عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب

عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب


11-01-2009, 05:04 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=260&msg=1261983577&rn=348


Post: #1
Title: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-01-2009, 05:04 AM
Parent: #0

بواسطة عبد الحميد البرنس
مشاهد أخيرة من حياة سامي سالم 51 2742 عبد الحميد البرنس 16-10-07, 05:16 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
رحم الله سامي سالم رحمة واسعة [ 1 2 ] 149 3513 عبد الحميد البرنس 22-09-07, 01:59 م
بواسطة خدر
رحم الله والد الزميل عبدالحميد البرنس [ 1 2 ] 185 4473 elsharief 20-12-06, 07:07 ص
بواسطة تماضر الخنساء حمزه
أبوجهينة.. عالم قصصي بديع عماده المحبة: 65 928 عبد الحميد البرنس 09-10-06, 04:37 ص
بواسطة ابو جهينة
إلهام... [ 1 2 ] 172 8947 عبد الحميد البرنس 15-06-06, 01:14 ص
بواسطة مجدي شبندر
إشراقة مصطفى حامد: يا آل كوستى ومحبيها.... تعالوا نشق نهرا فى قلب المدينة 68 2127 عبد الحميد البرنس 12-05-06, 08:38 ص
بواسطة الجندرية
رسالة حب للعالم 94 1654 عبد الحميد البرنس 19-04-06, 04:02 م
بواسطة elham ahmed
الشيء.. 26 779 عبد الحميد البرنس 14-02-06, 03:53 م
بواسطة عصام عبد الحفيظ
سجيمان 91 4530 عبد الحميد البرنس 02-02-06, 04:08 ص
بواسطة طارق جبريل
يا أنيس الحسن.. يا عالي المكانة.. ! 25 1130 عبد الحميد البرنس 18-01-06, 02:29 م
بواسطة Dr.Mohammed Ali Elmusharaf
تأملات في عالم "سي جي" الساخر 53 3121 عبد الحميد البرنس 10-01-06, 02:36 ص
بواسطة Hani Abuelgasim
بعد التحية.. إلى الأستاذة نجاة محمد علي [ 1 2 3 ] 205 5914 عبد الحميد البرنس 30-12-05, 07:20 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
الحاجة الماسة إليها.. 19 3267 عبد الحميد البرنس 27-12-05, 00:04 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
أشكر المهندس بكري لكرم لا أستحقه 17 1569 عبد الحميد البرنس 13-12-05, 08:50 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
إحترام [ 1 2 ] 102 4374 عبد الحميد البرنس 05-12-05, 04:57 م
بواسطة Abdalla Hussain
تعرفونهم من كتاباتهم: (الطيب صالح.. صالح وطيب وإنسان)! [ 1 2 ] 134 7846 عبد الحميد البرنس 25-11-05, 04:35 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
القطاع ( تأملات حزينة ضاحكة في وجوه الهزيمة والرحيل) 25 1383 عبد الحميد البرنس 13-11-05, 07:43 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
كتب.. وكتبوا عن أدبه وعنه: في حضرة غابرييل غارسيا ماركيز 49 3802 عبد الحميد البرنس 12-11-05, 07:16 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
إعادة جذرية لرواية عنوانها: (السيرة العطرة للأمنجي السابق) [ 1 2 ] 137 6110 عبد الحميد البرنس 27-10-05, 09:45 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
أهلا أيها الوطن الجميل [ 1 2 ] 120 3886 عبد الحميد البرنس 22-10-05, 04:49 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
الأمنجي السابق وصاحبه الخليفة بدري ما بدري 3-5 53 2391 عبد الحميد البرنس 22-10-05, 03:17 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
الآن أتكلم بعد أن مر وقت من عواصف المنابر 54 3546 عبد الحميد البرنس 07-10-05, 06:24 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
أين حدود الفوضى والنظام.. سؤال لنقاش عام.. حال "المنبر العام" نموذجا. 37 1538 عبد الحميد البرنس 26-09-05, 01:43 ص
بواسطة عاطف حسن
وجوه من رحلة التعب [ 1 2 ] 107 4623 عبد الحميد البرنس 18-09-05, 03:24 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
أنا حزين الآن كما لم يحدث لي ذلك من قبل 19 1650 عبد الحميد البرنس 12-09-05, 08:46 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
الحنين إلى شيء يدعى الطعام 37 1708 عبد الحميد البرنس 09-09-05, 11:47 م
بواسطة waleedi399
في الحب والحنين (مساحة حرة) 87 1564 عبد الحميد البرنس 06-09-05, 07:24 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
الأمنجي السابق وصاحبه الخليفة بدري ما بدري 2 - 3 55 2015 عبد الحميد البرنس 03-09-05, 12:38 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
بيدي لا بيد عمرو هذه المرة.. 22 1880 عبد الحميد البرنس 26-08-05, 06:51 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
لكنكم قلتم ما بشاشا سوى كذاب أشر.. يا لكم من عقلانيين عرب! 87 2900 عبد الحميد البرنس 19-08-05, 11:48 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
الأمنجي السابق وصاحبه الخليفة بدري ما بدري 52 2269 عبد الحميد البرنس 16-08-05, 04:40 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
ما الذي ينشده البشر (من كتاب الحكم المتفرقة)؟!. 25 1214 عبد الحميد البرنس 02-08-05, 08:35 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
كنت أبحث عن سبب وجيه للبكاء 19 1365 عبد الحميد البرنس 01-08-05, 05:00 م
بواسطة على عمر على
كنت أشاهد الملايين عبر شاشة الفضائية.. 6 1444 عبد الحميد البرنس 01-08-05, 08:08 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
كنت في رحلة داخل كندا استغرقت أياما.. 94 3199 عبد الحميد البرنس 27-07-05, 09:54 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
والسؤال: أهي رؤى يسارية.. أم أفكار حديثة زائفة منتجة بعقل قديم.. 62 3412 عبد الحميد البرنس 26-07-05, 07:23 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
دعوة للتأمل في وضعيتي السجن والمنفى (إلى خطى الخواض كمشاء بين الناس والثقافات)!.. 47 1928 عبد الحميد البرنس 19-07-05, 06:44 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
في مقاربة الفعل السياسي عربيا.. دعوة أخرى لحوار هادف! 22 1469 عبد الحميد البرنس 07-07-05, 06:19 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
القاص المصري الساخر محمد مستجاب يودع العالم ضاحكا صاخبا كعادته.. 22 1929 عبد الحميد البرنس 04-07-05, 04:26 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
سلطة الحزب.. أوالجماعة في مواجهة الفرد.. من هنا تبدأ الأعمال الجليلة في التكون!.. 9 1342 عبد الحميد البرنس 04-07-05, 00:27 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
مقطع من سيرة العابرين 0 722 عبد الحميد البرنس 29-06-05, 08:10 م
بواسطة
رواية لحرب بعيدة جدا 6 1069 عبد الحميد البرنس 29-06-05, 04:34 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
أنصاف مواهب.. عقبات مزمنة.. طموحات كبيرة ووسائل محدودة.. وأنفس مهترئة بمشاعر سلبية كالحسد!. 44 3197 عبد الحميد البرنس 18-06-05, 11:00 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
من (كتاب القاهرة الطيبة) - 1 5 1219 عبد الحميد البرنس 15-06-05, 02:38 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
فضاء يصلح للتنفس سرا.. 2 1044 عبد الحميد البرنس 10-06-05, 10:45 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
إني لأجد ريح نهلة.. 37 3119 عبد الحميد البرنس 09-06-05, 05:13 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
زاوية لرجل وحيد في بناية.. 20 1542 عبد الحميد البرنس 09-06-05, 08:31 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس

Post: #2
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: ابو جهينة
Date: 11-01-2009, 05:54 AM
Parent: #1

تحياتي عثمان
و التحية للصديق البرنس عبد الحميد

Post: #3
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-01-2009, 03:59 PM
Parent: #2

الأستاذ عبدالحميد البرنس
كاتب من الطبقة الأولى .
مهاجر يقيم فى كندا .

Post: #4
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-01-2009, 10:52 PM
Parent: #3

لو دخل المتابع الى مكتبة البرنس .
سوف يجد فيها روح عبدالحميد .
.. يا سلام .
كاتب مصقول الألفاظ .
جميل الديباجة . كثير العناية برقة الكلام .

Post: #5
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-02-2009, 03:18 AM
Parent: #4

البرنس
كاتب يجيد الكتابة فى
الكثير من تصانيف الأدب

Post: #6
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-02-2009, 04:03 AM
Parent: #5

بقلم : عبدالحميد البرنس
________________



غادر الرصيف، ومشى ببطء بين الورش ومكاتب المفتشين ذات الطابع الاستعماري القديم، ثم انحدر شرق مساكن عمال السكة الحديد الحمراء الكابية، رويداً رويداً زاد من سرعته، واندفع بُعيد مطاحن الغلال، مخترقاً حقول الرز المغمورة بالمياه وجسر الحديد المقام على نهر صالحين، وما إن توغل داخل عشب السهل الاصفر الحائل ذي الفجوات الحجرية الواسعة، حتى اجهش بالبكاء بين وجوه المسافرين الساهمة وراء الاجمة المتناثرة من اشجار السنط، حيث تشرئب منذ قديم الازل سلسلة جبال العاديات، ملقية في نفس الرائي بذرة الشعور بالضآلة او الفناء، وقد بدا لصمتها الثقيل الموحش على رغم زلزلة القطار الهادر وكأنها لا تزال تصغي لاحلام المهدي بغزو العالم في زمان لن يعود.. البتة. كانت الشوارع الجانبية المُتربة خالية أو تكاد، كان يتقدمه شقيقه الذي يصغره بنحو عامين، دافعاً الدراجة عبر التراب الكثيف الموحل، "هذا ما يدعونه فراق الوطن"، قال في نفسه، ثم واصل السير، مختزناً في ذاكرته ما تبقى من الأماكن الاليفة الآخذة في التراجع عكس ايقاع خطواته، وبينما كان يتأمل اهتزاز شنطته "الهاند باك" المربوطة الى سرج الدراجة الخلفي بحب وعناية كبيرين، ادرك بكثير من الأسى ان سنواتهما القليلة التي عاشاها معاً كشقيقين قد ضاع معظمها في خضم النزاعات اليومية الصغيرة، آنئذ، هرع اليه، ود فقط ان يقول له بكل بساطة لا يمنحها للناس عادة سوى الرحيل او الاحساس الغريزي بدنو الخطر: "لو تدري يا أخي العزيز كم احبك" لكنه كان قد وضع الدراجة بعد مشقة على طرف الشارع الرئيسي المسفلت، واعتلى سرجها الامامي، مشيراً اليه وهو يأخذ وضع الانطلاق، بالركوب، يكاد الآن يحس بدفء انفاسه اللاهثة وراء اذنيه، وهو يردفه امامه صوب محطة القطار القريبة من دون كلمة واحدة.
كانت تشير الساعة الى السادسة وخمس وعشرين دقيقة وثوان، عندما اطلق صافرته الحزينة الممطوطة، وغادر الرصيف، مُفتتحاً فصول رحلة لا يعلم إلا الله متى وكيف تنتهي؟!.
في قادم الايام... الشهور... او السنوات، سيفكر في ذات الاماكن الاليفة، سيحكي عنها، وسيزورها اثناء النوم، يتردد اليها، يتلمسها بحنو يكلم في داخلها الوجوه التي احب، يستمع الى رنين ضحكته المفقودة، ثم يركض... ويركض... ويركض كعهد طفولته في الشارع ذي التراب الكثيف الموحل الذي يشهد خطواته الاخيرة الآن، قبل ان يصحو من نومه متوحداً أو فزعاً او ظامئاً او مجهداً بين جدران غرفة السطح المؤجرة في بناية قديمة تطل على احد شوارع القاهرة في كآبة، سيلازمه هذا الحلم كظله، وسيتكرر حتى خلال نومه النهاري القصير المتباعد الى أن يشرع أمام سيل الخيبات الذي لا يرحم في التأكد داخل الحلم نفسه ان ما يراه ليس حلماً، بل الحقيقة.
هناك، أمام باب الحوش، قبل دقائق قليلة، ودع والده "وداع رجل لرجل". السائل المائي الحارق، أخذ يتصاعد الى عينيه فور ان انفلت من حضن امه، وكثيرة هي الدموع التي ذرفنها شقيقاته في اعقابه، كذلك بدأ السير، مقتفياً آثار شقيقه الى الشارع الرئىسي المُسفلت حيث انطلقا بالدراجة صوب محطة القطار القريبة من دون كلمة واحدة.
لقد كن ذات الشقيقات، اللائي سيغرقنه في سنوات غربته الاولى بالرسائل، راسمات على حوافها الزهور الذابلة والقلوب التي حطمها البعد، ذاكرات من سطر لآخر ان بهن من الاشواق اليه ما يكفي لهدم جبال العاديات وتجفيف نهر صالحين وحرق غابات السنط النضيرة، وقتها كان ولا يزال منغمساً في سعيه الحثيث خلف طموح ظل مطموراً في اعماقه السحيقة، فكشف عنه الرحيل مثلما يكشف عن نفسه على حين غرة البركان الخامد أو الزلزال المدمر.
يا إلهي... لماذا لماذا... لماذا تبقى اللحظات الاخيرة من علاقاتنا نحن البشر محفورة في تلافيف الذاكرة الى هذه الدرجة من العمق او الثبات"، تساءل ذات نهار قائظ بعيد اسفل تمثال رمسيس، وإذا احس في ما يشبه الكشف المتأخر بوجود اشياء في العالم مثل حضن الأم لا يعوض عن غيابها الزمن، ادرك للمرة الاولى حجم الفراغ الذي احدثه في نفسه رحيل والده قبل سنوات من غير أن يتاح له حتى عزاء ان يحمل النعش الى مثواه الاخير؟.
عند منحنى الشارع ذي التراب الكثيف الموحل، توقف دفعة واحدة واستدار، بالكاد رفع يده اليمنى، لوح مودعاً، كان المشهد العائلي قد بدأ بالفعل في التشتت مرة وإلى الابد.
آنذاك، رأى والده، ومسبحته الحجازية، ناظراً الى وجه الارض في شرود، والشقيقات الثلاث، اللائي سينقطعن تباعاً عن كتابة الرسائل من طرف واحد ظل يبث طويلاً لواعجه الاخوية بلا جدوى، مازلن ملتفات حول ابتسامة امه، يلوحن له بأيديهن الست، وقد بدون كأغصان شجرة.. هزتها رياح ذلك الصباح التي بدأت تنشط شيئاً فشيئاً... والتي ستمحو بعد قليل آثار اقدامه على ظهر الشارع المترب... لا محالة.



Post: #7
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-02-2009, 04:44 AM
Parent: #6

عثمان أخي:

بوركت خطاك في هذا العالم. تحية موصولة للمبدع الجميل "أبوجهينة".

Post: #8
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-02-2009, 05:42 AM
Parent: #7

حذف لإعادة النظر في النص

Post: #9
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-02-2009, 03:41 PM
Parent: #8

Quote: كاتب من الطبقة الأولى


يا عم عثمان الكلام دا بجيب لي أخوك الهوا. الهوا جميل لأن من أجمل الحاجات في الدنيا دي: الكتابة تحت ضغط. موش الكتابة بس. كل عمل تقريبا. الحكاية ببساطة ممكن تلقاها في الحكمة دي: كاتب جاد ولا ما جاد. عمنا تومس أديسون بعد ما وصل بإختراعاتو لألف و93 قال ليهم والله يا جماعة الحكاية كلها ما بتمرق من المعادلة دي: 1% عبقرية و99% جهد وعرق. وحكاية جاد ولا ما جاد دي تفسيرها: أدوات + رؤية للعالم + منهج عقلاني لبناء الرؤية دي. الحكاية التانية يا عم عثمان قلتها مرة في بوست القصة في الكلام عن أخونا محسن شفاه الله ورجع بالسلامة: التخصص والتركيز في حاجة واحدة. يعني حكاية شاعر وباحث وأديب وصحفي وحزبي ولوا بالمعاش وهلمجرا أصبحت من زمان زي ما بقول عبدالصبور في خبر كان. أومن سمات التخلف لا التقدم.
جماعة (أنصار السنة والبلاغ) بقول ليك واحد عندو 3 صحبان، قال للأول أنا عايزك تمشي معاي المحكمة قال ليهو لا، الصاحب التاني طلع زي الأول، أما التالت دا فقال يا زول ابشر تب أنا أمشي معاك لأي حتة، أها الجماعة قالوا الأول هو المال والصاحب التاني هو الأهل، أما التالت دا فهو العمل الصالح يذهب معك حتى إلى القبر أوالمحكمة. التاريخ لا يصنعه المذيفون.
ومثال الجماعة إياه ذكرته للوصول لحقيقة مفادها حسب بورخيس: "في مجال الكتابة لن يسعفك أحد".
عموما الكتابة لدي هي موقف من العدم. وهذا عصمني من أن أكون المليك على أوجه البهجة المستعارة حسب صديقي دنقل. الألقاب يا عثمان أخي لا تهمني عادة أولا أتوقف عندها. إذا كان المفهوم عن الكتابة كذلك أتصور أن كل تلك الحسابات الآنية تسقط وتنتهي. محبتي وتقديري لكل هذا النبل.

Post: #99
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-23-2009, 04:19 AM
Parent: #9

يطول السرد عن عبدالحميد

Post: #75
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-18-2009, 04:36 PM
Parent: #7

أبوجهينة كاتب يتميز بثراء الموضوعات كما ونوعا, فقصصه تصور مقاطع من حياة شخصيات تنتمي إلى خلفيات مجتمعية وثقافية مختلفة, شخصيات حية تعبر عن ذاتها بخطاب يناسبها ويحدد وعيها وموقعها في العالم ولا يفرض عليها تصورات تجعل منها مجرد دمى ميتة أوأقنعة تكمن وراءها أفكاره هو الذاتية, ففي قصة:

الشريط ...

نطالع شخصية علوية, وهي شخصية نجح أبوجهينة ببساطة آسرة في أن يجعل منها نموذجا إنسانيا بالغ الدلالة على تشوقات البشر الأبدية للحب والأمان والدفء في عالم شديد القسوة تنكسر الأحلام فيه عادة على عتبة الواقع الصلبة وما يسببه ذلك من تشوهات وجراحات نفسية لا يخفف من وطأتها مرور الزمن. وقريبا من هذا النموذج, تطالعنا شخصية الراوي في قصة:

سارا .. و الموشوم على الجبين

حيث نلمس ذلك الخيط القدري الذي يصنع مصير الشخصية, سواء في حدود مقاومتها الهشة كما في حالة علوية, أوفي حدود الإقرار بقصورها في مواجهة أحداث ماضية كما في حالة الراوي المشار إليه, ف(سارا .. و الموشوم على الجبين) نص سردي جميل يعبر في وجه عن مأساة عالم لكائن بشري (حر) خارجيا (مكبل) داخليا. ليس بمقدوره التعاطي مع العالم المختلف أوالخارجي من منطلق حقيقة تؤسسها لحظة آنية (مختلفة عن حصيلته المعرفية المتكونة لديه منذ الصغر). ثمة شيء ثقيل وغامض قادم من التاريخ أوالعادات كشبح يكبت بركان مشاعر الرجل تجاه المرأة على نحو يصل إلى القاريء في شكل إيحاء. لكن السرد الذي يتم على خلفية شفيفة من الإعترافات الصادقة يبدو كفعل خلاق لذلك الكائن نحو تحرره أوإعادة بناء ذاته على نحو أكثر إنسانية.

Post: #10
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-02-2009, 06:18 PM
Parent: #2

أستاذنا العزيز ابوجهينة
سلامات
ترحيب حار بدخولك مكتبة البرنس .
الكاتب الذى تعلو مكانته فى الابداع
كل يوم .
تحياتى وجزيل شكرى


Post: #11
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: ميسرة سيد أحمد
Date: 11-02-2009, 06:51 PM
Parent: #10

عبدالحميد البرنس كاتب من الطراز الأول
وهو عالي الإحساس طوع الكلمات حيث ما أراد
ويتمتع بخيال جميل خصب ، نأمل يا برنس عدم
التوقف عن الكتابة ، وكما أدعوك إلى زيارة مهد
الصبا والفكرة التي خمرتها في ذهنك ونفذها أخونا عصام دهب
ونحت نقترب من الإحتفال بالميل المئوي خلال أيام قليلة تعد على اليد
نتوقع زيارتك لينا في بوستك العزيز - ناس الزقازيق أجدع ناس ،،،

شكراً أخي عثمان ، البرنس يستاهل .

Post: #12
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-02-2009, 11:11 PM
Parent: #11

Quote: نتوقع زيارتك لينا في بوستك العزيز - ناس الزقازيق أجدع ناس


عزيزي ميسرة:

لم أنقطع يوما واحدا. زياراتي لرؤية تلك الوجوه الأليفة تتم حتى الآن في صمت. الصمت يسمح لي ببعد كاف للتأمل والملاحظة وتعديل الصورة التي في ذهني للزقازيق. ناهيك عن متابعة التطورات اللاحقة لزملاء وزميلات أفرد لهم مساحة في داخلي. الزقازيق كمكان يتمدد في مسودة روايتي "إنسان المكان". وإذ أشكرك لكل هذا البهاء في حق أخيك؛ هنا بعض من ملامح تلك المسودة:

......
.........
...............

آنذاك لم أتبين مدى حزنه جيدا.

إذ ضحكت مرة أخرى وأنا أتذكر تفاصيل ذلك الفخ المحكم الذي لم تشهد مثله جامعة الزقازيق من قبل.. والذي عكفت على حياكته بصبر ودأب أيام طوال إلى أن غدا في جمال فكرة خارجة من رأس شيطان عزب له سبعة قرون من الوحدة والكبت والظمأ.. ضحكت وأنا أتذكر أنين حمامة المدرج البيضاء الخافت ذلك المتناهي أسفل وطأة اللذة كرنين أجراس الكنائس البعيدة.. ضحكت وأنا أتذكر ملمس ذلك الشعر الحريري المنسدل فوق كتفيها العاريين مثل خيمة أعرابية مطهمة بالخمر والشواء ونمير الرغبة المتحققة.

سوى المكتبة.. أروقة الكلية.. المدرجان.. وقاعات الدراسة الصغيرة المزدحمة.. كان لا شيء يجمع بيني وبينها. كانت شديدة التدين برغم جمال سفورها الفاتن المستفز. كنت أتقمص بعض آراء سيف الدين المبارك المارقة. وكان لا بد من النفاذ إلى ما وراء فترينة العرض الأوربي المتحرك بين جدران الحرم الجامعي بحزم حتى لو تجمعت أحذية الزقازيق فوق رأسي العملية الحالمة. وقد كان.

آن تلك البداية:

كان شهر نوفمبر يسكب بعيد آذان فجر بعض دموع الشتاء مودعا العالم كعادته الأزلية في برود. كانت شمس الضحى التي أعقبت سقوط ذلك المطر الخفيف تلف الأجساد الشابة حذاء نوافذ القاعات الزجاجية وأمام مبنى الكلية ذي اللون الأصفر المقاوم لتقلبات الفصول أوالزمن.

كنت أتجاوز منحنى الطرقة الأرضية الأسمنتية الباردة الطويلة الرطبة.. التي حوت في عمق جانبيها بعض مكاتب الإدارة والمعيدين وأمن الكلية.. عندماا وجدتني مدفوعا نحوها في تلك اللحظة الحاسمة عبر قوة قدرية غامضة لا قبل لي بها البتة. كانت تقف بعيد باب المدرج الغربي بين محاضرتين متباعدتين كساقي قصيدة عمودية تداعب سلسلة الصليب المذهب الساقط عادة صوب مفرق النهدين الضيق العميق.

وكأن لا برد هناك.

كان لظى جهنم يستعر داخل سراويلي الناشفة حين غادرني صوتي الجاد الهامس المرتعش النبرات والذي بدا لي في تلك اللحظة ولسبب ما مثل رجل وثني يقبل صوب أعتاب دين جديد:

............
...................

Post: #13
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-03-2009, 02:23 AM
Parent: #12

تتعنكل عقلك تلك الكتابات ويسرك طعم خبز ذكريات البرنس .
______________________________________________


كان المنفيون في تلك المدينة الكندية الصغيرة كثيرا ما يتبادلون بأسى متزايد خبز ذكرياتهم حول منافي وسيطة في مكان ما من العالم كانوا قد مروا بها أوأقاموا فيها لفترة في طريقهم إلى الحرية قبل أن ينتهي المطاف بهم إلى أبعد نقطة من الوطن في وظيفة هامشية كغسيل الأطباق في مطعم فخم عدا الأمنجي السابق الذي ظل لسبب ما محتفظا بصمته حول هذه المسائل وقد لف وجوده خلال سنوات ما بعد سقوط المشير بغموض ملغز وغير مبرر تماما في بلد عادة ما يتبادل عشاقها القبل والأحضان الساخنة في ميادين عامة ولا يبالون.

واللافت أن أغلب الذين جاءوا من منفى وسيط مشترك كانت علاقاتهم فاترة يشوبها شعور ما بالمرارة وقد بدا وعلى الدوام أن ثمة حواجز غير مرئية كالخيانة كانت تنهض فيما بينهم في أكثر لحظات إندماجهم في منفاهم الجديد تسامحا. أجل.. الآثار تبقى على جدار الروح. ولابد أن أشياء حزينة قد حدثت في تلك المنطقة من الذكريات لايتم الكلام حولها سوى عبر ذلك الهمس المثقل داخل غرف مغلقة بمشاعر لو سارت نحو جبل لأحالته إلى هشيم وندف صغيرة كابية. لقد كان البأس على أشده على وجه الخصوص بين أولئك المنفيين الذين سبق وأن جمعتهم مدن كبيرة مثل القاهرة وكانوا سوى النضال الذي تحول بمرور الوقت إلى حروبات داخلية صغيرة طاحنة بلا موارد مالية تكفي حتى للبقاء على قيد الحياة أحيانا. ربما لهذا كان الهمس يدور غالبا حول بيع صداقات بوجبة طعام رخيص بدم بارد وضمير خال تماما من الرأفة أوالتأنيب.

ويبدو لي الآن وأنا أتأمل تفاصيل هذه اللوحة من بعد أن الدعاة إذا ما فقدوا رسالتهم إلى العالم في يوم ما سيتحولون رويدا رويدا إلى كائنات جحيمية صغيرة مهمتها أن تصنع الأذى مدفوعة برغبة لا نهائية في التدمير أوالإنتقام. لعل ذلك ما يقودني أحيانا إلى التفكير في تلك الخطورة التي يولدها الشعور بفقدان المعنى في حياة الناس. أجل.. لابد أن أشياء بائسة كتلك ستحدث. على أية حال بدا المشهد يتكشف برمته مثل أرضية ملائمة أعادت إلى الحياة وبقسوة تلك المواهب الميتة للأمنجي السابق وصاحبه الخليفة.




كالأسى، لايزال الجليد يتساقط وراء النافذة الزجاجية. الشقة دافئة. وهناك، في مكان ما داخل نفسي، أشعر ببرد غريب، جلبت له منذ قليل صور ماركيز وهيغل وأمي، وضعتهم أمامي على المكتب، وربما أجلب لوحة فان جوخ (نجوم الليل) من الصالة. ومع ذلك، البرد ما ينفك يزداد. ولا أدري الآن من أي مكان من الذاكرة ولأي سبب يتناهى في هذا المساء المقبض الحزين صوت نيتشه عابرا بقوة لحظة الميلاد حطام كل تلك السنوات والذكرى: "الحية التي لا تستطيع أن تغير جلدها.. تهلك. كذلك البشر الذين لا يقدرون أن يغيروا آراءهم.. لا يعودون بشرا. بقدر ما نصعد عاليا.. نبدو صغارا لهؤلاء الذين لا يعرفون أن يطيروا".




يا لحصاد السنوات!!!.




كنت قد هبطت إلى تلك المدينة ذات مساء ممطر بعيد ضمن فوج صغير من اللاجئين بعد رحلة طويلة وشاقة تماما. ولم يكن يخطر في ذهني أبدا أن يكون الأمنجي السابق قد سبقني إليها بأعوام كنت خلالها أحاول عبثا الشفاء من آثار حروق طبعها تعذيبه على روحي في زمان برز أمامي دفعة واحدة حالما وجدته في استقبالي ضمن مقيمين آخرين وكنت قد ظننت أن ماهربت منه قد تركته ورائي مرة واحدة وإلى الأبد. أجل.. هذا زمان المهازل وغربة الأرواح النبيلة ولاعزاء.

Post: #14
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-03-2009, 04:55 AM
Parent: #11

العزيز ميسرة أحمد
سلامات
وبارك الله فيك على حديثك الجميل
عن الأديب البرنس .
نعم البرنس كاتب صاحب خيال خصب . ( زول وصاف )
و يحترم الحرف ويكتب بحس شاعري بديع .
تحياتى وكثير شكرى

Post: #15
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 11-03-2009, 05:30 AM
Parent: #14

العزيز عثمان موسى
نحن الآن على اعتاب السنة الرابعة
من خلالها عرفته زوجا وصديقا وحبيبا
مملؤا بالاحترام والحب والتقدير والثقة
يجيدها كلها كما يجيد نصوصه الادبية
فكم انا محظوظة
شكرا لك لفتح نوافذ لقراءة اعماله

Post: #16
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-03-2009, 04:23 PM
Parent: #15

يا عثمان:

منذ أمد بعيد، أدركت بصورة أوأخرى أني صاحب طريق مختلف. نعم، كان لا بد لي أن أتريث كثيرا قبل أن يشيرا إليها، قلبي وعقلي معا، قائلين: "أيها المنفي الغريب، انتبه، ها هي، رفيقة دربك تتهادى نحوك الآن، كما لو أن الله يمسح من على رأسك كل تلك الأحزان".نعم، هذه (يا عثمان) أم عيالي محمد وأنيس (أبناء حب عظيم). امرأة إستثنائية تحثك لأن تسمو دائما نحو قمم تبدو للوهلة الأولى مستحيلة. نعم، تحثك نحوها في عليائها البعيد البعيد برقة زهرة وصلابة معدن نفيس. هكذا، لا أبدو كأولئك الناس الذين لا يشعرون بقيمة ما في يدهم سوى بعد فقد.هناك، في الفردوس، سأشكر الله على أنه منحني بنات حور، قائلا: تباركت أحسن الخالقين بيد أني لا اريد سوى إلهام رفيقة في وحشة هذا النعيم

Post: #17
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-03-2009, 04:44 PM
Parent: #16

عزيزتنا الأخت الهام
سلامات
انا لم أفتح النوافذ .
قلم عبدالحميد الذى يفيض
بالحكمة والصور والتفانين . هو الذى
فتح النوافذ .
تحياتى وجزيل شكرى على
المشاركة الكريمة .

Post: #18
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: ابو جهينة
Date: 11-03-2009, 05:43 PM
Parent: #17

كتب البرنس أيام القاهرة في 2005م:

Quote: غنى



كان الشارع خالياً تماماً من المارة. كانت درجة الحرارة تلاحق نسبة الرطوبة في الإرتفاع. كنت أسير حذاء البنايات الأسمنتية العالية. فجأة، انشقت الأرض عن طفل شديد الهزال. "تشتري"، سألني. وقد مد نحوي علبة مناديل ورقية صغيرة. فتشت في جيوبي بتمهل. ثم نظرت إلى خطوط العرق المنحدرة من جبينه الدقيق. "لا توجد نقود"، أجبته. وشعرت بيده الخالية وهي تضغط برفق على يدي وتبتعد.



4 أسطر و لكنها كاميرا بفلاش

Post: #19
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-03-2009, 08:17 PM
Parent: #18


و أنت وسط كل هذا الأسى،تقف قبالة رأس الجزيرة،" أسيني بويني " يزحف مثل شيخ منهك،و " الريد ريفر " كالنيل الأزرق يندفع بمياهه المعتكرة إلى يسارك، و ليس أمامك من شيء آخر سوى إطلالة التجاني الطيب، تقفز إلى ذهنك فجأة،صورة هندي أحمر عجوز،أطل على ذات المشهد قبل ألف عام،ومن المؤكد أن خياله لم تطرأ عليه وقتها فكرة أن الحياة قد آلت إلى ماهي عليه الآن على جوانب النيلين. وهو الغريق في تأملاته تلك،يحكي التجاني الطيب قصة،لا أذكرها،وقد مضى على زيارته نحو أكثر من نصف عام،إلا على نحو ضبابي،قال إنه كان وقتها مجرد طفل صغير،يتخذ طريقه بمحاذاة قناة مائية إلى خارج القرية،بينما " سعف " النخيل يهفهف أعلى رأسه. هو الخروج إذن. رحلة إنسان بدأت. و لا يعلم إلا الله متى و كيف تنتهي. لكن المؤكد أن ما تبقى من ذلك الطفل هو قدرته على الحلم وإن اتخذ مسارات مختلفة، و الصراع ضد غول آخر يغذيه عزم لايلين أو ينفد ما تعاقب أجيال الحلم بغد أفضل، و كلمات الشاعر الجميل صلاح محمد إبراهيم تلوح مثل علامات بالغة الدلالةو منيرة مثل صوى الساري وسط ظلام الليل الحالك : " رباه .. إن ما هو أقسى من الألم .. ومن التعبير عن الألم ... ألا وهو التصميم على الوصول ".

( عبدالحميد البرنس مصور بارع )

Post: #20
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-04-2009, 01:23 AM
Parent: #18

عزيزنا ابو جهينة
سلامات
نعم 4 أسطر
ولكنها كاميرا بفلاش .
ألف شكر أستاذى ابوجهينة وأنت تشاركنا التجوال .
فى خيال صاحب الكاميرا .. ارجو أن لا تبتعد .
تحياتى وكتير احترامى

Post: #21
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-04-2009, 03:55 AM
Parent: #20

واو
___

غادر الرصيف، ومشى ببطء بين الورش ومكاتب المفتشين ذات الطابع الاستعماري القديم، ثم انحدر شرق مساكن عمال السكة الحديد الحمراء الكابية، رويداً رويداً زاد من سرعته، واندفع بُعيد مطاحن الغلال، مخترقاً حقول الرز المغمورة بالمياه وجسر الحديد المقام على نهر صالحين، وما إن توغل داخل عشب السهل الاصفر الحائل ذي الفجوات الحجرية الواسعة، حتى اجهش بالبكاء بين وجوه المسافرين الساهمة وراء الاجمة المتناثرة من اشجار السنط، حيث تشرئب منذ قديم الازل سلسلة جبال العاديات، ملقية في نفس الرائي بذرة الشعور بالضآلة او الفناء، وقد بدا لصمتها الثقيل الموحش على رغم زلزلة القطار الهادر وكأنها لا تزال تصغي لاحلام المهدي بغزو العالم في زمان لن يعود.. البتة. كانت الشوارع الجانبية المُتربة خالية أو تكاد، كان يتقدمه شقيقه الذي يصغره بنحو عامين، دافعاً الدراجة عبر التراب الكثيف الموحل، "هذا ما يدعونه فراق الوطن"، قال في نفسه، ثم واصل السير، مختزناً في ذاكرته ما تبقى من الأماكن الاليفة الآخذة في التراجع عكس ايقاع خطواته، وبينما كان يتأمل اهتزاز شنطته "الهاند باك" المربوطة الى سرج الدراجة الخلفي بحب وعناية كبيرين، ادرك بكثير من الأسى ان سنواتهما القليلة التي عاشاها معاً كشقيقين قد ضاع معظمها في خضم النزاعات اليومية الصغيرة، آنئذ، هرع اليه، ود فقط ان يقول له بكل بساطة لا يمنحها للناس عادة سوى الرحيل او الاحساس الغريزي بدنو الخطر: "لو تدري يا أخي العزيز كم احبك" لكنه كان قد وضع الدراجة بعد مشقة على طرف الشارع الرئيسي المسفلت، واعتلى سرجها الامامي، مشيراً اليه وهو يأخذ وضع الانطلاق، بالركوب، يكاد الآن يحس بدفء انفاسه اللاهثة وراء اذنيه، وهو يردفه امامه صوب محطة القطار القريبة من دون كلمة واحدة.
كانت تشير الساعة الى السادسة وخمس وعشرين دقيقة وثوان، عندما اطلق صافرته الحزينة الممطوطة، وغادر الرصيف، مُفتتحاً فصول رحلة لا يعلم إلا الله متى وكيف تنتهي؟!.
في قادم الايام... الشهور... او السنوات، سيفكر في ذات الاماكن الاليفة، سيحكي عنها، وسيزورها اثناء النوم، يتردد اليها، يتلمسها بحنو يكلم في داخلها الوجوه التي احب، يستمع الى رنين ضحكته المفقودة، ثم يركض... ويركض... ويركض كعهد طفولته في الشارع ذي التراب الكثيف الموحل الذي يشهد خطواته الاخيرة الآن، قبل ان يصحو من نومه متوحداً أو فزعاً او ظامئاً او مجهداً بين جدران غرفة السطح المؤجرة في بناية قديمة تطل على احد شوارع القاهرة في كآبة، سيلازمه هذا الحلم كظله، وسيتكرر حتى خلال نومه النهاري القصير المتباعد الى أن يشرع أمام سيل الخيبات الذي لا يرحم في التأكد داخل الحلم نفسه ان ما يراه ليس حلماً، بل الحقيقة.
هناك، أمام باب الحوش، قبل دقائق قليلة، ودع والده "وداع رجل لرجل". السائل المائي الحارق، أخذ يتصاعد الى عينيه فور ان انفلت من حضن امه، وكثيرة هي الدموع التي ذرفنها شقيقاته في اعقابه، كذلك بدأ السير، مقتفياً آثار شقيقه الى الشارع الرئىسي المُسفلت حيث انطلقا بالدراجة صوب محطة القطار القريبة من دون كلمة واحدة.
لقد كن ذات الشقيقات، اللائي سيغرقنه في سنوات غربته الاولى بالرسائل، راسمات على حوافها الزهور الذابلة والقلوب التي حطمها البعد، ذاكرات من سطر لآخر ان بهن من الاشواق اليه ما يكفي لهدم جبال العاديات وتجفيف نهر صالحين وحرق غابات السنط النضيرة، وقتها كان ولا يزال منغمساً في سعيه الحثيث خلف طموح ظل مطموراً في اعماقه السحيقة، فكشف عنه الرحيل مثلما يكشف عن نفسه على حين غرة البركان الخامد أو الزلزال المدمر.
يا إلهي... لماذا لماذا... لماذا تبقى اللحظات الاخيرة من علاقاتنا نحن البشر محفورة في تلافيف الذاكرة الى هذه الدرجة من العمق او الثبات"، تساءل ذات نهار قائظ بعيد اسفل تمثال رمسيس، وإذا احس في ما يشبه الكشف المتأخر بوجود اشياء في العالم مثل حضن الأم لا يعوض عن غيابها الزمن، ادرك للمرة الاولى حجم الفراغ الذي احدثه في نفسه رحيل والده قبل سنوات من غير أن يتاح له حتى عزاء ان يحمل النعش الى مثواه الاخير؟.
عند منحنى الشارع ذي التراب الكثيف الموحل، توقف دفعة واحدة واستدار، بالكاد رفع يده اليمنى، لوح مودعاً، كان المشهد العائلي قد بدأ بالفعل في التشتت مرة وإلى الابد.
آنذاك، رأى والده، ومسبحته الحجازية، ناظراً الى وجه الارض في شرود، والشقيقات الثلاث، اللائي سينقطعن تباعاً عن كتابة الرسائل من طرف واحد ظل يبث طويلاً لواعجه الاخوية بلا جدوى، مازلن ملتفات حول ابتسامة امه، يلوحن له بأيديهن الست، وقد بدون كأغصان شجرة.. هزتها رياح ذلك الصباح التي بدأت تنشط شيئاً فشيئاً... والتي ستمحو بعد قليل آثار اقدامه على ظهر الشارع المترب... لا محالة.

Post: #22
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-04-2009, 04:33 AM
Parent: #21

عزيزي عثمان:

أن يحتفي بعملي هنا على هذا النحو لهو أمر عند أكثر قيمة من ذهب الأرض جميعا. أشكركم مرة اخرى. ومن باب الشجون، ثمة مفاجأة تتبعها أخرى في ظرف أقل من عام من الآن على صعيد مسيرتي السردية. كل ما يمكن أن يقال في هذا الصدد أن رواية "الأمنجي السابق" سترى النور قبل رواية "إنسان المكان". دمت.


نحن ضحاياه لا نعلم له إسما محددا. كل ما نعلمه أنه حمل خلال حكم المشير فحل بلد أم تور جاموس الثالث عشر إسم "الأمنجي". وذلك قبل أن يحمل بعد سقوط ولي نعمته عند منتصف الثمانينيات تقريبا بثورة شعبية تمت سرقتها في المهد إسم "الأمنجي السابق". وإن حمل خلال طفولته كما يرى العارفون أسماء عديدة من بينها إسم "الناظر الرهيب". والمراقبون لاحظوا أيام جبروته أن صورته كانت تظهر في الصحف حاملة أسماء ورتبا مختلفة. كانت تلك الصور تظهر في العادة ضمن القائمة السنوية التي كان يصدرها مكتب المشير آنذاك لأمنجية أنجزوا خدمات للنظام تطلق عليها الصحيفة الوحيدة في البلاد دائما صفة "جليلة". لكن بعض الناس الذين نالوا حظا من علم النفس ينفون أن يكون الأمنجي السابق قد ظهر حتى ولو عابرا عبر جهاز إعلامي ما. كأن يقف كجزء ضئيل من خلفية مبهمة مكونة من آلاف الأوجه المجهولة أثناء تصوير المشير وهو يتفقد الجماهير في منطقة تشابه مدينة واقعية. ذلك أن للنظام مدن سرية تشبه المدن التي يراها التلاميذ في الخريطة أثناء حصة الجغرافيا. كان يدفع إليها بالكثير من الأمنجية وأسرهم ليلا ليستقبلوا المشير في الصباح كسكان أصليين على وجوههم آثار النعمة والولاء اللامحدود. وكان المشير لعدله يتجول بينهم بلا حراس إلى الدرجة التي كان يجلس معها على الأرض بين عمال الميناء بهيئاتهم النظيفة وأحذيتهم العسكرية السوداء اللامعة. ولأنه شهير بحب السيجار الكوبي الفخم كان هؤلاء العمال المزيفون يقدمون له سيجارا ثم يوقدونه بقداحاتهم الماسية وقد رسخ في وعيهم أنهم يقدمون بذلك صورة جذابة للعالم في الخارج تعكس درجة الرفاهية التي وصلت إليها البلاد في ظل حكومة المشير الرشيد. وكان أولئك الذين نالوا حظا من علم النفس يدافعون عن موقفهم بحجة أن ضحايا الأمنجي السابق ماينبغي أن يعتد بشهادتهم حين يتعلق الأمر بالسؤال عن أوصافه الدقيقة. ذلك أن ماأصابهم على يديه جعل بعضهم يهاب الخروج من بيته تحسبا أن يكون الأمنجي السابق قد تنكر وقتها في هيئة عمود للنور عند ناصية الشارع. وأكثر من ذلك أخذ أحدهم يتجنب زوجته في الفراش ظنا منه أن مايراه لم يكن سوى الأمنجي السابق متقمصا كافة تفاصيلها بعد أن تم إغتصابها ودفنها في مكان ما. حتى أن شفرات الغزل السرية بين زوجين لم تكن لتعيده إلى رشده بعد سنوات التعذيب الطويلة في السجن على يد الأمنجي السابق شخصيا. ومع أنه تجنب معاشرة زوجته في تلك الأحوال إلا أنه خلال ساعات اليوم الواحد لم يكن ليكف لحظة واحدة وبلا سبب من كيل المديح للمشير مؤكدا بصدق شديد تنكره لماض ثوري لم يدفعه إليه سوى الجهل وأولاد الحرام. لكن المرتابين ظلوا يسخرون في السر من كل تلك التأويلات "التي لا أساس لها في الواقع" على حد تعبيرهم. كانوا يستندون في ذلك على تاريخ الأفعال الصغيرة التافهة التي أشتهر بها الأمنجي السابق وسط مجموعات كبيرة من محدودي الدخل. لكن أكثر مايلفت الإنتباه من كل ذلك اللغط هو الإختلافات الحادة بين إفادات الضحايا خلال الأيام الأولى لتلك الثورة الشعبية حول لون عيني الأمنجي ومكانهما من رأسه المستديرة ككرة من المطاط. لقد دفعت القاضي أثناء محاكمة رموز نظام المشير إلى التشكيك بجدية لا تخلو من عطف في مدى مايتمتعون به من قوى عقلية. لقد كان من السهل للقاضي وقتها التصديق أن السماء أمطرت يوم ولادة الأمنجي السابق دما أحمر من وجود عينين في رأسه تبيتان كل ليلة في موضع مختلف ولون جديد. كان الأمنجي السابق مختفيا خلال تلك المحاكمات العلنية في مكان ما. وكان من نتائج ذلك أن قامت صحافة العهد الجديد حسب رواية الشهود بنشر صور لشخص مطلوب القبض عليه بألف هيئة من بينها صورة لمواطن بعينين أسفل ذقن حليقة. ويبدو أن المكآفات الكبيرة التي رصدت لهذا الشأن قد دفعت المواطنين إلى وضع النساء أنفسهن في دائرة الفحص والتدقيق. لقد كان بسطاء القوم في تطلعاتهم المشروعة للثراء يدافعون عن أنفسهم حين يبطحون سيدة ما على قارعة الطريق قائلين ليس غريبا فعل ذلك على شخص له عينان في الجمجمة. لكن أكثر ما غاظ خالي حسين الذي ورث من جدتي المجرية زرقة عينيها المستديرتين تلك اليد الغليظة لرجل يقف في الصف إلى يساره أثناء صلاة الجمعة التي أحكمت قبضتها قبيل أن يفرغ الأمام من الصلاة على عنقه تماما قبل أن يتكشف لصاحبها الذي باغته لون العينين خلال الخطبة أن الأمنجي السابق ما كان له أن يتواجد داخل مسجد لأسباب خاصة وإن بدا على وجهه أنه غير مقتنع تماما بوجود عينين زرقاوين لبشر سوي في هذه الحياة. الأمنجي السابق أفصح بنوع من الفخر في لحظة سكر جمعته بمنفيين يقضون سحابة نهارهم داخل سوق تجارية ضخمة في تذكر نضالاتهم القديمة بشيء من الأسى أنه كان يتنكر وقتها في هيئة جامع قمامة في مصلحة البلدية مستغلا معرفته بالإختلاسات الضخمة لمديرها خلال العهد البائد. ويبدو أن المنفيين كانوا في حاجة ماسة إلى ذكرى حية من ذلك العهد لتصفية حسابات تاريخية عجزوا عنها وقتها فكانوا يصفعونه بلاسبب على وجهه أحيانا. وكان هو يتقبل ذلك بتسامح كبير خوفا من قذفه إلى التفسخ في عزلة مطبقة مليئة بالكوابيس الليلية لضحايا دفنهم من قبل أحياء فعادوا الآن في هيئة أشباح يزعجون ماتبقى له من سنوات ولاهم لهم سوى ملاحقته إلى نهاية العالم. لكن ماحدث أثناء ولادة الأمنجي السابق على يد الداية أم صدير أمر يفوق الخيال.

Post: #23
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-04-2009, 04:53 PM
Parent: #22

عبدالحميد حين يرسم
يصور كل التفاصيل بحيوية شديدة .
________

أعرفه كصوت بطني لحظة جوع. لا أدري متى بدأت علاقتي به. لكن المؤكد أنه ظل يلازمني عبر أغلب مراحل حياتي. مرة أقول إنه (يا صابر) ليس سوى وهم. مرة أخرى يخال لي أنه عصي على رؤية كل الناس. ومع ذلك أراه دائما هنا أوهناك. يجلس قبالتي داخل مركبة عامة, أوينطوي على نفسه عند ركن معتم من احدى الغرف الكثيرة التي أنفقت فيها سنواتي المقتربة من الستين حثيثا, زوجتي ماريا التي تصغرني بنحو العشرين عاما تقول إنها لا تراه ولكن تتفهم ما يحدث لي, قالت إن والدها الذي جاء إلى كندا لاجئا من ضواحي احدى مدن السلفادور المجهولة قبل أربعين عاما ظل يراه بدوره بنفس الملامح الحزينة لكلب جائع حتى الممات.

Post: #24
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-04-2009, 10:56 PM
Parent: #23

عبور


وقالت لي: "تعال". ثم نضتْ عنها الملاءة الملفوفة. كانت قد خرجت من الحمام للتو. باعدتْ مابين فخذيها. أوغلتُ ببطء. بلغ كلانا الذروة في لحظة واحدة. كل ذلك تم عبر الهاتف.


















صدى


كنت أقرأ لها عبر ذات الهاتف ما قد صنعت يدانا. كانت تنصت كما لو أنها غير موجودة هناك. حين أنهيت آخر جملة.. وتكشف لها مغزى الكتابة كاملا.. أطلقت ضحكة.. مازال وقعها الدافق الحزين.. يرن داخل أذني حتى الآن.

Post: #25
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-05-2009, 01:13 PM
Parent: #24

وجوه من رحلة التعب .
..

Post: #26
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-05-2009, 03:58 PM
Parent: #25

حياة


مغمض العينين، خافت الصوت، ملتف الساقين، متمدداً فوق عنقريب عتيق، أخذ يستعيد "قصة بناء هذا البيت". كانت تواصل الإصغاء جالسة قبالته على مقعد صغير، بينما حبات مسبحة خضراء باهتة تتساقط من بين أصابعه النحيلة المعروقة واحدة واحدة، عندما تناهى من أقصى الحوش ضجيج أحفادهما المرح السعيد. قالت وهي لا تزال تتابع النظر إلى ضوء الشمس الغارب وراء النافذة المشرعة: "ها هم، يا حاج، مرة أخرى، يمارسون لعبة العريس والعروس، لعلك تنام الآن"؟.

Post: #27
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-05-2009, 11:12 PM
Parent: #26

لغة




حدث وأن قامت شركة أمن الحراسات الخاصة التي أعمل لحسابها منذ سنوات عديدة بتدريب حارس نحيف كعصا الراعي يدعى "نورمين" على العمل كبديل في حال أن مرض أحدنا أوتغيب عن "الموقع" لسبب أوآخر.

نورمين هذا "عبارة عن غباء مطلق يسعى على قدمين". هكذا، أخبرني زميلي "توماس" من غانا بعد ساعتين فقط من تدريب الحارس البديل على كيفية التحكم في المبنى الكترونيا. ما أسر لي به وقتها أنه من دواعي دهشته الحقيقية في هذا العالم أن يرى رجلا أبيض بمثل "هذا الغباء". لكن الأكثر إثارة للدهشة بالنسبة لتوماس كان يتمثل في أنه بدأ يتخيل تعابير الإرتياب التي يمكن أن تظهر على ملامح ذويه في ضواحي العاصمة "أكرا" بمجرد أن يحكي لهم عن غباء رجل أبيض "يدعى نورمين".

الحق، أحدث "نورمين" خلال الأيام التي غابت خلالها "بروكلين" التي أصيبت بنزلة برد حادة فوضى عمت المجمع البنكي بسوقه التجارية الضخمة. كانت التقارير تتوالى على المكتب الرئيسي في شارع "برادوي". ومع ذلك بدا لأمر أو آخر ألا غنى عنه. كانت أفعاله "الخرقاء" تلك تدفع "جيف" الأمريكي الأصل إلى الجنون. كيف ولا!، وجيف حاد المزاج وبالكاد يسيطر على أعصابه. ولو لا صرامة القوانين الكندية لتصرف في أحيان كثيرة كما لو كان في أحد الشوارع الخلفية لمدينة "نيو يورك" التي ولد ونشأ فيها لأبوين من أصل إيطالي.

ويبدو أنه وجد متنفسا لكم المشاعر السلبية التي يحدثها " نورمين" في داخله. فكان يسألني في أوقات الراحة بنوع من الغبطة عن معنى مقابل لبعض المفردات والعبارات في العربية. هكذا ما أن يقع بصره على "نورمين" حتى يرميه بما تعلم للتو من لغة الضاد بلهجة لا يعلمها إلا الله. كان يشير إليه بسبابة مستقيمة تكاد تلامس أرنبة أنفه قائلا:

-"غبي غبي".

نورمين "المسكين" كان يفتح فمه على اتساعه قبل أن يرد عليه قائلا: "أنا لا أفهمك يا جيف". بيد أن "جيف" كان يرى في رده مبررا آخر للسباب بالعربية: "وسخ وسخ". حين يعجز "نورمين" عن الفهم هذه المرة أيضا لا يجد "جيف" أمامه من حيل سوى أن يتحول إلى لغته الأم شاتما: "صن أوف ذا بيتش". بيد أن الأمر بدا في سبيله إلى أن يتحول إلى ما لا تحمد عقباه.

آنذاك جاءني "جيف" في المكتب وهو يكاد يتميز من الغيظ مقسما أنه لا بد أن يضرب "نورمين". سألته لماذا. "جيف" صمت مسافة قبل أن يسألني عن معنى عبارة في العربية. قال بعدها بخليط من اللغتين: "إذن هي (إرادة الله) أن أضرب "نورمين" الغبي"!.

Post: #28
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-06-2009, 00:46 AM
Parent: #27


يا أسامة:

هذا جزء من حوار لدرويش مع "أخبار الأدب-29/12/2002:

-لاحظت في "حالة حصار" ومن قبل في "جدارية" وحتى قصائدك الأخيرة غير المنشورة والتي ألقيتها في الجامعة الأمريكية... هيمنة هاجس الموت وحضوره وتكرار مفرداته... ألا تعتقد أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة!.



-كل ما على الأرض يستحق الحياة.. وكل مشروعنا الوطني والإنساني هو أن تتاح لنا فرص أن نحيا وأن نحب الحياة وأن نجد فرصة في جماليات الحياة. ولكن موضوع الموت للأسف هو جزء مرادف لعلاقتنا بالحياة. فالموت في حياتنا الوطنبة أصبح موتا يوميا.. والصراع بين الموت والحياة عنوان حياتنا الآن. ولا يستطبع الشاعر أن يتجاهل الجانب الدرامي في الأمر.

أما فيما يتعلق بالجدارية فهذا موضوع آخر.. تجربة شخصية وصراع مرير مع الموت.. وعندما أعطاني الموت اجازة مرة أخرى استعدت هذه التجربة الشخصية التي مررت بها وهي أخطر تجربة وجودية تعرضت لها في حياتي. ثم هناك التجربة العامة التي أصبح فيها موت الفلسطيتي متكررا بشكل يومي.. ويتساقط الشهداء دفاعا عن حقنا الطبيعي في الحياة ولذلك كل شيء يستحق الحياة.ة ولذلك أيضا نموت من أجل أن نحيا ونحن نموت مضطرين ولا نموت موتا اختياريا.. نحن نقتل.. ولكن جوهر المسألة هو ارتباط بالحياة ودفاع عنها وحب لها...





لبلادنا في ليلها الدموي
جوهرة تشع على البعيد
تضيء خارجها
أما نحن داخلها
فنزداد احتراقا.

Post: #29
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-06-2009, 03:54 PM
Parent: #28

الكاتب عبدالحميد البرنس
حضر كل مشاهد لحظات الحزن
الأخيرة من حياة الأديب الجميل
سامى سالم . وكان قد رسم كل التفاصيل


Post: #30
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-06-2009, 07:02 PM
Parent: #29

مشاهد أخيرة من حياة سامي سالم



كان آخر ما رأيت من سامي سالم إبتسامة.. وهيئة صديق يهم بالذهاب فيما يبدو لي الآن بعيدا بعيدا. هكذا, افترقنا. ولم أدر لحظتها أنني لن أراه مرة أخرى سوى على فراش موته البارد كأغنية حزينة ترط بقدميها الحافيتين في شارع خال آخر الليل.


قبل أسابيع قليلة, عند احدى بوابات المستشفى التي رحل منها إلى الأبد, كنت أدخن خلال الوقت الوجيز المخصص للراحة بين ساعات العمل, أتأمل في أعقاب السجائر المتناثرة هنا وهناك, فإذا بالأرض تنشق بغتة عن سامي سالم. لكأنه سعى إلى وداعي على طريقته في ذلك الغروب القريب القريب!.


قال إنه كان قبل يومين 'حايم' في الحي الذي أسكن فيه, وإنه لم يتعرف على شقتي, وإنه كان يهم وقتها بزيارتي. يالسامي, لم يتخل عن عادة النشأة الأولى في رؤية الناس والتعرف على العناوين. كيف ولا, وقد ظل محتفظا بجواز سفره السوداني ولم يسع إلى غيره برغم الإغراء حتى الممات.

أذكر في لقاء سابق أن سامي كتب رقمي هاتفي "الجوال والبيت' على غلاف 'لوعة الغياب" لعبدالرحمن منيف. لعل الكتاب لم يكن معه حين هم لحظتها بزيارتي. قلت له "كنت قبل حضورك أتأمل في هذه الأعقاب من السجائر'. وكان ثمة شيء يشدني إلى هذه الأشياء. لعله الشوق إلى مطالعة كل تلك الأشجان البشرية الذاهبة عبر أنفاس السجائر. قال بسخريته المسالمة "لعلك تفكر في مشروع تجاري بشأنها'. وضحكنا كغريبين في بلاد بعيدة. لحظتها, لم أشأ أن أذكر له لضيق الوقت ما تعلمته في هذا الشأن من بشار الكتبي كحالم كبير: أن تتأمل الأشياء على نحو يخرجها من عاديتها.


كان زميلي الفلبيني 'أدوين' قد انضم إلينا خلال ذلك الوقت القصير المخصص للراحة بين ساعات العمل. ثلاثون دقيقة لا غير لوداع أبدي. ويبدو أنه قد أخذ ملاحظة سامي بشأن المشروع التجاري لأعقاب السجائر بجدية شديدة حين صمت غارقا في تأمل داخلي عميق. بعد أسابيع قليلة, قلت له متسائلا: 'أتذكر ذلك الرجل الذي كنت أتحدث إليه عند بوابة المستشفى. لسبب ما شخص بعينيه وقال: 'نعم أذكره". قلت له: 'لقد مات يا أدوين". هز رأسه وصمت غارقا في تأمل داخلي مختلف هذه المرة.

أشتم رائحة العشب الخريفي في احتضاره.


تركنا "أدوين" بعيد ثوان أسيرا لتلك التأملات. أن تحلم بالغنى وهم كبير في هذه البلاد. وربما تحقق الأمر كضربة حظ عابرة لحواجز "الرق الحديث" المرسومة بدقة كاهن. ولم يكن المال بالنسبة لسامي عهدي به سوى وسيلة لا بد منها أحيانا لصنع بعض وقود الأفراح الصغيرة ك"وجبة لحم". كان جسده وهو ممدود على فراش موته يحكي كل تلك الوقائع والأحداث التي يمكن أن ينطوي عليها التاريخ العريق للفقر أوالمعاناة.


ودعني سامي.
وداع أبدي أخير لا تلاق بعده.
ومع ذلك:
طلب مني أن نكون على اتصال دائم في 'الأيام القادمة".
قلت له 'نحن في حاجة إلى ذلك".
وذكرت على سبيل التأكيد شيئا ما عن أرقام الهاتف.

كان سامي يعمل دائما في ورديات الليل. كنت ولا أزال أجمع بين وظيفتين مرهقتين. أجل, للحياة إيقاع لاهث في هذه البلاد البعيدة.

بعد ذلك:

رأيته يستدير متجها ناحية الشرق.

كنت أهبط درجات السلم القليلة متجها في صحبة "أدوين" إلى عملي في الطابق الأرضي من المستشفى.








فقط لو كنت أعلم أن ذلك سيكون آخر عهدي به.


'عنف البادية':


رحل سامي وفي نفسه شوق لمعرفة شيء ما. ذلك ما أدركته أثناء وقفتنا تلك بعيد بوابة المستشفى. قال وقتها بشغف طفل صغير لحلوى ليست في متناول يده إنه تناهى إليه أن حسن الجزولي قد كتب شيئا عن "عنف البادية'. كان سؤال سامي وبؤرة اهتمامه وقتها كناقد كبير ليس في (ماذا قال) الجزولي حول 'عنف البادية" بل في (كيف قال) الجزولي ذلك. لقد كان سامي سالم في هذا ابنا شرعيا أوامتدادا أصيلا لسابقيه أمثال معاوية محمد نور وغيره: أن يموت وفي فمه لحن لم يكتمل!.

قبل كل ذلك:


رأيته فجأة يهرول نحوي, وهو يعبر بالكاد شارع 'الكنزواي' ذا الاتجاهين, تماما كما نعبر الشوارع في بلادنا, وقد علت وجهه إبتسامة, بينما انعكس شيء من شعاع الشمس الغارب على حواف نظارته الطبية المميزة لهيئته العامة. أشار بيده ناحية الشرق. وقال 'كنت في الطريق لزيارة صديق يعمل في تلك الطرمبة ثم لمحتك تقف هنا'.




كان ذلك آخر عهدي بسامي... حيا!.

أكتب الآن عسى أن يخف الألم قليلا.


من حكايات "الوراق':

قبل أشهر قليلة, كنت أتسوق على عجل في الطابق ما بعد الأرضي لمجمع تجاري ضخم يدعى "ستي سنتر", وقد أنهيت للتو مهام وظيفتي الأولى عند منتصف ذلك النهار. كان لزاما أن أذهب بعدها إلى البيت قبل البدء في مهام وظيفتي الأخرى في نحو الثالثة ظهرا. كان هناك عمال وموظفون في وقت الراحة ومنفيون أوسياسيون متقاعدون من العالم الثالث ناهيك عن غرباء أضناهم السعي وراء الدولار أوالحنين.


- 'البرنس.. البرنس"!.


هكذا, من بين مئات الأصوات وعشرات الألسن التي كانت تشكل الضجة المكتومة داخل المجمع التجاري الضخم منتصف ذلك النهار, يتناهى إلى مسامعي صوت سامي سالم (كعادته) أليفا خفيضا برغم نبرة النداء مستوقفا سائلا على بعد خطوات قليلة مني. سألته لحظة استقر وميض التحايا في عتمة الوقت الفاصل بين وظيفتين مرهقتين عن "الحال والأحوال" وكان قد بادرني قبل عام أنه أخذ يعتمد في حياته ما أسماه وقتها ((العيش بالحيلة)). أفكر فيما إذا كانت وسائل سامي سالم من أجل البقاء قد عطبت حينها في عالم شائك بينما أكاد أرى الآن عينيه المتعبتين وهما تبحثان عما تركه ذلك المصطلح على وجهي من أثر.


بضاعة لزبون خاص:
لو أن استطلاعا للرأي جرى في هذه المدينة بين أكثر المستهلكين دراية بشؤون الأسواق لمعرفة ماذا كان يفعل سامي سالم داخل ذلك المجمع لربما لا يتوصل أحدهم لإجابة قريبة من مراميه منتصف ذلك النهار. بالنسبة لي (رغم معرفتي به) إلا أن ما علمته منه وقتها كان مثيرا للدهشة أوالشفقة. يا للإنسان مغمورا في كل ذلك البهاء الذي يسبق موته!.



كانت المحلات داخل المجمع التجاري تغري بالشراء. كل منتج تم عرضه بجاذبية وعناية فائقة: الملابس.. لعب الأطفال.. الأطعمة.. وغير ذلك مما وصلت إليه في حمى المنافسة يد خبراء وعمال مهرة بدوا لي دائما كما لو أن الله خلقهم فقط للقيام بهذه المهمة أوتلك.


قال سامي مشيرا بيده إنه أتى 'إلى هنا' لأن 'ذلك المحل' يقدم 'هذه الأيام' تخفيضات في أسعار الأقلام والورق وأشياء أخرى خاصة بمتطلبات 'الكتابة'. ثم دعاني لتفقد المحل المذكور. وألح برغبة طفل موضحا أن بوسعي 'الآن' إلقاء نظرة سريعة لن تأخذ من وقتي الكثير. لو لبيت دعوته وقتها ضاربا عرض الحائط بوظيفتي الأخرى لربما رأيته وهو يداعب تلك الأوراق والأقلام والدفاتر البيضاء بكل ذلك الحنان الذي يمكن أن تحدثه أنامل ناقد كبير على مشارف 'الكتابة'.

بعد تسع سنوات, أوقبل أشهر قليلة, وبينما كنت أهبط من البص رقم 8 في احدى محطات وسط المدينة متجها نحو عملي الآخر قبل غروب شمس ذلك اليوم, بادرني شخص طاعن في السن بالسلام على طريقتنا السودانية. ترددت للحظات لم تكن قصيرة قبل أن أدرك بشيء من الأسى أنني أمام سامي سالم وجها لوجه. كان سامي وقتها يهم بالصعود إلى ذات البص متجها إلى أسرته الصغيرة في جنوب المدينة.

يا للسنوات!.






وقلت له "لقد تغيرت كثيرا يا سامي"!





كنا قد شرعنا في الحديث عند محطة البص كغريبين من بلاد بعيدة. قال "أنا طبعا السكري والضغط ولكنك لا تزال كما تبدو من صورتك في سودانيزأونلاين". كنت قبلها قد حاولت التخفيف من وطأة ذلك الشعور الغامض بالرثاء موضحا أن الزمن قد ترك أيضا شيئا من آثاره على ملامحي. كان سامي لا يزال يقلب بين يديه "لوعة الغياب" لعبدالرحمن منيف حين أخذ يتحدث فجأة عن مفهوم "الموت" لدى نجيب محفوظ وأمل دنقل وربما جمال حمدان إن لم تخن الذاكرة الآن!.





في محطة البص نفسها, قال سامي إنه أنهى تأليف سبعة كتب, فكرت بيني وبين نفسي في شح المصادر والمصاعب الأخرى التي قد يكون واجهها ككاتب من خارج سياقه الاجتماعي والثقافي, ناهيك أن عملية إنجاز كتاب واحد فقط مسألة تستنفذ الكثير من الطاقات الداخلية للمرء. أجل, تلك عملية تزداد مشقة ووعورة حين نتحدث عن سامي سالم ككاتب يجمع في آن مابين حدة الذهن وكل ذلك الثراء الإنساني الفريد!.


قبل أربع سنوات تقريبا, في أمسية شتائية مضيئة بالثلج الأبيض المترامي وراء نوافذ شقتي الزجاجية الواسعة في مدينة "وينبيك', رن جرس الهاتف كأصابع روح غريبة تطرق الباب فجأة, فإذا بصوت سامي سالم يأتي من الطرف الآخر مهنئا بسلامة الوصول إلى كندا.


كان سامي قد سبقني إلى كندا بنحو خمس سنوات تقريبا, وبدا راغبا في الكلام خلال تلك المحادثة إلى الدرجة التي أنستني فيما يبدو لي الآن أن أسأله كيف تحصل على رقم هاتفي برغم حداثة عهدي بالمكان وقتها, ولعلي أكون قد فعلت (يا عبء الذاكرة وفداحة النسيان)!.


كان حديث سامي يتجه في أثناء تلك المحادثة إلى تلك المنطقة المشتركة من ذاكرة المنفيين الغرباء: القاهرة.




يومها, سألني عن الناس.. الأماكن.. الحركة الثقافية.. وأشياء أخرى لا أذكرها الآن, وقد بدا من شدة الحنين وكأن هذه البلاد قد تكشفت عن وهم كبير, ولا عزاء.




ما أحزنني ساعتها أن شخصا ما كان يطالبه على الطرف الآخر بإنهاء المكالمة على نحو خال من اللياقة. اعتذر لي سامي بتهذيبه المعهود موضحا أنه ظل يشغل الهاتف بينما أحد رفقائه يتوقع مكالمة هاتفية ما. قلت له 'لا عليك'. وكان قد وعدني أن يمكث معي قريبا بضعة أيام في محافظة 'منيتوبا' في طريقه من 'ألبرتا' إلى 'أونتاريو', وهو ما لم يحدث


مريض الغرفة رقم (4):

في المستشفى التي أعمل فيها, والتي رحل منها سامي ذات صباح بدت فيه السحب السوداء الكثيفة قريبة كأذرع تمتد لأخذ عزيز من بين يديك مرة واحدة وإلى الأبد, ظللت ألقي نظرة إلى ما وراء البوابة الزجاجية لتلك الغرفة القريبة من درج الممرضات كلما مررت بقسم العناية القلبية, وفي كل مرة أفعل فيها ذلك, كنت أرى الشحوب على وجه أحلام على أبواب الترمل والصغيرين محمد وعمرو وهما يعلنان عن خيبة أملهما الكبرى في شأن وعد كان قد قطعه لهما والدهما قبل أيام قليلة من سقوطه: شراء لعبة تدعى "كيربي'.

Post: #31
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: ابو جهينة
Date: 11-06-2009, 07:14 PM
Parent: #30

متابعة لصيقة تقوِّم النفَس
يديك العافية عثمان

واصلوا

Post: #32
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-06-2009, 11:53 PM
Parent: #31

الغرفة رقم (4)
حيث دار الحوار المهذب بين سامى والبرنس .

Post: #33
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-07-2009, 07:59 AM
Parent: #32

رسالة حب للعالم



أصدقائي وصديقاتي:

منذ وقت بعيد, ظللت أحلم بها, المرأة/الحياة, ولم يدب اليأس في عروقي لحظة واحدة, إلى أن جاءت إلهام أخيرا, فإذا الحلم حقيقة ولا مراء. وضعت نفسها أمامي, أرتني جراح روحها.. أفراحها الصغيرة.. آمالها التي لا تحد, وقالت: "يا هذا.. هيا لنمضي معا إلى نهاية العالم". الأشياء الميتة تستيقظ في دخيلتي الواحدة تلو الأخرى. ولو أن إدريس جماع لم يقل غير هذا البيت لكفاه:

بسمة منك تشع النور في ظلمات دهري
وتعيد الماء والأنهار إلى صحراء عمري

ذلك ما أشعر به الآن.

آنذاك كنا نعد في القاهرة عددا خاصا من مجلة "كتابات سودانية" في مناسبة مرور سبعين عاما على ميلاد سيدي ومولاي الطيب صالح. كانت رئاسة التحرير متداولة بيني وبين أصدقاء آخرين. وكنت مسئولا عن ذلك العدد. أذكر ذلك اليوم من صيف العام 1999 جيدا. خرجت من "مركز الدراسات السودانية" آخر النهار متوجها إلى شقتي بعد ساعات عمل شاقة توترت أعصابي خلالها لسوء تفاهم أوآخر أكثر من مرة. فجأة توقفت عند منتصف الطريق إلى موقف المواصلات العامة في ميدان عبدالمنم رياض القريب. وأخذت أتأمل في فداحة مأساتي الخاصة. وكانت الوحدة قد نخرت في عظامي عميقا. ما الفرق إذن بين شقتي وبين مركز الدراسات السودانية؟!!.

لا.. لا شيء (يا عبدالحميد).. سوى أنك ستجد في إنتظارك هناك نفس أرتال الكتب. كتب داخل الدولاب وخارجه وفوقه وأسفل السرير وعلى حوافه وعلى المكتب الخشبي والحمام وحتى المطبخ. عدلت من مساري. وجدتني أجلس على مقهى زهرة البستان. أعطيت حذائي الجلدي الأسود لماسح الأحذية العجوز بظهره المحدودب. شربت شيئا ما لا أذكره الآن. وبعد قليل وجدتني أسير نحو الشقة كملاذ أخير. هناك, أمام الباب ذي الطلاء البني القديم الكالح, رحت أنصت بأذن خيالي إلى ضجة أطفالي بالداخل, لحظتها فقط كاد أن يبكيني الحنين إلى كائن جميل يدعى الأنثى.

كنت قد بدأت في تحقيق بعض الخطى المهمة على صعيد مشواري الأدبي. فريدة النقاش, تلك الأم الجميلة, سألتني وقتها إن كنت لا أمانع أن أكون ضمن هيئة مجلس تحرير "أدب ونقد". تذكرت وقتها إكتشافي لتلك المجلة الحبيبة (خلال العام 1990) وقت أن كنت طالبا في سنة أولى جامعة. آنذاك كتبت شيئا لا أذكره الآن. بعثته بواسطة البريد. ظللت أذهب إلى بائع الجرائد كل شهر لمدى عام كامل. أفحص صفحات المجلة الأخيرة. عسى ولعل أن يقوم أحدهم بالرد على مرسالي في باب (بريد القراء). كان حزني يتجدد كل مرة وكذلك تصميمي على الوصول. تتوالى نقلات مهمة أخرى على الصعيد الأدبي كأن أبدأ في الكتابة إلى "الحياة اللندنية" منذ العام 1994 أوأن يقوم الناقد أيمن بكر بتدريس نصين قصصيين من مجموعتي "تداعيات في بلاد بعيدة" لغير الناطقين بالعربية قبل فترة في الجامعة الأمريكية في القاهرة ومعهد آخر ضمن دراسة شملت أعمال من صلاح عبدالصبور وصلاح جاهين وغيرهما موضحا إنتمائي لمشهد ما بعد الحداثة الأدبي في العالم العربي. ومع ذلك, ظل الحنين إلى ذلك الكائن الجميل ينهك قلبي كلما تكاثف أسى الوحدة من حولي.

كانت وحدتي من نوع غريب, بحث دائم عن وطن آمن ودفء على ضوء مقولة ميلان كونديرا "من يعش في الغربة, يمشي فوق فضاء خاو, مجردا من شبكة الرعاية الاجتماعية التي تحيط به, كل كائن بشري بلاده الأم, حيث توجد عائلته وأصدقاؤه, وحيث يستطيع أن يتحدث باللغة التي تعلمها في الصغر من دون أدنى مشقة". كانت وحدة قاتلة تداهمني على وجه الخصوص في لحظة الإفطار من كل رمضان, آنذاك تكون الشقة صامتة كعادتها, حركة الناس تنقطع في العمارة تماما, ولا يكاد إنسان واحد يتحرك في الشارع أوعربة, الرعب يدب إلى أوصالي, إذ أشعر وسط كل هذا الموات وكأن قنبلة نووية ألقيت على العالم. وحدة تزيد بمرور الوقت ورحيل أحباء سفرا أوموتا, هكذا بدأت حاسة اللمس التي تشعرني بوجودي تضعف وثقل العالم يخف بين أصابعي شيئا فشيئا, والنسوة اللائي مررن بحياتي من قبل كن طيبات, أحببنني بصدق, لكن شيئا ما في أعماقي ظل يشعرني أن المرأة التي حلمت بها وتشكلت ملامحها في وجداني على مدى سنوات لم يحن أوانها بعد.

ويزداد الشوق والحنين إليها, بينما أتابع مسلسلا أمريكيا عن حياة أحد القياصرة الروس, قام ببطولته المصري الأصل عمر الشريف, قيصر قاده العدل إلى أن يعدم في النهاية فلذة كبده. كان الإبن الذي أهدر أرواحا وسبب أحزانا لا مبرر لها يشكو صرامة الوالد لأمه, قالت له بحنو أوتفهم "يا ولدي, لا تنظر إلى أبيك القيصر هذا, يصول ويجول خلال النهارات هكذا, إنه حين يأتي الليل يبكي على صدري كالطفل"!.

