي أكثر فأكثر ، جمرُ الأسى ، أو الشعور بزوال الناس والأشياء..... علىَّ الآن أن أدع أفكار الوحدة السوداء جانباً ، و أن أدلف إلى بيت الذكريات دون تردد ، أفتح نوافذه ، أبدد عتمة النسيان ، أكنس بأصابع الحنين ما تراكم من تراب الزمن ، أعيد للوجوه الغائبة رونقها القديم ما أمكن ، ولا أدري من أين أبدأ تفاصيل تلك الحكاية ؟!.



يتبع

Post: #2
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: أبوذر بابكر
Date: 03-27-2007, 06:32 AM
Parent: #1

قبل ما "يتبع"

خلينا نتبع شوقنا ليك

إزيك يا حميد

كيف حالك والعَقاب

وبرضو

يتبع

Post: #3
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-27-2007, 06:38 AM
Parent: #2

" كما يشاع لم يكن للكلب غرة بيضاء على جبينه " ، هكذا أخذت تستعيد ذات نهار قائظ بعيد تفاصيل فضيحة أحمد حسن ، التي حدثت أيام مراهقته ، و لم يتبق منها شيء ، في أذهان معظم الناس ، سوى ذلك " الاسم " ، الذي رافقه بعد مقاومة قصيرة و محدودة من جانبه إلى يومنا هذا : مُسيلمة الكذاب .

كانت الشمس تشتعل في منتصف سماء جرداء ، شجرتا النيم تقبعان على جانبي مدخل الدار ، تطلان على الشارع المقفر في هدوء ، لكأنهما سقطتا على حين غرة من لوحة رسّام أراد تصوير الحياة كبستان خال من الهواء ، و ثمة ديك حزين يرتفع صوته من مكان ما، أما أرض الفناء الترابية الكابية فكانت تلتمع بعشرات الشظايا الزجاجية الصغيرة المتناثرة هنا وهناك ، " إنه الصيف " ، علا صوت إحداهن لحظة صمت وهي تتأمّل العالم المحترق خلف النافذتين ، وبينما الحوائط تختزن الصَّهد لتنفثه بعد ساعات رئة المساء المعتمة ، ما كان بوسع أكثر الناس مقدرة على التوقع أن يتنبأ بما آل إليه مجلسهن من حوادث تبدو لي الآن مثل نغمة حزينة من أنين القوافل البشرية السائرة عبر القرون بلا توقف أو عزاء .

آنذاك كن مجتمعات داخل إحدى الغرف، أمي وأختاي الكبريان وجارتنا فاطمة وعانس على مشارف الخمسين تُدعى " وكالة رويتر المحلية " ،كن صامتات أغلب الوقت ،و الحق كانت هي من النوع الذي يشد إليه انتباه مستمعيه بخيوط محكمة من المتعة والسكون وإثارة الأشواق الدفينة، تعرف جيداً متى تصمت ، كيف تستعين بأصابعها النحيلة أو الرقيقة أثناء الكلام ، بل و أين تلقي بالمغزى الكامن داخل الحكاية ... أية حكاية ! .

لكأني أراها الآن ......

كسنابل القمح أواخر الشتاء ، ذاك لونها ، ممشوقة القوام ، ذات شعر ناعم ينسدل إلى أعلى ردفيها بقليل ، لها ابتسامة تثير الذعر والمسَّرة في آن ، فمها يتخذ في مناسبات عديدة هيئات الوَدْع تُلقيه على الرمل يد العرَّافة ،لا تكاد عيناها الواسعتان تستقران طويلاً على حال ، ولا أحد يعلم على وجه الدقة متى وأين وكيف محا ذلك الاسم اسمها القديم .

مازلت أتذكر توهج السعادة على وجهها حين يحدث في المدينة أمر ذو بال ، فذلك معول وحدتها ك " ابنة " وحيدة تعيش فيما يُشبه القصر ، أتذكر ذلك ، أتذكر حتى ما يُحكى عن موت أبويها الثريين في حادث غرق وقع قبل ولادتي بعام ، كل ذلك وغيره، مازلت أذكره بوضوح شديد ، لكنَّ أكثر ما يشيع الأسى في قلبي من هذه الذكريات ولا أدري لماذا هو علمي أن " وكالة رويتر المحلية " قد ماتت في منتصف العقد السادس من عمرها دون أن ينعم بستان جمالها الذابل لحظة بالماء المتدفق عبر قناة أحد أولئك الرجال ؟!.



يتبع

Post: #4
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: فيصل نوبي
Date: 03-27-2007, 07:07 AM
Parent: #3

سلام ابو أحمد
و حمدا لله علي السلامة












متابعة .. و لي عودة أخري إن سمحت لي.

Post: #5
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-27-2007, 07:31 AM
Parent: #4

على غير العادة ، خرج الحاج محمود مبكرا ً، بعد أن رأى في المنام كلباً أسود يضع في فمه غليوناً يتصاعد منه دخان رمادي ، جلس داخل الفرندة على طرف السرير متصالب الساقين واضعاً رأسه بين كفيه ، يُقلب في ذاكرته ما قاله ابن سيرين عن الأحلام و عيناه ترنوان إلى شيء أبعد من العتمة و الفناء و ذكرى زوجته و بناته اللائى تزوجن تباعا و غادرنه مع أزواجهن إلى مدن بعيدة ، أخيراً طفق يتوضأ وقلبه يحدثه أن كارثة ما في طريقها لتقويض سلام المدينة، "اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه"، هكذا تمتم ملقياً بذلك الأمر كله على كاهل الخالق ونهض.

لم يدم انتظاره طويلاً ، ما إن فتح باب الفناء الخارجي وسار خطوات في طريقه لرفع آذان الفجر ، حتى تجمد الدم في عروقه و توقفت أنفاسه دفعة واحدة ، إذ انشقت الأرض أمامه عن كلب أسود ، وقف على قائمتيه الخلفيتين لحظات ، ثم تلاعب بعينين متقدتين كعاشق قديم لا ينقصه الحياء ، قبل أن يمرق بذيل معقوف إلى أعلى في الاتجاه المعاكس كبرق ، حين التفت لم يكن ثمة شيء سوى السكون المخيم على امتداد الشارع الطويل المترب ، " اللهم اجعله خيراً " ، هكذا بالكاد خرج صوته ، ومع ذلك ، سرعان ما هدأ من روعه وغذى الخطى مواصلاً السير كمؤمن حقيقي .

كانت تقترب من الثالثة بعد منتصف الليل، ما زال في الوقت مساحة للتأمّل في مخلوقات الله والسير بتؤدة، المصابيح مطفأة داخل المنازل، أعمدة الكهرباء الأسمنتية المتعاقبة أعماها عبث الصبية النهاري " و لم يكن للمحافظ الطيب يد في كل هذا " ، أما البدر فكان يطل من حين لآخر خلل السحب السوداء السارية ببطء صوب الشمال، يختفي فتعتم الأشياء آخذة من جديد أشكالها المخيفة الغامضة، "الناس غافلون عن غايتهم، الآيات واضحة، لكن الحكمة لا يبصرها المبصرون، وتلك لعمري ساعة يذكر فيها اسم الله كثيراً"، هكذا همس الحاج محمود، مبدداً وحشة الطريق و بقايا الرؤيا المشئومة في خشوع، فاركاً بين يديه مسبحة الصندل الحجازية، ومغالباً تلك الدموع الحارقة التي ظلت تملأ عينيه كلما استشعر في أعماقه عظمة الخالق سبحانه وتعالى .

فجأة انتبه إلى حركة مريبة كانت تتناهى لاهثة من كومة الأوساخ المتراكمة أسفل سور المدرسة الأميرية الحجري القصير، في البداية، لم يخالجه الشك لحظة أن الشياطين تتناسل داخل تلك الخرابة في غفلة من عين الإنسان "الذي يمتلك مفاتيح السر منذ أن حمل الأمانة"، ثم، وبيقين تام و مثلما حدث مع الكلب الأسود توقف غير بعيد من الخرابة و قال : "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم " ، ولكن "أي شيطان لا يفر إذا ما أطلق عليه اسم الجلالة"، تساءل الحاج محمود وبدا القلق يساوره ، إذ لم يتغير شيء ، وأكثر من ذلك ظل اللهاث يتفاقم شيئاً فشيئاً .



يتبع

Post: #6
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: معتصم دفع الله
Date: 03-27-2007, 07:36 AM
Parent: #1

سلام يا برنس ..

عوداً حمــيداً ..

Post: #7
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-27-2007, 05:55 PM
Parent: #6

شبحان غريبان من خيال العتمة، يلتحمان في وضع أكثر غرابة، لكأن القاذورات تحتهما سجادة حريرية يتمرغ فوق نعومتها جسدا عاشقين التقيا بعد طول غياب لم ينقطع خلاله نداء الشوق والوجد وظمأ رغبة لا رواء له، كان البدر محتجباً لحظتئذٍ وراء سحابة سوداء كثيفة، العرق يتصبب من جبينه وصدغيه مبللاً لحيته البيضاء المستديرة وقلبه يرتجف داخل صدره كأنف فأر حاصره قط في ركن ضيق، كان قد استنفد في تلك الدقيقة كل ما في جُعبته من آيات وأدعية مأثورة، وما إن قرر أخيراً مغادرة المكان بأسرع قدم لديه، وقد أدرك برعب مدى ضعف إيمانه الذي لم يصمد كثيراً إزاء "هذا البلاء الرباني اليسير"، حتى جاءه الغيث من السماء، حيث اندلق نور القمر المنير كاشفاً معالم الفصول الدراسية وتضاريس السور الحجري القصير و..... أدق تفاصيل الشبحين اللذين كادا منذ دقيقة واحدة أن يقلبا نظام العالم القائم في ذهنه رأساً على عقب .

