في ذكرى رجل البِر : عبـد الرحمن البشـير الريَّح .

في ذكرى رجل البِر : عبـد الرحمن البشـير الريَّح .


08-27-2007, 10:24 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=265&msg=1241484377&rn=0


Post: #1
Title: في ذكرى رجل البِر : عبـد الرحمن البشـير الريَّح .
Author: عبدالله الشقليني
Date: 08-27-2007, 10:24 PM




في ذكرى رجل البر : عبد الرحمن البشير الريَّح

لن يبدأ العُمر لحظة الميلاد بل قبلها . من ماض الكون السحيق . عرفنا روحه الطلقة أصدق نادلة تسقيك الشهد في موضع المُنى . لم يزل بيني وبينه سيرة وأحاديث لم تنقطع بسبب الغيبة الكُبرى أو الرحيل الأبدي . كثير مما كُنا نقول به يدور في الذهن زماناً من بعد الرحيل .

مزرعة النفس ومروجها الخضراء تملأ رئتك من أكسيد الحياة حين تجلس إليه وتسترح مما بِكَ.لم أكن أحسب أني وارد من مورد أهلنا ببساطتهم حين لا ينتبهون للطِيب إلا عندما تفنى الروائح ونشتهيها. أي طيب فاح بوجودِكَ سيدي وأنتَ في منامك الطويل وقد غطَّاك الثرى ، وأي منزلة كنتَ إياها تنزل بيننا وقَطَعَتْ خيوطها المشيئة ؟
حين جئتُ إليه صباح يوم قبل أكثر من عقد من الزمان ومعي مُخططات أولية لمسجد الحارة الثانية عشر من مدينة الثورة بأم درمان لنعرضها عليه لم أكن أحسب أنني سأُضجره حين أشهده يقسِّم الهبات بما تيسر من ورق النقد لأهل الشقاء من الفقراء ومن خزانة صغيرة على طاولة متجره الذي تفتح أبوابه على طريق ضيقٍ قُرب بوستة أم درمان .هُم انتظموا صفاً ينظرون وجهه من صباح الإصباح عليهم كل يوم بما يتيسر من رزق قبل أن يستفتح هو يوم العمل .
قال من بعد السلام عليَّ ولم يزل مُتكدراً :

ـ اليوم يا عبد الله جئتني قبل موعدك !

تبسمت واعتذرت أني تطفلت على الخِدر الذي لم يُرِد أن أكشفه . أخبرني بما يشبه الهمس أن الهبات إنما هيَّ نَذر حتى يُخفي عني ما ظهر منها. لم أترك لنفسي بُرهة تفكير في أي المحاذير سَلَكْ فقد كان شُغلي الشاغل ملاحظاته التي استوفيناها وأفسحنا في التصميم وتركنا فُسحة من أمام المُصلين في المسجد بلا أعمدة تعوق وقرأنا عليه المُتطلبات التي تُقيدها الميزانية المرصودة من لجنة المسجد الخيرية ، فهو عضو فاعل بخبرته في السوق ويده تطول وتُسابق في عمل الخير . صعد هو وارتقى ونزعم أن قبض من ثمر الإنفاق في دُنيا غير دُنيانا وهو راضٍ ومُستبشِر . تتمنى له أنتَ من قلبك أن يوسع المولى في رزقه من فوق الخير الممدود. مثله كُثر ولكن ما اطلعنا عليه كان كرأس جبل الجليد ، مثله كان الراحل حبيب أحمد الطيب و والده من قبل الراحل أحمد الطيب عبد السلام و ثُلة من الأولين تتلوهم ثُلة من الآخرين .
رحلت المكتبة البريطانية من أم درمان قرب المجلس البلدي وتركت الدار فارغة . قرر عبد الرحمن البشير الريَّح أن يمتد عمل الخير مكتبةً تخليداً لذكرى والده فصارت : ( مكتبة البشير الريّح ) التي يعرفها الجميع منذ أواخر القرن الذي رحل . عيّن مُشرفين عليها من المختصين في علوم إدارة المكتبات. في حله وترحاله كان يزور مصر لعملٍ أو لزيارة خاصة فيغرف من مطابعها بما يتيسر ليُثري مكتبة البشير . مكتبة هيَّ للنهل من خير صُحبة في الدُنا و دار لطلاب القراءة والاستذكار ومكان للثقافة . أنشأ لجنة لتُشرف على أنشطة الثقافة . أقيمت الندوات والمحاضرات والمهرجانات للعامة . لأهل السلطان نصيب ولمن هم خارج السلطة ما يتيسر أيضاً من نصيب . لا شأن له بعمل اللجنة المُشرفة ، تجده يقف على طرف قصيّ مثل غيره من المُرتادين ممن تزدحم بهم الساحة أيام الندوات والمحاضرات العامة في التسعينات من القرن الماضي . يسمع ما يتيسر له وسط العامّة . لا تعرفه من بينهم إلا بعد أن تتفرس الأوجه .
على طرف قصي من دار المكتبة اقتطع لنفسه مجلساً لصحابه وللذين ينتظرون أهل البر . تدخل إليه أنتَ من مدخل لا يعرفه العامة . إن جلست لإحصاء أياديه البيضاء لن تحوطها : منها أن وفَّر داراً مجانية لمدة عامين أو أكثر للجامعة الأهلية أيام تأسيسها على يد الراحل البروفيسور محمد عمر بشير وكان المقر بحي الملازمين بأم درمان قبل أن تنتقل الجامعة الأهلية لمقرها الحالي . اشتركنا معاً عُدة مشاريع منها مسكناً له في موقع المقر السابق لتلك الجامعة .
بيننا معرفة و ود رغم اختلاف السن ، كان سببها العزيز عبد السلام أحمد الطيب عبد السلام , والصديق ابن عمر أحمد الطيب عبد السلام والراحل حبيب أحمد الطيب عبد السلام قدس المولى سره .كان مجلسه زاداً من المعارف . رجل لا يشبه الزمن الذي نعيشه . يُدقق في أمر حسابات التجارة ولا يُدقق في المال الذي يرصده للخير . كان دوماً يقول : إن الخير يأتي من الإنفاق فيه : وصالٌ لا ينقطع . التجارة مهنة هو فيها الحاذق ولم يُخدشها بما يخدش التُقى أو نقاء السريرة أو تدينه العميق .
يوماً أسرَّ إليَّ أن لديه مزرعة قريبة من طريقٍ عام ، يرغب أن يفاتحني في أمرها . رأى أن يُحيي فيها مبدأ القيام بأمر المؤلفة قلوبهم من نظرته في إنفاق الخير :
مزرعة هي للماشية ومنتجاتها ، وللدواجن ومنتجاتها ومصلى ودار لتعليم اللغة العربية والرياضيات وعلوم القرآن ، و ورشة للنجارة بآلياتها وأخرى للحدادة أيضاً كذلك .كلها مُجتمعة مؤسسة خيرية لتعظيم تآلف قلوب الذين يختلفون معه في العقيدة لينهلوا من الوجه النَضِر ليُسلِموا طوعاً . كان يرى أن الأطفال المُشردة من الخير أن يكسبوا صِنعة ويتعلموا لغة وقرآناً ويتناولوا وجبتين بالمجان ويرجعون لأهلهم قبل الغروب ليتربوا أن الدين القيَّم هو صانع قوتهم ومن يسَّر تعلمهم مهنة في زمان صعب وأن نفوس بعض المُتدينين النقية غير ما عرِفوا في الواقع المُر . منحة هيَّ بلا غرض . لم يزل يذكر لنا دوماً من آي الذكر الحكيم :