كنت بالفعل بحاجة ماسة إلى مثل تلك المرأة, ربما لأن تاريخ حياتي بدا لي في كثير من الأحيان شاقا أومحفوفا بالعناء, وربما لأن بحيرة الأسى الراكدة في صدري تحتاج إلى ماهو أكثر من الكتابة, وربما لأني أشاغب الناس في الخارج كثيرا, فأعود إلى بيتي, وبي رغبة في امرأة تغسلني وتعيدني في اليوم التالي إلى نفس الشارع بروح أكثر صلابة وقدرة على المواجهة, امرأة تهمس في أذني بين فترة وأخرى قائلة "سأقف إلى جوارك حتى النصر أوالنصر", وما رسخ في ذهني أن امرأة بمثل تلك المواصفات لا بد أن تكون قد عبرت بجحيم الآلام قبل لقائي بها, وأية سلسلة من المعاناة الروحية الهائلة قد صهرت معدن إلهام في السابق؟!.

هكذا وضعت نفسها أمامي, أرتني جراح روحها.. أفراحها الصغيرة.. آمالها التي لا تحد, وقالت: "يا هذا.. هيا لنمضي معا إلى نهاية العالم". آنذاك قلت في نفسي إذا لم تكن الحرية هذه المرأة, فما هي؟!.

هكذا وافق شن طبقة, وإلهام تقول بضحكة طفلة عند قمة الإنسجام "فولة واتقسمت نصين", لقد خرجت حبيبتي من ركام الماضي قوية واثقة أن ما حدث كان لا بد أن يحدث لرؤية الحياة على نحو خال من الزيف, هي الآن تعرف جيدا أن ثمة فرق بين ما يعلنه رجل ما عن تقدميته وبين الحقيقة الواقعية العملية لهذا الرجل أوذاك, ربما لهذا تعلن في بوستها أنها ستواصل السير لدعم قضيتها العادلة قدما, إنها مسألة غير شخصية, إنه واقع تكابده في الغالب نسوة أخريات ولكن في صمت.

ما أجمل أن تسير إلى جوار امرأة مرفوعة الرأس مثل إلهام, امرأة حين أنصتت إليها أمي جيدا, قامت لتوها و صلت إلى الله ركعتين, إذ إن الله قد وهب أحب أبنائها إليها امرأة ترعاه لا سيما وهو لا يزال يصر على العيش كطفل كبير في عالم خال من البراءة أويكاد.

Post: #34
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: سيف النصر محي الدين محمد أحمد
Date: 11-07-2009, 08:13 AM
Parent: #33

شكرا يا عثمان
ارجو أن ينال هذا البوست حظا لائقا من العناية ليظل عاليا دائما .

____________________________________________________________________________________________
بعدين يا عثمان ما كتابات البرنس براها البتتشعلق و تتعنكل في العقل و تسر القلب...البرنس ذااتو في عضمو دا بيسوي نفس الشي .

Post: #35
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-07-2009, 01:35 PM
Parent: #34

Quote: شكرا يا عثمان


شكرا ياسيف.







ملف داخل كومبيوتر محمول





أدخن بُعيد الواجهة الزجاجية المصقولة للمبنى الحكومي الضخم كحارس ليلي أتعبته الذكريات. لا شيء يتحرك أمامي على مدى كتل الجليد المترامية. لا شيء يطرق أذنيَّ سوى أزيز المراوح الهوائية المتناهى من الطبقة الأرضية في صوت مكتوم ورتابة.

"من كان يغني هناك"؟.

شجية هي (يا أماندا) أغاني الهنود الحمر.

لحظة أن بدأت الوردية كنت أنصت إلى احدى مقطوعات "تايتنك". مأساة الذين ذهبوا في ذروة تشبسهم بالحياة إلى قاع المحيط قبل نحو قرن ولم يعودوا. أية لوعة، بل أية وحشة، لعين في برودة الماء وحلكتها تشد إليها طوق نجم بعيد؟.

الموت وحده لا يخيفني.

يخيفني (ياأماندا) الموت وحيدا.

أتذكر على نحو غامض وجه شاعر من مصر. ولا أفطن إلى أنني منذ لحظات أدلف عبر موسيقى "البلوز" إلى حزن من نوع آخر.

هكذا، أرخي أذني لأنَّات العبيد العائدين من حقول القطن في جورجيا أومسيسبي. وقد خالجهم شعور ممض ألا شيء سينتظرهم عند مراقدهم البائسة بعد خطوتين أوثلاث سوى الرهق، أو الحنين.

فجأة يعم صخب احدى أغنيات "الهيب هوب". كانت قد تركتها لي على الجهاز ومضت. "مؤسف أن أغادر العالم (يا أماندا) بلا قدرة على الرقص". أجيل بصري مابين شاشات الكومبيوتر والمراقبة. تعشي عينيَّ غلالة من نعاس. وهناك، في قلبي الذي صار رهيفا هذه الأيام، يتمدد ظل لغناء قديم:

يا أنيس الحسن.. يا عالي المكانة
أهدي لي من فضلك نظرة أوبرتكانة

الآن، مضى أكثر من ساعة على بداية الوردية. زميلي "جيف" لا يزال يتفقد الأوضاع عبر الطوابق العليا. يحمل في يده جهازا صغيرا يدعى "البايب". يضغط به على دوائر معدنية صغيرة تتوزع على المبنى هنا وهناك.

في الصباح، يأتي "تيري"، الرئيس، بقامته القصيرة، يفرغ محمولات الجهاز على الكومبيتر بعناية، ليعلم في أية ثانية كنا بين دائرة معدنية وأخرى.

حين يعود "جيف"، بعد نصف الساعة تقريبا، ليتبادل معي المواقع، سيشرع على الفور كما يحدث عادة في شتم "مايكروسوفت"، قائلا: "شكرا بيل جيتس إلهنا الحديث".

ثمة حاجة ماسة إلى غناء من نوع آخر. يتراءى لي وجهها في هذه اللحظة مثل حلم عصي المنال. أخيرا أعثر على أغنية قديمة ل"سلين ديون". أية رغبة غريبة في الفرح أوالحياة تتخللني الآن، أية مشاعر مختزنة "إليها" لا تزال تنمو على مدى السنوات؟.

لكن وجه أماندا أبدا لا يغادرني.

ووجهها.. يا لوجهها!.

أفكر "ربما يوجد في موسيقى "الريجي" بعض العزاء". "أوقف هذا القطار". ذلك صوت بوب مارلي معلنا بذات النغم الآسر الحزين عزمه على المغادرة. "إلى أين"؟، أتساءل في سهوم.

أسى أسى.

مطر خفيف في الخارج ينصب خيامه فوق المصابيح المضيئة منذ فترة. الريح لا تزال ساكنة. أبصق في أعقاب آخر الأنفاس. شأن جدي في زمان بعيد. الوجوه التي أوغلت في الغياب شيئا فشيئا لا تنفك تحضر إلى عزلتي كثيرا هذه الأيام.

"ستكتب عن علاقتنا"، قالت نظرة أماندا ساعة أن غادرتني مرة واحدة وإلى الأبد. "لكننا آخر الليل نمضي وجوها تنفسها الصباح"، قال راثيا الأصدقاء القدامى. وهي في كل مرة تضحك محتجة: "لا.. أنا بأهديك نظرة"، بينما أُلح معاندا: "لا.. أنا عايز برتكانة".

لا يزال بريق ضحكتها، عبر ركام السنوات، يومض في ليل الذاكرة المدلهم، كلما أشجتني ، أو تناهت إلى مسامعي... تلك الأغنية.

Post: #36
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-07-2009, 04:31 PM
Parent: #35

كان الشارع خالياً تماماً من المارة. كانت درجة الحرارة تلاحق نسبة الرطوبة في الإرتفاع. كنت أسير حذاء البنايات الأسمنتية العالية. فجأة، انشقت الأرض عن طفل شديد الهزال. "تشتري"، سألني. وقد مد نحوي علبة مناديل ورقية صغيرة. فتشت في جيوبي بتمهل. ثم نظرت إلى خطوط العرق المنحدرة من جبينه الدقيق. "لا توجد نقود"، أجبته. وشعرت بيده الخالية وهي تضغط برفق على يدي وتبتعد.






The road was vacant of passer-bys. The temperature degree was chasing after the relative humidity in rising up. I was walking next to the high concrete buildings. All of a sudden the land burst opened and belched out a very skinny boy. “Do you buy?” he asked me offering a small box of facial tissues. I carefully dug into my pockets. I looked at the sweat lines running down his narrow forehead. “No money”, I answered him. I felt his empty hand pressing mine gently while it was disappearing

من درر الكاتب البرنس . التى ترجمها الجميل بناديها

Post: #37
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 11-07-2009, 06:44 PM
Parent: #36

sudansudansudansudansudansudan999049sudan.jpg Hosting at Sudaneseonline.com





احبه حتى بحماقاته احيانا

Post: #38
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-08-2009, 02:05 AM
Parent: #37

العزيز سيف النصر محي الدين
لك السلام وكثير الأحترام
على المرور الكريم .
البرنس يا عزيزى سيف . كاتب مجتهد ومثقف
تتوافر فيه كل شروط كبار المثقفين . اتمنا أن لايصمت وأن يكتب ويطبع ويكتب .
تحياتى وشكرى

Post: #39
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-08-2009, 03:40 AM
Parent: #38

Quote: تحياتى وكتير احترامى


عزيزي عثمان:


حتى قبل أن تخاطب أباجهينة بتلك العبارة، كنت أدرك مدى النبل الذي ساقك إلى فتح هذا البوست، بل والتعامل معه بمحبة كصخرة سيزييف، وها أنت تؤكد لصديق حقيقي قاسمني في السابق جرعة ماء ولقمة طعام ذات حاجة:

Quote: البرنس يا عزيزى سيف . كاتب مجتهد ومثقف
تتوافر فيه كل شروط كبار المثقفين . اتمنا أن لايصمت وأن يكتب ويطبع ويكتب .
تحياتى وشكرى



ليطمئن قلبك (أيها النبيل)، لست بصامت، لأن في الصمت بذلك المعنى السلبي موات، أصمت فقط حين أريد لا كما أرادت أسباب أخرى غير موضوعية، وهذا ليس من باب الموهبة الإستثنائية، بل طريقة حياة تدربت عليها طويلا، حتى أني أطلقت عليها عبارة شاعرية مفادها (القدرة على العمل تحت ضغط)، إنني بهذا المعنى أحدد موقعي في هذا العالم قائلا (لست عابر سبيل بحقل الكتابة السردية)، ذلك موقع أسعى إلى تدعيمه عنوة واقتدارا ما وسع الجهد، إنني أكتب كموقف من العدم ولا أطلب منحة اعتراف من قطيع سائد أوآخر.

Post: #40
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-08-2009, 04:36 AM
Parent: #39


أصدقائي وصديقاتي:

منذ وقت بعيد, ظللت أحلم بها, المرأة/الحياة, ولم يدب اليأس في عروقي لحظة واحدة, إلى أن جاءت إلهام أخيرا, فإذا الحلم حقيقة ولا مراء. وضعت نفسها أمامي, أرتني جراح روحها.. أفراحها الصغيرة.. آمالها التي لا تحد, وقالت: "يا هذا.. هيا لنمضي معا إلى نهاية العالم". الأشياء الميتة تستيقظ في دخيلتي الواحدة تلو الأخرى. ولو أن إدريس جماع لم يقل غير هذا البيت لكفاه:

بسمة منك تشع النور في ظلمات دهري
وتعيد الماء والأنهار إلى صحراء عمري

ذلك ما أشعر به الآن.

آنذاك كنا نعد في القاهرة عددا خاصا من مجلة "كتابات سودانية" في مناسبة مرور سبعين عاما على ميلاد سيدي ومولاي الطيب صالح. كانت رئاسة التحرير متداولة بيني وبين أصدقاء آخرين. وكنت مسئولا عن ذلك العدد. أذكر ذلك اليوم من صيف العام 1999 جيدا. خرجت من "مركز الدراسات السودانية" آخر النهار متوجها إلى شقتي بعد ساعات عمل شاقة توترت أعصابي خلالها لسوء تفاهم أوآخر أكثر من مرة. فجأة توقفت عند منتصف الطريق إلى موقف المواصلات العامة في ميدان عبدالمنم رياض القريب. وأخذت أتأمل في فداحة مأساتي الخاصة. وكانت الوحدة قد نخرت في عظامي عميقا. ما الفرق إذن بين شقتي وبين مركز الدراسات السودانية؟!!.

لا.. لا شيء (يا عبدالحميد).. سوى أنك ستجد في إنتظارك هناك نفس أرتال الكتب. كتب داخل الدولاب وخارجه وفوقه وأسفل السرير وعلى حوافه وعلى المكتب الخشبي والحمام وحتى المطبخ. عدلت من مساري. وجدتني أجلس على مقهى زهرة البستان. أعطيت حذائي الجلدي الأسود لماسح الأحذية العجوز بظهره المحدودب. شربت شيئا ما لا أذكره الآن. وبعد قليل وجدتني أسير نحو الشقة كملاذ أخير. هناك, أمام الباب ذي الطلاء البني القديم الكالح, رحت أنصت بأذن خيالي إلى ضجة أطفالي بالداخل, لحظتها فقط كاد أن يبكيني الحنين إلى كائن جميل يدعى الأنثى.

كنت قد بدأت في تحقيق بعض الخطى المهمة على صعيد مشواري الأدبي. فريدة النقاش, تلك الأم الجميلة, سألتني وقتها إن كنت لا أمانع أن أكون ضمن هيئة مجلس تحرير "أدب ونقد". تذكرت وقتها إكتشافي لتلك المجلة الحبيبة (خلال العام 1990) وقت أن كنت طالبا في سنة أولى جامعة. آنذاك كتبت شيئا لا أذكره الآن. بعثته بواسطة البريد. ظللت أذهب إلى بائع الجرائد كل شهر لمدى عام كامل. أفحص صفحات المجلة الأخيرة. عسى ولعل أن يقوم أحدهم بالرد على مرسالي في باب (بريد القراء). كان حزني يتجدد كل مرة وكذلك تصميمي على الوصول. تتوالى نقلات مهمة أخرى على الصعيد الأدبي كأن أبدأ في الكتابة إلى "الحياة اللندنية" منذ العام 1994 أوأن يقوم الناقد أيمن بكر بتدريس نصين قصصيين من مجموعتي "تداعيات في بلاد بعيدة" لغير الناطقين بالعربية قبل فترة في الجامعة الأمريكية في القاهرة ومعهد آخر ضمن دراسة شملت أعمال من صلاح عبدالصبور وصلاح جاهين وغيرهما موضحا إنتمائي لمشهد ما بعد الحداثة الأدبي في العالم العربي. ومع ذلك, ظل الحنين إلى ذلك الكائن الجميل ينهك قلبي كلما تكاثف أسى الوحدة من حولي.

كانت وحدتي من نوع غريب, بحث دائم عن وطن آمن ودفء على ضوء مقولة ميلان كونديرا "من يعش في الغربة, يمشي فوق فضاء خاو, مجردا من شبكة الرعاية الاجتماعية التي تحيط به, كل كائن بشري بلاده الأم, حيث توجد عائلته وأصدقاؤه, وحيث يستطيع أن يتحدث باللغة التي تعلمها في الصغر من دون أدنى مشقة". كانت وحدة قاتلة تداهمني على وجه الخصوص في لحظة الإفطار من كل رمضان, آنذاك تكون الشقة صامتة كعادتها, حركة الناس تنقطع في العمارة تماما, ولا يكاد إنسان واحد يتحرك في الشارع أوعربة, الرعب يدب إلى أوصالي, إذ أشعر وسط كل هذا الموات وكأن قنبلة نووية ألقيت على العالم. وحدة تزيد بمرور الوقت ورحيل أحباء سفرا أوموتا, هكذا بدأت حاسة اللمس التي تشعرني بوجودي تضعف وثقل العالم يخف بين أصابعي شيئا فشيئا, والنسوة اللائي مررن بحياتي من قبل كن طيبات, أحببنني بصدق, لكن شيئا ما في أعماقي ظل يشعرني أن المرأة التي حلمت بها وتشكلت ملامحها في وجداني على مدى سنوات لم يحن أوانها بعد.

ويزداد الشوق والحنين إليها, بينما أتابع مسلسلا أمريكيا عن حياة أحد القياصرة الروس, قام ببطولته المصري الأصل عمر الشريف, قيصر قاده العدل إلى أن يعدم في النهاية فلذة كبده. كان الإبن الذي أهدر أرواحا وسبب أحزانا لا مبرر لها يشكو صرامة الوالد لأمه, قالت له بحنو أوتفهم "يا ولدي, لا تنظر إلى أبيك القيصر هذا, يصول ويجول خلال النهارات هكذا, إنه حين يأتي الليل يبكي على صدري كالطفل"!.

كنت بالفعل بحاجة ماسة إلى مثل تلك المرأة, ربما لأن تاريخ حياتي بدا لي في كثير من الأحيان شاقا أومحفوفا بالعناء, وربما لأن بحيرة الأسى الراكدة في صدري تحتاج إلى ماهو أكثر من الكتابة, وربما لأني أشاغب الناس في الخارج كثيرا, فأعود إلى بيتي, وبي رغبة في امرأة تغسلني وتعيدني في اليوم التالي إلى نفس الشارع بروح أكثر صلابة وقدرة على المواجهة, امرأة تهمس في أذني بين فترة وأخرى قائلة "سأقف إلى جوارك حتى النصر أوالنصر", وما رسخ في ذهني أن امرأة بمثل تلك المواصفات لا بد أن تكون قد عبرت بجحيم الآلام قبل لقائي بها, وأية سلسلة من المعاناة الروحية الهائلة قد صهرت معدن إلهام في السابق؟!.

هكذا وضعت نفسها أمامي, أرتني جراح روحها.. أفراحها الصغيرة.. آمالها التي لا تحد, وقالت: "يا هذا.. هيا لنمضي معا إلى نهاية العالم". آنذاك قلت في نفسي إذا لم تكن الحرية هذه المرأة, فما هي؟!.

هكذا وافق شن طبقة, وإلهام تقول بضحكة طفلة عند قمة الإنسجام "فولة واتقسمت نصين", لقد خرجت حبيبتي من ركام الماضي قوية واثقة أن ما حدث كان لا بد أن يحدث لرؤية الحياة على نحو خال من الزيف, هي الآن تعرف جيدا أن ثمة فرق بين ما يعلنه رجل ما عن تقدميته وبين الحقيقة الواقعية العملية لهذا الرجل أوذاك, ربما لهذا تعلن في بوستها أنها ستواصل السير لدعم قضيتها العادلة قدما, إنها مسألة غير شخصية, إنه واقع تكابده في الغالب نسوة أخريات ولكن في صمت.

ما أجمل أن تسير إلى جوار امرأة مرفوعة الرأس مثل إلهام, امرأة حين أنصتت إليها أمي جيدا, قامت لتوها و صلت إلى الله ركعتين, إذ إن الله قد وهب أحب أبنائها إليها امرأة ترعاه لا سيما وهو لا يزال يصر على العيش كطفل كبير في عالم خال من البراءة أويكاد.

نواصل:

Post: #41
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-08-2009, 04:56 PM
Parent: #37

عزيزتنا الهام أحمد
كثير سلامى وكثير شكرى
وارجو التكرم بدعمنا ببعض صور مكتبات المدينة .
وصور العزيز الكاتب عبدالحميد البرنس فى الجامعة
وفى القاهرة ثم المهجر البعيد . ضرورى
تحياتى للوليدات
مع كتير الاحترام

Post: #42
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-08-2009, 08:34 PM
Parent: #41


حدث ذلك ذات ليلة قاهرية بعيدة.

كان أحمد عبدالمكرم غائبا في مكان ما.

كنا نتناول سيرة ما جرى كغريبين جمع بينهما حزن شفيف.

حكى لي وقتها تفاصيل من لحظات أمه الأخيرة في هذه الحياة.

قال إنها تحاملت على نفسها.. توكأت على كتفه.. وسارت تودع البيت غرفة غرفة.



يا أسامة:



هل رأى عبداللطيف علي الفكي لمسة أصابعها الحانية على الأشياء!.

Post: #43
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 11-09-2009, 00:00 AM
Parent: #42

العزيز عثمان

صور للبرنس في مدينة وينبيك في 2005



sudansudansudan6.jpg Hosting at Sudaneseonline.com



sudansudansudansudan30.jpg Hosting at Sudaneseonline.com



sudansudansudansudan31.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

Post: #44
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 11-09-2009, 01:50 AM
Parent: #43

بطاقات


sudansudansudansudan32.jpg Hosting at Sudaneseonline.com




sudansudansudansudansudan008sudansudansudan.jpg Hosting at Sudaneseonline.com



sudansudansudansudansudan30.jpg Hosting at Sudaneseonline.com




sudansudansudan0009.jpg Hosting at Sudaneseonline.com



77777.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

Post: #45
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-09-2009, 03:32 AM
Parent: #44


«أيها الغريب، يا من شراعه حاذى طويلاً شواطئنا، ويُسمع أحياناً في الليل صريرُ بكراته.

هل ستقول لنا ما بليتك ومن يدفعك، في أكثر المساءات دفئاً، لكي تهبط بيننا على الأرض الأليفة؟» (سان جون بيرس، منارات، ترجمة: أدونيس، المدى، دمشق 1999).

كان ذلك أول وآخر لقاء لي بالطيب صالح

أتذكره الآن...

لا كمن يطالع صورة في مرآة.

بل كمن ينظر إلى ملامح قريبة عبر عين فاض بين رموشها الحنين أو يكاد.

كان قد جاء إلى القاهرة لإلقاء محاضرة في الجامعة الأميركية.

وكان ذلك حدثاً فريداً في حياة بعض أولئك المنفيين الذين أخذوا يدركون بنوع من الأسى أن وجودهم في تلك المدينة لم يعد في الأخير سوى محاولة بائسة لتوسيع مساحة السجن في دواخلهم.

ما أثار دهشتي وقتها أنه ظل يستقبل الناس عند مدخل تلك القاعة الدراسية، كما لو أنهم كانوا يتوافدون إلى رحاب داره الخاصة.

لكأن لوحاً من زجاج يتهشم في قلبي.

كانت تبدو على مُحيّاه بوضوح تام، الخطى الأخيرة للنهر نحو مصبه، الآثارُ المتبقية عند الحواف الرملية بعد موسم الفيضان، هدير الموج على شواطئ جزر بعيدة ونائية لاحت في ذاكرة بحّار متقاعد، وتلك العلامات التي يخلفها الزمن بين عيني كاتب أشقته عادة أن يجلس على حواف العزلة الحزينة المعتمة... يتأمل مصائر... حيوات آلت إلى زوال... وإحساسا بقبلة اشتعلت في فم عـاشقيـن عـاشا قـبـل ألف عــام وهما يـحلمان بـقــبـلة أخرى لن يرتشفا رحيقها المختوم حتى الممات.

«ريشة بيضاء في الماء الأسود، ريشة بيضاء في اتجاه المجد».

«سببت لنا فجأة هذا الألم الكبير، لأنها بيضاء إلى هذا الحد ولأنها كذلك، قبل المساء...».

سعت إليه سيدة مصرية على مشارف الثلاثين، كانت جميلة كما لو أنها تضرعت إلى الله لحظة الخلق أن يوجدها على مثال ولا أروع. كان كل شيء فيها يغري بالعناق. وقد وشى عن تاريخ عريق من «التغذية الجيدة»، كانت تخاطبه بلغة إنكليزية ذات لكنة أميركية سليمة، تطلب توقيعه على عمل مترجم له. فجأة، أخذ يتقمص دور «عطيل»، وقد بدا مثل شخصية خارجة للتو من كتاب «موسم الهجرة إلى الشمال»، قائلاً بإنكليزية ذات لكنة سودانية خالصة: «على الرحب والسعة».

لسبب ما، أذكر هنا ما حكاه كازنتزاكي من أن جدّه الذي بلغ من العمر عتياً وقتها، كان يتربص عند بئر القرية بالحسناوات الصغيرات، يتلمس فاكهتهن بيدين مرتعشتين، عيناه دموع، لسانه مرارة، وهو يتحسر على نفسه، قائلاً إنه لا محالة سيموت في القريب، تاركاً من ورائه كل هذا الجمال الذي لن ينعم به قط.

هناك، داخل القاعة ذات الدرجات الخشبية المتصاعدة، بدأ يخاطب الحضور بإنكليزية لم تتخل عن تلك اللكنة الأليفة: «الكتابة عملية شاقة وعسيرة، أجل، ذلك أمر من الصعوبة بمكان: أن تغوص بعيداً في أعماق نفسك كيما تخلق عالماً من خيال. ربما لهذا لم أكتب كثيراً»...

البعض يجيد لعب الدور ككاتب، مثال ذلك همنغواي، لعب دور الكاتب بصورة متقنة وجمع مالاً من هذا العمل، لكن بلزاك الذي أفضله لم يستمتع بالدور.

كانت حياته تعيسة. يبدأ الكتابة ليلاً وينام نهاراً. أجدني هنا أقرب إلى يحيى حقي، يكتب فقط حين يأخذه المزاج، يحيى كاتب يضج بالحياة والإنسانية.

صديقي يوسف إدريس، حاول أن يبتلع قطعة «غاتوه» دفعة واحدة فاختنق ومات، قابلته مرة في بغداد. بدا غاضباً لأنه كان يشعر أنه أحق بجائزة نوبل من نجيب محفوظ...

كنت أسمع... أنصت... أصغي... أرهف... وأرخي أذني لكل ذلك الأسى وهو يفيض من بين كلماته الأخيرة: «لو تبقى لي شيء من العمر لأكملت ثلاثية «بندر شاه».

Post: #46
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-09-2009, 06:03 PM
Parent: #45

كنت أسمع... أنصت... أصغي... أرهف... وأرخي أذني لكل ذلك الأسى وهو يفيض من بين كلماته الأخيرة: «لو تبقى لي شيء من العمر لأكملت ثلاثية «بندر شاه».


. . .
يا سلام

الكاتب عبدالحميد البرنس قدرته رائعة
فى التصوير ورسم المشاهد والتحليق .

( رحم الله الطيب صالح )

Post: #47
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 11-10-2009, 02:25 AM
Parent: #46

العزيز عثمان موسى
عرفته أديبا حقيقيا
الكتابة له كالماء والطعام
وفي الغالب يمكنه الاستغناء عن الماء والطعام إلا الكتابة
كالسمكة في البحر
أذا خرجت منه تموت
جيئنا اليه ثلاثتنا
انا ومحمد وانيس
اعطانا كل حبه واخلاصه
لم اكن اتصور يوما
ان تأخذ الكتابة ذلك الركن القصي البعيد من قلبه
فتحكرنا نحن التلاتة
اشعر احيانا بأننا قد أبعدناه عن الكتابة
وكم يؤلمني هذا الاحساس
ولكن عندما اجده يلعب مع محمد وانيس كطفل تالت
اتأكد تماما بأنه مليء بكل هذا العطاء النبيل
فأدرك جيدا انه عندما سيكتب سيكتب بكل هذا العطاء والحب
فكم نحن نحبه
محمد انيس الهام


شكرا عثمان موسى لأنك اتحت لي هذه الفرصة
لأعبر عن مشاعري تجاه رجل تقدمي آمنت به

Post: #48
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-10-2009, 04:21 PM
Parent: #47


يا أسامة:

هذا جزء من حوار لدرويش مع "أخبار الأدب-29/12/2002:

-لاحظت في "حالة حصار" ومن قبل في "جدارية" وحتى قصائدك الأخيرة غير المنشورة والتي ألقيتها في الجامعة الأمريكية... هيمنة هاجس الموت وحضوره وتكرار مفرداته... ألا تعتقد أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة!.



-كل ما على الأرض يستحق الحياة.. وكل مشروعنا الوطني والإنساني هو أن تتاح لنا فرص أن نحيا وأن نحب الحياة وأن نجد فرصة في جماليات الحياة. ولكن موضوع الموت للأسف هو جزء مرادف لعلاقتنا بالحياة. فالموت في حياتنا الوطنبة أصبح موتا يوميا.. والصراع بين الموت والحياة عنوان حياتنا الآن. ولا يستطبع الشاعر أن يتجاهل الجانب الدرامي في الأمر.

أما فيما يتعلق بالجدارية فهذا موضوع آخر.. تجربة شخصية وصراع مرير مع الموت.. وعندما أعطاني الموت اجازة مرة أخرى استعدت هذه التجربة الشخصية التي مررت بها وهي أخطر تجربة وجودية تعرضت لها في حياتي. ثم هناك التجربة العامة التي أصبح فيها موت الفلسطيتي متكررا بشكل يومي.. ويتساقط الشهداء دفاعا عن حقنا الطبيعي في الحياة ولذلك كل شيء يستحق الحياة.ة ولذلك أيضا نموت من أجل أن نحيا ونحن نموت مضطرين ولا نموت موتا اختياريا.. نحن نقتل.. ولكن جوهر المسألة هو ارتباط بالحياة ودفاع عنها وحب لها...





لبلادنا في ليلها الدموي
جوهرة تشع على البعيد
تضيء خارجها
أما نحن داخلها
فنزداد احتراقا.

Post: #49
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-11-2009, 03:24 AM
Parent: #48


أبوجهينة كاتب يتميز بثراء الموضوعات كما ونوعا, فقصصه تصور مقاطع من حياة شخصيات تنتمي إلى خلفيات مجتمعية وثقافية مختلفة, شخصيات حية تعبر عن ذاتها بخطاب يناسبها ويحدد وعيها وموقعها في العالم ولا يفرض عليها تصورات تجعل منها مجرد دمى ميتة أوأقنعة تكمن وراءها أفكاره هو الذاتية, ففي قصة:

الشريط ...

نطالع شخصية علوية, وهي شخصية نجح أبوجهينة ببساطة آسرة في أن يجعل منها نموذجا إنسانيا بالغ الدلالة على تشوقات البشر الأبدية للحب والأمان والدفء في عالم شديد القسوة تنكسر الأحلام فيه عادة على عتبة الواقع الصلبة وما يسببه ذلك من تشوهات وجراحات نفسية لا يخفف من وطأتها مرور الزمن. وقريبا من هذا النموذج, تطالعنا شخصية الراوي في قصة:

سارا .. و الموشوم على الجبين

حيث نلمس ذلك الخيط القدري الذي يصنع مصير الشخصية, سواء في حدود مقاومتها الهشة كما في حالة علوية, أوفي حدود الإقرار بقصورها في مواجهة أحداث ماضية كما في حالة الراوي المشار إليه, ف(سارا .. و الموشوم على الجبين) نص سردي جميل يعبر في وجه عن مأساة عالم لكائن بشري (حر) خارجيا (مكبل) داخليا. ليس بمقدوره التعاطي مع العالم المختلف أوالخارجي من منطلق حقيقة تؤسسها لحظة آنية (مختلفة عن حصيلته المعرفية المتكونة لديه منذ الصغر). ثمة شيء ثقيل وغامض قادم من التاريخ أوالعادات كشبح يكبت بركان مشاعر الرجل تجاه المرأة على نحو يصل إلى القاريء في شكل إيحاء. لكن السرد الذي يتم على خلفية شفيفة من الإعترافات الصادقة يبدو كفعل خلاق لذلك الكائن نحو تحرره أوإعادة بناء ذاته على نحو أكثر إنسانية.

ولنا عودة:

Post: #50
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-11-2009, 10:26 AM
Parent: #49

Quote: لم اكن اتصور يوما
ان تأخذ الكتابة ذلك الركن القصي البعيد من قلبه
فتحكرنا نحن التلاتة



أم العيال:

الحب يأتي في المقام الأول حين تتعارض معه الأشياء، وأي حب؟.


عثمان:

هذا يوم طويل آخر. بدأ صباحه بمشوار الأولاد اليومي للحضانة. ظهره أنفقناه في معاملات حسابية هنا وهناك من ضمنها محاولة إصلاح ما قام به أحدهم ليلا من تهشيم أحد مصابيح سيارتي (ربما لأن العربة بدت في نظره جديدة إلى هذا الحد). نعم "حتى هذا يحدث في كندا". تلك عبارة تقالها العبدلله لأول مرة قبل نحو خمس سنوات في مدينة وينبيك. وقتها كنت أعمل حارسا في مستشفى "سان بونفس". كنت أنظر كالعادة الى الثلج المتراكم وراء الحائط الزجاجي لطرقة ممتدة. غير بعيد منه كانت تلوح خيمة المدخنين. كانوا دكاترة وممرضات وعاملين وبعض رؤسائي في العمل. كنت ألاحظ بعض الناس يأتون خلسة حين لا يكون ثمة مدخن واحد. يلتقطون أعقاب السجائر وينصرفون على عجل. (حتى هذا يحدث في كندا).

sudansudansudansudan074sudan.jpg Hosting at Sudaneseonline.com



في المساء، ذهبت الى الكلية. المحاضر فتح عيني على ما أسمته الموسوعة في الانترنت:

Quote: WIKIPEDIA FOREVER

[Show] WIKIPEDIA FOREVER Our shared knowledge. Our shared treasure. Help us protect it.

[Show] WIKIPEDIA FOREVER Our shared knowledge. Our shared treasure. Help us protect it.

Permian–Triassic extinction event
From Wikipedia, the free encyclopedia
Jump to: navigation, search
K-TTr-JP-TrLate DO-SMillions of years ago Marine extinction intensity through time. The blue graph shows the apparent percentage (not the absolute number) of marine animal genera becoming extinct during any given time interval. It does not represent all marine species, just those that are readily fossilized. The labels of the "Big Five" extinction events are clickable hyperlinks; see Extinction event for more details. (source and image info)The Permian–Triassic (P–Tr) extinction event, informally known as the Great Dying,[1] was an extinction event that occurred 251.4 million years ago,[2][3] forming the boundary between the Permian and Triassic geologic periods. It was the Earth's most severe extinction event, with up to 96 percent of all marine species[4] and 70 percent of terrestrial vertebrate species becoming extinct; it is the only known mass extinction of insects.[5][6] Fifty-seven percent of all families and 83% of all genera were killed off. Because so much biodiversity was lost, the recovery of life on earth took significantly longer than after other extinction events.[4] This event has been described as the "mother of all mass extinctions".[7] The pattern of extinction is still disputed,[8] as different studies suggest one[2] to three[9] different pulses. There are several proposed mechanisms for the extinctions; the earlier peak was likely due to gradualistic environmental change, while the latter was probably due to a catastrophic event. Possible mechanisms for the latter include large or multiple bolide impact events, increased volcanism, or sudden release of methane hydrates from the sea floor; gradual changes include sea-level change, anoxia, increasing aridity,[10] and a shift in ocean circulation driven by climate change.





الى ذلك، كان يتحدث عن عمر الثمس billions years 5, وأنه نتيجة لحركة التفاعلات والانفجارات التي تتم داخلها لم يتبق له من فرصة للعيش سوى 6 بليون سنة. أشعر كما لو أني في سبيل الى التتلمذ على يد (ناسا) هذه المرة.

تحية

Post: #51
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-11-2009, 08:31 PM
Parent: #50

عزيزتى الأخت الهام
سلامات
وألف شكر على الدعم والمعلومات .
وارجو التكرم بوضع صور لكلية WINNIPEG
وبعض صور مكتبات المدينة .
جزيل شكرى
وكثير سلامى .

Post: #52
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-11-2009, 11:29 PM
Parent: #51

(ناسا)، تحيلني هنا إلى تلك الفجوة الماثلة داخل نظامي المعرفي بوضوح. ليس كافيا في تصوري (ياعثمان) مسألة التوغل بقدر أوآخر في تاريخ العالم أوتاريخ السودان فحسب، يا لها من فجوة حين نواجه مثل هذا المفهوم (تاريخ الكون). وبالمناسبة هنا بعض ما يشغلني على مستوى القراءة:


من منشورات المهدي في 1882


Quote: ثم، احبابي، كما اراد الله في ازله وقضائه تفضل على عبده الحقير الذليل بالخلافة الكبرى من الله ورسوله. واخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأني المهدي المنتظر. وخلفني عليه الصلاة والسلام بالجلوس على كرسيه مرارا بحضرة الخلفاء الاربعة والاقطاب والخضر عليه السلام وايدني الله تعالى بالملائكة المقربين وبالاولياء الاحياء والميتين من لدن آدم الى زماننا هذا، وكذلك المؤمنين من الجن. وفي ساعة الحرب يحضر معهم امام جيشي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بذاته الكريمة وكذلك الخلفاء الاربعة والاقطاب والخضر عليه السلام. واعطاني سيف النصر من حضرته صلى الله عليه وسلم، واعلمت انه لا ينصر عليّ معه احد ولو كان الثقلين الانس والجن

Post: #53
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-12-2009, 05:33 PM
Parent: #52



The road was vacant of passer-bys. The temperature degree was chasing after the relative humidity in rising up. I was walking next to the high concrete buildings. All of a sudden the land burst opened and belched out a very skinny boy. “Do you buy?” he asked me offering a small box of facial tissues. I carefully dug into my pockets. I looked at the sweat lines running down his narrow forehead. “No money”, I answered him. I felt his empty hand pressing mine gently while it was disappearing

الكاتب / عبدالحميد عباس محمد (البرنس )
ترجمة / بناديها

Post: #54
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-12-2009, 07:28 PM
Parent: #53

زاوية لرجل وحيد في بناية


أقطن في بناية مكوَّنة من ثلاث طبقات تطل على شارع أبي بكر الصديق في "مصر الجديدة". تجاورها، من ناحية الغرب، بناية نحيلة مكوَّنة من خمسة طوابق، يطل مدخلها المعتم الكابي على شارع هارون الرشيد، بينما تنتصب في باحتها الأمامية شجرة أخذت تستحوذ على مركز تفكيري شيئا بعد شيئ.

حتى الآن، لا أدري ما الذي ظل يشدني إليها على ذلك النحو الآسر؟.


كان بين البنايتين ممران جانبيان يفصل بينهما حائط قصير. ومع ذلك، كانت محض شجرة عتيقة ، لا تثير في دواخلي أدنى خلجة من تلك الأحاسيس، عندما أراها كاملة أثناء سيري في شارع هارون، قبل أن أنحرف يسارا نحو بنايتي، حيث درجت منذ مدة على ممارسة حياتي العادية بين جدران غرفة السطح المؤجرة، وقد أحاطت بي من كل ناحية هوائيات الإرسال التلفزيوني مثل شواهد مقبرة مسيحية قديمة.

كنت في أحيان كثيرة أتوقف في شارع هارون. أطيل النظر إليها من فوق الرصيف. أتمعن فيها برويَّة، باحثا جهدي كله عن سر تلك الأحاسيس، التي ظلت تجتاحني كلما أبصرت فروعها العالية من "هناك".

كذلك، وعلى الدوام، بدا الأمر لي من هذه الزاوية:


مجرد شجرة "عادية"، تكاد تحتل الجانب الأيمن من واجهة البناية المجاورة، وهي تشرئب صوب الفضاء بساق ضخمة، فيما أفرعها الأكثر علوا تتهادى في ثباتها غير بعيد من أبواب الغرف الجانبية المفضية إلى بلكونات الطابق الرابع المحاطة بشبكة حديدية صدئة. على أن الأمر يختلف حقا حين أرنو إليها من هناك.

أي سحر، أية فتنة، بل أي جمال غامر أجدني سابحا داخله وقتها؟.


ربما لهذا ظللت أحرص في أيام الخميس على العودة قبل حلول ساعة الأصيل من جولاتي الغامضة في وسط المدينة. كان ذلك وقتا كافيا لدخول الحمام على عجل، إعداد كوب من الشاي، ثم الجلوس بحواسي كلها أمام غرفة السطح المؤجرة انتظارا لظهور الشجرة.. المتعة.


بعد ثوان أشبه بدهر من يأس ورجاء، أبدأ في التململ، متنفسا بصعوبة وبطء كما لو أنني أصعد نحو قمة جبلية، مرتعشا كمراهق على أعتاب القبلة الأولى، بينما تنصب عيناي على نافذة موصدة في ظهر البناية المجاورة تقبع وراءها امرأة. نافذة لا تفتح إلا نحو الساعة من كل أسبوع. وكان ذلك في شهوره الأولى يثير حيرتي إلى حد بعيد.. قبل أن أتحول عنه تماما إلى معشوقتي.. الشجرة.


كذلك، لم يكن بوسعي - ساعة أن تعرض جارتي، في أيام الخميس، عن فتح نافذة غرفتها، ما بين السابعة والثامنة مساءا (إذا كان الوقت صيفا).. أو الرابعة والخامسة (إذا كان الوقت في الشتاء) - رؤية الشجرة في فروعها العالية العالية.

أخيرا أرخي أذني لصرير رتاج النافذة. وهو يتناهى كمطلع سمفونية عبر الفراغ القصير القائم بين البنايتين. لا تمضي سوى ثانية واحدة، حتي تلوح ذرى راحتيها، ثم ذراعاها وهما يدفعان ضلفتي الشيش الأزرق الباهت نحو جانبي الحائط في جلبة.. ولا أروع!.


على هذا النحو، كان وجه جارتي يطل على العالم، ناظرا خطفا إلى أسفل، أو إلى أعلى، أو متلفتا يمنة ويسرة، قبل أن يختفي داخل الشقة لأمر ما. إذ ذاك، إذ ذاك فقط، أستأنف رحلة النظر، عبر النافذة المشرعة للتو، إلى باب غرفتها الجانبي المفتوح على البلكونة و"مشهد الفروع العالية".


هكذا.. حين أشاهدها من أمام غرفة السطح المؤجرة.. وهي تخربش في دلال منغم وجه السماء.. ثم تنثني سعيدة بعودة الطيور الصغيرة المتعبة.. يجتاحني حب جارف تجاه الله والكون والجارة.


أظل في تحديقي هذا، غافرا لأعدائي ما قد تقدم أوتأخر، إلى أن تطل ثانية، وتغلق النافذة. لينفتح، في قلبي، مثل جرح غائر، بابُ السؤال: "يا ترى.. هل سأشاهد الفروع.. بيت الطيور الصغيرة المتعبة.. مرة أخرى"؟.


"لو لا وجه الجارة، غلق النافذة، وإختفاء باب غرفتها الجانبي لمدى ستة أيام متصلة؛ لما صار كل هذا الرواء الجميل".


كنت أدخل السكينة إلى نفسي.


أخاف، إذا تغيبتُ، في مرة قادمة، لأي سبب، كأن يأخذني النوم خلسة، أو يرسل الله مطره الغزير؛ أن يكمل الزمن دورتيه. ولا أراها، وهي تميل سعيدة بعودة الطيور الصغيرة المتعبة، قبل مرور ثلاثة عشر يوما بالتمام.


أذكر، في هذه اللحظة، أن النافذة، ومنذ أسابيع خلت، ظلت موصدة في مساءات الخميس، رغم أني لم أنم، ورغم أن الله لم يرسل مطره الغزير... هذا الشتاء.

Post: #55
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Ahmed al Qurashi
Date: 11-12-2009, 07:36 PM
Parent: #54

العزيز / عثمان موسى

التحية لك وللكاتب الرائع عبدالحميد البرنس

استمتعت كثيرا بالبوست

لك وله التحية والتقدير

Post: #56
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-13-2009, 06:38 AM
Parent: #55

عزيزى د / أحمد القرشى
سلامات
وألف شكر على المرور الكريم
على بوست الكتابات التى تتشعلق .
.. انا يا ود القرشى توطدت علاقتى وصداقتى بتلك الكتابات .
البرنس يا د / أحمد قادم الى العالم أنشاء الله .
فهو أديب مرهف الحس ..
كتير شكرى أخى أحمد
وكتير سلامى

Post: #57
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-14-2009, 01:05 AM
Parent: #56


مغمض العينين، خافت الصوت، ملتف الساقين، متمدداً فوق عنقريب عتيق، أخذ يستعيد "قصة بناء هذا البيت". كانت تواصل الإصغاء جالسة قبالته على مقعد صغير، بينما حبات مسبحة خضراء باهتة تتساقط من بين أصابعه النحيلة المعروقة واحدة واحدة، عندما تناهى من أقصى الحوش ضجيج أحفادهما المرح السعيد. قالت وهي لا تزال تتابع النظر إلى ضوء الشمس الغارب وراء النافذة المشرعة: "ها هم، يا حاج، مرة أخرى، يمارسون لعبة العريس والعروس، لعلك تنام الآن"؟!.

Post: #58
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-14-2009, 07:09 AM
Parent: #57

إني لأجد ريح نهلة




صدر كاعب.

ملامح دقيقة.

خصر قال الوهاب له كن فكان ولا أضيق.

على كتفيها، حيث أضاف الخالق لمسته الأخيرة، ثمة شعر فاحم ينسدل مثل ليل سرت في حلكته دعوات القائمين الثلث أو يزيد قليلا.

أما إبتسامتها، أما إبتسامتها "الساحرة الوادعة الرقيقة الحانية"، أما إبتسامتها "ذات الصفاء والبهاء والرواء"، أما إبتسامتها "التي أذابت ركبتي على سعير الدهشة ومارأفت؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله"!.

كذلك، في زحام ذلك العرس، حين بدأ يخرق الأرض بشاربه الوليد بالغا به جبال العاديات طولا، رأى نهلة، شقيقة العريس، كما لم يرها من قبل. "أجل نهلة، نهلة نهلة، وماأدراك ما نهلة"؟.


"تبارك الله أحسن الخالقين"، همس في نفسه. ثم شرع يترصدها في ما تبقى من نهار أترعت جوانحه بالولائم وأنغام الصبايا وزغاريد النسوة الجميلات. وقد أدرك، دفعة واحدة، أن ماهز كيانه، على ذلك النحو، كان ولاريب أوانُ زراعته.. بذرة إحساسه العذب تعلن عن ذاتها في ما هي تتوغل هناك.. بعيدا بعيدا.. شاقة طريقها إلى أعماقه السحيقة بيسر ولاهوادة.. قبل أن تتلألأ في الحال زهرةً معطارة زكية.. تزين أرض عواطفه البكر.. حيث لا إختلاج نما.. حتى تلك اللحظة.. سوى "دغل كراهية الشيطان" و "أعشاب حب الوالدين.. تقاة الناس.. وخالقهم من عدم".

لكأني به ينشد قائلا:

عيون المها.. بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري


ليلا، قبيل زفاف شقيقها، بعد محاولات أمسكت الرهبة والحياء بأقدامها، نجح أخيرا في الدنو منها، بينما كان يتناهى من مكان أشبه بعبق تاريخ حميم، مبينا الغاية والوسيلة، شارحا الهامش والمتون، واصفا نضار الطريقة والطريق؛ صوتُ شيخه ابن حزم الظاهري:

"وأقصى أطماع المحب ممن يحب المخالطة بالأعضاء.. إذا رجا".

"مبروك"، قال.

ولم ينس:

"إن شاء الله عقبالك".

سحبتْ راحتها الدقيقة من باطن كفه في دلال. وقالت لحظة أن أخذ يكابد بالكاد وهج الأنوثة المتدفق من مدار وجهها حديثا: "الله يبارك فيك.. وإنت كمان عقبالك". كان بهاء الحفل وضجيجه يختفيان في ظل كلماتها الحيية الوامضة.

منذ تلك اللحظة، ولسنوات ملء أيامها الإشراق، صار مسكونا بعشق نهلة. "أتتبع فقر حركتها ذا الادقاع وغنى سكناتها. أجردها بعين خيالي فأراها كملكة ساعة الوصل مغسولة ندية. أسرج بعير إنتظاري خلف نافذة دارنا المطلة على دارها. أترقب طلعتها تاليا ما تيسر من آيات الهوى والصبر الجميل:


ولما أن جلتك لي اختلاسا
أكف الدهر للحين المتاح
رأيت الشمس تطلع من نقاب
وغصن البان يرفل في وشاح
فلو أسطيع طرت إليك شوقا
وكيف يطير "مقصوص الجناح


لأسباب، ما زال يخجل من ذكرها، كان يكتفي من الحب بالنظر. وحين تغيب من مجاله البصري محتجبة داخل دارهم لأيام، ويمضه رهق الشوق إليها، كان يخلع نعليه، كي يقابله هناك، في سجوده الطويل، طالبا منه، وهو المانع العاطي، أن يتقبل منه دعوتين إثنتين ولا ثالثة:


"اللهم.. خالق الذكر والأنثى.. اجعل نهلة من نصيبي.. وأرزقنا ثلاثة أبناء من الذكور.. واحد لنصرة المسلمين.. الآخر لرعاية والديه.. أما الثالث فأنت أعلم به منا. واللهم.. رب ابن عباس حبر الأمة.. وعلي بن أبي طالب باب مدينة العلم.. إدخلني جامعة الخرطوم.. فهي مفتاح الفرج لعبد فقير مثلي.. فمن لم يدرس باللغة الإنجليزية وأنت العليم بباطن الآمور فلا مستقبل له". لكنه لحكمة لا يعلمها إلا هو أدخله " دار العلوم".


في هذه اللحظة.. أذكر رنين ساعة حائط انجليزية قديمة.. إرتعاش حافة شاربي الذي نما.. وسحابة من حزن غامض عبرت سماء عينيها السوداوين.. عندما أخبرتها في حشد من الجيران بسفري الوشيك إلى أرض الكنانة. حتى الآن.. ما زال يتساءل آناء الليل وأطراف النهار: "هل كانت تهجس لحظتها بكل ما سيجري أثناء غيابي الطويل"؟.
في سنوات الدراسة المتخمة بالرسوب، بُعيد خيام الجرجاني، أوشامَ قواعد الخليل بن أحمد، أوحتى عند شروح ابن طباطبا؛ كان يتلقف أخبارها.. يتسقطها من هنا وهناك. وفي كل مرة.. لذات الأسباب ربما.. كان يسلك للسؤال عنها طرقا ملتوية وصيغا غامضة.. وكان طيفها يطل دائما دائما.. من أروقة "دار العلوم".. مثل نسمة صبر تمنح المعنى لكلمات "جعجع" و"مجمجم" و"عقنقل".


ما إن يحل عليه مساء آخر حزين، حتى يكف عن عادة الطواف حول غرفة السطح المؤجرة، يغالب هوان الغرباء، دمع البين، وأشياء أخرى. وإذا المآقي نضبت.. وغار ماؤها في صحراء الفقد ولا أمل.. يبدأ النظر في أسى إلى سماء القاهرة المضيئة.. وليس ثمة من عزاء سوى النشيد:


ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال وليل العاشقين طويل
يبن لي البدر الذي لا أريده
ويخفين بدرا ما إليه سبيل


هكذا.. عند تشابك الهواجس واضطرام الضعف اللذيذ.. كنت أخلع نعلي.. كي أقابله هناك.. داخل صحن الجامع الأزهر.. طالبا منه هذه المرة إستجابة دعاء من أهلكه ثقل الحنين: "اللهم.. ربَّ السبعة.. الذين ستظلهم بظلك.. يوم لا ظل إلا ظلك.. لو لا تصرف عني سحر المصريات.. أصبو إليهن.. وأجهل حب نهلة.. فثبت أقدام العاشق.. واحفظ نهلة في غيابي.. وقِها.. مجيبَ الدعوات.. شرَّ غريم أجهله.. آمين".

Post: #59
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-14-2009, 04:57 PM
Parent: #58


هكذا.. عند تشابك الهواجس واضطرام الضعف اللذيذ.. كنت أخلع نعلي.. كي أقابله هناك.. داخل صحن الجامع الأزهر.. طالبا منه هذه المرة إستجابة دعاء من أهلكه ثقل الحنين: "اللهم.. ربَّ السبعة.. الذين ستظلهم بظلك.. يوم لا ظل إلا ظلك.. لو لا تصرف عني سحر المصريات.. أصبو إليهن.. وأجهل حب نهلة.. فثبت أقدام العاشق.. واحفظ نهلة في غيابي.. وقِها.. مجيبَ الدعوات.. شرَّ غريم أجهله.. آمين".

...

البرنس .

الدقة الشديدة فى رسم النفاصيل .


Post: #60
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-14-2009, 09:32 PM
Parent: #59

احمد القرشي أخي:

شكرا لهذا المرور الدال.

Post: #61
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-15-2009, 10:15 AM
Parent: #60


Post: #62
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: ماجدة عوض خوجلى
Date: 11-15-2009, 12:20 PM
Parent: #61

تشدك كتاباته بلغتها الواضحه فلا كلمات غامضه فيها تتحمل اكثر من تفسير ولا تحتاج ان يكون بجوارك قاموس
للغه لتفسير ما يشق عليك فهمه احترم مايكتبه كثير ومعجبه بكتاباته ..
ليته يعود الى الكتابه بنفس الوتيرة التى كان يكتب بها من قبل فهو مقل كثيرا الان ...
تحياتى اخى عثمان موسى تسلم يارب ....

Post: #63
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-16-2009, 00:48 AM
Parent: #62

الأخت ماجدة خوجلى
سلامات
اشكرك جزيل الشكر
على مرورك الكريم .
مع كثير سلامى عزيزتى ماجدة

Post: #64
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-16-2009, 06:36 AM
Parent: #63

سؤال


كنت أشعر أنها تريد أن تقول لي شيئا.

قبلها راجعت مكتب الأمن في المستشفى. سألتهم عما إذا كنت سأعمل الليلة كحارس موفد من الخارج في عنبر المرضى النفسانيين أم سأذهب لمراقبة أولئك المصابين بداء الصدر؟.

كان وجودي، في كل مرة، إلى جانب أولئك المصابين بخلل في عقولهم، يجعلني أشعر دائما كما لو أنني أجلس إلى شيء قابل للإنفجار في أية لحظة.

في الوقت المحدد تماما لبداية الوردية، كنت أجلس عند نهاية الطرقة الطويلة المضاءة، التي تطل عليها من الجانبين غرف المرضى الموصدة، التي أخذ يتناهى من داخلها بين فترة وأخرى سعال جاف مكتوم؛ عندما رأيتها تقبل من ناحية مدخل العنبر المواجه لجلستي تلك.

شفتان شهوانيتان. ربعة. ممتلئة العود قليلا. متوردة الخدين. لها نظرة الغرباء الحزينة الساهمة حتى وهي تنظر ضاحكة إلى محدثها. بدا من ملامحها وهيئتها العامة أنها ممرضة فلبينية على أبواب الثلاثين تقريبا. حيَّتني بتردد. وبدت مترددة أكثر في الجلوس قبل أن تلقي بثقلها على مقعد جلدي إلى جواري. بعد صمت شملني خلاله عطرها الخفيف، سألتني إن كنت أعرف شخصا من (آفركا) يدعى (مايكل) ظل يعمل في نفس شركة الأمن الخاصة التي أعمل لحسابها.

لم تكن نظرتها ساهمة حزينة هذه المرة. كانت نظرة تجمع، في آن، وهي تنفذ بتوسل إلى أعماقي السحيقة النائية، مابين اليأس والرجاء. لا، لم تكن كذلك. كانت نظرة سيدة متعبة تنتظر إجابة قدرية .

"لا، يا سيدتي، للأسف، لا أعرف شخصا بهذا الإسم".

مضت لحظة صمت قصيرة أخرى. جثم خلالها على صدري حزن غامض ثقيل. كنت أستدير نحوها هذه المرة بنصفي الأعلى كله. أتمعن فيها كوجبة شهية على مائدة الغد.

كانت تبتسم وهي تشيح بوجهها نحو احدى الغرف محاولة إخفاء ستارة الدموع الخفيفة التي ظللت عينيها السوداوين على حين غرة.

قلت في نفسي، وأنا أتتبعها إلى نهاية الوردية، وهي تدلف من غرفة لغرفة، أنا أيضا (يا سيدتي) أضعت في ما مضى حبا عظيما هنا وهناك.

Post: #65
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-16-2009, 08:22 AM
Parent: #64

العزيزة ماجدة:

تحية متجددة..

العزيز عثمان موسى، أتاح لي هنا نشر معظم نصوص مجموعتي الثانية (من كتاب القاهرة الطيبة)، وهي خطوة في تصوري مهمة سواء على مستوى التنقيح أو على مستوى تعديلات جوهرية قبل أن تأخذ النصوص شكلها النهائي في كتاب، ويمكن ملاحظة ذلك بما طرأ على تلك النصوص التي سبق وأن قام نصار الحاج بتضمينها في كتابه (غابة صغيرة)، وأرجو أن أكون قد حققت نقلة ما مقارنة بنصوص مجموعتي الأولى (تداعيات في بلاد بعيدة). في أمان الله.

Post: #66
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-16-2009, 01:50 PM
Parent: #65

العزيز عبدالحميد
فى أنتظار الحديث عن قصة الرجل القبرصى ( للطيب صالح )
ولو تكرمت علينا ببعض صور الراحل سامى سالم .

Post: #67
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-16-2009, 04:01 PM
Parent: #66

الرجل القبرصي / الطيب صالح


نيقوسيا في شهر يوليو كما لو أن الخرطوم قامت مقام دمشق. الشوارع كما خططها الإنجليز، والصحراء – صحراء الخرطوم. ولكن ذلك الصراع بين ريح الصبا وريح الدبور كما أذكره في دمشق وهي إنجليزية من رأسها حتى أخمص قدميها بالرغم من كل تلك الدماء صدمت لأنني توقعت بلداً ذا طابع هليني لكن الرجل لم يهملني ريثما أوصل الفكرة إلى نهايتها. جاء وجلس جانب على حافة حوض السباحة التفت لفتة خفيفة فأحضروا له فنجان قهوة فوراً اتجه نحوى كأننا كنا على موعد.
وقال:
سائح ؟
قلت: نعم
أحدث صوتاً لم أفهم مغزاه كأنه يقول أن مثلي لا يستحق أن يكون سائحاً في نيقوسيا، أو أن نيقوسيا لا تستحق أن يكون مثلي سائحاً فيها.
انصرفت عنه بالتمعن في امرأة وجهها مثل ملائكة روفائيل، وجسدها مثل نساء قوقان. هل هي الزوجة أم المرأة الأخرى؟ وقررت بسرعة أن الزوجة هي المرأة الأخرى لأن الرجل منصرف بكليته إلى المرأة السماوية الوجه، الأرضية الجسد. مرة أخرى قطع علي صاحبي القبرصي حبل تفكيري:
- من أين؟
- من السودان؟
- ماذا تعمل؟
- في الحكومة؟
أيضاً ذلك الصوت الغريب، لكن مغزاه كان واضحاً لا مراء فه هذه المرة، يعني، أنني، والسودان، والحكومة، ماذا أقول؟ ابتسمت لأن الحكومات صدرها واسع على أي حال، وأنا في الواقع لا أعمل في الحكومة.
- قال بلا مناسبة ، بإنجليزية حسنة:
- عندي مصنع.
- صحيح؟
- لصنع أزياء النساء.
- شئ جميل.
- كونت ثروة كبيرة اشتغلت مثل العبد . عملت ثروة. الآن لا أعمل أقضي وقتي كله في الفراش.
- تنام؟
- أنام ؟ أنت تمزح. ماذا يفعل الرجل في الفراش ؟ يلهو. طالع نازل. واحدة تلو الأخرى. طول اليوم.
- ألا تتعب؟
- أنت تمزح. انظر إلى كم تظن سني؟
- أحياناً خمسون، وسبعون أحياناً، لكنني لم أشأ أن أساعده قلت له:
- سبعون
لم يؤلمه ذلك كما قدرت، ولكنه ضحك ضحكة مجلجلة وقال:
- خمسة وسبعون في الواقع، ولكن ما من أحد يعطينى أكثر من خمسين، قل الحق.
- خمسون إذا شئت.
- لماذا؟
- تتريض.
- نعم، في الفراش، أطلع أنزل بيض وسود وحمر وصفر. كل الألوان. أوروبيات وزنجيات وهنود وعرب ويهود مسلمون ونصارى وبوذيون جميع الأديان.
- أنت رجل متحرر.
- نعم في الفراش..
- وفي الخارج؟
- أكره اليهود.
- لماذا تكره اليهود؟
- هكذا، لوجه الله . ثم إنهم يلعبون بحذق !
- ماذا؟
- لعبة الموت. مارسوها منذ قرون.
- لماذا يغضبك هذا؟
- لأنني.. لأنني.. لا يهم.
- ألا يغلبون؟
- كلهم ستسلمون في نهاية الأمر، بكت ، في انتظار قودو.
- ونساؤهم؟
- ليس أحسن منهن في الفراش.. كلما ازدادت كراهيتك لهم ازدادت متعتك مع نسائهم انهم شعبي المختار.
- وزنوج أمريكا ؟
- لم تصل علاقتي بهم إلى درجة الكراهية. يجب أن أنتبه لهم أكثر.
- والعرب؟
- يثيرون الضحك أو الرثاء ، ويستسلمون بسهولة، في هذه الأيام على الأقل اللعب معهم ليس ممتعاً لأنه من طرف واحد..
فكرت، لو أنهم قبلوا بقبرص، لو أن بلفور وعدهم إياها.
ضحك الرجل القبرصي ضحكته المجلجلة وقال:
"المرأة تطيل العمر – يجب أن يبدو الرجل أصغر من سنه بعشرين سنة على الأقل، هذه هي الشطارة".
- هل تخدع الموت ؟

- ما هو الموت ؟ شخص يلقاك صدفة ، يجلس معك ، كما تجلس الآن ، ويتبسط معك في الحديث ، ربما عن الطقس أو النساء أو أسعار الأسهم في سوق المال. ثم يوصلك بأدب إلى الباب يفتح الباب ويشير إليك أن تخرج بعد ذلك لا تعلم.
كأن غيمة رمادية ظللت برهة فوق المكان، لكنني في تلك اللحظة لم أكن أعلم أن القداح تضرب وأن الرجل القبرصي يلعب معي لعبة خطرة.
اتسعت موجة الضحك فشملتني كانت عائلة عذبة أنست لها منذ جلست، الأب طيب الوجه، والأم صوتها الإنجليزي مثل لحن إليزابيثي من أوتار قيثارة عريقة أربع بنات كبراهن لا تزيد عن الثانية عشرة. كن يدخلن حوض للسباحة ويخرجن ويضحكن، ويعابثن أبويهن ، ويضحكن وكانوا يبتسمون لي، ويوسعون دائرة سعادتهن حتى شملتني. وجاءت لحظة رأيت على وجه الأب أنه يوشك أن يدعوني أن أنضم إلى مجلسهم، في تلك اللحظة دهمني الرجل القبرصي قامت البنت الكبرى وخطت برشاقة نحو حوض السباحة قال الرجل للقبرصي والبنت توقفت فجأة كأن قوة غامضة أوقفتها قال:
- هذه أدفع فيها مائة جنيه إسترليني.
قلت له مذعوراً:
- "لماذا"؟
أشار الرجل القبرصي بذراعه إشارة بشعة.
في تلك اللحظة انكبت البنت على وجهها، سقطت على الحجر وسال الدم من جبهتها هبت العائلة الطيبة مثل طيور مذعورة وأحاطوا بالبنت فوراً قمت من جنب الرجل وأنا أشعر نحوه بكراهية طاغية، وجلست على مائدة بعيداً عنه.
تذكرت بنات وأمهن في بيروت وغضبت، ورأيت أفراد العائلة الجميلة ينصرفون مبتئسين، البنات يتشبثن بالأم والأم تتحامل على الأب، فغضبت أكثر ثم سكت وسكتت الأشياء حولي . وانحسرت الضوضاء وجاء صديقي الطاهر "ود الرواسي" وجلس إلى جانبي على الكنبة أمام متجر سعد كان متهلل الوجه نشطاً ممتلئاً عافية قلت له:
"صحح ليش ما كبرت أو عجزت مع أنك أكبر منهم كلهم؟"
قال:
"من وعيت على الدنيا وأنا متحرك ما أذكر أني وقفت من الحركة أشتغل مثل الحصان وإذا كان مافي شغل أخلق أي حاجة أشغل نفسي بيها. أنوم وقت ما أنوم بدري أو وخري، شرط أصحي على المؤذن أول ما يقول "الله أكبر الله أكبر" لصلاة الفجر".
- لكنك لا تصلي؟
- أتشهد وأستغفر بعد ما المؤذن يخلص الأذان، وقلبي يتطمن أن الدنيا ماشية زي ما كانت. آخذ غفوة مثل نص ساعة، العجيب غفوة ما بعد الأذان تسوي عندي نوم الليل كله. بعدها أصحي كأنه صحاني منبه. أعمل الشاي واصحي فاطمة. هي تصلي صلاة الصبح.. نشرب الشاي. أنا أ،زل أقابل الشمس فوق صفحة النيل وأقول لصباح الله حبابك ومرحبابك. أغيب ذي ما أغيب أرجع ألقى الفطور حاضر نقعد أنا وفاطمة وأي إنسان من عباد الله تجئ به لينا القسمة أكثر من خمسين سنة على هذي الحالة".
يوماً ما سأسأل الطاهر ود الرواسي، عن قصة زواجه بفاطمة بنت جبر الدار، إحدى أخوات محبوب الأربعة. هل أسأله الآن؟ لم يكن ولاؤه لنفسه، بل كان لمحبوب، وكان يضحك على نفسه وعلى الدنيا. هل صبح بطلاً ؟ واضح أنه إذا جد الجد فسوف يفدي محبوب بنفسه. هل أسأله الآن؟ لكنه قال، وحده جملة صغيرة مصنوعة من نسيج حياته كلها:
- "فاطمة بنت جبر الدار هالله. الله".
- ومحبوب؟
ضحك الطاهر ود الرواسي ضحكة لها طعم تلك الأيام، وذلك مدى حبه لمحبوب، حتى ذكر اسمه يملؤه سعادة، كأن وجود محبوب على وجه الأرض يجعلها أقل عدواناً، وأكثر خيراً في نظر الطاهر ود الرواسي ضحك وقال وهو يضحك:
"محبوب حاجة تانية محبوب معمول من طينة غير"
ثم سكت وكان واضحاً لي أنه لا يريد وقتها أن يقول أكثر في ذلك الموضوع بالذات بعد مدة سألته:
"عبد الحفيظ قال إنك ما دخلت الجامع في حياتك أبداً صحيح؟
- مرة واحدة بس دخلت الجامع.
- ليش ؟ وعلشان إيش ؟
- مرة واحدة فقط كان شتاء من الشتوات طوبة أو أمشير والله أعلم.
قلت له:
- كان في أمشير بعد ما دفنتم مريم باللّيل.
- صحيح عرفت كيف؟
- كنت معاكم موجود.
- وين؟ ما شفتك داك الصباح، مع أن البلد اجتمعت كلها يومداك في الجامع؟
- كنت عند الشباك أظهر وأبين لحد ما قلتم ولا الضالين آمين.
- سبحان الله الرجل الغريب محيميد المسكن كان صرخ ويقول: الرجل الكان هنا راح وين؟"
- وبعدين؟
فجأة طائر الأحلام طار. اختفى ود الرواسي، واختفت "ود حامد" بكل تلك الاحتمالات وحيث كان يجلس رأيت الرجل القبرصي، سمعت صوته فانقبض قلبي سمعت الصراخ والضوضاء وارتطام الماء بجوانب المسبح، وتشكلت الأشباح على هيئة نساء عاريات ورجال عراة وأطفال يتقافزون ويتصايحون وكان الصوت يقول:
"أدفع في هذه خمسين جنيهاً استرلينياً فقط".
ضغطت عيني لأصحو أكثر ونظرت إلى السلعة المعروضة في السوق كانت تلك المرأة كانت تشرب عصير برتقال في اللحظة التي قال فيها الرجل القبرصي ما قال شرقت واختنقت وهب إليها الرجل وهبت المرأة وجاء الخدم والسعاة واجتمع الناس وحملوها مغشيا عليها وكأنما ساحر أشار بعصاه السحرية، فإذا بالناس، كما خيل لي قد اختفوا فجأة والظلام أيضا كأنه كان على مقربة ينتظر إشارة من أحد، نزل دفعة واحدة أنا والرجل القبرصي وحدنا والضوء يلعب ألاعيبه على صفحة الماء قال لي بين النور والظلام:-
"بنتان أمريكيتان وصلتا هذا الصباح من نيويورك جميلتان جداً وثريتان جداً واحدة في الثامنة عشرة وهي لي والثانية في الخامسة والعشرين وهي لك. أختان تملكان فيلا في كابرينيا عندي سيارة لن تكلفك المغامرة شيئاً اسمع كلامي لونك سيعجبهن جداً".

كانت الظلمة والضوء يتصارعان حول المسبح وعلى سطح الماء وكان صوت الرجل القبرصي كأنما يزود جيوش الظلام بالسلاح لذلك أردت أن أقول له فليكن، ولكن صوتاً آخر خرج من حلقي دون إرادتي قلت له وأنا أتابع الحرب الدائرة على صفحة الماء:
"لا، أشكرك لم أحضر إلى نيقوسيا بحثاً عن هذا جئت لأتحدث إلى صديقي الطاهر ود الرواسي في هدوء لأنه رفض أن يزورني في لندن، وأعياني لقاؤه في بيروت".
ثم التفت غليه ويا هول ما رأيت أنا واهم أم حالم أم مجنون؟ جرت، جرت لائذاً بالجمع في مشرب الفندق طلبت شراباً ما وشربته لا أذكر مذاقه وشربته لا أعلم ماذا كان.. هدأ روعي قليلاً ولكن الرجل القبرصي جاء وجلس معي كان يقفز على عكازين طلب كأساً من الو سكي دبل قال انه فقد ساقه اليمني في الحرب أية حرب؟ حرب من الحروب ماذا يهم أية حرب؟ تهشمت ساقه الخشبية هذا الصباح صعد جبلاً ينتظر ساقاً جديدة من لندن. صوته إنجليزي أحياناً وتشبه لكنة ألمانية أحياناً ويبدو لي فرنسياً أحياناً، ويستعمل كلمات أمريكية:
- هل أنت...؟
- لا لست أنا بعض الناس يحسبوني إيطالياً وبعضهم يحسبونني روسياً، وبعضهم ألمانياً.. أسبانياً.. ومرة سألني سائح أمريكي هل أنا من بسوتولاند تصور ماذا يهم من أين أنا؟ وأنت يا صاحب السعادة؟
- لماذا تقول لي يا صاحب السعادة؟
- لأنك إنسان مهم جداً.
- ما هي أهميتي؟
- إنك موجود اليوم ولن تكون موجوداً غداً.. ولن تتكرر.
- هذا يحدث لكل إنسان ما أهمية ذلك؟
- ليس كل إنسان مدركاً أنت يا صاحب السعادة تدرك موضعك في الزمان والمكان.
- لا أعتقد ذلك.
شرب الكأس دفعة واحدة، ووقف على ساقين سليمتين إلا إذا كنت واهماً أو حالماً أو مجنوناً وكان كأنه الرجل القبرصي انحنى بأدب متصنع جداً وكان وجهه كما رأيته على حافة البركة يجعلك تحس أن الحياة لا قيمة لها وقال:
"لا أقول وداعاً ولكن إلى اللقاء يا صاحب السعادة".
كانت الساعة العاشرة حين دخلت فراشي تحايلت على النوم بوسائل شتى وكنت متعباً سبحت طول اليوم حاولت التحدث إلى الطاهر ود الرواسي.. سألته عن قصة زواجه من فاطمة بنت جبر الدار سألته عن حضوره صلاة الفجر في ذلك اليوم المشهود سألته عن ذلك الغناء الذي كان يعقد ما بين الضفتين بخيوط من حرير، بينما كان محيميد المسكين يضرب في أليم ملاحقاً طيف مريم لكنه لم يجب . لم تسعفني الموسيقى ولم تسعفني القراءة وكان يمكن أن أخرج أذهب على ملهى أو أجلس في مشرب الفندق لا حيلة لي ثم بدأ الألم خدر خفيف في أطراف أصابع القدمين، أخذ يزحف تدريجياً إلى أعلى حتى كأن مخالب رهيبة تنهش البطن والصدر والظهر والرأس وكأن نيران الجحيم اشتعلت مرة واحدة كنت أغيب عن الوعي ثم أفيق، ثم أدخل في دوامة رهيبة من الآلام والنيران والوجه المرغب يتراءي لي بين الغيبوبة وشبه الوعي، ينط من مقعد إلى مقعد يختفي ويبين في أنحاء الغرفة أصوات لا أفهمها تجئ من المجهول ووجوه لا أعرفها مكشرة قاتمة ولم تكن لي حيلة كنت واعياً بطريقة ما ولكن لم تكن لي حلة أن ارفع سماعة التلفون أطلب طيباً أو أ،زل إلى الاستقبال في الفندق أو أصرخ مستغيثاً كانت حرباً شرسة صامتة بيني وبين أقدار مجهولة ولابد أنني انتصرت نوعا من الانتصار لأنني صحوت على دقات الساعة الرابعة صباحاً. والفندق والمدينة صامتين اختفت الآلام إلا من إحساس بالإعياء وإحساس بيأس شامل كأن الدنيا بخيرها وشرها لا تساوي جناح بعوضة بعد ذلك نمت في التاسعة صباحا حقت الطائرة الذاهبة بي إلى بيروت فوق نيقوسيا فبدت لي مثل مقبرة قديمة.
في مساء اليوم التالي في بيروت دق جرس الباب وإذا امرأة متشحة بالسواد تحمل طفلا كانت تبكي وأول جملة قالتها:
"أنا فلسطينية ابنتي ماتت"
وقفت برهة أنظر إليها لا أدرى ماذا أقول ولكنها دخلت وجلست وقالت:
"هل تتركني أرتاح وأرضع الطفل ؟"
- بينما هي تحكي لي قصتها دق جرس الباب أخذت البرقية وفتحتها وكانت المرأة الفلسطينية تحكي لي أنباء الفاجعة الكبرى وأنا مشغول عنها بفجيعتي قطعت البحار والقفار وكنت أريد أن أعلم قبل أي شئ متى مات وكيف مات . اخبروني انه عمل في الحديثة في حقله كعادته في الصباح وعمل الأشياء التي يعملها عادة في يومه لم يكن يشكو من شئ دخل دور أقربائه وجالس مع أصدقائه هنا وهنا أحضر بعض التمر في نصف نضجه وشرب به القهوة ورد اسمي في حديثه عدة مرات وكان ينتظر قدومي بفارغ الصبر لأنني كتبت له أنني قادم . تعشى خفيفاً كعادته وصلى صلاة العشاء ثم جاءته نذر الموت نحو الساعة العاشرة قبيل صلاة الفجر فاضت روحه وحين كانت الطائرة تحملني من نقوسيا إلى بيروت كانوا قد فرغوا لتوهم من دفنه.
وقفت على قبره وقت الضحى وكان الرجل القبرصي جالساً على طرف القبر في زيه الرسمي يستمع إلي وأنا أدعو وأبتهل. قال لي بصوت كأنه ينبع من الأرض والسماء ويحيط بي من النواحي كافة:
"لن تراني على هذه الهيئة إلا آخر لحظة حين افتح لك الباب وانحني لك بأدب وأقول لك "تفضل يا صاحب السعادة" سوف تراني في أزياء أخرى مختلفة قد تلقاني على هيئة فتاة جميلة تجيئك وتقول لك إنها معجبة بأفكارك وآرائك وتحب أن تعمل معك مقابلة لصحيفة أو مجلة أو على هيئة رئيس أو حاكم يعرض عليك وظيفة يخفق لها قلبك أو على هيئة لعبة من ألاعيب الحياة تعطيك مالا كثيراً لم تبذل فيه جهداً وربما على هيأة بنت تصغرك بعشرين عاماً تتشهاها، تقول لك نذهب إلى كوخ منعزل في الجبل احترس لن يكون أبوك موجوداً في المرة القادمة ليفديك بروحه احترس الأجل مسمى ولكننا نأخذ بعين الاعتبار المَهرة في اللعب.
احترس فإنك الآن تصعد نحو قمة الجبل".
ولما تيقنت أنه كان ذلك اليوم في نيقوسيا يفاضل بيني وبين أبي، وأنه اختار أفضلنا بكيت الدموع التي ظلت حبيسة طول ذلك العهد بكيت حتى نسيت الموت والحياة والرجل القبرصي.