رويداً رويداً ، تنفس الصعداء ، لقد وضح له الأمر جلياً ، لبث ساكناً مسافة يلفه الغضب و الحنق و الذهول و تخاذل إيمانه في اللحظة الأخيرة ، أخيراً عقد عزمه فتقدم وسط الأوساخ شاقاً طريقه كثعلب يقترب من حظيرة الحملان بحذر وخفة، كان بينه وبين الشبحين خطوة واحدة، حين تبين وجه أحمد حسن على نحو شديد الوضوح، "ذلك الفاجر"، قالت "وكالة رويتر المحلية"، ثم رمت نظرة نافذة متناوبة على وجهي أختيَّ جعلت الكبرى تتأمّل أظافرها المطلية حديثاً بينما تغير وجه أمي قليلاً حالما رأت الأصغر تبادل "وكالة رويتر المحلية" نظرة الند للند بل صعدت إلى حصان جرأتها المعهودة حيث مدت عنقها إلى الأمام وقد خيل لي أنها قد تتحول في أية لحظة إلى أذن فيل ضخمة لا محالة ، أما جارتنا فاطمة فقد كانت لا تزال تبتسم بعينيها الجميلتين دون أن تنفك يداها من تهوية وجهها بكتاب : " ألف طريقة لصناعة الحلوى " !.

كان نصفه الأسفل عارياً إلا من سرواله الساقط عند كاحليه، جلبابه يتكوم ما بين الصدر والعنق، عيناه شاخصتان في البعيد، بينما ينغرس فكه في الظهر المائل لحمارة أمينة الفراشة التي أغمضت عينيها نصف راقدة وأرخت أذنيها الكبيرتين وراحت تلوك شيئاً ما ببطء وتلذذ غريبين أثارا وزادا من غضب الحاج محمود الذي وطأ أثناء سيره الحذر داخل كومة الأوساخ على جثة فأر متفسخة، وبدا وكأن الحمارة قد تعودت على مثل هذه الممارسة الاستثنائية منذ زمان بعيد.

كانت المنازل الساجية قبالة سور المدرسة شهود عيان، أوصدت الشماتة والخوف والدهشة آذانها، فبدت غير عابئة بضربات المسبحة المتساقطة على رأس أحمد حسن الذي انتزع نفسه وجذب السروال وأسدل الجلباب في ثانية متقهقراً نحو السور بما تبقى له من عقل، لكأن الحمارة التي لا تزال محافظة على هدوئها ، لم تسمع بدورها كل ذلك النداء الخافت المستغيث الحار: "الستر.. الستر الستر.... يا مولانا..... وربَّ الكعبة الشريفة.... لم أفعل هذا المنكر الشنيع بمزاجي....... كنت في عز نومي.... عندما خطفني الشيطان من سريري خطفا.. ثم........ ثم..... ثم أحضرني إلى هنا محمولاً على قرنه السابع" ، حالما أنهى بشق الأنفس مرافعته الدامعة المنكسرة حدَّ الرثاء ، زفرت الحمارة لأمر ما ، وبدا أن الحاج، الذي أنساه هول ما رأى أن يؤذن لصلاة الفجر، قد وجد داخل كومة الأوساخ متسعاً للحوار، فأخذ يتفكر في وجه المراهق الملتصق بالسور بينما صوت ديك ينطلق من مكان قريب قائلاً: "لماذا يا ابن الناظر نفسه!، لم يكن قرنه الرابع؟، أو حتى الخامس؟، لماذا قرنه السابع تحديداً؟!، وإذا كان للشيطان كما نعلم مائة رأس بالتمام والكمال، فإلى أي الرءوس كان ينتمي القرن الذي حملك إلى حمارة أمينة الفراشة؟!، أيها الفاجر، لماذا تصمت هكذا؟، ها أنت إذن تكذب أيضاً، خذ هذه ، و قسما بالله العظيم ثلاثاً، لأنت سيد الفحش، لا لا، أنت الشيطان نفسه في صورة إنسان ، لا بل ..... أنت مُسيلمة الكذاب ".

كان في إمكان هذا الحوار أن يستمر بين كر و فر إلى ما بعد بزوغ الشمس، لولا أن فطن ابن الناظر الذي دأب على ركل عجيزة الحمارة بقدمه خفية إلى مراجعة موقفه، فأطلق العنان لساقيه الخفيفتين كساقي جواد، تاركاً الحاج محمود وسط نهيق الحمارة الذي علا على حين غرة ، ثم وبعد أن انغمسن في الصمت لدقائق، أضافت "الوكالة" باعثة نسمة أخرى من الضحك في خلايا ذلك النهار الذي بدا لغيظه بلا نهاية: "يا بنات!... سعيدة.... من تتزوج مُسيلمة الكذاب.....سعيدة حقاً ... فلو طلبني أنا شخصيا للزواج لوضعت ثوبي بين أسناني وركضت نحوه بلا تردد ...... لا تتضاحكن هكذا ... لابد أن مَن يفعل ذلك لديه مثل ما لدى الحمار " !.




يتبع

Post: #8
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: osama elkhawad
Date: 03-27-2007, 06:41 PM
Parent: #7

مرحبا بالبرنس مرة اخرى
المشاء

Post: #9
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-27-2007, 08:21 PM
Parent: #8

كانت ذرات الغبار الدقيقة تمرح سابحة على امتداد شريط الشمس العريض المتساقط عبر إحدى النافذتين، كن يرقبن ذلك دون سابق اتفاق راسمات على وجوههن بدرجات متفاوتة ذلك التعبير الأنثوي الحالم ،الذي ينم عن وجود رغبات دفينة داخل النفس تبحث خفية عن طريق ما للتحقق، وكان ثمة سرب من الذباب يتنقل في كسل بين أكواب الشاي الفارغة أعلى طبلية الخشب و أطرافهن شبه العارية في لهيب ذلك النهار ، وبدا بالفعل أن مثل تلك الحكايات القديمة لم يعد يحمل جديداً، حين بدأن في الاستغفار والتثاؤب تباعاً، عندئذ ، ألقت "وكالة رويتر المحلية" بصوت ناعس لا يثير ريبة ما حرَّك بـِركة الأنس الراكدة منذ فترة قائلة: "يا بنات...بحق الله....مَن هو مطربكن المفضل"؟.



تحولت الأنظار نحو فاطمة آن استقر شريط الشمس المنسحب عند قاعدة النافذة ، كانت لا تزال تقلب في صفحات ذلك الكتاب الذي ظلت تحمله معها لأمر ما كلما أتت لزيارتنا، كان يرتسم على طرف فمها الأيمن طيف ابتسامة ساخر زاد من ألق عينيها الجميلتين اللتين رفعتهما فجأة نحو السقف قبل أن تمسح وجوههن القلقة بنظرة نصف مروحية بطيئة وامضة وتنكفئ مرة أخرى على كتاب "ألف طريقة لصناعة الحلوى" مؤججة بذلك نار الانتظار بلا طائل،وكن قد فطن إلى صمتها الملغز حين فرغن من إجاباتهن المتدافعة وشرعن في التطلع إليها متوقعات بنفاد صبر أن تُلقي باسم مطرب آخر ، ربما لتكتمل دائرة المقارنة الأنثوية القاتلة ، ربما ليأخذ الحديث مجرى مختلفاً ، وربما ليفتحن باباً يُفضي إلى خارج أتون الحرارة الذي لا يُحتمل .

كانت أمي تتفرس في جارتها محاولة أن تحذر ما يدور في خلدها وفمها فاغر وعيناها مليئتان بالعجز والخوف والفزع من تحقق هواجس غامضة ، وقد تراقصت في ذاكرتها عفاريت هالة المجد الكاذبة التي أحاطت برفيقة طفولتها في زمان سابق لكم ودت أن يتلاشى من ذاكرتها دون رجعة ، وحين رفعت فاطمة رأسها أخيراً بدا ربما لكثافة صمتها وكأن لا وجود لـ "وكالة رويتر المحلية"..... البتة.

كانت تلقي خطاب "طلائع المدينة"، وكانت في نحو الثالثة عشرة، حين مال الرئيس السابق برأسه أسفل الخيمة المنصوبة خلال زيارته الأولى و اليتيمة إلى المدينة نحو وزير "الموارد المائية" الجالس آنذاك إلى يمينه كمن يتأهب لدخول الحمّام في أية لحظة،وما إن همس في أذنه حتى رحلت علامات الملل عن وجهه فجأة وشرع ينصت لخطاب الحسناء اليافعة حالماً تارة ومُبدياً إعجابه عبر إيماءات عديدة تارة أخرى وإن بدا في كثير من الأحيان وهو ينظر إلى الصبية وفق ذلك النحو كمزارع يمعن النظر في أرض بكر إذا ما عُهد بها للرعاية ستنبت الكثير من الثمار الطيبة، لتنطلق فور انقضاء مهرجان الخطباء إشاعة قوية في المدينة يقال إن مصدرها المحافظ الأسبق نفسه تفيد أن الرئيس قرر تزويج فاطمة بعد عامين على الأكثر لوزيره "الشاب الأعزب الوسيم"، الجميع يذكرون كيف ازدحم بيت والدها إثر ذلك بأرباب المطالب وأصحاب الالتماسات الخاصة وكيف تقاطرت عليها هدايا ثمينة مجهولة المصدر قال رُسُلها إنها مجرد تعبير بسيط عن حب المدينة وتقديرها الخاص لابنتها "الواعدة "، كان الأمر من الجدية بمكان أن قام المحافظ وقتذاك بتعيين حراسة خاصة ظلت ترافقها أينما حلت ،وكان ذلك يقذف بأترابها من أمثال أمي في هوة سحيقة من ظلام الغيظ أو الغيرة، ذلك ما كان من أمر الأمس ، ولم يدر في ذهن أكثر الناس مقدرة على التخيل بعد ذلك أن ينتهي بها المطاف كزوجة لصلاح" بتاع الدكان "، لقد وُئد حلم فاطمة لحظة الانقلاب العسكري الذي أطاح بعالم الرئيس في ظرف أقل من عام من نهاية ذلك المهرجان ، وإن لم تغادرها حتى الممات نزعة التميز والشعور بالتفوق رغم ضيق ذات اليد والوسائل ، وكانت النتيجة أنها غدت متخمة بتطلعات نساء الطبقة الوسطى خلال الستينيات بدءاً من اقتناء الثلاجة "كولدير" ، مروراً بالنظر إلى عامة الناس من شاهق ، وانتهاء إلى مُناصرة جمعية " رائدات نهضة المرأة الحديثة ".