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }التوبة60

تداولنا الأمر بيننا وفق الرؤى الهندسية واقترحت عليه أن يُلحِق مع المشروع معرضاً للمنتجات والتسويق لتكتمل الدائرة حتى تُصبح مؤسسة خيرية لها مصادر للدخل تدعم الإنفاق .كان يحكي الأمر همساً كأنه يرغب الخفاء .
جاءت الرياح قبل أن نُنجز الفكرة بغير ما نشتهي و تزاحمت كل الدروب لتقودني إلى السفر بعد أن ضاقت رحابة الوطن بما فيه من إعسار . بِعنا حاضرنا العسير بمجهول المُستقبل الأقل عُسرة . ألحَّ هو عليَّ ألا أُسافر ، يُرغبني دوماً بأن لديه مشاريع تُشغلني عشرة أعوام إن أحببتْ : هو بالمال وأنا بخبرة المهنة . تقاطعت الخطوط ، تآلفت حينا ثم افترقت وكان السفر هو الخيار الأوفر حظاً ولم يتقبل الراحل عبد الرحمن البشير فكرة مغادرتي الوطن حتى صار الأمر واقعاً .
بعُدت عنه وعن الوطن وشغلتنا الدُنيا حتى فاجأتنا كفأسٍ في أم الرأس غيبته الكُبرى . أي حزن بفقد صُحبته غشتنا سحائبه وأي فرح لأرائك الفراديس بإذن مولاه يجلس بقدر ما أعطى .
ألف سلام عليه .

عطر المولى مسكنه الأول تحت الثرى من رياحين الجنان الأُخر ، وأسكنه مسكن أحبائه الذين اصطفى . كان عبد الرحمن البشير الريَّح شجرة وارفة بظلال الخير .

رويدَك أيها الملكُ الجليل :

كستكَ الثرى حُلة على حُللك التي ترتدي وبِك تفتخِرْ . تمهل سيدي في مرقدِك فمن نوركَ الإصباح يصحو وسراج خيركَ يشتعلْ . ألف رحمة وألف نور عليك في بهوٍ لا أول له ولا آخر . سكنٌ سرمديٌ في مُنية العُلا بإذن مولاكَ .

عبد الله الشقليني
26/08/ 2007 م

Post: #2
Title: Re: في ذكرى رجل البِر : عبـد الرحمن البشـير الريَّح .
Author: عبدالله الشقليني
Date: 08-28-2007, 12:11 PM
Parent: #1


في صحو الذاكرة يندلق العطر
من مِسك أصحابه ومن ريحهم الطيبة
.

Post: #3
Title: Re: في ذكرى رجل البِر : عبـد الرحمن البشـير الريَّح .
Author: عبدالله الشقليني
Date: 08-28-2007, 08:31 PM
Parent: #1

أي غيث تنـزل حين كان
وأي أرض جرداء من غيبته

يده من سُلاف الأيادي
وتمشي الأرض من خلفه قمحاً