Post: #68
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-16-2009, 10:38 PM
Parent: #67

العزيز عثمان:

هنا بعض ما جاء به البحث في الشبكة العامة من صور للمرحوم سامي سالم:


sudansudansudansudan57.jpg Hosting at Sudaneseonline.com



هنا المرحوم سامي مع ولديه:


images9.jpg Hosting at Sudaneseonline.com



images10.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

Post: #69
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-17-2009, 05:02 AM
Parent: #68


عبدالحميد البرنس _ كتابات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب

Post: #70
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-18-2009, 03:10 AM
Parent: #69


أذكر في لقاء سابق أن سامي كتب رقمي هاتفي "الجوال والبيت' على غلاف 'لوعة الغياب" لعبدالرحمن منيف. لعل الكتاب لم يكن معه حين هم لحظتها بزيارتي. قلت له "كنت قبل حضورك أتأمل في هذه الأعقاب من السجائر'. وكان ثمة شيء يشدني إلى هذه الأشياء. لعله الشوق إلى مطالعة كل تلك الأشجان البشرية الذاهبة عبر أنفاس السجائر. قال بسخريته المسالمة "لعلك تفكر في مشروع تجاري بشأنها'. وضحكنا كغريبين في بلاد بعيدة. لحظتها, لم أشأ أن أذكر له لضيق الوقت ما تعلمته في هذا الشأن من بشار الكتبي كحالم كبير: أن تتأمل الأشياء على نحو يخرجها من عاديتها.

يا سلام .

Post: #71
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-18-2009, 07:08 AM
Parent: #70

Quote: لحظتها, لم أشأ أن أذكر له لضيق الوقت ما تعلمته في هذا الشأن من بشار الكتبي كحالم كبير: أن تتأمل الأشياء على نحو يخرجها من عاديتها.


يا عثمان:

تلك العبارة وضعتني الآن وجها لوجه أمام عالم الصديق الراحل بشار الكتبي. لقد تقاطعت خطانا في هذا العالم حينا من الدهر. قبل أيام، خلال بحث ما في الشبكة العنكبوتية، عثرت مصادفة على بوست كان سموأل أبوسن قد كتبه إبان مرض بشار الدرامي، وقد سرد شيئا من ذلك التاريخ المشترك الذي جمع بيننا نحن الأربعة في شقة السطح المؤجرة في مصر الجديدة، كان رابعنا أخي أحمد عبدالمكرم، لكني أجد نفسي حتى الآن بعيدا عن مزاج الكتابة عن بشار على الرغم من تأثيره القوي على مجرى حياتي. أحيانا تبدو لي مأساته كثوري حالم حتى الممات، أوكإنسان ظل يتشبث بالطفل في دواخله حتى النهاية، أوكسجين لموقف سياسي ظل يعاني مردوده لأكثر من أربعة عقود. ومع ذلك، ظل بشار يمثّل لي تلك المعادلة: الصراع بين الفرد والجماعة. إذا انتصرت الجماعة في النهاية يكون انتصارها بمثابة سقوط أخلاقي. وإذا انتصر الفرد أخيرا يتجاوز الانتصار مفهومه إلى تخوم الأسطورة. بشار لا يزال عصيا على الكتابة!.

Post: #72
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد السميع دفع الله
Date: 11-18-2009, 08:12 AM
Parent: #71

البرنس فضلك الولوج هنا فى عالمك الخاص الذى دشنه الاخ عثمان موسى ..فالمرور هنا سهل بعيدا عن تضاريس الزقازيقاب..فارجو ان تتطلع على ردى المعدل على خفيف ....

كلماتك

المنمقة والشفيفة بحقى والتى حملت مدحا وغزلا جميلا يحمل نظما اقرب الى محاولة البدء فى افتتاحية رواية جديدة من رواياتك الرائعة حقا بيد ان ما اثار دهشتى هو ايحاءات السطر الاخير فلو كنت تعلم ان عباراتك الاخيرة قد احزنتنى بكونى قد شبهتها بخضراء الدمن بل السم فى الدسم ؟؟؟؟؟ قد اكون مخطئأوارجو ذلك.ولعلك تدرى اننى لم اخرج من بيت فاقة فقد ارسلنا الوالد اخوتى وانا الى بغداد وفرنسا وانا وشقيقى الاكبر الى مصر لطلب العلم ليجنى هو الحصاد الان....... فهل يحتاج احد ابنائه للبحث عن اللقمة الرخيصة اراك قد ظلمتنى وظلمت صداقتنا.... فما كنت اعتقد ان غيوم السياسة قد تدفعتك لمثل هذا الطعن والقول مردود ياصديقى العزيز.. . ..مهما يكن فلك خالص تحياتى واشياقى وتحية خاصة الى ام محمدالرائعة الجميلة الهام وربنا يحفظ الحلوين محمد واخوه وشايف التشابهة والتلاقى بيننا ما زال متواصلا ان شئت ام ابيت فلدى ايضا كتوكتين حلوين (بشار وبياز) وكان لديك دعاء جميل من والدتك دائما ما كنت تستدل به وتختم به كتاباتك وان كنت لا استحضره الان الا اننى اقول لك بحجم دعوات الام لك ودى واشياقى حتى وان بقى شيئ من حتى وقبل ان اغادر استدل بقول الميح (من يكن منا بغير خطيئة فليرمها بحجر ......
سمـعة

Post: #73
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-18-2009, 03:21 PM
Parent: #72

احساسى والكثيرين بأهمية كتابات
الأديب الناشط / عبدالحميد البرنس
يجعلنى اطلب من مالك المنبر . الأخ م / بكرى ابوبكر
رفع البوست . مع كثير التقدير وفايق الاحترام .

Post: #74
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-18-2009, 03:41 PM
Parent: #73

أبوجهينة, أوجلال داوؤد, اسم بدأ يطرق أبواب المشهد السردي القائم في السودان فجأة وبقوة, وهو في هذا ليس ضربا من الإستثناء في شبه غياب وسط ثقافي محلي فاعل ذي ملامح يمكننا عادة من ملاحظة مختلف مراحل تطورات موهبة ما, فقد سبقه من قبل أسماء برزت في حياتنا المحلية فجأة, ولا أذكر هنا الطيب صالح وعماد محجوب وليلى أبوالعلا وطارق الطيب وآرثر غابريال وأمير تاج السر ومحسن خالد وغيرهم ممن تلمس طريقه بمفرده أونشأ في سياق وسط ثقافي خارجي قبل أن يتم تصديره إلى بيئته الأم ككاتب مكتمل الأدوات أويكاد. وهنا ملاحظات نقدية تحاول تسليط الضوء ماأمكن على عالم جلال داوؤد القصصي البديع:

Post: #81
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-19-2009, 11:53 PM
Parent: #72

العزيز عبدالسميع دفع الله
ألف شكر على المرور الكريم .
تجدنى وأقف هنا كل يوم
يا أخى عبدالسميع . هنا عند بوابة مكتبة صديقك البرنس .
تلك المكتبة العالية والعريضة . مكتبة تمتلىء بالجمال .
تعجبك وتعجبك وتعجبك كلما توغلت فى تفاصيلها .
يا سلام .
اكرر شكرى وكثير سلامى

Post: #76
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-18-2009, 05:24 PM
Parent: #1

فضاء يصلح للتنفس سرا
( البرنس )

Post: #77
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-19-2009, 08:29 AM
Parent: #76

أيام في حياة حارس وحيد

قبيل رحيلي بأيام، رأيت عادل سحلب لآخر مرة. كنت وقتها داخل محل كبيرة للبقالة يدعى "سوبر ستور". أقف قبالة بداية صف طويل من الأكلات الخفيفة لزوم السفر. كان هناك، قبالة احدى العاملات على الكاشير، تخاطبه بوجه جاد، وهو كالعادة يبتسم ببلاهة لتغطية عجزه القديم عن التعاطي باللغة الانجليزية، على الرغم من سنواته الطويلة في كندا. لم أخبره قطّ بشأن خططي المفاجئة للرحيل. كان عزمي قد استقر على طيّ صفحة الماضي اللعين مرة واحدة وإلى الأبد. المثل يقول "يكفي من الخراء ملعقة". رأيته أخيرا، وهو يغادر الوجه الجاد لعاملة الكاشير التي انصرفت نحو زبون تال بنفس الإبتسامة، تابعته وهو يسير منكبا إلى الأمام صوب بوابة الخروج الزجاجية بخطى بدت بطيئة، كما لو أنه لا يدري إلى أين يواصل المسير. حين تلاشى عن مدى الرؤية، ولم يعد له من أثر، بدأت على الفور في تذكر وجه فتاة بعيد من القاهرة، إنها مها الخاتم، لكأن وجودهما داخل ذاكرتي المتعبة لا يتم بمعزل عن الآخر.

هكذا، أعطاني "جيري" وصايا السفر.

"ليليان" أعطتني صورة لحفيدتها وأخرى تجمع الأم والبنت والحفيدة قبل أن تبقيني في حضنها مسافة. "جيف" أكد لي أنني بمثابة شقيقه برغم إختلاف اللون والدين.. ثم طلب مني طلبا غريبا.. أن أقف عند تقاطع شارعين حددهما بالإسم في محل إقامتي الجديدة وألتقط صورة ثم أبعثها له عبر عنوانه البريدي. أما " وين".. رئيسنا في العمل.. فقد كان وداعه لي رسميا تماما.
هكذا، أخذ يعاودني الإحساس بالتعامل مع الأشياء والوجوه الأليفة لآخر مرة، حتى أني شعرت بينما أكتب تقرير الوردية الأخيرة وكأنني أكتب وصيتي.
أقبل "جيري" يجر جثته البدينة عبر بهو بنك "إسكوتشيا" المغلق خلال عطلة نهاية الإسبوع، قادما من موقف السيارات أسفل المجمع التجاري الضخم، حيث يعمل لنفس الشركة التي أعمل لحسابها كحارس. كنت أرقبه وهو يتقدم نحو مكتبي من شاشة لشاشة، وقد استقر في نفسي شعور حزين، ذلك أني لن أرى هيئته تلك بعد ساعات قليلة إلى الأبد، إذ انني سأغادر تلك المدينة بعد أيام ثلاثة على الأرجح، وليس لي فيها شأن الغرباء المنفيين ما يجبرني على العودة إليها مرة أخرى، مع أن أماندا -فتاتي السابقة- ظلت تؤكد على مدى نحو الشهرين من إنفصالنا المأساوي أنها تحمل شيئا ما في بطنها، قبل أن تختفي منذ شهر بغير أثر يدل على أنها كانت في يوم من الأيام محور كوني وملاذي الحميم.
أخيرا توقف "جيري" أمام باب المكتب الخارجي. رأيته يخرج المفتاح رقم 14 من جيب بنطلون البحرية الأيمن. كان علي أن أنتظر دهرا ريثما يطوي الأقدام القليلة للطرقة الداخلية ذات الإضاءة الخافتة لأراه سادا فراغ الباب العريض الذي يطل على دورتي المياه بينما يجاور باب غرفة عمال النظافة المجاورة بدورها لغرفة التهوية التي تعلو أصواتها وتخفت بين فترة وأخرى.
ظننت في البداية أنه جاء كعادته لإستخدام دورة المياه. سألني بكياسته المتقنة عن سير الأحوال في مجال مسئوليتي. أخبرته أن الأمن مستتب تماما. وطرحت عليه من باب المجاملة ذات السؤال عن سير الأوضاع في موقف السيارات. قال:
- "لا شيء ذو بال يحدث على الجانب الآخر".
- "الأحوال تكون هادئة في مثل هذ الوقت من العام، ياجيري".
- "أتمنى أن تسير دائما كذلك".
- "بالطبع لا أحد يرغب في حدوث مشكلة ما".
- "لكنك تعلم أن الأحوال تسوء هنا خلال الشتاء، يا هميد".
- "نعم، مزيد من السكارى والمشردين وطالبي الدفء وما لا يعلمه إلا الله".
في هذه الأثناء، رأيت على إحدى شاشات المراقبة التابعة لمنطقة بنك "سي. أي. بي. سي" عاشقين يذوبان في قبلة طويلة. حين تطلعت إلى وجه "جيري"، الذي كان قد اتخذ مجلسه على مقعد متحرك إلى الجوار، رأيته مشدودا إلى نفس الشاشة. لا بد أنه تذكر بدوره في تلك اللحظة وجه فتاة "لا يريد أن يذكره"، ذلك أن "جيري" يعيش وحيدا بعد رحيل أمه في العام الماضي، لكني أذكر أن "ليليان" قالت شيئا ما عن علة في قلبه، قلت مبددا الوحشة التي هبطت دفعة واحدة على المكان: "دعهما، فهذا أمر لا يخل بأمن". هنا حدث أمر غريب. انفلتت الفتاة من أحضان رفيقها على حين غرة . واجهت عدسة الكاميرا عن قرب شديد. ثم أرسلت لاهية إصبعين من شفتيها. وكأن شيئا لم يكن. قال جيري: "هل ستغادر المدينة بالفعل"؟.
كنت قد أخبرته بذلك بعيد بداية الوردية عند منتصف اليوم تقريبا. بدا من رد فعله آنذاك أن "ليليان" قد نشرت الخبر على نطاق واسع. لكنه أبدى تقديره أنني أخبرته على نحو شخصي. وسألني إن كان لدي صداقات في العاصمة "أتوا". قلت له: "القليل.. القليل القليل.. يا جيري". وحكيت له طرفا من بعض ذكرياتي في القاهرة. هذا ليس زمن صداقات. هذا زمان التيه الجماعي الكبير. زمن المصالح الفردية الضيقة وموت القيم. قال لي: " لا تحزن". وأضاف بعد برهة: "أنت ذكي.. سنك لا تزال صغيرة.. وأنا على ثقة أنك ستحقق نجاحات عديدة هناك". لم أعلق بشيء، إذ أخذت أفكر حول أشياء حدثت هنا وهناك، حين أعادني إليه صوته المبحوح من جديد، وقد بدأ يسرد شيئا من ذكرياته في "أتوا" قبل عشرين عاما، لأكتشف مرة أخرى كيف أن وراء كل بدين في هذا العالم قصة حب جارف إلى الطعام.
لم تمض سوى أيام قليلة على وجودي في "أتوا"، حتى تبين لي ما طرأ على الصورة المتكونة في ذهن "جيري" عن المدينة، لقد جرت مياه كثيرة أسفل الجسر منذ أن غادرها قبل عشرين عاما أويزيد، لكنني وطنت نفسي في الأخير على ألا أخبره عما حدث للمدينة بعد ذهابه بفترة قد تطول أوتقصر، ليس من العدل أن أفجعه قائلا إن الصورة التي ظللت تحملها في رأسك يا عزيزي "جيري" على مدى عقدين من الزمان لم يعد لها الآن من وجود.
آن جلسة الوداع تلك، ومضت عيناه وراء النظارة الطبية، وملامح وجهه الطيبة بدأت التجاعيد تغادرها شيئا فشيئا، وخيل لي للحظة وكأنه يتحدث بجسده كله عن وجبات طعام غنية بثمن بخس في كافتريا البرلمان. كان من المحزن برغم زهدي العائد إلى تاريخ عريق من الفقر والفاقة ألا أبدي له إهتماما يفوق إهتمامه بالطعام، بل ورحت أسأله بجدية تامة عن كيفية النفاذ إلى مطعم الصفوة المتفسخة في "أتوا"، ولم يخب ظني، إذ رد علي بجدية أشد أنه لا بد لي من معرفة شخص يعمل داخل مبنى البرلمان، وبينما أخذ يبحث معي في نواح تفصيلية لبلوغ ذلك المأرب، بدأت أدعو الله بكل جوارحي ألا تنطلق تلك الضحكة المحبوسة في داخلي على حين غرة. وقد كان.
ظل "جيري" ينهج فوق مجلسه ذاك برغم مرور نحو النصف ساعة من وصوله، بينما تكومت كرشه أمامه مثل ثلاجة صغيرة، وبدت جوانبه متدفقة إلى خارج المقعد ذي العجلات البلاستيكية السوداء المصمتة، وقد راح بين حين وحين يزيل بيده الضخمة تلك القطرات البلورية المتكونة أعلى جبينه المتغضن على الرغم من لسعة برودة خفيفة داخل المكتب كانت تنبعث من مكيف ماركة "كارير" مثبت قرب الحافة الجنوبية للسقف المرتفع قليلا.
"إذا وصلت إلى "أتوا" لا بد أن تأخذ حذرك بينما تسير في شوارعها"، علا صوت "جيري"، وقد مد ظهره إلى الأمام، مقوسا ذراعيه، باسطا كفيه فوق ركبتيه المتباعدتين، وصمت بعيد ذلك قليلا ليتأكد على ما يبدو من وقع تحذيره الغامض على نفسي.
كان قد شرع يتطلع إلى صفحة وجهي كمن يقرأ في كتاب الغيب بطيبة آسرة.
من جديد، بدأت أقاوم تلك الضحكة البليدة. سبق له قبل أشهر أن نصحني بعدم السير على جوانب الشوارع، زاعما بجدية تامة أن بعض الناس في تلك الأيام يقفزون على أكتاف المارة من البلكونات القريبة، لا سيما خلال الساعات المتأخرة من الليل، وافقته وقتها ظاهريا، وقد تيقنت تماما إذا كان الحال مثلما يصف لا بد لي من الآن فصاعدا أن أسير في الشوارع مثل سيارة من غير "خطرات" أومصابيح أمامية.
أخيرا، قال "جيري": "إذا حدث وإن كنت سائرا في شوارع "أتوا"، فلا ترمي مثلا بعقب سيجارة كيفما اتفق، وقتها سيبرزون أمامك من حيث لا تعلم، ويجبرونك على دفع غرامة فورية، وأنت بالتأكيد يا هميد في وضع مالي لا تحسد عليه".
هنا أخذت نصحه مأخذ الجد. كان عليَّ بالفعل أن أتخلص من عادات كثيرة ضارة. وهو ما بدأت العمل به تدريجيا بعد شهرين تقريبا من وصولي إلى كندا، فمنذ ذلك الحين لم أعد أتبول عند ناصية شارع جانبي أوعلى ظهر بناية ككلب، وإن كان الحنين يعاودني إلى ذلك على طريقة "من نسي قديمه تاه"، مع أن "أماندا" وقت أن نذهب ليلا لجلب المزيد من الشراب كانت تحثني على فعلها حين تراني متضايقا، لعلها كانت متأثرة هنا بأحد جذورها الاحتجاجية كخليط مباشر من هنود حمر وبيض.
ما إن أخذت في التجول عبر شوارع "أتوا" بعد يوم واحد من وصولي، حتى أحزنني أن الصورة المتكونة عن المدينة في ذهن "جيري" لم تعد بمثل ذلك النقاء، ففي أيامه كان عدد السكان حوالي ثلاثمائة ألف نسمة، أما الآن فزاد عددها إلى نحو الثلاثة ملايين أغلبهم من العالم الثالث، الذين جلبوا لها على ما يبدو جرثومة الفوضى وأشياء أخرى، ومع ذلك ما زلت مصمما على ألا أخدش ذكريات "جيري" الثاوية على مدى عقدين أويزيد عن المدينة، وذلك أقل شيء يمكن أن أقدمه لصديق بدا لي على الدوام مهموما بكيف يعامل الناس بمحبة، مع أنه إذا حدث في يوم من الأيام وأن قام بزيارة إلى منطقة ما في الشرق الأوسط فسيجد حتما من يطلب رأسه الضخمة المثبتة إلى عنقه الغليظ على وجه السرعة الجهادية.

هكذا، تقاطعت طريقانا، أنا و"جيري"، من غير توقع. وقبل أن يذهب كل منا مرة أخرى في طريق مختلفة تماما، لم ينس "جيري" وهو يتنهد لأمر ما أن يضع على مائدتي وبسخاء آخر حصيلة تجاربه في هذه الحياة، والحق كاد كل ذلك أن يجعلني أجهش بغتة بالبكاء.
"إذا حدث وأن ذهبت بسيارتك خلال إجازة إلى أمريكا، منيسوتا أوداكوتا أوغيرهما، ثم توقفت في ساح لمطعم فخم فلا يغرنك، إذ سيأتيك شبان ما إن يلمحوا نمرة العربة الكندية، سيقولون لك سيدي دعنا نحرس السيارة إلى حين عودتك، ادفع لهم وقتها ومن دون أدنى نقاش حوالي العشرين دولارا أمريكيا في الحال، وإلا ستجد سيارتك مهشمة وربما تماما، أوعلى الأقل سيدمرون المصابيح والزجاج".
- "هذا ليس عدلا، يا جيري".
- "هذا يحدث عادة. وأكثر من ذلك، حين تقود سيارتك عبر الطرق البرية من مدينة إلى أخرى، سيتعمدون إصابتك من الخلف، أويدفعونك إلى المنحدر، بمجرد أن يلمحوا لوحة أرقام السيارة الكندية".
- "وأين القانون هنا"؟.
- "للأسف القانون في صف الأمريكي مسبقا، القاضي لا يفعل هنا شيئا سوى أن يقول لك وبكل بساطة ادفع له تعويضا".
- "وما رأي الحكومة هنا"؟.
- "لا شيء.. فقط ينصحونك بالدفع.. يا هميد".
- "ولماذا لا نعاملهم بالمثل هنا"؟.
لم يعلق "جيري" بشيء هذه المرة، كان مهموما أكثر على ما يبدو بنصيحة أخرى، قال: "كذلك حين تدخل إلى دورة مياه عامة في أمريكا، وأنت جالس على مقعد المرحاض تقضي حاجتك، انتبه جيدا إلى المرحاضين المجاورين، فربما تمتد يد أسفل الحواجز الخشبية الفاصلة، وتغرس في ساقك دبوسا ملوثا بمرض مميت أومخدر كالهروين، إنهم يفعلون ذلك أيضا".




يتبع:

Post: #78
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-19-2009, 08:57 AM
Parent: #77

نهض "جيري" كمن أدى مهمة جليلة. ومثلما فعلتُ أول مرة، ظللت أرقبه من شاشة لشاشة، وهو يغادر المكتب، يتجه نحو أحد السلالم المتحركة، يدلف إلى بهو بنك "اسكوتشيا" الرخامي المغلق، متجها بكل تلك الجثة المهولة صوب موقف السيارات أسفل الأرض.
درجت "أماندا" على زيارتي أثناء العمل في الأوقات التي أحمل خلالها جهاز الكومبيوتر المحمول إلى المكتب لإستغلال الساعات الهادئة في أغراض تتعلق بالبحث الأكاديمي وأشياء أخرى. كانت تقول إنها تشعر بالضجر من غير عمل تمارسه، وقد حرمتها الحديث عبر غرف الدردشة في موقع "ياهو" إلى أصدقاء وصديقات وراء البحار، بينما يمتد دوام عملي إلى أكثر من نصف اليوم عادة، وهي محقة في هذا تماما، بيد أني كنت أدفعها دائما إلى البحث عن عمل أومواصلة الدراسة دون جدوى.
منذ أن رآها "جيري" للمرة الأولى، ما انفك يسألني عنها على فترات، وهي حين تراه عبر الشاشة عند باب المكتب الخارجي، أوعندما تتناهى إليها حركة المفتاح رقم 14 على القفل في الدقائق التي تكون فيها غرفة التهوية ساكنة، كانت لسبب ما تنطوي على نفسها لائذة إلى هدوء غريب.
في الواقع، "جيري" لم يجلس إليها سوى مرة واحدة، عدا ذلك كان يحييها على طريقته الدمثة، قبل أن يدلف إلى دورة المياه ويخرج إلى حيث أتى في صمت، لكنه في تلك المرة برهن عن خبرته كحارس حقيقي، عندما تابع أسئلته الاستطلاعية على نحو جعل "أماندا" تنظر إليَّ بتوسل، إلى أن سألني في ذلك اليوم إن كان لدى فتاتي أخت أكبر عمرا أم لا؟.
لسبب ما بدا لي في تلك اللحظة، وأنا أتطلع إلى حياء وامض أطل من وراء نظارتيه الطبيتين، مثل كهل قدم للتو من إحدى قرى شرق النيل في السودان، طارحا عند حافة اليأس بين قوم مجهولين مسألة على درجة عالية من الخطورة، ومثل ذلك السؤال لا يطرح في مثل تلك المدينة عادة.

قلت:

"لا"
"لا عليك"
"لماذا تسأل، يا جيري"؟.
"لا شيء".
في الحق، كان لدى "أماندا" أكثر من شقيقة كبرى. أغلبهن كن مرتبطات. لا جمال يتبقى طويلا في هذا العالم من غير طارق. لكني لا أذكر الآن سوى شقيقتها الصغرى "سمانتا". كانت دون العشرين وجمالها من ذلك النوع الذي يصيب الناس عادة بشيء من الحزن. لها صديق آسيوي بعينين مبتسمتين وسحنة قاتمة. "العاهرة"، قالت "أماندا" بعد أن لحقت بي في ذلك المساء. قبلها كنا نسير نحو الشقة بخفة عاشقين. فجأة أفلتت يدها من يدي وعبرت الشارع مسرعة نحو "سمانتا". لم أكن أعلم وقتها أنهما شقيقتان.




يتبع:

Post: #79
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-19-2009, 04:17 PM
Parent: #78

نتابع التدفق

Post: #80
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Mohammed Haroun
Date: 11-19-2009, 06:43 PM
Parent: #79

يا عثمان موسى إنت زاتك ما ك هين .... كتاباتك ذاتا ترد الروح ...عبد الحميد البرنس ولد فنان أووووووي

Post: #82
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-20-2009, 07:51 AM
Parent: #80

رأيتهما على ضوء مصابيح الشارع الكابية، وهما تتحدثان كصديقتين، وغير بعيد لاح الآسيوي في هيئته النحيلة غارقا في معطف واسع جعله في تلك العتمة أقرب ما يكون إلى خيال المآتة لو لا أنه كان يحشر يديه داخل جيبيه. "سمانتا، شقيقتي، تلتقط الرجال من الشارع مقابل مبلغ من المال"، قالت "أماندا" كما لو أنها كانت تقرر أمرا عاديا.

كان الأمر بالنسبة لي في تلك اللحظة أشبه بوقع الصاعقة في مدارات استوائية بعيدة ونائية تماما.

ما إن يغادر "جيري"، متجها من جديد إلى موقف السيارات أسفل الأرض، حيث يغالب تلوثا وعتمة كئيبة وضجيج مراوح وشفاطات هواء ضخمة وذكرى رحيل والدته قبل عام، حتى تهجم "أماندا" على الأسطوانات الغنائية المتراكمة ل"ليليان"، وتبدأ في نسخ بعض أجزائها على جهاز الكومبيوتر، أسألها وقد عاد إليها وجهها الأليف:

- "ما الذي تفعلينه بأغاني الريف القديمة"؟.
- " لا تنسى أنني نشأت مع والدي في الريف".
- "لكنك تدمنين "فيفتي سينت" و"ماريو" وما لا يعلمه من قبيلة "الهيب هوب" سوى الله".
- "يا إلهي، إنها " ليلة السبت في مدينة صغيرة"، أحب هذه الأغنية، فقط استمع، وليم"؟.

هكذا، تتحكم البدايات في مساراتنا أحيانا، وحتى بعد أن عرفت اسمي الحقيقي ثلاثيا، ظلت لا تناديني في أكثر اللحظات حميمية، وإلى النهاية، سوى بذلك الإسم:

وليم.






يتبع:

Post: #83
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-20-2009, 01:15 PM
Parent: #82

هذا الصباح دلفت كعادتى
الى مكتبة عبدالحميد .. ادرت نظراتى فى فناء المكتبة .
فرايت سامنتا وأماندا تضحكان ..
..
نتابع المسير بين اللوحات خطوة خطوة فى مرسم الفنان عبدالحميد .

Post: #84
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-20-2009, 04:45 PM
Parent: #83

عزيزي عبدالسميع:

سلامي وتحياتي لك ولبشار وبياز وأمهما. سوء التفاهم يحدث في هذا العالم أحيانا. لا عليك. لعلي بمداخلة أخرى في بوست الزقازيقاب كما تدعوه أكون قد أوضحت ما غمض. تقديري وشوق إلى تلك السنوات.

Post: #85
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-21-2009, 02:58 AM
Parent: #84

العزيز محمد هارون
ألف شكر أخى العزيز على المرور الكريم .
بمكتبة الكاتب صاحب الكتابات التى تتعنكل .
تحياتى وكثير شكرى

Post: #86
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-21-2009, 06:31 AM
Parent: #85

"حفيدتي".

"بنتي".

"زوجي السابق".

تلك أحب الكلمات إلى "عزيزتي ليليان" كما أحب أن أدعوها دائما. امرأة تقف على بعد خطوات قليلة من بوابة نهاية الخدمة المدنية. لا تزال حين ودعتها صباح ذلك اليوم تحتفظ بشعر مراهقة ذهبي لامع، متوسطة الطول، رشيقة القوام لا تزال، على مدى نحو العامين أسلِّمها الوردية وأتسلَّمها منها في اليوم التالي، وما إن أراها في كل مرة حتى أحس أنها في حاجة أخرى لذات الكلمات: "تبدين هذا الصباح جميلة يا عزيزتي ليليان". هكذا لا أجعلها تنتظر طويلا. هنا يشرق وجهها، ترتبك لوهلة، قبل أن تغادر المكتب دائما على عجل، سوى في تلك المرة، عندما مكثت معي بعد إنتهاء ورديتها أكثر مما ينبغي.

ظللنا أنا وليليان متعانقين مسافة. بالكاد حبست دموعي. وقتها، حضرتُ إلى المكتب لآداء تلك المهمة الروتينية، وما كان لعيني المدربة على أحزان البشر الخفية أن تجهل المأساة التي ألمت بها في ذلك الصباح. و سألتها:

- "عزيزتي "ليليان" ما الذي أصابك"؟.

وقد بدا عليها وجوم ثقيل على غير العادة:

- "ابنتي دوريان".

ربت على كتفها بحنو:

- "ما الذي حدث"؟.

قالت:

-"هاتفتني منذ قليل. قالت إنها تشعر أنها قبيحة وغير مرغوبة".

كنت أعلم أنها مطلقة. وحين جاءت مرة لاصطحاب أمها بسيارتها، بدا لي بالفعل أنها أقل جمالا منها بكثير، حتى أني قلت في سري إن "ليليان" قد حبلت بها ولا بد في لحظة كراهية مباغتة للعالم.

أخيرا خرج صوتي:

- "عزيزتي "ليليان" نحن لا نتحكم في أشكالنا لحظة قدومنا إلى هذا العالم".
- "قلت لها ذلك، يا هميد".
- "أرى شيئا آخر".
- "ما هو"؟.
- "لا بد لها أن تتقبل شكلها بأية حال".

قلت كمن يحدث نفسه لحظة أن غرقت "ليليان" في صمتها مرة أخرى:

"أنا يا "ليليان" مررت خلال حياتي الماضية بأحزان كثيرة لا مبرر لها، لكن أكثرها قسوة كان إكتشافي أني ظللت كل ذلك الوقت بلا صداقات حقيقية، ذلك ما تميط عنه اللثام عادة المحطات الأصعب، وقد تعود "دوريان" غدا أواليوم إلى تقبل شكلها كواقعة طبيعية كغروب شمس هذا اليوم بعد ساعات، ولكن كيف أطرد ذكرى عزيز خان بوجبة طعام رخيص في مدينة لا ترحم مثل القاهرة، ها أنت تنسين أحزان "دوريان" متطلعة إلى قصص من عالم غريب تماما، هكذا الأحزان واحدة وإن اختلفت أشكالها هنا وهناك، ولو جاز لي أن أهب "دوريان" بعضا من خبرات متواضعة، لهمست في أذنها أن تواصل طريقها دائما بصبر وشجاعة ومحبة ولا تركن إلى المأساة طويلا".

بتلقائية تامة وهدوء، وضعت "ليليان" يدها على كتفي، وقالت بينما تنظر عميقا داخل عيني: "أنت لا تزال صغيرا، كيف حدث وأن طفح قلبك بكل هذه الأحزان"؟.

ابتسمت لها في بلاهة. ربما لأن حياتي ظلت لسنوات خالية من العزاء أوتكاد. ولا بد أنني كنت أتحدث مثل واعظ وقف يعدد فضائل "الصبر" على رءوس مصلين على عجالة من أمرهم . كان مثل هذا النوع من الحديث يجذب أحيانا "ليليان" مثل كاثولوكية طيبة لا تذهب للكنيسة ولكنها فكرت قبل سنوات بعيدة في "إنقاذ" طفل كما تقول من "آفركا"، لولا ضيق ذات اليد التي لا تزال تدفعها على ما يبدو إلى لعب القمار ساعة من أيام الأحد الهادئة، مضحية بذلك بساعات النوم القليلة المتاحة لها، وقد رسخ في ذهنها كما يظن "سايمون" حارس بنك "اسكوتشيا" الهندي أن في إمكانها النوم خلال وردية الليل من غير أن يحس بها أحد. أخيرا، قلت لها: " عزيزتي "ليليان"، لعله تشيرشل ذلك القائل: مطلقا، مطلقا، مطلقا.. لا تستلم".

بدأت "ليليان" تلملم أغراضها، وقد انفصلت عن عناقي لها كأم، تمنت لي وردية هادئة، ورجوت لها أحلاما سعيدة، وما إن خرجت وبدأت أتتبعها بأسى من شاشة لشاشة، حتى أدركت كم هو ثقيل على النفس أن تحمل والدة جميلة أحزان إبنة لا حظ لها مما ملكت الأم في زمان بعيد من ملاحة.



يتبع:

Post: #87
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-21-2009, 08:11 AM
Parent: #86

red]I had met William through Omer a really good friend of mine in the summer of 2003. Omer told William he knew a couple of nice girls that were single. So we all agreed that we would all meet at William’s house for an occasional drink and friendly conversation. Later that same night I realized that William was a very loving and caring individual. So I decided to make my move. I asked him if he wanted me to accompany him on going to get a couple of drinks. He said yes, so we walked and talked all the way to our destination and back to his house.


When we arrived Omer was talking with my friend Jessica. We all had a couple more drinks and talked amongst each other. I knew that I and William had something so great in common. I never realized that until February 2005. I didn’t realize it earlier because I was really young at the time and all I wanted to do was live life to the fullest. Now that I am a little older and more experienced with life, I discovered that I am ready for a steady relationship.


We are currently in a strong relationship that is based on love, respect, and honesty. Our feelings toward each other are mutual.
We encourage each other to better our lives in a positive way, meaning we avoid any destructive conflict.




يتبع:

Post: #88
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-21-2009, 01:32 PM
Parent: #87

يا للجمال

Post: #89
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-21-2009, 05:03 PM
Parent: #88

Quote: يا عثمان موسى إنت زاتك ما ك هين .... كتاباتك ذاتا ترد الروح


محمد هارون أخي:

هو عثمان. شكرا. دمت.







وجدت نفسي بمرور الوقت أعطي "ليليان" تذكرة البص كأول فعل أقوم به لحظة دخولي إلى المكتب في الصباح، حيث تكون عادة صالحة لمدة ساعة تالية. كنت أتصرف في البداية حيال ذلك كمن يمد يده بمخدر لمدمن عند ناصية شارع عام، وهي كانت تتقبلها شاكرة حامدة بنفس الطريقة المرتبكة، بيد أنها لا تفعل معي نفس الأمر لحظة تسلم الوردية مرة أخرى ليلا والعذر يكون غالبا كما أدركت أول مرة أن إبنتها "دوريان" قامت بتوصيلها بسيارتها الخاصة ماركة "فورد". ومع ذلك كنت أسعد ما أكون حين كانت تحضر قبل بدء ورديتها بأكثر من ساعة، تحررني من الأسر مبكرا، بعد أن نتقاسم طعام الإنسانية بيننا لبعض الوقت في حالات نفسية مختلفة. كنا نضع المائدة على دفء المسافة القصيرة، هي تمضغ ببطء مغالبة آلام الأسنان وأشياء أخرى مزمنة في المعدة أوتشير إليها أحيانا كشرخ قديم على جدار الروح، وأنا كنت ألتهم اللقم التهاما، لكأنني في سبيلي إلى تعويض أشياء عديدة ضاعت مني في هذا العالم، أو لكأنني أختزن لصحراء وحدتي قبل عودة "أماندا" فجأة شيئا من زاد الكلام.

ما إن أوصد الباب وأسير خارج المكتب في طريقي إلى محطة البص، حتى أدرك وعلى نحو من الأنحاء أن "ليليان" تتابعني في "هذه اللحظة" من شاشة لشاشة، وأتعجب مبتسما كيف يمكن أن ينقلب السحر على الساحر أحيانا؟.



يتبع:

Post: #90
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-22-2009, 03:34 AM
Parent: #89

ذات يوم يعود إلى علاقتي الأولى بحياة الناس اليومية، رأيت عبر عدسة كاميرا كانت تغطي منطقة مصرف "تي.دي" الذي يملكه أحد أثرياء اليهود منظرا غريبا جعلني أذهب إلى المنطقة المعنية على وجه السرعة، وحتى تلك اللحظة، لم يكن في ذهني شيء محدد يمكن القيام به خلال ما بدا لي كارثة حقيقية على مسار وظيفتي كحارس.

كنت قد رأيت رجلا يخلع سرواله ويبدأ نهارا جهارا في التبرز أعلى منطقة السلالم الحجرية المؤدية إلى البنك. وقد بدا وهو يفعل ذلك وكأنه يجلس في مرحاض داخل بيته. الوغد!، كان هادئا تماما.

حين وصلته ركضا، كان قد أكمل مهمته على خير وجه وشرع في ربط حزامه الجلدي مغادرا مسرح العمليات برمته. وكأن شيئا لم يكن. كان يقترب مني بخطى واثقة. بل وسألني بهدوء كيف يخرج من "هنا" إلى منطقة "سان بونيفس". كانت رائحة شراب رخيص يدعى "بلاك بول" تفوح من كيانه كله. كنت في قمة الغيظ. وكان قاموسي من الانجليزية خاليا وقتها من الشتائم أويكاد. مع ذلك، خاطبته بلا وعي بالعربي قائلا قرب أنفه المكتسي بالعرق: "ما هذا يا ابن الكلب"؟.

أخذ يتطلع إلي بدهشة وذهول ومسكنة لا نهائية. كنت أرتدي بطبيعة الحال البدلة الرسمية مزودا بكافة وسائل الإتصال اللا سلكية. كان بوسعي أن أحيله كما يقال في مصر في مثل هذه المواقف إلى "ستين ألف داهية". لكنه بدا لي فجأة بائسا فقيرا كما لو أنه يعاني من داء لا شفاء منه. كنت قد أخذت أبدو في عيني نفسي ولسبب ما مثل كلب امبريالي لا ينقصه الحماس أوالولاء. ابتسمت في وجهه. ثم قمت بنفسي بقيادته إلى باب الخروج المؤدي إلى منطقة "سان بونيفس". ولم أره بعد ذلك مطلقا.

عدت إلى المكتب ضاربا الأخماس والأسداس، جلست لفترة من الوقت مطرقا أفكر في مغزى ذلك السلوك البشري المباغت، إلى أن رفعت رأسي، ودهمني منظر على احدى شاشات المراقبة جعلني أضحك كمجنون حقيقي. لم يكن مبعث الضحك سوى تلك الكاميرا التابعة لمصرف "تي.دي" نفسها.

ما إن يدلف الناس إلى المبنى، أويهمون بالخروج، حتى يقطعون تلك السلالم الحجرية المتعاقبة ركضا، وقد وضعوا أياديهم على أنوفهم من قوة الرائحة القوية المحبوسة النتنة التي كانت تنبعث من البراز المقنطر بكثافة، حتى أني تساءلت بعد أيام بيني وبين نفسي: لماذا يحب الناس روائحهم الخاصة بينما يكرهون روائح الآخرين إلى هذا الحد أوتلك الدرجة؟.

في تلك الأثناء، دلفت إلى المكتب زميلتي "سندي"، التي جاءت في ذلك اليوم لتعويض غياب "جيري" لأمر ما ألم به، وما إن أخذت بدورها حظها من الضحك، وقد علمت بحيرتي، حتى رفعت سماعة الهاتف، وأخبرت "الكنترول" بلهجة مهذبة أن شخصا ما أراح نفسه على السلالم المؤدية إلى مصرف "تي.دي".


بعد نصف الساعة تقريبا، أرسلوا لنا عامل نظافة تعود ملامحه إلى منطقة أمريكا اللاتينية، رأيته يؤدي وظيفته عبر الكاميرا كإنسان بلا أنف، وقبل أن ينصرف أخبرني من خلال الهاتف ألا أثر هناك "الآن" لما حدث، قمت باحترام كبير بتوجيه الشكر إليه بصوت يشبه صوت المذيع عبدالرحمن أحمد القوي راجيا له ليلة سعيدة.

يا لها من وظيفة.. يا لها من خرية تاريخية"!.


الخامسة صباحا في "أتوا". قبل قليل أيقظني صوت طائر جميل، لعله الكروان، لأن في صوته طلاوة أشبه بتلاوة شيخ حسن في كوستي. كل ذلك ذكرني أوراد أمي وهي تهمهم بها بعد صلاة الفجر. وجدتني أفتح باب المنزل الخارجي. لا تزال الأشياء في الحديقة غارقة في سكينتها وثمة عتمة خفيفة تخفي ملامحها. كان من الممكن بسط الذكريات فوق ملاءة الهواء الباردة.. التمعن فيها بحنو ومحبة.. والإنصات أكثر وأكثر لشدو الأشياء في سكونها الأبدي الخالد. لو لا أن عليَّ ملء بعض الفورمات ليوم ممل آخر.






يتبع:

Post: #91
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-22-2009, 03:48 AM
Parent: #90

Dearest: William,


Good morning my love!! I just thought I would explain myself a little better than last night. I just want you to know that I was not kidding about the love I feel for you. I felt like this for quite some time, but I have a weakness about expressing my feelings for someone. I just hope that god has some great things ahead for me and you together as a couple. That is if you still want to be with me. I totally understand that you have a lot of things going on in your life, but I just want to be a part of that and to help you through it. I am so sorry for the past on how I acted toward you. I just hope you can forgive me. I like how we discuss our issues, and we ask each others opinions. To tell you the truth I have never wrote a letter like this to someone I really care for. Also I felt very sad and betrayed last night when you told me you were in love with your cosin. I just hope that I can be the love of your life!! Also I tried calling you a lot of times when I was away, but there was never no answer and you know that I do not leave messages. I always thought of you when I was away and I even called you on Valentines Day to see if you wanted to be my date for dinner. I tried to call you over Christmas, but there was still no answer. So you can not say that I didn’t think of you, because you were always in my mind. I even thought of you when I heard Bob Marley!! I believe that if were a couple we can accomplish a lot of things that we never thought possible. I just have to let you know that I can not be the second one you love; I always have to be the first!!
I am terribly sorry for my past but I can not change that now.
Well wake me if you have any questions about what I had to say
I LOVE YOU William!!




LOVE






يتبع:

Post: #92
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-22-2009, 02:47 PM
Parent: #91

Dearest: William,


Good morning my love!! I just thought I would explain myself a little better than last night. I just want you to know that I was not kidding about the love I feel for you. I felt like this for quite some time, but I have a weakness about expressing my feelings for someone. I just hope that god has some great things ahead for me and you together as a couple. That is if you still want to be with me. I totally understand that you have a lot of things going on in your life, but I just want to be a part of that and to help you through it. I am so sorry for the past on how I acted toward you. I just hope you can forgive me. I like how we discuss our issues, and we ask each others opinions. To tell you the truth I have never wrote a letter like this to someone I really care for. Also I felt very sad and betrayed last night when you told me you were in love with your cosin. I just hope that I can be the love of your life!! Also I tried calling you a lot of times when I was away, but there was never no answer and you know that I do not leave messages. I always thought of you when I was away and I even called you on Valentines Day to see if you wanted to be my date for dinner. I tried to call you over Christmas, but there was still no answer. So you can not say that I didn’t think of you, because you were always in my mind. I even thought of you when I heard Bob Marley!! I believe that if were a couple we can accomplish a lot of things that we never thought possible. I just have to let you know that I can not be the second one you love; I always have to be the first!!
I am terribly sorry for my past but I can not change that now.
Well wake me if you have any questions about what I had to say
I LOVE YOU William!!

Post: #93
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-22-2009, 04:06 PM
Parent: #92

كنت أجلس على بلكونة صحبة أصدقاء. على المائدة شراب مشكل وطعام طيب ترفده الونسة فتشعر بين وقت وآخر وكأن الفناء لا وجود له. ولم يخطر على ذهني مطلقا أنني مقبل بعد ثوان قليلة نحو غرام من نوع فريد.

آنذاك رن جرس الهاتف على حين غرة. أمسك صاحب الشقة السماعة المتحركة. أخذ يتفوه ببعض المجاملات قبل أن يمرر لي السماعة في صمت. وسط أجواء محتفلة على الجانب الآخر تطغى عليها أصوات نسائية مرحة أطلقها السكر، جاءني صوت صديقي عمر مبتهجا على غير عادة لهجته الجافة. بدا لي ذلك كسلوك صادر في أحيان كثيرة عن خبرة أنهكت صاحبها صدمات في الناس بلا نهاية أوحدود فآثر أن يحمي ذاته بستار كثيف من القسوة الظاهرية. هكذا، يبدو العالم كمجال غير صالح للتعامل بطيبة آسرة أومحبة.

طلب مني عمر وقتها أن أحضر في الحال و"على جناح السرعة". سألته وسط ضحكاته الصاخبة الرنانة لماذا يا عمر. قال إن جارتين تزورانه للمرة الأولى من دون سابق موعد أومعرفة. وقد أحضرتا معهما من الشراب ما يجعل جيشا يسير بعد ساعات معدودة على رأسه. آنئذ حملت سماعة الهاتف وذهبت إلى غرفة داخلية. قلت له وأنا أغلق الباب جيدا ورائي ولكنك لا تشرب. قال اشرب أنت فقط معهما وأنا سأنتظر. وسألته بغباء متعمد وأنا أكتم ضحكة كعادتي حين يبدو لي العالم على درجة من البراءة قائلا وما الذي تنتظره يا عمر بعد شرابي مع ضيفتيك. انتهرني وهو يمضي في صدقه البهي قائلا على حافة اليأس والرجاء: "حامد، يا أخي، إنت بليد ولا شنو"؟.

كنا أنا وعمر وقتها حديثي عهد بمعرفة كل منا بالآخر. وما صداقتنا آنذاك إن جاز تسمية ذلك صداقة سوى نوع من خوف غريزي للعيش في صورة قطيع في بلاد لا تشبه مطلقا منابت جذورنا البعيدة النائية في شيء.

عدت إلى البلكونة، حيث كان أصدقائي كسياسيين سابقين يتداولون أمرا حول أسعار الدولار "هذه الأيام" في السودان، بعد أن فرغوا للتو من الحديث عن الشراك اللازمة لإغواء "خواجية" تسير بصحبة كلب في شارع عام، وبدا أن جلستهم أخيرا في سبيلها إلى التحول إلى شيء آخر حزين، عندما أخذ إثنان منهما في التراشق اللفظي فجأة، وكان ذلك مدعاة للإنزواء ومحاولة التطلع من فوق فروع شجرة الآش القريبة إلى منحنى الشارع البعيد المعتم.

أوضحت ل"عمر" أني لا أستطيع الحضور "الآن" للأسف الشديد. وطلبت منه أن يدع إحدى الفتاتين تتحدث إلي. حين أنهيت مكالمتي الأولى مع "أماندا"، مرت نحو دقيقة على الأكثر، قبل أن يأتيني صوت عمر مرة ثانية حاملا كل تلك الحسرة اللا نهائية على أمل بدا قريبا ثم ابتعد إلى حين: "يعني الليلة نبيت من غير عشا يا حامد". أكدت له أنه ليس من العدل أن أترك دعوة أقامها لي أصدقاء على وجه الخصوص. ويبدو أنه لم يجد غير تلك الكلمات كمتنفس لغضبه: "لا تخبرني عن صداقة في الدنيا دي". ثم أغلق سماعة الهاتف فجأة. جلست لثوان داخل الغرفة محاولا تجنب التفكير في ما حدث ما أمكن.

أليس مساء الغد بقريب؟.




يتبع:

Post: #94
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-22-2009, 10:58 PM
Parent: #93

Dearest ; My future husband,


I know I am guilty of leaving you to wonder what happened to me,
I am also aware of the feeling that you had for me, I hope that you still feel this way about me, because I feel really strongly about me and you. I just want you to be your girlfriend or wife....

I am deeply sorry for the way I treated you in the past but everything is going to change. I am a new person and I am ready to start my life with a man that I really love and admire. I really admire you because you show and teach me things that I did snow!!
I really look forward to being your wife and mother of your children....


Our love appears to be greater than ever,
our love uplifts our days of struggle in life,
our love will be forever.
Nobody could ever invade the love that we share,
there is no one that can compare.
We share various bright and special times,
I do not think this a crime,
to love and cherish one another!!
My love for you grows each and every time I see your handsome face or hear your lovely voice.....

BAHIYBUK HABEBE

YOUR WIFE,






يتبع (سمانتا سمانتا):

Post: #95
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-23-2009, 03:39 AM
Parent: #94

لو تكرمت يا عزيزى عبدالحميد
ارجو وضع بعض صور الراحل العزيز بشار الكتبى .
وبعض صور أيام القاهرة .. مع كثير التقدير

Post: #96
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-23-2009, 03:42 AM
Parent: #95

المحطة الاخيرة

غابرييل غارسيا ماركيز. في روايته الاخيرة «ذكريات عاهراتي الكئيبات» الصادرة بالانكليزية عن دار جوناثان كيب، بريطانيا، يتناول غابرييل غارسيا ماركيز عشق الاطفال كما لو كان من اكثر الاشياء بساطة، ابو الواقعية السحرية يتوقف عند السحر في غرام عجوز في التسعين (نعم) بفتاة في الرابعة عشرة، ويتجاهل بشاعة الامر وخرفه. يبدأ الكاتب الكولومبي روايته القصيرة بتقرير بسيط: «في السنة التي بلغت بها التسعين اردت ان اهدي نفسي ليلة من الجنس الجامح مع مراهقة عذراء». الراوي صحافي عادي مجّد شيخوخته في مقال علماً انه بدأ يشعر بالعمر عندما قال له الطبيب ان وجع ظهره طبيعي في الثانية والاربعين. «في هذه الحال، ما ليس طبيعياً هو عمري». في التسعين يرفض عمره ثانية بعد ان كان توصل الى «سلم مقدس» مع جسده طوال عقدين، وغيّبه خلالهما بالقراءة والاستماع الى الموسيقى. اراد فتاة يوم رغبته فيها ولم يطق التأجيل. مدام روزا تتواطأ كجنية طيبة مع إلحاح جسمه الذي يشبه «رسالة من الله». تجد فتاة فقيرة في الرابعة عشرة وتخدّرها لتحميها من عنف المواجهة المحتمل. يستكين «وجع المراهقة» فجأة لدى التسعيني، فيكتفي بمراقبتها والغناء لها ويغادر فجراً قبل ان تستفيق. يتكرر الامر ويعشقها، ويكتشف انه يفضلها حلماً لا حقيقة. عندما تتحدث في نومها يسمع لهجتها الشارعية ويتمنى ان تبقى نائمة. على ان الطفلة الغافلة تغير حياته. مقال الاحد يتحول قصائد حب تجذب القراء وتجلب له شهرة جميلة مفاجئة في آخر عمره.

«ذكريات عاهراتي الكئيبات» هي رواية ماركيز الاولى منذ عشرة اعوام. في 1995 اصدر «الحب وشياطين اخرى» التي تلاها عمل صحافي ادبي، «انباء خطف»، ومذكرات «أعيش لأروي القصة». الرواية الجديدة تفضح تعب الروائي البالغ الثامنة والسبعين، وتركز على المناخ وغنائية النص بدلاً من الشخصية والعقدة والتفاصيل. الراوي يعترف ببشاعته ويغفل عن حمى جسده القبيحة باعلائها. يترك الفتاة «سيدة عذريتها» في اقصى انكشافها وضعفها، ويحولها ملهمة تضيء آخر حياته بألق ابداعه الخبيء. نداء الجسد تحول نداء الروح، ومسيرته من منزله، الذي يوحي قدرة مادية اكبر من الواقع، الى دار المدام روزا كانت رحلة البحث عن ذات يجدها في المحطة الاخيرة.

سرق قراصنة الكتب في كولومبيا. نص الرواية قبل صدورها وباعوا النسخ خلال ساعات. غضب ماركيز وغيّر نهايتها وكوفئ باحتلالها قمة الاكثر مبيعاً في كاليفورنيا المكسيكية الاصل بطبعتيها الاسبانية ثم الانكليزية. اختار بطلها شيخاً جليلاً يشبهه وجعل الحب المستحيل فرصة المرء الاخيرة قبل الموت الواقف على العتبة.

Post: #97
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-23-2009, 03:48 AM
Parent: #96

ورشة غابرييل غارسيا ماركيز
كيفَ تُحكى حكايَة ؟




يقول ماركيز : ان كل قصة تحمل معها تقنيتها الخاصة ، والمهم بالنسبة لكاتب السيناريو هو اكتشاف تلك التقنية . وفي محاولة جديدة تتسم بالذكاء الحرفي عمل الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز على اختبار جدارة هذا التصور الفني عن الكتابة الإبداعية من خلال تأسيس ورشة لكتابة السيناريو يرتكز عملها بشكل مباشر على تحويل الفكرة النظرية إلى ممارسة كتابية متفردة تدخل في التفاصيل وتنقب عن الجودة حينما تبحث عن نواة قصة ما تروى بصورة جيدة طالما ان ليس هناك ما هو أسوء من قصة يجري تطويلها كما يزعم غابو ( الاسم الذي يطلقه أعضاء الورشة على ماركيز ).

في مدخل الكتاب يسرد " غابو " الكيفية التي ابتدأت فيها الفكرة هناك في مكسيكو حيث طلب منه إنجاز ثلاث عشرة قصة حب تدور أحداثها في أمريكا اللاتينية ، مدة كل واحدة منها نصف ساعة . ولمباشرة هذا العمل " اجتمع عشرة من العاملين في حقل السينما كتابة وإخراجا ، من أمريكا اللاتينية وأسبانيا في ورشة سيناريو يديرها ماركيز فيما يشبه فرقة أوركسترا صغيرة تبحث عن قطعة موسيقية ، تصوغها وتعزفها ، لكن الورشة هنا تبحث عن قصة أو فكرة ، تكسوها لحما وجلدا ، وتعطيها ملامحها الخاصة في سيناريو سينمائي – تلفزيوني ، يرسم الحدود المتصلة بين الأدب والسينما ". وكما جاء في التقديم فان أنصاف الساعات هذه تتبناها جهة إنتاجية تقوم بتحويلها إلى الشاشة باتفاق جماعي ، فيما تُخصص ورشة ماركيز ريع بيع هذه القصص لمدرسة "سان انطونيو دي لوس بانيوس " الدولية للسينما والتلفزيون . يدرك ماركيز ان متطلبات السوق اليوم تقتضي تقديم أعمال تتسم بالإثارة والتشويق والمغزى الواضح ، لذا نراه يحاول لفت انتباه مجموعته إلى مبدأ صناعة نص أدبي – سينمائي جيد يتصف بالطرافة والإبداع والخفة من دون ان يتحول مبدعه إلى سلعة .

وقبل الشروع في العمل يشير ماركيز إلى نفسه قائلا : " ان اكثر ما يهمني في هذا العالم هو عملية الإبداع . أي سر هو هذا الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص تتحول إلى هوى يمكن لكائن بشري ان يموت من اجله ، أن يموت جوعا ، أو بردا ، أو من أي شئ آخر لمجرد عمل هذا الشيء الذي لا يمكن رؤيته أو لمسه ، وهو شئ في نهاية المطاف ، إذا ما أمعنا النظر ، لا ينفع في أي شئ ؟ " ويمكننا ان نرى ان مجرد الرغبة في إنجاح عمل الورشة وتقديم نتائجها للقراء في سلسلة كتب إبداعية ، يعني إصرارا حقيقيا على مواصلة الحياة .

تبنى طريقة العمل في الورشة على الحوار الصريح والجاد وبمشاركة جميع الأعضاء ، حيث يباشر أحدهم بطرح فكرة ما أو اقتراح صورة مشهد ، يتلقفها الباقون ويطورونها إلى أقصى حد ممكن ، مع محاولة تفكيك القصص واعادة تركيبها من جديد ، ثم تأخذ الفكرة / القصة بالتداول فيما بينهم بحيوية وجرأة تكسبها جمالا وتأثيرا ملحوظين ، وعندما يحين موعد نضجها ، تتركز جهودهم لاعادة صياغة البناء وتشذيب الأحداث والشخصيات بما يجعلها ذات سياق قصصي متسق يصلح للعرض على الشاشة .

أما في حال لم يتوصل أعضاء الورشة إلى صيغة نصية متفق عليها ، وأخذت الفكرة تنتقل بينهم من دون ان تتطور ، فمعنى ذلك ان ثمة خلل ما في الحكاية ، ويفضل تركها إلى حين . ولكي لا تتكرر الأخطاء يشير ماركيز إلى فكرة الاستبعاد ، داخل النص أو خارجه ، فإذا أحسست ان هذا الجزء غير ملائم ، لا تحاول ان تتمسك به عنوة ، فقط لأنك أنجزته . ونراه يلمح في مكان آخر إلى ان " الكاتب الجيد لا يُعرف بما ينشره بقدر ما يعرف بما يلقيه في سلة المهملات " . ومن سياق مقارب يحث ماركيز أعضاء الورشة على المضي في الطريق السليم مذكرا : " ان على أحدنا حين يكتب ان يكون مقتنعا بأنه افضل من سرفانتس ، أما عكس ذلك فان المرء سينتهي لان يكون أسوء مما هو في الواقع … فمن الصعب العثور على قصة لا تتشابه بطريقة ما مع أشياء كثيرة " .

وعند اكتمال القصة توكل لأحد الأعضاء مهمة إعدادها كسيناريو سينمائي أو تلفزيوني . ويشدد ماركيز غير مرة على فكرته الرئيسة بطرق مختلفة تتلخص في قوله : " إذا كانت لدى المرء قصة جيدة ، يمكن ان تروى بطريقة واضحة وبسيطة ، فعليه ان يتجنب تعقيدها " . ورغم ان اغلب الاعتبارات التي توجه صياغة القصص في ورشة ماركيز هي اعتبارات فنية سينمائية ، لكن شواهد الخبرة الأدبية الواسعة يجري اعتمادها أيضا وبشكل أساسي ، فالعمل السينمائي والأدبي متلازمان في جوانب كثيرة رغم اختلافهما البائن في أمور عدة … لقد كان غابو - كروائي مولع بالخرافة الواقعية - يعتقد بنقطة جوهرية تتمثل في " ان السينما تحب المبالغة ، لكن ليس بمقدار ما في الواقع من مبالغة " .

ان خبرة ماركيز كأديب محترف له تجربته الخاصة تهيمن على حوارات الورشة وتستحث جهود المجموعة على الاقتراح والمبادرة والتفكير بأفق مبدع ، لذا تستحق ان توصف بأنها دروس أدبية وفنية لها أهميتها ودورها التحفيزي ، خاصة وهي تتلبس بحس جدلي غير مفتعل شكل الملاحظة المشاكسة أو الجزم بأمر مرفوض فنيا ، من دون ان يقلل ذلك من شان آراء الآخرين التي تبدو لماحة وذكية عندما تكشف عن خبرة واسعة في مجال كتابة السيناريو وتأثيث المشهد السينمائي بثراء صوري مدروس .

ثمة دروس عدة يمكن لماركيز ان يقدمها لكتاب القصة أو المشتغلين بالسيناريو ، واهم تلك الدروس هو تحسين قدرة الكاتب على الإيجاز والترميز ، " فلابد من إقرار المستويات والأوزان في القصة ، مثلما هي الحال في الملاكمة " بتعبير غابو . بمعنى تكثيف انتباه القاص إلى مسار قصته حتى لا يضطر إلى التفكير لاحقا بوضع طريقة لإنقاذها من المأزق . هكذا يكشف لنا ماركيز عن سر الكتابة الجيدة والتي تبدو التزامه الوحيد ، بالقول : " إذا كنت لا تستطيع رواية قصة في صفحة واحدة ، فاختصرها إلى صفحة واحدة " . الارتكاز على مقدرة الخيال للّي الواقع مسألة مهمة بالنسبة لأي كاتب ، بقدر أهمية إيمانه بما هو فاعل ، فأية قصة خرافية ، ستصبح حقيقة تماما طالما آمنت بها .

في الصفحات الأخيرة يستعيد ماركيز أمام أصدقائه ردود فعله على قرار منحه جائزة نوبل، بالقول :" يا للعنة ، لقد صدقوها ! لقد ابتلعوا الأكذوبة ! هذه الجرعة من عدم اليقين رهيبة جدا ولكنها ضرورية في الوقت نفسه لعمل شئ جدير بالعناء . أما المتعجرفون الذين يعرفون كل شئ ، والذين لا تراودهم الشكوك مطلقا ، فيتلقون صدمات مروعة ، ويموتون بفعلها " .

ليس من المبالغة القول ان هذا الكتاب يعلّم الأديب والسينمائي اكثر مما تعلمه الكتب النظرية على كثرتها ، ولأسباب تتعلق بطريقة تأليفه ، وللدقة نقول طريقة مونتاجه ، بوصفه عمل جماعي يرتكن إلى الخبرة والخيال معا .وقد ذيل الكتاب بأسماء المشاركين في الورشة والعاملين على مونتاج الجلسات .

بقي ان نشير إلى ان ( كيف تحكى حكاية – إصدار 1998 ) هو الكتاب الأول من أعمال ورشة ماركيز ، حيث اُتبع بكتابين هما على التوالي : ( نزوة القص المباركة - 1999) و ( بائعة الأحلام – 2001 ) وصدرت الكتب الثلاثة عن المؤسسة العامة للسينما في وزارة الثقافة السورية – سلسلة الفن السابع وبترجمة مبدعة للأستاذ صالح علماني .

Post: #98
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-23-2009, 03:54 AM
Parent: #97

بواسطة عبد الحميد البرنس
مشاهد أخيرة من حياة سامي سالم 51 2742 عبد الحميد البرنس 16-10-07, 05:16 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
رحم الله سامي سالم رحمة واسعة [ 1 2 ] 149 3513 عبد الحميد البرنس 22-09-07, 01:59 م
بواسطة خدر
رحم الله والد الزميل عبدالحميد البرنس [ 1 2 ] 185 4473 elsharief 20-12-06, 07:07 ص
بواسطة تماضر الخنساء حمزه
أبوجهينة.. عالم قصصي بديع عماده المحبة: 65 928 عبد الحميد البرنس 09-10-06, 04:37 ص
بواسطة ابو جهينة
إلهام... [ 1 2 ] 172 8947 عبد الحميد البرنس 15-06-06, 01:14 ص
بواسطة مجدي شبندر
إشراقة مصطفى حامد: يا آل كوستى ومحبيها.... تعالوا نشق نهرا فى قلب المدينة 68 2127 عبد الحميد البرنس 12-05-06, 08:38 ص
بواسطة الجندرية
رسالة حب للعالم 94 1654 عبد الحميد البرنس 19-04-06, 04:02 م
بواسطة elham ahmed
الشيء.. 26 779 عبد الحميد البرنس 14-02-06, 03:53 م
بواسطة عصام عبد الحفيظ
سجيمان 91 4530 عبد الحميد البرنس 02-02-06, 04:08 ص
بواسطة طارق جبريل
يا أنيس الحسن.. يا عالي المكانة.. ! 25 1130 عبد الحميد البرنس 18-01-06, 02:29 م
بواسطة Dr.Mohammed Ali Elmusharaf
تأملات في عالم "سي جي" الساخر 53 3121 عبد الحميد البرنس 10-01-06, 02:36 ص
بواسطة Hani Abuelgasim
بعد التحية.. إلى الأستاذة نجاة محمد علي [ 1 2 3 ] 205 5914 عبد الحميد البرنس 30-12-05, 07:20 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
الحاجة الماسة إليها.. 19 3267 عبد الحميد البرنس 27-12-05, 00:04 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
أشكر المهندس بكري لكرم لا أستحقه 17 1569 عبد الحميد البرنس 13-12-05, 08:50 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
إحترام [ 1 2 ] 102 4374 عبد الحميد البرنس 05-12-05, 04:57 م
بواسطة Abdalla Hussain
تعرفونهم من كتاباتهم: (الطيب صالح.. صالح وطيب وإنسان)! [ 1 2 ] 134 7846 عبد الحميد البرنس 25-11-05, 04:35 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
القطاع ( تأملات حزينة ضاحكة في وجوه الهزيمة والرحيل) 25 1383 عبد الحميد البرنس 13-11-05, 07:43 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
كتب.. وكتبوا عن أدبه وعنه: في حضرة غابرييل غارسيا ماركيز 49 3802 عبد الحميد البرنس 12-11-05, 07:16 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
إعادة جذرية لرواية عنوانها: (السيرة العطرة للأمنجي السابق) [ 1 2 ] 137 6110 عبد الحميد البرنس 27-10-05, 09:45 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
أهلا أيها الوطن الجميل [ 1 2 ] 120 3886 عبد الحميد البرنس 22-10-05, 04:49 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
الأمنجي السابق وصاحبه الخليفة بدري ما بدري 3-5 53 2391 عبد الحميد البرنس 22-10-05, 03:17 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
الآن أتكلم بعد أن مر وقت من عواصف المنابر 54 3546 عبد الحميد البرنس 07-10-05, 06:24 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
أين حدود الفوضى والنظام.. سؤال لنقاش عام.. حال "المنبر العام" نموذجا. 37 1538 عبد الحميد البرنس 26-09-05, 01:43 ص
بواسطة عاطف حسن
وجوه من رحلة التعب [ 1 2 ] 107 4623 عبد الحميد البرنس 18-09-05, 03:24 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
أنا حزين الآن كما لم يحدث لي ذلك من قبل 19 1650 عبد الحميد البرنس 12-09-05, 08:46 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
الحنين إلى شيء يدعى الطعام 37 1708 عبد الحميد البرنس 09-09-05, 11:47 م
بواسطة waleedi399
في الحب والحنين (مساحة حرة) 87 1564 عبد الحميد البرنس 06-09-05, 07:24 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
الأمنجي السابق وصاحبه الخليفة بدري ما بدري 2 - 3 55 2015 عبد الحميد البرنس 03-09-05, 12:38 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
بيدي لا بيد عمرو هذه المرة.. 22 1880 عبد الحميد البرنس 26-08-05, 06:51 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
لكنكم قلتم ما بشاشا سوى كذاب أشر.. يا لكم من عقلانيين عرب! 87 2900 عبد الحميد البرنس 19-08-05, 11:48 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
الأمنجي السابق وصاحبه الخليفة بدري ما بدري 52 2269 عبد الحميد البرنس 16-08-05, 04:40 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
ما الذي ينشده البشر (من كتاب الحكم المتفرقة)؟!. 25 1214 عبد الحميد البرنس 02-08-05, 08:35 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
كنت أبحث عن سبب وجيه للبكاء 19 1365 عبد الحميد البرنس 01-08-05, 05:00 م
بواسطة على عمر على
كنت أشاهد الملايين عبر شاشة الفضائية.. 6 1444 عبد الحميد البرنس 01-08-05, 08:08 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
كنت في رحلة داخل كندا استغرقت أياما.. 94 3199 عبد الحميد البرنس 27-07-05, 09:54 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
والسؤال: أهي رؤى يسارية.. أم أفكار حديثة زائفة منتجة بعقل قديم.. 62 3412 عبد الحميد البرنس 26-07-05, 07:23 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
دعوة للتأمل في وضعيتي السجن والمنفى (إلى خطى الخواض كمشاء بين الناس والثقافات)!.. 47 1928 عبد الحميد البرنس 19-07-05, 06:44 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
في مقاربة الفعل السياسي عربيا.. دعوة أخرى لحوار هادف! 22 1469 عبد الحميد البرنس 07-07-05, 06:19 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
القاص المصري الساخر محمد مستجاب يودع العالم ضاحكا صاخبا كعادته.. 22 1929 عبد الحميد البرنس 04-07-05, 04:26 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
سلطة الحزب.. أوالجماعة في مواجهة الفرد.. من هنا تبدأ الأعمال الجليلة في التكون!.. 9 1342 عبد الحميد البرنس 04-07-05, 00:27 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
مقطع من سيرة العابرين 0 722 عبد الحميد البرنس 29-06-05, 08:10 م
بواسطة
رواية لحرب بعيدة جدا 6 1069 عبد الحميد البرنس 29-06-05, 04:34 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
أنصاف مواهب.. عقبات مزمنة.. طموحات كبيرة ووسائل محدودة.. وأنفس مهترئة بمشاعر سلبية كالحسد!. 44 3197 عبد الحميد البرنس 18-06-05, 11:00 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
من (كتاب القاهرة الطيبة) - 1 5 1219 عبد الحميد البرنس 15-06-05, 02:38 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
فضاء يصلح للتنفس سرا.. 2 1044 عبد الحميد البرنس 10-06-05, 10:45 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس
إني لأجد ريح نهلة.. 37 3119 عبد الحميد البرنس 09-06-05, 05:13 م
بواسطة عبد الحميد البرنس
زاوية لرجل وحيد في بناية.. 20 1542 عبد الحميد البرنس 09-06-05, 08:31 ص
بواسطة عبد الحميد البرنس

Post: #100
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-23-2009, 04:23 AM
Parent: #98


نحن ضحاياه لا نعلم له إسما محددا. كل ما نعلمه أنه حمل خلال حكم المشير فحل بلد أم تور جاموس الثالث عشر إسم "الأمنجي". وذلك قبل أن يحمل بعد سقوط ولي نعمته عند منتصف الثمانينيات تقريبا بثورة شعبية تمت سرقتها في المهد إسم "الأمنجي السابق". وإن حمل خلال طفولته كما يرى العارفون أسماء عديدة من بينها إسم "الناظر الرهيب". والمراقبون لاحظوا أيام جبروته أن صورته كانت تظهر في الصحف حاملة أسماء ورتبا مختلفة. كانت تلك الصور تظهر في العادة ضمن القائمة السنوية التي كان يصدرها مكتب المشير آنذاك لأمنجية أنجزوا خدمات للنظام تطلق عليها الصحيفة الوحيدة في البلاد دائما صفة "جليلة". لكن بعض الناس الذين نالوا حظا من علم النفس ينفون أن يكون الأمنجي السابق قد ظهر حتى ولو عابرا عبر جهاز إعلامي ما. كأن يقف كجزء ضئيل من خلفية مبهمة مكونة من آلاف الأوجه المجهولة أثناء تصوير المشير وهو يتفقد الجماهير في منطقة تشابه مدينة واقعية. ذلك أن للنظام مدن سرية تشبه المدن التي يراها التلاميذ في الخريطة أثناء حصة الجغرافيا. كان يدفع إليها بالكثير من الأمنجية وأسرهم ليلا ليستقبلوا المشير في الصباح كسكان أصليين على وجوههم آثار النعمة والولاء اللامحدود. وكان المشير لعدله يتجول بينهم بلا حراس إلى الدرجة التي كان يجلس معها على الأرض بين عمال الميناء بهيئاتهم النظيفة وأحذيتهم العسكرية السوداء اللامعة. ولأنه شهير بحب السيجار الكوبي الفخم كان هؤلاء العمال المزيفون يقدمون له سيجارا ثم يوقدونه بقداحاتهم الماسية وقد رسخ في وعيهم أنهم يقدمون بذلك صورة جذابة للعالم في الخارج تعكس درجة الرفاهية التي وصلت إليها البلاد في ظل حكومة المشير الرشيد. وكان أولئك الذين نالوا حظا من علم النفس يدافعون عن موقفهم بحجة أن ضحايا الأمنجي السابق ماينبغي أن يعتد بشهادتهم حين يتعلق الأمر بالسؤال عن أوصافه الدقيقة. ذلك أن ماأصابهم على يديه جعل بعضهم يهاب الخروج من بيته تحسبا أن يكون الأمنجي السابق قد تنكر وقتها في هيئة عمود للنور عند ناصية الشارع. وأكثر من ذلك أخذ أحدهم يتجنب زوجته في الفراش ظنا منه أن مايراه لم يكن سوى الأمنجي السابق متقمصا كافة تفاصيلها بعد أن تم إغتصابها ودفنها في مكان ما. حتى أن شفرات الغزل السرية بين زوجين لم تكن لتعيده إلى رشده بعد سنوات التعذيب الطويلة في السجن على يد الأمنجي السابق شخصيا. ومع أنه تجنب معاشرة زوجته في تلك الأحوال إلا أنه خلال ساعات اليوم الواحد لم يكن ليكف لحظة واحدة وبلا سبب من كيل المديح للمشير مؤكدا بصدق شديد تنكره لماض ثوري لم يدفعه إليه سوى الجهل وأولاد الحرام. لكن المرتابين ظلوا يسخرون في السر من كل تلك التأويلات "التي لا أساس لها في الواقع" على حد تعبيرهم. كانوا يستندون في ذلك على تاريخ الأفعال الصغيرة التافهة التي أشتهر بها الأمنجي السابق وسط مجموعات كبيرة من محدودي الدخل. لكن أكثر مايلفت الإنتباه من كل ذلك اللغط هو الإختلافات الحادة بين إفادات الضحايا خلال الأيام الأولى لتلك الثورة الشعبية حول لون عيني الأمنجي ومكانهما من رأسه المستديرة ككرة من المطاط. لقد دفعت القاضي أثناء محاكمة رموز نظام المشير إلى التشكيك بجدية لا تخلو من عطف في مدى مايتمتعون به من قوى عقلية. لقد كان من السهل للقاضي وقتها التصديق أن السماء أمطرت يوم ولادة الأمنجي السابق دما أحمر من وجود عينين في رأسه تبيتان كل ليلة في موضع مختلف ولون جديد. كان الأمنجي السابق مختفيا خلال تلك المحاكمات العلنية في مكان ما. وكان من نتائج ذلك أن قامت صحافة العهد الجديد حسب رواية الشهود بنشر صور لشخص مطلوب القبض عليه بألف هيئة من بينها صورة لمواطن بعينين أسفل ذقن حليقة. ويبدو أن المكآفات الكبيرة التي رصدت لهذا الشأن قد دفعت المواطنين إلى وضع النساء أنفسهن في دائرة الفحص والتدقيق. لقد كان بسطاء القوم في تطلعاتهم المشروعة للثراء يدافعون عن أنفسهم حين يبطحون سيدة ما على قارعة الطريق قائلين ليس غريبا فعل ذلك على شخص له عينان في الجمجمة. لكن أكثر ما غاظ خالي حسين الذي ورث من جدتي المجرية زرقة عينيها المستديرتين تلك اليد الغليظة لرجل يقف في الصف إلى يساره أثناء صلاة الجمعة التي أحكمت قبضتها قبيل أن يفرغ الأمام من الصلاة على عنقه تماما قبل أن يتكشف لصاحبها الذي باغته لون العينين خلال الخطبة أن الأمنجي السابق ما كان له أن يتواجد داخل مسجد لأسباب خاصة وإن بدا على وجهه أنه غير مقتنع تماما بوجود عينين زرقاوين لبشر سوي في هذه الحياة. الأمنجي السابق أفصح بنوع من الفخر في لحظة سكر جمعته بمنفيين يقضون سحابة نهارهم داخل سوق تجارية ضخمة في تذكر نضالاتهم القديمة بشيء من الأسى أنه كان يتنكر وقتها في هيئة جامع قمامة في مصلحة البلدية مستغلا معرفته بالإختلاسات الضخمة لمديرها خلال العهد البائد. ويبدو أن المنفيين كانوا في حاجة ماسة إلى ذكرى حية من ذلك العهد لتصفية حسابات تاريخية عجزوا عنها وقتها فكانوا يصفعونه بلاسبب على وجهه أحيانا. وكان هو يتقبل ذلك بتسامح كبير خوفا من قذفه إلى التفسخ في عزلة مطبقة مليئة بالكوابيس الليلية لضحايا دفنهم من قبل أحياء فعادوا الآن في هيئة أشباح يزعجون ماتبقى له من سنوات ولاهم لهم سوى ملاحقته إلى نهاية العالم. لكن ماحدث أثناء ولادة الأمنجي السابق على يد الداية أم صدير أمر يفوق الخيال.