يتبع

Post: #10
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: Osman Musa
Date: 03-27-2007, 08:42 PM
Parent: #9


أستاذ عبدالحميد .. سلام
يابرنس والله جعلتنا نرهم معك كما كانوا . جعلتنا نسمع ونتابع
حتى الشروق . نشتم رائحة روث البقر والحمير
اسمع ( زولك شرد)
تحياتى
اخيك عثمان

Post: #11
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-28-2007, 06:37 AM
Parent: #10

هناك ، قبالة أمي و " وكالة رويتر المحلية " ، عند طرف السرير الموازي للحائط الخالي من النوافذ ، وبينما فاطمة التي توسطت مجلسهن توشك أن تتكلم ، كانت أختي الأصغر قد تحولت بالفعل إلى أذن فيل ، وهي تعلن بظهرها المشدود وصدرها اليافع المندفع إلى الأمام عن حرصها الشديد على متابعة أمر لا ترغب في أن يفوتها منه شيء، كانت الكبرى القابعة عند الطرف الآخر تجاهد في تلك اللحظة ما أمكن لطرد ذبابة خضراء لم تنفك طوال تلك الدقائق من الطنين حول رأسها والسير على صفحة وجهها كلما سكنت، "مطربي المفضل هو الموسيقار عثمان حسين"، قالت فاطمة بفخامة، وتهللت لسبب ما أسارير "وكالة رويتر المحلية"، في حين هبط على إناث الأسرة صمت ثقيل أمكن خلاله سماع صوت دبيب أقدام نظرات الحسد الخافتة، وما إن عادت أمي إلى رشدها، وأخذت تفكر في كلمة "موسيقار"، ككلمة عصّية على النطق، حتى هوى صوت الجارة، مزعزعاً بقسوة هذه المرة يقين الإجابات السابقة، كاشفاً في الوقت نفسه عن سعة إطلاعها على ما يستجد من أحداث داخل ما كان يحلو لها أن تدعوه في كثير من الأحيان: "عاصمة جمهورية السودان الديمقراطية"، قائلاً: "أحبه لأنه مطرب طلاب جامعة الخرطوم المفضل".

كان الناس في تلك المدينة ينظرون إلى هؤلاء بوصفهم "ملائكة علوم الدنيا"، على حد تعبير ناظر المدرسة الأميرية، الذي تغيرت معاملته تجاه أمينة الفراشة بعد أن التحق ابن شقيقتها بكلية التربية، متناسياً بذلك وصمة العار التي أدركت ابنه "بسبب حمارتها"، وإن لم يتزحزح قيد أنملة "نكاية في الحاج محمود" كما يروج البعض عن اعتقاده الجازم في أن ما حدث " كان وراءه قرن الشيطان السابع ولابد ".

تكهرب الجو داخل الحجرة تماماً، إذ كان من العسير على أمي أن تمضي إلى نهاية الشوط وهي تخفي استياءها من اختيار أختيَّ لمطربين "شعبيين" على الرغم من كونهما في "مقام" ابنة فاطمة الوحيدة "أمل" .

قبل سنوات قليلة، أوصدتْ خلالها الغربة أبوابها أمامي، كنت أفتح صناديق الذاكرة الموصدة، أقلب بتفكر في تلك الأحداث، وشيئاً فشيئاً رسخ لدي وراء ستارة الدموع الضبابية أن اختيار المرء لمطرب ما تستجيب له أحاسيسه ما كان ينبغي له أن يحدث في نفس أحبائه الذين يتطلعون إلى رفعته كل تلك المعاناة! ، كنت أحكم على ما جرى بمقاييس الآن، لكنني بدأت أدرك حالما رأيت ذات مساء طفلاً في نحو الثامنة من عمره عند زاوية أحد الميادين وهو يرقب أقرانه بصمت وهم يتدافعون خلف الكرة أن الكون كله قد يتكاثف في لحظة بخيره وشره بمحيطاته وبحاره وأنهاره وأرضه وسمائه بأفراحه وأحزانه وصراعاته داخل ما يراه البعض شيئاً صغيراً تافهاً ثانوياً مثل أن يعكف ذاك الصغير في ذهنه كما بدا لي على استعادة الفرحة أو ساقه المفقودة بأسى .

لكأن ذلك حدث في الأمس القريب...

تثاءبت " وكالة رويتر المحلية "، وبدأت فاطمة تقرأ شيئاً ما من كتاب " ألف طريقة لصناعة الحلوى " ، وكأنها لم تدرك قوة الزلزال التي أحدثتها كلماتها تلك في نفوس " إناث الأسرة " اللائى أخذن ينظرن في اتجاهات الصمت المختلفة كطائر ذبيح ، ثم ما لبث صوت كليهما أن تناهى في وقت واحد إلى آذان أمي التي وضعت رأسها بين كفيها وراحت تنظر في شرود إلى ما فوق طبلية الخشب القصيرة طالبا الإذن بالانصراف ، هنا رمقت أختيَّ بنظرة معاتبة ، ثم نهضت بتلك الابتسامة الشائخة لامرأة في منتصف الثلاثين ، وشيعتهما إلى باب الحوش ، حيث عادت بخطوات أثقلها الصمت وذهنها منصرف إلى مكان بعيد لا يعلم إلا الله متى تعود منه ، ولم تظفر أختاي بكلمة واحدة منها طوال اليومين اللذين أعقبا ذلك المجلس ، وكان الأمر خارج حدود الاحتمال أو التفسير .




يتبع

Post: #12
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: elham ahmed
Date: 03-28-2007, 04:51 PM
Parent: #11

على سبيل التحية

Post: #13
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-28-2007, 06:28 PM
Parent: #12

قبل مغادرتها المجلس بوجه طافح فيما بدا لعيني أمي بـ "الأسرار والأخبار الطازجة المثيرة"، أثنت "وكالة رويتر المحلية" بدهاء على ما أسمته "ذكاء فاطمة الرهيب"، مؤكدة "في الحقيقة" أن "مطربها المفضل قد خطف بالحق قلوب بنات الخرطوم الراقيات "،و الجارة لم تصدق خبراً، وضعت رِجلاً على رِجل، ورويداً رويداً، شرعت في الانتفاخ مثل قاموس خال من كلمة "تواضع"، زارعة بذلك البذور الأولى لما سيقلب هدوء المدينة الصغيرة رأسا على عقب .

كانت الأسرة قد استقرت في بيت جَديّ لأمي المغلق منذ ثلاث سنوات على وجه التقريب، آنذاك قرر والداي هذه الخطوة، بعد أن تقدمت أختاي في التعليم وصار لزاماً إلحاقهما بالمدارس الثانوية في المدينة، على أن يبتعث أبي كما ظلت أمي تردد في بعض الأمسيات أمام الجارات ضاحكة "حياة عزوبيته" كمفتش زراعي من الدرجة الثالثة "تضحية لمستقبل الأنجال" .

ما أحزن أمي، ما أقض مضجعها، ما أحال ليلها إلى نهار وجعلها تختض من الغيظ، بل ودفعها إلى التفكير عميقاً طوال الأيام الثلاثة التي أعقبت ذلك المجلس في وسيلة مثلى للانتقام من جارتها "المدعية زوجة صلاح بتاع الدكان صاحب العينين الضيقتين اللتين تشبهان فرج السحلية"، أن ما اعتبرته " فضيحة حضارية " لا تليق أبداً بسمعة "عائلة كريمة" يُعتبر أحد مؤسسيها أول من بنى بيتاً من "الطوب الأحمر" في المدينة قد وقع تحت سمع وبصر "وكالة رويتر المحلية "، وهذا أمر "لا يُبشّر بخير على الإطلاق بالنسبة لمستقبل زواج البنات في مدينة بها عدد من طلاب جامعة الخرطوم الأذكياء"، أملت ذلك في رسالة عاجلة بعثت بها إلى أبي، معربة خلالها عن "عميق أسفي الشديد جداً لهبوط الذوق الحضاري لأفراد أسرتنا نتيجة النزوح معك يا سيادة المفتش الزراعي الثالث بين النجوع والكفور والقرى النائية طبعاً"، كاشفة بعبارات غامضة وكأنها تخشى من وقوع الرسالة في يد غريبة عن "خططي السرية الدائمة لتدارك ما يمكن إدراكه، لابد أن في أعماقها نزعة شكسبيرية ظلت حبيسة لعقود خلت فأفرج عنها مسار "تلك الفضيحة الحضارية الكبرى" حين ختمت رسالتها بكلمات جدُّ حاسمة وقاطعة مازالت أحرفها تتراقص أمام عينيّ: " لقد أصبحت الحكاية الآن مسألة حياة أو موت في هذه المدينة " .

في سعيها المحموم لتغيير الصورة العائلية مرة واحدة وإلى الأبد ، لم تكتف أمي بتوبيخ أختيَّ على سوء اختيارهن "بفصاحة" لمطربين شعبيين مثل "القادمات من الريف حديثاً"، بل شرعت هي نفسها في إعلان رأيها "الشخصي الخاص جداً جداً جداً"، زاعمة أن مطربها المفضل لم يكن "في يوم من الأيام" سوى مغني البوب الأمريكي الشهير "الفيس بريسلي"، وكان ذلك وحده كافياً لتدمير سمعة فاطمة كمثقفة إقليمية إلى "الأبد" ، على من أنها ظلت تؤكد في دعاية مضادة ، وهي تقلل من شأن المعارف الجديدة لغريمتها ، أن أمي لا تستطيع التحدث بطلاقة إلا في أوساط جمهور "أغلبه.. من الأميات... اللائى.. وا... أسفاه... لا يعرفن حتى ذلك الفرق الواضح... ما بين البوظة التركية والآيس كريم الألماني" .



يتبع

Post: #14
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-29-2007, 07:06 AM
Parent: #13

بعد طول قطيعة، وصلت خلالها العلاقة بين الجارتين إلى طريق اللاعودة ، قبلت فاطمة ضحى ذلك اليوم دعوة أمي لحضور حفل عيد ميلاد أختي الكبرى التاسع عشر، حيث كانت في انتظارها وهي تفتح باب الحوش الخارجي لبيتها في شرود مفاجأة أن تمحو غريمتها ما جرى هكذا ..... بكل بساطة ! .

أجلست ْ أمي داخل الفرندة ، إلى يسار الثلاجة " كولدير " ، وعلى ذات المقعد الذي سيشهد المأساة ، ثم وقفت أمامها إلى اليسار قليلاً ، تماماً مثلما ستقف قبالته عند بداية تلك المأساة، قبل أن تحضر مقعداً ، وتجلس غير بعيد متطلعة إليها في برود وترقب ، امتصت أمي كل ذلك ، وهي تستعيد من ذهنها مقاطع من كتاب : " فنون حرب المجتمع " ، وحين لم تحرّك فاطمة ساكناً من آداب الضيافة ، بل ذهبت إلى مدى بعيد في معاودة النظر إليها من أعلى إلى أسفل وبالعكس ، تيقنت لحظتها أن " العدو " ما ينبغي له أن يفرض على المرء مكان و زمان المعركة ونوعية السلاح ، هكذا ابتسمت وهي تكسر حدة الصمت المميت قائلة بلهجة مَن أدركه ولع الخبث على كبر : " و البنت طبعاً قطعت دراستها في الجامعة، جامعة الخرطوم طبعاً، ثم جاءت لتحتفل بيننا، من العيب طبعاً أن ترانا نحن الكبار مرة أخرى هكذا، ويعلم الله وحده كم تدين لك بالمحبة والفضل في قلبها".

ألان الصوت الذي بدا نابعاً من الأعماق وجه فاطمة الذي أعمى بصيرته وقع الزيارة المباغتة التي حالت دونه وفهم لهجة أمي التي انطوت في ظاهرها المتسامح على ما هو أسوأ والذي ظل محافظاً على قسوته لفترة ، حيث لاح طيف الابتسامة الساخر على طرف فمها الأيمن أولاً، ثم وفي لحظة واحدة نهضتا وتعانقتا وذابتا داخل الفرندة كجارتين جمعت بينهما ذكريات طفولة بعيدة، وقد ألقتا عبء ما حدث على كاهل "الشيطان الذي يفرق حتى بين المرء وزوجه "، عيناي تدمعان الآن ، لقد كان ذلك للأسف العناق الأخير لهما كجارتين قديمتين في هذه الحياة..... "وكالة رويتر المحلية"، أشاعت أن فاطمة أعلنت في نفسها حينذاك عن "قبولي للتحدي" وأنها لا تخشى على الإطلاق من الدخول في ما أسمته "مواجهة فاصلة"، مؤكدة أن جارتها "محدثة النعمة الحضارية" بهذه الدعوة "وا... أسفاه....... تحفر قبرها بيديها" .

كانت الأقاويل تترى من كل حدب وصوب إلى آذان الحاج محمود، الذي لم يعد يدهشه شيء "في دار الغرور" كما قال "بعد كبيرة مُسيلمة الكذاب" التي اعتبرها بمثابة النذير المبكر لما يحدث في "هذه الأيام"، وعلى الرغم من أن "مصادر خاصة" رفض تسميتها أكدت له أن فاطمة عانقت جارتها فقط من باب "لا ينبح في فراشه إلا كلب"، بل وأضافت ( نفس المصادر) لاحقاً أنها جاءت إلى الحفل مرتدية فستاناً ضيقاً من المخمل وافق اسم الموضة السائدة آنذاك باسم " دموع أم كلثوم "، إلا أن الخبر الذي اتسم ببعض الطرافة كان من نصيب "وكالة رويتر المحلية"، التي أشارت إلى أنها أقبلت خلال ذلك المساء الحار بعينين لم تنفكا قبل بدء فواصل الرقص من القول يمنة ويسرة: "يا أهل المدينة .. انظروا .... ها هي..... فاطمة نفسها .... انظروا إليها.... ما أحلاها.... حضارية جداً.... تخطر في بيت غريمتها هكذا..... هكذا هكذا ".

"وكالة رويتر المحلية" نفسها أكدت للمحافظ الذي جاء إلى حفل عيد الميلاد متأخرا بعض الشيء و الذي بدا لسبب ما حريصاً على متابعة تطورات العلاقة بين الجارتين منذ أحداث المجلس البعيد الذي شهد وقائع "هزيمة الأسرة الحضارية" أن أمي همست في أذن رئيسة تحرير مجلة " نهضة المرأة " المحلية قائلة بصوت تردد صداه بين جنبات السكون الشامل الذي ران لحظة دخول فاطمة فجأة: "هذا الفستان لا يصلح لرقصة السامبا " !.

الحق ، "الحق أقول لكم" يا أصدقائي إنها جاءت في ذلك المساء مرتدية "رموش شادية"، لا "دموع أم كلثوم" ، فستان من الساتان الأسود اللامع أبان أدق تفاصيل جسدها اللدن المشدود حتى وهي تعبر عقدها الرابع بنحو العام ، كان بلا أكمام ، تلتف حوله خطوط فضية متباعدة ذات حواف مشرشرة ، وبينما تراءى فوق كتفيها فرو ثعالب أصفر باهت تفوح منه رائحة "النفتالين" ، بدت في ذهن الحاج محمود الغائب كما تخيل عدد من الخبثاء بالنيابة عنه مثل حورية خارجة للتو من كتاب "فضائل الجنة" ، كانت تخطر بخيلاء على أرض الفناء المرصوفة حديثاً بالأسمنت و كسار الآجر فوق حذاء أصفر ذي كعب عال أطلق عليه الحمّالون في الميناء النهري اسم " سفينة الشيطان " ،على الرغم من أنه قد اتخذ لدى الصفوة اسماً أكثر جاذبية : " أتهادى نحو أحلام قلبك الوردية " .



يتبع

Post: #15
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الدائم سيد أحمد
Date: 03-29-2007, 09:29 AM
Parent: #1

التحية ليك يا برنس

البلاد البعيدة اخذتك مننا ولا شنو
الكل بيسأل عنك وبالذات احمد السيد ( زراعة )

مودتى .

Post: #16
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-29-2007, 06:02 PM
Parent: #15

كانت أضواء قوية تتلألأ على هامة الفناء كتاج أميرة ، نسائم واهنة منعشة لها رائحة التربة تراقص فروع شجرتي النيم بنزق، السماء خالية تماماً وراء الهالة الفضية، لابد أنها أمطرت خلف تخوم النهر حيث الأجمة المتناثرة من أشجار السنط تنحدر من جبال العاديات قبل أن يبدأ عشب السهل الأخضر الكثيف ذو الفجوات الحجرية الواسعة ، كان ثمة موسيقى تخللها آذان العشاء تطغى على لغط المدعوين الملتفين حول الموائد الصغيرة المتقاربة ، التي جُلبت نهارا من محلات " كزام للأفراح " ، و التي تراءت فوق مفارشها الزرقاء زجاجات المياه والكولا وأطباق الحلوى وسلال الفاكهة، كانت تنبعث من مكبرات الصوت على جانبي منصة خشبية قصيرة أخفتها سجادتان من الصوف الفارسي ذي التشكيلات الوردية الملونة منصوبة غير بعيد من منضدة طولية لاحت أعلى مفرشها الأبيض النظيف تلال من الأواني الصينية اللامعة، فضلاً عن تورتة المحتفى بها بطوابقها الخمسة الصاعدة في شكل هرمي علت قمته المزدانة بكريمة الشوكولاته السمراء شمعة منتصبة وحيدة، حالما أُشعلت توقفت الموسيقى وعم الظلام و راحت تتشكل على مرأى من عيون السماء النجمية الحلقة باعثة الأمنيات القلبية والهدايا ، قبل أن تُنهي الحناجر أغنية عيد الميلاد في تزامن عكس مدى الإلفة الذي عمّ المكان حينذاك ، "لماذا شمعة واحدة"، هكذا تساءل المحافظ بقامته البارزة وسط الحلقة لحظة أن عاد النور، وبينما تغضن وجه رئيسة التحرير الجاد في نشاز كاد أن يفسد الطابع المرح لسؤال المحافظ ويحول الحفل إلى حلقة نقاش ساخنة حول " الطابع الذكوري للسلطة " حسبما ظل يتردد في سياق الندوات الأسبوعية التي تقيمها في دارها مجلة " نهضة المرأة " ، اندفع في خضم الهمهمة المتصاعدة التي أثارها سؤال المحافظ والوجه الصارم الجاد لريئسة التحرير صوتُ أمين حزب التقدم معيداً الأمور إلى مجراها القديم : " تقول لماذا!... ها ها ها... تكتيكات السيدة السرية..... يا رفيق " .