Post: #101
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-23-2009, 04:27 AM
Parent: #100


كان المنفيون في تلك المدينة الكندية الصغيرة كثيرا ما يتبادلون بأسى متزايد خبز ذكرياتهم حول منافي وسيطة في مكان ما من العالم كانوا قد مروا بها أوأقاموا فيها لفترة في طريقهم إلى الحرية قبل أن ينتهي المطاف بهم إلى أبعد نقطة من الوطن في وظيفة هامشية كغسيل الأطباق في مطعم فخم عدا الأمنجي السابق الذي ظل لسبب ما محتفظا بصمته حول هذه المسائل وقد لف وجوده خلال سنوات ما بعد سقوط المشير بغموض ملغز وغير مبرر تماما في بلد عادة ما يتبادل عشاقها القبل والأحضان الساخنة في ميادين عامة ولا يبالون.

واللافت أن أغلب الذين جاءوا من منفى وسيط مشترك كانت علاقاتهم فاترة يشوبها شعور ما بالمرارة وقد بدا وعلى الدوام أن ثمة حواجز غير مرئية كالخيانة كانت تنهض فيما بينهم في أكثر لحظات إندماجهم في منفاهم الجديد تسامحا. أجل.. الآثار تبقى على جدار الروح. ولابد أن أشياء حزينة قد حدثت في تلك المنطقة من الذكريات لايتم الكلام حولها سوى عبر ذلك الهمس المثقل داخل غرف مغلقة بمشاعر لو سارت نحو جبل لأحالته إلى هشيم وندف صغيرة كابية. لقد كان البأس على أشده على وجه الخصوص بين أولئك المنفيين الذين سبق وأن جمعتهم مدن كبيرة مثل القاهرة وكانوا سوى النضال الذي تحول بمرور الوقت إلى حروبات داخلية صغيرة طاحنة بلا موارد مالية تكفي حتى للبقاء على قيد الحياة أحيانا. ربما لهذا كان الهمس يدور غالبا حول بيع صداقات بوجبة طعام رخيص بدم بارد وضمير خال تماما من الرأفة أوالتأنيب.

ويبدو لي الآن وأنا أتأمل تفاصيل هذه اللوحة من بعد أن الدعاة إذا ما فقدوا رسالتهم إلى العالم في يوم ما سيتحولون رويدا رويدا إلى كائنات جحيمية صغيرة مهمتها أن تصنع الأذى مدفوعة برغبة لا نهائية في التدمير أوالإنتقام. لعل ذلك ما يقودني أحيانا إلى التفكير في تلك الخطورة التي يولدها الشعور بفقدان المعنى في حياة الناس. أجل.. لابد أن أشياء بائسة كتلك ستحدث. على أية حال بدا المشهد يتكشف برمته مثل أرضية ملائمة أعادت إلى الحياة وبقسوة تلك المواهب الميتة للأمنجي السابق وصاحبه الخليفة.




كالأسى، لايزال الجليد يتساقط وراء النافذة الزجاجية. الشقة دافئة. وهناك، في مكان ما داخل نفسي، أشعر ببرد غريب، جلبت له منذ قليل صور ماركيز وهيغل وأمي، وضعتهم أمامي على المكتب، وربما أجلب لوحة فان جوخ (نجوم الليل) من الصالة. ومع ذلك، البرد ما ينفك يزداد. ولا أدري الآن من أي مكان من الذاكرة ولأي سبب يتناهى في هذا المساء المقبض الحزين صوت نيتشه عابرا بقوة لحظة الميلاد حطام كل تلك السنوات والذكرى: "الحية التي لا تستطيع أن تغير جلدها.. تهلك. كذلك البشر الذين لا يقدرون أن يغيروا آراءهم.. لا يعودون بشرا. بقدر ما نصعد عاليا.. نبدو صغارا لهؤلاء الذين لا يعرفون أن يطيروا".




يا لحصاد السنوات!!!.




كنت قد هبطت إلى تلك المدينة ذات مساء ممطر بعيد ضمن فوج صغير من اللاجئين بعد رحلة طويلة وشاقة تماما. ولم يكن يخطر في ذهني أبدا أن يكون الأمنجي السابق قد سبقني إليها بأعوام كنت خلالها أحاول عبثا الشفاء من آثار حروق طبعها تعذيبه على روحي في زمان برز أمامي دفعة واحدة حالما وجدته في استقبالي ضمن مقيمين آخرين وكنت قد ظننت أن ماهربت منه قد تركته ورائي مرة واحدة وإلى الأبد. أجل.. هذا زمان المهازل وغربة الأرواح النبيلة ولاعزاء.

Post: #102
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-23-2009, 06:27 AM
Parent: #101

العزيز عثمان:

لعل ما طرحته حول ماركيز هنا يجذب نقاشا. للأسف لا توجد لدي هنا صورة للراحل بشار. سأعمل في سبيل ذلك. فقط ألفت الإنتباه إلى أن إعادة نشر النصوص هنا ليست مطابقة تماما لما هو متواجد في الإرشيف. إنني دائم العمل على نصوصي حذفا أوتعديلا أو اضافة مثل هذه:



حوالي الثالثة صباحا، والعاصفة الجليدية المستعرة لا تزال تولول في الخارج مثل حرب ضروس لا أبطال لها، تناهى طرق على باب غرفة النوم ذات النوافذ الزجاجية الواسعة، قبل أن يطل وجه "سمانتا" من داخل تلك العتمة. "وليم.. أماندا... أشكركما..... لا بد لي أن أنصرف الآن". بعدها تناهى صوت باب الشقة وهو يفتح ويغلق. كنا قد تركناها تنام في صالة المعيشة على كنبة درجنا أحيانا على ممارسة الحب في رحابها. كانت قد جاءت وقتها للمرة الأولى والأخيرة زائرة على بعد خطوات قليلة من الغروب. بدت متعبة جائعة وعلى درجة من خوف غريب وغامض. كنت أتمعن في ملامحها العشرينية، حين تنهمك في حديث عائلي أوآخر مع "أماندا"، محاولا جهدي كله أن أعثر على تعبير واحد من تلك التعابير التي يمكن أن تلوح على وجه عاهرة محترفة. كانت ملامحها تبدو طفولية في كل نظرة. كانت تلوح لي دائما أشبه بطائر قضى سحابة يومه في عراء أصابته عاصفة رعدية. بدأت شيئا فشيئا أعود إلى النوم من جديد، حين تناهي صوت "أماندا"، مبددا أدنى إمكانية للنوم، قائلا برنّة أقرب إلى الرثاء: "مسكينة "سمانتا"، لم يتبق لها الكثير في هذه الحياة، لقد أصيبت العام الماضي بالإيدز".





يتبع:

Post: #103
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-23-2009, 07:04 AM
Parent: #102

كان لسان حال عمر، خلال ذلك المساء، وعلى مدار تلك الجلسة داخل شقتي ذات الغرفتين، ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة وثانية بثانية، يتمثل في هذه العبارة: " وبعدين، يا حامد، متين تخلسوا نضميكم دا، عشان أقوم أسوق القحبة دي لأقرب سرير". كان يقصد صديقة "أماندا" ذات الأربع والعشرين ربيعا: "جسكا".

لقد فعل يومها كل شيء لقتل الوقت. لم يترك نافذة وإلا أطل منها. دخل الحمام. توضأ. أدى صلاة العشاء في غرفة أستخدمها كمكتب. أخذ الهاتف وأجرى مكالمة دولية ما. ومع كل مساعيه الحميده تلك، ظلت الفتاتان تشربان كلما تقدم المساء مثل حوض رمل جاف في نهار قائظ. وكاد ذلك كله أن يذهب بعقله في ما بدا لي بغير رجعة. وقد اتضح لي تماما أنه لا يعرف لذلك الأمر سبيلا آخر سوى سبيل ديك الجن.

أخيرا، عدنا، أنا وأماندا، إلى الشقة، بمزيد من الشراب. كان يبدو على وجه عمر أنه قضى وطره من "جسكا". ولم يتبق له في عرفه سوى تناول طعام العشاء. "أماندا" لا تعطي نفسها بسهولة. ذلك ما رسخ في ذهني أثناء ذهابنا لجلب المزيد من الشراب. كان عليَّ لأرى النبع أن أنتظر لأكثر من عامين. كنت صيّادا بارعا لا ينقصه الصبر. وكانت فريسة شديدة المراس ولا هوادة.





يتبع:

Post: #104
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-23-2009, 08:16 AM
Parent: #103

9-1.jpg Hosting at Sudaneseonline.com








9-2.jpg Hosting at Sudaneseonline.com






bashar21.jpg Hosting at Sudaneseonline.com




http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&b...560833&func=flatview



هذه الحياة أخذت من بشار الكثير وأعطته القليل. كان رحمه الله مثالا شديد الندرة لما ينبغي أن يكون عليه الطليعي في مجتمع نام. أكاد أقول: "لم ار إنسانا آخر يعادله في روعة اتساق القول والفعل سوى أحمد عبد المكرم". بكلمة واحدة: يساري!.

Post: #105
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-23-2009, 01:20 PM
Parent: #104

يا عزيزى عبدالحميد
فى أنتظارك .
فى أنتظارك وبشار ذلك الجبل الضخم الذى رحل .

Post: #106
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-23-2009, 03:56 PM
Parent: #105

[redJack Armytage. Forward – an excellent player, a brilliant leader, and best remembered as the man who first organized a hockey in the City of Winnipeg on November 3, 1890 was the captain until retirement after 1897 season – one of his greatest games was on February 14, 1896 in a sudden death game for Stanley Cup when Armytage scored the winning goal in 2-0 victory over Montreal]


يتبع:

Post: #107
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-24-2009, 02:07 AM
Parent: #106


هذه الحياة أخذت من بشار الكثير وأعطته القليل. كان رحمه الله مثالا شديد الندرة لما ينبغي أن يكون عليه الطليعي في مجتمع نام. أكاد أقول: "لم ار إنسانا آخر يعادله في روعة اتساق القول والفعل سوى أحمد عبد المكرم". بكلمة واحدة: يساري!.

Post: #108
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-24-2009, 04:16 AM
Parent: #107

تسع ساعات بالتمام. هي عمر الوردية. عايشت خلالها زوال ذلك الوجود لحظة لحظة. منذ البداية قلت لزميلي "رايان" الذي أوصلني بعربة الشركة إلى الموقع (هذا مكان ميت). أومأ برأسه موافقا. وسرنا في العتمة المطبقة نتفقد الحضور الأكثر ميتة للأشياء. كان ذلك مشهدا من الحياة الأخيرة لأستاد هوكي الجليد العتيق في المدينة. "مراقبة الموقع، هذا كل ما عليك فعله". أوضح لي "رايان" مهامي كحارس خلال تلك الوردية، وانصرف. كان قد مضى نحو العام منذ أن تعرّفت على "أماندا". كانت تلاعبني عبر الهاتف من حين لآخر. مرة، تفاجئني بزيارة صحبة صديقتها "جسكا". نغلق علينا باب غرفة النوم. تضع صدرها الوافر المكتنز فوق صدري. تسند ذقنها المستديرة على ظهر يديها المشبكتين. تتأملني بعينيين واسعتين لا تكادان تستقران طويلا على ملمح من ملامح وجهي. هكذا، دائما، يبدأ حوارنا الجسدي المحموم بلغة خالية تماما من قواعد النحو أوالأخطاء الإملائية. كنت أصعد وأهبط بين وديانها إلى درجة الغليان أوالتشظي. لكنها أبدا لم تمكني من رؤية النبع لثانية واحدة. أثناء ذلك، كانت "جسكا" تصل إلى ذروة السعادة وهي تلتهم آخر ما تبقى لي من طعام داخل الثلاجة وخارجها.



يتبع:

Post: #109
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-24-2009, 06:22 AM
Parent: #108

كانت قد تبقت أيام معدودة على وجود ملعب هوكي الجليد القديم. كانوا في سبيلهم إلى إزالة عصر كامل من حياة لُعبة. كنت أتحرك وحيدا في مساحة تسع لأكثر من خمسين ألف متفرج. أية أفراح، أية هزائم، أية مآلات، أية آمال مرت عبر هذا المكان؟. النُصب التذكارية لكبار اللاعبين، أسعار الوجبات والمشروبات على قوائم الكافتريا الداخلية تشير بخطوطها اليدوية البارعة إلى ما قبل سيادة الحاسوب الآلي، مقصورات علية القوم الخاصة، دورات المياه العامة، غرف تغيير الملابس، عربة تكسير الثلج على الميدان المحاط بشبكة من القوائم الإعلانية القديمة، مقاعد المتفرجين التي تراكمت عليها طبقات سميكة من الغبار، موقف عربة الإسعاف الداخلي، أبواب الطواريء المتآكلة، صدى آلاف صيحات الإعجاب بحركة حاذقة من لاعب أوآخر، خطط المدربين. كل ذلك، سيذهب بعد أيام قليلة، مرة واحدة، وإلى الأبد. هناك، مثل صفعة رقيقة حانية، صفعة أشبه بتأنيب الضمير في صدر عابد زاهد أسكره رحيق إمرأة عابرة، أخذ ينبعث من داخلي صوت خفيض ساخر ظننت أني تركته ورائي في مجتمع أولئك المنفيين في القاهرة:

حامد عثمان، يا صديقي العزيز، أكاد أتخيلكم، يا معشر اليسار، جالسين ذات مساء، في أحد أيام الآحاد، بين أحضان ذلك "الامبريالي القابع وراء المحيط"، موائدكم عامرة بخيرات "العم سام"، تدينون "نظام العسكر"، بينما تحتسون الكؤوس المترعة بنشوة النبيذ الأحمر المعتق والوايت والبلاك والريد ليبُل والشيفاز. تثملون ببطء. على الطريقة الحديثة طبعا. وحين يشتد بأحدكم حنينه الثوري، يقف على رؤوس الرفاق القدامى التي أحناها السُكر، مرددا كلمات ذلك الإنسان الصادق النبيل:

أبانا الذي في المباحث
كيف تموت
وأغنية الثورة الأبدية
ليست تموت؟.




يتبع:

Post: #110
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-24-2009, 02:49 PM
Parent: #109

In Ottawa- go to the corner of Gerald ST. and Towle Ave and have your picture taken under the street signs





يتبع:

Post: #111
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-24-2009, 08:28 PM
Parent: #110

تابعت
الكاتب عبدالحميد وهو قد
كتب الكثير فى غربته . كاتب صاحب صنعة
ورائد فى حرفة كتابات المهاجرين الجدد .
.. عبدالحميد يعزز ذلك بما يتوفر لديه من امكانيات وحماس ولغات وخيال .

Post: #112
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-24-2009, 10:15 PM
Parent: #111

العزيز عثمان موسى:

أشكر لك ماقلته للتو في حق أخيك. هذا كرم حاتمي بامتياز أعتز به عن صدق شديد. بيد أني حين أكتب شيئا ما لا أكتب وفي ذهني أحد من الناس. إنني أبحث فقط عن معنى خاص لهذا العالم. الكتابة لدي في المقام الأول موقف من العدم. أحيانا تستهويني كلمات بورخيس "أكتب فقط كيما يخف مرور الزمن". تحية متجددة.

Post: #113
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-25-2009, 06:43 AM
Parent: #112

- "المجد قمة جبلية باردة، يا مستر هميد".
- "وكيف ذلك، ياجيف"؟.
- "كلما صعدت إلى أعلى تتساقط من حولك شبكة العلاقات الحميمة".
- "كالصداقة مثلا"؟.
- "ربما!، أتدري؟، أحيانا أتخيل العباقرة كمقامرين عظام، باعوا حاضرهم مقابل آتٍ مجهول، ولكن ما معنى أن تبيع اللحظة الراهنة مقابل شيء لم يولد بعد"؟.

كان ذلك بعض حوارات "جيف" المتقطعة معي. حارس من نوع غريب. أطلق عليه في سري أحيانا لقب "رجل التساؤلات المستحيلة". بعض الزملاء مثل "وين" الرئيس ظل يتعامل معه تعامله مع آلة يمكن الوثوق بها حين يتعلق الأمر بتنفيذ الأوامر بدقة. آخرون مثل "ليليان" كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى مرآة سحرية ما فتئوا يطالعون عبرها كل ما هو غريب الأطوار وغامض. كان "جيري" كلما رآه يرسم على جبينه شعور من يريد دخول الحمام على عجل. وهو لم يكن يكترث كثيرا. كنت تراه حين تكون الأوضاع في الموقع هادئة يطالع في كتب تحمل عناوين ظلت تدفع "ليليان" في أحيان كثيرة إلى مشاكسته بجدية تخفي الكثير من الخبث: "مستر جيف، بحق السماء، كم دفعت ثمنا (أعذرني) لهذا الهراء"؟.

ظل طلب "جيف" يشغلني طوال الأيام الماضية. ما إن أعبر سؤالا حتى أجد أمامي سؤالا آخر كبحر لا ساحل له. ما معنى أن أذهب إلى تقاطع شارعين أتخذ فيهما صورة وأرسلها له بعد ذلك. صديق قال حين أخبرته بطلب صاحبنا من دون أن أذكر له هويته إن ذلك طلب وراءه شخص عبيط ولابد. أدركت من إجابته برغم إهانته لشخص لا يعرفه أن المكان الذي أشار إليه "جيف" غير مهم إلى هذه الدرجة. لكني حين قلبت الطلب مرة أخرى تبين لي أن أحد الشارعين يحمل إسم عائلة "جيف". هكذا، أراد "جيف" أن يجعلني بعد تفكير عميق أن أبحث في تاريخ الشارع، لأتبين على نحو ما أنه من عائلة أحدثت أمرا هاما في التاريخ الكندي، وما وضعه الحالي كحارس بائس سوى خلل حدث فجأة في مسار جينات عبقرية. ومع ذلك، وكيما تكتمل الصورة في ذهني، تلزمني زيارة ميدانية في القريب إلى الموقع الذي أشار إليه "جيف" بغموض شديد.

أمس أصيلا، أجريت مكالمة هاتفية، أمكنني خلالها سماع صوت" جيري" الطيب المحب، بعد أيام من شقاء متصل بين مكاتب بيروقراطية عليك أن تجيب على أسئلتها المرهقة كشرط واجب للعبور نحو أية محطة تالية بوضوح ودقة، حتى أنني رأيت في المنام قبل يومين، وقد سألتني موظفة عجوز بمكر عن عدد الشعرات المكونة لفروة النمر الهندي في البنجاب على وجه الخصوص، قلت لها أن في جسد الإنسان مليون شعرة وقلب واحد، قالت أعرف تلك الحقيقة العلمية، لكنك لم تجب على سؤالي حول عدد الأقدام البحرية ما بين سدني وجزر القمر، عندها صحوت من نومي مكتظا بإرادة غامضة لمهاتفة "جيري" خلال اليوم بأية وسيلة. وقد كان.

كان "جيري" سعيدا وهو يلمس جدوى النصائح التي أسداها لي كصديق، بينما أحزنه أني لم أنصت جيدا لنصحه حول النظافة المطلقة لشوارع "أتاوا"، عندما علم أنهم فرضوا عليَّ غرامة لحظة أن وقع من جيبي منديل ورقي سهوا، وعلى أية حال تلك كذبة كان لابد منها لترسيخ الصورة الزاهية المتكونة في ذهنه عن المدينة منذ عقدين أويزيد، ولو أن "جيري" كان خبيثا لسألني عن قيمة تلك الغرامة، لكنه ظل على عهدي به مهذبا حتى النهاية. "جيري" عادة لا يتحدث عن الناس بخير أوشر، ربما لذلك آثرت ألا أسأله عن أحوال الناس هناك، خاصة ما حدث للعزيزة "ليليان" من تطورات في غيابي.






يتبع:

Post: #114
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-25-2009, 08:36 AM
Parent: #113

Hey baby....wats up....Why are you hating on my friends...you are the only one i go to bed with so you dont have to hate...Me and you are husband and wife so why are you trying to think that i am talking all the time to my friends.You are the one that is always on that stupid sudaneseonline....... So you shouldnt even talk!!!!!!! JUST REMEMBER I LOVE YOU AND ONLY YOU...





يتبع:

Post: #115
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-25-2009, 09:24 AM
Parent: #114

[Bفي تلك الليلة، كان بيني وبين عمر قليل من الصبر. كلانا سليل كبت مزمن عريق. السنوات العجاف مضت. واحة التحقق قاب قوسين أوأدنى. وتلك ثلاثون سنة. أمضيناها في صحراء شمسها الحرمان مشتعلة على مدار اليوم. رمالها نار الرغبة. ودابتها أمل في الله لم ينقطع.

كانت تشير إلى السابعة مساء، حين رن جرس الهاتف، وجاءني صوت عمر كالبشير، قائلا إنهم الآن في الطريق، قلت له "ابشر يا سيدي، فالطعام طيب، الشراب وفير، إضاءة حالمة، المكان نظيف، وبي توق إلى ونسة عجمية وغناء أعجمي ورقصة عجمية ، ثم الذوبان مع سيدة الغيب في لغة عالمية حتى مطلع الفجر". كنت متخما بقراءة مئات الرويات والشعر في وطني صنارة المثقفين على بوابة الإغواء. أخيرا جاءني صوته كضحكة طيبة أطلقها فم صائم في أعقاب نهار قائظ: " يا أخوي، كلامك سمح، علة يا زول جنس شِعرك دا، الليلة دي، سيبو تب، وعلي كمان الله إن شوفتهن بعد شوية علة تبول في لباسك عديل، يا زول أنا شغلة ما نجيضة ما بسويها تب، إنت عارفني كويس، وأنقول لك تاني: الشغل كلو حا يكون الليلة دي بس أمسك لي أضبح ليك من غير ففلصة كتيرة، اتفقنا يا زول"؟.


هكذا بدأ عمر ينسج أسطورته الخاصة في الإيقاع بالفتاتين، وقد تناسى أن الصدفة وحدها أوقعتهما في طريقه ليلة أمس، لكنها الرغبة العميقة التي كانت تظهر في ونساته للقيام بعمل بطولي خارق في زمن تلاشت فيه البطولات الكبرى تماما أوتكاد.

ما أثار إنتباهي بعد ذلك أن عمر كان غالبا ما يعبر عن تبرمه على رأس كل ساعة قائلا بالعربي الفصيح: "حامد، يا أخوي، الخدم ديل ما كفاهن شراب".

كان لون بياضهما في ط ز ا ج ة الحليب!.
]




يتبع:

Post: #116
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-25-2009, 04:54 PM
Parent: #115

نتابع لوحات البرنس

Post: #117
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 11-25-2009, 06:26 PM
Parent: #116

العزيز عثمان
العيد مبارك عليك
ربنا يحقق ليك الاماني
دي صورة من جامعة وينبيك
من امنيتي ازور كل الاماكن
التي مر بها البرنس



3408961298_40773b42d1.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

Post: #118
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-26-2009, 05:17 AM
Parent: #117

الأخت العزيزة الهام
كل عام انتى والعيال والبرنس فى امان .
وربنا يحقق كل الامانى .
..
كتابات عبدالحميد يجب أن توثق وتعلق .
أرجو دعمنا بالصور
تحياتى لكم جميعا

Post: #119
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Ahmed al Qurashi
Date: 11-26-2009, 06:40 AM
Parent: #118

كل سنة وانت طيب عثمان موسى

وكل سنة وانت طيب عبدالحميد البرنس

وعبركم العيد مبارك لكل زوار هذا البوست الفخم

Post: #120
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-26-2009, 07:10 AM
Parent: #119

أم العيال:

كل سنة أنتِ وعثمان والقرشي وزوار هذا البوست والناس بألف خير.

Quote: من امنيتي ازور كل الاماكن
التي مر بها البرنس


لقد كنتِ معي داخل جامعة وينبيك وفي أماكن أخرى كثيرة كحُلم غدا أخيرا حقيقة معاشة، فإذا الوحدة أنس والغربة وطن والحصار عوالم لا حدود لها. أحبك.

Post: #121
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-26-2009, 08:52 AM
Parent: #120

لم تكن مهنتي كحارس داخل ذلك المجمع التجاري الضخم خالية من متاعب. أحيانا، مقابل تلك الحفنة من الدولارات، كنت أقف، من الموت، على بعد خطوة واحدة. ذات مرة، تناهى طرق حاد على باب المكتب. لكأن أمرا جللا قذف بتلك المرأة الأربعينية إلى صميم واجباتي. كنت أقرأ وقتها بدافع الملل شيئا من كتاب كارل ماركس "الآيديولوجيا الألمانية". مجلّد قديم من الأسفار القليلة التي ظلت ترافقني من مكان لمكان. العلاقة ببعض الكتب، في حياة المنفيين الغرباء، تنمو شيئا فشيئا، إلى أن تتحول، بمرور الوقت، إلى روابط متينة أقرب إلى صلة الدم. بدا لي كتاب ماركس، في الآونة الأخيرة، بمثابة شيخ طاعن من أفراد الأسرة. لا جدوى عملية ترجى منه. لكن وجوده في حد ذاته أمر لا غنى عنه حين الحاجة الماسة لما يدعونه "الجذور". بينما تنتظر ابنتها لتقلها إلى البيت في سيارتها "الفورد"، سألتني عنه، "ليليان"، وهي تراه معي لأول مرة، وقد حاولت جاهدة فك طلاسم حروفه العربية، بلا جدوى. نظرت إلى صورة ماركس الباهتة على ظهر الغلاف. كانت ملامحه غائمة وراء الآثار المتراكمة لأصابع يدي. حين بدا لي في تلك اللحظة أشبه براهب طيب، قلت لها: "هذا، عزيزتي "ليليان"، كتابنا المقدس". قالت:


- "وهل يؤمن به الكثير من الناس هناك"؟.

- "بل ويعتقدون أن مجرد ترتيله سبب كاف لتقليل الفقر وفساد الحكام".

- "للأسف الناس هنا لا يبالون بالسماء كثيرا، هل تؤمن بالله"؟.

- "فقط، حين لا ينوب عنه الآخرون".

كانت مسيحية برأس ممتلئة بتفاصيل دقيقة عن فتيان أحلامها في زمان لم يعد له من وجود. إنها فرقة "البيتلز". آنذاك بدت متفهمة لإجابتي الأخيرة. كنت أدرك أن حيز المعلومات الضخمة في دماغها عن "جون لينون" و"بول مك كارني" و"جورج هاريسون" لم يتح لها في نهاية المطاف سوى هامش ضئيل للتفكير خارج ساعة قمار واحدة من كل أسبوع. فجأة، وهي تنظر إلى السقف متبرمة من تأخير ابنتها، وثمة شعور خفي بحب غامر يجتاحني صوب الله ، شرعت تغني بصوت أقرب ما يكون إلى الدندنة:


Ev'rybody's talking about
Bagism, Shagism, Dragism, Madism, Ragism, Tagism
This-ism, that-ism, is-m, is-m, is-m.
All we are saying is give peace a chance
All we are saying is give peace a chance
C'mon
Ev'rybody's talking about Ministers,
Sinisters, Banisters and canisters
Bishops and Fishops and Rabbis and Pop eyes,
And bye bye, bye byes.
All we are saying is give peace a chance





يتبع:

Post: #122
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-26-2009, 07:49 PM
Parent: #121

Dearest The Love Of My Life,


Hello baby!! I missed you all day today. I just wanted you to know that I will try my hardest to succeed in school and work. I want to be able to buy our children beautiful things that he or she desires.....
I love you so much Willim. I have to wait for my forms from back home. I will call my old work on Monday. Also I will call that school to see what their decision is on when I would start. Well your going to be home any time now I cannot wait. I want to kiss your




Love always your wife







يتبع:

Post: #123
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-26-2009, 11:43 PM
Parent: #122

اسعدنى كثيرا الدخول والتجوال
فى عالم الكاتب الجميل البرنس .

Post: #124
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-27-2009, 07:12 AM
Parent: #123

في ذلك المساء الخريفي البعيد، جلسنا حول مائدة داخل صالة المعيشة، أنا وعمر و"جيسكا" و"أماندا"، كانت تطل علينا، من جوانب مختلفة لوحة شقيقي فان جوخ "نجوم الليل"، أية أسطورة ملحمية للألم كانها، وزيتية لأخي "رينوار" تصور أوراقا نباتية تطفو فوق بحيرة ساكنة أول الفجر، لكنها تبدو متعبة بعد رحلة مع تيار كسول توقف بعد مسيرة استغرقت الليلة كلها، بينما مثلت صورة "بيكاسو" الأصلع قبل عقد أويزيد من موته نشازا لا أعرف كيف قمت بوضعه بيدي نفسها على الحائط الأوسط للصالة، كانت له هيئة محتال من نواحي "تورنتو"، لاحقا أخبرتني "أماندا" أن ملامحه تكاد تطابق ملامح رئيسها السابق في العمل. كان من المستحيل عليَّ، وأنا أسبح في وجه "أماندا" ذي البراءة، أن أتخيل، ولو للحظة واحدة، أنها كانت تعمل لبعض الوقت كتاجرة مخدرات صغيرة.

كنت قد قررت بيني وبين نفسي قضاء السهرة مع "جيسكا". لا يعقل أن أستأثر بالفتاة الأجمل: "أماندا". كانت نظرتي إلى جهود عمر في هذا الشأن أقرب إلى نظرة راهب. لقد أنفق جهدا طيبا وهذه ساعة الغنائم. لكني كإنسان أدمن فنون العيش في مكان ومراقبته في آن لمحت "أماندا" وهي توميء لصديقتها "جيسكا" أن تقوم من مكانها حول المائدة وتجلس مجاورة لمقعد عمر الذي فرغ في تلك اللحظة لقيامه بإعداد طبق طعام ل"جيسكا" التي أعلنت منذ الوهلة الأولى عن شراهة بدائية للطعام. "أماندا" عللت ذلك في ما بعد بأنها شعرت دفعة واحدة بوجود شيء يربط بيني وبينها، وأضافت بكثير من الصراحة أنها أحبت دائما رجالا من ذوي قامات طويلة. خفت أن تعلن رأيها هذا لعمر. لشقائه كان لا يعشق على قصر قامته سوى المرأة الطويلة. أنا أعشقها كيفما كانت. ولا أبالي حتى بوجود عاهة واضحة في موقع ما من جسدها الملغز مثل سر مكوَّن من آلاف الطبقات.. كل طبقة لها مفاتيحها الخاصة وأنغامها المختلفة.

لحداثة عهدي بالمكان، أولجهلي وقتها بأساليب عيش القوم، بدا لي بُعيد حضورهم أن اختياري لصانع الفرح، "موتسارت"، كخلفية موسيقية شديدة العذوبة، كان خطوة غير موفقة تماما، عندما أخرجت "أماندا" من حقيبة يدها أسطوانة غنائية جديدة للأمريكي "فيفتي سنتس". وطلبت بلباقة أن أقوم بتجريبها. خطفتها من يدي "جيسكا" التي شرعت منذ وقت في دفع جرعات متتالية إلى بطنها من "فودكا" محلية بنكهة البرتقال. وهي عائدة متمايلة مع لحن "الراب" الصاخب رفعت رأسها المثقلة، ورأت صورة الأصلع مفكرا، سألتني عما إذا كان "بيكاسو" وكانت تجهله تماما ينتمي لي بصلة قرابة ما، ويبدو أن مثل تلك الملاحظة قد دفعت عمر إلى الضحك بصوت دفع الفتاتين لثوان إلى التطلع إليه بدهشة وحيرة.

بدا واضحا، مع مرور الوقت، أن "أماندا" أخذت تلعب دور مندوبة مبيعات، وهي تسوِّق نفسها، على نحو بدا لي غامضا وقتها، لا كبضاعة إستهلاكية، ولكن كشيء دائم أبدي. كنت سعيدا في قرارة نفسي برغم شبح المبيت بلا عشاء تلك الليلة. لقد آن الوقت أخيرا ليعثر المنفي الغريب على من ستفتح له باب بيته من الداخل وتسأله في غضب مصطنع حميم: "أين تأخرت كل هذا الوقت"؟.






يتبع:

Post: #125
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-27-2009, 06:28 PM
Parent: #124

Hello baby! I was just missing you.... Your at work so I thought I would send you a sweet little e-mail!! Here is a poem I wrote especially for you.....




يتبع:

Post: #126
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-28-2009, 07:14 AM
Parent: #125

كنت في الصالة، والوقت ظهرا لا شمس له، حين غابت "أماندا" في غرفة النوم لدقائق، قبل أن تعود، وتجلس ملاصقة لي على تلك الكنبة. كانت ترتدي قميص نوم أحمر قصير أحاطت به حواف مشرشرة من الساتان الأبيض المورَّد. كانت حمالتاه الرقيقتان تبين وتختفي أسفل شعرها المنسدل على كتفيها في تراخ وكسل. وأنا أحس بدفئها يسري هناك، في دواخلي، مبددا بقايا وحشة بدت حتى عهد قريب مثل داء عضال لا فكاك منه، لمحتها من زاوية عيني اليمنى، وهي تفتح ما بدا لي بعدها ألبوم صور قديم، أخيرا تناهى صوتها بطيئا مثقلا بكل ذلك الأسى أوالحنين: "هذه صور العائلة، يا وليم"!.

كان وراء كل صورة حكاية ونظرة ساهمة إلى قطع الزمن المتجمدة.

"أماندا" في بص المدرسة الأصفر أيام الحضانة في رحلة ترفيهية إلى نواحي "شيروودبارك". كانت في نحو الخامسة، تعتلي كتف والدها أثناء مهرجان غنائي أقيم وقتها في حدائق "الفوركس"، ملتقى نهري "ريد ريفر" و"واسيني بويني"، تشير بيدها اليسرى إلى نقطة تقع خارج إطار الصورة، لكن وجهها بدا متجها إلى وجه أبيها الذي لم يظهر منه سوى حاجبيه الكثيفين. "أماندا" في نحو التاسعة، صحبة شقيقتيها "مليسا" و"مليشا"، يجلسن متقاربات أسفل شجرة آش عريقة نواحي "أوسبرن فيلدج".

أكثر ما أثار انتباهي، من كل ذلك، كان تلك الصور التي تجمع بينها وبين "سمانتا".

"مسكينة "سمانتا"، لم يتبق لها سوى القليل في هذه الحياة".





يتبع:

Post: #127
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-28-2009, 09:35 AM
Parent: #126

[redNOTHING UNUSUAL HAPPENED TO REPORT AT THIS TIME]






يتبع:

Post: #128
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 11-28-2009, 01:58 PM
Parent: #127

نتابع الرسم

Post: #129
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-28-2009, 03:13 PM
Parent: #128

العزيز عثمان:

إذا نظرت إلى ما حدث حتى الآن، حين يتعلق الأمر بنص (أيام في حياة حارس وحيد)، تجد أني قمت حتى الآن بتحويل ما تم في بوست "كنت في رحلة داخل كندا... (الإرشيف)" من صعيد دردشة أسفيرية إلى قالب سردي، سأمضي في العمل على هذا النص هنا كمرحلة تالية لتلك المرحلة ذات الدردشة، إلى أن أقوم تاليا بنقلة نوعية ثالثة تحتاج إلى الكثير من الوحدة والوقت، لكن قد يكون العمل هنا من الآن فصاعدا متسما ببطء أوآخر، سأصبر هذه المرة على هذا النص، لا أريده أن يكون مثل النص أدناه (تداعيات في بلاد بعيدة)، لقد لامني بعض أصدقائي الكتاب في القاهرة لحظة صدور مجموعتي الأولى أني لم أصبر وقتها على نص (تداعيات في بلاد بعيدة) حتى يصير رواية، على الرغم من أن البعض ذهب مغايرا. لا أدري لماذا لم اصبر وقتها على (تداعيات في بلاد بعيدة)؟. إنني أتحدث هنا عن النص الذي تحمل المجموعة اسمه لا عن المجموعة برمتها. على أية حال كل شيء قيل وتم All said and done بشأن تلك التداعيات. أشكرك على تنشيطي للقيام بالخطوة الثانية في مسار هذا النص. وهما خطوتان تمت كتابتهما على الهواء مباشرة. المرحلة الأولى كانت بواسطة لوحة مفاتيح مالك الموقع المهندس بكري أبوبكر. كنت أنقر على لوحة المفاتيح حرفا حرفا. لا سبيل هناك لحفظ أية مادة لإعادة تنقيحها لاحقا. لم يكن لدي برنامج للكتابة بالعربي حتى وقت قريب. مرة أخرى، أشكر لك عبء متابعة هذا البوست بمحبة. في ميزان حسناتك أبا عفان (وجه ضاحك). كثير تقديري واحترامي.

Post: #130
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-28-2009, 03:14 PM
Parent: #129

تداعيات في بلاد بعيدة

ثمة أشياء في الحياة ، قد نقترب منها تزجيه لساعة فراغ ، أو لمجرد قتل الدقائق في مدينة لا يحدث فيها أمر ذو بال ، نفعل ذلك في العادة مبتسمين ضاحكين ، يغرينا بريق مرح زائف، يلتف حولها كهالة من الضوء ، حاجباً ما خلفه من عذاب ، قد ننفق العمر كله محاولين الخروج بلا جدوى من أسر ويلاته الحالكة.

لو علمن ما يتبع ذلك السؤال ، لاعتصمن بحبل الصمت ، لما ألقت السائلة ما ألقت ، بل لتبدلت مصائر إلى غير ما ذهبت إليه أقدام أصحابها طواعية من شقاء ، ولست أدري حقاً يا أصدقائي إن كان ذلك ما يدعونه " الفخ "، أو سعي الضحية إلى حتفها راضية.

ما زال أمامنا وقت طويل ، لتجف بحيرة الدمع في أعماقنا، لنرى جوانب الصورة الأخرى ، لنتعلم عبر سعير المحبة متى يكون التجاوز بديلاً لانتحار القيم ، ربما أبصرنا آنئذ الجمال داخل ما يبدو ظاهره من الدمامة بمكان ، ربما أدركنا أن في العمر متسع لغير النزاعات الصغيرة، أو لربما أعرضنا حتى عن العميان الخالدين " الذين ما كان ينبغي أن نضع في أيديهم مشعل النور السماوي".

تلك إذن حكمة السنوات، عصارة التجارب ، وثمن المعرفة العتيق ، ومع ذلك ، لست على يقين من أن كل شيء كان لابد له أن يتم وفق ذلك النحو، الذي زلزل ثوابت مدينتنا الإقليمية الصغيرة الواقعة عند ضفاف النيل الأبيض مرة واحدة و إلى "الأبد"..... قد لا أخالني قلتها هكذا، دون غصة في الحلق، "الأبد!"، تلك الكلمة، ما إن أذكرها ، حتى يتغلغل في داخلي أكثر فأكثر ، جمرُ الأسى ، أو الشعور بزوال الناس والأشياء..... علىَّ الآن أن أدع أفكار الوحدة السوداء جانباً ، و أن أدلف إلى بيت الذكريات دون تردد ، أفتح نوافذه ، أبدد عتمة النسيان ، أكنس بأصابع الحنين ما تراكم من تراب الزمن ، أعيد للوجوه الغائبة رونقها القديم ما أمكن ، ولا أدري من أين أبدأ تفاصيل تلك الحكاية ؟!.




" كما يشاع لم يكن للكلب غرة بيضاء على جبينه " ، هكذا أخذت تستعيد ذات نهار قائظ بعيد تفاصيل فضيحة أحمد حسن ، التي حدثت أيام مراهقته ، و لم يتبق منها شيء ، في أذهان معظم الناس ، سوى ذلك " الاسم " ، الذي رافقه بعد مقاومة قصيرة و محدودة من جانبه إلى يومنا هذا : مُسيلمة الكذاب .

كانت الشمس تشتعل في منتصف سماء جرداء ، شجرتا النيم تقبعان على جانبي مدخل الدار ، تطلان على الشارع المقفر في هدوء ، لكأنهما سقطتا على حين غرة من لوحة رسّام أراد تصوير الحياة كبستان خال من الهواء ، و ثمة ديك حزين يرتفع صوته من مكان ما، أما أرض الفناء الترابية الكابية فكانت تلتمع بعشرات الشظايا الزجاجية الصغيرة المتناثرة هنا وهناك ، " إنه الصيف " ، علا صوت إحداهن لحظة صمت وهي تتأمّل العالم المحترق خلف النافذتين ، وبينما الحوائط تختزن الصَّهد لتنفثه بعد ساعات رئة المساء المعتمة ، ما كان بوسع أكثر الناس مقدرة على التوقع أن يتنبأ بما آل إليه مجلسهن من حوادث تبدو لي الآن مثل نغمة حزينة من أنين القوافل البشرية السائرة عبر القرون بلا توقف أو عزاء .

آنذاك كن مجتمعات داخل إحدى الغرف، أمي وأختاي الكبريان وجارتنا فاطمة وعانس على مشارف الخمسين تُدعى " وكالة رويتر المحلية " ،كن صامتات أغلب الوقت ،و الحق كانت هي من النوع الذي يشد إليه انتباه مستمعيه بخيوط محكمة من المتعة والسكون وإثارة الأشواق الدفينة، تعرف جيداً متى تصمت ، كيف تستعين بأصابعها النحيلة أو الرقيقة أثناء الكلام ، بل و أين تلقي بالمغزى الكامن داخل الحكاية ... أية حكاية ! .

لكأني أراها الآن ......

كسنابل القمح أواخر الشتاء ، ذاك لونها ، ممشوقة القوام ، ذات شعر ناعم ينسدل إلى أعلى ردفيها بقليل ، لها ابتسامة تثير الذعر والمسَّرة في آن ، فمها يتخذ في مناسبات عديدة هيئات الوَدْع تُلقيه على الرمل يد العرَّافة ،لا تكاد عيناها الواسعتان تستقران طويلاً على حال ، ولا أحد يعلم على وجه الدقة متى وأين وكيف محا ذلك الاسم اسمها القديم .

مازلت أتذكر توهج السعادة على وجهها حين يحدث في المدينة أمر ذو بال ، فذلك معول وحدتها ك " ابنة " وحيدة تعيش فيما يُشبه القصر ، أتذكر ذلك ، أتذكر حتى ما يُحكى عن موت أبويها الثريين في حادث غرق وقع قبل ولادتي بعام ، كل ذلك وغيره، مازلت أذكره بوضوح شديد ، لكنَّ أكثر ما يشيع الأسى في قلبي من هذه الذكريات ولا أدري لماذا هو علمي أن " وكالة رويتر المحلية " قد ماتت في منتصف العقد السادس من عمرها دون أن ينعم بستان جمالها الذابل لحظة بالماء المتدفق عبر قناة أحد أولئك الرجال ؟!.




على غير العادة ، خرج الحاج محمود مبكرا ً، بعد أن رأى في المنام كلباً أسود يضع في فمه غليوناً يتصاعد منه دخان رمادي ، جلس داخل الفرندة على طرف السرير متصالب الساقين واضعاً رأسه بين كفيه ، يُقلب في ذاكرته ما قاله ابن سيرين عن الأحلام و عيناه ترنوان إلى شيء أبعد من العتمة و الفناء و ذكرى زوجته و بناته اللائى تزوجن تباعا و غادرنه مع أزواجهن إلى مدن بعيدة ، أخيراً طفق يتوضأ وقلبه يحدثه أن كارثة ما في طريقها لتقويض سلام المدينة، "اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه"، هكذا تمتم ملقياً بذلك الأمر كله على كاهل الخالق ونهض.

لم يدم انتظاره طويلاً ، ما إن فتح باب الفناء الخارجي وسار خطوات في طريقه لرفع آذان الفجر ، حتى تجمد الدم في عروقه و توقفت أنفاسه دفعة واحدة ، إذ انشقت الأرض أمامه عن كلب أسود ، وقف على قائمتيه الخلفيتين لحظات ، ثم تلاعب بعينين متقدتين كعاشق قديم لا ينقصه الحياء ، قبل أن يمرق بذيل معقوف إلى أعلى في الاتجاه المعاكس كبرق ، حين التفت لم يكن ثمة شيء سوى السكون المخيم على امتداد الشارع الطويل المترب ، " اللهم اجعله خيراً " ، هكذا بالكاد خرج صوته ، ومع ذلك ، سرعان ما هدأ من روعه وغذى الخطى مواصلاً السير كمؤمن حقيقي .

كانت تقترب من الثالثة بعد منتصف الليل، ما زال في الوقت مساحة للتأمّل في مخلوقات الله والسير بتؤدة، المصابيح مطفأة داخل المنازل، أعمدة الكهرباء الأسمنتية المتعاقبة أعماها عبث الصبية النهاري " و لم يكن للمحافظ الطيب يد في كل هذا " ، أما البدر فكان يطل من حين لآخر خلل السحب السوداء السارية ببطء صوب الشمال، يختفي فتعتم الأشياء آخذة من جديد أشكالها المخيفة الغامضة، "الناس غافلون عن غايتهم، الآيات واضحة، لكن الحكمة لا يبصرها المبصرون، وتلك لعمري ساعة يذكر فيها اسم الله كثيراً"، هكذا همس الحاج محمود، مبدداً وحشة الطريق و بقايا الرؤيا المشئومة في خشوع، فاركاً بين يديه مسبحة الصندل الحجازية، ومغالباً تلك الدموع الحارقة التي ظلت تملأ عينيه كلما استشعر في أعماقه عظمة الخالق سبحانه وتعالى .

فجأة انتبه إلى حركة مريبة كانت تتناهى لاهثة من كومة الأوساخ المتراكمة أسفل سور المدرسة الأميرية الحجري القصير، في البداية، لم يخالجه الشك لحظة أن الشياطين تتناسل داخل تلك الخرابة في غفلة من عين الإنسان "الذي يمتلك مفاتيح السر منذ أن حمل الأمانة"، ثم، وبيقين تام و مثلما حدث مع الكلب الأسود توقف غير بعيد من الخرابة و قال : "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم " ، ولكن "أي شيطان لا يفر إذا ما أطلق عليه اسم الجلالة"، تساءل الحاج محمود وبدا القلق يساوره ، إذ لم يتغير شيء ، وأكثر من ذلك ظل اللهاث يتفاقم شيئاً فشيئاً .

شبحان غريبان من خيال العتمة، يلتحمان في وضع أكثر غرابة، لكأن القاذورات تحتهما سجادة حريرية يتمرغ فوق نعومتها جسدا عاشقين التقيا بعد طول غياب لم ينقطع خلاله نداء الشوق والوجد وظمأ رغبة لا رواء له، كان البدر محتجباً لحظتئذٍ وراء سحابة سوداء كثيفة، العرق يتصبب من جبينه وصدغيه مبللاً لحيته البيضاء المستديرة وقلبه يرتجف داخل صدره كأنف فأر حاصره قط في ركن ضيق، كان قد استنفد في تلك الدقيقة كل ما في جُعبته من آيات وأدعية مأثورة، وما إن قرر أخيراً مغادرة المكان بأسرع قدم لديه، وقد أدرك برعب مدى ضعف إيمانه الذي لم يصمد كثيراً إزاء "هذا البلاء الرباني اليسير"، حتى جاءه الغيث من السماء، حيث اندلق نور القمر المنير كاشفاً معالم الفصول الدراسية وتضاريس السور الحجري القصير و..... أدق تفاصيل الشبحين اللذين كادا منذ دقيقة واحدة أن يقلبا نظام العالم القائم في ذهنه رأساً على عقب .

رويداً رويداً ، تنفس الصعداء ، لقد وضح له الأمر جلياً ، لبث ساكناً مسافة يلفه الغضب و الحنق و الذهول و تخاذل إيمانه في اللحظة الأخيرة ، أخيراً عقد عزمه فتقدم وسط الأوساخ شاقاً طريقه كثعلب يقترب من حظيرة الحملان بحذر وخفة، كان بينه وبين الشبحين خطوة واحدة، حين تبين وجه أحمد حسن على نحو شديد الوضوح، "ذلك الفاجر"، قالت "وكالة رويتر المحلية"، ثم رمت نظرة نافذة متناوبة على وجهي أختيَّ جعلت الكبرى تتأمّل أظافرها المطلية حديثاً بينما تغير وجه أمي قليلاً حالما رأت الأصغر تبادل "وكالة رويتر المحلية" نظرة الند للند بل صعدت إلى حصان جرأتها المعهودة حيث مدت عنقها إلى الأمام وقد خيل لي أنها قد تتحول في أية لحظة إلى أذن فيل ضخمة لا محالة ، أما جارتنا فاطمة فقد كانت لا تزال تبتسم بعينيها الجميلتين دون أن تنفك يداها من تهوية وجهها بكتاب : " ألف طريقة لصناعة الحلوى " !.

كان نصفه الأسفل عارياً إلا من سرواله الساقط عند كاحليه، جلبابه يتكوم ما بين الصدر والعنق، عيناه شاخصتان في البعيد، بينما ينغرس فكه في الظهر المائل لحمارة أمينة الفراشة التي أغمضت عينيها نصف راقدة وأرخت أذنيها الكبيرتين وراحت تلوك شيئاً ما ببطء وتلذذ غريبين أثارا وزادا من غضب الحاج محمود الذي وطأ أثناء سيره الحذر داخل كومة الأوساخ على جثة فأر متفسخة، وبدا وكأن الحمارة قد تعودت على مثل هذه الممارسة الاستثنائية منذ زمان بعيد.

كانت المنازل الساجية قبالة سور المدرسة شهود عيان، أوصدت الشماتة والخوف والدهشة آذانها، فبدت غير عابئة بضربات المسبحة المتساقطة على رأس أحمد حسن الذي انتزع نفسه وجذب السروال وأسدل الجلباب في ثانية متقهقراً نحو السور بما تبقى له من عقل، لكأن الحمارة التي لا تزال محافظة على هدوئها ، لم تسمع بدورها كل ذلك النداء الخافت المستغيث الحار: "الستر.. الستر الستر.... يا مولانا..... وربَّ الكعبة الشريفة.... لم أفعل هذا المنكر الشنيع بمزاجي....... كنت في عز نومي.... عندما خطفني الشيطان من سريري خطفا.. ثم........ ثم..... ثم أحضرني إلى هنا محمولاً على قرنه السابع" ، حالما أنهى بشق الأنفس مرافعته الدامعة المنكسرة حدَّ الرثاء ، زفرت الحمارة لأمر ما ، وبدا أن الحاج، الذي أنساه هول ما رأى أن يؤذن لصلاة الفجر، قد وجد داخل كومة الأوساخ متسعاً للحوار، فأخذ يتفكر في وجه المراهق الملتصق بالسور بينما صوت ديك ينطلق من مكان قريب قائلاً: "لماذا يا ابن الناظر نفسه!، لم يكن قرنه الرابع؟، أو حتى الخامس؟، لماذا قرنه السابع تحديداً؟!، وإذا كان للشيطان كما نعلم مائة رأس بالتمام والكمال، فإلى أي الرءوس كان ينتمي القرن الذي حملك إلى حمارة أمينة الفراشة؟!، أيها الفاجر، لماذا تصمت هكذا؟، ها أنت إذن تكذب أيضاً، خذ هذه ، و قسما بالله العظيم ثلاثاً، لأنت سيد الفحش، لا لا، أنت الشيطان نفسه في صورة إنسان ، لا بل ..... أنت مُسيلمة الكذاب ".

كان في إمكان هذا الحوار أن يستمر بين كر و فر إلى ما بعد بزوغ الشمس، لولا أن فطن ابن الناظر الذي دأب على ركل عجيزة الحمارة بقدمه خفية إلى مراجعة موقفه، فأطلق العنان لساقيه الخفيفتين كساقي جواد، تاركاً الحاج محمود وسط نهيق الحمارة الذي علا على حين غرة ، ثم وبعد أن انغمسن في الصمت لدقائق، أضافت "الوكالة" باعثة نسمة أخرى من الضحك في خلايا ذلك النهار الذي بدا لغيظه بلا نهاية: "يا بنات!... سعيدة.... من تتزوج مُسيلمة الكذاب.....سعيدة حقاً ... فلو طلبني أنا شخصيا للزواج لوضعت ثوبي بين أسناني وركضت نحوه بلا تردد ...... لا تتضاحكن هكذا ... لابد أن مَن يفعل ذلك لديه مثل ما لدى الحمار " !.




كانت ذرات الغبار الدقيقة تمرح سابحة على امتداد شريط الشمس العريض المتساقط عبر إحدى النافذتين، كن يرقبن ذلك دون سابق اتفاق راسمات على وجوههن بدرجات متفاوتة ذلك التعبير الأنثوي الحالم ،الذي ينم عن وجود رغبات دفينة داخل النفس تبحث خفية عن طريق ما للتحقق، وكان ثمة سرب من الذباب يتنقل في كسل بين أكواب الشاي الفارغة أعلى طبلية الخشب و أطرافهن شبه العارية في لهيب ذلك النهار ، وبدا بالفعل أن مثل تلك الحكايات القديمة لم يعد يحمل جديداً، حين بدأن في الاستغفار والتثاؤب تباعاً، عندئذ ، ألقت "وكالة رويتر المحلية" بصوت ناعس لا يثير ريبة ما حرَّك بـِركة الأنس الراكدة منذ فترة قائلة: "يا بنات...بحق الله....مَن هو مطربكن المفضل"؟.



تحولت الأنظار نحو فاطمة آن استقر شريط الشمس المنسحب عند قاعدة النافذة ، كانت لا تزال تقلب في صفحات ذلك الكتاب الذي ظلت تحمله معها لأمر ما كلما أتت لزيارتنا، كان يرتسم على طرف فمها الأيمن طيف ابتسامة ساخر زاد من ألق عينيها الجميلتين اللتين رفعتهما فجأة نحو السقف قبل أن تمسح وجوههن القلقة بنظرة نصف مروحية بطيئة وامضة وتنكفئ مرة أخرى على كتاب "ألف طريقة لصناعة الحلوى" مؤججة بذلك نار الانتظار بلا طائل،وكن قد فطن إلى صمتها الملغز حين فرغن من إجاباتهن المتدافعة وشرعن في التطلع إليها متوقعات بنفاد صبر أن تُلقي باسم مطرب آخر ، ربما لتكتمل دائرة المقارنة الأنثوية القاتلة ، ربما ليأخذ الحديث مجرى مختلفاً ، وربما ليفتحن باباً يُفضي إلى خارج أتون الحرارة الذي لا يُحتمل .

كانت أمي تتفرس في جارتها محاولة أن تحذر ما يدور في خلدها وفمها فاغر وعيناها مليئتان بالعجز والخوف والفزع من تحقق هواجس غامضة ، وقد تراقصت في ذاكرتها عفاريت هالة المجد الكاذبة التي أحاطت برفيقة طفولتها في زمان سابق لكم ودت أن يتلاشى من ذاكرتها دون رجعة ، وحين رفعت فاطمة رأسها أخيراً بدا ربما لكثافة صمتها وكأن لا وجود لـ "وكالة رويتر المحلية"..... البتة.

كانت تلقي خطاب "طلائع المدينة"، وكانت في نحو الثالثة عشرة، حين مال الرئيس السابق برأسه أسفل الخيمة المنصوبة خلال زيارته الأولى و اليتيمة إلى المدينة نحو وزير "الموارد المائية" الجالس آنذاك إلى يمينه كمن يتأهب لدخول الحمّام في أية لحظة،وما إن همس في أذنه حتى رحلت علامات الملل عن وجهه فجأة وشرع ينصت لخطاب الحسناء اليافعة حالماً تارة ومُبدياً إعجابه عبر إيماءات عديدة تارة أخرى وإن بدا في كثير من الأحيان وهو ينظر إلى الصبية وفق ذلك النحو كمزارع يمعن النظر في أرض بكر إذا ما عُهد بها للرعاية ستنبت الكثير من الثمار الطيبة، لتنطلق فور انقضاء مهرجان الخطباء إشاعة قوية في المدينة يقال إن مصدرها المحافظ الأسبق نفسه تفيد أن الرئيس قرر تزويج فاطمة بعد عامين على الأكثر لوزيره "الشاب الأعزب الوسيم"، الجميع يذكرون كيف ازدحم بيت والدها إثر ذلك بأرباب المطالب وأصحاب الالتماسات الخاصة وكيف تقاطرت عليها هدايا ثمينة مجهولة المصدر قال رُسُلها إنها مجرد تعبير بسيط عن حب المدينة وتقديرها الخاص لابنتها "الواعدة "، كان الأمر من الجدية بمكان أن قام المحافظ وقتذاك بتعيين حراسة خاصة ظلت ترافقها أينما حلت ،وكان ذلك يقذف بأترابها من أمثال أمي في هوة سحيقة من ظلام الغيظ أو الغيرة، ذلك ما كان من أمر الأمس ، ولم يدر في ذهن أكثر الناس مقدرة على التخيل بعد ذلك أن ينتهي بها المطاف كزوجة لصلاح" بتاع الدكان "، لقد وُئد حلم فاطمة لحظة الانقلاب العسكري الذي أطاح بعالم الرئيس في ظرف أقل من عام من نهاية ذلك المهرجان ، وإن لم تغادرها حتى الممات نزعة التميز والشعور بالتفوق رغم ضيق ذات اليد والوسائل ، وكانت النتيجة أنها غدت متخمة بتطلعات نساء الطبقة الوسطى خلال الستينيات بدءاً من اقتناء الثلاجة "كولدير" ، مروراً بالنظر إلى عامة الناس من شاهق ، وانتهاء إلى مُناصرة جمعية " رائدات نهضة المرأة الحديثة ".

هناك ، قبالة أمي و " وكالة رويتر المحلية " ، عند طرف السرير الموازي للحائط الخالي من النوافذ ، وبينما فاطمة التي توسطت مجلسهن توشك أن تتكلم ، كانت أختي الأصغر قد تحولت بالفعل إلى أذن فيل ، وهي تعلن بظهرها المشدود وصدرها اليافع المندفع إلى الأمام عن حرصها الشديد على متابعة أمر لا ترغب في أن يفوتها منه شيء، كانت الكبرى القابعة عند الطرف الآخر تجاهد في تلك اللحظة ما أمكن لطرد ذبابة خضراء لم تنفك طوال تلك الدقائق من الطنين حول رأسها والسير على صفحة وجهها كلما سكنت، "مطربي المفضل هو الموسيقار عثمان حسين"، قالت فاطمة بفخامة، وتهللت لسبب ما أسارير "وكالة رويتر المحلية"، في حين هبط على إناث الأسرة صمت ثقيل أمكن خلاله سماع صوت دبيب أقدام نظرات الحسد الخافتة، وما إن عادت أمي إلى رشدها، وأخذت تفكر في كلمة "موسيقار"، ككلمة عصّية على النطق، حتى هوى صوت الجارة، مزعزعاً بقسوة هذه المرة يقين الإجابات السابقة، كاشفاً في الوقت نفسه عن سعة إطلاعها على ما يستجد من أحداث داخل ما كان يحلو لها أن تدعوه في كثير من الأحيان: "عاصمة جمهورية السودان الديمقراطية"، قائلاً: "أحبه لأنه مطرب طلاب جامعة الخرطوم المفضل".

كان الناس في تلك المدينة ينظرون إلى هؤلاء بوصفهم "ملائكة علوم الدنيا"، على حد تعبير ناظر المدرسة الأميرية، الذي تغيرت معاملته تجاه أمينة الفراشة بعد أن التحق ابن شقيقتها بكلية التربية، متناسياً بذلك وصمة العار التي أدركت ابنه "بسبب حمارتها"، وإن لم يتزحزح قيد أنملة "نكاية في الحاج محمود" كما يروج البعض عن اعتقاده الجازم في أن ما حدث " كان وراءه قرن الشيطان السابع ولابد ".

تكهرب الجو داخل الحجرة تماماً، إذ كان من العسير على أمي أن تمضي إلى نهاية الشوط وهي تخفي استياءها من اختيار أختيَّ لمطربين "شعبيين" على الرغم من كونهما في "مقام" ابنة فاطمة الوحيدة "أمل" .

قبل سنوات قليلة، أوصدتْ خلالها الغربة أبوابها أمامي، كنت أفتح صناديق الذاكرة الموصدة، أقلب بتفكر في تلك الأحداث، وشيئاً فشيئاً رسخ لدي وراء ستارة الدموع الضبابية أن اختيار المرء لمطرب ما تستجيب له أحاسيسه ما كان ينبغي له أن يحدث في نفس أحبائه الذين يتطلعون إلى رفعته كل تلك المعاناة! ، كنت أحكم على ما جرى بمقاييس الآن، لكنني بدأت أدرك حالما رأيت ذات مساء طفلاً في نحو الثامنة من عمره عند زاوية أحد الميادين وهو يرقب أقرانه بصمت وهم يتدافعون خلف الكرة أن الكون كله قد يتكاثف في لحظة بخيره وشره بمحيطاته وبحاره وأنهاره وأرضه وسمائه بأفراحه وأحزانه وصراعاته داخل ما يراه البعض شيئاً صغيراً تافهاً ثانوياً مثل أن يعكف ذاك الصغير في ذهنه كما بدا لي على استعادة الفرحة أو ساقه المفقودة بأسى .

لكأن ذلك حدث في الأمس القريب...

تثاءبت " وكالة رويتر المحلية "، وبدأت فاطمة تقرأ شيئاً ما من كتاب " ألف طريقة لصناعة الحلوى " ، وكأنها لم تدرك قوة الزلزال التي أحدثتها كلماتها تلك في نفوس " إناث الأسرة " اللائى أخذن ينظرن في اتجاهات الصمت المختلفة كطائر ذبيح ، ثم ما لبث صوت كليهما أن تناهى في وقت واحد إلى آذان أمي التي وضعت رأسها بين كفيها وراحت تنظر في شرود إلى ما فوق طبلية الخشب القصيرة طالبا الإذن بالانصراف ، هنا رمقت أختيَّ بنظرة معاتبة ، ثم نهضت بتلك الابتسامة الشائخة لامرأة في منتصف الثلاثين ، وشيعتهما إلى باب الحوش ، حيث عادت بخطوات أثقلها الصمت وذهنها منصرف إلى مكان بعيد لا يعلم إلا الله متى تعود منه ، ولم تظفر أختاي بكلمة واحدة منها طوال اليومين اللذين أعقبا ذلك المجلس ، وكان الأمر خارج حدود الاحتمال أو التفسير .

قبل مغادرتها المجلس بوجه طافح فيما بدا لعيني أمي بـ "الأسرار والأخبار الطازجة المثيرة"، أثنت "وكالة رويتر المحلية" بدهاء على ما أسمته "ذكاء فاطمة الرهيب"، مؤكدة "في الحقيقة" أن "مطربها المفضل قد خطف بالحق قلوب بنات الخرطوم الراقيات "،و الجارة لم تصدق خبراً، وضعت رِجلاً على رِجل، ورويداً رويداً، شرعت في الانتفاخ مثل قاموس خال من كلمة "تواضع"، زارعة بذلك البذور الأولى لما سيقلب هدوء المدينة الصغيرة رأسا على عقب .

كانت الأسرة قد استقرت في بيت جَديّ لأمي المغلق منذ ثلاث سنوات على وجه التقريب، آنذاك قرر والداي هذه الخطوة، بعد أن تقدمت أختاي في التعليم وصار لزاماً إلحاقهما بالمدارس الثانوية في المدينة، على أن يبتعث أبي كما ظلت أمي تردد في بعض الأمسيات أمام الجارات ضاحكة "حياة عزوبيته" كمفتش زراعي من الدرجة الثالثة "تضحية لمستقبل الأنجال" .

ما أحزن أمي، ما أقض مضجعها، ما أحال ليلها إلى نهار وجعلها تختض من الغيظ، بل ودفعها إلى التفكير عميقاً طوال الأيام الثلاثة التي أعقبت ذلك المجلس في وسيلة مثلى للانتقام من جارتها "المدعية زوجة صلاح بتاع الدكان صاحب العينين الضيقتين اللتين تشبهان فرج السحلية"، أن ما اعتبرته " فضيحة حضارية " لا تليق أبداً بسمعة "عائلة كريمة" يُعتبر أحد مؤسسيها أول من بنى بيتاً من "الطوب الأحمر" في المدينة قد وقع تحت سمع وبصر "وكالة رويتر المحلية "، وهذا أمر "لا يُبشّر بخير على الإطلاق بالنسبة لمستقبل زواج البنات في مدينة بها عدد من طلاب جامعة الخرطوم الأذكياء"، أملت ذلك في رسالة عاجلة بعثت بها إلى أبي، معربة خلالها عن "عميق أسفي الشديد جداً لهبوط الذوق الحضاري لأفراد أسرتنا نتيجة النزوح معك يا سيادة المفتش الزراعي الثالث بين النجوع والكفور والقرى النائية طبعاً"، كاشفة بعبارات غامضة وكأنها تخشى من وقوع الرسالة في يد غريبة عن "خططي السرية الدائمة لتدارك ما يمكن إدراكه، لابد أن في أعماقها نزعة شكسبيرية ظلت حبيسة لعقود خلت فأفرج عنها مسار "تلك الفضيحة الحضارية الكبرى" حين ختمت رسالتها بكلمات جدُّ حاسمة وقاطعة مازالت أحرفها تتراقص أمام عينيّ: " لقد أصبحت الحكاية الآن مسألة حياة أو موت في هذه المدينة " .

في سعيها المحموم لتغيير الصورة العائلية مرة واحدة وإلى الأبد ، لم تكتف أمي بتوبيخ أختيَّ على سوء اختيارهن "بفصاحة" لمطربين شعبيين مثل "القادمات من الريف حديثاً"، بل شرعت هي نفسها في إعلان رأيها "الشخصي الخاص جداً جداً جداً"، زاعمة أن مطربها المفضل لم يكن "في يوم من الأيام" سوى مغني البوب الأمريكي الشهير "الفيس بريسلي"، وكان ذلك وحده كافياً لتدمير سمعة فاطمة كمثقفة إقليمية إلى "الأبد" ، على من أنها ظلت تؤكد في دعاية مضادة ، وهي تقلل من شأن المعارف الجديدة لغريمتها ، أن أمي لا تستطيع التحدث بطلاقة إلا في أوساط جمهور "أغلبه.. من الأميات... اللائى.. وا... أسفاه... لا يعرفن حتى ذلك الفرق الواضح... ما بين البوظة التركية والآيس كريم الألماني" .




بعد طول قطيعة، وصلت خلالها العلاقة بين الجارتين إلى طريق اللاعودة ، قبلت فاطمة ضحى ذلك اليوم دعوة أمي لحضور حفل عيد ميلاد أختي الكبرى التاسع عشر، حيث كانت في انتظارها وهي تفتح باب الحوش الخارجي لبيتها في شرود مفاجأة أن تمحو غريمتها ما جرى هكذا ..... بكل بساطة ! .

أجلست ْ أمي داخل الفرندة ، إلى يسار الثلاجة " كولدير " ، وعلى ذات المقعد الذي سيشهد المأساة ، ثم وقفت أمامها إلى اليسار قليلاً ، تماماً مثلما ستقف قبالته عند بداية تلك المأساة، قبل أن تحضر مقعداً ، وتجلس غير بعيد متطلعة إليها في برود وترقب ، امتصت أمي كل ذلك ، وهي تستعيد من ذهنها مقاطع من كتاب : " فنون حرب المجتمع " ، وحين لم تحرّك فاطمة ساكناً من آداب الضيافة ، بل ذهبت إلى مدى بعيد في معاودة النظر إليها من أعلى إلى أسفل وبالعكس ، تيقنت لحظتها أن " العدو " ما ينبغي له أن يفرض على المرء مكان و زمان المعركة ونوعية السلاح ، هكذا ابتسمت وهي تكسر حدة الصمت المميت قائلة بلهجة مَن أدركه ولع الخبث على كبر : " و البنت طبعاً قطعت دراستها في الجامعة، جامعة الخرطوم طبعاً، ثم جاءت لتحتفل بيننا، من العيب طبعاً أن ترانا نحن الكبار مرة أخرى هكذا، ويعلم الله وحده كم تدين لك بالمحبة والفضل في قلبها".

ألان الصوت الذي بدا نابعاً من الأعماق وجه فاطمة الذي أعمى بصيرته وقع الزيارة المباغتة التي حالت دونه وفهم لهجة أمي التي انطوت في ظاهرها المتسامح على ما هو أسوأ والذي ظل محافظاً على قسوته لفترة ، حيث لاح طيف الابتسامة الساخر على طرف فمها الأيمن أولاً، ثم وفي لحظة واحدة نهضتا وتعانقتا وذابتا داخل الفرندة كجارتين جمعت بينهما ذكريات طفولة بعيدة، وقد ألقتا عبء ما حدث على كاهل "الشيطان الذي يفرق حتى بين المرء وزوجه "، عيناي تدمعان الآن ، لقد كان ذلك للأسف العناق الأخير لهما كجارتين قديمتين في هذه الحياة..... "وكالة رويتر المحلية"، أشاعت أن فاطمة أعلنت في نفسها حينذاك عن "قبولي للتحدي" وأنها لا تخشى على الإطلاق من الدخول في ما أسمته "مواجهة فاصلة"، مؤكدة أن جارتها "محدثة النعمة الحضارية" بهذه الدعوة "وا... أسفاه....... تحفر قبرها بيديها" .

كانت الأقاويل تترى من كل حدب وصوب إلى آذان الحاج محمود، الذي لم يعد يدهشه شيء "في دار الغرور" كما قال "بعد كبيرة مُسيلمة الكذاب" التي اعتبرها بمثابة النذير المبكر لما يحدث في "هذه الأيام"، وعلى الرغم من أن "مصادر خاصة" رفض تسميتها أكدت له أن فاطمة عانقت جارتها فقط من باب "لا ينبح في فراشه إلا كلب"، بل وأضافت ( نفس المصادر) لاحقاً أنها جاءت إلى الحفل مرتدية فستاناً ضيقاً من المخمل وافق اسم الموضة السائدة آنذاك باسم " دموع أم كلثوم "، إلا أن الخبر الذي اتسم ببعض الطرافة كان من نصيب "وكالة رويتر المحلية"، التي أشارت إلى أنها أقبلت خلال ذلك المساء الحار بعينين لم تنفكا قبل بدء فواصل الرقص من القول يمنة ويسرة: "يا أهل المدينة .. انظروا .... ها هي..... فاطمة نفسها .... انظروا إليها.... ما أحلاها.... حضارية جداً.... تخطر في بيت غريمتها هكذا..... هكذا هكذا ".

"وكالة رويتر المحلية" نفسها أكدت للمحافظ الذي جاء إلى حفل عيد الميلاد متأخرا بعض الشيء و الذي بدا لسبب ما حريصاً على متابعة تطورات العلاقة بين الجارتين منذ أحداث المجلس البعيد الذي شهد وقائع "هزيمة الأسرة الحضارية" أن أمي همست في أذن رئيسة تحرير مجلة " نهضة المرأة " المحلية قائلة بصوت تردد صداه بين جنبات السكون الشامل الذي ران لحظة دخول فاطمة فجأة: "هذا الفستان لا يصلح لرقصة السامبا " !.

الحق ، "الحق أقول لكم" يا أصدقائي إنها جاءت في ذلك المساء مرتدية "رموش شادية"، لا "دموع أم كلثوم" ، فستان من الساتان الأسود اللامع أبان أدق تفاصيل جسدها اللدن المشدود حتى وهي تعبر عقدها الرابع بنحو العام ، كان بلا أكمام ، تلتف حوله خطوط فضية متباعدة ذات حواف مشرشرة ، وبينما تراءى فوق كتفيها فرو ثعالب أصفر باهت تفوح منه رائحة "النفتالين" ، بدت في ذهن الحاج محمود الغائب كما تخيل عدد من الخبثاء بالنيابة عنه مثل حورية خارجة للتو من كتاب "فضائل الجنة" ، كانت تخطر بخيلاء على أرض الفناء المرصوفة حديثاً بالأسمنت و كسار الآجر فوق حذاء أصفر ذي كعب عال أطلق عليه الحمّالون في الميناء النهري اسم " سفينة الشيطان " ،على الرغم من أنه قد اتخذ لدى الصفوة اسماً أكثر جاذبية : " أتهادى نحو أحلام قلبك الوردية " .

كانت أضواء قوية تتلألأ على هامة الفناء كتاج أميرة ، نسائم واهنة منعشة لها رائحة التربة تراقص فروع شجرتي النيم بنزق، السماء خالية تماماً وراء الهالة الفضية، لابد أنها أمطرت خلف تخوم النهر حيث الأجمة المتناثرة من أشجار السنط تنحدر من جبال العاديات قبل أن يبدأ عشب السهل الأخضر الكثيف ذو الفجوات الحجرية الواسعة ، كان ثمة موسيقى تخللها آذان العشاء تطغى على لغط المدعوين الملتفين حول الموائد الصغيرة المتقاربة ، التي جُلبت نهارا من محلات " كزام للأفراح " ، و التي تراءت فوق مفارشها الزرقاء زجاجات المياه والكولا وأطباق الحلوى وسلال الفاكهة، كانت تنبعث من مكبرات الصوت على جانبي منصة خشبية قصيرة أخفتها سجادتان من الصوف الفارسي ذي التشكيلات الوردية الملونة منصوبة غير بعيد من منضدة طولية لاحت أعلى مفرشها الأبيض النظيف تلال من الأواني الصينية اللامعة، فضلاً عن تورتة المحتفى بها بطوابقها الخمسة الصاعدة في شكل هرمي علت قمته المزدانة بكريمة الشوكولاته السمراء شمعة منتصبة وحيدة، حالما أُشعلت توقفت الموسيقى وعم الظلام و راحت تتشكل على مرأى من عيون السماء النجمية الحلقة باعثة الأمنيات القلبية والهدايا ، قبل أن تُنهي الحناجر أغنية عيد الميلاد في تزامن عكس مدى الإلفة الذي عمّ المكان حينذاك ، "لماذا شمعة واحدة"، هكذا تساءل المحافظ بقامته البارزة وسط الحلقة لحظة أن عاد النور، وبينما تغضن وجه رئيسة التحرير الجاد في نشاز كاد أن يفسد الطابع المرح لسؤال المحافظ ويحول الحفل إلى حلقة نقاش ساخنة حول " الطابع الذكوري للسلطة " حسبما ظل يتردد في سياق الندوات الأسبوعية التي تقيمها في دارها مجلة " نهضة المرأة " ، اندفع في خضم الهمهمة المتصاعدة التي أثارها سؤال المحافظ والوجه الصارم الجاد لريئسة التحرير صوتُ أمين حزب التقدم معيداً الأمور إلى مجراها القديم : " تقول لماذا!... ها ها ها... تكتيكات السيدة السرية..... يا رفيق " .