هكذا عاد المحتفلون إلى موائدهم، وبدا في ذلك المساء وكأن الكون برمته ضحكة مغناة يعزف لحنها رنين التعليقات المرح السعيد، إلا أن نمل الغيرة أخذ يأكل في قلب فاطمة ببطء وتلذذ متزايد سعيداً بالخفاء الذي ضربه الضجيج من حولها ، كانت ترقب الأنظار تنصرف عنها تباعاً غير عابئة بالمرة بزينتها الفريدة والمكتملة أمام بهجة حفل لم تشهد المدينة مثله قطُّ، ناظرة من مقعدها بين الحين والحين إلى "وكالة رويتر المحلية" التي كانت تتنقل بين الموائد تحت أنظار عيني أمي الفخورتين مثل فراشة قمحية في الربيع، إلى تناهى إلى مسامعها مثل طلقة الرحمة، صوت أختي ذات السبعة عشر عاماً، وهو يعلن من فوق المنصة عن بدء الحفل الراقص، وقد نشبت في أعقابه موجة من الصفير والتصفيق الحاد المتصل فيما بدا بلا حدود لانتهائه .

مدت ذراعاً من داخل بلوزة بيضاء ذات أكمام قصيرة واسعة، كانت محشورة داخل بنطال من الجينز أزرق اللون ذي مقدمة مثلثة منتفخة قليلاً ومسحوبة إلى أسفل بشدة ، أزاحت الهواء الذي حبس أنفاسه فجأة بحركة نصف دائرية بطيئة متكسرة لامست الحلمة اليسرى النافرة خطفاً، قبل أن تأخذ رأس البنصر وضعاً مستقيماً شق طريقه بين الموائد متخطياً بلا هوادة المحافظ ومدير بنك الوحدة ورئيسة التحرير مشيراً بلطف ومحبة يعلم الجميع مقدار ما فيهما من زيف إلى عيني فاطمة الشاخصتين كعيني غريق بلا أمل في النجاة .

في هذه اللحظة ، في هذه اللحظة تحديداً، يمكن للمرء وفق رواية "وكالة رويتر المحلية" لاحقاً أن يسمع "رنين إبرة الخياطة" إذا ما أُلقيت في "مكان ما داخل الحفلة"، حتى أن المحافظ نظر إلى عطسة مدير البنك المباغتة نظرته إلى رجل طرق باب بيته "أثناء الجماع"، ثم سرى صوتها الحاد الرفيع ذو المنحنيات المبحوحة عبر مكبرات الصوت أخيراً: "سيداتي آنساتي سادتي.. مشاعل حضارة هذه المدينة الواعدة... مساء الخير وبعد.... وإنه ليسُر الأسرة الكريمة تشريفكم لها بالحضور... بمناسبة حفل عيد ميلاد أختي الكبرى... وبسبب صداقة الأسرة لطيار ماهر يعمل في خطوطنا الجوية الحبيبة... أزفُّ لكم ذلك الخبر الجميل... خبر وصول أخر أغنيات فتى أسبانيا الذهبي "خوليو" وأنشودة الحبّ الفرنسي الساخن "جيلبير"... وأعتقد أمام هذين الرائعين لا مجال لمطرب متواضع آخر مثل عثمان حسين ...

- "برافو... برافو برافو" .

هكذا في الوقت الذي اتجهت فيه أنظار الجميع إلى فاطمة التي لم تحتمل أكثر وحمل وجهها من علامات الغيرة ما يكفي لإشعال غابة من أشجار السنط الغضة اقتحمت المشهد صيحة مدير البنك الذي نال درجة الماجستير في " اقتصاد الدجاج " من جامعة "السوربون "، والذي لم يستطع أن يتمالك نفسه فيما بدا أكثر من ذلك فأجهش في البكاء بغتة ، آنئذ ربت المحافظ الجالس إلى جواره على كتفه كمن أراد أن يعتذر بعد أن تسبب في أذى روح طيبة كان ذنبها الوحيد أنها عطست في موقف لا يحتمل سوى الصمت التام ، بينما أمكن للمقربين سماع صوت رئيسة التحرير وهي تهز رأسها كمن يتفهم عذابات الروح الخفية للإنسان .. أي إنسان وهو يقول : " البكاء ليس عاطفة نسائية فحسب "!، مثل تحية صادرة عن قلب ملء نبضه الحبّ والأسى والحنين، مثل نسمة أوروبية تلثم مدارات خطّ الاستواء القائظة، انساب حالماً مترعاً شفيفاً مطعماً بالأمل كيد المطر الخفيف الحانية ، لحنُ رائعة جيلبير: "إيه مينتونان"؟!.

"وكالة رويتر المحلية " ، التي سبق لها وأن ذهبت إلى البنك ذات نهار قائظ بعد أن تزايد الجدل في المدينة حاملة في يدها مجموعة من " الطيور المريضة " قبل أن تدرك " الفرق " أو " الاختلاف القاطع " ما بين " اقتصاد الدجاج " وذلك المدعو " طبّ الدجاج "، سألته باسمة عن سر "تلك الدموع الغزيرة تفيض من عينيك أثناء الحفلة "، قال إنه تذكر وقتها " ليلة باريسية بعيدة "، و لم يُزد.



يتبع

Post: #17
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-30-2007, 07:06 AM
Parent: #16

Quote: قبل ما "يتبع"

خلينا نتبع شوقنا ليك

إزيك يا حميد

كيف حالك والعَقاب

وبرضو

يتبع



صديقي الجميل المطر:

ويح نفسي..

إن كتمنا الأشواق ضعنا.
وإن كتبناها ضاعت.

فأي الطرق..
(غير الكتمان أوالبوح)
تسلك قوافل الحنين إلى اللا حنين!.

Post: #18
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-30-2007, 08:14 AM
Parent: #17

هذا التحول في "ثقافة إناث الأسرة"، الذي أزعج عند بدايته "وكالة رويتر المحلية"، بل وجعلها بكلماته "العصّية" تنظر إلى نفسها في كثير من الأحيان كـ "هاتف بلا حرارة"، لم يكن وليد يوم وليلة، فما إن حلت إجازة ذلك العام الدراسي، حتى أرسلت أمي أختيَّ إلى الخرطوم، حيث يعيش خالي الفنان التشكيلي وبناته الثلاث المنحدرات من أم إنجليزية، وحيث كانت عمليات غسيل المخ تجري تحت شعار ورد أيضاً في رسالة أخرى رافقتهما إلى شقيقها الوحيد: "إنقاذ ما تبقى من شرف العائلة الكريمة"، بينما كاد مؤشر الراديو في غيابهما أن ينسى داخل البيت ملامح "هنا.. أم درمان"، وقد أدمن التجوال حتى خلال الإجازات الدراسية اللاحقة بين الأقسام العربية لإذاعات "موسكو" و "مونتي كارلو" و "صوت أميركا"، ولم يكن ميالاً للوقوف طويلا ًعند الطابع الإخباري المتكرر لهيئة الإذاعة البريطانية.

والحق كانت أختاي من الذكاء بمكان أن أجادتا الأكل بالشوكة والسكين في وقت وجيز، فضلاً عن ارتداء البناطيل الضيقة، التي أدخلت أمي لفترة من الوقت في دوامة من المتناقضات الداخلية العميقة، "يا الله ... ما الفرق إذن ما بين العهر والحضارة"، هكذا تساءلت ذات أصيل أعقب عودتهما الأولى من الخرطوم بأيام ، وهي تراقب ظهريهما في حيرة وهما تسيران عبر الفناء إلى زيارة ما كعارضتي أزياء هبطتا للتو من سياق أحد أخبار الموضة الأوروبية المتلفزة، لكن الرغبة في الانتقام من غريمتها فاطمة كانت تطغى آنذاك على كل احتمال ينشأ داخل مركز تفكيرها المستثار منذ أن نطقتا باسم ذينيك المطربين الشعبيين تحت سمع وبصر "وكالة رويتر المحلية"، لكن ما بدا في أول الأمر شاذاً وغريباً، بل ومستهجناً من قبل ما أطلق عليهم المحافظ في إحدى خطب عيد الاستقلال اسم " ( بُقع ) الرجعية في ثوب المدينة الحضاري الأبيض الناصع"، سرعان ما تحول إلى حمَّى اجتاحت على فترات متقاربة "شبيبة المستقبل المشرق"، وهي عبارة ذكرت "الوكالة" أن أمي تقالتها أول مرة عند بدء سلسلة حفلات "الديسكو"، التي ظلت تقيمها في نهايات الأسبوع عادة ، غير عابئة بتحذيرات "البُقع" المتكررة من عواقب الاستمرار في: "أعمال الفجور جالبة البلايا والأهوال"، إذ كانت مشغولة وقتها بجهود "الصفوة" الحثيثة لإشاعة لُعبة " الكريكت " في مدينة لا تعرف "للأسف الشديد" على حد قولها سوى " كرة القدم وسباق الحمير " !.



يتبع

Post: #19
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-30-2007, 04:02 PM
Parent: #18

حين بدأ جمع التبرعات لبناء " مسرح يليق بسمعة المدينة الحضارية "، على حد تعبير أمين حزب التقدم النشط ، قالت أمي و هي ترجع بظهرها إلى مسند الكرسي وقد ظهرت عليها إمارات التعب جلياً إنها بدأت تشعر كمن يحلق في الفضاء بجناح قوي وحيد .

أدرك أبي مغزى الرسالة فتقمصت روحه الرغبة الصادقة لتقوية الجناح الآخر طواعية، قائلا كمن يهب للقيام بإحدى المهام التي تتطلب استعدادا خاصّا : " لابد أن تحتفظ الأسرة بموقع الصدارة الحضاري "، هكذا اندفع بحماس "منقطع النظير" إلى المشاركة في "الأعمال المنزلية"، كأن يقوم بتنظيف الحمامات والمراحيض ليلاً، كان يفعل ذلك "إسهاماً شخصياً من جانبي" كما كان يحلو له أن يقول لحظة الانتهاء من تقطيع حزمة البصل إلى حلقات صغيرة في " دعم مجهود والدتكم الحضاري ".

"وكالة رويتر المحلية" التي تكاد تشرف حتى على "تلاقح الضفادع في الخريف" وفق ما جاء على لسان ناظر المدرسة الأميرية "الذي غدا عصبياً على نحو واضح بعد كبيرة مُسيلمة الكذاب" أشاعت أن أبي كان يفعل ذلك "في واقع الأمر" مخافة أن يُدرج اسمه ذات يوم في "القائمة السوداء"، التي تنشرها من وقت لآخر مجلة "نهضة المرأة " بدعم شخصي من المحافظ كما يُردد في الخفاء عادة ، وهي قائمة تضم " أسماء الأزواج الذين يمارسون التمييز ضد المرأة داخل المنازل سراً " ، على الرغم من مظهرهم "الحضاري المُخادع"، حسبما ورد في إحدى افتتاحيات رئيسة التحرير، فيما هي تقدم لـ "السيدات القارئات/السادة القراء" باباً جديداً حمل عنوان: "نحو تعليم الرجال فنون المطبخ العصري"، وترد في الوقت نفسه على رسالة مطولة " موقعة بالأحرف الأولى فقط "، كانت قد بعثت بها "إحدى السيدات الثائرات "، تمنّت خلالها أن تتحرر المرأة في "القريب العاجل" وأن تشهد بنفسها "ذلك اليوم الذي تُفرغ فيه المرأة مثانتها على قارعة الطريق مثل رجل عادي "!!!.

هكذا على خلاف صلاح "زوج فاطمة" الذي ظل لوقت طويل كمن يتأرجح على الهاوية، أدرك أبي من خبرة أسلافه التجار أن المسئولين أصحاب الحل والعقد في المدينة كانوا "وراء نماء شجرة المحصول الحضاري"، فبدأ مبكراً في إخماد نار التقاليد التي بدأت تشتعل خلف مظهره كمفتش زراعي من الدرجة الثالثة، متغاضياً عن انتهاك أشياء كان يراها من "الثوابت"، كأن يبارك رغبة أختي الكبرى في أن تعمل كـ "موديل" لطالب "موهوب" كان يدرس في "كلية الفنون الجميلة" أثناء دراستها في الجامعة ، "إسهاماً مني" كما كانت تقول متأثرة بآراء خالي التشكيلي في " استكشاف جوهر جماليات الجسد الأنثوي الذي أخفاه الثوب التقليدي لقرون خلت " .

لربما... أو لهذا "الوفاء الحضاري"، حسبما أوضحت "وكالة رويتر المحلية" مخففة من شواظ ظهيرة ألمت بمدير البنك في إحدى لحظات انقطاع التيار الكهربائي المتكرر، مُنح أبي ترقية استثنائية داخل "الهرم الوظيفي" مهدت له الطريق إلى العمل في المقر الإداري للمؤسسة الزراعية بعيداً عن الريف بمياه شربه "الراكدة" وهيئة سكانه التي كانت تذكره دائماً بحظه "العاثر" في الحياة، "أيها السادة زارعو الحضارة من قال قبلي أنا إن حقول السعادة بلا أعشاب ضارة "، هكذا شرع أبي يتفلسف في عمله الجديد، مستشعراً وطأة الفراغ بين جدران مكتب فخم به ثلاجة صغيرة "فاضت قنواتها بُعلب المياه الغازية" تدخله فقط وعلى فترات متباعدة وجوه حليقة "معنوياتها لا تشبه نضرة الأزهار"، حتى أن أفكاراً غامضة حول الحياة والموت بدأت مثل الجراد " تُـداهـم تلك الحديقة المُبهجة في الربيع "، الأمر الذي لم ينقذه منه شيء سوى زيارة الأسرة إلى بيت مدير عام المؤسسة الزراعية في "عيد الحبّ" .

كانت سانحة طيبة أهداه خلالها المدير مجموعة أعداد "نادرة" من مجلة " مودة " اللبنانية، حيث بدأت تتكشف لديه شيئاً بعد شيء تلك "الموهبة"، التي ظلت مطمورة مثل كنز "تحت تربة بستاني" لسنوات قضاها "يا لضياع حصاد شبابي..... بين ضراط بهائم الفلاحين"، لقد بدأت تتكون لديه كما قالت أختي الأصغر التي كانت بدورها تستعد لدخول الجامعة "ثقافة حضارية رهيبة"، انصبت بدرجة أساسية على معرفة مختلف "أنواع وخصائص وأسماء العطور العالمية"، كان ينتهز في مجالسه أدنى بادرة، كأن تقول أنت لا قدر الله "إن الهواء منعش ولطيف هذا المساء"، حتى يمطر آذانك بأسماء عطور لا يعلم إلاّ الله ما هي، ثم لا يهم وهو يشرع في بيان مميزات عطره المفضل نظريا إن كانت لديك وقتها الرغبة الأكيدة و الملحة في الدخول إلى المرحاض بأسرع قدم لديك!.



يتبع

Post: #20
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-30-2007, 07:25 PM
Parent: #19

Quote: سلام ابو أحمد
و حمدا لله علي السلامة












متابعة .. و لي عودة أخري إن سمحت لي.


صديقنا الجميل نوبي:

حللت أهلا ونزلت سهلا.

Post: #21
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: حيدر حسن ميرغني
Date: 03-31-2007, 05:16 AM
Parent: #20

فوق

Post: #22
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-31-2007, 06:54 AM
Parent: #21

بالمقابل ، كان لهذه"الحضارة" دموع قلّما رآها عالم المدينة الضيق ، وإن سمع عنها حدَّ الرثاء والشماتةً أحيانا، تلك كانت دموع الجارة ... أو أحزان فاطمة ، التي كاد أن يفضي بها "نجاح ماما المذهل" إلى "جنون لا عودة منه"، على حد تعبير أختي الكبرى التي عادت ذات إجازة بوجه مستثار حاملة لأمي أنباء عن أهمية قيام مظاهرات طلابية في " العام التالي " تطالب الحكومة بإصدار قوانين صارمة تتيح للزوجة أن ترفع ضد الزوج قضية طلاق وتعويض مالي ضخم في حالة ما إذا " ركب رأسه وصمم على ختان البنات " ، لكنها أبداً لم تحدثها عن الخطط السرية لتلك المظاهرات بشأن " المثليين " ! .

زاد الأمر تعقيداً أن زوجها صلاح عاد في ذلك الصباح إلى البيت يشمله حزن ثقيل، دلف صافقاً باب الحوش وراءه، و "سيبقى صدى هذه الصفقة المدوي يتردد طويلاً " في أنحاء المدينة! ، حدث ذلك بعد ذهابه إلى الدكان بنحو الساعة أو أكثر قليل اً، كانت وقتها داخل المطبخ، تعد " طعام الغداء "، ظنت في البداية أن ابنتها الوحيدة "أمل"، التي غادرت منذ دقائق إلى مدرستها، قد نسيت شيئاً ما، ثم عادت لتسترده على عجل، لكنَّ هاجساً غامضاً دفعها إلى الخروج ...... "المسكينة... لم يرد إلى ذهنها... حتى تلك اللحظة.... أن المرحوم والد صلاح... الذي كان يمتلك نسخة أخرى من مفتاح باب الحوش... قد يعود غاضباً ذات يوم... وقد أضجرته رقدة المقابر الطويلة"، هكذا خرج الكلام من فم "وكالة رويتر المحلية"، وهي تحاول جاهدة أن تضع بعض التوابل على حكايتها في محاولة لتبديد ما تبقى من كرب ارتسم على وجه المحافظ عقب "زيارة ذلك الوزير المتعجرف التفقدية... المفاجئة"، و لاحظ لأول مرة الشُعيرات البيضاء التي غزت رأسها في وقت وجيز عندما قالت : "وذلك المسكين أيضاً... يا سيادة المحافظ... بعد أن قفل باب الحوش... مشي ببطء ... وقد أحنى رأسه... حتى أنه تجاوزها... دون أن يُلقي عليها نظرة واحدة... و "قسماً بالله ثلاثاً"... كما يقول الحاج محمود... لو بُعث والده من القبر حياً ... لما تعرّف عليه داخل تلك الملابس... التي فرضتها عليه فاطمة... كما تعلم... بعد عودة بنتي جارتها من إجازتها الأولى في الخرطوم".

كان يرتدي بنطال "كوردرايت" أزرق ذا نهايات واسعة يعلوه قميص أحمر ذو أكمام جدُّ قصيرة أُطلقت عليه عبارة دراجة طويلة مفادها: "ذراعاه المشعرتان تحتضنان صيف حبيبة حضارية ماطر"، منتعلاً حذاء من "الكموش" الأخضر الباهت ذا قاعدتين مرتفعتين تحدثان لدى ملامسة الأرض "صوتاً مكتوماً"، ولربما... أو لهذا الصوت تحديداً، كان الرجال يقبلون على شرائه ، "صوت" أطلق عليه سادة الموضة في الخرطوم عبارة لا تقل اشتعالاً في جيشانها العاطفي عن سابقتها : "مشية الحضاري الرصينة المُتقنة"، لقد تبدلت أسماء أشياء عديدة في تلك الأيام ، حتى أن الحاج محمود تساءل ذات يوم بغرابة شديدة : "يا وكالتنا... من أين يأتون بأسماء الشيطان هذه " .