هكذا عاد المحتفلون إلى موائدهم، وبدا في ذلك المساء وكأن الكون برمته ضحكة مغناة يعزف لحنها رنين التعليقات المرح السعيد، إلا أن نمل الغيرة أخذ يأكل في قلب فاطمة ببطء وتلذذ متزايد سعيداً بالخفاء الذي ضربه الضجيج من حولها ، كانت ترقب الأنظار تنصرف عنها تباعاً غير عابئة بالمرة بزينتها الفريدة والمكتملة أمام بهجة حفل لم تشهد المدينة مثله قطُّ، ناظرة من مقعدها بين الحين والحين إلى "وكالة رويتر المحلية" التي كانت تتنقل بين الموائد تحت أنظار عيني أمي الفخورتين مثل فراشة قمحية في الربيع، إلى تناهى إلى مسامعها مثل طلقة الرحمة، صوت أختي ذات السبعة عشر عاماً، وهو يعلن من فوق المنصة عن بدء الحفل الراقص، وقد نشبت في أعقابه موجة من الصفير والتصفيق الحاد المتصل فيما بدا بلا حدود لانتهائه .

مدت ذراعاً من داخل بلوزة بيضاء ذات أكمام قصيرة واسعة، كانت محشورة داخل بنطال من الجينز أزرق اللون ذي مقدمة مثلثة منتفخة قليلاً ومسحوبة إلى أسفل بشدة ، أزاحت الهواء الذي حبس أنفاسه فجأة بحركة نصف دائرية بطيئة متكسرة لامست الحلمة اليسرى النافرة خطفاً، قبل أن تأخذ رأس البنصر وضعاً مستقيماً شق طريقه بين الموائد متخطياً بلا هوادة المحافظ ومدير بنك الوحدة ورئيسة التحرير مشيراً بلطف ومحبة يعلم الجميع مقدار ما فيهما من زيف إلى عيني فاطمة الشاخصتين كعيني غريق بلا أمل في النجاة .

في هذه اللحظة ، في هذه اللحظة تحديداً، يمكن للمرء وفق رواية "وكالة رويتر المحلية" لاحقاً أن يسمع "رنين إبرة الخياطة" إذا ما أُلقيت في "مكان ما داخل الحفلة"، حتى أن المحافظ نظر إلى عطسة مدير البنك المباغتة نظرته إلى رجل طرق باب بيته "أثناء الجماع"، ثم سرى صوتها الحاد الرفيع ذو المنحنيات المبحوحة عبر مكبرات الصوت أخيراً: "سيداتي آنساتي سادتي.. مشاعل حضارة هذه المدينة الواعدة... مساء الخير وبعد.... وإنه ليسُر الأسرة الكريمة تشريفكم لها بالحضور... بمناسبة حفل عيد ميلاد أختي الكبرى... وبسبب صداقة الأسرة لطيار ماهر يعمل في خطوطنا الجوية الحبيبة... أزفُّ لكم ذلك الخبر الجميل... خبر وصول أخر أغنيات فتى أسبانيا الذهبي "خوليو" وأنشودة الحبّ الفرنسي الساخن "جيلبير"... وأعتقد أمام هذين الرائعين لا مجال لمطرب متواضع آخر مثل عثمان حسين ...

- "برافو... برافو برافو" .

هكذا في الوقت الذي اتجهت فيه أنظار الجميع إلى فاطمة التي لم تحتمل أكثر وحمل وجهها من علامات الغيرة ما يكفي لإشعال غابة من أشجار السنط الغضة اقتحمت المشهد صيحة مدير البنك الذي نال درجة الماجستير في " اقتصاد الدجاج " من جامعة "السوربون "، والذي لم يستطع أن يتمالك نفسه فيما بدا أكثر من ذلك فأجهش في البكاء بغتة ، آنئذ ربت المحافظ الجالس إلى جواره على كتفه كمن أراد أن يعتذر بعد أن تسبب في أذى روح طيبة كان ذنبها الوحيد أنها عطست في موقف لا يحتمل سوى الصمت التام ، بينما أمكن للمقربين سماع صوت رئيسة التحرير وهي تهز رأسها كمن يتفهم عذابات الروح الخفية للإنسان .. أي إنسان وهو يقول : " البكاء ليس عاطفة نسائية فحسب "!، مثل تحية صادرة عن قلب ملء نبضه الحبّ والأسى والحنين، مثل نسمة أوروبية تلثم مدارات خطّ الاستواء القائظة، انساب حالماً مترعاً شفيفاً مطعماً بالأمل كيد المطر الخفيف الحانية ، لحنُ رائعة جيلبير: "إيه مينتونان"؟!.

"وكالة رويتر المحلية " ، التي سبق لها وأن ذهبت إلى البنك ذات نهار قائظ بعد أن تزايد الجدل في المدينة حاملة في يدها مجموعة من " الطيور المريضة " قبل أن تدرك " الفرق " أو " الاختلاف القاطع " ما بين " اقتصاد الدجاج " وذلك المدعو " طبّ الدجاج "، سألته باسمة عن سر "تلك الدموع الغزيرة تفيض من عينيك أثناء الحفلة "، قال إنه تذكر وقتها " ليلة باريسية بعيدة "، و لم يُزد.




هذا التحول في "ثقافة إناث الأسرة"، الذي أزعج عند بدايته "وكالة رويتر المحلية"، بل وجعلها بكلماته "العصّية" تنظر إلى نفسها في كثير من الأحيان كـ "هاتف بلا حرارة"، لم يكن وليد يوم وليلة، فما إن حلت إجازة ذلك العام الدراسي، حتى أرسلت أمي أختيَّ إلى الخرطوم، حيث يعيش خالي الفنان التشكيلي وبناته الثلاث المنحدرات من أم إنجليزية، وحيث كانت عمليات غسيل المخ تجري تحت شعار ورد أيضاً في رسالة أخرى رافقتهما إلى شقيقها الوحيد: "إنقاذ ما تبقى من شرف العائلة الكريمة"، بينما كاد مؤشر الراديو في غيابهما أن ينسى داخل البيت ملامح "هنا.. أم درمان"، وقد أدمن التجوال حتى خلال الإجازات الدراسية اللاحقة بين الأقسام العربية لإذاعات "موسكو" و "مونتي كارلو" و "صوت أميركا"، ولم يكن ميالاً للوقوف طويلا ًعند الطابع الإخباري المتكرر لهيئة الإذاعة البريطانية.

والحق كانت أختاي من الذكاء بمكان أن أجادتا الأكل بالشوكة والسكين في وقت وجيز، فضلاً عن ارتداء البناطيل الضيقة، التي أدخلت أمي لفترة من الوقت في دوامة من المتناقضات الداخلية العميقة، "يا الله ... ما الفرق إذن ما بين العهر والحضارة"، هكذا تساءلت ذات أصيل أعقب عودتهما الأولى من الخرطوم بأيام ، وهي تراقب ظهريهما في حيرة وهما تسيران عبر الفناء إلى زيارة ما كعارضتي أزياء هبطتا للتو من سياق أحد أخبار الموضة الأوروبية المتلفزة، لكن الرغبة في الانتقام من غريمتها فاطمة كانت تطغى آنذاك على كل احتمال ينشأ داخل مركز تفكيرها المستثار منذ أن نطقتا باسم ذينيك المطربين الشعبيين تحت سمع وبصر "وكالة رويتر المحلية"، لكن ما بدا في أول الأمر شاذاً وغريباً، بل ومستهجناً من قبل ما أطلق عليهم المحافظ في إحدى خطب عيد الاستقلال اسم " ( بُقع ) الرجعية في ثوب المدينة الحضاري الأبيض الناصع"، سرعان ما تحول إلى حمَّى اجتاحت على فترات متقاربة "شبيبة المستقبل المشرق"، وهي عبارة ذكرت "الوكالة" أن أمي تقالتها أول مرة عند بدء سلسلة حفلات "الديسكو"، التي ظلت تقيمها في نهايات الأسبوع عادة ، غير عابئة بتحذيرات "البُقع" المتكررة من عواقب الاستمرار في: "أعمال الفجور جالبة البلايا والأهوال"، إذ كانت مشغولة وقتها بجهود "الصفوة" الحثيثة لإشاعة لُعبة " الكريكت " في مدينة لا تعرف "للأسف الشديد" على حد قولها سوى " كرة القدم وسباق الحمير " !.

حين بدأ جمع التبرعات لبناء " مسرح يليق بسمعة المدينة الحضارية "، على حد تعبير أمين حزب التقدم النشط ، قالت أمي و هي ترجع بظهرها إلى مسند الكرسي وقد ظهرت عليها إمارات التعب جلياً إنها بدأت تشعر كمن يحلق في الفضاء بجناح قوي وحيد .

أدرك أبي مغزى الرسالة فتقمصت روحه الرغبة الصادقة لتقوية الجناح الآخر طواعية، قائلا كمن يهب للقيام بإحدى المهام التي تتطلب استعدادا خاصّا : " لابد أن تحتفظ الأسرة بموقع الصدارة الحضاري "، هكذا اندفع بحماس "منقطع النظير" إلى المشاركة في "الأعمال المنزلية"، كأن يقوم بتنظيف الحمامات والمراحيض ليلاً، كان يفعل ذلك "إسهاماً شخصياً من جانبي" كما كان يحلو له أن يقول لحظة الانتهاء من تقطيع حزمة البصل إلى حلقات صغيرة في " دعم مجهود والدتكم الحضاري ".

"وكالة رويتر المحلية" التي تكاد تشرف حتى على "تلاقح الضفادع في الخريف" وفق ما جاء على لسان ناظر المدرسة الأميرية "الذي غدا عصبياً على نحو واضح بعد كبيرة مُسيلمة الكذاب" أشاعت أن أبي كان يفعل ذلك "في واقع الأمر" مخافة أن يُدرج اسمه ذات يوم في "القائمة السوداء"، التي تنشرها من وقت لآخر مجلة "نهضة المرأة " بدعم شخصي من المحافظ كما يُردد في الخفاء عادة ، وهي قائمة تضم " أسماء الأزواج الذين يمارسون التمييز ضد المرأة داخل المنازل سراً " ، على الرغم من مظهرهم "الحضاري المُخادع"، حسبما ورد في إحدى افتتاحيات رئيسة التحرير، فيما هي تقدم لـ "السيدات القارئات/السادة القراء" باباً جديداً حمل عنوان: "نحو تعليم الرجال فنون المطبخ العصري"، وترد في الوقت نفسه على رسالة مطولة " موقعة بالأحرف الأولى فقط "، كانت قد بعثت بها "إحدى السيدات الثائرات "، تمنّت خلالها أن تتحرر المرأة في "القريب العاجل" وأن تشهد بنفسها "ذلك اليوم الذي تُفرغ فيه المرأة مثانتها على قارعة الطريق مثل رجل عادي "!!!.

هكذا على خلاف صلاح "زوج فاطمة" الذي ظل لوقت طويل كمن يتأرجح على الهاوية، أدرك أبي من خبرة أسلافه التجار أن المسئولين أصحاب الحل والعقد في المدينة كانوا "وراء نماء شجرة المحصول الحضاري"، فبدأ مبكراً في إخماد نار التقاليد التي بدأت تشتعل خلف مظهره كمفتش زراعي من الدرجة الثالثة، متغاضياً عن انتهاك أشياء كان يراها من "الثوابت"، كأن يبارك رغبة أختي الكبرى في أن تعمل كـ "موديل" لطالب "موهوب" كان يدرس في "كلية الفنون الجميلة" أثناء دراستها في الجامعة ، "إسهاماً مني" كما كانت تقول متأثرة بآراء خالي التشكيلي في " استكشاف جوهر جماليات الجسد الأنثوي الذي أخفاه الثوب التقليدي لقرون خلت " .

لربما... أو لهذا "الوفاء الحضاري"، حسبما أوضحت "وكالة رويتر المحلية" مخففة من شواظ ظهيرة ألمت بمدير البنك في إحدى لحظات انقطاع التيار الكهربائي المتكرر، مُنح أبي ترقية استثنائية داخل "الهرم الوظيفي" مهدت له الطريق إلى العمل في المقر الإداري للمؤسسة الزراعية بعيداً عن الريف بمياه شربه "الراكدة" وهيئة سكانه التي كانت تذكره دائماً بحظه "العاثر" في الحياة، "أيها السادة زارعو الحضارة من قال قبلي أنا إن حقول السعادة بلا أعشاب ضارة "، هكذا شرع أبي يتفلسف في عمله الجديد، مستشعراً وطأة الفراغ بين جدران مكتب فخم به ثلاجة صغيرة "فاضت قنواتها بُعلب المياه الغازية" تدخله فقط وعلى فترات متباعدة وجوه حليقة "معنوياتها لا تشبه نضرة الأزهار"، حتى أن أفكاراً غامضة حول الحياة والموت بدأت مثل الجراد " تُـداهـم تلك الحديقة المُبهجة في الربيع "، الأمر الذي لم ينقذه منه شيء سوى زيارة الأسرة إلى بيت مدير عام المؤسسة الزراعية في "عيد الحبّ" .

كانت سانحة طيبة أهداه خلالها المدير مجموعة أعداد "نادرة" من مجلة " مودة " اللبنانية، حيث بدأت تتكشف لديه شيئاً بعد شيء تلك "الموهبة"، التي ظلت مطمورة مثل كنز "تحت تربة بستاني" لسنوات قضاها "يا لضياع حصاد شبابي..... بين ضراط بهائم الفلاحين"، لقد بدأت تتكون لديه كما قالت أختي الأصغر التي كانت بدورها تستعد لدخول الجامعة "ثقافة حضارية رهيبة"، انصبت بدرجة أساسية على معرفة مختلف "أنواع وخصائص وأسماء العطور العالمية"، كان ينتهز في مجالسه أدنى بادرة، كأن تقول أنت لا قدر الله "إن الهواء منعش ولطيف هذا المساء"، حتى يمطر آذانك بأسماء عطور لا يعلم إلاّ الله ما هي، ثم لا يهم وهو يشرع في بيان مميزات عطره المفضل نظريا إن كانت لديك وقتها الرغبة الأكيدة و الملحة في الدخول إلى المرحاض بأسرع قدم لديك!.




بالمقابل ، كان لهذه"الحضارة" دموع قلّما رآها عالم المدينة الضيق ، وإن سمع عنها حدَّ الرثاء والشماتةً أحيانا، تلك كانت دموع الجارة ... أو أحزان فاطمة ، التي كاد أن يفضي بها "نجاح ماما المذهل" إلى "جنون لا عودة منه"، على حد تعبير أختي الكبرى التي عادت ذات إجازة بوجه مستثار حاملة لأمي أنباء عن أهمية قيام مظاهرات طلابية في " العام التالي " تطالب الحكومة بإصدار قوانين صارمة تتيح للزوجة أن ترفع ضد الزوج قضية طلاق وتعويض مالي ضخم في حالة ما إذا " ركب رأسه وصمم على ختان البنات " ، لكنها أبداً لم تحدثها عن الخطط السرية لتلك المظاهرات بشأن " المثليين " ! .

زاد الأمر تعقيداً أن زوجها صلاح عاد في ذلك الصباح إلى البيت يشمله حزن ثقيل، دلف صافقاً باب الحوش وراءه، و "سيبقى صدى هذه الصفقة المدوي يتردد طويلاً " في أنحاء المدينة! ، حدث ذلك بعد ذهابه إلى الدكان بنحو الساعة أو أكثر قليل اً، كانت وقتها داخل المطبخ، تعد " طعام الغداء "، ظنت في البداية أن ابنتها الوحيدة "أمل"، التي غادرت منذ دقائق إلى مدرستها، قد نسيت شيئاً ما، ثم عادت لتسترده على عجل، لكنَّ هاجساً غامضاً دفعها إلى الخروج ...... "المسكينة... لم يرد إلى ذهنها... حتى تلك اللحظة.... أن المرحوم والد صلاح... الذي كان يمتلك نسخة أخرى من مفتاح باب الحوش... قد يعود غاضباً ذات يوم... وقد أضجرته رقدة المقابر الطويلة"، هكذا خرج الكلام من فم "وكالة رويتر المحلية"، وهي تحاول جاهدة أن تضع بعض التوابل على حكايتها في محاولة لتبديد ما تبقى من كرب ارتسم على وجه المحافظ عقب "زيارة ذلك الوزير المتعجرف التفقدية... المفاجئة"، و لاحظ لأول مرة الشُعيرات البيضاء التي غزت رأسها في وقت وجيز عندما قالت : "وذلك المسكين أيضاً... يا سيادة المحافظ... بعد أن قفل باب الحوش... مشي ببطء ... وقد أحنى رأسه... حتى أنه تجاوزها... دون أن يُلقي عليها نظرة واحدة... و "قسماً بالله ثلاثاً"... كما يقول الحاج محمود... لو بُعث والده من القبر حياً ... لما تعرّف عليه داخل تلك الملابس... التي فرضتها عليه فاطمة... كما تعلم... بعد عودة بنتي جارتها من إجازتها الأولى في الخرطوم".

كان يرتدي بنطال "كوردرايت" أزرق ذا نهايات واسعة يعلوه قميص أحمر ذو أكمام جدُّ قصيرة أُطلقت عليه عبارة دراجة طويلة مفادها: "ذراعاه المشعرتان تحتضنان صيف حبيبة حضارية ماطر"، منتعلاً حذاء من "الكموش" الأخضر الباهت ذا قاعدتين مرتفعتين تحدثان لدى ملامسة الأرض "صوتاً مكتوماً"، ولربما... أو لهذا الصوت تحديداً، كان الرجال يقبلون على شرائه ، "صوت" أطلق عليه سادة الموضة في الخرطوم عبارة لا تقل اشتعالاً في جيشانها العاطفي عن سابقتها : "مشية الحضاري الرصينة المُتقنة"، لقد تبدلت أسماء أشياء عديدة في تلك الأيام ، حتى أن الحاج محمود تساءل ذات يوم بغرابة شديدة : "يا وكالتنا... من أين يأتون بأسماء الشيطان هذه " .

سارت وراءه ، وقد وافقت خطاها إيقاع خطواته البطيئة المثقلة ، "لابد أن كارثة أخرى في طريقها إلى تدمير ما تبقى من سلام المنزل"،هكذا حدست فاطمة، وهي تتابع تطاير ورقة صفراء نُزعت على نحو من الأنحاء من كتاب "ألف طريقة لصناعة الحلوى"، حقا ما عادت الأشياء هي الأشياء ، كانت "الهزائم الحضارية المتتالية"، على حد تعبير ناظر المدرسة الأميرية المعني بتدريس "تاريخ حروبات المهدي"، قد حفرت في نفسها عميقاً، لقد أصابتها بنوع من "اللامبالاة"، كان ثمة ريح شمالية جافة واهنة شيئاً ما، تزيل ما تبقى من نداوة ذلك الصباح، وهي تتخلل أغصان شجرة الليمون في أقصى الحوش، ثم تدفع بأوراقها المتساقطة الجافة نحو "مشية الحضاري المتقنة" البطيئة الحزينة هذه المرة، أخيراً تهالك على مقعد داخل صالة المعيشة، غائم النظرات، مشبكاً يديه فوق رأسه، ماداً ساقيه الملتفين نحو طرف سجادة فارسية شديدة الحمرة، بينما علا أزيز الثلاجة "كولدير" الجاثمة على يمينه في تزامن مع صوت الريح التي أخذت تولول في الخارج على حين غرة، كانت لا تزال واقفة إلى يساره داخل "قميص النوم الوردي الشفّاف"، تنظر إليه بعينين واجمتين، ولا تدري أية مصيبة ستقع على رأسها الآن ، "يا ترى.. بعد مرور كل هذه السنوات... ألا تزال ذكرى والده تؤلمه إلى هذه الدرجة ! ... أخبرني بالأمس فقط أنه ظل يزوره في المنام كثيراً... قال إنه يسأله بنصف لسان دائماً... يقول له... يا صلاح... يا ولدي العاق... لماذا تفعل هذا من بعدي.... ثم يؤنبه بوجه يسيل منه الدود... يا صلاح... يا ولدي... أمركم الآن لا يعجبني"، عندما أتت "وكالة رويتر المحلية" للمرة الثالثة على ذكر الموت " على هذا النحو المقزز " ، تلاشت ابتسامة المحافظ، وتقبض وجهه، فطفق ينظر مشمئزاً عبر نافذة مكتبه الزجاجية المطلة على ميدان الحرية الواسع، قبل أن يعود كما كان متابعاً مجرى الحكاية " الشهيرة " كبوصلة .

في تلك اللحظة ، حين تراءى أمام عينيها مثل طيف حبيب آخذ في الذوبان والتلاشي شيئاً بعد شيء ، اقتربت منه خطوة ، ثم بصوت مرتعش خفيض ، خرج من بين شفتيها المرتجفتين ، السؤال الذي ظل يغلي في داخلها طويلاً كمرجل :

- " ما بك ... يا (أبو أمل)" ؟!.

وقد تدحرجت دمعته الخرساء أمام عينيها لأول مرة:

- " لاشيء " .

ما إن اقتربت منه أكثر ماسحة على رأسه براحتها التي كانت تعبق برائحة خليط الثوم واللحمة وشرائح البطاطس الطازجة، حتى حدث ما لم يخطر من قبل على ذهن امرأة ظنت نفسها إلى ذلك الحين أنها "قطعت في سباق الحضارة خطوات".

هب واقفاً دافعاً إياها نحو السجادة بقوة أسقطتها أرضاً، ثم استدار بجزعه كله وأخذ يدق حائط الصالة بقبضتيه ناشجاً منتحبا، قبل أن يمزق على التوالي القميص الأحمر وبنطال "الكوردرايت"، قاذفاً بحذاء "الكموش" كيفما اتفق لتستقر إحدى فردتيه فوق رأس الثلاجة كولدير كما بدا لعينيها المذعورتين في " كآبة " ، كانت تحاول جاهدة أن تلملم ما تبقى لها من أعصاب، وهي تزحف نحو ركن بعيد وتراقب بعيني فأر بركان الغضب الذي تفجر داخل زوجها ..... بغتة ، كانت قسوة الحائط تضغط على ظهرها، المسافة القصيرة تضيق ، وكثيرة هي الدموع التي سالت على وجنتيها قبل أن يتوقف أخيراً و يُحكم قبضته على ذقنها المرتعش ، هكذا ، عوضاً عن تحقق كل تلك المخاوف، وجدت نفسها منطرحة فوق السجادة، عارية تماماً، ساقاها معلقتان على كتفيها، مسامها تتشرب ذلك الخدر اللذيذ الحارق، يداها تنقبضان وتنبسطان ثم تمسدان ظهر الثقل الجاثم فوقها بذهول ، بينما كان يعلو ويهبط بين أحضانها مثل ثور .

هنا، هنا فقط، خطر على ذهن الحاج محمود ذلك السؤال: "كيف يتسنى الكلام لعانس.. لم تذق طعم الرجال قطّ... وتصف مثل هذه المسائل.... بمثل هذه الفصاحة والدقة التي يسيل لها لُعاب المراهقين"، عبر تلميحات غامضة وطرق ملتوية عديدة، طرقت النميمة في الأخير أذن "وكالة رويتر المحلية"،لم تغضب، أو تحاول نفي التهمة المبطنة عنها، بل ردت على السؤال بسؤال مضاد بعد أن وضح لها مصدر الهجوم الحقيقي عليها، قائلة بذات التهكم : " وكيف يتأتى لمُسيلمة الكذاب أن يعرف ما دار في ( ذهن) الحاج وقتها"؟!.

في أماكن أخرى أشاعت "وكالة رويتر المحلية" أن "مصادر لا تكذب أبداً"، أخبرتها أن أبي "الذاهب إلى عمله في مكتبه المزدحم بنباتات الظل والمزدانة شرفاته بزهور الياسمين البيضاء" قد قضى في ذلك الصباح على صلاح "زوج فاطمة" بلكمة "حضارية معتبرة"، موضحة أنه كان يبيع شيئاً "لم تذكر المصادر اسمه" لمجموعة من "الشابات الحضاريات الذاهبات إلى عملهن في مجلة نهضة المرأة"، عندما توقف أبي "الذي بدا وكأن الأرض انشقت عنه فجأة" أمام الدكان، مخاطباً جاره من وسط الشارع بصورة "أثارت ضحك الحضاريات الساخر"، قائلاً: "أيها الجار الطيب.... ثم لندخل في موضوع الساعة الحضاري مباشرة... لقد شكا لي شباب المستقبل النابغة... مرير الشكوى طبعاً... أن البضاعة خاصتكم خالية من العطور الحديثة... وطبعاً أنا أعتقد جازماً منطلقاً من موقعي كحضاري نافع... أن لإصراركم على بيع عطور "بنت السودان"... ثم "خيول جيش المهدية"... وحتى طبعاً "كولونيا خمس خمسات المصرية"... لهو طبعاً أمر معيق لعمل المسئولين الكبار من أجل التقدم"، وأضافت "الوكالة" نقلاً عن "المصادر" أن صلاح لم يفعل شيئاً وقتها "سوى أنه فتح وقفل.. ثم فتح وقفل... ثم فتح وقفل فمه في بلاهة تسببت في بعث موجة أخرى من ضحك الحضاريات"، لكنَّ تلك بأية حال لم تكن مأساة فاطمة الأخيرة، على الرغم من أنها بحسب ما جاء في أحد المجالس قد "عادت عليها بفائدة ما"، وهو ذات المجلس المنعقد وقت الظهيرة داخل الميناء أثناء راحة الحمّالين أسفل إحدى أشجار الكافور الضخمة العائدة إلى أيام الإنجليز، حيث أشاد أحدهم آنذاك بما أسماه "شياطين وكالة رويتر المحلية" الذين "يخبرونها في الليل والناس في سابع نومة بأدق أسرار المدينة حتى لقد جاء أحدهم إلى الحاج محمود في هيئة كلب أسود ليُشهده على مُسيلمة الكذاب ويخبره بذلك عما يخجل هو نفسه من فعله حتى لا يصب بعد ذلك اللعنة عليه وحده".




شيئاً فشيئاً أحياناً، وعبر قفزات نوعية أحياناً أخرى، بدأ "البون الحضاري" في الاتساع بين الجارتين، سوى حروب النميمة والشائعات، سوى تبادل الهجاء صراحة وضمناً عبر الجدار الفاصل من حين لآخر، لم يعد ثمة ما يصل بينهما خلال الآونة الأخيرة، عدا شخص واحد، لعلكم قد عرفتموه الآن يا أصدقائي ، أجل..... "وكالة رويتر المحلية"، التي ظلت تحتفظ على نحو ما وفي أحلك الظروف بعلاقات طيبة مع جميع الأطراف، وهو أمر توضح لاحقاً، حين ماتت أثناء النوم ورأى الناس: كيف سار أبي وصلاح وأمين الحزب والمحافظ وأعداء كـُثر خلف نعش واحد، حتى أن الحاج محمود توكأ على كتف مسيلمة الكذاب ومضيا هكذا متقاربين متأثرين، لكأنهما في طريقهما لدفن عداوات قديمة، أو لكأن قانوناً آخر كان يحكم تلك اللحظة العصيبة من حياة المدينة.

فبينما موسيقى "البيتلز" و "جون ترافولتا" الصاعد بقوة آنذاك أو لربما كان ذلك "جيمس كليف" فضلاً عن أسطورة الغناء الفرنسي "أديث بياف" تصدح خلال حفلات "الديسكو" من جهاز أهدته المحافظة إلى أمي في أحد مهرجانات "عيد الربيع" - "تقديراً لجهودها الحضارية الرائدة"، كانت فاطمة تسعى في نفس التوقيت إلى إقامة "طقوس السحر وشعائر الزار البائدة" حسبما أشارت إليه مجلة "نهضة المرأة" أثناء حملة صحفية استهدفت "جيوب التخلف" ، إلى أن جاءت "قشة الغريق" في ذلك اليوم وتراقصت أمام عينيها كتراقص البرق أمام مزارع حرث الأرض وبذر ثم تسمّرت عيناه قبالة الأفق الشرقي في انتظار المطر بعد طول غياب أو محل طال الأخضر واليابس ولم يذر .

"وكالة رويتر المحلية" أشارت إليها آنذاك بشيء قال عنه الحاج محمود: "هذه فكرة خارجة من رأس شيطان ما ولا ريب "، وفي مثل تلك الظروف، ما كان لقوى أن تمنعها من "تذوق طعم الانتصار الحضاري" مرة أخرى، حتى لو تعلق الأمر هنا بتنفيذ "فكرة خارجة من رأس شيطان أحمر"، وبدا أن مجتمع "الصفوة" وهو يتقبلها في صفوفه مرة أخرى كأب يفتح ذراعيه أمام "عودة الابن الضال"، إذ بلغها أن "رئيسة التحرير" الولود أخذت تديُر القلم من طرفيه، وهي تتلقى "نبأ انبعاثها" من جديد، وما إن تيقنت من "عناصر النبأ"، وكانت تضع هذه المرة رأس القلم بين شفتيها، حتى ابتسمت داخل مكتبها لأول مرة، وتساءلت : "وهل يمنع عُسر الولادة من تكرار المحاولة مرة ومرة "؟!.

راقت صلاح فكرة " الانتقام التاريخي "، والحياة عادت تدب شيئاً بعد شيء في عروق شجرة الليمون، التي لم يذق حوضها المُزدان حديثاً بالطلاء الجيري وعلى مدى عام كامل شحَّ خلاله المطر سوى دم القرابين المقدمة أسبوعياً أثناء شعائر الزار وتلك الطقوس، وصورة والده المعاتبة، لم تعد تقلق منامه، حين عاد إلى ارتداء "الملابس الأفرنجية" طواعية، لكأني أراه الآن، يقتني موضة ذلك العام، مفاخراً على أبواب الستين بقميصه الوردي الذي أطلق عليه سادة الموضة في الخرطوم عبارة ساحرة مفادها "هاهنا.. حبيبتي..... مستقر حلمتيك"، مجادلاً الحاج محمود بين الحين والحين في "حرمة الذهاب به إلى صلاة الجماعة"، مؤكداً على الدوام أن: "النجاسة يا حاج.. ليست في التسمية.... بل في الملابس"، فانياً في عشق بنطال التيل البني ذي الجيوب الجانبية المنتفخة "مرحباً تكساس"، وأي صوت كانت تصدره قدماه عندما ينتعل في المناسبات الخاصة "حذاء خروتشوف الأممي الرهيب" ! .



آنذاك، وقد لاحظتْ أن "السباق الحضاري" لم يعد "مثيراً" كما كان من قبل، أشارت "وكالة رويتر المحلية" قبل رحيلها بشهور معدودة إلى ضرورة أن تسافر ابنتهما الوحيدة "أمل"، كانت تتحدث بكلمات هزت نبرة الصدق فيها شغاف قلب فاطمة، موضحة بهيئة "الناصح الأمين" نفسها أن في" لندن " يمكنها أن تتعلم "النجاح الحضاري من منابعه الأصلية". هكذا، دون أن يدري، وقع صلاح تحت وطأة مطالب قادته في ظرف عام واحد إلى إعلان إفلاسه كتاجر صغير، بينما انقطعتْ أخبار ابنتهما بعد سفرها بنحو ثلاثة أشهر، وحتى الآن،يا أصدقائي، مازلت أتساءل: كيف ستقف " أمل "، إذا عادت في يوم ما، على قبر والدتها، الذي محتْ الأمطار معالمه منذ أمد بعيد؟!.

Post: #131
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-29-2009, 01:36 AM
Parent: #130

[B"لماذا يسلك البشر أحيانا ضد مصالحهم الخاصة"؟.

ذلك تساؤل، تركه ماركس معلقا في "الآيديولوجية الألمانية"، لعل الوقت لم يتح له لطرح المزيد من التصورات هنا، لعله انشغل بأمر آخر بدا وقتها أكثر جدوى في الطريق إلى فردوس البؤساء الأرضي، وذلك شأن العبقرية: لا تعي أحيانا عظمة ما تطرح. أي صرح في مجال صياغة وإعادة صياغة الذاتية البشرية قام أساسه على ذلك التساؤل. أذكر هنا "ألتوسير" و"فانون" و"غرامشي" و"جورن ثوربورن" و"بولانزاس" وغيرهم من الماركسيين "المنبوذين ماركسيا". أغلبهم رحل عن العالم على نحو مأساوي. كان هناك السجن والجنون والسرطان والإنتحار وأشياء فظيعة أخرى. كنت أتأمل في معنى ذلك التساؤل، ناسيا النظر إلى شاشات المراقبة أمامي، والملل قد بدأ يرحل شيئا فشيئا، حين تناهى طرق تلك السيدة الأربعينية على مكتبي. هكذا، وجدتني فجأة أنزلق من كرسي المفكِّر، هاويا بثقلي كله إلى وضعي الحالي كحارس داخل ذلك المجمع التجاري الضخم.
]




يتبع:

Post: #132
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-30-2009, 05:53 AM
Parent: #131

لأسباب غامضة، في ذروة سعادتنا معا، أنا و"أماندا"، كان ثمة ما يتهدد تلك العلاقة في داخلي على الدوام. كان وقع ذلك الإحساس أشبه بوقع مطرقة على رأس المنفي الغريب. ذلك ما يدعونه "الحرمان بعد عطاء". كلما فكرت في ذلك، خطرتْ في ذهني، ولسبب ما، تلك الصورة اليومية من حياتنا معا، مرأى "أماندا"، وهي خارجة من الحمام، لا يسترها شيء، سوى تلك القطرات البلورية تنساب منها كما تنساب قطرة ندى على جسد زهرة بُعيد بوابة الشروق.

هكذا، بدا وكأن الوحدة نخرت في عظامي طويلا، حتى غدا الأمر وكأنني لا أصلح لأية رفقة بشرية من غير الوجود الكثيف لتلك الهواجس.


"أيدوم لنا البيت المرح
نتخاصم فيه ونصطلح
دقات الساعة والمجهول
تتباعد عني حين أراك
وأقول لزهر الصيف.. أقول
لو ينمو الورد بلا أشواك
ويظل البدر طوال الدهر
لا يكبر عن منتصف الشهر
آه يا زهر..
لو دمت لنا..
أو دام النهر".





يتبع:

Post: #133
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 11-30-2009, 06:23 AM
Parent: #132

أمل دنقل، في أقصى درجات الألم، قام بتحويل الموت إلى تجربة جمالية، فعل ذلك بحياد تام، لم يجزع من غول السرطان، لم يتأوه، وكأن الأمر برمته لا يعنيه. "المرض منتشر في جسدك منذ أكثر من سنة، وأنت لا تأتي لمتابعة الكشف، تذكَّر أنك مريض بالسرطان، وأن الأمر أكثر خطورة من أن تتعامل معه بمنطق الشاعر، لقد تجاوز المرض الجراحة ولابد من ذهابك في الغد إلى معهد السرطان". كازنتزاكي، وهو يكابد الألم على فراش موته، آثر أن يواجه المجهول وحيدا، أعطى القس ظهره، وقد أدار وجهه إلى الحائط في صمت. لكأنه يتساءل مع بتهوفن: "رباه، ما سِرُ هذه التعاسة العظيمة"؟.

فان جوخ، الذي أدرك منذ سنوات بعيدة خلوده الإبداعي، أخذ المسدس، ذهب إلى حقل قريب، لعله ألقى نظرة أخيرة على أحب موضوعات رسمه، "الوغد"، فعلها أخيرا. "سمانتا"، حين علمت أنها مصابة بداء "الإيدز"، تحولت إلى عاهرة، أقسمت أن تأخذ معها إلى الجانب الآخر أكبر قدر ممكن من الرجال. قبل عام من إصابتها، بدت في تلك الصورة ممتلئة، عفية، ضاحكة، وعيناها مليئتان بالحياة. ناقشت وقتها "أماندا" عن "ذنب أولئك الضحايا". قالت ببرود أثار حيرتي لفترة: "ذلك خيارهم".

هذا عالم لا رحمة فيه.

حين فتحت الباب، كادت تلك السيدة الأربعينية أن ترتمي بين ذراعيّ من شدة الهلع. بالكاد، تبينت أن رجلا وإمرأة من المشردين، قرب "اتحاد البطاقات الإئتمانية"، مصابان بمرض "الإيدز"، سلبا نقودها تحت تهديد إبر ملوثة. كان لا بد لي أن أتصدى لهما مقابل تلك الحفنة من الدولارات التي أتقاضاها كراتب. "لماذا، يتركون أمثال هؤلاء المصابين هكذا، طلقاء، بلا رقابة"؟. سألت "جيف" في أعقاب تلك الحادثة. قال:

"كندا دولة حرة، يا مستر هميد".

منذ أيام، هاتفتني "أماندا":

"وليم!، "سمانتا" ماتت".

لم تقل شيئا آخر قبل تلك العبارة أوبعدها.





يتبع:

Post: #134
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 11-30-2009, 06:35 PM
Parent: #133

على سبيل الحب نتوقع منك الكثير.


أنيس، محمد، إلهام

Post: #135
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-01-2009, 03:09 AM
Parent: #134

نتوسط مجلس البرنس العامر

Post: #136
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elsharief
Date: 12-01-2009, 03:19 AM
Parent: #135

الأخ عثمان

الف شكر للبوست حول كتابات حميد, كنت لصيق ما كتبه البرنس وخاصة ما كتب فى مدينة وينبييك,اكتشفت فيه سرعة البديهة فى كتاباته وعميق فكريا, وله مخزون فكرى هائل من معلومات من الكتاب العالميين,يعجبنى اكثر فيه ثقته بنفسه, ولكم التحية

Post: #137
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-01-2009, 06:45 AM
Parent: #136

"آه...

لو تعلمين...

أي حزن يبعث المطر،

وكيف يشعر الوحيد بالضياع.. إذا انهمر"؟.



قدمت إلى تلك المدينة الكندية ذات مساء ممطر بعيد. كان في استقبالنا عراقي من مركز "إعادة توطين اللاجئين الجدد" وسائق من شرق أوربا وُجِدَ بعد عدة أشهر مذبوحا في شقته من الوريد إلى الوريد. قيل وقتها إن في الأمر إمرأة. الموت هنا أمر عادي قلما تشعر به. الناس لا يتوقفون عنده طويلا. لكني ظللت أفكر في ذلك الوجه العابر لمدى أكثر من عام. وجه مأكول مسحوب إلى أسفل بذقن مدببة حادة. تتصدره عينان كبيرتان تطل منهما دائما عذابات مجهولة تختبيء في مرات عديدة وراء دخان سيجارته الرمادي الكثيف المتصاعد في خطوط متعرجة أشبه ما تكون بالمتاهة. الغرباء يبحثون أحيانا عن قبور بعيدة وجنائز صامتة.






يتبع:

Post: #138
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-01-2009, 07:49 AM
Parent: #137

بعد نحو ثلاثة أيام من وصولي، سألني منفي كان قد سبقني إلى المدينة بنحو شهر تقريبا: "لماذ لا تتواجد في مجتمع المنفيين حتى الآن"؟. كنت لا أزال أقطن في السكن المؤقت التابع لمركز "إعادة توطين اللاجئين الجدد" بعمارة "كمبرلاند" الضخمة. عمارة يكاد يملؤها القوادون وتجار المخدرات الصغار وبائعات الهوى وما لا يعلمه سوى الله. "وكيف أعثر عليهم"؟، سألته بحيرة لا تخلو من غرابة. قال: "المسألة بسيطة. لديهم برنامج شبه ثابت. يتجمعون عصر كل يوم قبالة هذه العمارة هناك في حديقة "سنترال بارك". يمكنك رؤية الحديقة من هنا. ظهرا يتوافدون إلى محل تجاري ضخم يدعى "بورتج بليس". على مرمى حجر من هنا. ليلا عادة ما يسهرون في شقة عادل سحلب ناحية مقرن النيلين "الفوركس". وهكذا دواليك، يا صديقي". تلك ذات الشقة التي تناهى إليَّ فيها صوت "أماندا" عبر الهاتف لأول مرة. كان ذلك بمثابة نقطة تحول في حياتي كلها. تحول اتخذ مجراه العميق لاحقا، عندما طلبت مني "أماندا" أخيرا أن أنزع وصلة الهاتف عند منتصف تلك الليلة، قائلة بأجفان أسدلتها لذة السُكر على أبواب لذة أخرى: "هذا وقتي الخاص، يا وليم".



يتبع:

Post: #139
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-01-2009, 09:27 AM
Parent: #138

كانت صفحات وجوه أولئك المنفيين تتفاوت من منفي لآخر. ثمة صفحة تشعر كما لو أنها كُتبت تحت تأثير خوف غامض من أسفل لأعلى. صفحة أخرى رُسمت على حواف الملل بأحرف منمقة. صفحة ثالثة تتخلل كلماتها على خلفية من توجس لا مبرر له آثارُ شطب عديدة. صفحة رابعة بانت أحرفها ممحوَّة في أكثر من موقع من جراء دمع الحنين أوالأسى. كان ياسر كوكو، الذي جاء معي إلى كندا بطائرة واحدة، لا يزال يحتفظ بصفحة وجه بيضاء، كما لو أنه لم يغادر جبال النوبة في غربي السودان قط. كان يشعر على نحو ضبابي بوجود خلل على تلك الصفحات. ربما لهذا أغرق نفسه رويدا رويدا بين أفخاذ العابرات بتلك العمارة. لم يكن يفقه كلمة إنجليزية واحدة. لكن فراشه لم يكن يخلو منهن ليلة واحدة. كانت شقته مقابلة لشقتي. كان يتناهى ضحكهن في أنصاف الليالي متخللا ما يشبه الونسة. حين أسأله في الصباح عن سر ما تناهى إلى مسامعي. كان يجيبني بجدية وصدق حقيقيين أنه كان يلقي عليها نكتة بلغة النوبة. طرق باب شقتي مرة بعد الثالثة صباحا بصحبة كنديتين على قدر عال من الملاحة. قال وسط ضجيجهما المرح إنه عثر بهما في ناد ليلي وإنه يطلب أن أنضم إليهم. سألته في فحيح تلك الرغبة إن كان بحوزته عازل طبي لي. ضحك وقال "لا". لكنه أكد لي بجدية أثارت ذعري دفعة واحدة أنه قام مرة باستخدام كيس المخدة كعازل طبي. بعد أيام، سألته كيف وافقته الفتاة آنذاك. قال كانت ميتة من الضحك. كنت دائما أشعر بخيط إخاء متين بيني وبينه. كان محميا بقوة الصدق في أكثر لحظاته الكندية حلكة. لم يكن من عينة أولئك المنفيين الذين يجلسون في "بورتج بليس" ويطالعون العالم من حولهم وكأن بينهم وبينه حواجز غير مرئية.




يتبع:

Post: #140
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-01-2009, 02:22 PM
Parent: #139

Quote: على سبيل الحب نتوقع منك الكثير.


أنيس، محمد، إلهام


ما اجمل الطريق وأكثر الزاد معكم.

Post: #141
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-01-2009, 02:56 PM
Parent: #140

Quote: نتوسط مجلس البرنس العامر


بوجودك أخي عثمان.

Post: #142
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-01-2009, 03:00 PM
Parent: #141

Quote: الأخ عثمان

الف شكر للبوست حول كتابات حميد, كنت لصيق ما كتبه البرنس وخاصة ما كتب فى مدينة وينبييك,اكتشفت فيه سرعة البديهة فى كتاباته وعميق فكريا, وله مخزون فكرى هائل من معلومات من الكتاب العالميين,يعجبنى اكثر فيه ثقته بنفسه, ولكم التحية


الشريف الشريف:

لك هذا الأفق أمنيات وتحققها في مباركة صحة موفورة وحب عظيم.

Post: #143
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-01-2009, 05:34 PM
Parent: #142

هذا العمل السردي (أيام في حياة حارس وحيد) ينطوي على الكثير من الخيال وبعض المواقف الواقعية والأمكنة. وهنا مشهد من "بورتج بليس"، أوportage place في وينبك، حيث تظهر البوابة الرئيسية للسوق التجارية خلال أحد أيام الشتاء:






2547464170_7eb03a38a5.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

Post: #144
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-01-2009, 08:22 PM
Parent: #143

بدأت علاقة عمر و"جسيكا" تشهد منعطفا خطيرا.

في الواقع، لم تكن ثمة علاقة بينهما. كان بينهما تعاقد خفي أقرب إلى الحاجة البحتة المجردة من أدنى قدر ممكن من المشاعر التي يمكن أن يعثر عليها المرء عادة بين عاشقين. كان عمر يرى في "جيسكا" مجرد عاهرة لا بد منها إلى حين وصول زوجته وبناته الثلاث من السودان في بحر عام أويزيد. لم يكن عمر بالنسبة لها في الغالب الأعم سوى محل صغير داخل العمارة يليها في الطبقة الدنيا يمكن أن تطرق بابه في أي وقت لتناول حاجتها كعاطلة من الطعام مقابل أن تباعد ما بين ساقيها لدقائق. "أماندا" أخبرتني مرة أن "جيسكا" لا تعود إليه عادة إلا في أقصى درجات حيرتها. كانت اللغة غائبة بينهما لكن مشاعر الاحتقار المتبادل كانت تفوح بينهما كلما التقيا. عمر كان يلقي باللوم عليَّ على خلفية من حسد غير معلن وهو يراقب بحسرة مسار العلاقة المتصاعد بيني وبين "أماندا". كان يراني "رجلا أفسدته الكتب". "يا حامد، كيف تعامل حتى ال(.........) بتهذيب وأدب"؟. "سيأكلنك لحما ويقذفن بك عضما". "كن مهذبا فقط مع المهذبين وود حرام مع السفلة". "الدنيا دي لو ما وضعت كل واحد في محله الصحيح سوف تندم حيث لا ينفع ندم". كان من مآسي عمر، منذ أن درج على مضاجعة إناث الحمير بعد بلوغه مباشرة في قريتهم صعيد خزان سنار، أنه ظل يغرق نفسه في غضب يأخذعادة شكل الإنفجار، كلما لم يجد تصريفا لبركان الشهوة المستعرة في داخله. وقتها لم تكن إناث الحمير يطالبنه بمقابل و"جيسكا" مثل حوض الرمل في نهار إستوائي قائظ. لا ترتوي حاجتها من الطلبات، البتة.




يتبع:

Post: #145
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-01-2009, 11:20 PM
Parent: #144

لم يتبق في عمر الوردية سوى القليل. كنت أتقدم تلك المرأة الأربعينية بمسافة تسمح لها بالهرب عند أدنى بادرة هجوم. حلقي جاف. أطرافي ترتعش كما لو أنني أسير عاريا في عاصفة ثلجية نشبت قاب قوسين أوأدنى من القطب المتجمد الشمالي. الذعر سيد العالم في هذه اللحظة. كانت غريزة البقاء تجذبني إلى الوراء بشدة والواجب الثقيل قوة غامضة تدفع بي إلى الأمام بلا هوادة. يا لمأزق المنفي الغريب. لعلي أسير صوب حتفي الآن. كان رأسي في تلك اللحظة خالية تماما من أشباح ماركس. كنت مهموما فقط بمصيري الخاص. أي شيطان دفع بذينيك المشردين إلى تخوم مسؤولياتي فلم يعد الأمن فجأة مستتبا داخل ذلك المجمع التجاري الضخم؟. كان هناك شيء يتدفق ببطء بين أقدامي. ربما هو البول. ربما كانت سوائل أخرى. لا أدري. كنت فقط أتخيل منظر إبرة تشهر نحوي في اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت. إبرة ملوثة بداء عضال لا شفاء منه يدعى "الإيدز". هؤلاء الهنود الحمر ينتشرون في كل مكان مثل نفايات لا تصلح لشيء. إنهم الآن مجرد ضيوف في أرضهم لا رغبة فيهم. لم أتصور من قبل غريبا يمنعني من دخول داري الخاصة قبل أن يرميني إلى رحمة الشارع بأعصاب باردة حتى من غير أن يطرف له جفن. لقد تم تدميرهم من قبل هؤلاء البيض قبل مئات السنوات وها أنا فجأة كحارس قادم من وراء البحار للتو أقوم بدفع ثمن لشيء لم أناله. كنت أدعو الله مخلصا له الدين وقارب حياتي يتقاذفه الخطر من كل حدب وصوب. كان من الممكن الآن أن أكون كأبي مزارعا صغيرا في احدى قرى الجزيرة. أزرع القطن صيفا والقمح في الشتاء. أذهب إلى الصلاة في المسجد بانتظام. أشارك الناس أتراحهم وأفراحهم الصغيرة ولا شيء يحول بيني وبين النوم بسهولة. لكن الغرباء يبحثون أحيانا عن قبور بعيدة وجنائز صامتة. التفت نحو المرأة بصعوبة. كانت المسافة بيني وبينها كافية لأن ألتقط أنفاسي وأستجمع ما تبقى لي من قوى خائرة قبل أن أخاطبها بصوت لا يعلم سوى الله أي جهد بذلت في تلك اللحظة لأجعله يتناسب ووضع حارس في بلاد متقدمة: "ها أنتِ ترين، لا أثر لهما هنا بالمرة، لعلهما هربا منذ فترة".





يتبع:

Post: #146
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-02-2009, 08:19 AM
Parent: #145

كان العصر يقترب من نهايته. هذه لحظة يتجلى فيها إله الأسى على سويداء القلوب. الشقة يلفها سكون ثقيل لا قبل لي به، حتى صوت أزيز الثلاجة الرتيب توقف منذ فترة، عندما أغلقت "أماندا" ألبوم الصور، ووضعته على منضدة الزجاج القصيرة في هدوء. كانت ساكنة كميتة، تتطلع إلى أشياء داخلها، عيناها معلقتان على لوحة فان جوخ "نجوم الليل"، لا تكاد تطرف. لم اتخيل أبدا، أنا المغموس في نار الألم، لحظة أن رأيتها لأول مرة، أن الحزن يمكن أن يتوسد سرير جمالها، ويرمي برأسه على وسادتها الحريرية، هكذا، هكذا هكذا.

الغرب ظل يفيض علينا على الجانب الآخر من العالم بمليارات الصور والأفلام. بعضنا حين رأى صورة الغرب عن نفسه قال بطيبة: "الأرض جنتهم وفراديس السماء لنا". الغرب في القاهرة عرض وقتها على المنفيين الدخول إلى جنته. لم يكن يطلب منهم زكاة أوصياما أوحجا أوإقامة صلاة. كان بحاجة إلى عمالة وتوسيع سوق داخلية. كان يتحدث بمكر تاريخي حاجبا مراميه بستار كثيف من الدعاوى الإنسانية. كان المنفيون يتسابقون إلى مكاتب الأمم المتحدة والسفارات فرادى وجماعات. الأعمى شايل المكسر. الشيوعي تبرأ من ماركسيته على طلبات الدخول إلى الجنة التي أتقن دهاقنة "هوليوود" وتفننوا في رسمها. سيدات من بيوت كبيرة على مرمى خطوة من أزواجهن بكين أمام المحلفين داخل السفارات. لم يبكين من قصة اغتصابهن المفبركة. بكين من شبح الضياع في مدينة مثل القاهرة تضيق حتى بسكانها. رجال زعموا أن النظام أفقدهم ذكورتهم فما عادوا يصلحون لشيء. كان بعضهم على أية حال يقرر واقعا. لكن الدخول إلى هذا الفردوس الأرضي لا بد أن يتم بأية وسيلة. لا بد أن يتم حتى بمعونة الشيطان نفسه.




يتبع:

Post: #147
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-02-2009, 08:50 AM
Parent: #146

كان الحزن بعد مطالعة صور "سمانتا" المبتسمة الضاحكة الممتلئة في تناسق المترعة برحيق هذه الحياة حد الثمالة أثقل من أن يحتمله كل منّا على حدة. فجأة، أفردت كف يدي اليسرى. أخذت أُسرِّحها على شعر "أماندا" بحنو شديد. مالت برأسها على كتفي. نامت. شيئا بعد شيء، أخذ الظلام يخفي معالم الأشياء وراء نوافذ الصالة الزجاجية الواسعة. كنت قبلها على وشك أن أسألها أين اختفى ذلك الآسيوي بعينيه المبتسمتين. كنت في الآونة الأخيرة، حين أسير في شارع "سيرجنت"، حيث المومسات على نواصيه علامات لا تخطئها عين، أراها واقفة هنا أوهناك، ترمي صنارتها للمارة والسيارات، وعلى بعد أمتار منها لا أثر يدل عليه مثلما جرت عليه العادة قبل نحو العام أويزيد. "أماندا" لم تكن تطيقه. كانت على قناعة تامة أن الآسيوي سبب بلوة شقيقتها الصغرى. لم أتوصل أبدا إلى معنى تلك الإبتسامة التي ظلت تطل من داخل عينيه برغم ظلال العتمة أحيانا.



يتبع:

Post: #148
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-02-2009, 04:09 PM
Parent: #147

العزيز د / أحمد القرشى
عيد مبارك عليك
وألف شكر على مرورك الكريم أخى .
وأنت المتابع الدايم لكتابات الكاتب الجاد والناشط البرنس .
تحياتى وكثير سلامى أحترامى

Post: #149
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-02-2009, 07:42 PM
Parent: #148

تفاصيل ما حدث داخل شقة عادل سحلب ليلة أن هاتفتني "أماندا" لأول مرة (الرفاق القدامى):

Post: #150
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-02-2009, 09:12 PM
Parent: #149

رأسي لا تزال مثقلة من تأثير الشراب وصخب الأصدقاء الليلة الماضية. يخالجني شعور جميل أن اليوم سيكون مختلفا عن سائر الأيام. شهر أكتوبر. أكاد أشتم رائحة العشب الخريفي في احتضاره. عمر، قال لي، في احدى تجلياته، إن كندا قوَّت إيمانه، "يا حامد، انظر إلى هذه الأشجار، تتحول في شتاء إلى حطب، قبل أن تعود إليها أوراقها في الصيف فتكون خضراء تسر الناظرين، هذا يذكرني بيوم البعث، الإنسان يموت ويتعفن داخل قبره ويجف، ثم يبعثه الله يوم القيامة بشرا سويا". كنت أعوده أثناء مرض ألم به. كان طريح الفراش وعلى طاولة خشبية صغيرة بالقرب منه لاحت صناديق أدوية وكوب من عصير الليمون وحافظة نقوده وصورة متوسطة الحجم داخل برواز خشبي أطلت منها صورة زوجته وبناته الثلاث. قال في تلك الأيام إنه لم يجد دائما الوقت اللازم لإخفاء تلك الصورة قبل مضاجعة "جسيكا". كانت تتركه في كل مرة مهدودا تماما ولم يبدُ عليها ما يشغلها بأمر تلك الصورة. كلاهما كان يدرك جيدا ما يريد من الآخر: الطعام مقابل الجنس، أوالعكس. في أعقاب كل مضاجعة، كان أكثر ما يشغل عمر أن يغتسل بسرعة، ويبدأ الصلاة في الحال، وفمه يلهج بمئات الأدعية المأثورة. كان كالمُدمن، يعلن التوبة، وبقايا الجرعة الأخيرة لا تزال عالقة بفمه.



يتبع:

Post: #151
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-03-2009, 08:55 AM
Parent: #150

حوالي الثالثة صباحا، أقلعت بنا طائرة الخطوط الجوية الهولندية من القاهرة في طريقها إلى كندا عبر أمستردام في هولندا. بدا العدد القليل من اللاجئين متعبا من جراء اجراءت السفر الطويلة والاثارة وسلطان النوم لا يقاوم. ذلك عالم مضى لحال سبيله. ذاك عالم أسعى إليه في حال من انعدام الحزن والفرح على حد سواء. الغربة سرطان الحواس. تبدأ بالنظر وتنتهي باللمس. حتى العودة إلى الوطن لا تُشفي منها. لكن المعجزات قد تحدث أحيانا. ربما لحظة أن يعثر المنفي الغريب على إمرأة من خارج قاموس هذا الزمان. إمرأة تضمه بسهولها ووديانها وجبالها وأنهارها وحقولها وسمائها. إمرأة تغسله ليلا مما علق به من غبار حروبات صغيرة هنا وهناك. إمرأة تلده في الصباح إنسانا جديدا في ط ز ا جة الأمل أوالحياة.

ورائي هناك، إلى الشمال، على بعد مقعدين أوثلاثة، جلس ياسر كوكو، وقد فصل بيننا ممر ضيق ممتد إلى نهاية الطائرة. لفت انتباهي أثناء الرحلة أن ياسر كوكو كان حريصا على متابعتي بدقة متناهية. كنت أحس بأثر عينيه الجاحظتين وهو يمسك بعنقي. تماما كمن يحس المرء بياقة قميص تلتف حوله باحكام في نهار قائظ. أخذ ذلك يزعجني بعض الوقت. مراقبة الناس هوايتي. كان من الصعوبة بمكان أن اتقبل لُعبة تبديل المواقع عن طواعية. أخيرا أدركت أن قاموسه اللغوي لا يحتوي كلمة انجليزية واحدة. كان يشرئب نحوي بعنقه دافعا برأسه إلى الأمام لحظة أن تمر المضيفة بعربة الطعام الصغيرة، أوحين يمر مضيف آخر بعربة أخرى للمشروبات الروحية وغيرها، فيشير إليهما آنذاك صامتا بذات الأصناف من ألوان المأكل أوالمشرب التي سبق له وأن رآني أطلبها. لو طلبت وقتها سما زعافا لفعل.

بدأت الطائرة، وهي تقترب من مطار أمستردام، تهديء من سرعتها، وتهبط صوب مستقرها شيئا فشيئا، كانت الأشياء على الأرض واضحة من على ذلك البعد، الأرض سهلية مخططة بدقة، القنوات تمضي في استقامة عابد، حتى غنج الريح لا يغريها بالاندياح، الطرق سوداء معبدة في تداخلاتها الهندسية الآسرة، كل شيء لامسته يد الإنسان آلاف المرات، يد منذ فجر الخليقة سوَّت وبنت وعدلت ونقضت وشرعت تعمل على ذات الشيء مرة ومرة، لا كلل يصيبها في سعيها المحموم نحو كمال مستحيل، "لا بد أن نسبة الانتحار عالية في هذه البلاد"، ذلك ما طرأ على ذهني لحظة أن لامست عجلات الطائرة مدرج الهبوط آناء ذلك النهار البعيد.

أذكر، حين عبرت الطائرة سماء اليونان، والعالم وراء النافذة لا يزال غارقا في ظلمة حزينة، أني ألقيت السلام في خشوع على "كازنتزاكي"، لعله كان يتبادل مع "تشيخوف" نخب انتصار الكتابة في ركن قصي من الجنة، لم أتصورهما وهما يحرقان بنار الله مطلقا. رحمه الله، كان يقول "الحمد لله الذي خلق لنا الخمرة الجميلة والنساء". أجل، الحمد لله الذي خلق لنا الخمرة الجميلة والنساء والكتابة والقليل القليل من الصداقات.

"أخشى أن أموت، وتموت في داخلي كتب كثيرة".




يتبع:

Post: #152
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 12-03-2009, 09:22 AM
Parent: #151

معك

Post: #153
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-03-2009, 04:08 PM
Parent: #152

العزيز متولى ادريس
ارجو أن تكون بخير أخى ؟
ألف شكر على مرورك الكريم . ولك الشكر وانت تتابع تداعيات البلاد البعيدة
.. نعم يا متولى تلك القطع هى من تفانين عزيزنا البرنس .
الكاتب الذى يخرج من اليراع هذا الشعاع وهذا الجمال ..
لك جزيل الشكر
وكل عام وانت بخير

Post: #202
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-12-2009, 03:23 PM
Parent: #103

إلى حين عودة:

Post: #172
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-07-2009, 04:28 AM
Parent: #101

نتابع مجلس البرنس .
نستمع ونشاهد كيف يحكى ويلون صور الذين جاءوا من منفى وسيط .

Post: #186
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-10-2009, 04:47 AM
Parent: #101

حضور
نتابع المنفى الوسيط المشترك

Post: #154
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عمران حسن صالح
Date: 12-03-2009, 06:43 PM
Parent: #100

عبد الحميد البرنس
قلم أحبه ..
أحس بالخجل حينما أكتب في مكان هو فيه موجود ..
مثله وآخرين يملكون طيب الحديث وجميله ..
أخاف التوغل في تفاصيل سرده ...

Post: #155
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-03-2009, 11:08 PM
Parent: #154

شغلتني الدنيا عن ياسر كوكو طويلا.

كنت تائها في صحراء الرغبة. يكاد يقتلني الظمأ. "أماندا" ماء السراب. "تبدو ولا تبين". ظلت لمدى عامين تقريبا، بعد تلك السهرة مع عمر و"جيسكا"، تشعل الحرائق داخل سراويلي الناشفة، قبل أن تتسرب من بين أصابعي مثل ذرات الرمل الناعم. كنت أطفيء ما اندلع بعلاقات عابرة زادت وهج تلك الحرائق بسعير حرائق أخرى. لعل ذلك ما أرادت وخططت ونفذت بشوق سفينة تتهادى بين الصخور صوب مرساها الأحب بحكمة. آناء ذلك، كانت تشاركني الأنخاب، تجالسني لساعات، تمنحني إمكانية أن أكتشف مفاتيح قوامها المتناسق في رشاقة عارضة أزياء، لكنها أبدا لم تمكني من رؤية النبع لثانية واحدة. كنت سائرا على حافة اليأس والأمل. كانت تؤمن بحكمة أن الرجال إذا ما قضوا وطرهم يقلعون باكرا صوب مصبات أخرى.

لا شيء يخفف من أوجاع المنفي الغريب قليلا سوى الغناء:

بحياتك يا ولدي امرأةٌ
عيناها، سبحانَ المعبود
فمُها مرسومٌ كالعنقود
ضحكتُها موسيقى و ورود
لكنَّ سماءكَ ممطرةٌ..
وطريقكَ مسدودٌ.. مسدود




يتبع:

Post: #156
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-04-2009, 00:18 AM
Parent: #155

عمران أخي:

بارك الله في أيامك.

ممنون

Post: #157
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-04-2009, 02:32 AM
Parent: #156

العزيز عمران صالح
يا مراحب
تفضل يا عمران . البرنس موجود .
نعم . صوت البرنس هنا .. تفضل . مكتبة لها رنين ولها عطر .
كثير شكرى أخى عمران _ تحياتى

Post: #158
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-04-2009, 06:03 PM
Parent: #157

سؤال خارج سياق السرد (كيف غرق ياسر كوكو في مستنقع "سمانتا"/ الدنيا ضيقة):

Post: #159
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-04-2009, 07:16 PM
Parent: #158

متأنق. موفور الصحة. يبدو عليه دائما أنه أخذ قسطا كافيا من النوم. جلده لامع من أثر النعمة. يمضغ طعامه ببطء ومتعة. يؤدي وظيفته كحارس كما لو أنه يعمل مديرا للمخابرات الأمريكية. "اللون الأحمر عنوان هذه الوردية". "طواريء على جميع مداخل ومخارج المحل التجاري". "قابِلني بعد عملية المسح الشامل عند النقطة رقم 17". كان يحلو له كمتحدر من أصل انجليزي أن يحيط نفسه بسياج كثيف من قصص أقربائه الذين يتولون مناصب عليا في الدولة.

في المرات القليلة التي رأيتها معه فيها، بدت نحيلة، متعبة، شاحبة، تتحدث فتحس كما لو أنها توشك على البكاء عند أدنى بادرة، لا تعني بثيابها كثيرا، عيناها حزينتان، لكن في نظرتها شيء أقرب إلى الحنان. شفتاها، حين تقابله أوتودعه، كان يشع منهما حب وديع مسالم، فلا تملك إلا أن تقول في قرارة نفسك: "يا لها من قُبلة خاطفة".

"لكأنه يتغذى عليها، مصاص الدماء"!.

هكذا، بعبارة واحدة، وهي تعبر عن ضيقها القديم به، لخصت "ليليان" علاقة "جيف" مع زوجته "دون فِيشر"، وقد ارتسم على وجهها تعبير طفولي غريب. "ليليان"، كان أكثر ما يزعجها في هذا العالم إلى جانب معاناتها من آلام اللثة أن يتم تغيير جدول العمل كما يحدث عادة وتعمل مع "جيف" في نفس التوقيت أوالوردية.

"اللعنة، هذا الرجل ممل، اللعنة، هذا الرجل يتحدث مثل كتاب، اللعنة، من أين جاء هذا الرجل بكل هذا الشعور بالأهمية "؟.





يتبع:

Post: #160
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-04-2009, 08:07 PM
Parent: #159

جئت إلى كندا لاجئا، مترعا بالخيبات والأحزان، متخما بمشاكل لا حلول لها، غنيا عن صنع عداوات جديدة. الغرباء يمشون في خوف، يأكلون خائفين، يعاشرون بخوف، الخوف غريزة للبقاء في عالم المنفيين الغرباء. ربما لهذا، ظللت أشتري، بحكمة كاهن، من "ليليان" و"جيري" والرئيس "وين" و"جيف"، مشاعرهم تجاه بعضهم البعض كزملاء في بيئة عمل ضيقة. لم أكن أمتلك كغريب ترف أن أكون بائعا. كنت في كثير من الأحيان بمثابة مقلب القمامة المؤتمن على مشاعرهم السلبية. لا روائح تفوح مني. كل شيء يعتمل متعفنا في داخلي. كانوا كلما يقذفون بزبالة يمضون لحال سبيلهم وقد ارتسم على ملامحهم شعور بالراحة كما لو أنهم تخلصوا من شيء كريه. لم يكن يهمهم شيء من حياتي. لكن أغلبهم أبدى لحظة أن غادرتهم مشاعر طيبة. لعله إحساس الفقد بمقلب قمامة مؤتمن و"جيري" المحب نسيج وحده. حتى الآن، لا أدري لماذا يكون الناس، في لحظات الوداع، على هذه الدرجة العالية من المشاركة أوالطيبة؟.



يتبع:

Post: #161
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-05-2009, 02:46 AM
Parent: #160

فى
أنتظار ليليان ..
نتابع

Post: #162
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-05-2009, 07:12 AM
Parent: #161

كانت "دون فيشر" تعمل في مصلحة حكومية غير بعيد من ذلك المجمع التجاري الضخم. كانت في بداية الثلاثين. لكنك حين تراها تضيف لها عقدا. البيض تظهر عليهم آثار السنوات. ينضجون ويهرمون مبكرا. تصادف فتاة في العشرين، أوحتى أقل بكثير، وأنت عند أعتاب الأربعين، تكون هي قد راكمت من خبرات هذا العالم ما يجعلك تطالب بحياة أخرى كيما تقوم بترميم البناء النفسي الهش في دواخلك. أذكر أني قابلت منفيا في القاهرة، كان في أواخر الأربعينيات، وقد قدم للتو من ليبيا، كان يتحدث بصورة غير مباشرة عن سمو أخلاقه، قائلا إنه لا يعرف حتى الآن كيف تبدو المرأة "من تحت". بعدها بأيام، أوردت الصحف المصرية نبأ رجل على مشارف الخمسين قام بقطع عضوه الذكري بعد أن أصابه اليأس من تخزينه كل هذه السنوات. كان محظوظا حين ترك باب الشقة مواربا ولحق به أخيه كرسول من القدر. أفادت "أخبار الحوادث" وقتها أن الأطباء قاموا في ما يشبه المعجزة بإعادته إليه. لم يوضح المحرر ساعتها إمكانية استخدامه لأغراض خارج وظائف التبول العادية. ما كان يشغلني وقتها إمكانية وجود قطة في المكان بعد عملية القطع البشعة تلك.



يتبع:

Post: #163
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-05-2009, 07:47 AM
Parent: #162

في الأيام، التي ظللت أعمل فيها مع "جيف" خلال نفس الوردية، كانت "دون فيشر" تأتي إلى المجمع التجاري، حاملة في يدها شنطة قماش خضراء متوسطة الحجم، تحتوي على طعام داخل عُلب بلاستيكية صغيرة وأكواب فارغة، كان وقت راحتها المخصص لتلك الوجبة النهارية ساعة بالتمام، بينما لا يتجاوز الوقت المخصص لنا نصف الساعة. كانت تقوم بتدفئة الطعام قبل أن تحضر مباشرة. تجلس على مائدة من موائد "كافتيريا" المجمع التجاري الجنوبية الواسعة في الطابق تحت الأرضي. تضع العلب على المائدة في هدوء. تزيح أغطيتها واحدا واحدا. تملأ كوبين بماء مغلي من ماسورة ملحقة بالكافتيريا. تسكب على الكوبين من صرة صغيرة مسحوق شوربة صينية مجففة تفوح منها رائحة بهارات قوية. كانت تفعل ذلك بتساو دقيق. لكأنها تزن أمرا أقرب إلى الذهب. لا ريب أنها كانت مليحة في مطلع شبابها. آثار الجمال القديم على وجوه النساء يصيبني بنوع من الأسى. أخيرا، حين يقبل نحوها "جيف"، قبل خمس دقائق من بداية وقته المخصص للراحة، وكان يسترق مثلها بعد انتهاء الزمن المحدد له؛ يجدها في العادة تنتظره مطرقة، تضغط على أصابعها بعصبية خفية، وهو كان ينحني، يقبلها خطفا، وقد ارتسم على وجهه ذلك التعبير الإنساني الخالد: الجلوس إلى المائدة


يتبع:

Post: #164
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-05-2009, 08:49 AM
Parent: #163

Quote: فى
أنتظار ليليان ..
نتابع


والله (ياعثمان) أخوك كمان متابع. عمنا المبدع الكبير إبراهيم أصلان كان بقول في مثل هذه المواقف (ربنا يبعت). بفكر من أمبارح في كم خيط للمتابعة. احترامي وتقديري وممنون لك كتير.

Post: #165
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-05-2009, 02:05 PM
Parent: #164

آثار الجمال القديم على وجوه النساء
يصيبنى بنوع من الأسى .
...
يا للسحر ويا للجمال . أرسم يا صديقى العزيز

Post: #166
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 12-05-2009, 07:00 PM
Parent: #165

sudansudansudansudan053sudan.jpg Hosting at Sudaneseonline.com


Quote: شيئاً فشيئاً أحياناً، وعبر قفزات نوعية أحياناً أخرى، بدأ "البون الحضاري" في الاتساع بين الجارتين، سوى حروب النميمة والشائعات، سوى تبادل الهجاء صراحة وضمناً عبر الجدار الفاصل من حين لآخر، لم يعد ثمة ما يصل بينهما خلال الآونة الأخيرة، عدا شخص واحد، لعلكم قد عرفتموه الآن يا أصدقائي ، أجل..... "وكالة رويتر المحلية"، التي ظلت تحتفظ على نحو ما وفي أحلك الظروف بعلاقات طيبة مع جميع الأطراف، وهو أمر توضح لاحقاً، حين ماتت أثناء النوم ورأى الناس: كيف سار أبي وصلاح وأمين الحزب والمحافظ وأعداء كـُثر خلف نعش واحد، حتى أن الحاج محمود توكأ على كتف مسيلمة الكذاب ومضيا هكذا متقاربين متأثرين، لكأنهما في طريقهما لدفن عداوات قديمة، أو لكأن قانوناً آخر كان يحكم تلك اللحظة العصيبة من حياة المدينة

Post: #167
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: حيدر حسن ميرغني
Date: 12-05-2009, 07:21 PM
Parent: #166

شكرا عثمان ان اسرجت للبرنس خيل القلم
وتحية لالهامه وصغارهم
كم سر قلبي هذا البوست

Post: #168
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-05-2009, 09:30 PM
Parent: #167

الحنين:

كذلك أحب هذا البوست لهدوئه. الصخب عادة لا يجعلني أعمل على نحو جيد. ومداخلتك ذهبت بقلبي بعيدا. تحية متجددة.

Post: #169
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-05-2009, 11:47 PM
Parent: #168


Post: #170
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-06-2009, 08:46 AM
Parent: #169


Post: #171
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-06-2009, 02:24 PM
Parent: #170

سلامات
يا عزيزى حيدر حسن ميرغنى .
انا أشكرك أنت .
البرنس هو الذى أسرج الخيل الى عالم ماركينز وبابلو والى تلك القرية التى على
النيل . البرنس هو الذى ظل يتابع الاسراج من ضفاف أنهار تلك البلاد البعيدة .
.. لك وله جزيل الشكر أخى العزيز .

Post: #173
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-07-2009, 06:29 AM
Parent: #171

عثمان أخي:

أجدني الآن أضع خطة للذهاب بهذا السرد بعيدا. ثم أعود إلى هذه الفكرة أوتلك تعديلا أوحذفا. لا أستقر على حال أمام طرح نموذج سائد لما يدعى "اليساري" في مجتمعنا. شخصية "عادل سحلب"، كما سنرى، في علاقته بالمرأة ممثلة هنا في "مها الخاتم" مسألة غاية في الأهمية على صعيد إعادة النظر في مفاهيم وتجليات سائدة عن "التقدمية" أو"الطليعية" ومهما كانت المسميات على رأي صديقي فرانتز فانون.

على سبيل الجملة الاعتراضية: لا أرى الطائفية مسألة على قدر عال من الخطورة إذا وضعنا في الاعتبار مسألة تفريغ قيم ومفاهيم العقلانية أوالحداثة من الداخل من خلال تبنيها أوإنتاجها عبر مناهج مثالية أوتقليدية لا تفعل في نهاية المطاف سوى إعادة إنتاج التخلف في صور تبدو عقلانية للوهلة الأولى. هذا مستوى داخل رواية "أيام في حياة حارس وحيد" وهي كغيرها من أعمالي الأخرى أحاول خلالها ما وسع الجهد الجمع بين "العمق والبساطة والمتعة في آن".

على مستوى آخر، حتى الآن أعمل على المضي في هذا العمل من خلال كتابة مباشرة أحاول عبرها معالجة خوفي من الكتابة نفسها. وهذه واحدة من حسنات هذا الموقع. لكن المعالجة النهائية وما يصاحبها من عمليات تنقيح وحذف وإضافة تحتاج مني إلى قدر عال من العزلة: العودة إلى وضعي القديم ككاتب تقليدي. هناك قد تبرز مسألة النسب والتناسب بين ما هو حكي وبين ما هو سردي.

الكتابة مسألة شائكة.


مودتي

Post: #174
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-07-2009, 04:20 PM
Parent: #173

Quote: معك


أم العيال:

إلى نهاية العالم.

تماما، مثل شخصيتين خارجتين من (الحب في زمن الكوليرا) لماركيز.

Post: #175
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-08-2009, 02:20 AM
Parent: #174


كنت قد هبطت إلى تلك المدينة ذات مساء ممطر بعيد ضمن فوج صغير من اللاجئين بعد رحلة طويلة وشاقة تماما. ولم يكن يخطر في ذهني أبدا أن يكون الأمنجي السابق قد سبقني إليها بأعوام كنت خلالها أحاول عبثا الشفاء من آثار حروق طبعها تعذيبه على روحي في زمان برز أمامي دفعة واحدة حالما وجدته في استقبالي ضمن مقيمين آخرين وكنت قد ظننت أن ماهربت منه قد تركته ورائي مرة واحدة وإلى الأبد. أجل.. هذا زمان المهازل وغربة الأرواح النبيلة ولاعزاء _



ونتابع

Post: #176
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-08-2009, 06:10 AM
Parent: #175

-"هل تعرف مها الخاتم"؟.