سارت وراءه ، وقد وافقت خطاها إيقاع خطواته البطيئة المثقلة ، "لابد أن كارثة أخرى في طريقها إلى تدمير ما تبقى من سلام المنزل"،هكذا حدست فاطمة، وهي تتابع تطاير ورقة صفراء نُزعت على نحو من الأنحاء من كتاب "ألف طريقة لصناعة الحلوى"، حقا ما عادت الأشياء هي الأشياء ، كانت "الهزائم الحضارية المتتالية"، على حد تعبير ناظر المدرسة الأميرية المعني بتدريس "تاريخ حروبات المهدي"، قد حفرت في نفسها عميقاً، لقد أصابتها بنوع من "اللامبالاة"، كان ثمة ريح شمالية جافة واهنة شيئاً ما، تزيل ما تبقى من نداوة ذلك الصباح، وهي تتخلل أغصان شجرة الليمون في أقصى الحوش، ثم تدفع بأوراقها المتساقطة الجافة نحو "مشية الحضاري المتقنة" البطيئة الحزينة هذه المرة، أخيراً تهالك على مقعد داخل صالة المعيشة، غائم النظرات، مشبكاً يديه فوق رأسه، ماداً ساقيه الملتفين نحو طرف سجادة فارسية شديدة الحمرة، بينما علا أزيز الثلاجة "كولدير" الجاثمة على يمينه في تزامن مع صوت الريح التي أخذت تولول في الخارج على حين غرة، كانت لا تزال واقفة إلى يساره داخل "قميص النوم الوردي الشفّاف"، تنظر إليه بعينين واجمتين، ولا تدري أية مصيبة ستقع على رأسها الآن ، "يا ترى.. بعد مرور كل هذه السنوات... ألا تزال ذكرى والده تؤلمه إلى هذه الدرجة ! ... أخبرني بالأمس فقط أنه ظل يزوره في المنام كثيراً... قال إنه يسأله بنصف لسان دائماً... يقول له... يا صلاح... يا ولدي العاق... لماذا تفعل هذا من بعدي.... ثم يؤنبه بوجه يسيل منه الدود... يا صلاح... يا ولدي... أمركم الآن لا يعجبني"، عندما أتت "وكالة رويتر المحلية" للمرة الثالثة على ذكر الموت " على هذا النحو المقزز " ، تلاشت ابتسامة المحافظ، وتقبض وجهه، فطفق ينظر مشمئزاً عبر نافذة مكتبه الزجاجية المطلة على ميدان الحرية الواسع، قبل أن يعود كما كان متابعاً مجرى الحكاية " الشهيرة " كبوصلة .

في تلك اللحظة ، حين تراءى أمام عينيها مثل طيف حبيب آخذ في الذوبان والتلاشي شيئاً بعد شيء ، اقتربت منه خطوة ، ثم بصوت مرتعش خفيض ، خرج من بين شفتيها المرتجفتين ، السؤال الذي ظل يغلي في داخلها طويلاً كمرجل :

- " ما بك ... يا (أبو أمل)" ؟!.

وقد تدحرجت دمعته الخرساء أمام عينيها لأول مرة:

- " لاشيء " .






يتبع

Post: #23
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: ابو جهينة
Date: 03-31-2007, 07:03 AM
Parent: #22

البرنس

سلام من أول القصة و إلى هذه الدمعة

أولاً لفتت نظري صورة ولي العهد محمد .. و أكرر التهنئة لك و للأخت إلهام

تابعت القصة ..

و إلتصقت في جوانب عميقة من نفسي مقتطفات :

Quote: ما زال أمامنا وقت طويل ، لتجف بحيرة الدمع في أعماقنا، لنرى جوانب الصورة الأخرى ، لنتعلم عبر سعير المحبة متى يكون التجاوز بديلاً لانتحار القيم ، ربما أبصرنا آنئذ الجمال داخل ما يبدو ظاهره من الدمامة بمكان ، ربما أدركنا أن في العمر متسع لغير النزاعات الصغيرة، أو لربما أعرضنا حتى عن العميان الخالدين " الذين ما كان ينبغي أن نضع في أيديهم مشعل النور السماوي".



Quote: آنذاك كن مجتمعات داخل إحدى الغرف، أمي وأختاي الكبريان وجارتنا فاطمة وعانس على مشارف الخمسين تُدعى " وكالة رويتر المحلية " ،كن صامتات أغلب الوقت ،و الحق كانت هي من النوع الذي يشد إليه انتباه مستمعيه بخيوط محكمة من المتعة والسكون وإثارة الأشواق الدفينة، تعرف جيداً متى تصمت ، كيف تستعين بأصابعها النحيلة أو الرقيقة أثناء الكلام ، بل و أين تلقي بالمغزى الكامن داخل الحكاية ... أية حكاية ! .

لكأني أراها الآن ......


و بجيك راجع للجزء الأخير

دمتم

Post: #24
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-31-2007, 08:14 AM
Parent: #23

Quote: سلام يا برنس ..

عوداً حمــيداً ..



الصديق الإنسان معتصم دفع الله:

وجودك هنا يمنح الكتابة معناها ومبررها. دمت

Post: #25
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: ahmad almalik
Date: 03-31-2007, 11:24 AM
Parent: #1

تحية وحبا يا برنس.

نتابع معك ...

Post: #26
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 03-31-2007, 03:24 PM
Parent: #25

ما إن اقتربت منه أكثر ماسحة على رأسه براحتها التي كانت تعبق برائحة خليط الثوم واللحمة وشرائح البطاطس الطازجة، حتى حدث ما لم يخطر من قبل على ذهن امرأة ظنت نفسها إلى ذلك الحين أنها "قطعت في سباق الحضارة خطوات".

هب واقفاً دافعاً إياها نحو السجادة بقوة أسقطتها أرضاً، ثم استدار بجزعه كله وأخذ يدق حائط الصالة بقبضتيه ناشجاً منتحبا، قبل أن يمزق على التوالي القميص الأحمر وبنطال "الكوردرايت"، قاذفاً بحذاء "الكموش" كيفما اتفق لتستقر إحدى فردتيه فوق رأس الثلاجة كولدير كما بدا لعينيها المذعورتين في " كآبة " ، كانت تحاول جاهدة أن تلملم ما تبقى لها من أعصاب، وهي تزحف نحو ركن بعيد وتراقب بعيني فأر بركان الغضب الذي تفجر داخل زوجها ..... بغتة ، كانت قسوة الحائط تضغط على ظهرها، المسافة القصيرة تضيق ، وكثيرة هي الدموع التي سالت على وجنتيها قبل أن يتوقف أخيراً و يُحكم قبضته على ذقنها المرتعش ، هكذا ، عوضاً عن تحقق كل تلك المخاوف، وجدت نفسها منطرحة فوق السجادة، عارية تماماً، ساقاها معلقتان على كتفيها، مسامها تتشرب ذلك الخدر اللذيذ الحارق، يداها تنقبضان وتنبسطان ثم تمسدان ظهر الثقل الجاثم فوقها بذهول ، بينما كان يعلو ويهبط بين أحضانها مثل ثور .

هنا، هنا فقط، خطر على ذهن الحاج محمود ذلك السؤال: "كيف يتسنى الكلام لعانس.. لم تذق طعم الرجال قطّ... وتصف مثل هذه المسائل.... بمثل هذه الفصاحة والدقة التي يسيل لها لُعاب المراهقين"، عبر تلميحات غامضة وطرق ملتوية عديدة، طرقت النميمة في الأخير أذن "وكالة رويتر المحلية"،لم تغضب، أو تحاول نفي التهمة المبطنة عنها، بل ردت على السؤال بسؤال مضاد بعد أن وضح لها مصدر الهجوم الحقيقي عليها، قائلة بذات التهكم : " وكيف يتأتى لمُسيلمة الكذاب أن يعرف ما دار في ( ذهن) الحاج وقتها"؟!.

في أماكن أخرى أشاعت "وكالة رويتر المحلية" أن "مصادر لا تكذب أبداً"، أخبرتها أن أبي "الذاهب إلى عمله في مكتبه المزدحم بنباتات الظل والمزدانة شرفاته بزهور الياسمين البيضاء" قد قضى في ذلك الصباح على صلاح "زوج فاطمة" بلكمة "حضارية معتبرة"، موضحة أنه كان يبيع شيئاً "لم تذكر المصادر اسمه" لمجموعة من "الشابات الحضاريات الذاهبات إلى عملهن في مجلة نهضة المرأة"، عندما توقف أبي "الذي بدا وكأن الأرض انشقت عنه فجأة" أمام الدكان، مخاطباً جاره من وسط الشارع بصورة "أثارت ضحك الحضاريات الساخر"، قائلاً: "أيها الجار الطيب.... ثم لندخل في موضوع الساعة الحضاري مباشرة... لقد شكا لي شباب المستقبل النابغة... مرير الشكوى طبعاً... أن البضاعة خاصتكم خالية من العطور الحديثة... وطبعاً أنا أعتقد جازماً منطلقاً من موقعي كحضاري نافع... أن لإصراركم على بيع عطور "بنت السودان"... ثم "خيول جيش المهدية"... وحتى طبعاً "كولونيا خمس خمسات المصرية"... لهو طبعاً أمر معيق لعمل المسئولين الكبار من أجل التقدم"، وأضافت "الوكالة" نقلاً عن "المصادر" أن صلاح لم يفعل شيئاً وقتها "سوى أنه فتح وقفل.. ثم فتح وقفل... ثم فتح وقفل فمه في بلاهة تسببت في بعث موجة أخرى من ضحك الحضاريات"، لكنَّ تلك بأية حال لم تكن مأساة فاطمة الأخيرة، على الرغم من أنها بحسب ما جاء في أحد المجالس قد "عادت عليها بفائدة ما"، وهو ذات المجلس المنعقد وقت الظهيرة داخل الميناء أثناء راحة الحمّالين أسفل إحدى أشجار الكافور الضخمة العائدة إلى أيام الإنجليز، حيث أشاد أحدهم آنذاك بما أسماه "شياطين وكالة رويتر المحلية" الذين "يخبرونها في الليل والناس في سابع نومة بأدق أسرار المدينة حتى لقد جاء أحدهم إلى الحاج محمود في هيئة كلب أسود ليُشهده على مُسيلمة الكذاب ويخبره بذلك عما يخجل هو نفسه من فعله حتى لا يصب بعد ذلك اللعنة عليه وحده".