كانوا داخل شقة عادل سحلب. تلك الليلة المشهودة. خليط من منفيين وفدوا إلى كندا من شتى بقاع العالم. حتى الصين كانت حاضرة هناك في شخص كلما حفظت اسمه نسيته. لم تكن لديه علامة مميزة. إن شئت كان مثل ماء الوضوء. لا لون، لا طعم، لا رائحة له. لم يشارك في تلك الحوارات بشيء. لم يغن مع المنفيين لحظات أن استبد بهم وجد ورغبة فصدحت حناجرهم بترانيم خافتة أقرب إلى دندنة بحّارة متعبين على مشارف العاصفة. لم يكن يتعاطى أي نوع من الخمر. لم يلق قصيدة كما فعل آخرون. كان مهموما فقط وحتى النهاية بملء الكؤوس الفارغة وتوزيعها على المنفيين بدقة خط إنتاج في مصنع ياباني كبير.




يتبع:

Post: #177
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-08-2009, 07:57 AM
Parent: #176

حسوت كأسي الأولى، الثانية، الثالثة. لم أعد أحسب. كانوا يرفعون الكؤوس في الهواء قائلين "في صحة القادمين الجدد إلى كندا، يحيا الوطن". كان هناك "الويسكي"، "الفودكا"، "الشيفاز"، "المارتيني"، وما لا يعلمه سوى الشيطان. كنت أخلط كأسي ببعض الماء، فإذا بصوت عادل سحلب، كخطيب سياسي سابق، يتناهى من وسط ذلك اللغط، منشدا أبيات الحسن بن هانئ الحكمي الدمشقي:

أثْـنِ على الـخَمْـرِ بآلائِهـا وَسَمِّهـا أحـسَـنَ أسْمـائِهَا
لا تـجْعَـلِ الماءَ لَها قاهـراً وَلا تُسَلّطْهـا على مَـائِهَا

كان حضور الصيني، ساقي الأرواح العطشى، يتمدد لحظة أن تفرغ كأس هنا أوهناك، بعدها ينحسر تماما، وكأن لا وجود له. حين استقر بي المقام في المدينة قليلا، علمت أن الصيني يشارك عادل سحلب سكنى الشقة، يتقاسمان النفقات مناصفة، وقد ظل عادل سحلب يذكرني باسم صاحبه في كل مرة بلا جدوى. كان اسم الصيني قد استقر في نفسي مرة وإلى الأبد. حكى لي عادل سحلب أن الصيني ظل يقوم بدور الساقي منذ فترة في أعقاب وعد قطعه له يوناني يدير سلسلة من النوادي الليلية بالعمل في وظيفة ساقي بعد قضاء فترة تطوع تمتد إلى ستة أشهر. كان شرط اليوناني أن يكتسب الصيني خلال هذه الفترة ما أسماه "عقلية محترف في كندا". قال له لا تكثر من الشراب فإذا توقفت عنه تماما تكون قد أوفيت بنصف الشروط الواجب توفرها في محترف. "لا تتحدث كثيرا". عملائك غالبا ما تدفعهم الوحدة القاتلة للحضور. كن مستمعا جيدا. كنت أفكر عند هذه النقطة أن الصيني أبعد ما يكون من إنسان يمتلك حسا عاليا للدخول مع محدِّثه في وحدة شعورية. كان يمتلك وجه دبلوماسي على مائدة مفاوضات شائكة. أكد لي عادل سحلب أن الصيني ظل يتقمص دور الساقي داخل الشقة حتى خلال الأيام التي لا يحضرها المنفيون الآخرون. كانت تلك سانحة طيبة بالنسبة لعادل سحلب كخطيب سياسي سابق. كان يتحدث والصيني يملأ الكأسات ويضعها أمامه كمحترف.


- "هل تعرف مها الخاتم"؟.






يتبع:

Post: #178
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-08-2009, 08:13 AM
Parent: #177

في صباح قاهري بعيد، من تلك الصباحات الصيفية الحانية، رأيتها تحمل في يدها أوراقا، وهي تعبر بوابة مكتب الأمم المتحدة، فجأة شعرت كما لو أنني أرى الحياة نفسها.

عينان واسعتان، سوداوان، عميقتان، يشوبهما حياء غامض، تتوغل فيهما فتشعر وكأنك تتأمل سطح بحيرة هادئة في أوقات السحر. قمحية، ضامرة الخصر، ممتلئة الفخذين في تناسق ورشاقة، طويلة، صدرها مرتفع قليلا، عنقودا عنب وقت الحصاد.

شعرها طويل، أسود فاحم، لكأنه يذوب في الهواء من نعومة، نسجتْ على جانبيه ضفيرتين، نيليتين، كانتا تسيران كغريمتين من أعلى وجهها المستدير في اتجاهين مختلفين، لكنهما تلتقيان عند مؤخرة رأسها في عناق حميم، قبل أن تتوحدا وتسقطا برفق إلى أعلى ردفيها بقليل.

تلك، كانت مها الخاتم حين رأيتها لأول مرة.




يتبع:

Post: #179
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-08-2009, 04:14 PM
Parent: #178

تفضل
ياعزيزى .
دع اليراع يرسم لنا صور تلك الصباحات الحانية .
كتير سلاماتى لكم .

Post: #180
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-08-2009, 06:39 PM
Parent: #179

حين ألقى عادل سحلب ذلك السؤال، صمت أولئك القادمون من القاهرة فجأة، وبدا وكأن من تبقى أصابته العدوى فأخذ يتطلع إلى عادل سحلب بشيء من الفضول، كانت تلك التساؤلات لا تزال عالقة في ذهني حول قصة علاقتهما معا، تلك العلاقة التي أضحت بمثابة فاكهة لا تنفد في حياة أولئك المنفيين على مقاهي القاهرة، وقد أضيف إليها الكثير وحذف منها الكثير. كان أكثر ما يدهشني من تلك الحكايات أن الكثير من الرواة لم يسبق لهم رؤية (على الأقل) أحد بطليها. لكن ما الذي دعاه في تلك الليلة إلى أن يطرح أمرا خاصا في مجلس عام؟.



يتبع:

Post: #181
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-08-2009, 11:00 PM
Parent: #180

كان يوما عاديا من أيام شهر سبتمبر. كنت أسير في شارع "سرجنت" صحبة ياسر كوكو. "أماندا" كانت في زيارة لصديقتها القديمة "جيسكا". لم يكن لدي ما أفعله إلى حين عودتها آخر المساء. كان عمر قد أخبرني أنه فهم من "جيسكا" عبر لغة جسدية شائكة مليئة بالإشارات ومصحوبة برسومات توضيحية على أوراق دعاية كانت تصله مثل غالبية الناس بواسطة البريد أن "أماندا" لا تحبني وأنها هاربة من أناس لهم مسدسات وأنه بمجرد أن تعود الأمور إلى مجاريها ستتركني بلا أسف. كان من الصعوبة بمكان تصديق مثل تلك الرواية. بالنسبة لي، بدا الأمر برمته أشبه ما يكون بسيناريو فلم هندي سيئ الطبخ تماما. كنت أدرك ما يدور بينهما عند كل لقاء. "جيسكا" تطرق الباب ثملة أوتكاد. عمر يعرف طرقاتها المتسارعة جيدا. يتركها على كنبة في الصالة كانت قد جاءته مثل بقية المنفيين كدعم ضمن أثاث بسيط آخر من وزارة الهجرة. كان يعود من المطبخ بكمية من طعام تم طهيه بيد تدربت على العيش في الغربة طويلا. كانت تلتهم اللقم بعينين غائمتين وشهية لا تصدق. أثناء ذلك، كان ينظر إليها مثلما ينظر أعرابي إلى دابته وهي تعلف على أبواب رحلة وشيكة. ضحكتُ وقتها كما لم أضحك من قبل. أخيرا، سألته: "وكيف أوضحت لك "جيسكا"، وأنت لا تفقه حرفا واحدا من الانجليزية، أن "أماتدا" مطاردة من قبل رجال يحملون مسدسات"؟. قال "بسيطة، بعد أن فرغت منها، أمسكتْ بقلم، وأخذت ترسم على طرف جريدة، أشارت إلى الرسمة و قالت لي هذه "أماندا"، ثم وقفت وجرت داخل الغرفة في حركة تمثيل، ثم عادت ثانية ورسمت رجالا وراء رسمة "أماندا"، ثم قامت وجرت داخل الشقة في وضع مهاجم، وكانت تستخدم يدها مثل المسدس، وهي تقول: تشي شن طآآآآخ تشي، بعدها أشارت نحوي بإصبعها قائلة أنت وليم (يعني أنا حامد)، ثم أشارت بإصبعها إلى نفسها وهي تقول أنا "أماندا"، ثم حضنتني وهي تقوم بتمثيل دور الخوف". كان هناك دلائل من الحزن بدأت تظهر على وجه عمر، حين وجدني أتلقى تحذيره بتلك الضحكة، نهض بُعيد ذلك بتثاقل لم أعهده فيه، قال وهو يودعني عند باب شقتي: "أسأل الله، من قلبي، ألا تكون (يا حامد) قد ضممت إلى صدرك حيّة، جلد ناعم وأسنان سامة". شيئا فشيئا بدأت الأيام تكشف لي أن رواية عمر للأحداث على سذاجتها ولا واقعيتها كانت تنطوي على قدر لا غبار عليه من الحقيقة.



يتبع:

Post: #182
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-08-2009, 11:07 PM
Parent: #180

عزيزتنا الأخت الهام
سلامات والعيال .
ارجو التكرم بوضع بعض صور بورتج بليس .
وصور شقة القاهرة .
ونيل القاهرة .. شعليقيها لنا هنا فى قلب الكتابات . عنكليها هنا .
صور للتاريخ . وللزمن .
تحياتى وكتير شكرى

Post: #183
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-09-2009, 06:29 AM
Parent: #182

get-5-2009-n8l4cq9t.jpg Hosting at Sudaneseonline.com




لكأن إعصارا حلّ خطفا ببستان مها الخاتم.




يتبع:

Post: #184
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-09-2009, 03:59 PM
Parent: #183

مها

Post: #185
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-09-2009, 06:08 PM
Parent: #184

كان شعور بالأسى غريب يرتسم على وجه "أماندا" من حين لآخر. في البدء، قلت إنه "الغروب"، لا ضوء، لا ظلام، فقط العتمة تغلف ملامح الأشياء، لكأن الفناء على وشك أن يتهدد بقاء هذا العالم. لكن الأمر أخذ يتكرر في أوقات أخرى أبعد ما يكون منها ذلك الشعور المقبض الثقيل.

- "هل أنتِ حزينة، يا أماندا"؟.

كنّا عاريين تماما، وقد فرغنا للتو من ممارسة ظلت تجأر خلالها باللذة أحيانا، وبالضحك عند ملامسة مناطقها الأكثر حساسية أحيانا أخرى، بعدها هبط عليها فجأة ذلك الشعور، شعور غريب على ليلة بدت رومانسية حالمة، شعور كنت ألمسه وهو يطل من عيون نساء انزلقن للتو نحو احدى وظائف العالم الموغلة في البعد والقدم. كان التلفاز يقبع في أقصى أركان غرفة النوم. تدور على شاشته أحداث سياسية صامتة في مكان بائس من الكرة الأرضية. كانت تجلس عند رأس الفراش، تثني ساقيها إلى أعلى، مصالبة ساعديها فوق ركبتيها المتباعدتين، تضع رأسها فوق رسغها، غلالة رقيقة تعشي عينيها، كانت تتمعن في نقطة بعيدة خارج نطاق البصر. ذات الشعور رأيته يطل من وجه مها الخاتم في مساء يبدو لي الآن بعيدا ونائيا تماما. كان حزنها خلال أيامها الأخيرة في أرض الكنانة، يشبه مطر المناطق الاستوائية إلى حد بعيد، تارة يندلق ثقيلا متواصلا، وتارة أخرى يهمي خفيفا متباعدا، وفي كلتا الحالين لا تدري متى يبدأ أويتوقف. إنه تعب المنفى.

لم تُجب على سؤالي. فقط طلبت مني أن أملأ لها كأس الويسكي إلى الحافة قبل أن تخلد إلى صمت عميق أخذت تتفتق خلاله تلك الجراح المتقيحة واحدة واحدة.





يتبع:

Post: #187
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-10-2009, 08:16 AM
Parent: #185

كان عادل سحلب قد سبقني إلى كندا بسنوات عديدة. لم تكن تجمعني به في القاهرة سوى أنشطة المنفيين العامة. حتى هذا كان يحدث على فترات متباعدة. لكني بدأت أتعرف عليه، أكثر فأكثر، من تلك الحكايات التي ظلت إلى حين رحيلي سرا إلى كندا تنزف من قلب مها الخاتم. "شرف المرأة في عقلها". كان ينسج شباكه حول فريسته على هذا المنوال. "إذا سقط الشيوعي فانه يسقط عموديا". كنت أنسج شباكي حول ذات الفريسة بطريقة أخرى. لكنها لم تكن مها الخاتم حين رأيتها وهي تعبر بوابة مكتب الأمم المتحدة ذلك الصباح الصيفي البعيد. كان حطام مها الخاتم. لم يكن ثمة من سبيل لاستدراجها سوى بناء نفسي على أنقاض سقوطه الشنيع "في نظرها". كان كادرا خطابيا مفوها. كنت ولا أزال دودة كتبٍ مطهمة حتى الثمالة بمجموعة متفرقة من أشعار وحكم وأمثال وأقوال مأثورة وأعرف كيف أجعل زواحف الأرض تنظر إلى نفسها كما لو كانت تنظر إلى العالم من قمة جبلية. لكل منّا طريقته والهدف واحد.


يتبع:

Post: #188
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-10-2009, 02:39 PM
Parent: #187

تحية خاصة للأعزاء:

أحمد عبدالمكرم

عادل القصاص

أحمد الملك

Post: #189
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-10-2009, 07:59 PM
Parent: #188

قلت لها ناسجا شراك من خيوط العزاء الحريرية الناعمة "هذا الوغد، ظل يتشدق في الندوات واجتماعات الحزب قائلا إنه يندرج في تيار إحياء الإنسان، لكنه يُميتك أنتِ سليلة هذا المجتمع الأبوي آلاف المرات في اليوم، إنني أعلن أمامك الآن أنني على استعداد تام لرأب ما تصدع بجريرة غيري". كنت بمثابة بريق خادع تراءى لضال على حواف اليأس في ليلة ريفية حالكة. كنت أشعر في قرارة نفسي وكأني أضاجع جثة نضب ماء الحياة في داخلها منذ أمد بعيد. لم تكن مها الخاتم لحظة أن رأيتها لأول مرة وهي تعبر بوابة مكتب الأمم المتحدة في القاهرة على طريقة "واثق الخطو يمشي ملكا". لقد بدت فريسة لرسالي ما انفك يتشدق بضرورة إحياء الإنسان أينما اعتلى منبرا أوتصدر مجلسا. ربما لهذا لم أخبرها آنذاك بقبولي كمهاجر إلى كندا. لم يكن في عزمي أن أقضي ما تبقى لي من عمر صحبة "فطيسة". كانت تقاليد "فقه الضرورة" في منفى بائس وسيط مثل القاهرة سائدة كطريقة حياة. كنت أتعامل مع بقايا من أكل قبلي بنفسية ضبع. لم تكن تهمني كثيرا رائحة عادل سحلب التي ظلت تفوح نتانتها من جسدها المنهك كلما جمعنا الفراش المسترق معا. كنت أكتم أنفاسي وأبدأ الأكل وفي كل مرة كان يلازمني احساس غامض أنها وجبتي الأخيرة.




يتبع:

Post: #190
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-10-2009, 10:36 PM
Parent: #189

يجب التذكير أن هذا العمل السردي مجرد وقائع من الخيال وإن تشابه في بعض أجزائه مع الواقع.

Post: #191
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-11-2009, 04:29 AM
Parent: #190

كيف رسمتها يا حميد ؟
كيف ؟
. ملامح وجه أماندا جميلة .
جميلة يا حميد .
... نتابع

Post: #192
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-11-2009, 05:07 AM
Parent: #191

حين أكتب شيئا ما، يا عثمان، أحاول تلقائيا قدر ما وسع الجهد أن أعطي أهمية قصوى لثلاثة: الحب، الحرية الداخلية، والخيال. الحب في تصوري يحول دون احكام القيمة المجانية، سمو نحو المطلق، قدرة لا نهائية على التسامح أوالتجاوز، وتعاطف عميق مع الضعف البشري. الحرية الداخلية من منطلق أن الكتابة لدي تشكل في مستوى فعلا ثوريا وعمل هو عرضة في أية لحظة للدخول في صدام مع أيا كان من أشكال التابو أوالمحرمات القائمة. الخيال يعمل على توسيع أبعاد الواقع الضيقة ويسمح بطرح احتمالات بديلة للحياة الراهنة على نحو يجعل العالم أكثر إنسانية أوقابلية للعيش. دمت أخي.

Post: #193
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-11-2009, 05:51 AM
Parent: #192

"إن العفة، يا أخي ليو، تجلس لوحدها تماما على قمة حافة مهجورة من خلال عقلها تمر على كل المتع المحرمة التي لم تذقها، وتبكي". منذ ساعة تقريبا، أخلدت "اماندا" إلى النوم في صمت. هكذا، تركتني وحدي أتأمل في مغزى تلك العبارة، من كتاب كازنتزاكي "فقير الله القديس فرانيس الصقلي"، على ضوء شاشة التلفاز الصامتة. رأسي مليئة بالعبارات. وجه مها الخاتم لا يزال يطل من ثنايا العتمة كوجه من عالم بعيد "لا أريد أن أتذكره".



يتبع:

Post: #194
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-11-2009, 08:34 AM
Parent: #193

كان رواد المقاهي من المنفيين الغرباء يحكون ما يتداعى به عادل سحلب لحظة أن تتمكن منه سلاطين السُكر. قال "لقد انزلقتُ عميقا داخل عسل تلك الفاتنة". كان ولا يزال مثلي مولعا بالعبارات الغامضة. شيئا فشيئا، بدأت حصانتها تتهاوى، توازنها يتأرجح، الحلقات حولها تضيق. هذه مملكة شامخة تداعت حصونها. في مثل تلك الظروف، لم يكن من الممكن نسج شراك أخرى لذات الفريسة من غير خيوط الاحترام. ذلك ما قد تبادر إلى ذهني في أعقاب أحد الاجتماعات الحزبية. "امنح الناس ما حُرِموا منه بعد عطاء". كان رأس الحكمة يشتعل داخل سراويلي الناشفة. كان لا بد من الإبقاء بطريقة أخرى على تلك الأسباب التي أحرق عادل سحلب سبل الوصول إليها: "قمة الثورة أن توافق إرادة أنثى إرادة رجل في عالم تتحدد فيه قيمة أحد الأطراف ببقاء غشاء البكارة أوزواله". وهذا ما حدث. خلال الأيام الأولى، بدا وكأني صدقت دور "المنقذ"، كنت ممثلا بارعا، لكني ما أن شبعت بعد عامين أويزيد، حتى بدأت تتسلل إلى أنفي من جسدها المبذول، تلك الرائحة النتنة، وموروث الأمثال الثقيل يرن في أعماقي مثل أجراس الخطر تتناهى من مكان بعيد: "لا تبل في شق بال فيه غيرك". أتذكر الآن أنها بدأت تنتعش إلى جواري رويدا رويدا. لم تكن تعلم وقتها أني لا أجيد السير خارج أرض العبارات كثيرا. أي بركان ثوري يعتمل في داخلي لم يمنحني حتى شجاعة أن أودعها في طريقي إلى كندا؟.



"الكتابة هي الملاذ الوحيد لمن خان".




يتبع:

Post: #195
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 12-11-2009, 09:11 AM
Parent: #194

العزيز عثمان
سلام
اسمح لي بصورة قديمة شوية للبرنس في الاسكندرية



sudansudansudansudansudansudansudansudansudansudan33.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

Post: #196
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-11-2009, 01:52 PM
Parent: #195

أم العيال:


ربما كنت وقتها أتطلع إلى شيء جميل يدعى الأسرة بعد أن أضناني الحنين إلى أسرة تركتها ورائي.

Post: #197
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-11-2009, 06:17 PM
Parent: #196

كان يوما عاديا من أيام شهر سبتمبر. كنت أسير في شارع "سرجنت" صحبة ياسر كوكو. "أماندا" كانت في زيارة لصديقتها القديمة "جيسكا". لم يكن لدي ما أفعله إلى حين عودتها آخر المساء. كان الوقت يعبر منتصف عصره حين تجاوزنا تقاطع "سرجنت" مع شارع "تورنتو".

في وقت متأخر من صباح الثلاثاء الموافق الرابع والعشرين من شهر يوليو من عام 1934 فجعت مدينة "وينبيك" بمصرع "سرجنت جون فِرن" أثناء مكافحة سطو مسلح على صيديلة "نوربيردج" في العقار رقم 11 من شارع "ماري". كان ثالث رجل يلقى مصرعه من قوات البوليس. لم يتجاوز عمره وقتها تسعة وثلاثين عاما بعد. يكشف تاريخ خدمته أنه التحق بقوى صغيرة قوامها عشرة رجال تعمل في ضاحية "سان بونفيس". كان ذلك في العشرين من أغسطس من عام 1920. بعد نحو العامين تقريبا، ترقى إلى رتبة "سرجنت". لم تذكر المصادر تحديدا عدد الأطفال الذين تركهم لأرملته من غير وداع. كل ما خرجت به الأرملة آنذاك مرتب شهرين (400 دولار) ومبلغ (40 دولار) من مؤسسة تعويض العاملين التي خصصت كذلك مبلغا ضئيلا لكل طفل. المدينة التي أطلقت اسمه على أحد شوارعها لاحقا لم يغب عنها في بادرة طيبة أن تتكفل بمصروفات الجنازة.

"سرجنت جون فرن"، حين تلقى في مكتبه تقريرا بالحادث حوالي الثامنة والربع صباحا، وحتى وهو يخلِّف على مكتبه أحد رجال المطافيء لنقص في القوى اللازمة من البوليس، لم يدر بذهنه قط أن الشارع الذي سيحمل اسمه بعد حتفه الوشيك سيتحول تدريجا إلى ملتقى دائم بين المومسات والباحثين عن لذة عابرة.




يتبع:

Post: #198
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-11-2009, 08:01 PM
Parent: #197

مثل تلك التواريخ المنسية داء أصابني منذ مدة. "عاش (95) عاما، وأنجب (153) ولدا و(51) بنتا، من (5) زوجات". هكذا، وأنا لا أزال في القاهرة، لم تكن تشغلني فتوحات رمسيس، لم يكن يشغلني ما ترك وراءه من أحجار تبدو كشواهد خالدة على عظمته، بقدر ما كانت تشغلني تلك الجوانب المهملة من تاريخه الشخصي. كان ياسر كوكو يسبقني في السير بخطوة. لم يكن يشغله من أمر هذا العالم شيء. كل ما كان يشغله في تلك اللحظة أننا غادرنا شقتي إلى حيث نقابل بعد دقائق بعض المنفيين الغرباء على مائدة للدردشة من موائد "بورتج بليس". كنت أسير على الدوام ملتقطا في طريقي أدق التفاصيل. أعقاب السجائر، فتات الطعام، غنج النساء حين تشي به الخطوة، حيرة العصافير على رؤوس الأعمدة، آثار الأقدام، رائحة الهواء عند الأزقة أوالميادين المفتوحة، العوازل الطبية التي يرمي بها المشردون أسفل دغل كثيف، شظايا زجاجية صغيرة عند منتصف الأسفلت في نهار مشمس تجاوز ثلثه الثاني بقليل أويكاد، ماركة العربات وتاريخ إنتاجها، وجه عجوز يطل من وراء نافذة زجاجية متسخة، أحاديث المارة العابرة، لوحات الدعاية، الشجر، البيوت، المحلات التجارية. لعلي بكل هذا كنت ولا أزال أقاوم في داخلي ما يدعونه "الحنين".



يتبع:

Post: #199
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-12-2009, 02:38 AM
Parent: #198

يا للجمال
ما كنت أعرف البرنس
حتى حدثنى عنه صديق منذ 8 سنوات .
وقال . دع هذا البرنس يحكى لك عن ماركيز . منذ العام 1928 .
دع البرنس يشرد ويسافر الى كولمبيا . دع البرنس يحلق ويرسم ويرسم ويرسم .

Post: #200
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-12-2009, 07:11 AM
Parent: #199

(حتى الآن، لا أكاد أصدق أنني احتفلت بعيد ميلادي التاسع والعشرين على ذلك النحو. احتفال من نوع فريد. لا شموع تنيره. لا ضوضاء. احتفال يليق بنهاية عقد وبداية عقد جديد. احتفال يثير حيرة الشيطان نفسه.

آنذاك، كنت أقرأ طرفا من أخبار عالِم جليل. أقام وقتها الدنيا ولم يقعدها. "تتلخص فكرة الفيمتو كيمياء والتصوير فائق السرعة في استخدام أشعة الليزر ذات الترددات العالية لتصوير سلوك الجزيئات الذرية، وتتبع التحولات التي تحدث بعد أي نشاط كيميائي".

كانت تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل. كان الستر والفضيحة وجهان لعملة واحدة داخل حدود تلك الحارة المصرية الوادعة عند أطراف حي عين شمس الشرقية. كانت الشقة الأرضية الضيقة كقبر لا تزال غارقة في الأسى وفوضى السنوات: صراصير ميتة وأخرى راكدة تتربص، بقايا طعام أعلى المكتب الخشبي القديم، غبار متراكم استحال إلى سواد فوق أرضية الأسمنت العارية، عناكب تنسج على جوانب السقف بدأب، أرفف خالية، ملابس متسخة تقبع في قاع الدولاب المشرع، صور ممثلات وعارضات أزياء ألصقها المستأجر السابق على الجدران الرمادية القاتمة كيفما اتفق، صحف قديمة وأخرى حديثة، مسودات وأرتال من الكتب تتوزع هنا وهناك. كان المشهد برمته أشبه بتجليات فكرة خارجة من رأس شيطان ما.

"ولتقريب الفكرة إلى الأذهان يمكن اعتبار نبضة الليزر التي تستغرق جزءا من مليون المليون جزءا من الثانية تحاكي غطاء عدسة الكاميرا، حيث إن كل نبضة تصطدم بالذرة وترتد حاملة معها صورة مختلفة، وبذلك فإن سرعة النبضات الليزرية التي تفوق حركة الجزئيات بآلاف المرات تعطي شكلا كاملا لخطوات التفاعل".

آن تلك الليلة الصيفية الحارة، كنت وحدي، أغالب السكون وصور الموتى المتزايدة بداخلي عاما بعد عام. كانت كل الطرق تؤدي إلى قيام ذلك الاحتفال العجيب، لا محالة. هكذا، وضعت الصحيفة قرب الأباجورة الفضية المطفأة. غادرت حجرتي الأرضية في هدوء شديد. توقفت داخل فراغ باب البناية. مددت رأسي إلى الخارج مثل ثعبان أسود يطل من جحره. تلفت يمنة ويسرة. مسحت بنظري بلكونات الحارة المقابلة لي واحدة واحدة. كانت فروع الأشجار القليلة ثابتة يلفها السكون والعتمة. بضع سيارات محدودة القيمة تنام أمام محلات الحرفيين والبقالة على جانبي الشارع القصير المترب. كنت أستطلع المكان. كان كل ما رأيت وشعرت به يدفعني قدما للاحتفال بعيد ميلاد على ذلك النحو الغريب.




يتبع:

Post: #201
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-12-2009, 07:33 AM
Parent: #200

عدت إلى حجرتي بهدوء أشد. فجأة، أسفل النور الشاحب، تراءت أمام عيني سلسلة من عناوين على كعوب الكتب المتراكمة كحيوات يفصل بين بعضها آلاف السنوات، أوالحواجز اللامرئية: "سيدتي، كيف تنجبين أول أطفالك؟"، "شبح العولمة"، "رسائل الإمام الشهيد حسن البنا"، "اليسار إلى أين؟"، "دليل الأكلات الشامية اللذيذة"، "أربع وعشرون ساعة في إسرائيل"، "نقد الفكر اليومي"، "علامات يوم القيامة"، "الآثار الاجتماعية لعولمة الاقتصاد"، "مذكرات رجل قتلته المخابرات"، "شرح صحيح البخاري للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773- 852 ه)"، "الجينالوجيا- الأركيولوجيا منهجا للحداثة البعدية".


يتبع:

Post: #203
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-12-2009, 04:20 PM
Parent: #201

معاك يا عزيز .
نطالع كعوب الكتب .

Post: #204
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 12-12-2009, 05:18 PM
Parent: #203

tnsudansudansudansudan.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

Post: #205
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-13-2009, 07:15 AM
Parent: #204

أغلقت عينيَّ للحظات قصار. هذه طقوس وثنية خاصة لا يدخلها المرء إلا من باب المغامرة، أواليأس. لا أمتلك سجادة واحدة داخل هذه الشقة الأرضية الضيقة كقبر. سجادتي العمارة بأكملها. أدرت وجهي بخشوع صوب حائط الممثلات وعارضات الأزياء. حائط مبكى المنفي الغريب لحظة أن يكافح سعير الوحدة بدعاء الخطر وهو لا محالة هالك. في كل عيد ميلاد، سأتخذ منهن خليلة، تؤجج محراب الرغبة لعام. أخلع حذائي البيتي القديم برعشة عابد أضناه القيام والسهر. أخيرا أفتح عينيَّ على جسد "كلوديا شيفر". ذلك "خصر أضيق من أفق برجوازي صغير".

ولم أتردد.

قطعة قطعة، خلعت ثيابي الصيفية البائسة.

كان موضوعي الخاص يتمدد رويدا رويدا، ينتشر واحدة واحدة، يغادر منابته القصية عند ملتقى الساقين تماما. لا شيء يتبادر إلى ذهني من تاريخي القديم. المستقبل لا وجود له. الحاضر بيت الداء والدواء. ها هو، يتأرجح أسفل ضوء اللمبة الشاحب كنور شمعة في معبد فرعوني، يعلو ويهبط برأسه المُثقلة، ينتفض من حين لحين كشعب أرهقه نير الطغاة وعسف الحكام. أحسست بوهج أنفاسها المتصاعد. شعر أشقر. قوام لدن. شفتان مكتنزتان. نهداها يذوبان عميقا داخل صدري. كدت أمزق الصورة، لو لا أن أصابتني بغتة عينا ذلك الرجل، كان يطل من داخل مرآة جانبية في وجوم لا نهائي، "عيد ميلاد سعيد، يا صديقي"، خاطبته على عجل بنبرة خافتة خرجت من داخل حلقي بالكاد، "عيد ميلاد سعيد، يا صديقي". حشرجة أشبه بصوت ورقة نيم صفراء تتكسر أسفل قدم لا مبالية. ولم أتردد.

كان موضوعي الخاص يتقدمني، يقودني صوب حيِّز ملحق صغير يدعى "المطبخ"، حيث توقف هناك، مشدود القامة كجندي يلقي بتحية عسكرية، ثائر الأعصاب مثل كلب يتطلع إلى سيده لحظة جوع. هكذا هكذا، مد إليَّ رأسه المثقلة، عنقة المشدود، وبطنه الغليظة المستديرة الممتدة صوب منابت الساقين. غمرته بزيت طعام رخيص. ولم أتردد.

حملت كرسي الخيزران بيدي اليسرى الناشفة تماما. كنت أهديء من ورعه بيدي الأخرى. فعلت ذلك قاب قوسين أوأدنى من بدء الاحتفال. لم يكن ثمة بصيص داخل الشقة وخارجها. الظلام يغمر تفاصيل العالم. كنت قد أطفأت اللمبات القليلة الواحدة تلو الأخرى. كان قلبي يخفق بشدة بينما أتحسس الطريق إلى خارج الشقة عاريا تماما. ولم أتردد.

توقفت هناك. أستجمع أنفاسي قليلا. أخيرا وضعت أذني اليمنى وراء شُرَّاعة الباب. أصغي لما يدور خارج الشقة من أصوات. لا نأمة هناك. فتحت الباب على مصراعيه بهدوء شديد. وضعت أمامه كرسي الخيزران تحوطا من هبوب ريح صيفية مباغتة. كان مدخل البناية الصغير لا يزال غارقا في بحر من العتمة والسكون الكثيف.



يتبع:

Post: #206
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-13-2009, 02:18 PM
Parent: #205

هكذا، كنت أقف هناك، داخل فراغ باب الشقة الأرضية الضيقة كقبر، مترددا بين عالمين متناقضين، لا يجمع بينهما سوى هالك، لا جسر يصل بينهما سوى الجنون، أوالمغامرة واليأس أحيانا.


يتبع:

Post: #207
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-13-2009, 05:04 PM
Parent: #206


هكذا، كنت أقف هناك، داخل فراغ باب الشقة الأرضية الضيقة كقبر، مترددا بين عالمين متناقضين، لا يجمع بينهما سوى هالك، لا جسر يصل بينهما سوى الجنون، أوالمغامرة واليأس أحيانا.




نتابع الجمال

Post: #208
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-14-2009, 00:01 AM
Parent: #207

ما أفعله الآن (ياعثمان) هو تثبيت الأرضية الأساسية لهذا العمل السردي، هذه الصورة الراهنة ل"أيام في حياة حارس وحيد" بمثابة مسودة أولى، رجاء ألا يسعى أحدهم إلى نقل هذه المادة التي لا تزال في طور التشكل إلى صحيفة مثلا، تحياتي أخي إلى حين عودة قريبة:

Post: #209
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-14-2009, 02:20 AM
Parent: #208

ننتظر

Post: #210
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-14-2009, 06:33 AM
Parent: #209

أفكر في الأصدقاء القدامى. مَن تبقى منهم، على الدرب، ولم يمت، أويخن، أويهاجر، ما عادت عيناه تعكسان ذلك البريق. إنه تعب المنفى.

كنت قد ألقيت رحالي عصر ذلك اليوم على مقهى "الباقيات الصالحات" في شارع أحمد عصمت بعين شمس الشرقية. سألت الجرسون عن السيدة "بطاطس". قال "زمانها في السكة". طلبت "شاي كشري سكر زيادة" وشيشة. وضعهما أمامي وانصرف. بدأت أتطلع إلى حركة الشارع الموارة، في قلبي حزن غامض، وعقلي لا يزال يقاوم فكرة أن العيش على درجة عالية من النقاء لم يعد له من وجود هذه الأيام. "ما أعاننا على البقاء (أنت يا من هناك) أننا كنا أكثر قسوة منك، وأقل طيبة". يا للعبارات. سمعت أن عادل سحلب غادر إلى كندا. ما إن يذكر اسمه في مجتمع المنفيين الغرباء حتى يتبادر إلى الأذهان اسم مها الخاتم. قابلتها صدفة قبل أيام في مكتب "المنظمة العامة لضحايا النظام". لم تكن مها الخاتم نفسها. تلك الفتاة التي رأيتها قبل سنوات لأول مرة وهي تعبر بوابة مكتب الأمم المتحدة في الزمالك. بدت مرهقة متعبة تماما برغم المساحيق التي تصبغ وجهها وأحمر الشفاه الفاقع. كانت لها ضحكة مومس خارجة من سياق أحد الأفلام المصرية القديمة التي جرى تصويرها في شارع محمد علي. ظلت تطلقها بين المكاتب من آن لآن. في صوتها قسوة. شعرها الحليق يضفي عليها مسحة غلامية. ذكرتها بنفسي. قالت "وجهك ليس غريبا". بدت في عجالة من أمرها. قلت في نفسي لعلي لم أترك أثرا في داخلها. الوغد، عادل سحلب، ظل يعيش بالحيلة حتى النهاية، يعرف كيف يكسب ود القادة، لا يتورع حتى عن قضاء حوائجهم اليومية، أوالشخصية. داخل شقته المؤجرة في ميدان المحكمة بمصر الجديدة. نوعية الأثاث، الطعام، المفارش، الشراب، الأجهزة الكهربائية، الكتب ذات الأغلفة المصقولة، هيئته نفسها المطهمة بأثر النعمة. كل ذلك يعطيك الشعور أن الحياة من الممكن أن تكون على درجة كبيرة من اليسر بلا جهد يذكر. أفكر الآن وبجدية تامة في وراثة عادل سحلب. تلك وظائف لا تحتاج مهارات استثنائية. "المعلمة بطاطس". أشار الجرسون إلى سيدة قصيرة تقبل ناحية المقهى. أحسست وأنا أراها على ذلك القصر وكأن أحدهم ركل كرة قدم في اتجاهنا برفق شديد. كانت مالكة المقهى وسمسارة في مجال العقارات والشقق المفروشة. وأنا أتطلع إليها أثناء الحديث من عل، وهي تبذل مجهودا واضحا لترى خلال تلك الوقفة أثر حديثها على وجهي، لم أتوصل أبدا إلى تخيل وضع جنسي محدد يمكنني أن أراها من خلاله، هذا أمر ظل يشغلني لفترة طويلة من الوقت.




يتبع:

Post: #211
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-14-2009, 07:24 AM
Parent: #210

توقفنا، أنا وبطاطس، أمام بناية صغيرة من أربعة طوابق، بناية رقيقة الحال. طلبت مني أن أنتظر إلى اليسار قليلا من البوابة الحديدية القديمة المشرعة، ريثما تخبر مالك العقار في أحد الطوابق العليا. رأيتها وهي تصعد السلالم الأولى بخفة كرة مطاطية. "لا شك أنها سمسارة موهوبة"، قلت في نفسي، مستغربا من كل تلك الحيوية التي هبطت عليها فجأة. شأن المواهب الأخرى. لا ترى ما يميزها في حياتها العادية. ما إن تتوغل داخل مجالها الخاص حتى ترى عجبا. "مايكل جاكسون"، في حواراته رقيق كعذراء، ساذج كطفل، يتحدث برقة تجعلك تظن أنه لا يصلح لشيء، ما إن يعتلي خشبة مسرح حتى تظن وكأن عواصف رعدية تقصف بهدوء العالم، زلازل تتفجر بعنف بدائي، قنابل تهوي من شاهق، أقدام حالم تسير على سطح القمر، نسائم تغسل هجير صحارى عند المساء، ومعارك غامضة تدور رحاها على بعد أميال من رعاية الإله.

يتبع:

Post: #212
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-14-2009, 08:08 AM
Parent: #211

كنت أضع كلتا يديّ داخل جيبي بنطلون الجينز الأزرق. أحدق في تفاصيل الحارة هنا وهناك. "هذا عالم يوسف إدريس". أمامي، عبر الشارع الضيق القصير المترب، بدا سروجي سيارات ومحل نجارة و"بقالة نور التقوى والايمان" عند الناصية الشمالية الشرقية". إلى اليسار مني، بدا "جزار الأمانة" منهمكا في سلب ساق كثيرة الدهن، بينما أخذ يبتسم في وجهي الحلاق المجاور له، ناظرا إلى هيئتي العامة، متوقفا عند شعري الغريب على وجه الخصوص. كانت بطاطس، قبيل صعودها، قد أشارت إلى شقة في الطابق الأرضي، لا تقابلها شقة أخرى، على بابها الحائل قفل رمادي، قائلة "هذه". أخيرا، أقبلت بطاطس هابطة السلالم الأخيرة مثل كرة تم ركلها من ضربة حرة. كانت تلهث وفي أعقابها أقبل مالك العقار، رجل خمسيني، بدين، ربعة، على جبهته آثار سجود طويل.

يتبع:

Post: #213
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-14-2009, 08:46 AM
Parent: #212

- "حامد عثمان، أعرفه يا حاج من زمان (كانت بطاطس تكذب)، هو بتاع ربنا (لم ألتقيها من قبل)، هو لحال سبيله وما يحبش المشاكل، أنا بقول لك زبون عندي من بدري (ستكتب عند الله كذابة ولا ريب)، من السودان الشقيق طبعا".

ظل الحاج صامتا لا يعلق على حديث بطاطس. أخيرا، قال:

- "اعتبر نفسك المستأجر الجديد لكن بشرط"
- "ما هو"؟.
- "أولا، حضرتك منين، الخرطوم، ولا أم درمان"؟.
- "من الجزيرة"
- "ما علينا، المهم، في سنة 67، جرى إيه في الخرطوم"؟.
- "لا أذكر".
- "أقول لك، مؤتمر اللاءات الثلاث بين الزعماء العرب".
- "طبعا".
- "أنا عندي كمان لاءات ثلاث، شروطي لكل ساكن جديد".
- "ما هي"؟.
- "لا نسوان، لا خمر، لا ازعاج للجيران".


هذا الرجل ماذا أبقى لي من متع الحياة؟. "من يملك العُملةَ يمسك بالوجهين، والفقراء بين بين". يا للعبارات.




يتبع:

Post: #214
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-14-2009, 03:27 PM
Parent: #213

وداعا مدينة أماندا:

Post: #215
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-14-2009, 06:38 PM
Parent: #214

نعم .
تلك هى قاهرة المعز بكل ما فيها .
( معاك )

Post: #216
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-15-2009, 06:57 AM
Parent: #215

- "رفيق حامد، صباح الخير".

هذا صوت أعرفه جيدا.

- "معاي على الخط، ألو ألو"؟.

تماما أخرست الدهشة لساني.

كنت أتنفس بصعوبة:

- "نعم نعم، صباح الخير، يا... مها".
سألتني:

- "ما بك"؟.

كدت أسألها من أين تحصَّلت على رقم هاتفي المحمول. صلتي الوحيدة بهذا العالم. يحدث أن يظل في كثير من الأحيان صامتا مصمتا باردا عاطلا في اجازة اجبارية طويلة. هكذا، في أعقاب احتفالي الليلة الماضية بعيد ميلادي التاسع والعشرين، يرن يرن يرن، حاملا لأول مرة صوت مها الخاتم، لا غيرها.

وجدتني أتلعثم:

- "لا، لا شيء، فقط المفاجأة".

وكأن الأمر لا يعنيها:

- "رفيق حامد، هناك اجتماع تنويري تنسيقي طاريء اليوم، بخصوص مسألة القوميات، وسيتحدث فيه الرفيقان حرية من المركز وسلامات من البحر، وخطة التأمين صلاة".

- "الزمن"؟.

- "حين يقترب الضوء من الظلمة".

- "هل سيذهب كل المسافرين فرادى"؟.

- "بالذات إلى هذه المناسبة".

- "أين"؟.

- "محطة سماوات، لا تنسى النقطة 18:15".

- "عُلِم".




يتبع:

Post: #217
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-15-2009, 04:37 PM
Parent: #216

تلك هى صورة السيدة بطاطس
تتشعلق المنبر .
نعم .
بطاطس بلحمها وشحمها وبكل جمالها .
..
نتابع تنقل الكاتب بين الشرق والغرب البعيد .

Post: #218
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-15-2009, 05:59 PM
Parent: #217

" ادخلوا من الباب [الضيق]. لانه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي الى الهلاك. وكثيرون هم الذين يدخلون منه. 14 ما [اضيق] الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي الى الحياة. وقليلون هم الذين يجدونه".

كنت أقرأ آيات من انجيل متى مترنما، حين تناهى طرق مباغت على باب غرفتي الأرضية الضيقة كقبر، ذلك أحد أصناف صبر المنفي الغريب، أتعاطاها من حين لآخر كلما تشقق جدار روحي، حتى الهرم إذا لم يتم ترميمه دوريا يتداعى ويسقط، ولا جدوى. فتحت الباب، فإذا بي أمام الحاج إبراهيم العربي، مالك العقار، وقد قدرت في نفسي أنها احدى زياراته المفاجئة التي ظل يتفقد خلالها الوضع داخل الغرفة بخصوص تلك اللاءات الثلاث. كان قد ألقى نظرة مروحية شاملة وفاحصة على المكان قبل أن يستقر به المقام على كرسي الخيزران الذي قمت بوضعه له قبالة سرير الحديد الضيق حيث أجلس ناظرا إليه بترقب وإبتسامة بلهاء. قال وهو يمسح على لحيته التي غلب بياضها سوادها "لسه الوقت بدري على صلاة المغرب، قلت أتكلم معاك شوية، لا مواخذة، يا أستاذ حامد، هو حضرتك مسيحي"؟.

وقد أخذتُ بمفاجأة:

- "لا، أنا مسلم، ياحاج".

- "أصلي شايف عندك العهد الجديد، كتاب المسيحيين".

- "أبدا، ثقافة عامة بس، يا حاج".

- "يا ولدي، الرسول صلى الله عليه وسلم قال إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم من العروق، ثم إن القرآن لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، لا أنصحك بقراءة هذه الإسرائيليات". عند الباب، بعد دقائق من نهاية مواعظه، قلت له في سري وأنا أودعه بمسكنة وطيبة آسرتين "عليك اللعنة".




يتبع:

Post: #219
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 12-15-2009, 06:45 PM
Parent: #218

sudansudansudansudansudansudan9990488888.jpg Hosting at Sudaneseonline.com
صورة حديثة لعبدالحميد البرنس في كندا/ ادمنتون

Post: #220
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-16-2009, 00:10 AM
Parent: #219

كنت أقف هناك، عاريا تماما، داخل فراغ الباب، فوق الخط الفاصل بين عالمين. كان الصمت يلف المكان والسترة والفضيحة وجهان لعملة واحدة وكل الاحتمالات الغبية واردة: صعود أوهبوط أحد السكان على حين غرة، إضاءة نور السلم لحظة وصولي إلى الطابق الثالث، زيارة صديق غير متوقعة، وما لا يعلمه سوى الله.

ورائي الشقة الغرفة، عالم الأسرار الصغيرة البائسة، القبر في سكونه الأبدي، وقد لف كياني تصميم لا هوادة فيه. أمامي، على بعد خطوة واحدة يسارا، بداية السلم، المدخل إلى الطوابق العليا، أرض الثأر وساح تصفية الحسابات العالقة. لدي لاءاتي كذلك. وهذا احتفال بنهاية عقد وبداية عقد جديد.

أخيرا، غادرت الخط الفاصل.

وضعت قدمي فوق عتبة الدرج الأولى. لا أثر هناك لمخاوفي. لم أعد أرتجف مثل قشة في مهب الريح. كنت أصعد خطوة خطوة، كاتما أنفاسي، واطئا على ذرات الرمال وتلك الحصى الصغيرة المتناثرة فوق الدرجات المتعاقبة، مشرعا أذنيَّ لأدنى نأمة. كنت أسير على حقل الألغام بمهارة. كان موضوعي الخاص يفتح الطريق أمامي كمقدم سفينة حربية لا مرئية. هناك، وراء الأبواب الموصدة، في كل طابق، كانت الأجساد تغط داخل موتها الصغير، لعل بعضها كان يحلم، لعل بعضها الآخر كان يعاني ولا ريب من وطأة الحر والكوابيس والديون. أتجاوز الطابق الثاني بالكاد. الآن، الآن فقط، صار الرجوع إلى الشقة، القبر، عالم الأسرار الصغيرة البائسة، من رابع المستحيلات. لا تراجع، لا استسلام، ولا مهادنة. ثلاث لاءات مصنوعة من جحيم الكبت والظمأ وحواف اليأس أوالجنون. كنت أعبر الطوابق مرتقيا. وكان موضوعي الخاص داخل تجويف يدي اليمنى، يغوص ويطفو، يتأخر خطوة، يتقدم خطوتين، مدهونا بالزيت وظلمة الدرج الحالكة.




يتبع:

Post: #221
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-16-2009, 00:55 AM
Parent: #220

كان يوما عاديا من أيام شهر سبتمبر. كنت أسير في شارع "سرجنت" صحبة ياسر كوكو. "أماندا" كانت في زيارة لصديقتها القديمة "جيسكا". لم يكن لدي ما أفعله إلى حين عودتها آخر المساء. كان الوقت يعبر منتصف عصره حين تجاوزنا تقاطع "سرجنت" مع شارع "تورنتو". كنّا نسير في اتجاه "بورتج بليس" حيث حلقة المنفيين الغرباء لا تزال تعقد لواء الونسة والذكريات. لقد تغير ياسر كوكو خلال العامين الماضيين كثيرا. كنت أراه في كل مرة فأشعر وكأنه شخصية خارجة للتو من احدى أغنيات "الراب". الآن، بدا يشبه لي "فيفتي سنت" إلى درجة بعيدة. الرأس الحليقة، غطاء الرأس، النظارات السوداء، السلاسل الفضية الطويلة، البنطلون يكاد يسقط في أية لحظة، "التي شيرت" الواسع الفضفاض، ومشية العصابات السوداء في حي هارلم. كان قد شرع في التقاط بعض الكلمات الانجليزية والعبارات. "فك يو". "صن أوف ذا بيتش". "سي يو". "قو تو هيل". "آي لف يو". كان سعيدا ومعتزا بمغامراته النسائية العابرة وقد عرف طريقه إلى النوادي الليلية منذ الأيام الأولى على وصوله إلى كندا.


يتبع:

Post: #222
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-16-2009, 04:24 AM
Parent: #221

كلنا نصحبك ونسير
فى شارع سرجنت .
تحياتى

Post: #223
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-16-2009, 06:18 AM
Parent: #222

- "تعرف، يا حامد، أنا عبقري".

- "كيف"؟.

- أنا هسي ماشي معاك في كندا، والبنات بتوقعوا فيني زي المطر، دا ما عبقري"؟.

- "طبعا طبعا، يا ياسر".

- "قلت لأخوي في السودان أنا زهجان ماشي مصر، قال لي يا زول الله معاك، قشة ما تعتر ليك، بس تاكل نارك، ما ترسل لي تقول لي أنا عايز قروش، والله دينك يطلع هناك، المهم يا زول أخوك في مصر دا تعب تعب الموت لغاية ما مشيت يوم القهوة، طلبت شاي وراسي ضارب، سمعت هناك سودانيين بتونسوا، قالوا في ناس بتسافر تعيش مع الخواجات لكين لازم يكون عندك "قضية " تمشي بيهو تقنع بيهو الخواجات، سألتهم والقضية دا نلقاهو وين، قالوا في ناس تدفع ليهم قروش يعملوا ليك "قضية"، المهم أخوك مسك واحد منهم، قلت ليهو أنا أخوك في غربة لازم تساعدني، كان زول طيب، قال لي بكرة الصباح نتقابل يا ياسر في ميدان التحرير نمشي الأمم المتحدة، وطوالي في القهوة ديك قال لي أنا عايز بيانات بتاعك، يعني اسمك وغيره، لما البنت بتاع المكتب سمع كلامي بعد المقابلة اقتنع، دا ما عبقري"؟.



يتبع:

Post: #224
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-16-2009, 04:50 PM
Parent: #200

نتابع

Post: #225
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-16-2009, 06:39 PM
Parent: #224

أثناء سيرنا في شارع "سرجنت". سقط قلبي تحت أقدامي. شيء ثقيل يسحب روحي بعيدا. حلقي جاف. ثمة غلالة ملحية تعشي عينيَّ. لم أكن أسمعه. للحظة خيل لي أن للحياة خيوط معلقة على ضحكة القدر الساخرة. " الغرباء يبحثون أحيانا عن قبور بعيدة وجنائز صامتة". كنت أسير بلا إرادة. بعد شارعين، أوثلاثة، من تقاطع "تورنتو" مع "سرجنت"، هرول ياسر كوكو فجأة نحو الجانب الآخر من الشارع، رأيته يشرع ذراعيه نحو "سمانتا" رأسا، وهي بدت في حضنه مرتبكة حين لمحتني من وراء كتفه أتابعهما بكل ذلك العناء، كان الآسيوي بعينيه المبتسمتين يقف غير بعيد منهما، كان لا يزال برغم دفء الجو متدثرا داخل بالطو الصوف الأسود الطويل، كما لو أن شعره الطويل المهمل أكثر ثقلا في ميزان الرهبة من سائر جسده الضامر النحيف، هذا شاهد الرحلة الأبدية عبر جسر الأحياء والموتى. أخيرا عاد ياسر كوكو يمشي إلى جانبي. كان يتحدث كعهدي به بذات الفرح والتفاؤل والثقة. كان وخذ الأسئلة يثقب رأسي في غير مكان وقلبي يدق بعنف والعرق ينسكب من أعلى جبيني ولي رغبة في البكاء لا تقاوم.

- "ياسر كوكو، إنت شفت البت دي قبل كدا"؟.

- "كتير، كتير كتير، ها ها ها".

- "عملت معاها شنو"؟.

- "حامد، راجل ومرة في السرير، يعملوا شنو"؟.

- "كم مرة"؟.

- "ها ها ها، كتير، كتير كتير".

- "كان عندك كنضم"؟.

- "حامد، أخوك عنده خبرة، دا بت نضيف، خلي عندك وجهة نظر".

اقتربنا من جامعة وينبيك. بدا لي "بورتج بليس" بعيدا ونائيا تماما. لم تعد قدماي تحملانني. جلست على الدرجات الحجرية لبوابة الجامعة الخلفية. وضعت يديَّ على رأسي. انفجرت في نوبة عالية من البكاء وجسمي يختلج كله. كان صوت ياسر كوكو يتناهى إلى مسامعي من حين لآخر حائرا ملتاعا متسائلا في تعاطف وشفقة:

- "حامد، يا زول، إنت كويس"؟.

كلما جاوبته في سري زاد بكائي:

- "هذه البنت مريضة بالإيدز، يا صديقي".





يتبع:

Post: #226
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-17-2009, 03:24 AM
Parent: #225

نتابع

Post: #227
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-17-2009, 06:59 AM
Parent: #226

[B مضت أشهر عديدة لم يتح لي خلالها رؤية ياسر كوكو. كنت قد قررت في أعقاب نوبة البكاء تلك أن أقطع صلتي به نهائيا. فعلت ذلك من دون أدنى تأنيب ضمير. "الناس تغادر المراكب الغارقة". لم أكشف له في ما تبقى من ذلك المساء سر بكائي. تركته يصارع قدره وحيدا. لم أخبره حتى بمأزق وجوده في هذا العالم. استجمعت شتات نفسي بصعوبة. واصلت معه الرحلة إلى "بورتج بليس". لكأن شيئا لم يحدث. كان المنفيون الغرباء يتحدثون حديثا فاترا مليئا بمرارة بدت لي غريبة عن لؤم الفلبينيين في أماكن العمل. كنت أنظر إليه من آن لآخر نظرتي إلى رجل ميت. كان قد شرع يحدثهم في ذلك المجلس عن رغبته في إقامة مشروع تجاري صغير في السودان. كنت أعرف أنه يسعى إلى شراء ماكينة لتصليح الأحذية. سأله عادل سحلب بتثاؤب وضجر إن كان قد أقام دراسة جدوى أم لا. قال له قم أنت بالدراسة لنفسك وأترك لي مهمة الشراء لنفسي. أعجبني رده برغم شبح المأساة. تقبل عادل ما بدا مهينا لمثله في صمت. كان يدرك تماما أن كل ما كسبه في الماضي من معارف وثقافة ودهاء سياسي قد آل في ظل لغة لا يعرف حتى أبجديتها إلى شيء لا جدوى منه. كان ياسر يطيب له في أحيان كثيرة أن يمازحه ضاربا على كتفه كزميل في مهنة هامشية أخرى مؤكدا له في كل مرة أنهما لو ظلا معا في الوطن لما ألقى عليه مجرد تحية عابرة. كان عادل سحلب يعمل في مطعم فخم متخصص في الدجاج المشوي يدعى "سويس شاليه" كغاسل للأطباق. مطعم يؤمه عادة المتقاعدون من البيض وبعض المحتفلين بمناسبات خاصة. مطعم مزدحم تسع قاعته لأكثر من خمسمائة زبون يتم خدمتهم في لحظة واحدة. كان يقف يوميا لمدى ثماني ساعات وسط أرتال من الأطباق والملاعق والشوك والأكواب المتسخة وقد غمرته أبخرة حارة تتسرب من الغاسلات الآلية على مدى ساعات خدمته. كان يعود إلى شقته بقدمين متورمتين ورأس محترقة ونصف دزينة من بيرة باردة تسمى "مولواكي آيس". يسند ظهره إلى كنبة في الصالة. يمدد قدميه على استقامتهما. يغمض عينيه ويبدأ يرتشف من علب البيرة مباشرة. يظل على هذا الحال نحو الساعة قبل أن يمسك سماعة الهاتف ويتسقط أخبار المنفيين الغرباء. لقد بدأت أدرك شيئا فشيئا أن عادل سحلب ضرب خصوصيته التي كان يتمتع بها في القاهرة كسياسي واعد لسبب بسيط: لقد كان في حاجة دائمة لرفيق سكن يقرأ له الفواتير والمكاتبات الحكومية ويذلل له بعض الصعاب في تعامله مع البنوك ومؤسسات أخرى. لقد بدا لي في كثير من جلسات السُكر التي جمعتني به على نحو خاص أوضمن آخرين أن إعادة قصة علاقته مع مها الخاتم هي الشيء الوحيد الذي ظل يستند عليه كعلامة وحيدة من الماضي السعيد على تفوقه ودهائه. ]


يتبع:

Post: #228
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-17-2009, 02:58 PM
Parent: #227

"نُهدي هذا الفلم إلى الذين خرجوا من ويلات الحرب العالمية الثانية (أحياء)"





يتبع:

Post: #229
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-17-2009, 05:49 PM
Parent: #228

في ذلك المساء الجليدي، فتح لي الصيني باب الشقة منحنيا، شعرت وكأني في بداية مسرحية هزلية، كان قرار بقائه ساقيا في ذلك النادي الليلي قد اقترب كثيرا. خلعت لوازم الشتاء الثقيلة عند المدخل المعتم. كنت أتبعه عبر طرقة صغيرة مفروشة بسجادة شرقية حمراء باهتة إلى الصالة. هناك رحب بي عادل سحلب مشيرا لي بالجلوس على مقعد قبالته. الصيني جلس بيننا في صمت متوسطا المائدة الصغيرة. كان على المائدة مطفأة زجاجية متوسطة الحجم وولاعة فضية وُضعت بعناية فوق عُلبة "بنسون آند هديجز" لم يفض غلافها الشفاف بعد وزجاجتا "فودكا" و"ريد ليبل" وكأسان طويلتان ضامرتان عند المنتصف ضيقتان عند القاعدة المصقولة المصمتة وآنية تحمل قطع ثلج في شكل مربعات صغيرة. لم ينس الصيني لبراعته تقسيم تفاحتين حمراوين إلى أربعة أجزاء اتخذ كل منها شكل زهرة اللوتس وقد أحاطها داخل آنيتها ببرواز في هيئة قلب قام بصنعه من زيتون أخضر محشو وكان هناك زجاجة مياه معدنية قال عادل سحلب أنهما أحضراها لي على وجه الخصوص أما هو فكان لا يطربه عند مكابدة الحنين سوى أبيات أبي نواس:

أثْـنِ على الـخَمْـرِ بآلائِهـا وَسَمِّهـا أحـسَـنَ أسْمـائِهَا
لا تـجْعَـلِ الماءَ لَها قاهـراً وَلا تُسَلّطْهـا على مَـائِهَا

قلت في سري "ليس بيننا الصيني، ليست بيننا مائدة عامرة بمتع هذا العالم، بيننا جثة أهيل عليها تراب الذكريات تدعى مها الخاتم، وهذه ليلة القتلة الطلقاء".




يتبع:

Post: #230
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-18-2009, 07:10 AM
Parent: #229

طوال الطريق، إلى شقة عادل سحلب، ظلّ يشغلني أمر التفكير في تلك العبارة، أنا كائن العبارات وعاشقها المتيم. أسكن فيها، أوتسكنني لفترة طويلة، لا أغادرها إلا وقد صارت جزءا لا يتجزأ من تكويني الروحي والنفسي. "هل أنت حزينة، يا أماندا"؟. في تلك الليلة، لم تجب على سؤالي. طلبت مني فقط أن أملأ الكأس إلى حافتها. تجرعتها دفعة واحدة وأخلدت إلى صمت عميق أخذت تتفتق خلاله في داخلي تلك الجراح المتقيحة واحدة واحدة. حين نامت أخيرا، عنّ لي أن أرفع صوت التلفاز قليلا، كانت قناة الأفلام قد بدأت تعرض فلما عن مجريات الحرب العالمية الثانية، لا أتذكر اسم ذلك الفلم الآن، لا أتذكر حتى أحداثه، ولم تمض من مشاهدتي له سوى أيام قلائل، فقط أتذكر جيدا تلك العبارة التي ذيَّلت خاتمته، عبارة جاءت في أعقاب أحداث الفلم المصورة وأعقبت حتى تلك القائمة الطويلة بأسماء الأفراد والمؤسسات الذين شاركوا في ذلك الفلم. لقد بدت للوهلة الأولى مجرد عبارة هامشية مهملة. "نُهدي هذا الفلم إلى الذين خرجوا من ويلات الحرب العالمية الثانية (أحياء)".

حين فرغت من تأملها أول مرة، أطلقت "أماندا" في نومها ضرطة مكتومة طويلة، بينما أخذت الأشياء تتضح وراء نوافذ غرفة النوم الزجاجية الواسعة، وكان التعب قد بلغ بي منتهاه. "الشهداء وقود الحياة المترفة للسادة الأماجد". يقول مسكوت العبارة. إذا فرض الأمر علينا في صورة حرب مثلا لا بد أن نخرج منه في نهاية المطاف منتصرين. هي حياة واحدة. الوغد، ميلان كونديرا، في "خفة الكائن التي لا تحتمل"، أشار بأسى إلى أن الحياة عبارة عن كرة قدم، ولكن "للأسف بغير تمرين". يعجبني التعامل مع الحياة كلُعبة. يبدو لي الآن أن مفردات غامضة، ومتسمة بالإغراء غالبا، مثل "التضحية" و"الفداء" و"الموت في سبيل الوطن"، ليست سوى حزمة أكاذيب اخترعها "السادة الأماجد". ربما لهذا شغفت لسنوات عديدة بعبارة ألبير كامي التي مثَّلت عصارة بحثه في أسطورة سيزيف "إن الإنسان وُلِدَ ليحيا، ولم يُولد ليموت، ولذلك فان أجمل ما في الحياة هي الحياة".

أدرك الآن، وعبر حدس ما، أن الكثيرين، ممن شاهدوا الفلم آنذاك، قد أغفلوا قراءة تلك العبارة ذات المضمون الانقلابي الخطير، لا لعجلتهم فقط، بل لأنها جاءت في أعقاب المشاهد المصورة. المفارقة، كما يوحي سياق العبارة هذا، أن جوهر الحياة "الصاعد"، أولبنة المعنى "المفتقدة"، أووجه الواقع "البديل"، يُوجد غالبا داخل هذه الأماكن اللامرئية. ما يبدو، للوهلة الأولى، هامشيا متباعدا، بل ولا قيمة له، ما هو في أحيان كثيرة سوى ذلك الجزء الضائع من هيكل سعادتنا، والذي نبحث عنه غالبا في غير موضعه.



يتبع:

Post: #231
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-18-2009, 07:46 AM
Parent: #230

هكذا بدأت أعي أخيرا ثراء الهامش، ذلك الحيِّز المستتر خلف رتابة العادة، المحتجب وراء المركز وبريقه.

في القاهرة، كنت حين أعبر ميدان التحرير، وأرى حسناء تتهادى على طريقة "واثق الخطو يمشي ملكا، أصرف بصري عنها، وأبحث على الفور حولي، لا لمانع أوعزوف ذاتي، بل لكي أراها من زاوية ذلك "الهامش"، من خلال عين أحد أولئك الجنود المعدمين الفقراء، الذين يحرسون ليل نهار مداخل البنايات الحكومية والتجارية الضخمة، ربما بدا في نظراتهم الحسيرة جمال أنبل وأبقى في الزمن من جمال تلك الفتاة.

حين أفعل ذلك، كنت أحس في قرارة نفسي، وكأن الكون بأجمعه سمفونية بالغة الاتقان، من وضع فنان قدير مثل بتهوفن، لا شيء زائد فيها، لا نشاز هنا أوهناك، لكل نغمة معنى، ولكل إنسان قيمة، هدف، وجود، وخيال يحقق ما حالت من دونه الأيام.

ثمة أفلام عديدة متقنة، مثل أفلام "ستيفن سبيلبيرج"، عالجت موضوعة الحرب أوالموت الجماعي بمهارة، لكن جوهر هذا الفلم وجماله يقعان في احتفائهما المدهش بثقافة الحياة "خارج" الفلم نفسه لا "داخله"، أي هناك، عند تخوم تلك العبارة الهامشية تحديدا: "نُهدي هذا الفلم إلى الذين خرجوا من ويلات الحرب العالمية الثانية (أحياء)".

كنت أشعر، وأنا أطرق باب شقة عادل سحلب خلال ذلك المساء الجليدي، وكأن الفلم برمته لم يكن في نهاية المطاف، سوى مقدمة طويلة لا غنى عنها لقول تلك العبارة.



يتبع:

Post: #232
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-18-2009, 04:48 PM
Parent: #231

تجولت مع الكاتب عبدالحميد البرنس .
فى المدن والقرى والعمائر .
وفى طريقى صادفتنى الكثير من اللوحات
الجديره بالتسجيل والروية .. لوحات تختلف .
لكل لوحه لون ولكل لون قيمة ومدلول وطعم .
ألف شكر أخى عبدالحميد على التدفق الجميل

Post: #233
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-18-2009, 07:42 PM
Parent: #232

عثمان أخي:

Quote: ألف شكر أخى عبدالحميد على التدفق الجميل



أقرأ حديثك هذا، فأشعر به كتحية صادرة من قلب طيب. أتذكر قول حيدر حسن ميرغني في سياق سابق هنا:

Quote: شكرا عثمان ان اسرجت للبرنس خيل القلم


لقد كان الحنين على حق، فهذا النص كنت أخطط له كرواية ثالثة بعد "إنسان المكان" و"الأمنجي السابق"، لكن كرمك أخي وصدق مسعاك أجبراني على بداية أخرى، أدين لك بالكثير هنا، وإلى لقاء قريب آخر (كما يقول الشعراوي):

Post: #234
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-19-2009, 02:04 AM
Parent: #233

نتابع

Post: #235
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-19-2009, 05:22 AM
Parent: #234

يبدو لي (ياعثمان) أن هذا العمل (أيام في حياة حارس وحيد)، قد بدأ يتجاوز اسمه الأولي بالفعل، علينا من الآن فصاعدا البحث عن اسم آخر.

Post: #236
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-19-2009, 06:19 AM
Parent: #235

عدت من "بورتج بليس" حوالي العاشرة مساء. أومأت لياسر كوكو برأسي مودعا. لاحقني صوته "أشوفك بكرة". لكأني لم أسمعه. الآخرون كانوا في نقاش محتدم حول انخفاض قيمة الدولار الكندي مقابل ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي "هذه الأيام". ربما لهذا لم يولووا مسألة انصرافي عنهم كبير اهتمام. "أشوفك بكرة". لم تكن "أماندا" قد عادت من زيارة صديقتها القديمة "جيسكا" بعد. ثمة شيء غامض لا يزال يربطهما معا. "أماندا" أخبرتني مرات عديدة أنها لم تعد تكن لها مشاعر حقيقية منذ فترة. لكنها ظلت دائما في حيرة من أمرها. لا تدري كيف تحسم شيئا وُلِدَ ونما عبر سنوات عديدة وصار جزءا لا يتجزأ من نسيجها النفسي. كان من الصعب عليها أن تقول لكل تلك المغامرات العاطفية والذكريات المشتركة بينهما "إلى هنا انتهى كل شيء". ما زاد الأمر تعقيدا أن "جيسكا" كانت تعلم جيدا أن أكثر ما يمكن أن يشل إرادة "أماندا" في هذا العالم: "الدموع". في مثل تلك الأحوال، كنت أقول في نفسي لو أن أماندا عاشت في منفى وسيط مثل القاهرة لما كلفها الأمر كل هذا العناء. هناك ظل معظم الناس يستبدل العلاقات كما يستبدل ملابسه القديمة بأخرى جديدة. لكل مرحلة حساباتها. لا صداقة دائمة. لا عداء دائم. كان مثل هذا السلوك يؤدي ببعض المثاليين إلى الانتحار أوالجنون أوالاحباط أومعاقرة الخمر آناء الليل وأطراف النهار. المنفى تحكمه الحاجة لا القيم. لقد علمتني الخبرة هناك أن أكثر الناس حديثا عن القيم أكثرهم بعدا عنها. أُطلق أحيانا على تلك الفترة من حياتي اسم "الحرباء". كانت كلمات كثيرة، مثل "الاحترام" أو"الأخلاق" أو"الصداقة"، قد شرعت تتحول في ظل شح النقود وانعدام فرص العمل أوندرتها إلى عُملات لا بد منها لشراء الطعام أولتأمين المأوى أولتعمير خرائب الرؤوس التي عصف بها الحنين بخمر رخيصة أوحتى لاقصاء منافس تنقصه الخبرة عن "الفُتات المتاح".

المنفى تحكمه الحاجة لا القيم.

والطيور التي أقعدتها مخالطة الناس،
مرت طمأنينة العيش فوق مناسرها..
فانتفخت،
وبأعينها.. فارتخت،
وارتضت أن تقاقئ حول الطعام المتاح
مالذي يتبقى لها.. غير سكينة الذبح،
غير انتظار النهاية
إن اليد الآدمية..واهبة القمح
تعرف كيف تسن السلاح




يتبع:

Post: #237
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-19-2009, 07:36 AM
Parent: #236

[لم تكن "أماندا" قد عادت بعد. الشقة ساكنة كقبر. دفعة واحدة بدأ يخالجني نفس الشعور الذي أصابني في مصر قبل نحو خمسة عشر عاما. لا لم تكن دواخلي متماسكة إلى تلك الدرجة التي ظننتها قبل ساعات في أعقاب نوبة البكاء التي داهمتني على احدى درجات البوابة الخلفية لجامعة "وينبيك". هكذا، ما إن أخذت أفكر في مآل ياسر كوكو حتى اندفعت في موجة أخرى من البكاء. لكن ذلك لم يبدل أبدا من أمر قراري اعتزال ياسر كوكو مرة واحدة وإلى الأبد. لست في حاجة أخرى لما يشدني نحو هذه الأرض. بي رغبة عميقة في الطيران والتحليق في سماوات بعيدة.

آنذاك أقبل جار من الوطن في مهمة تجارية صغيرة. طلب مني وقتها باصرار ظننت الشوق دافعه أن أقضي الليلة معه في شقة شقيقه الخالية في وسط القاهرة. رأيته يجلس في الصباح مهموما وهو ينظر إليَّ وقد استيقظت من نومي للتو. قال إنه لم ينم طوال الليل. ظل يفكر في طريقة مناسبة يخبرني بها أن شقيقي الصغير "استشهد" في احدى معارك الجنوب عن ثلاثة عشر عاما. لم أبك لحظتها. لم أحزن. لم أجزع. فقط ندت عني ضحكة خرقاء لا صوت لها. بعد أن ذهب آخر من جاءوا لعزائي، غفلت راجعا إلى شقتي الأرضية الضيقة كقبر، هناك تكشفت أمامي فداحة المأساة دفعة واحدة، لن أراه مرة أخرى. انفجرت أنتحب ذارفا دموع الأرض كلها.

في قلبي بحيرة من الأسى الراكد. تطفو على سطحها خيبات وجثث كثيرة. لياسر كوكو قلوب عزيزة في مكان من الوطن. بها متسع لجثته ودمع كاف لرثائه.

قد أنسى تفاصيل ملامح وجه أمي، قد أنسى وطأة الحنين داخل غرفة ضيقة كقبر، قد أنسى طعم ثمار خيانتي الأولى وبيت السياب نصب عيني "وإن يخن الإنسان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون؟"، لكني لن أنسى ما حييت أني لم أودع أخي لحظة أن غادرت إلى مصر كما ينبغي للوداع بين شقيقين أن يكون.
/B]



يتبع:

Post: #238
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-19-2009, 09:26 PM
Parent: #237

كان العالم طيبا.

لعله لا يزال في بعض المناطق!.




بسم الله الذي علم بالقلم،
علم الإنسان ما لم يعلم

25/11/1991م

أمدرمان



الأخ المفضال حامد عثمان حامد



يتبع:

Post: #239
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-19-2009, 11:19 PM
Parent: #238

لم يكن عادل سحلب يرتشف كأساته. كان يتجرعها. المسافة ما بين الكأس والأخرى قصيرة. يتناول الكأس، يرمي بها إلى فمه، هناك يُبقي بقاياها الأخيرة للحظات، يدفعها نحو جوفه مغمض العينين، يهز رأسه صوب اليمين وصوب اليسار بشدة، ينفث آهة حرى في الهواء، تنفرج أساريره قليلا، قبل أن يفتح عينيه باحثا عن سيجارته المشتعلة دائما، ويواصل ما انقطع من حبل الكلام بلذة، ونادرا ما يصغي، وإن فعل يبدو كمن يتزود مكرها بوقود لا بد منه للمواصلة في حديث آخر. حاسة الاستقبال لديه ضعيفة.

أتصور أحيانا أن وظيفة مذيع نشرات اخبارية قد تكون ملائمة له. لقد أوقعه حظه العاثر أخيرا في وظيفة غاسل أطباق في مطعم مزدحم على مدار الساعة. مهنة لا تهب شيئا من سعادة إلا إلى أولئك الأشخاص من ذوي الحوارات الداخلية الصامتة. ربما كان الصيني كرفيق سكنى خيارا من جانب عادل سحلب على قدر عال من الذكاء. كان بمثابة صندوق نفايات ملائم لاستقبال خواطر عادل سحلب المختزنة طوال زمن الوردية. يبدو لي أحيانا أن ما يُبقي الصيني الصامت على صبره أن عادل سحلب ظل يدبج كلامه بالكثير من أسماء مشاهير السياسة في الوطن. ما كان يسمع عنه الصيني بكثير من الرصانة في سياق إذاعة نشرات "هنا أمدرمان" إذا هو يتحول في حكايات عادل سحلب القاهرية إلى شخص من لحم ودم يركب مع عادل سحلب "الترماي" في طريقهما إلى "ميدان العتبة" لشراء ما يسميه عادل سحلب "لوازم إنسانية" مثل "بعض الملابس الداخلية ماركة رويال".

الحق، كان يسعدني كذلك أن أنصت إلى مثل تلك القصص ذات "اللوازم الإنسانية".

كان هناك وزير سابق، لا أذكر اسمه الآن، "يعشق الرقص على الإيقاعات الغربية الصاخبة"، يقول عادل سحلب، لكنه يخاف على صورته العامة من أن تهتز أمام العالم، كان يفعل ذلك سرا أثناء تقلده للوزارة، يقول لسكرتيرته العجوز المعينة من قبل الحزب إن عليه أن يعمل في بعض الأوراق الهامة قبل اجتماع مجلس الوزراء القادم، "لا زيارات اليوم"، قبل أن يتأكد أنه أغلق باب المكتب من ورائه يلتفت نحوها قائلا "تؤجل كل المواعيد المسبقة". كان ينفق ساعات طيبة من الرقص.المزاج معتدل، الهواية مشبعة، والصورة مصانة.

ما إن يغادر المكتب، بوجه عليه آثار الاعياء، وفي داخله رغبة قوية في النوم بأسرع ما يمكن أن تدركه سيارة تتقدمها عربة خاصة من الحرَّاس، حتى تبتدره السكرتيرة كما تفعل في كل مرة قائلة "حفظكم اله يا سيادة الوزير لخدمة الناس والوطن".



يتبع:

Post: #240
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-20-2009, 06:38 AM
Parent: #239

كان من عادات محمد شكري في المغرب أن يذهب إلى المقابر ويكتب. بدأت أتقمص في القاهرة نفس العادة. لم أكن أكتب. فقط أتجول بين قبور "مصر القديمة" من حين لآخر. أحيانا كانت تملأ أنفي رائحة قوية. ثمة شخص لم تمض على وفاته الكثير. أحيانا أخرى كنت أصادف أفرادا يترحمون على من في قبر أوآخر. الأثرياء منهم كانوا ينادونني برجاء ليمنحونني شيئا من المال. لا بد أن حالي وقتها كان يرثى لها. الناس طيبون أمام سلطان الموت. الفقراء في بعض الأحيان يحضرون معهم مصاحف إضافية ينادونني بتوسل لأقرأ على أرواح موتاهم سورة يسن أوالإخلاص والمعوذتين معا نحو تسع وتسعين مرة. كنت أتظاهر بالقراءة ريثما يفرغون بعدها لتوزيع الطعام البسيط الذي بحوزتهم. ذات مرة، اقتربت كثيرا من رجل في منتصف السبعين، كان منهمكا في تصفية حسابات غريبة مع قبر حجري مصمت إلى الدرجة التي لم يشعر معها بوجودي. سمعته يقول "أنا لا أعفو عنك، لأنك انتحرت في نصف عمر أبيك، فعلت ذلك لأمرين: لتتركني متسولا الناس في عمر لا أقوى فيه على عمل شيء ما، ولأنك تعلم أي عذاب يمكن أن يصيب المرء حين يرى أمامه فلذة كبده ميتا". كنت قد بدأت أكون تدريجيا معرفة واسعة بعالم تلك القبور. كان هناك بعض القبور لا يزورها أحد. قرب هذه القبور، كنت أعيد ترتيب عالم المنفيين الغرباء في القاهرة عشرات المرات. هناك بدأت تختمر في ذهني فكرة الاحتفال بعيد ميلادي التاسع والعشرين. هناك نصبت فخا محكما لفتاة جريحة تدعى "مها الخاتم".



يتبع:

Post: #241
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-20-2009, 03:27 PM
Parent: #240

عالم القبور __ نتابع

Post: #242
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-20-2009, 05:56 PM
Parent: #241

الأجندة:

- تأمين.

- مالية.

- تنظيمي.

- سياسي.

- أخرى (بلاغ، نقد ذاتي).

- ثقافي.






يتبع:

Post: #243
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-21-2009, 04:16 AM
Parent: #242

نتابع

Post: #244
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-21-2009, 06:24 AM
Parent: #243

أخيرا، آن للمنفي الغريب أن ينظر إلى المدينة من عل. عثرت وقتها على وظيفة مساعد باحث في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. ليس هذا فحسب. بدأت أراسل مطبوعات عربية عديدة مقابل مبلغ جيِّد من الدولارات والدراهم أحيانا. التعقيد، الغموض، تضمين أسماء أجنبية في سياق كتاباتي، كل ذلك بدا بمثابة جواز مرور لا غبار عليه إلى تلك المطبوعات. "حسب استعارة لويس ألتوسير بالغة الدلالة، تلك القائلة (كالبط، يحاول الركض حتى بعد قطع رأسه)". "يعلق وليم كوستنر على مثل هكذا تمفصلات جيوسياسية حين غزا الجيش الأحمر براغ قائلا (الاتحاد السوفيتي جبار، ليس صراخه إلا تغطية لفقدان ذكورته)". "نسبر جدلية هذا النصّ وفق مقولة رولان بارت (الايحاء هو نمو نظام ثان من المعاني)". كان لمثل هذا النهج وقع السحر على القائمين على أمر تلك المطبوعات. الأدهى من كل ذلك لحظة أن ألجأ إلى مقتطفات من ميشيل فوكو قام بنقلها إلى العربية مترجم رديء. كانت المقابر ولا تزال توحي لي بالكثير من الأفكار الشيطانية. حين نجح الأمر هناك، بدأت أمشي وسط المنفيين الغرباء بعبارات بدت لهم دائما كما لو قُدت من طلاسم ديانة سرية. كنت أستفيد من هذا (الابهار) لتغطية قصوري أمام مخضرمين ولدوا وترعرعوا في مستنقع المناورات السياسية وحيلها التي لا تنتهي. أقابل مثلا قائدا نقابيا سابقا. أتصيد حديثة بدقة لأضع بمهارة مثل هذه المقولة لكولون ولسن "لقد تحول كل من فان جوخ ونيتشة إلى شعلة متوهجة من اللا انتمائية، ولكن أكثر اللا منتمين لا يتحولون إلى أكثر من جمرة خابية، فلا ينتجون إلاّ بعض الدخان الأسود يلطخهم ويلطخ كل من حولهم". كنت أشعر بعدها كما لو أني أكبر على أنقاض حسرات جهلهم الكظيمة. ولو أن أحدهم تجاوز معي وقتها حدود تلك العبارات، لتهدم معبد المعرفة الزائفة على رأسي بلا شفقة، لكنه ذلك الخوف الكامن في دواخلنا من السؤال عما لا نعرفه خشية أن يكشف ذلك عن جهل نبذل ما في وسعنا لإخفائه عبر الصمت أحيانا.


يتبع:

Post: #245
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-21-2009, 07:40 AM
Parent: #244

"أتدري.. كلما أقلب الذاكرة أجد صورة زهنية زاهية لحامد تجسد شخصا تعودت أن أراه مبتسما، حتى إذا غضب يغضب وهو يبتسم. ولو قُدِّر أن أفتح قلبه لوجدته بلا مضغة سوداء... عهدتك رجلا عامر القلب بالإيمان. ذو عزيمة قوية، مجاهدا يجاهد النفس جهاد من لا يرضى بغير النصر. فهل أنت على ما كنت عليه. أم أنك بدأت تهتز أمام الرياح. أحب أن أراك كما كنتَ.

أحسست من خلال رسالتك الأخيرة بالتغير الواضح الذي طرأ عليك وأنا نفسي من أكثر الذين يحبون الحركة والتغير. لأن الركود والثبات يشعرانني دائما بأن الزمن لا قيمة له وأن الكون في ثبات وأحس بالتالي بأني مثل الجماد فلا فائدة إذن لبقائي... فالتغير والحركة "وهي طبيعة الكون" يشعران الإنسان بمعنى الوجود ولكن يجب أن لا يُنْشَد التغير حبا في التغير، فقد يكون للأسوأ وقد يكون للأفضل، وهو المطلوب.

أعود إلى رسالتك: فيها رائحة التغير. فقد تغير أسلوبك في الكتابة تغيرا جوهريا. وإزدادت ثقافتك بصورة واضحة وبدأ أسلوب "الصحفي" جليا من خلال العبارات وتمازجها ولا أغفل العمق الذي كُتبت به الرسالة فلك التهنئة الحارة ومزيدا من التقدم ومسيرة الجهاد.

ولكني حزنت يا أخي حامد، أتدري لماذا؟.

أحسست لسبب سأذكره بأن حامد لم يعد ذلك العامر القلب بالإيمان "أتمنى أن يكون ذلك الإحساس كاذبا" ولكن هكذا بدأت أحس منذ أن وقعت عيناي على بداية الرسالة. كانت الرسالة مبتورة. بمعنى أنك لم تفتتحها بالبسملة أوبأي عبارة فيها إسم الله لماذا؟. لا تقل لي أن هذا أسلوب جديد في إفتتاح الرسائل. ولا تقل لي أن من يكتب البسملة يعتبر "تقليديا" في كتابة الخطابات. ولا تقل لي أنك زكرتها سرا "منطوقة" (أقلب الصفحة) ثم شرعت في كتابة الرسالة. كل هذا غير مُقنع، فنحن على الأقل السودانيين إن لم أقل المسلمين، نبدأ رسائلنا بسم الله والثناء على النبي وهذا لعمري نعم الموروث الأدبي عن أسلافنا.

هل هذا يكفي مبررا يجعلني أن أقلل من إيمانك. بالطبع لا. ولكن هناك عبارة خطيرة وردت أيضا بالرسالة، ألا وهي طلبك مني التحدث في بعض القضايا مثل الحياة- المرأة- الحب- الصداقة... "الله ".

هكذا فجأة وقفت وفاجئني إسم الجلالة "الله". حامد يود أن نتحدث بعضنا البعض عن "مشكلة اللهّ"- إسم كتاب لزكريا إبراهيم- هذا شيء أنكرته منك. لأن حامد ليس بحوجة في أن يبحث عن الله . فلو كان وجود الله في قلبك مثل ما كان موجود في السابق لما تبادر إلى ذهنك التحدث عنه...

ألست على حق فيما ذهبت إليه من أن حامد قد أُصيب إيمانه بهزة. أم أنك بدأت تغوص في كتب الفلسفة. هذا أمر جيِّد ولكن أحذرك من تناول هذه القضايا بمفردك. مصر فيها خيرة العلماء إذهب إليهم فلاسفة ورجال دين وأهل ذكر.

أنا آسف يا أخي حامد. فقد بدأت رسالتي منصِّبا نفسي ناقدا لك وموجها. ولكن هل تعتقد إن لم يكن يهمني أمرك أقول مثل هذا الحديث؟ لا والله. فأنت ما زلت الأحب في قلبي من بين الأصدقاء والإخوان. ولكن مشاغل الحياة حالت دون...

بعد هذا أستطيع أن أبدأ رسالتي إليك".




يتبع:

Post: #246
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-21-2009, 03:18 PM
Parent: #245

لقبر حجري مصمت آخر:

Post: #247
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-21-2009, 05:51 PM
Parent: #246

في اليوم الأول، أجلسني الدكتور ريسان الكوفي على مكتبي في ما يشبه الطقس الاحتفالي. حدد لي مهامي بالبحث في تاريخ الحركة الشيوعية في العراق. هكذا بدأت تدريجيا أتعرف على فهد، مؤسس الحزب الفعلي، ذلك القائل لحظة اعدامه "الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق"، وعزيز الحاج علي حيدر، ذلك الذي برر حبه للحياة في كتابه "ذاكرة النخيل- صفحات من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، اعتقله صدام حسين و"قيادته المركزية" أواخر الستينات، رأى أن من العبث أن يغادر العالم على نحو درامي كما فعل أسلافه الحمقى من قبل، أفضى بكل ما عنده، ثم تمت مكافأته ممثلا للعراق في مكتب اليونسكو.

"وإن يخن الإنسان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون"؟.

الشعارات تفقد موقع صدارتها منذ مدة. بعد ذلك الاستسلام الكامل، لم يترك عزيز الحاج مناسبة تمر إلا وبرر موقفه، استخدم كل معارفه، لم يتورع حتى من اللجؤ إلى سلاح النكات، "يُحكي أن شيوعيا عراقيا، أيام المد الثوري، ظل يمشي في شوارع بغداد، رافعا فوق رأسه مظلة، مع أن الجو صحو وجميل. وحين سئل "لماذا تفعل ذلك"؟، أجابهم قائلا (إنها تُمطر الآن في موسكو، يا رفاق)".

ذلك عالم سلام عادل وحنّا بطاطو وأحزان كثيرة لا مبرر لها. قررتُ بيني وبين نفسي أن أخلص له في عملي. كان قد جاء إلى الجامعة الأمريكية أستاذا زائرا من احدى الجامعات الكندية. قال لي وهو يتفقد ملابسي البائسة إنه سيهبني منحة للدراسة في كندا. قال خذ هذا المبلغ لتعتني بهيئتك العامة أكثر. كدت أبكي. كان أمرا يقع خارج طموحاتي السابقة تماما. كان المنفيون الغرباء في القاهرة تجذبهم أشياء صغيرة مثل رائحة شواء تتسلل من مطعم في الجوار، ظهر ساق أنثى تهم بالركوب إلى متن مركبة عامة، وهذا الرجل بدا منذ الوهلة الأولي كما لو أنه يضع في يدي مفاتيح الكون برمته. بعد سنوات، سأدرك بشيء من المرارة أنه ظل يستخدم معي سلاحا لنعومته لم يخطر من قبل على ذهني مطلقا: "الوعود".




يتبع:

Post: #248
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-21-2009, 06:31 PM
Parent: #247

كان عليَّ أن أطرق فترة شائكة من تاريخ الحركة اليسارية في العراق أيام عبدالكريم قاسم، فترة حبلى بآمال تمخضت عن أحداث جسام، ما إن فتحت باب مكتبي الفخم ذلك الصباح حتى زكمت أنفي رائحة قوية كادت أن تصيبني بإغماءة، كانت أشبه برائحة جثة تُركت في العراء ذات موسم صيفيّ لمدى يومين أويزيد، فجأة ندت عني ضحكة صاخبة مجلجلة، أعرف تلك الجثة جيِّدا، أكاد ألمح الدود يصدر صليلا وهو يتوالد من امعائها النتنة في جلبة، إنها جثة فقري، فاقتي، سعي منذ أن تفتحت عيناي وراء ضرورات العيش وأبجدياته الصغيرة. ليس عليَّ بعد هذا أن أمسح الشوارع الجانبية بحثا عن أعقاب سجائر لا أدري أي فم مريض أو معافى لفظها هنا أوهناك. كانت لدي أحلام كثيرة مؤجلة لضيق ذات اليد. لقد حلمت طويلا أن أجلس إلى دجاجة مشوية لا يشاركني فيها أحد. أجلس إليها لحظة خصوصية كاملة. أمرر يدي على ساقيها المشرعتين. أدغدغ صدرها قليلا. أضع أصابعي على بطنها كما يفعل العاشقون فترتجف على بوابة اللقاء. أجرِّدها من زيِّها المدهون ببطء متعمد. لكن الحلم حين صارت الدجاجات يحضرن إلى شقتي تباعا بدا أكثر جمالا وجاذبية من درجات تحققاته. كان لا بد لي قبل أن أتتطلع إلى الأمام أن أقتل فقري العتيق بشوق بارد ورباطة جأش، أواري جثته في متع الحياة الكثيرة، ثم أقف على قبره الحجري المصمت قائلا "لست نادما، يا رفيق سنوات العمر الماضية، لقد قاتلتَ ضدي ببسالة فائقة، لكن اليأس أبدا لم يتسلل إلى عزيمتي ورغبتي اللا نهائية في تدميرك وسحقك ثم سحلك بلا هوادة، نم في قبرك الجحيمي الآن كما يحلو لك النوم، لكني لن أسمح ببعثك مرة أخرى، البتة".



يتبع:

Post: #249
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-22-2009, 05:54 AM
Parent: #248

رجعتْ "ليليان" بمقعدها المتحرك إلى الوراء في تثاؤب. كانت قد أنهت كتابة بعض الملاحظات على دفتر التقرير اليومي. بعد قليل، شبكت أصابعها وراء عنقها ناظرة إلى شاشات المراقبة بلا مبالاة. كانت تلك من اللحظات القليلة النادرة التي نعمل فيها معا. قالت "لا شيء مهم يحدث الآن". قلت في سري مثل هذا السؤال لا يُسأل في كندا. بدأت أتأملها من طرف خفي. بدا لي أن شعرها لا يزال يحتفظ بجاذبية شعر فتاة في العشرين حتى وهي تقف على بعد خطوات قليلة من سن التقاعد. كان الملل قد اجتاحها إلى الدرجة التي بدا معها وجودها مثل شيء ثقيل باعث على الغثيان. خلال الساعة الأولى من عمر الوردية كانت قد أخبرتني بكل ما هو جديد عن ابنتها وحفيدتها ولم يغب عنها أن تحدثني بشيء من الحزن عن خسارتها الكبيرة أثناء لعب القمار في عطلة نهاية الأسبوع الماضية. أخيرا، خرج من جوفي السؤال "كم مرة مارست "عزيزتي ليليان" الجنس في حياتها"؟.


يتبع:

Post: #250
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-22-2009, 06:55 AM
Parent: #249

Imagine there's no Heaven
It's easy if you try
No hell below us
Above us only sky
Imagine all the people
Living for today

Imagine there's no countries
It isn't hard to do
Nothing to kill or die for
And no religion too
Imagine all the people
Living life in peace

You may say that I'm a dreamer
But I'm not the only one
I hope someday you'll join us
And the world will be as one

Imagine no possessions
I wonder if you can
No need for greed or hunger
A brotherhood of man
Imagine all the people
Sharing all the world

You may say that I'm a dreamer
But I'm not the only one
I hope someday you'll join us
And the world will live as one

هكذا، عادت الحياة تدب في أوصال العجوز فجأة.



يتبع:

Post: #251
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-22-2009, 07:42 AM
Parent: #250

يبدو لي، يا عثمان، أن "أيام في حياة حارس وحيد" لم يعد اسما ملائما وفق تطور السرد الراهن، لقد فكرت في أسماء بديلة عديدة، لعل أقربها الآن هذا الاسم:أسير العبارة. هنا أذكر مرة أخرى أنني في هذه اللحظة أعتبر ما أفعله مجرد تثبيت أولي للأفكار العامة للرواية. وعودة قريبة:

Post: #252
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-22-2009, 08:37 AM
Parent: #251

"فريق البيتلز اكبر من المسيح"، وهي تفتح أمامي خزائن أسرارها على ذلك النحو، وأنا أراها تصغر في الحكي أربعين عاما، خطرت على ذهني تلك العبارة التي أطلقها "جون لينون" عام 1966، وكنت قد قرأت قبل أيام قليلة مقالا جاء فيه "لم يكن (لينون) و(مكارتني) عندما كانا يجتمعان في حجرة مكارتني الضيقة لعزف الموسيقى ووضع كلمات الاغاني يعيان انهما يؤسسان لتاريخ الفن الغربي عموماً, وان الفكر العفوي الذي كان يكظمه الفتية الاربعة هو امتداد لموجة الحداثة التي اجتاحت التشكيل والادب الغربي".

كنت شابة صغيرة. مات والديَّ في تحطم طائرة مروحية خاصة على شواطيء خليج "هدسون" على الحدود بين محافظتي أونتاريو ومنيتوبا. تركا لي ملايين الدولارات وفراغا عظيما أخذ يكبر كلما تقدم الوقت. "أوه هاميد، لا أحد يعلم كم مرة مارس خلالها الحب". شيئا فشيئا تحول غرامي بفرقة "البيتلز" إلى شيء ملأ مني منافذ الروح والجسد. كان هبة إلاهية أن تتنفس مع أربعتهم هواء العالم نفسه. حين أقدم "ديفيد شابمان" مساء الثامن من ديسمبر عام 1980 على اغتيال "جون لينون" وجدتني غارقة مرة أخرى داخل ذات الفراغ العظيم. المعتوه قال إنه ظل يسمع أصواتا في رأسه تأمره بقتله. قال "كان الأمر أشبه بقطار ينطلق بأقصى سرعته، لا سبيل لوقفه". لقد أحسست باليتم مرة أخرى. "يا هاميد، أية قوة غامضة تدفع الناس أحيانا إلى قتل أجمل الأشياء في حياتهم"؟.

كنت أصغي بكياني كله. العجوز ترتعش حد إثارة مخاوفي من أن يغمى عليها في أية لحظة. بعد كل هذه السنوات، لا تزال تذرف دمعا، و"الدمع، لو تعلمين، "عزيزتي ليليان"، فقط لو تعلمين ما يفعله الدمع بالمنفي الغريب"؟. الدمع الدمع، أيبعثه الحنين، الغبطة، الفقد، الوداع، اللقاء، الحزن، الفرح، أم اليأس والأمل؟. أية قوة هائلة ينطوي عليها ذلك السائل المائي؟. لقد وضع الله في حناجرنا الغناء، في قلوبنا الخفقان، في رؤوسنا الفكر، في أقدامنا المشي، في ملتقى ساقينا الرغبة، لكنه جعل الدمع أكثر هباته وضوحا ولوعة.



يتبع:

Post: #253
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-22-2009, 05:55 PM
Parent: #252

نتابع البرنس
وهو يقلب الذاكراة .
ويبتسم لتلك الصور الزاهية

Post: #254
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-22-2009, 11:50 PM
Parent: #253

هكذا، وجدت نفسي داخل غمار حياة مختلفة، يرحل في ثنايا ليلها عالمي القديم، مخلفا وراءه ذكريات باهتة وصور وجوه ورسائل طيبة طمس ملامحها الزمن، بينما ظل ينأى في وعر نهارها عالمي الجديد، متوغلا صوب هوَّة عميقة من الضياع، وقد أحالني بتراكم الساعات والأيام والسنوات إلى طيف كائن يفتقر في كهوف وحدته إلى الدفء والتاريخ ومتانة العلاقة برغم المهدئات. كنت أنظر إلى "ليليان" مرة، أفتش ندف الحطام في أعماقي مرة أخرى، أتتبع شاشات المراقبة مرة ثالثة، ولا أدري أن ما أعيشه مجرد كابوس مفزع أم واقع؟.

"مَن يعش في الغربة يمشي فوق فضاء خاوٍّ، مجرَّدا من شبكة الرعاية التي تحيط به، كل كائن بشريّ بلاده الأم، حيث تُوجد عائلته وأصدقاؤه، وحيث يستطيع أن يتحدث باللغة التي تعلمها في الصغر من دون أدنى مشقة". لعله "ميلان كونديرا". ولكن أي عزاء يمكن أن تمنحه العبارات للناس أحيانا"؟.

كنت في منتصف الثلاثينات تقريبا، حين قابلت "جي ميلر"، والد ابنتي الوحيدة "دوريان". كنت وقتها مثل سفينة صعد على متنها ركاب كثيرون ألقوا برحالهم على موانيء مختلفة من بحار العالم. كان "جي" مثل شطء خليجي يمد ذراعي يابستيه بعيدا في الماء ، مستقبلا سفينة ظلت تُبحر طويلا مدفوعة بقوَّة تيار غامض وراء "جون لينون" وزملائه، ظللت أشد رحالي إلي حفلاتهم أينما كانت، كنت أجدني خلال عام واحد في طوكيو وهامبورغ ونيويورك ولندن وغيرها. أغني معهم من عمق قلبي، بكل جوارحي، للحب والسلام والإنسانية. أثناء ذلك، كانت تتملكني رغبة جارفة أن أسمح في أعقاب كل حفل للعالم (للعالم كله) أن يغوص عميقا في داخلي، هكذا وجدتني أتقاسم الفراش مع بيض وسود وصفر وخلاسيين. كنت روحا طليقة. كنت جميلة كذلك. لكني كنت متيمة أكثر بجمالي الداخلي. "دوريان" ابنتي، لا تحفل كثيرا بمثل هذا الجمال، تراها تشكو دائما من حظها القليل من الملاحة. يبدو يا "هاميد" أن الإنسان لا يعبأ كثيرا بما يملك. إنه يبحث دائما عن شيء مفقود. لعلها طبيعة الأشياء، "لا أعلم عزيزتي ليليان"؟.



يتبع:

Post: #255
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-23-2009, 06:23 AM
Parent: #254

ينتابني شعور جميل. "ليليان" ذهبت منذ قليل في صحبة ابنتها "دوريان". أجلس وحدي داخل المكتب. عطلة نهاية الأسبوع. نحو نصف يوم لن أرى خلاله "أماندا". وردية أخرى. طويلة ومملة. تركت "أماندا" حوالي الحادية عشرة. تعد حقيبتها الرياضية. أدهشني أنها تملك مثل تلك الحقيبة في الأساس. قالت إنها ذاهبة للعب مبارة ضمن فريق كرة قدم نسائي. لا أزال أصغي لسمفونية موتسارت "الربيع". حياته قصيرة وتعيسة. ومع ذلك، لم أعثر، حتى الآن، على مبدع احتفى بالحياة مثله. أية مباهج تطلقها موسيقاه؟. إنني الآن أتنسم معه نسائم مطهمة بعبق الياسمين، معه أطرب لشدو الطيور تهب نحو أرزاقها، أرى رقصة الفالس تؤديها فتيات جميلات على إيقاع سوقهن العارية وقد أثملهن فرح غامض مثل سر الله أودعه في قُبلة طفل وديع، إنني معه أكاد أرى تراقص أول ضوء للشروق على ورقة شجرة خضراء مصقولة ومبللة بالندى. أخيرا، استقرت "أماندا" في حياتي كحقيقة. كانت تغيب وتظهر فجأة. مرة جاءت بلا موعد. أحسست بقلبي يسقط لحظة أن فتحت باب الشقة ورأيتها أمامي. كان ذلك بعد أسابيع قليلة منذ أن رأيتها لأول مرة صحبة عمر و"جسيكا". قبلتني على عجل وذهبت إلى غرفة النوم مباشرة. بدت متعبة لحظتها. حين عدت من المطبخ حاملا كوبا من العصير وجدتها نائمة كطفلة. قلت في نفسي هذه سانحة وهبة إلاهية. قفلت عليها باب الشقة في هدوء. كنت في طريقي إلى بار في الجوار لشراء ما يطلق عليه المنفيون الغرباء تعبير "الفرح المعبأ في الزجاج". حين عدت وجدت غرفة النوم خالية تماما ولا أثر لها في أي مكان داخل الشقة. بعدها لم أرها لأكثر من ثلاثة أشهر. قبل أن تذهب، وضعتْ لي فوق مبلغ كبير من الدولارات كنت قد نسيته على منضدة قرب سرير النوم ورقة مطوية بعناية كتبت عليها هذه العبارة:

Without love it's impossible to survive



يتبع:

Post: #256
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-23-2009, 07:34 AM
Parent: #255

لا أدري. ظللت أضحك مسافة من عبارة بدت لي ساذجة وقتها. "مستحيل أن نظل على قيد البقاء من غير حب". كانت منابع الحب تقريبا قد جفت في داخلي منذ أمد بعيد وهذه الرغبة التي لا تقاوم إلى "أماندا" لا أعرف مصدرها. البقاء على ظهر هذا العالم يحتاج أن تواجه هذا العالم بأصابع الحيلة العشر. ذلك ما قررته في أعقاب الاحتفال بعيد ميلادي التاسع والعشرين في يوم يبدو لي الآن "موغلا في البعد والقتامة". ما عادت الأشياء هي الأشياء. "أماندا" نفسها، حين عدت من العمل قبل ثلاثة أيام، وجدتها قد أحدثت تغييرات جذرية داخل الشقة، وبدا أنها فتشت ونقبت وبحثت في كل شيء، بعدها أثناء وجبة الغذاء أرتني صورة قديمة على بطاقتي كباحث في الجامعة الأمريكية في القاهرة، أخذت تضحك قائلة إنها تعجبها، أخذت بدوري أنظر إليها مسافة، قبل أن أسألها بشيء من الأسى "لعل الذي لا يزال باقيا بيني وبينه تلك النظرة المشرئبة نحو شيء ما"؟. "أماندا" هزت رأسها. آنئذ، أدركت والحاجة إلى البكاء قاب قوسين أوأدنى أن الذي كان قد ذهب بالفعل مرة واحدة وإلى الأبد.

هل كان جورج مور على حق حين قال:

A man travels the world over in search of what he needs and returns home to find it



يتبع:

Post: #257
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-23-2009, 02:46 PM
Parent: #256

Quote: ويبتسم لتلك الصور الزاهية


هذا التعبير أعجبني. من حكمة الله أن يضع شيئا من سخرية خفيفة على طرف فمي حين أبتسم. هذا الأمر ظل يخلق لي الكثير من سوء التفاهم. أعتقد يا عثمان أنه من باب اللعنة أحيانا أن يُولد المرء وعلى طرف فمه ابتسامة ساخرة. تحيات.

Post: #258
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-23-2009, 05:10 PM
Parent: #257

أعياد ميلاد سعيدة لأصدقائي وصديقاتي والناس هنا وهناك.

Post: #259
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-23-2009, 08:13 PM
Parent: #258

بمناسبة اعياد الميلاد المجيدة .
يسرنى ان اتقدم بخالص تحياتى وأجمل التبريكات واطيب التمنيات
للكاتب الكبير عبدالحميد البرنس والأسرة الكريمة .
وكل عام وانتم وعموم السودانيين بخير وعلى خير .

Post: #260
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-24-2009, 00:54 AM
Parent: #259

عثمان أخي: كل عام وحياتك مشبعة حبا وصحة وعملا نيّرا. تحيات موصولة من إلهام ومحمد وأنيس. وبمناسبة الجليد، كلما طالع أنيس من على كتفي ما يحدث في الخارج وراء النوافذ الزجاجية، أبدى دهشة بلغة انجليزية وليدة "أوووو مااااان".



أخيرا أخيرا.

غادرت الشقة الأرضية الضيقة في حي عين شمس الشرقية. لم أحمل معي سوى دفتر يومياتي والكتب وأشياء أشبه بقطع تذكارية كملامح وجه بطاطس المكتنز. حتى مشاعر الغل الكظيمة التي ظللت أحملها في داخلي لسنوات تجاه الحاج إبراهيم العربي مالك العقار بدا وكأنها مياه صرف صحي تسربت من احدى المواسير فجاء عليها نهار قائظ وتبخرت. كنت قد حفرت قبرا جماعيا هائلا خلال ما تبقى لي من أيام قليلة داخل تلك الشقة. وضعت فيه بلا ترتيب أشياء كثيرة: طيبتي، لاءات العربي الثلاث، بقايا تأنيب ضمير حاد، رسائل من زمن له وجه عانس نقية الدواخل، وجبات طعام رخيص، وكل ما يمكن أن يجذبني نحو مواقع الضحايا في هذا العالم. لم يطرف لي جفن والخبرة أخذت تعلمني أن الحديث عن الفقراء من على المنابر يجلب للعقل متعا عديدة. هكذا، بدا التراب يتساقط فوق أعينهم الشاخصة، أفواههم الفاغرة، مثل ستار كثيف من النسيان أوالعدم.

في نهاية المطاف، جلست ألتقط أنفاسي، أجفف قطرات العرق وخيوطه المتسخة تتحدر من أعلى جبيني، قبل أن أضع شاهدا حجريا على رأس ذلك القبر. شاهد نقشت عليه برويَّة تامة هذه العبارة: "هنا المقر الأبدي للحاجة سيئة الذكر المرحومة أحزان لا مبرر لها".




يتبع:

Post: #261
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 12-24-2009, 03:09 PM
Parent: #260

كل سنه وانتو طيبين يا عثمان




ابو العيال


انك دائما تبعث بالدفء لنا فما احوجنا له فى هذا الشتاء القاسى



نحبك
محمد انيس امهم

Post: #262
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-24-2009, 09:51 PM
Parent: #261

زيارة المقابر.

كانت العادة السرية الوحيدة التي درجتُ على ممارستها من حين لآخر في عالمي الجديد.

كنت قد بدأت العمل مع مها الخاتم داخل خلية واحدة قوامها ستة أشخاص. خمسة رجال وأنثى واحدة. بدا لي في كثير من الأحيان أنها تسلك مثلما تسلك بعض الأرواح الجريحة. تثور بغتة لأدنى بادرة قد يفهم منها بأقل الدرجات أنها تسعى نحو المساس بكرامتها. لا مجال البتة لنوايا حسنة في عالم شديد القسوة. قرون استشعار دقيقة تلتقط الهمس من بعد آلاف الأميال. كانوا يضيقون بها سرا مثلما يضيق الحزبي بشائبة سوداء على قميص العقيدة ذي البياض الناصع الأخَّاذ. لكنهم كانوا في كل مرة يفتقدون الدليل على إدانتها. لم يكن الهواء المتسرب عبر مقاعد المقاهي المتقاربة وخصاص أبواب الغرف الضيقة يحمل لرئيس الكهنة سوى روائح عفنة لا تقوم في أشد درجات نتانتها مقام الدليل المادي لإدانة يمكن أن تكون شاملة ونهائية. في مثل تلك الحال، كنت أقدم لها بدهاء شيطان الشيء الوحيد الذي أخذ يتسرب منها في عالم المنفيين الغرباء مثلما يتسرب الماء عبر غربال واسعة أخرامه: الاحترام.

هكذا، على جرعات متزايدة ببطء وحرص بالغين، بدأت أنسج سلاسل ثقة لا مرئية على امتداد المسافة الفاصلة بيننا، وقد رسخ في وعيها مع طول بقائي داخل تلك الخلية أن رؤية القلاع الآدمية من الداخل ليست كما تبدو لنا على الدوام من الخارج. الوغد، عادل سحلب، فكرتُ أنه ولا ريب قد سبقني لعزف هذه المقطوعة الغنائية بأصابع كادر خطابي متمرس، حين أخذ يعمل مثل فأر قارض على اجتثاث جذور نشأتها التقليدية المتخفية مثل غيرها وراء حجاب خادع مما يدعونه "حرية المرأة وثوريتها"، لقد كانت مبهورة وقتها وهي تتجول معه داخل قلعته بجاذبية ديكورات عصرية على جدران آئلة للسقوط في أية لحظة، وقد كان.

لم يكن أمامي ثمة من طُرق أخرى للتعامل مع مهام تبدو عسيرة وشاقة تماما سوى الذهاب إلى المقابر لوأد أفكار وبعث أفكار أخرى بديلة لوقعها نفخ البوق في آذان الموتى يوم الحشر العظيم ولا شفاعة لمن قَصُرَتْ به الحيلة وحسن المسعى.



يتبع:

Post: #263
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-25-2009, 06:47 AM
Parent: #262

هذا الصباح، بدا المشهد، في الطريق إلى عملي داخل المجمع التجاري الضخم، كما لو أنني أجلس على متن دابة لا مركبة عامة تحاول جاهدة أن تشق طريقها عبر رمال الصحراء الكبرى في يوم عاصف، إنه شهر ديسمبر.

كانت عاصفة ثلجية تدخل بداية يومها الثاني بنفس العنفوان الذي بدأت به. الرؤية محدودة وكثبان جليدية ذات تموجات ناعمة تسد مداخل البنايات والطرق الجانبية الضيقة. قبيل خروجي، نظرت لما يحدث وراء النافذة الزجاجية الواسعة، خيل إليَّ للحظة وكأن أعمدة الكهرباء تئن من شدة البرد وصفعات الريح المتصلة. "الهنود الحمر، يا أخوي حامد، يكونوا عرفوا قيمة الخواجة اليومين ديل". قال لي عمر ذات نهار قريب وهو يعلق على طقس قارس مثل هذا. لم يكن يدرك وقتها أن أسلاف هؤلاء قد عالجوا الطقس منذ آلاف السنوات على طريقة مكافحة النار بالنار حين ابتنوا لأنفسهم خلال فصول الشتاء منازل دافئة من الثلج نفسه أطلقوا عليها اسم "ايغلو". ذات المساكن التي تم تحويلها لاحقا إلى أيقونات متحفية لا ضرر منها. قلت في نفسي قول عمر هذا يثير ولا ريب الغثيان لدى جمال حمدان وحسن فتحي في قبريهما. وذلك ما يدعونه "عبقرية المكان".



يتبع:

Post: #264
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-25-2009, 08:02 AM
Parent: #263

منتصف النهار، جلست إلى المائدة صحبة "جيف"، نتناول طعامنا داخل كافتريا شبه خالية، لم أكن بحاجة للسؤال عن غياب زوجته "دون فِشر"، كان حضورها هذه المرة من تلك المصلحة الحكومية القريبة أشبه بقطعة من العذاب في مثل هذا الجو الوحشي. قلت له:

- "(وينبيك) اليوم تبدو مدينة أشباح".

- "درجة الحرارة حسب هيئة الارصاد 59 درجة تحت الصفر".

- "لا بد أن تكون لديك قوة روحية هائلة كيما تواصل العيش في مثل هذا الطقس"!.

- "لا، أبدا يا مستر هاميد، فقط البس وكل واشرب جيدا".

- "أفكر في الرحيل إلى بلاد مثل وطني شمسها دائمة ودافئة على مدار العام، يا جيف".

- "بالنسبة لي، لا أحب العيش في ظل فصول متشابهة، كل فصل في كندا له جماله ومتعته الخاصة، فقبل ثلاثة أيام مثلا، كنت أنظف مدخل البيت من الجليد، يا لجمال ذلك الجليد الطازج وهو يتلألأ تحت شمس تلك الظهيرة، تزيد متعتك أكثر بجمال الشتاء حين تلم بأنشطته المختلفة مثل التزحلق أوممارسة الهوكي".

بعد نحو أسبوع من تلك المحادثة، حضرا بسيارتهما الخاصة إلى شقتي حوالي السابعة مساء، هو وزوجته "دون فشر"، قالا إنهما في شوق ليريانني بعد قليل احدى متع الشتاء الكثيرة في كندا، كان قد أحزنهما أني أجد صعوبة من عام لآخر في التعامل مع طقسهم الشتائي المقبض. اقترحت "دون فيشر" أن نذهب إلى الحي "اليهودي". "جيف" أوضح مغزى حديث زوجته موضحا أنه من الأفضل لي مطالعة ذلك في أحياء الأغنياء. وقد صدقا. كانت مشاهد غاية الروعة أن ترى كيف يخلق هؤلاء من أنوار الزينة الصغيرة الملونة حول منازلهم مجموعة متنوعة من اللوحات الفنية المدهشة تنهض على خلفية هائلة من البياض الثلجي المترامي هنا وهناك. قلت في نفسي ونحن نتجول بالسيارة عبر شوارع المؤسرين "ليس بالضرورة أن تكون مالكا للجمال كيما تمتلك حق الاستمتاع به".





يتبع:

Post: #265
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-26-2009, 04:47 AM
Parent: #264

نتابع

Post: #266
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-26-2009, 05:36 AM
Parent: #265

كانت اجتماعات الخلية لمبررات "أمنية" تجري في ثلاث شقق مختلفة من ضاحية "مدينة نصر". لم يكن من بينها شقتي ذات الغرفتين الواقعة في الطابق العاشر من عمارة سكنية تطل على تقاطع شارعي مصطفى النحاس وعباس العقاد على مرمى حجر من "بنزينة كالتكس" ومطاعم فخمة ومحلات تجارية أخرى عديدة. كنت قد قررت أن أبني حول نفسي حائط صد لا يتسلل إليه معظم أولئك المنفيين الغرباء بمعدة خاوية ورأس ناقلة للأحزان الصغيرة في عالم لا يحدث فيه عادة شيء ذو بال. كان نجاحي المادي مبعث هموم جديدة مختلفة تماما. خشيت أن يبدو في نظر هؤلاء بمثابة مرآة مصقولة لا تذكرهم في كل مرة سوى بفشلهم وعجزهم وضياعهم المزمن في مدينة كبيرة مثل القاهرة فيسعوا جاهدين لرشقها وتهشيمها إلى شظايا صغيرة ليعود إليهم في نهاية المطاف تفوقهم الوهمي وزيف الصور السعيدة المتكونة في مخيلتهم عن أنفسهم ومعنى الحياة التي يعيشونها. في عالم المنفيين الغرباء حجارة حادة كثيرة: أمنجي، عاهرة، مثلي ومثلية، برجوازي متعفن، أُصولي متسلق، انقسامي، والقائمة تطول. كان مجتمع المنفيين الغرباء مع تقادم عهده بالقاهرة في حاجة دائمة إلى ضحية من حين لآخر. تُذبح على أقدام آلهة الملل. تّقدم لحومها على آنية اليأس الخالية وتُشرب دمائها لتهدئة عنف داخلي موَّار لقلة الحيلة وضعف الخيال لا سبيل إلى توجيهه صوب أهدافه المحددة في الخارج.


يتبع:

Post: #267
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-26-2009, 06:39 AM
Parent: #266

إلى حين عودة قريبة:

ألفت الانتباه مرة أخرى، في حضور عثمان أخي، أن أحداث هذا العمل السردي (أسير العبارة) محض وقائع خيالية، وإن تطابقت بعض الأحداث والأسماء مع نظائر واقعية.

Post: #268
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-26-2009, 08:33 AM
Parent: #267

قلت لمها الخاتم "مدير التلفزيون لا يصنع من شقيقه مطربا". الفن لا تحمله إلى قلوب الناس سلطة. الفن يحمل سلطته داخله. حين يفعل يكون بحاجة إلى فن آخر ليزيحه. لكل مرحلة قضاياها وتساؤلاتها. نظرتْ إليَّ بدهشة وحيرة. كانت تشكو من معاملة رفيق يدعى "جيفارا". شقيق أحد القادة الكبار. كان قد ظفر ببعثة دراسية إلى المجر قبل ثلاثة عقود أويزيد. ظلّ يملأ مخيلة المنفيين الغرباء على هامش الأحداث السياسية بقصص بدت لهم في واقع عماده الحرمان مستقاة من كتاب "ألف ليلة وليلة". المجريات حين يقبل الصيف يمشين بصدور تحدث أصواتا وراء بلوزاتهن الشفافة "جبغ جبغ جبغ". كانوا يقومون بتوزيع البيرة من خلال حاويات كبيرة تجوب شوارع بودابست خلال الأيام الحارة. كان من الصعوبة العثور عليه وراء شعر العانة الناعم الطويل. كان لا بد أن تملأ فمك بالهواء وتنفخ كيما تعثر على الطريق إلى ما لم تسمع أُذن ولا رأت عين ولا خطر على قلب بشر. كنت أجيبها في العادة بعبارات رنانة عامة متجنبا الوقوع بذلك في مستنقع أحاديث المنفيين الغرباء ما أمكن. كنت أرغب فيها وأخاف بأسها في نفس الوقت. الأرواح الجريحة لها أحيانا رغبة مدمرة في إلحاق الأذى بالعالم من حولها. كنا نتبادل هذا الحديث داخل مركبة عامة صغيرة في طريقنا إلى "أتيليه القاهرة" في شارع كريم الدولة لمشاهدة معرض تشكيلي كان قد أقامه فنان مصري مغمور وقد جذبنا عنوانه ذو الطبيعة الشاعرية الحالمة "الأحباء عبر العصور". آنذاك كنا بمثابة زوجين يمارسان الحب بصورة محمومة لا تكاد تتوقف ويلتقيان داخل الاجتماع الحزبي مثل غريبين تنهض بينهما آلاف الحوائط اللا مرئية. سلفادور دالي وجالا. روميو وجوليت. رمسيس الثاني ونيفرتاري. قيس وليلى. سارتر وسيمون. أحمد رامي وأم كلثوم. جميل وبثينة. عنتر وعبلة. عايدة ورادميس. كانت خامات المعرض زيت على توال وزيت على خشب. كان اللون الأزرق يسيطر على أغلب المساحات سواء على مستوى الخلفية أوالتفاصيل الداخلية للوحات. ربما لأن اللون الأزرق بدرجاته المختلفة يضفي لمسة عالية من شفافية ورومانسية على نحو يناسب قصة حب.


يتبع:

Post: #269
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 12-27-2009, 04:28 AM
Parent: #268

sudansudansudansudan045sudan.jpg Hosting at Sudaneseonline.com




معك

Post: #270
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-27-2009, 05:42 AM
Parent: #269

علمت قبل اكثر من عامين أن ياسر كوكو غادر المدينة ليعمل في مصنع للحوم في مدينة "بروكس" التابعة لمحافظة "البرتا" الغنية. كنت أتهرب من لقائه حتى اللحظة الأخيرة. قبل لقائه ذاك مع "سمانتا"، كان يشكو في فترات قصيرة متقاربة من تعب غريب وتوعك لا يعرف مصدره وخمول غامض وآلام في الحلق وصداع. لكنه ظل يواصل حياته العادية وكأن شيئا لم يكن.

لكن كل ذلك لم يستمر معه وقتها طويلا.

في "بروكس"، كان الحنين أمام وضعية العمل البائسة داخل مصنع اللحوم، يعصف ببعض المنفيين الغرباء نحو "وينبيك"، لكأنهم كانوا بحاجة دائمة إلى وطن ضائع يبثون إليه لواعجهم التي لا تنتهي، وقد تلاشى بمرور السنوات الكثير مما يعتمل في ذاكرتهم عن الوطن الأم. كانوا يبعثون من آن لآخر بتقارير عن أحوالهم هناك. يشكون من عدم وجود اتحاد يمثلهم أمام أرباب العمل. يصفون بحرقة جشع أصحاب العقارات وغلاء المعيشة. ما أُعطي باليمين يُؤخذ بالشمال. لكنهم كانوا يتكلمون بشيء من المرح عن ياسر كوكو الذي اختار لطمعه أن يعمل في خط إنتاج داخل المصنع أجمع الناس أنه مهلك ومرهق تماما. قالوا كان يقف بثبات وعينين محدقتين صوب أبقار عملاقة مسلوخة، يدير منشارا كهربائيا، يشطر الأبقار الواحدة تلو الأخرى لمدى اثنتي عشرة ساعة يوميا، قبل أن يدعها تمضى في طريقها إلى وحدات تقطيع صغرى. كانت الأيام تمضي بهم ماسحة ذكرياتهم عن "وينبيك" شيئا فشيئا وبانية ذكريات أخرى عن "بروكس" لرحيل قادم ومدن غريبة أخرى. ربما لهذا أخذوا بعد نحو العام تقريبا يقتصرون في رسائلهم على الأشياء المهمة مثل إصابات عمل مزمنة طبعت بصمتها على أجساد بعضهم مدى الحياة. جدار الروح كانوا يرأبون صدوعه بالصلاة تارة وبالخمر تارة أخرى وبالأمل في أحيان قليلة ونادرة.

فجأة أخذت الأخبار تتوالى عن الانهيار المتسارع لصحة ياسر كوكو. كان قد نقص وزنه لدرجة أن خشي البعض أنه اذا استمر على هذا المنوال فسيزيحوا عنه ذات يوم الغطاء ولن يعثروا له حينها على أثر. لقد بدا يعاني إلى درجة التوجع والأنين من فتور وتعب متزايدين. كانت شهيته قد غدت منذ مدة أثرا بعد عين وطوحاله قد تضخم على نحو مريع. أخيرا أخبرهم الطبيب أن ياسر كوكو مصاب بمرض "الإيدز". كان قد أخبرهم بهذا في أعقاب "فحص تأكيدي يسمى ويسترن بلوت". كان معه وقتها لإعيائه الشديد ثلاثة من المنفيين الغرباء من مجموع ستة آخرين كانوا يقاسمونه السكنى في شقة مكونة من ثلاث غرف وصالة واحدة. نظروا إلى بعضهم داخل العيادة العامة في وجوم وبدا وكأن صاعقة هوت على رؤوسهم. حين لم يكن مع الطبيب ما يثبت هوياتهم، طلبوا منه أن يظل ياسر معه لدقائق حتى يتم لهم التشاور في أنسب الطرق التي يمكن أن يخبروه بواسطتها أنه ميت لا محالة، كانوا يتصرفون في تلك اللحظة وكأنهم وضعوا عقولهم داخل عقل واحد، ما إن ابتعدوا نحو ثلاثة أمتار من حرم العيادة حتى أطلقوا سيقانهم للريح.




يتبع:

Post: #271
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-27-2009, 04:38 PM
Parent: #270

Quote: معك


ومعك أشعر أني ككاتب أكثر حظا حين أتوقف عند كلمة تدعى إلهام.

Post: #272
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-27-2009, 10:16 PM
Parent: #271

كنت في طريقي تلك الليلة الخريفية البعيدة إلى "أتوا" وسقف العالم ينهار على رأس إنسان بسيط يدعى "ياسر كوكو". اثنتان وثلاثون ساعة. بالتمام والكمال. هي مدى المسافة الزمني بين المدينتين. تم استبدال البص خلالها نحو ثلاث أوأربع مرات في مدن وسيطة مختلفة. لا أذكر على سبيل التحديد. خلت أن الحياة دبت في عروقي بعد لقاء "أماندا". لكني أرحل الآن كما رحلت في زمان سحيق من القاهرة بلا مشاعر.

وقتها أدمعتْ، بكتْ، انتحبتْ، توالت دموعها حتى خلت أنها لن تتوقف أبدا، وجسدها الذي أعرفه جيدا أخذ ينتفض بشدة. كل ذلك لم يزحزحني قيد أنملة. كانت تجلس على بعد لمسة مني. لكن جدارا سميكا كالخيانة كان ينهض بيني وبينها.

من قاع سحيق للضياع، سألتها:

- "ألم أكن جيدا في الفراش، يا أماندا"؟.

- "لقد كنت جيدا وأكثر، وليم".

- "لماذا"؟.

- "كنت ثملة جدا، وحتى بعد أن خرجنا من النادي الليلي، ابن السافلة، صحبنا إلى بيت صديقتنا، هناك ظل لصيقا بي في وقاحة، شربنا أكثر، وثمة قوة غامضة تحركني، كنت مدفوعة نحوه بشيء فوق إرادتي، لم أكن أملك من أمري نفسي شيئا، وا أسفاي".

- "وفي داخل شقتي نفسها"؟.

- "وليم، ليس لدي الآن ما أدافع به عن نفسي، أتمنى لو انشقت الأرض الآن وابتلعتني، لكن ما حدث قد حدث".

- "كم من الوقت يلزمك لحزم حقائبك والرحيل من حياتي"؟.

- "القليل. أعلم مدى احتقارك لي في هذه اللحظة. لك الحق أن تنظر بعيدا. أنا نفسي آخر ما أتمنى الآن أن أنظر إلى نفسي. لن أغفر لنفسي ما حييت. فقط أريدك أن تعلم الآن أنني منذ أن هفت نفسي إلى الرجال لم أحبب رجلا مثلما أحببتك ولا أزال. قد لا تصدقني. لكنها الحقيقة وما حدث ليس بوسعي أن أغيِّره الآن. ما حدث كان مجرد غباء. لا أدري".




يتبع:

Post: #273
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-28-2009, 06:52 AM
Parent: #272

"لأنني في ذلك الحين أحببت شيئين فوق كل شيء آخر، الكتب وأصدقائي، فقد بدت لي حياتي مليئة وحافلة بالأحداث. ولم أكن أدري أن الكتب قد تصبح وسيلة للهرب والإختباء، وأن الصداقات تنفصم ولا يبقى منها إلاّ الطعم المر".

كنت أقرأ في مقدمات هشام شرابي لدراسة المجتمع العربي، حين أخذتني غفوة إلى جوار قبر وحيد لا يزوره أحد، فإذا بي أرى في ما يرى النائم أني أسير جيئة وذهابا بخطى قصيرة قلقة داخل شقتي الأرضية الضيقة كقبر، فإذا هاتف غامض يتناهى من غير مكان "اخلع ثيابك. افتح باب الشقة. اصعد الدرج. توقف هناك قبالة باب شقة الحاج إبراهيم العربي. احتفل بعيد ميلادك التاسع والعشرين. عد بسلام". صحوت على إثرها وعلى جسدي تتناوب موجات من البرودة والارتعاش الخفيف وقد بدا لي كما لو أن ضحكة نسائية مكتومة تناهت لثانية من داخل القبر الأسمنتي قبل أن يغرق كل شيء مرة أخرى داخل صمت كثيف مطبق. قلت في نفسي لعله التعب ومواصلة التفكير في أشياء كثيرة بلا جدوى. كنت أحمل معي قارورة خمر محلية صغيرة. أمتح منها فقط كيما تخف وطأة الأشياء على عتبات روحي. لكن نفس الهاتف ظلّ يعاودني كلما توغلت في مدائن النوم المسالمة.

أخيرا، استجبت للنداء.




يتبع:

Post: #274
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-28-2009, 07:18 AM
Parent: #273

كانت الغرفة لا تزال مغمورة في الأسى وفوضى السنوات. صراصير ميتة وراكدة تتربص. كتب متراصة. صور ممثلات ألصقها المستأجر السابق على الجدران كيفما اتفق. بقايا طعام رخيص أعلى المكتب. غبار متراكم فوق الأرضية الأسمنتية العارية. صحف قديمة، أخرى حديثة، ومسودات متناثرة هنا وهناك. ملابس تقبع في قاع الدولاب المفتوح كعاشق يفرد ذراعيه صوب ريح ساكنة. أرفف خالية من أغراضها. عناكب تنسج غلالة رمادية حول الأركان وعلى السقف القريب.

كانت تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل تقريبا. مدخل البناية معتم. الدرج يستجم من وطأة الأقدام النهارية. لا نأمة تنحدر من الطوابق العليا. كنت أستطلع سرير الحفل الكبير وكل ما رأيت يُهييء لتنفيذ إرادة هاتف غامض لا راد لها. احتفال يليق بنهاية عقد وبداية عقد جديد. لا شموع تنيره. لا هدايا. لا ضوضاء أوتأملات سخيفة حول الحياة أوالعدم. احتفال خارج من رأس شيطان عزب له ستة قرون من الوحدة والكبت والظمأ.

ولم أتردد.




يتبع:

Post: #275
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-28-2009, 08:07 PM
Parent: #274

يا سلام .
تشويق . أسلوب الكتابة سلس . جميل لا يتسكع ولا يتهكع .
رسم وأضح ونبيل كما تأكد القراءة .. ألف شكر أخى العزيز عبدالحميد البرنس .
..
ونتابع الجمال

Post: #276
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-29-2009, 05:35 AM
Parent: #275

أثناء ذلك، لم يتبادر إلى ذهني شيء من تاريخي القديم.

كنت قطعة لحم ودم وأعصاب ساعية إلى حتفها على أتون الفضيحة أوخلاصها.

هناك، إلى يسار باب شقة الحاج إبراهيم العربي مباشرة، وقد كاد الصمت والظلمة يتحدثان من كثافة، وضعت ساعد يدي اليسرى على الحائط كوسادة، وبدأت الحفل.

كنت أسمع صوت انزلاقاته داخل تجويف يدي المدهونة وهو يُقطِّع رحم ذلك الفراغ الرطب ببطء وتلذذ.

من شقوق الباب، عبر خلل الشُّرَّاعة الصغيرة، بدأت تتسلل رائحة شقة الحاج، مثل رائحة دكان قديم للعطارة.

هكذا، نطفة نطفة، أتممت الحفل، وبدا وكأن شيئا ثقيلا آخذ في الزوال عن صدري واحدة واحدة.



يتبع:

Post: #277
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: محمد سنى دفع الله
Date: 12-29-2009, 06:30 AM
Parent: #276

عثمان موسى
عبد الحميد البرنس
متعة
متعكم الرحمن باسماعكم وابصاركم
وفتح عقولكم على الخير والجمال طول العمر
..
أغلقت عينيَّ للحظات قصار. هذه طقوس وثنية خاصة لا يدخلها المرء إلا من باب المغامرة، أواليأس. لا أمتلك سجادة واحدة داخل هذه الشقة الأرضية الضيقة كقبر. سجادتي العمارة بأكملها. أدرت وجهي بخشوع صوب حائط الممثلات وعارضات الأزياء. حائط مبكى المنفي الغريب لحظة أن يكافح سعير الوحدة بدعاء الخطر وهو لا محالة هالك. في كل عيد ميلاد، سأتخذ منهن خليلة، تؤجج محراب الرغبة لعام. أخلع حذائي البيتي القديم برعشة عابد أضناه القيام والسهر. أخيرا أفتح عينيَّ على جسد "كلوديا شيفر". ذلك "خصر أضيق من أفق برجوازي صغير".
ما اجمل الكتابة ..
متى نراها مطبوعة ونقراهاكاملة
اتمنى ان يكون نشرها قريبا
لكم تحياتي وجميل المنى
امتعتونا بالكتابة التي تشعلقنا فيها وتعنكلنا وسرت الروح
محبتي

Post: #278
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-29-2009, 04:06 PM
Parent: #277

Quote: يا سلام


دام فضلك عثمان أخي.

Post: #279
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-29-2009, 04:53 PM
Parent: #277

النجم محمد سنى
السلام جاك يا حبوب .
تعال يا عزيز . تعنكل وتشعلق على كيفك .
دخولك يا سنى يسعد الدنيا . تفسح مع عبدالحميد .
شوق شقة السطوح . وتجول فى شوارع عين شمس . عبدالحميد
فى شتاء كندا يرحل الى ديار الشمس يا سنى .
كل عام أنت والأسرة الكريمة بألف خير
تحياتى وشكرى

Post: #280
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-29-2009, 06:01 PM
Parent: #279

جزيل الشكر للسيد بكرى ابوبكر
على التكرم بنقل البوست
وكل عام والجميع بخير
وكل عام والشعب السودانى يخطو نحو الجمال .

Post: #281
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-29-2009, 08:26 PM
Parent: #280

Quote: متى نراها مطبوعة ونقراها كاملة


المبدع الجميل محمد سني دفع الله:


تحية وشوق واحترام...


يسرني أن أنال تلك الشهادة عبر عين مدربة على مواقع الجمال.


أغلب الكتابة هنا تتم على نحو مباشر.


على نحو أدق، بعد أن يخلد الولدان للنوم.


أحاول البحث بذلك عن بوصلة تحدد بقدر أوآخر اتجاه الكتابة أومدى قربها من معيار أضعه كشرط لتبرير أعمالي عادة:

البساطة.. العمق.. المتعة.

لعلي قد أعتمد عوضا عن (أيام في حياة حارس وحيد) هذا الاسم كصيغة نهائية تقريبا:

أسير العبارة

مسألة النشر، في شكل مطبوعة، أغلب الظن خلال العام القادم، لكن يلزمني نحو شهرين في ما يشبه العزلة للتنقيب في ما تم انجازه حزفا واضافة وتنقيحا.

مودتي محمد أخي

Post: #282
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-30-2009, 05:50 AM
Parent: #281

كان بيني وبينه الصيني، مائدة عليها بعض المتع الصغيرة، وبقايا حطام فتاة على الجانب الآخر من المحيط تدعى "مها الخاتم"، لكنني لم أتخيل مطلقا أن الأمور يمكن أن تنحدر إلى هذه الدرجة من السوء، حتى الصيني وقد خِلتُ حتى النهاية ألا شيء في هذا العالم بمقدوره أن يُحرِّكه اعتكرت أساريره فجأة حين علم من عادل سحلب الذي أثقلت رأسه الخمر نبأ انتحار مها الخاتم من أعلى نقطة في بناية سكنية كبيرة في ضاحية "مدينة نصر" بالقاهرة. باغتني رد فعلي أكثر من نبأ الانتحار نفسه. أخذت وقتها أقضم في هدوء احدى قطع التفاح التي سبق وأن قام الصيني بتقديمها في هيئة زهرة لوتس. لكأني أطالع تفاصيل مأساة جرت أحداثها منذ البداية على بعد آلاف الأميال من مناطقي النفسية الباردة. كان مثار دهشتي منذ بداية السهرة، تلك الطريقة الشرهة التي ظلّ عادل سحلب يعب بها الشراب عبا، وقد بدا التنفس بمرور الوقت مسألة عسيرة وشاقة من كثرة ما نفث في أثير الصالة الراكد من سجائر، "الآن فقط أرى على وجه الصيني ما يدل على إنسانية وجهه الجامد المُتحجِّر". وهذه ليلة القتلة الطلقاء.



يتبع:

Post: #283
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-30-2009, 06:47 AM
Parent: #282

كانت دموع عادل سحلب لا تتوقف في تدفقها الصامت.

كان الخيال وسط تلك القبور ينهمر على رأسي مثل شلال.

خيال أسود قاتم ينسج الشراك لأنثى جرَّبت شِراك الخديعة ولم تُفِق من توابعها بعد. الأكثر رعبا من الزلزال توابعه. ذلك أمر عايشت ويلاته في قاهرة المعز من قبل. تلك لحظات عصيبة، يحاول خلالها شيء عظيم مثل الأرض مال فجأة بجسده الضخم ذات اليمين وذات الشمال أن يعود على دفعات متتالية أومتباعدة إلى سيرته الأولى. ما حدث لم يكن مجرد كبوة. كان شرخا هائلا في جدار الروح لا سبيل إلى رأبه إلا بمعجزة. والأنثى شرسة لحظة أن تصيبها الطعنة في مقتل.هكذا هكذا، لم يكن أمامي ثمة من سبيل آخر، للوصول إلى مابين فخذيها، سوى تمثيل دور عاشق جريح غرر به الموت ورماه في عزلة بائسة فريسة للوحدة أوالبكاء. الجراح روابط وشيجة بين الجرحى. وقد كان. هاتفتني وقتها في يوم خميس قائلة إنها تقيم "غدا" في شقتها حفل شاي للمزيد من التفاهم بين أعضاء الخلية. كنت جاهزا مترقبا لمثل تلك اللحظة. كل شيء معد سلفا ورهن العمل عند أدنى بادرة. اعتذرتُ منها بكلمات مقتضبة تماما. كان الصمت محورا أساسيا في تفاصيل تلك الخطة. أخيرا، جاءني صوتها متلبسا بشيء من الحيرة "لماذا". قلت لها بنبرة حزن أدهشني صدقها إن عليَّ أن أزور المقابر نهار كل جمعة.

وقد كان.



يتبع:

Post: #284
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-30-2009, 07:52 AM
Parent: #283

هذه ليلة القتلة الطلقاء.

كان عادل سحلب قد قضى على نصف الزجاجة الثانية.

لعلي كنت أُعاقب نفسي في شخصه. لعلي كنت أسعى إلى التكفير عما جرى برجم كائن محسوس. لعل دموعه قد أصابت دواخلي اليابسة بشيء من غيرة الموتى على ما يملك الأحياء من مشاعر. لعل حب الأذى صار منذ أمد بعيد نسيجا عضويا من نسيجي الداخلي. الدموع لا تريحني في مثل هذه المواقف. الوغد، بهذا البكاء الصامت على مرأى من الصيني ومني يحاول التخلص على طريقة قديمة من جثة مها الخاتم. هذا أمر لا يتم في وجودي. كان عقلي لا يزال يعمل ببراعة برغم خدر الخمر وتكاثف سحب الذكريات في سماء روحي وقد صممت أن أشهد تقيح الجثة في دواخله الخربة بأي ثمن. فجأة، أخذت أصف بصوت عال وببراعة ممثِّل في مسرحية درامية مثيرة أدق التفاصيل الخفية من جسد مها الخاتم. تفاصيل أدركتها عين رجل عاشرت جسد أنثى عار لفترة طويلة. تلك التفاصيل التي لا يدركها الناس من جسد المومسات عادة. تفاصيل تحجبها الرغبة المحمومة من أعين العابرين على الجسد لحظة نزوة. تفاصيل وياللسخرية يدركها العاشقون والساعون إلى تطويع الجسد لرغائبهم المتوحشة على حد سواء. كان عادل سحلب قد بلغ في سُكره تلك المنطقة من الوعي التي يتساوى فيها الوهم والحقيقة. كان الصيني قد تحول منذ فترة إلى كتلة انصات ناسيا علة وجوده في تلك الجلسة. أكثر من ذلك، بدأتُ أتلو على مسامعه شفرات الغرام السرية لمها الخاتم. صوت الأنثى في الفراش مثل بصمة خاصة تميزها عن سائر النساء. كانت عينا عادل سحلب قد اصطبغتا بلون أحمر قان، يعصرهما على ألم عظيم من حين لحين، ويهز رأسه يمنة ويسرة بشدة، لكأنه يتجنب سهام حديثي، لكأنه الجلاد تقلق منامه أنّات آلاف الضحايا. لا، لم يتسلل إليه أني سلكت نفس طريقه بوسيلة أخرى. كان يظن أنني أردد عليه ما ظلّ يشيعه عنها بين الناس كما لو أن حياته قد توقفت أمام هذا المُنجز ولا منجز.




يتبع:

Post: #285
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-30-2009, 03:37 PM
Parent: #284

"جيري" المحب يسمع صفيرا غريبا:

Post: #286
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-30-2009, 10:14 PM
Parent: #285

الأشياء هنا تتغير على نحو ملحوظ. لا توجد روابط أزلية دائمة بها. حتى الأغنيات عرضة للبقاء فقط خلال أحد فصول العام. بالكاد يتجاوز المطروح في فصل إلى فصل آخر. للصيف أغنياته الصاخبة، للشتاء ألحانه الخاصة، للربيع.. للخريف إيقاعات أخرى للطرب. الاستهلاك، هو الشيء الوحيد الذي يتمتع بقداسة عليا في هذه البلاد.

دخل واحد ومصارف لا تُحصى لتبديده.

كان هناك عند احدى نواصي تقاطع شارعي "سرجنت" و"تورنتو" مبنى لمرقص ليلي قديم أغلقت أبوابه منذ أمد بعيد لحين الانتهاء من تحقيقات جنائية معقدة. كنت أطيل النظر إليه حين لا يكون برفقتي أحد. كانت الأماكن المهجورة تثير في داخلي ولا تزال شعورا غامضا بالأسى. لعل التأمل في مثل هذه الأشياء شأن آثار الجمال القديم على وجوه بعض النساء هو الشيء الوحيد الذي ظلّ يعيد لي كينونتي ككائن حيّ يشعر ويتألم ويتأثر بالعالم المحيط به. كان قبالة ذلك المبنى بقالة يمتلكها زوجان أثيوبيان. أدخلها أحيانا لشراء علبة سجائر وبعض الأطعمة الباعثة للحنين مثل "الزغني" و"الأنجيرا". كنت أخرج منها في العادة مأخوذا بأشباح ذكريات بعيدة. لكن شيئا ما حدث على الجانب الآخر من الشارع.

كنت وقتها في صحبة "أماندا"، فإذا بها تشير إلى ذلك الجانب قائلة "انظر!، صديقك أُوْمَرْ أومر"، ولم تتردد وهي تخاطبه من تلك المسافة قائلة بصوت مستثار "أومر أومر، نحن هنا"، لدهشتي تحول ذلك المرقص بين ليلة وضحاها إلى مبنى تعلوه يافطة كُتب عليها بعربية فصيحة عبارة "مسجد المهاجرين". حين صاحت "أماندا" بأعلى صوتها، كانت قد رأت عمر بالفعل، لقد تعرَّفت عليه برغم المسافة وما طرأ على وجهه من إطالة للحية وشوارب محفوفة، بدا معها أقرب في صورته العامة إلى هيئة قواد من العصر الأموي، أوهذا ما تخيلته وقتها وأنا أراه على ذلك النحو لأول مرة في أعقاب غياب دام لأكثر من عام. ما أحزنني وقتها أن عمر لم يُعر صيحات "أماندا" أدنى قدر من الاهتمام. بل لم يلوِّح لي بتحية مقابل تحيتي عبر ذلك الفراغ. مضى في حال سبيله صحبة بعض العرب من نواحي الشام. ما تم بيننا آنذاك لم يكن مجرد مسافة قصيرة فاصلة بين جانبي شارع. كان فصلا مُعادا من كتاب الأحزان القديم ولكن بصياغة أخرى.



يتبع:

Post: #287
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-31-2009, 05:55 AM
Parent: #286

ماتت بعد سبعة أيام أعقبت ولادة طفل عاش لسويعات. لم يكن لدي متسع للبكاء. أمامي مهمة محددة وعاجلة: أن أقوم بإجراءات الدفن. حين رأى ممرض عجوز حيرتي وشدة ضياعي بعد وفاة وليدنا، دلني على عنوان جمعية خيرية لإكرام الموتى من نواحي "السيدة عيشة"، لقد قاموا في المرتين بكل شيء، بعد وفاتها هي أجريت مكالمة هاتفية من كشك لبيع السجائر، بدأت أتحدث مع صاحب بقالة تدعى "الحسين" في شارع "فاروق" بالزقازيق، قلت له "يا عم طُلبة أنا حامد السوداني، بتكلم من القاهرة، أحلام مراتي تعيش إنت"، أفهمته بعدها بعجالة أنه لم يتبق لي مبلغ كاف من المال لإطالة أمد المكالمة. كان من وصايا أحلام الأخيرة أن أدفنها في مكان يتيح لي زيارتها في أيام الجمعة لقراءة آيات من القرآن الكريم على قبرها. كان أهلها بعد زواجنا قد قطعوا كل الروابط بها حين علموا بأمر جذوري القبلية في السودان. والدها من نواحي شمال السودان كان يعمل قبل عقود في سلاح الهجانة وأمها مصرية مسالمة كما لو أن اله أعدها منذ الأزل لتكون زوجة لعسكري متعصِّب. كان من رأي أحلام أن الزواج قد يلين رأس والدها العجوز وأشقائها الثلاثة وشقيقتها الوحيدة نوري. لكن مرور الوقت لم يزدهم إلا تعنتا. كانوا فقراء متخمين بدعاوى الحسب والنسب في بلاد تقاس فيها قيمة العريس بموازين أخرى. لا أدري ما الذي فعلوه حين أخبرهم عم طلبة البقال بذلك النبأ الأليم؟.



يتبع:

Post: #288
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-31-2009, 07:25 AM
Parent: #287

كانت أكثر اللحظات ألما حين احتقن اللبن داخل ثدييها، كان صدرها يتحجر ببطء وحمتها تتصاعد، أراها كل صباح تضمحل شيئا بعد شيء، بدأت الرغبة في مواصلة الحياة تغادرها، خلال اليومين الأخيرين تفيق من إغماءة لتغيب في أخرى، أحيانا كان لديها الوقت لتخبرني بفم متيبس بما رأت من شأن وليدنا، كانت تراه في كل مرة يزورها في مكان جميل، يحلّق قبالتها بجناحين أبيضين، يبشرها ألا تحزن، "في جنة ربنا (يا ماما) لا يجوع الناس ولا يصيبهم الظمأ"، ما أجملها.. لم يفتها في خضم ذلك الألم أن تسألني من وقت لآخر عما أكلت وشربت. لم أحتمل مواصلة السكنى داخل تلك الشقة الضيقة التي كانت عش الزوجية الآمن الجميل. فعلت ذلك فقط لثلاثة أيام كدت خلالها أن أفقد عقلي. كانت رائحتها لا تزال تغمر المكان. كنت أراها، أقصد أرى طيفها، مرة يتحدث عن وليدنا بصوت حالم، مرة تناديني لأُتابع حركته المكتومة داخل بطنها، ومرة تلوِّح لي بأحب قمصان نومها إليَّ وهي في طريقها إلى الحمام ودلال مثير يؤطِّر قوامها بقوة جذب لا تقاوم. لكن الحياة كما يقولون لا تتوقف عند محطة معينة. نداء الحياة أقوى من الموت. شيئا فشيئا، تحول حزني إلى قراءات نهمة هنا وهناك. أنفق ساعات طويلة في "دار الكتب المصرية" وأقضي سحابة المساء بين جدران "مكتبات الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة". كان عقلي يكبر محلِّقا وعواطفي تصغر سجينة في دهاليز الذكرى. كل هذه السنوات لم أتوقف عن زيارتها نهار كل جمعة. كل هذه السنوات ولا تزال بِركة الدموع تضج داخل عينيَّ كلما وقفت على قبرها. أدفن نفسي كما ترين في السياسة. لا جدوى لا جدوى. هناك آثار شروخ أبدية على جدار الروح. لعل في الشعر بعض العزاء ولا عزاء:

"فى ذلك المساء
كنتُ حزيناً مرهقاً فى ذلك المساء
لعلكم لا تعرفون الحزن يا سادتى الفرسان
(وإن عرفتموه ، فهو ليس حزنى)
حزنى لا تطفئه الخمر ولا المياه
حزنى لا تطرده الصلاه".



يتبع:

Post: #289
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-31-2009, 08:04 AM
Parent: #288

بعد أيام معدودة، رنَّ هاتفي المحمول حوالي العاشرة صباحا، كنت وقتها في مكتبي بالجامعة الأمريكية أتابع مسار بحث حول انشقاق الحزب الشيوعي العراقي إلى جناحي "القيادة المركزية" و"اللجنة المركزية"، أذكر أن عصفور الفرح أخذ يدق بمنقاره داخل صدري بشدة، كانت مها الخاتم على الجانب الآخر تطلب مقابلتي في "مسألة خاصة"، قلت في سري وهي لا تزال على الخط "لعل بذرة الفضول التي رميتها قبل أيام على تربة بستانها قد نمت الآن"، ولم يخب حدسي. رجوت منها أن تحضر إلى مكتبي وألا تخبر أحدا من أولئك المنفيين الغرباء بوظيفتي. كنت بذلك أضع أولى اللبنات في هيكل الأسرار بيني وبينها. أذكر أنها أبدت دهشة سرعان ما دفعتني إلى القول بنبرة من تواضع "إنني أحمي نفسي فقط في عالم محاط بالفشل، يا مها". دهشتُ بدوري لحظة أن فطنتُ فجأة إلى أنني أواصل الحديث إليها بلغة عربية فصحى. اعتذرت لها موضحا على الفور أنني خرجت للتو من سياق بحث شائك. أطلقتْ ضحكة قصيرة لم تكن مثل ضحكاتها في الفترة الأخيرة. ضحكة ذكرتني برؤيتها أول مرة وهي تدلف من باب مكتب الأمم المتحدة بكل ذلك البهاء. قالت فور وصولها إنها لم تكف من يومها عن التفكير في زيارتي للمقابر نهار كل جمعة.


يتبع:

Post: #290
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 12-31-2009, 04:20 PM
Parent: #289

نتابع

Post: #291
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-31-2009, 09:08 PM
Parent: #290

"لا تدينوا لكي لا تدانوا. لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها. أم كيف تقول لأخيك دعني اخرج القذى من عينك وها الخشبة في عينك. يا مرائي اخرج أولا الخشبة من عينك وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى من عين أخيك"




يتبع:

Post: #292
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-31-2009, 09:58 PM
Parent: #291

في ظهر اليوم التالي، نهضت من نومي بشعور ثقيل. لم يكن مبعثه على الأرجح انتحار مها الخاتم على ذلك النحو. شعور أشبه برثاء غامض. لا تجاه نفسي. بل تجاه عادل سحلب نفسه. ثمة شيء يستيقظ في دواخلي بعد موات طويل. لعله صحوة الروح ساعة احتضار. "كالبط، يحاول الركض حتى بعد قطع رأسه". يبدو أن الحقد على هذا العالم قد بلغ بي مبلغا خطيرا. كم بدوت الليلة الماضية قاسيا على عادل سحلب. كان ثملا حزينا فى أقصى قاع الضعف. كنت وغدا وضيعا يتحاشى لقاء غريمه في أعلى قمة الوعي. زاد من حزني أنني تذكرت المشاهد الأخيرة من تلك الليلة. كان عادل سحلب قد كفَّ عن البكاء تماما، وهو في طريقه إلى الحمام رمقني بنظرة حيوان جريح، وهو عائد يترنح سقط في جلبة على بعد خطوتين من مقعده، ولم تمض لحظة حتى أخذ يتعالى صوت شخيره بانتظام، وقد تخلله توجع خافت أقرب إلى الأنين. لم أكن ثملا، حين طلبتُ من الصيني أن يساعدني لحمله إلى غرفته، هناك مددناه على استقامته مثل جنازة، الصيني قام بتغطيته حتى كتفيه، وغادر الحجرة في صمت. بدأت أتمعن في وجهه مسافة. كان وجهه من ذلك القرب الآمن خاليا من أي تعبير. لم يكن نفس الوجه الذي استقبلني به في بداية المساء. كان وجه شيخ في الثمانين. وجه طيب مسالم يتابع أحزان العالم وأفراحه الصغيرة بلا مبالاة.



يتبع:

Post: #293
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-01-2010, 07:40 AM
Parent: #292

الوقت صباحا.

"الغرفة باردة كالشوارع".