يتبع

Post: #27
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 04-01-2007, 02:23 AM
Parent: #26

شيئاً فشيئاً أحياناً، وعبر قفزات نوعية أحياناً أخرى، بدأ "البون الحضاري" في الاتساع بين الجارتين، سوى حروب النميمة والشائعات، سوى تبادل الهجاء صراحة وضمناً عبر الجدار الفاصل من حين لآخر، لم يعد ثمة ما يصل بينهما خلال الآونة الأخيرة، عدا شخص واحد، لعلكم قد عرفتموه الآن يا أصدقائي ، أجل..... "وكالة رويتر المحلية"، التي ظلت تحتفظ على نحو ما وفي أحلك الظروف بعلاقات طيبة مع جميع الأطراف، وهو أمر توضح لاحقاً، حين ماتت أثناء النوم ورأى الناس: كيف سار أبي وصلاح وأمين الحزب والمحافظ وأعداء كـُثر خلف نعش واحد، حتى أن الحاج محمود توكأ على كتف مسيلمة الكذاب ومضيا هكذا متقاربين متأثرين، لكأنهما في طريقهما لدفن عداوات قديمة، أو لكأن قانوناً آخر كان يحكم تلك اللحظة العصيبة من حياة المدينة.

فبينما موسيقى "البيتلز" و "جون ترافولتا" الصاعد بقوة آنذاك أو لربما كان ذلك "جيمس كليف" فضلاً عن أسطورة الغناء الفرنسي "أديث بياف" تصدح خلال حفلات "الديسكو" من جهاز أهدته المحافظة إلى أمي في أحد مهرجانات "عيد الربيع" - "تقديراً لجهودها الحضارية الرائدة"، كانت فاطمة تسعى في نفس التوقيت إلى إقامة "طقوس السحر وشعائر الزار البائدة" حسبما أشارت إليه مجلة "نهضة المرأة" أثناء حملة صحفية استهدفت "جيوب التخلف" ، إلى أن جاءت "قشة الغريق" في ذلك اليوم وتراقصت أمام عينيها كتراقص البرق أمام مزارع حرث الأرض وبذر ثم تسمّرت عيناه قبالة الأفق الشرقي في انتظار المطر بعد طول غياب أو محل طال الأخضر واليابس ولم يذر .

"وكالة رويتر المحلية" أشارت إليها آنذاك بشيء قال عنه الحاج محمود: "هذه فكرة خارجة من رأس شيطان ما ولا ريب "، وفي مثل تلك الظروف، ما كان لقوى أن تمنعها من "تذوق طعم الانتصار الحضاري" مرة أخرى، حتى لو تعلق الأمر هنا بتنفيذ "فكرة خارجة من رأس شيطان أحمر"، وبدا أن مجتمع "الصفوة" وهو يتقبلها في صفوفه مرة أخرى كأب يفتح ذراعيه أمام "عودة الابن الضال"، إذ بلغها أن "رئيسة التحرير" الولود أخذت تديُر القلم من طرفيه، وهي تتلقى "نبأ انبعاثها" من جديد، وما إن تيقنت من "عناصر النبأ"، وكانت تضع هذه المرة رأس القلم بين شفتيها، حتى ابتسمت داخل مكتبها لأول مرة، وتساءلت : "وهل يمنع عُسر الولادة من تكرار المحاولة مرة ومرة "؟!.

راقت صلاح فكرة " الانتقام التاريخي "، والحياة عادت تدب شيئاً بعد شيء في عروق شجرة الليمون، التي لم يذق حوضها المُزدان حديثاً بالطلاء الجيري وعلى مدى عام كامل شحَّ خلاله المطر سوى دم القرابين المقدمة أسبوعياً أثناء شعائر الزار وتلك الطقوس، وصورة والده المعاتبة، لم تعد تقلق منامه، حين عاد إلى ارتداء "الملابس الأفرنجية" طواعية، لكأني أراه الآن، يقتني موضة ذلك العام، مفاخراً على أبواب الستين بقميصه الوردي الذي أطلق عليه سادة الموضة في الخرطوم عبارة ساحرة مفادها "هاهنا.. حبيبتي..... مستقر حلمتيك"، مجادلاً الحاج محمود بين الحين والحين في "حرمة الذهاب به إلى صلاة الجماعة"، مؤكداً على الدوام أن: "النجاسة يا حاج.. ليست في التسمية.... بل في الملابس"، فانياً في عشق بنطال التيل البني ذي الجيوب الجانبية المنتفخة "مرحباً تكساس"، وأي صوت كانت تصدره قدماه عندما ينتعل في المناسبات الخاصة "حذاء خروتشوف الأممي الرهيب" ! .



آنذاك، وقد لاحظتْ أن "السباق الحضاري" لم يعد "مثيراً" كما كان من قبل، أشارت "وكالة رويتر المحلية" قبل رحيلها بشهور معدودة إلى ضرورة أن تسافر ابنتهما الوحيدة "أمل"، كانت تتحدث بكلمات هزت نبرة الصدق فيها شغاف قلب فاطمة، موضحة بهيئة "الناصح الأمين" نفسها أن في" لندن " يمكنها أن تتعلم "النجاح الحضاري من منابعه الأصلية". هكذا، دون أن يدري، وقع صلاح تحت وطأة مطالب قادته في ظرف عام واحد إلى إعلان إفلاسه كتاجر صغير، بينما انقطعتْ أخبار ابنتهما بعد سفرها بنحو ثلاثة أشهر، وحتى الآن،يا أصدقائي، مازلت أتساءل: كيف ستقف " أمل "، إذا عادت في يوم ما، على قبر والدتها، الذي محتْ الأمطار معالمه منذ أمد بعيد؟!.

Post: #28
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 04-01-2007, 06:40 AM
Parent: #27

Quote: مرحبا بالبرنس مرة اخرى
المشاء



عزيزي المشاء العظيم:

لعلي قد لمحت من بين ثنايا الغياب شيئا عن إحساسك المتفاقم أخيرا ب(اليتم), هذا أمر يحزنني, لكن الأكثر حزنا هو الوصول في تصوري إلى نقطة لا نعلم عندها أتوقف مشوارنا أم بدأ..!.

Post: #29
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: Kamal Abdu
Date: 04-01-2007, 07:51 AM
Parent: #27

يا برنس

كيفك؟؟

أبعث لي نمرة تلفونك


كمال عبده

Post: #30
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 04-01-2007, 03:50 PM
Parent: #29

Quote: أستاذ عبدالحميد .. سلام
يابرنس والله جعلتنا نرهم معك كما كانوا . جعلتنا نسمع ونتابع
حتى الشروق . نشتم رائحة روث البقر والحمير
اسمع ( زولك شرد)
تحياتى
اخيك عثمان


أخي الكريم Osman Musa:

شكرا لمرورك الجميل.

Post: #31
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 04-02-2007, 02:38 AM
Parent: #30

Quote: على سبيل التحية



أم محمد:

حياك الله!.

Post: #32
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 04-02-2007, 07:33 PM
Parent: #31

Quote: التحية ليك يا برنس

البلاد البعيدة اخذتك مننا ولا شنو
الكل بيسأل عنك وبالذات احمد السيد ( زراعة )

مودتى .



عبد الدائم سيد أحمد:

باللسنوات!!!.

أتمنى أن تكونوا بخير أنت وأحمد السيد وبقية العقد الفريد.

محبتي وشوق لا يحد إلى تلك الأيام.

Post: #33
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: غادة عبدالعزيز خالد
Date: 04-02-2007, 07:39 PM
Parent: #32

الأخ البرنس

أوقتنى هذة التداعيات قبلا...
قرأتها بعمقها ثم تأملتها..

لك و لأسرتك التحية من بلاد بعيدة

كل الود
غادة

Post: #34
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 04-03-2007, 08:27 AM
Parent: #33

Quote: فوق


حيدر حسن ميرغني:


عساك طيب والعيال وأرجو أن تكتب لنا في بوست منفصل عن تجربة الحياة حديثا في اليابان!.

Post: #35
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 04-03-2007, 06:08 PM
Parent: #34

صديقي المبدع الجميل أبوجهينة:

بارك الله في أيامك, فوجود محمد كما يحدث أثناء الكتابة إليك الآن قد غير شكل الحياة ومعناها تماما, ولعلك قد ذهبت إلى هذا في سياق تهنئتك الأولى لنا, أما عن هذه القصة فهي أولا وقبل كل شيء محاولة هنا من جانبي لإعادة القراءة في أوراق قديمة قبل المضي قدما فيما هو جديد.

مودتي وتقديري

Post: #36
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 04-04-2007, 07:34 AM
Parent: #35

Quote: تحية وحبا يا برنس.

نتابع معك ...




أحمد الملك (العريس):

ونحن نبادلك تحية بتحية وحبا بحب. وكذلك أتابعك مبدعا أصيلا بدقة. دمت.

Post: #37
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 04-04-2007, 04:52 PM
Parent: #36

Quote: يا برنس

كيفك؟؟

أبعث لي نمرة تلفونك



أخي كمال:

تحايا وأشواق..

نحن بخير, فقط نسأل عنك والوالد الجليل فاروق ونهلة والأولاد. راجع الماسنجر. دمتم.

Post: #38
Title: Re: تداعيات في بلاد بعيدة
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 04-05-2007, 06:32 AM
Parent: #37

Quote: الأخ البرنس

أوقتنى هذة التداعيات قبلا...
قرأتها بعمقها ثم تأملتها..

لك و لأسرتك التحية من بلاد بعيدة

كل الود
غادة



الأخت العزيزة غادة:

ما حاولت أن أقوله هنا هو كيف أن حياتنا في كثير من الأحيان يتم سرقتها عبر كل ذلك الإغراق في الأشياء الصغيرة البائسة!.

كوني بخير دائما