ثمة ضوء شاحب يتسرب عبر النافذة الزجاجية الوحيدة المطلة على منور البناية القديمة والنور مضاء. أرقد داخل شقتي الأرضية الضيقة، غرفة وحمام ومطبخ، مجرد مستطيل صغير جرى تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء لا يفصل بينها باب. سرير الحديد ضيق وجسدي ينحشر داخل بطانية الصوف السوداء الرخيصة. أحدق في العناكب وهي تنسج على جوانب السقف القريب خيوطها الرمادية الداكنة. لسبب ما أتحاشى النظر إلى أكوام الكتب وصور الممثلات وعارضات الأزياء التي ألصقها المستأجر السابق على الجدران كيفما اتفق. لا أزال أشتهي وقع طرق أليف على الباب قد يحدث في أية لحظة وقد لا يحدث. الذكرى كعب أخيل المستقبل. أودعتها منذ فترة داخل عُلبها القديمة الصدئة. وضعت عليها أقفال النسيان. تركت العناكب تنسج حولها ما تشاء. رغبة ملحة في الاغتسال تراودني من آن لآن. أعمل على تأجيلها ريثما أفتح باب هذه الشقة الضيقة كقبر. أشتري طعامي. ألمح وجوه المارة قبل أن أعود إلى مثواي مرة أخرى. أنا الكائن الهارب إلى المجهول من ميلاده وتاريخه وواقعه الجهم. منذ سويعات، أخذت تتناهى من الخارج نداءات الباعة الجائلين، دقات المفاتيح الانجليزية على أنابيب الغاز، صيحات أبواق السيارات على شوارع الحارة المتربة، لغط الحرفيين وصخب آلاتهم من هنا وهناك. في الماضي، مثل هذه الضوضاء، كانت تشعرني بمحبة غامضة تجاه هذا النشاط البشري المحتدم، على الرغم من الأمراض وضيق ذات اليد والإحساس الماثل بفناء العالم ولا جدواه. أزيح بطانية الصوف جانبا. أدير ساقيَّ المضمومتين صوب حذاء الحمام البارد. لا أزال أرتدي فانلة صوف فوق البيجامة المخططة ذات اللون الأصفر الشاحب. أضع يديَّ على ركبتيَّ ورأسي منحنية صوب أرضية الأسمنت. أتأمل بقعة من الزيت سقطت من عشاء الليلة الماضية. كان آذان الظهر يتناهى من غير مكان داخل الحارة. كان هناك طرق يزداد حدة على باب الشقة ذي اللون النبيتي الغامق. فتحت الباب أخيرا. "كشَّاف النور"، أفصح رجل غريب عن هويته وبدا على عجالة من أمره. أفسحت له طريقا إلى الداخل. كان على دراية تامة بطريقه. رأيته وهو يقرأ آخر أرقام العداد. يسجِّل ما قرأ على شيء يشبه الآلة الحاسبة. فعل ذلك بسرعة ومهارة قبل أن يرحل صوب طوابق البناية العليا من غير كلمة وداع واحدة. فكرتُ لو أنه كان بمقدوري أن أتسول منه سيجارة واحدة لا غير. مثانتي على وشك الانفجار. دفقة هواء باردة تنغرس في مسامي. أقف قبالة فتحة المرحاض. أخرج موضوعي الخاص. أُبعد لستك السروال إلى أسفل الخصيتين المنكمشتين. أباعد ما بين ساقيَّ. أقذف بالبول الحار بتلذذ وشعور متزايد بالراحة. البخار يتصاعد من جوف قعدة المرحاض الرخامية القديمة المتسخة. ألتقط أنفاسي. أهدأ قليلا. ألمح ثلاث شعرات مائلة إلى الاحمرار. انفصلت من محيط العانة واستقرت بطريقة ما فوق رأس موضوعي الخاص على شكل دوائر متلاصقة. أصنع من إصبعيَّ الكبيرة والوسطى ما يشبه كماشة. شعرة واحدة فقط ضلت طريقها إلى قاع المرحاض الذي غصّ برغوة البول ورائحته القوية. رأيتها وهي تتأرجح صوب اليمين إلى أن استقرت على سطح الملابس المبلولة داخل الطست في انتظار أن يتحلل وسخها المتراكم بواسطة الكلور والصابون المذاب. فجأة شعرت بأمعائي وهي تتحرك دفعة واحدة. مضت المرحلة الأسوأ من عملية التبرز أخيرا. بدأت أقرأ قليلا في "البومة العمياء" لصادق هدايت. "أنا أكتب فقط من أجل ظلي، الذي سقط على الحائط في مواجهة المصباح، ينبغي أن أقدم نفسي إليه". أعدتها إلى مكانها بعد دقائق. كانت فوق أنبوبة الغاز المتصلة بالسخان عبر خرطوم أحمر قديم متشقق المظهر. رواية كئيبة. لا أنصح بقراءتها.



يتبع:

Post: #294
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-01-2010, 08:04 PM
Parent: #200

عام سعيد

Post: #295
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-01-2010, 09:42 PM
Parent: #294

أرهقني سعي اللاهث وراء "أماندا". كلما أمسك بها تعثر دائما على طريق للهرب والفرار بعيدا. في كل مرة، تترك الباب وراءها مواربا. لعله حب اللُعبة ذلك الذي يبقيني معها على مدارات الشك واليقين. الساعات.. الأيام.. شهور الترقب الطويلة تقترب من العامين بعد أول لقاء لي بها. لم أر النبع بعد وإن نالني منه قطرات لا تحيي خطى مسافر في صحراء الرغبة ولا تُميت. لقد أوصلتني بدهاء أنثى إلى تلك النقطة التي يصعب عندها المضي قدما أوالتراجع. كانت مجتمعات المنفيين الغرباء فقيرة مدقعة ذات خيال رث لا يسمح في الغالب إلا بمناورات عاطفية عابرة من حين لآخر. كنت أهبط أحيانا صوب شارع "سرجنت". أتمعن في وجوه العاهرات المتفرقات هنا وهناك. أختار أكثرهن نضارة وصحة وبعدا من تلك الأدواء القاتلة. أتفق معهن على مبلغ. نسير بعدها مثل غريبين حقيقيين صوب أكثر الأشياء في هذا العالم ألفة وتاريخا من الدفء وحميمية ومعرفة راسخة وهياما وحبا: السرير. لا نكاد نتبادل كلمة واحدة. الأسواق مناطق خالية من العواطف. بين البائع والمشتري "يفتح الله أويستر". هناك دائما أمران لا ثالث لهما: الحاجة والسلعة في ميزان القوة الشرائية أوالربح. بعضهن كن وقحات. لا يتحركن قبل أن يقبضن السعر مقدما. أخريات كن كعاملات في البورصة. يرتمين على أقرب سرير وأعينهن على أسهم زبون محتمل على ناصية قريبة أوأخرى. لا يخلعن من عليهن سوى ما كان ضرورة لا بد منها لإنهاء التعاقد بأسرع وقت ممكن. يعرفن طريق العودة بمفردهن. يذهبن فتجلس تفكر أن كليكما لم يكن قد ألقى مجرد نظرة عابرة على الآخر. "هذا الكون موبوء، لا برء".


يتبع:

Post: #296
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-01-2010, 10:22 PM
Parent: #295

ذات مرة، طلبت مني "أماندا" عبر الهاتف أن أحضر إلى شقتها في شارع "أليس" القريب. كان الوقت عصرا. يوم سبت. قالت إنها ترغب في مرافقتي "هذا المساء" إلى "مرقص لاتيني" في شارع "بورتيج". لكنها ذُعرت تماما وهي تراني قبيل الغروب داخل هندام لصحفي محترم من القاهرة. كنت أثناء استعدادي للسفر إلى كندا قد أنفقت مبلغا كبيرا في شراء مثل تلك الملابس والأحذية. لم يدر بخلدي وقتها أنني سأبدو داخلها مثل شخصية قابلة للسخرية منها في أية لحظة في عالم له تقاليده وقيمه المختلفة تماما.

كان حزن "أماندا" المباغت قد وضعني أمام أمرين:

هذا "البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها".

أوهذا "إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسياً".

وقد كان.][/



يتبع:

Post: #297
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-02-2010, 05:40 AM
Parent: #296

عام سعيد

كل عام وأنتم بخير أخي.

على أنني أذكر الناس هنا أن ما يجري من سرد روائي هنا عملية تتم في الغالب على نحو مباشر. مجرد تثبيت لخطوط رئيسية. في عزمي الاعتكاف قريبا في دولة متوسطية لوضع الصياغة النهائية. هذا عام مختلف. دمت.

Post: #298
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-02-2010, 07:53 AM
Parent: #297

كان الوقت لا يسمح بإجراء أي تسوق يُعيد لها رونق مزاجها المفقود خلال ذلك المساء. قالت بحزن أنثى أرادت أن تقدم أخيرا لصويحباتها فارس أحلامها في "أبهى صورة" إنها لا تعرف كيف تتصرف "الآن". كنت قد بدأت أشعر بحراجة موقفي مثل تلميذ داخل قميص ذي لياقة متسخة في طابور المدرسة الصباحي. لكن أساريرها فجأة أخذت تنبسط كما لو أنها عثرت بعد تفكير عميق على علاج سحري لموقف بدا ميؤسا منه. قالت إن بحوزتها "لحسن الحظ" بعض ثياب أحد أشقائها وإنه في نفس قامتي "تقريبا". رأيتها وهي تخرج من دولاب بدلة رياضية بيضاء ذات حواف سوداء. لكن حزنها سرعان ما عاود حضوره بذات الملامح الطفولية المحبطة: الحذاء.

كان حذائي جلدي أسود كلاسيكيا لامعا كما لو أنني في طريقي لحضور مؤتمر صحفي. وأنا اقترب منها أكثر، باسطا راحتيَّ على كتفيها، متوغلا داخل عينيها الخضراوين مثل بحَّار تائه على شواطيء غريبة، قلت لها "لحسن الحظ كذلك" لدي حذاء رياضي أبيض أرتديه لحضور بعض حفلات الشواء التي ظل يقيمها المنفيون الغرباء في الهواء الطلق من آن لآخر. أذكر أنها تراجعت مقدار خطوة للوراء. شملتني بنظرة فاحصة وفي عينيها وله. قالت "انتظر". أخرجت من ذات الدولاب منديلا أسود وطلبت مني كما لو أنها في سبيلها إلى وضع اللمسة النهائية أن "أعقد هذا المنديل حول رأسك، هكذا". فعلتْ ذلك بنفسها. كنت مرتبكا متشككا إلى أبعد الحدود متسائلا في سري إن كان ما بين ساقيها يستحق حقا كل هذا العناء. أخيرا، حين قادتني صوب مرآة الحمام، وطالعتني صورتي من هناك، أحسست كما لو أنني في سبيلي إلى خيانة شيء عزيز ظلّ وثيقا بي منذ الولادة.

في الطريق، إلى شقتي القريبة، لتبديل الحذاء، أخذتْ أشياء كثيرة تصطرع في داخلي في صمت. لقد بدا الأمر أشبه ما يكون بعملية تغيير جِلد. كنت أموت واحدة واحدة وثمة شخص آخر ظلّ يُولد من داخل ذلك الموت شيئا بعد شيء. خلال نهار اليوم الثالث من وصولنا إلى كندا، رآني ياسر كوكو، أقف محتارا داخل أحد أقسام محلات "جِنِت تايغر"، قبالة أرفف خاصة بكابات ونظارات شمسية، أوضحت له أنني أتردد في شراء نظارة وكاب خوفا من تعليقات بعض المنفيين الغرباء، نصحني وقتها أن أقتني ما أرغبه لا ما يرغبه الآخرون. أسداني ذلك ببساطة وأخذ بعدها لدهشتي يتأمل مضربا للتنس. بدا لي ياسر كوكو الذي رحل عن العالم بعد أسابيع من وصولي إلى "أتوا" يتمتع على الدوام بشيء أقرب إلى الحرية الفطرية. يفعل ويقول ما يشعر به حقيقة حيّة في داخله. لم يقرأ مثلي آلاف الكتب ومئات المراجع لكنه ظلّ حتى النهاية متصالحا مع نفسه. على بعد أيام قليلة من وفاته، زاره أحد المنفيين الغرباء في مدينة بروكس من ذوي النزعات الدينية، سأله إن كان حتى ذلك الوقت على دراية بتعاليم الموت قبل لقاء ربه أم لا؟، قيل إنه أخبره بجدية تامة أنه رأى في المنام أنه سيموت نائما وأنه بالتالي ليس بحاجة إلى تلك التعاليم.




يتبع:

Post: #299
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-02-2010, 04:06 PM
Parent: #298

نتابع

Post: #300
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-02-2010, 10:12 PM
Parent: #299

كان "جيف" أمامي على مقعد القيادة إلى جوار زوجته "دون فيشر". لا نزال نتجول داخل حي الأغنياء. الجليد يغطي وجه الأرض، السحب بيضاء قريبة، حتى الأشجار العارية اكتست بأنوار الزينة الملونة الصغيرة، كل منزل فخم بدا كرنفالا ضوئيا حانيا لوحده، غزلان من نور أبيض ترعى على صدر الحدائق الأمامية على نحو حالم، وتلك ليلة بيضاء. العربة الصغيرة تسير بتمهل و"جيف" يبدو في أعلى حالاته المزاجية. لم يكن "جيف"، ذلك الحارس الذي يحيط نفسه بستار من الكلمات والعبارات والآدب الاجتماعية الرصينة المثقلة بالألقاب، كان شخصية مختلفة في غاية البساطة والأريحية. حين بدأنا في مغادرة الحي، سألني "جيف" فجأة:

- "هل لك أبا، يا هاميد"؟.

- "ماذا تقول، يا جيف"؟.

- "أسألك فقط، وأرجو المعذرة، إن كنت ترى في سؤالي أمرا محرجا".

- "طبعا، بالتأكيد لدي والدين، مثل كل الناس، وأنت"؟.

- "أنا، يا هميد، لي أم، ولا أعرف لي أبا".

- "كيف، لعلك تسخر مني"؟.

- "أبدا، أمي كانت تحضر وقتها حفلا جماعيا في بيت أحد أصدقائها، صادفت هناك رجلا غريبا، كانا عاجزين عن مقاومة قوة خطيرة مثل الحب ظلت تجذبهما في اتجاه بعضهما البعض منذ البداية، وسط كل ذلك الضجيج أغلاقا عليهما احدى حجرات المنزل، كانا ثملين، في الصباح وجدت نفسها داخل بيت أبويها لا تدري كيف وصلت إلى هناك وحيدة، وهو لم يعد له من أثر في المدينة إلا في عالم ذكرياتها، بعد أسابيع اكتشفتْ نفسها حبلى بي، حتى الآن لم يظهر ذلك الرجل في حياتها مرة أخرى، هكذا أتيت (يا هميد) إلى هذا العالم من غير أب".

- "ألم تسأل والدتك أوأنت شخصيا عنه طوال هذا الوقت"؟.

- "في البداية ظلت أمي تسأل طويلا معارفها وأصدقاء حضروا ذلك الحفل، بعد فترة توقفتْ، قالت إن العالم يمكن أن يسير من غيره وإن الحياة لا تزال طويلة أمامها لتنفقها في السؤال عن رجل وضعته الصدفة المحضة في طريقها، ثم إنها ظلت تراوغني وأنا أطرح أمامها في كل مرة سؤالي عن أبي، مرة تقول إنه رحل إلى مدينة أخرى، مرة تؤكد لي أنهما فضلا الطلاق على العيش معا، مرة قالت لي بهدوء إنه مات، كنت وقتها لا أزال طفلا صغيرا، لكني حين شببت عن طوقي قليلا علمت بكل تفاصيل تلك القصة، أذكر أنها رجتني وقتها أن أتفهم، والمفارقة أمي ماتت بعد أسبوع واحد فقط من رواية تلك القصة، لعلها عاشت كل ذلك الوقت لتخبرني فقط بما حدث".



يتبع:

Post: #301
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-03-2010, 06:13 AM
Parent: #300

المنفى مثل حيوان خرافي لا مرئي يكبر كلما طال أمده وتكبر معه حاجته التي لا تنتهي من أجساد المنفيين الغرباء وأرواحهم. إنه يحصد أجمل ما فيهم. يبدأ بالعين وينتهي بحاسة اللمس فإذا العالم يخف حتى يبدو وكأن لا وجود له. عندها تغيب الفواصل، تتداخل الحدود، يختل سُلَّم الأولويات، وتندثر القضايا الكبرى تحت ركام كثيف من الحروبات الداخلية الصغيرة. المنفى حين يطول أمد بقائه يتحول تدريجيا إلى مسرح تنسج حكاياته أيدي أرباب النميمة البارعة. السلطة المخولة ضمنيا لقتل الأذكياء وصناعة أبطال من ورق من على عرش الفراغ المكتظ بروائح المقاهي ومجالس الحجرات المؤجرة كمصانع خفية لالحاق الأذي بمن لا يزالوا يمتلكون عقولا حيّة وسط سهول الموات المترامية كالأسى.


يتبع:

Post: #302
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-03-2010, 06:56 AM
Parent: #301

جالت تلك الخواطر في ذهني، الوقت انتصف نهاره، بينما لا أزال أنتظر مها الخاتم، والمسافة من ضاحية مدينة نصر إلى ميدان التحرير حيث مباني الجامعة الأمريكية تأخذ وقتا. كنت في آن واحد أفكر وأحذف وأضيف إلى تلك القصة المختلقة بشأن الموت المتوهم لزوجتي المزعومة أحلام ذات الجذور السودانية المصرية وشعور قوي يعاودني من لحظة لأخرى. شعور صيّاد، جلس على حافة شاطيء نهر معتكر، رمى صنارته بمهارة ودِربة، فإذا الخيط يهتز فجأة: الضحية في طريقها الآن لابتلاع الطعم.

هكذا، باكرا، أخذتْ تتراجع من ذهنها، قضايا الحرية والهوية وتحرر المرأة والتنمية المتوازنة والمساواة والحرب والسلام، ولم يعد يشغلها في "هذه اللحظة" سوى أحد أسراري الصغيرة: "زيارة المقابر نهار كل جمعة". لم تكن تدرك وقتها أنها بتلك الزيارة، والعالم غابة مليئة بالثعالب، كانت ترتقي سُلَّمةً نحو نقطة انتحارها المأساوي أعلى تلك العمارة السكنية الضخمة.



يتبع:

Post: #303
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: ابو جهينة
Date: 01-03-2010, 02:29 PM
Parent: #302

البرنس عبد الحميد

كل سنة و إنت و الأسرة بألف خير

أعاود المتابعة بعد العودة من الإجازة

المنفى حين يطول أمد بقائه يتحول تدريجيا إلى مسرح تنسج حكاياته أيدي أرباب النميمة البارعة

Post: #304
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-04-2010, 01:22 AM
Parent: #303

المبدع الحقيقي جلال "أبوجهينة":

سلامة العودة بكل ذلك الألق المدهش:

فرائس تبحث عن صياديها

تلك لعمري منطقة خطيرة للكتابة من داخلها (إنتاج رؤية تثويرية للواقع من ركام حكايات تقليدية أوتراثية). أكثر النماذج حضورا هنا: أمل دنقل. أكثر ما سرني وأنا لا أزال أتابع معك القراءة هناك أنك تعلو كثيرا من مكان الاغتراب أوالمهجر. إنك تعمل على تطويعه على نحو إنساني ذي رؤية بديلة. كنت ولا أزال أدهش من عمليات الذوبان غالبا في طُرق الآخر للحياة ولعل الاشتراك أحيانا من حيث الجذر مع بعض الطرق لا يكون تبريرا لالغاء خصوصية. أحييك مرة أخرى كمبدع يشغله هم الكتابة والبحث عن مناطق مختلفة داخلها كثيرا. وهذا هو الرهان. وكما تقول: كن بألف خير.

Post: #305
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-04-2010, 03:58 AM
Parent: #303

الشاب الذى فى البص بجوارى
كان يطالع كتاب ابوجهينة .
هذا ابو جهينة ؟
نعم .
قال لى الشاب : ابو جهينة .
خرج الى كل بلاد الدنيا يا صديقى .
كثيرين من قاطنى الأرض العربية ساقتهم
أعمالك يا ابوجهينة .

..
.. عام سعيد يا ابوجهينة يديك الصحة يارب
كتير سلامى

Post: #306
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-04-2010, 04:18 AM
Parent: #305

Quote: الشاب الذى فى البص بجوارى
كان يطالع كتاب ابوجهينة .
هذا ابو جهينة ؟
نعم .
قال لى الشاب : ابو جهينة .
خرج الى كل بلاد الدنيا يا صديقى .
كثيرين من قاطنى الأرض العربية ساقتهم
أعمالك يا ابوجهينة .

..
.. عام سعيد يا ابوجهينة يديك الصحة يارب
كتير سلامى


فرائس تبحث عن صياديها

أبوجهينة.. عالم قصصي بديع عماده المحبة:

Post: #307
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-04-2010, 05:02 PM
Parent: #306

نتابع الكاتب

عبدالحميد البرنس الكاتب الذى تشعلق سلالم الجمال .

Post: #308
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-04-2010, 05:34 PM
Parent: #307

الوجه مرآة الروح.

حوالي الواحدة والنصف بعد منتصف ذلك النهار، طرقتْ مها الخاتم أخيرا باب مكتبي الفخم، للمكان تأثيره على مشاعر الناس وأفكارهم، لعل الوضع يختلف إذا جاءت لزيارتي قبل أكثر من عام في تلك الشقة الأرضية الضيقة كقبر. أحسُّ بتغير طفيف طرأ على نظرتي للناس والعالم. كنت قد آثرت السكنى في أحد الأدوار العليا. كان بوسعي أن أرى من كل ذلك البعد العلو المهيب لكُتلة جبل المقطَّم وهي تشرئب وسط المساكن الآدمية المتناثرة أسفل قدميها الصخريتين. لقد مرَّ من هنا ولا ريب، فراعنة، أنبياء، صحابة، فاطميون، أتراك، مماليك، جيوش نابليون، انجليز، وغيرهم الكثير، لكنَّ الكتلة لا تزال قائمة كشاهد على سير القوافل البشرية عبر التاريخ. لعل صمتها المطبق عما رأت وسمعت هو ما ظلّ يكفل لها الحق في البقاء حتى الآن.

هناك، بين جدران تلك الشقة الأرضية الضيقة كقبر، من نواحي عين شمس الشرقية، كنت سجين الأشياء اليومية الصغيرة، لا أنظر عادة إلى أعلى مما أضع عليه أقدامي، أقل همسة تزعجني، أدنى إيماءة من عابر سبيل تثير الهواجس في نفسي، كنت في سبيلي لوضع نهاية مأساوية لحياتي في أية لحظة، لو لا الكتب.. زيارة المقابر من حين لآخر.. وتلك الطقوس المذهلة لممارسة العادة السرية على حواف اليأس أوالجنون. والوجه مرآة الروح.



يتبع:

Post: #309
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-04-2010, 06:39 PM
Parent: #308

كان على صفحة وجهها آثار بثور سوداء متفرقة هنا وهناك. لا بد أن جدار روحها قد أخذ يتآكل في غضون سنوات قليلة. التي تجلس قبالتي الآن، لم تكن مها الخاتم، تلك الحسناء التي رأيتها وهي تعبر وقتها بوابة مكتب الأمم المتحدة مثل حلم بعيد المنال. هي إذن التجربة، اللعنة، مقياس إنسانيتنا، وتيرموتر ضعفنا البشري العظيم، البعض يخرج منها قويا مثل طائر الفينيق يهب من رماد حرائقه، والبعض الآخر يخرج منها مثل قنطرة لا تغري سوى وقع الأحذية ووطأة الأجساد الثقيلة ليل نهار. لكنَّ جسدها بدا ممتلئا قليلا. جسد يشع منه نداء غامض. نداء رغبة مَن عرف وخوف مَن لا يزال يدفع ثمن رغبة لا ثمن لها سوى العار أوالضياع. بدا لي في أحيان كثيرة أن ثمة علاقة عكسية بين الروح والجسد. كلما زاد وهج الروح كلما زادت عتمة الجسد. كنت أتابع حياكة الشراك في حضورها هذه المرة، راسما علامات الحزن والأسى والحسرة على رحيل عشق وهمي ضيَّعه موت مختلق، كان دمع الحنين إلى مابين ساقيها يسعفني، اختلاج جسدي ذعرا من فكرة السقوط في براثن الفقر في مدينة كبيرة مثل القاهرة مرة أخرى يُضفي على نبرتي مسحة صدق، والمصائب يجمعن المصابين. أثناء حديثي، كانت تتوغل بعيدا داخل عينيَّ، لا يكاد يطرف لها جفن، لا عن حياء غادرها مرة واحدة وإلى الأبد في زمن مضى، بل عن محاولات خفية للبحث في مكنوناتي القصيَّة عن نثار حكاياتها القديمة مع عادل سحلب، هذا ما قدرته في سري، لكنني مع مرور الوقت وأنا أرى دمعة تعاطف عميق مع مأساتي تسيل فجأة من عينها اليسرى أدركتُ أن الضحية لا محالة واقعة، وقد كان.


يتبع:

Post: #310
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-05-2010, 00:51 AM
Parent: #309

Quote: نتابع الكاتب


أشكرك أخي.

Post: #311
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-05-2010, 06:15 AM
Parent: #310

كان عمر قد أخبرهم أشياء كثيرة عني. كانا قد حضرا داخل جلبابين أبيضين نظيفين بلا ميعاد مسبق بعد صلاة العصر في "مسجد المهاجرين" القريب مباشرة. عمر ورجل سوري في نحو الأربعين يدعى أنور الهاشمي. أحسنت وفادتهما ببعض الفاكهة الصيفية الطازجة. تنحنح الرجل في أعقاب التهامه لمجموعة من العنب الأخضر الخالي من البذور دفعة واحدة. حتى ذلك الوقت ظلّ عمر ملتزما الصمت وعلى مُحيّاه بدت آثار السجود سوداء داكنة. لم أشأ وأنا أخفي حيرتي من زيارتهما الغريبة أن أسأل عمر الذي زاد وزنه على نحو أخفى أي أثر لعنقه عن أسرته. كانت زوجته قد وصلت إلى كندا في صحبة بناتها الثلاث قبل نحو العامين تقريبا. بعد نحو العام تقريبا من وصولهم شاع داخل مجتمع المنفيين الغرباء في المدينة أن عمر لم يعد يُرى مع أسرته مرة أخرى. أخيرا، تناهى صوت أنور الهاشمي:

نحن، أخانا في الدين الحنيف، أحببنا أن نزورك للتفكر معا في معاني وحكم ومواعظ قصة ظلت تحدث في كل زمان ومكان، قصة تحدث في حياة كل إنسان منذ عهد سيدنا آدم عليه السلام، قصة لن تتوقف إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض بمن عليها، لن نطيل عليك، لكنها قصة ستشهد أحداثها أنت بنفسك بعد حين أوفي القريب العاجل. كان للرجل ما أراد: أن يأخذني منذ البداية إلى كلماته بكل كياني. حتى إنني لم أعد أتساءل بيني وبين نفسي عن ردود فعل "جيسكا" لحظة أن ترى عمر في طبعته الجديدة.


يتبع:

Post: #312
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-05-2010, 07:15 AM
Parent: #311

يُحكى أن رجلا طُلب في المحكمة، كان في حاجة لأصدقائه الثلاثة للوقوف إلى جانبه والشهادة في مصلحته، قال للصديق الأول إنني في حاجة ماسة إليك "يا اخي"، لكنه أجابه بكل برود معتذرا أنه لا يستطيع الذهاب معه إلى أي مكان، الصديق الثاني قال له "يا اخي، والله لن أذهب معك إلى داخل المحكمة بإرادتي هذه، ذلك مكان مخيف، لكني سأعمل على توصيلك حتى بابها، لن أتجاوز ذلك خطوة واحدة، هنالك أشياء لا يجامل المرء فيها الأخلاء"، أما الصديق الثالث والأخير فقد كان "نعم الصاحب"، قال له بكل جوارحه "ابشر، تالله لأذهبن معك، ولأكونن إلى جانبك حتى نهاية المحكمة، لقد وُجِدَ الأصدقاء لمثل اليوم، ولن أخذلك". تلك هي القصة ببساطة. "يا أخانا حامد، هل فهمت مغزى هذه الحكاية"؟.

كان عمر مشدودا نحو رفيقه بكلياته. أحيانا، كان يتتبع أثر الكلمات على وجهي وعلى عينيه الضيقتين غلالة رفيعة من الدموع ويده لم تنفك من اجترار مسبحة حجازية خضراء. قال السوري بعد رشفة ماء مواصلا بصوت بدا لي لسبب ما لا يتناسب وهيئته العامة "يا أخانا حامد، المحكمة هنا هي قبر المرء، مثواه بعد الموت، الصديق الأول هو أموال المرء، الصديق الثاني هم أهل الميت وأصدقاؤه، يحملون جنازته ويودعونها القبر، أما الصديق الثالث فهو العمل الصالح"!.



يتبع:

Post: #313
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-05-2010, 02:38 PM
Parent: #312

كائن (نص قصصي من كتاب القاهرة الطيبة)

Post: #314
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-05-2010, 05:08 PM
Parent: #313

"يا أخانا حامد، الرحلة طويلة والزاد قليل، وهذه البلاد يفتح فيها الشيطان للمرء ألف باب وباب، كل باب ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، نعم يا أخانا حامد، لقد علمنا من أخينا الفاضل عمر (وهو يحبك لوجه الله) أن جماعة من المبشرين بالمسيحية يزورونك هنا، بل وتذهب معهم لحضور صلواتهم في الكنيسة أحيانا، وفي هذا قال سماحة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين: لا يجوز للمسلم دخول معابد الكفار كالبِيَع والكنائس والصوامع والديارات وأماكن تعبدهم؛ لأن في ذلك إقرارا لهم على عبادتهم وتشبها بهم، ودعاية للجهال إلى غشيان أماكن عبادتهم مما قد ينخدع بهم بعض الجهلة، ويتقربون بمثل عباداتهم ويقلدونهم، لكن إن كان الداخل من أهل العلم والإيمان والمعرفة التامة بتعاليم الإسلام ودخل لسماع ما يقولونه حتى يرد عليهم، أو يعرف اختلافهم واضطرابهم ليحذر منهم، ويبين تفاهتهم وما يفعلونه من الخرافات والخزعبلات، ليكون على بصيرة من دينه، ويعرف الفارق الكبير بينه وبين أديان أهل التحريف والتبديل، أو دخل الكنائس للنظر في بنائها، وكيفية تأسيسها حتى يحذر المسلمين من التشبه بهم في معابدهم وخصائصهم؛ جاز له ذلك، والله أعلم".


يتبع:

Post: #315
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-05-2010, 06:20 PM
Parent: #314

"اللعنة على عمر"، قلت في سري، وفجأة تسربتْ من خلال احدى نوافذ الصالة الزجاجية المواربة أفقيا ذبابتان خضراوان أخذتا تحوِّمان حولنا بلا طنين، لقد بدا لي بمثابة أمر مثير للدهشة تماما: وجود الذباب في كندا. سنوات عديدة، مرت وقتها على وجودي في كندا، تجولت خلالها بين أكثر من محافظة، لكن تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها الذباب، دهشة لا تقل عن دهشتي عند رؤية الجليد لأول مرة. كان اللهاث وراء "أماندا" والغثيان الذي أخذ يصيبني في أعقاب مضاجعة العابرات قد دفعني إلى الإقتراب كثيرا من جماعة مسيحية تدعى "شهود يهوا". كنت أذهب معهم إلى الكنيسة صباح كل أحد. أُرتِّل معهم أهازيجهم الدينية وصلواتهم بصوت منغَّمٍ تحمله الجوقة بعيدا داخل نفسي. ذلك القرب من الناس في أعلى تجلياتهم الروحية بدأ يهبني بعض السلام الداخلي لبعض الوقت لو لا أنهم أخذوا يزعجونني بزياراتهم المتكررة إلى شقتي متأبطين كتبهم ومجلاتهم ومواعظهم التي لا تنتهي. لكن شيئا آخر جعلني أُقلِّب لهم ظهر المجن فانقطعوا عن زيارتي بلا رجعة. لقد علمت منهم بمرور الوقت أن المرأة منهم تظل عذراء إلى أن تفض بكارتها بعد كتابة عقد زواج رسمي تباركه الكنيسة. "اللعنة"، لقد كانوا متشددين في ثياب برَّاقة من التسامح وعشمي منذ البداية قد بُنيت صروحه على أمل أن الإقتراب منهم في ثوب المريد قد يملأ فراش المنفي الغريب بعلاقة دائمة. كنت أتابع حديث الهاشمي بذهن غائم. عمر أخذ ينظر إلى ساعته. لعله يتهيأ لأن أصحبهم لآداء صلاة المغرب التي غدت غاب قوسين أوأدنى. فجأة طلبت أذنهما لدقيقة. أحضرت ثلاث كأسات زجاجية. واحدة لي، واحدة للهاشمي، وواحدة لعمر. عدت بزجاجة ويسكي ماركة "ريد ليبل". ملأت الكأسات بهدوء شديد. ثم جلست ووجهي ناحية الهاشمي كمن يتابع حديثا جرى قطع تسلسله. رأيتهما وهما يتبادلان النظر في دهشة وحيرة وغيظ مكتوم وبلادة قبل أن يغادرا الشقة من غير أن يلقيا عليَّ السلام حتى. لا شك أنهما ظنا أن الشيطان يتقمص روحي في تلك اللحظة. كان الظلام يخفي ملامح الأشياء وراء النوافذ الزجاجية الواسعة.

يتبع:

Post: #316
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-06-2010, 06:49 AM
Parent: #315

- "تصور، يا جيري، لقد أخبروني في فرع الشركة، هنا في أتوا، أن عليَّ أن أبدأ العمل معهم كحارس مستجد، قالوا إن الإنتقال من محافظة لمحافظة قد أفقدني الأقدمية وبقية الإمتيازات الأخرى، بمعنى أن كل سنواتي التي قضيتها في خدمة الشركة في "وينبيك" كحارس أمين قد ضاعت هباء، هذا غباء..

قاطعني "جيري" بشيء من الضيق، قائلا:

- "يا، إلهي، ألا تسمع هذا الصفير، يا هميد"؟.

- "أي صفير، يا جيري"؟.

- "لا بد أنني أفقد عقلي، هذا الصفير، اسمع اسمع"؟.

- "لا شيء، فقط أسمع صوت أنفاسك اللاهثة، ربما أن سماعة الهاتف لديك بها عطل ما، هل أنت بخير، يا جيري"؟.

- "أبدا، سماعة الهاتف جيدة، لكنني بعد رحيلك بيوم واحد من المدينة بدأت أسمع أصواتا وطنينا غريبا أقرب إلى الصفير، الآن الصفير يملأ أُذنيَّ، إنه يتابعني أينما ذهبت، الصفير الصفير، يا هميد، أكاد أفقد عقلي، ليتني كنت أصما، من غير المعقول ألا أحد غيري يسمع الصفير، هل يعقل أن الصفير يختارني أنا فقط من دون الناس كلهم؟، الصفير الصفير".

- "جيري؟، كل شيء على ما يرام، فقط دعنا نتحدث بهدوء، ما المشكلة الآن"؟.

- "حسنا، في البداية ظننت الأمر مجرد حالة عرضية، لكن الأمر بدأ يتحول خلال اليومين التاليين إلى جحيم لا يطاق، طبيب الأسرة المعالج كشف عليَّ بالسماعة وبأنبوب غريب أدخله إلى أذنيّ، قال لا توجد أي التهابات، أومادة شمعية قد تسد الأُذن، أجريت بعدها فحوصات عديدة بعد أن أحالني على وجه السرعة إلى أخصائي أذن وأنف وحنجرة، معدل الضغط طبيعي، الغدة الدرقية تؤدي وظيفتها على ما يرام، شكوكهم حول وجود خلل في الدورة الدموية تراجعوا عنها، لكن الأخصائي أمام حيرتهم وحيرتي سألني إن كنت قد تعرضت لدوي انفجار أوتناولت عقاقير معينة ، أجبته بالنفي، ثم شكك في احتمال أن لدي التهاب في الجيوب الأنفية أوفي الأذن الوسطى أوما بين الأذن والبلعوم، لا أدري، يا هميد، لقد فعلوا بجسدي ما لم يكن يخطر على بالي من قبل، لكن الصفير الصفير...".

وضعتُ سماعة الهاتف في وجوم شديد. بالكاد أقاوم الرغبة القديمة في البكاء. قلت في سري: "مسكين "جيري" المحب". الصفير يملأ العالم الآن. كان ذلك آخر عهدي به.



يتبع:

Post: #317
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-06-2010, 01:50 PM
Parent: #316

عوالم صغيرة قابلة للهدم:



يتبع:

Post: #318
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-06-2010, 05:28 PM
Parent: #317

أقف خلف النافذة الزجاجية الوحيدة المطلة على منور البناية القاتم. لا أكاد أرى، أوأسمع شيئا، مما يدور داخل الشقة وخارجها، سوى صوت أفكاري، سوى وقع ذكريات متفرقة من هنا وهناك. الوقت عصرا. الشمس غائبة في مكان ما. ثمة شعور بأن كارثة مثل انهيار هذه البناية في طريقها إلى الوقوع في أية لحظة. أحاول تجنب الأمر ما أمكن. أغمض عينيَّ. أفتحهما ببطء. لا شيء تغير. نفس الشعور يتضخم. يتمدد نحو أعماقي. يغوص شيئا فشيئا. هكذا، دون مقدمات، ومثلما يفعل مد البحر في يوم عاصف ببيوت الصبية الرملية، قد ينهار البناء وينتهي كل شيء. هو الموت إذن. أنا، لا أهابه. قد أصافحه وقتها غير آسف مثل صديق أقبل بعد انتظار طويل. وجودي أوعدم وجودي بمثابة حدث لا يؤثر على حركة الأسهم في بورصة نيويورك أوطوكيو. مجرد حشرة أكملت دورة الحياة بين جدران شقة ضيقة على أطراف القاهرة. تلك مسألة لن تغير رحلات القطارات داخل بلجيكا. أمر لا يؤثر حدوثه على لقاءات العشاق المختلسة في بلادي. لن آسف حتى على مباهج أضحت مجرد رؤية مصحوبة بالحسرة لإغراء إعلان تلفزيوني شديد الجاذبية. ما أخشاه الرحيل كما جئت من قبل إلى هذا العالم من غير إرادة، ما يقلقني الرحيل من دون رأي مسموع لما يحدث، ما يقض مضاجعي الرحيل خلسة من غير وداع لقبر شقيق تنهض بيني وبينه آلاف الأميال.


يتبع:

Post: #319
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-06-2010, 05:55 PM
Parent: #318

أقترب من النافذة أكثر. "الغرفة باردة كالشوارع"، لا تزال. أنفث ملء صدري على سطح الزجاج البارد كأنف كلب. بقعة من بخار كثيف تتكون. أتراجع من النافذة خطوة. أمد طرف إصبعي السبابة صوب البقعة. أرسم أشكالا من البشر. أقترب من النافذة نصف خطوة. أشرئب. أنفث مرة أخرى حول الأشكال بحرص شديد. أتراجع مفسحا حيّزا لمتابعة عمل اليد ومجالا للرؤية. أنشغل بخلق سماء وأرض ونهر يسير منحنيا. يدركني التعب. أتهاوى على سرير الحديد الضيق كجثة. أجذب بطانية الصوف السوداء الرخيصة. أحكم جوانبها حول جسدي. الظلام يتكاثف. لا أقوى على النهوض وإضاءة النور. مزيد من الظلمة والبرد وصوت الريح والمطر. هو الشتاء إذن. لا شيء باعث للذكرى، لا شيء يوقظ الرغبة في الأنثى، سوى لوعة هذا الفصل الحزين، والنساء في وحشة هذا المكان، حيث الكتب والعناكب وصراصير الصيف وآثار العادة السرية واللاءات الثلاث، مثل "عشم إبليس في الجنة".


يتبع:

Post: #320
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-06-2010, 06:34 PM
Parent: #319

أغادر السرير ببطء وإنحناء ممض. ثمة محيط يتراكم داخل مثانتي. تكاد تنفجر. أضغط على مفتاح النور. لا تزال الغرفة غارقة في فوضاها. بكل ذلك الثقل، تناهت إلى مسامعي برغم شدة الزنقة، خطى الشيخ إبراهيم العربي، وهي تصعد في طريقها إلى الطوابق العليا، حيث الشمس والدفء المقيم صيف شتاء، في مثل هذا الطقس يتضاعف أجر الصلاة في المساجد ولا ريب. أباعد بين الساق والساق. أجذب سروال الصوف إلى أسفل. أتنفس الصعداء أخيرا. جذبت السروال إلى أعلى. كان البول يتدفق دافئا متقطّعا ناثرا على قدميّ بعض الرذاذ.

عقارب الساعة تشير إلى العاشرة ليلا. لا رغبة بي في طعام أوشراب أوخروج، لكني فتحت الباب وألقيت نظرة وسط دفقة من تيار بارد إلى خارج البناية، كان المطر قد توقف مخلفا وراءه بعض البرك الصغيرة الداكنة. أعود إلى الداخل. أغدو وأروح داخل الشقة مشبكا ذراعيّ حول صدري بلا سبب واضح. أتوقف بين الحين والحين خلف النافذة الزجاجية. أحاول النفاذ إلى ما وراء ظلمة المنور المطبقة. لا أثر لأرض أوسماء أووجه أونهر يسير منحنيا. كان يتناهى إلى مسامعي من وقت لآخر صوت أنابيب الصرف الصحي وهي تحمل من الطوابق العليا البول والخراء وأشياء أخرى قبل أن يغمرني الصمت من جديد.




يتبع:

Post: #321
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-07-2010, 03:35 AM
Parent: #320

يا سلام

Post: #322
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-07-2010, 07:24 AM
Parent: #321

مر الآن، أكثر من ثلاث سنوات على أول لقاء لي بمها الخاتم. رأيتها قبل ثلاثة أشهر على الأكثر من على البعد. كان ذلك في ضاحية الميرلاند بمصر الجديدة. كانت خارجة للتو من مطعم لبناني في صحبة عادل سحلب. كان الوقت على مشارف الغروب. يتمشيان ببطء على الرصيف أسفل أشجار البونسوانا الكثيفة المتتابعة بزهورها الحمراء في اتجاه ميدان المحكمة القريب. هي تسند رأسها على كتفه وتضع يدها اليسرى حول وسطه في تراخ. هو يلف يده اليمنى حول خصرها النحيل بينما يتكلم. هي ظلت تمسح على شعرها الطليق بيدها الخالية من آن لآن دافعة برأسها كله إلى الوراء قبل أن تعاود النظر إليه بملامح حالمة. كانا في حالة استغراق عشقي تام. كنت وقتها أقف ملاصقا لعامود نور في انتظار مركبة عامة تقلني إلى ناحية حي عين شمس الشرقية. كان في عزمي شراء نصف زجاجة من خمر محلية يقوم بتصنيعها بعض المنفيين الغرباء في شققهم المؤجرة خلسة. كانت تلك الشقق تسمَّى "بيوت العرقي". لكن أكثر المثقفين وبعض من ذوي الحساسية المرضية الذين حولهم المنفى إلى شعراء في سبيل الحرية ظلوا يدعونها "واهبة الفرح المعبأ في الزجاج".


يتبع:

Post: #378
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-22-2010, 08:43 PM
Parent: #309

نتابع

Post: #323
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-07-2010, 05:15 PM
Parent: #302

عبدالحميد البرنس _ كتابات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب

Post: #324
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-07-2010, 06:09 PM
Parent: #323

كانت بيوت العرقي كشقق إيجار مفروشة تحتل موقعها في الطابق الأرضي أوالأخير من كل بناية سكنية لأسباب تتعلق بمحاولة إخفاء الروائح القوية المنبعثة من داخلها ما أمكن. لقد ظلت هذه البيوت تكتسب منذ البداية أهمية متزايدة بعد أن فقد عدد من المنفيين الغرباء الأوائل أبصارهم في أعقاب شراء خمور مصرية مرة واحدة وإلى الأبد.

أذكر هنا أن بعض أولئك العميان بدأ يخبر معارفه الجدد تحوطا من حدوث اختراقات أمنية قد تتم من قبل النظام الديكتاتوري وعيونه الكثيرة التي جرى بثها في القاهرة وسط المعارضين أن يقوموا بالضغط على رسغه بصورة معينة إذا حدث وأن صادفوه في مكان عام. كان يقول "هذه شفرة تأميني".

أذكر أنني تلقيت منه ذات مرة صفعة عمياء بعد أن قمت بالضغط عن طريق المزاح على مكان يقع ما بين صدره وبطنه. لا أذكر أنني عدت لاحقا إلى تكرار مثل تلك المزحة الثقيلة. لكن ما أذكره جيدا الآن أن للأعمى يد حَمَّال في الميناء. لم تكن أبدا يد عاملة خياطة في مصنع للملابس الجاهزة.

أجل، هذا العالم من الجدية بمكان. لقد بدأ يفقد حس الفكاهة لديه منذ أمد بعيد. أحيانا أتساءل بينما أتحسس موقع تلك الصفعة عند منتصف وجهي تماما:

ما الذي يمكن أن يحدث لو أنني قمت وقتها بالضغط على مؤخرته؟.

لا شك أنه سيعتقد آنئذ أنه وقع هذه المرة في قبضة "ل.. و.. ط.. ي"، لا محالة.



يتبع:

Post: #325
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-07-2010, 07:21 PM
Parent: #324

أخيرا، وصلت إلى "بيت أشول" في نواحي "الألف مسكن"، إمرأة سوداء بدينة تلف ساقها اليسرى دائما بشريط طبي، ما إن تبادلك العرقي بالمال حتى تعود تجلس بلا مبالاة على كنبة في الصالة وتتابع النظر بمسكنة وتسليم غريبين إلى شاشة تلفاز صغير تتبدل مشاهدها المصوَّرة بلا صوت، لا تستجيب بعدها إلا لطرقات قادم جديد، كنت أجد عندها من حين لآخر بعض المنفيين الغرباء ممن يؤثرون تناول ما يعرف في "أدبيات العرقي" بمصطلح "كأس الطريق"، حتى هؤلاء لم تكن تتبادل معهم كلمة واحدة، اللهم إلا حين يطلبون مزيدا من الشراب، هذه المرة وجدت في معيتها ما بدا لي مثقفين غريبين في منتصف مناقشة حول ما أخذ يدعوانه في حوارهما المشتبك "مفهوم الحرية". كانا من الاستغراق بمكان أنهما لم يلتفتا حتى إلى وجودي على مقربة كما لو أن مسألة دخولي ومغادرتي لبيت أشول مسألة من شأنها أن تهدد استمنائهما الفكري في أية لحظة. لكنني لسبب ما رغبت في إيذائهما قبل مغادرتي مباشرة. قلت لهما وأنا أقف فجأة بينهما مستشهدا بأسماء مفكرين وفلاسفة من وحي خيالي المحض: "أيها الأصدقاء: ما سمعته منكم لمدة ربع الساعة لا ينتمي إلى مفهوم (المناقشة الايجابية) كما حدده وليم الإسبارطي، (فضاء المناقشة) يتم تصويره وفق جدلية ستيفن كولجاك الشهيرة كلقاء سريري يجمع بين إرادتين كما لو أن معركة صغيرة تنشب بين رجل عارم الشهوة وإمرأة شبقة لتوليد ما أسماه بيتر كوبنهاجن (الدلالة المثمرة)، ليلة سعيدة".

تركتهما آنذاك وهما يتابعانني في صمت وحتى النهاية بنظرتين مختلفتين: واحدة مصدقة وأخرى متشككة.



يتبع:

Post: #326
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-08-2010, 05:35 AM
Parent: #325

لا بد أن الصيني قد أفشى له شيئا من أمري أثناء تلك الليلة المشهودة.

حدست ذلك من وقع نبرته والطريقة المختصرة التي أنهى بها المكالمة الهاتفية.

وقد كان.

قال إنه يريد أن يحدثني عن أمر ما على انفراد.

وحدد منطقة محايدة للقائنا عصر ذلك اليوم:

مقهى في الهواء الطلق عند ملتقى نهري "أسيني بويني" و"الريد ريفر".

حين رنَّ جرس الهاتف صباح نفس اليوم، كنت وحدي داخل الشقة، أشاهد برنامجا عبر إحدى قنوات التلفزيون الإخبارية يتناول من وجهات نظر تخصصية مختلفة مسألة "زيادة كمية الكربون في الغلاف الجوي"، وما نتج عنها من ظواهر جديدة مثل "الاحتباس الحراري"، لكن الذكريات قبيل أن أرد على مكالمة عادل سحلب بدقائق أخذت بالفعل تبعدني عن متابعة ما يحدث على الشاشة شيئا فشيئا.



يتبع:

Post: #327
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-08-2010, 06:35 AM
Parent: #326

في المساء

كانت تحب حضور الاحتفالات الراقصة

كيما تقتنص لحظاتها السعيدة.

...............

...............

كانت تحب التدخين

بينما تؤدي واجباتها المنزلية.

.................

.................

كانت تحب ارتداء آخر الموضات

في عالم الأزياء الجميل.

...............

...............

وكانت تحب كل هذه الأشياء الصغيرة.

كانت أغنيات "بوب مارلي" تتناهى من قلب ذلك المقهى على مدار الموسم الصيفي. ثمة شيء مثير للأسى يتخلل روحي كلما رحت أنصت إليه من حين لحين. "عند تحققات هذا المستقبل العظيم.. لا تنسى ماضيك.. ولا تحزني يا إمرأة". الشمس حانية. الأشجار تلقي بظلالها على المياه الهادئة والناس والأشياء بعدالة بدت لي في تلك اللحظة كدعوة صامتة للحب والإخاء والنسيان. عادل سحلب يجلس على مائدة طرفية في انتظاري على قلق، لا يتوقف عن التدخين بشراهة، أمامه زجاجتا بيرة باردتين من ماركة "ملواكي آيس" المحلية، أشار لي من على البعد، لكأنه يلفت انتباهي إليه، لقد بدا لي في أي وقت بعد حادث انتحار مها الخاتم وديعا مسالما وعلى قدر كبير من الطيبة، قلت في نفسي لسبب ما إننا نخطو في بعض الأحيان خطوة، نفعل ذلك بكامل وعينا وإرادتنا الذاتية، لكننا لسبب من الأسباب نفقد بقدر أوآخر قدرتنا على التحكم في ما يلي ذلك من خطوات، لعله سوء التقدير، لعله إغراء اللحظة وفتنة الإغواء.




يتبع:

Post: #328
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: الطيب شيقوق
Date: 01-08-2010, 06:56 AM
Parent: #327

ود موسى قلنا تجي نطلك ونسلم عليك سااااااااااى

Post: #329
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-08-2010, 08:00 AM
Parent: #328

حللت أهلا ونزلت سهلا أخي الطيب.


كنت أرتشف بيرتي متفقدا المكان من حين لآخر والمقرن يعج بحركة دائبة على غير العادة. كان هناك خيمة للرقص الفلكلوري تعاقب عليها راقصون من دول وألوان مختلفة، داخلون إلى المطاعم المتناثرة وخارجون منها يبحثون عن شيء أوآخر، "يوم كندا"، بداية الاستقلال القريب من بريطانيا، شيء ينفصل من جسد الانجليز، مثل كتلة الجليد الضخمة تبحر بعيدا ببطء ولا عودة، الأمر حدث في أمريكا بقذيفة مدفع، لكنه بدا هنا أقرب إلى تلك الآثار التي تحدث بفعل الزمن وعوامل الطقس والبكتيرياء على جسد قديم.

كنت أصغي وسط تلك المباهج إلى عادل سحلب بلا مبالاة وهو يخبرني بآخر تطورات الصيني، لقد بدا لي جليا أنه عاجز عن الذهاب خطوة واحدة نحو موضوع جاد من غير أن يتزود بجرعة خمر وأخرى، فكرت في نفسي أنه دعاني لأمر آخر ولا بد، لا يمكن أن أطوي كل هذه المسافة لسماع أمر روتيني من حكايات المنفيين الغرباء. قال إن اليوناني قام بطرد الصيني من داخل النادي الليلي على نحو مهين. كل ذلك التدريب الشاق والشدة التي أخذ الصيني نفسه عليها لفترة طويلة وسعيه الجاد للعمل كمحترف في كندا ضاع هباء منثورا. قال الصيني "الآن" داخل الشقة، يوصد عليه باب غرفته أغلب الوقت، ونادرا ما يتبادل معه الكلام، "إنه مكتئب". أخبرني، حين سألته عن السبب، أن الصيني تبين له أن اليوناني كان يعده سرا لوظيفة أخرى، لا تلك الوظيفة المعلنة، لقد كان وقع المفاجأة عليه عظيما. قال عادل سحلب إن اليوناني حسب ترجمة الصيني كان يعده للعمل في وظيفة "الحفَّار الذهبي". ترجمت إلى الانجليزية حرفيا ما أخبرني به عادل سحلب للتو "غولد ديغر". ولم أفهم.



يتبع:

Post: #330
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-08-2010, 08:36 AM
Parent: #329

فجأة، أخذ عادل سحلب يتلوى في مقعده، ضاغطا على وسطه بكلتا يديه من شدة الضحك، بعد أن سبقني بثلاث زجاجات من البيره، قبل أن يخلد على حين غرة إلى صمت حزين، "لكأنه لم يضحك"، قلت في سري، وقد خطر لي أنه يتقدم في العمر بسرعة مثيرة للشفقة. بالنسبة لي، لم تكن واقعة الصيني مضحكة إلى تلك الدرجة، أكثر ما لفت انتباهي إليها أنني بدأت أفكر في وجود معارف في هذا العالم لم ألتفت إليها من قبل، "حتى هذا يحدث في كندا". وقتها أخذ عادل سحلب يسرد لي مجمل الحكاية ببراعة كادر خطابي سابق. قال إن هناك بعض النسوة العجائز يذهبن إلى النادي الليلي بحثا عن رجال في أعمار صغيرة ليمارسن معهم الحب لقاء مبلغ كبير من المال، يُطلق "على الواحد من هؤلاء الرجال" لقب "الحفَّار الذهبي حمانا اله ". وأخيرا سألني عما إذا كنت أعتقد أنه السبب المباشر في انتحار مها الخاتم؟.



يتبع:

Post: #331
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-08-2010, 05:35 PM
Parent: #330

أحسَّ منذ دقائق بالخدر يثقل باطن قدمي اليسرى. أبدأ في نفضها وتحريكها يمنة ويسرة. أجذب نفسا عميقا. أُبقيه داخل رئتيَّ لحظات. أنفث ملء صدري. بقعة كبيرة من البخار تتكون على زجاج النافذة. أرسم عليها هذه المرة رجلا وإمرأة في حالة عناق حميم لا يتسلل إليه ملل. تحتهما أُجري برأس البنصر اليمنى نفسها نهرا تحف جانبيه الخضرة. "هل أضع الشمس والقمر معا"، أتساءل. يدركني التعب. أتهاوى دفعة واحدة على سرير الحديد الضيق وأفرد الغطاء. الفراش بارد كما لو أن الملاءة نُسجت من مئات الأنوف الكلبية. لدي مقابلة غدا، في الجامعة الأمريكية، مع دكتور عراقي يدعى ريسان الكوفي، خلالها يتحدد مصيري إلى حد بعيد، هذه فرصة العمر والحياة أضحت باهظة التكاليف لتعاش.

الظلام يتكاثف.

المطر يعاود السقوط في الخارج بعنف.

شيئا فشيئا، أغرق داخل موتي الصغير: النوم.




يتبع:

Post: #332
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-09-2010, 06:52 AM
Parent: #331

في صباح قاهري بعيد، من تلك الصباحات الصيفية الحانية، رأيتها تحمل في يدها أوراقا، وهي تعبر بوابة مكتب الأمم المتحدة، فجأة شعرت كما لو أنني أرى الحياة نفسها. عينان واسعتان، سوداوان، عميقتان، يشوبهما حياء غامض، تتوغل فيهما فتشعر وكأنك تتأمل سطح بحيرة هادئة في أوقات السحر. قمحية، ضامرة الخصر، ممتلئة الفخذين في تناسق ورشاقة، طويلة، صدرها مرتفع قليلا، عنقودا عنب وقت الحصاد. شعرها طويل، أسود فاحم، لكأنه يذوب في الهواء من نعومة، نسجتْ على جانبيه ضفيرتين، نيليتين، كانتا تسيران كغريمتين من أعلى وجهها المستدير في اتجاهين مختلفين، لكنهما تلتقيان عند مؤخرة رأسها في عناق حميم، قبل أن تتوحدا وتسقطا برفق إلى أعلى ردفيها بقليل.

هكذا هكذا، قبالة مقبرة الصدقة الكبيرة، وهي ترتجف إلى جواري من جزع وخوف ورهبة، أخذتُ أستعيد في ذهني صورتها القديمة التي رأيتها عليها لأول مرة قبل نحو خمس سنوات تقريبا، وقد ملأت دموع الحنين إلى ما بين ساقيها مآقي قلبي وتحدرت على صفحة وجهي قطرة فقطرة. "هنا قبر زوجتي وولدي الوليد، يا مها". قلت لها ذلك وجسمي كله أخذ يرتجف من لوعة وحرقة وألم. لا بد أنني قد بلغت في تلك اللحظة أقصى قمة يمكن أن يصل إليها لسان كذاب أشر على مدى تاريخ هذا العالم قاطبة.

كنت أعمل داخل الجامعة الأمريكية، مكتبي فخم، البنات الجميلات يحطن بي بثرائهن من كل لون وعمر ودين وبلد، مها الخاتم تنصت وهي مغموسة في جراحها، ولم يكن ثمة ما يدعو للحظة إلى التشكيك في صحة روايتي للأحداث، رواية نُسجت أحداثها من خيوط وحدتي وعذاباتي الخفية ولحظات اليأس والحرمان المحتدم بين جدران تلك الشقة الأرضية الضيقة كقبر. آنذاك، وقد آلمتها حالي، طلبتْ مني أن تكون في رفقتي عند أقرب زيارة لي إلى المقابر.

وقد كان.

كنا قد هبطنا من عربة الأجرة السوداء الصغيرة، وبدأنا نتوغل في صمت بين القبور خلال ذلك النهار القائظ، وهي تضع على رأسها طرحة بيضاء ووجهها شاحب حزين زادته حرارة الجو بؤسا ورهقا غريبين، بينما ظلّ العالم الذي نسير بين شواهده ساكنا صامتا لا نأمة تصدر منه، كان ميتا تماما. كان كلما زاد الشعور بوطأة تلك الوحشة، تقترب مني بمشيتها المرتبكة المتثاقلة أكثر فأكثر، وقد بدا وكأنها تعايش الموت من كل ذلك القرب الشديد لأول مرة، فجأة أحسست بيدها وهي تتسلل إلى باطن كفي اليمنى، كانت يدها باردة معروقة مرتجفة كجثة عصفور مبلولة، وهي كانت قد كفت عن أحاديث العزاء منذ أن غادرنا عربة الأجرة وبدأنا سيرنا المتمهل نحو أعماق ذلك الصمت الأبدي المطبق.

قبالة قبر الصدقة، بكينا معا كثيرا وطويلا، كل يبكي على ليلاه، لعلها تبكي هزائم كثيرة، لعلها تعالج بالدمع آثار غزاة فتحوا باب مدينتها الحصين غدرا، استولوا على كنوزها المخبوءة، ثم تركوها نهبا للأقاويل والضياع وفداحة المصير. يا لقلبي، وقد قُدَّ من حجر منذ أمد بعيد، كان كلما زاد بكاؤها، كلما استولت على نفسي مراميها الدنيئة، وقد كان.



يتبع:

Post: #333
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-09-2010, 09:37 AM
Parent: #332

وحدث بعد ذلك أمر عجيب. كان كل شيء قد أخذ يتم بيننا في صمت وتواطؤ وسرعة غريبة حد الدهشة والحيرة. خرجنا من المقبرة والعصر يلملم بقاياه الأخيرة. لعلنا انتهينا عبر تلك الدموع من دفن أحزان الماضي مرة واحدة وإلى الأبد. لقد خيل لي للحظة ونحن نغادر آخر القبور بسيرنا الخفيف وكأننا دخلنا كشخصين وخرجنا كشخص واحد بمشاعر مختلفة. حتى القدر نفسه بدا سخيا لحظة أن عثرنا على عربة أجرة قرب كل ذلك الموات بسهولة ويسر والجو نفسه قد أخذ يرق ويلطف كما لو أن يد الثلج تمرر يدها على جبين النار المشتعل منذ فترة. لم نتبادل كلمة واحدة حتى انبثاق صرختي اللذة معا. التواطؤ والصمت سيدا الموقف. غادرنا القبر وقد جفت بحيرات الدمع في أعماقنا. كنا نسير بين القبور وقد تشابكت يدانا بحركة عفوية. هذه المرة، بدت يدها دافئة لدنة حُلوة الملمس ومطواعة. هبطنا من عربة الأجرة في صمت. كنا نجلس على المقاعد الخلفية متلاصقين وكل منا ينظر في اتجاه نافذة مختلفة وجسدها لا يكاد يتوقف من بث اشاراته الخفية. انتظرتني خارج صيدلية في شارع الطيران قريبا من حيث تسكن. أحضرت عازلا طبيا على عجل. لم تسألني عن شيء. تركتْ لي يدها اليمنى وذراعي اليسرى تحتك بدفء صدرها المكتنز بين كل خطوة وأخرى. صعدنا إلى الطابق الرابع. فتحتْ الباب كما لو أن الأمر جرى التدرب عليه في الخيال طوال حياة كاملة. أغلقتُ الباب ورائي كزوج يسير في أعقاب زوجته بعد حضور مناسبة اجتماعية عادية. رأيتها وهي تتخفف من ملابسها بينما تواصل السير صوب الحمام. كنت أتبعها بخطى تعرف طريقها جيدا كما لو أنها لم تكن أول مرة أدخل فيها إلى شقتها. الصمت والتواطؤ سيدا الموقف. كنت أساعدها في خلع ستيانها بتلقائية أدهشتني. انحنتْ تضبط توازن الماء الباردة والحارة. آنئذ أمكنني رؤية موضوعها الخاص لأول مرة وهو يطل من زاوية خلفية ولدت في جسمي رعشة خفيفة وقدا بدا حليقا حديثا. داخل حوض الحمام، والصمت والتواطؤ سيدا الموقف، أخذت أدران النهار.. رائحة العرق الزنخة.. وآثار الشمس المدبوغة على الجلد تتحلل وتتساقط وتذوب وتنجرف مع رغوة الصابون بعيدا. قمتُ بتجفيفها. سبقتني إلى غرفة نومها. وجدتها عارية تنتظر. رأسها ساقطة صوب الحائط. شعرها ملموم إلى أعلى. وساقاها متباعدتين. وقد كان حليقا. كانت تبكي بلا صوت ودموعي تتساقط أعلى نهديها قطرة قطرة.


يتبع:

Post: #334
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-09-2010, 05:09 PM
Parent: #301

نتابع

Post: #335
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-09-2010, 09:39 PM
Parent: #334

كان ذلك بمثابة حدث فريد زلزل حياة المنفيين الغرباء الراكدة في تلك المدينة. لقد سرت شائعة قوية مفادها أنه تم إجراء تحقيقات دقيقة مع عمر من قبل جهات أمنية كندية رفيعة لما له صلة بتنظيم إرهابي يقوده رجل أعمال سعودي سابق يدعى "أسامة بن لادن". حتى أن أحد أولئك الغرباء المنفيين قد أخذ يعدد تفاصيل الحدث بأنفاس رجل أنهى للتو مسابقة للعدو السريع ما بين مدينتي موسكو وباريس. قال لهم في قمة الاستثارة إنه رأى "بعينيَّ هاتين اللتين سيأكلهما الدود بعد الموت" وجه عمر في سياق نشرة تلفزيونية وهو يطل من وراء أسوار غونتنامو في كوبا. لكنَّ الرعب قد بدأ يدب بالفعل في أوساط أولئك الرجال لحظة أن طالبوه بتفسير لحضور عمر المفاجيء في اليوم التالي مباشرة إلى "بورتج بليس".

كان يتحدث بتأثير ذاكرة قديمة. كانوا مثله "في الهم شرق". أخذ يوضح لهم هذه المرة ببطء وثقة وحسم أن الأمن لا يسمح عادة بنشر مواد إعلامية حين يتعلق الأمر بقضايا خطيرة على المستوى القومي إلا بعد التأكد تماما أن "كل شيء تحت السيطرة الكاملة". لا تعتقدون أن "وكالة المخابرات الأمريكية المركزية بهذا الغباء". عمر هذا "مجرد سمكة صغيرة". لقد أطلقوا في الواقع سراحه "على سبيل التمويه". إنهم يعطونه حريته الآن ليكون بمثابة طُعم للأسماك الكبيرة "لذا وجب الحرص". كان عمله كمذيع سابق في احدى محطات التلفزة الإقليمية في السودان يضفي على وقع حديثه في نفوسهم مسحة من الصدق. لعلكم تعلمون طرفا من أمر الخلافات الشهيرة بين عمر وزوجته. لكن لا أحد منكم قد قام في الماضي بطرح هذا السؤال البسيط على نفسه: "أين اختفى عمر عن الأنظار خلال الستة أشهر الماضية"؟.


قال رجل بدين منهم له صوت أرملة عايشت الحزن والصمت طويلا، وهو يشير إلى قامة عمر القصيرة، وقد رسخ في وعيه هول ما سمع للتو: " صدق المثل القائل: القصير إما حكمة أوفتنة". بعضهم أخذ يفكر في مغادرة المحافظة بأسرع قدم لديه. "المثل يقول: ابعد عن الشر وغني له". آخرون خلال مجلس للسُكر في شقة عادل سحلب فكروا مستفيدين من مناوراتهم السياسية السابقة في "جمع توقيعات من أفراد الجالية تؤكد للمسؤولين في المحافظة أن ما أحدثه عمر من مخالفة للقانون مجرد سلوك فردي منعزل.. الجالية تدينه وتطالب بتطبيق أقصى العقوبات على صاحبه". لقد بدا المنفيون الغرباء منقسمين حول طريقة التعاطي مع قضية عمر وكيفية احتواء تأثيراتها السلبية المحتملة على "وضعهم الآمن" مستقبلا. لكنهم أجمعوا على شيء واحد.



يتبع:

Post: #336
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-10-2010, 07:44 AM
Parent: #335

كان من الممكن التعرف على شخصية عمر في الآونة الأخيرة من بعد آلاف السنتميترات الضوئية. جلباب أبيض وعمامة بيضاء مرتفعة. ما إن تقع عينهم عليه من على كل ذلك البعد، حتى يسارعون بمغادرة مكان تجمعهم عن بكرة أبيهم، لقد بدأت تنتعش في تلك الأيام غريزة "النجاة بالجلد" في نفوس المنفيين الغرباء على مختلف توجهاتهم، وكثيرون منهم كانوا قد توقفوا تماما عن آداء الفريضة في المسجد من باب "درء المصائب"، لكن لا أحد منهم قد فكر ولو مرة واحدة في الاقتراب درجة من عمر للتأكد من صحة تلك الشائعة، لقد كانوا يقولون "لا دخان من غير نار". ذات نهار، حين قامت "جيسكا" بزيارتنا، أحببت أن أرى آثار تلك الشائعة على وجهها، وكان قد مر نحو ثلاث سنوات على آخر علاقة وثيقة بينها وبين عمر، أذكر أنها أخذت تنظر إليَّ بدهشة واستغراب، وقد بدت وهي تضع على وجهها تعبير مَن يحاول جاهدا تذكر ملامح شخص عابر من وراء ركام آلاف التفصيلات الصغيرة المترسبة على سطح الذاكرة.


يتبع:

Post: #337
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: ابو جهينة
Date: 01-10-2010, 04:53 PM
Parent: #336

*****

متابعة لصيقة يا ابو محمد

Post: #338
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 01-10-2010, 07:00 PM
Parent: #337

sudansudansudansudansudansudan999004sudan.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

صورة عبدالحميد البرنس/ ادمنتون/ كندا




ابو العيال


فى قلبى انت بتكبر تكبر معاك معانى / امانى

ام العيال

Post: #339
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-10-2010, 07:35 PM
Parent: #338

الأستاذ الطيب شيقوق
يا سلام
يا سلام على المرور الجميل .
ادرى أخى الطيب توقفك
وتمعنك العميق وتشعلقك وأنت تبتسم تلك الأبتسامة الراضية .
عبدالحميد البرنس عالم عجيب .. نعم أخى الطيب .. عجيب .
تحياتى وشكرى


Post: #340
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-11-2010, 07:07 AM
Parent: #339

وصلت وقتها أسرة عمر من السودان، زوجته ذات القامة العالية وبناته الثلاث، وقد بدا عليهن تعب السفر بدرجات متفاوتة، على الرغم من تلك الأشواق المختزنة لرب عائلة غاب عنهن نحو احدى عشرة سنة متصلة، قلما اتصل خلالها بهن من منفاه الوسيط في أثيوبيا. لقد بدا وكأن الأمور عادت إلى طبيعتها الأولى. مُنحت العائلة بيتا حكوميا مكونا من ثلاث غرف مخصصا لمحدودي الدخل. عمر يعمل كعامل نظافة في شركة صغيرة يمتلكها أحد المهاجرين التشيليين الذين فروا في أعقاب سقوط سلفادور أليندي عام 1973. البنات التحقن بمدارسهن والأم بدت سعيدة بالذهاب لمدرسة تعليم الكبار في "الريد ريفر"، والاعانات (لا سيما خلال السنة الأولى) قد بدأت في التدفق على الأسرة المهاجرة من منابع حكومية مختلفة. كان أثر النعمة أكثر ما يكون وضوحا على جبهة عمر السوداء التي أضحت كما أخذ يعلق بعض المنفيين الغرباء خلال ساعات النهار الميتة في "بورتيج بليس" مثل جلد حذاء أسود جديد خرج للتو من بين يدي ماسح أحذية لا يعوزه الاتقان. كانت تلك المجالس تفيض في بعض الأحيان بالكثير من الروائح المزعجة. وثمة شيء جدير بالاحترام، شيء بدا لي غامضا لفترة، أخذ ينعكس من وجه عمر كلما رأيته، لعله المعنى الذي تمنحه الأسرة للرجل.


يتبع:

Post: #341
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-11-2010, 07:19 AM
Parent: #340

Quote: متابعة لصيقة يا ابو محمد



طاب مقامك أينما كنت (أبوجهينة) أخي.

Post: #342
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-11-2010, 07:29 AM
Parent: #341

Quote: ابو العيال


فى قلبى انت بتكبر تكبر معاك معانى / امانى


أم العيال:

وجودك إلى يمين قلبي، يسار روحي، لا يزال يمنح عقلي نافذة للتمتع بجمال هذا الخالق. أحبك.

Post: #343
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-11-2010, 07:38 AM
Parent: #342

عثمان أخي:

Quote: يا سلام



تلك الكلمة ثقيلة في ميزان ما بعد القراءة. لعلها أقصى ما يطمح إليه كاتب من ردود أفعال مصدرها الحسّ. أشكرك، لكن الطريق لا تزال طويلة وشاقة. كل الأمنيات الجميلة لك أخي المبدع الإنسان وأنت تغوص في بحار حريتك الداخلية هنا وهناك فإذا للأعماق كنوز مخبوءة لا تراها سوى الأنفس المحبة.

Post: #344
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-11-2010, 04:21 PM
Parent: #343

أستاذى الكاتب الكبير ابوجهينة
سلام وكثير الاحترام
مرورك يسعد الجميع
ارجو أن تكون بخير
تحياتى وجزيل شكرى

Post: #345
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-11-2010, 08:46 PM
Parent: #344

لم يكن صباحا عاديا، حين استيقظت من نومي متأخرا بعض الشيء، الشمس لا تزال حانية وهي تضع أصابعها البيضاء بالكاد على عتبة النافذتين الزجاجيتين الواسعتين، "أماندا" لا تزال نائمة إلى جواري، أنفاسها خافتة منتظمة، وعلى ملامحها تعبير ميت، لعلها عادت على مشارف الصباح، بالكاد أتذكر طرفا من أحداث الليلة الماضية، ما يحضر إلى ذهني الآن أنني بدأت في تجرع البيره بعد غياب الشمس مباشرة، كنت أشرب وحدي في غرفة المكتب و"أماندا" وشقيقتها الكبرى "مليسيا" تستعدان بضجة أنثوية أليفة للذهاب وحدهما إلى أحد النوادي الليلية.

أفكر أحيانا أن "مليسيا" لا تصلح لأن تكون حجر الزاوية في بناء بيت أسري، تركتْ في معية زوجها السابق وهي لم تكمل السابعة والعشرين بعد أربعة توائم ذكرين وأنثيين أصحاء وتفرغت تماما لمغامراتها العابرة، لا أتذكر لها الآن لحظة حنين واحدة، مثل ضيف، ألقى رحاله بين قوم مجهولين ورحل صوب المجهول بلا ذكرى، لا شوق لقُبلة من فم صغير، لا قلب يهف لنداء يتلمس طريقه في الليل نحو أمومة غائبة بلا جدوى، مثلي تماما، لا أكاد أرغب حتى في تذكر أشياء من حياتي الماضية، المنفيون الغرباء لا جذور لهم ، معنى حياتهم يتكون دائما عبر سلسلة متصلة من رحلات تتم غالبا بلا معنى، التفسخ هو الصلة الوحيدة التي أخذت تربطني بهذا العالم.

منذ البداية، كان لدي شعور غامض أن طريق "أماندا" لن تفضي في نهاية المطاف إلى شيء.

لعل في داخلي نزعة دفينة للانتحار.

أذكر أنني اعتذرت من مرافقتهما، كنت مُتعبا، والبيره في نحو التاسعة كانت قد حولتني إلى مجرد خرقة على طرف حوض في مطبخ جرى للتو غسل آخر أوانيه. ومع ذلك، ظللت أواصل السُكر بعد ذهابهما مدفوعا من قبل وعد حميم همست به "أماندا" في أذني قبيل ذهابهما: "بعد عودتي أريدك أن تأكلني حية". ذلك ما كان من أمر البارحة وبين الجنة والنار قيد أنملة.

نفضت عني تلك الأفكار السوداء بهدوء. لا تزال رأسي مثقلة من أثر البيرة، كان مرأى "أماندا" وهي نائمة إلى جواري يخبرني أنني لا أزال أسيرا لهواجس أحاول عبثا التخلص منها. طبعتُ على جبينها قُبلة خفيفة. وسرت بخطى حافية صوب الحمام. كنت دائما أترك باب الحمام مفتوحا. الوحدة أرض خلاء لا أبواب لها. لكنني لا أزال أواصل نفس العادة مع "أماندا". هكذا، بدأت أفهم بمرور الوقت معها أن التوحد بستان ينطوي على الاختلاف والعزل بين أنواعه يُميتها. أفرغت أمعائي بتمهل. أنهيت تنظيف فمي وأسناني مدندا أثناء ذلك بموشح أندلسي قديم:


عَبِثَ الشوق بقلبي فاشتكى

ألم الوجد فلبت أدمُعي

أيها الناس فؤادي شَغِف

وهو في بَغيِ الهوى لا يُنصِف

كم أداريه ودمعي يكُف

أيها الشادق من علمكا

بسهام اللحظ قتل السبع



يتبع:

Post: #346
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-12-2010, 06:03 AM
Parent: #345

أنهيتُ أعمالي داخل الحمام، فقد عدلت في اللحظة الأخيرة عن حلاقة ذقني النابتة، يوم سبت آخر، لا يزال في الوقت متسع إلى أن تستيقظ "أماندا"، كنت أسير نحو المطبخ المفتوح على الصالة، لا شيء يعكر صفو الهدوء داخل الشقة، سوى أزيز الثلاجة المتقطع الرتيب، فجأة وقعت عيني على رجل غريب لم أره من قبل ينام بطمأنينة على ذات الكنبة التي ظللنا نمارس عليها الحب أحيانا، بنظرة واحدة لا أكثر أدركت تفاصيل ما حدث أثناء نومي العميق الليلة الماضية، كنت أواجه تحديات وجودي كرجل لأول مرة في حياتي على ذلك النحو السافر المستفز حد الغليان.

يتبع:

Post: #347
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-12-2010, 04:13 PM
Parent: #346

الأخت الهام
بعد السلام على أخى عبدالحميد
و بعد كثير سلامى عليك والولدين .
ارجو التكرم بوضع صور المدينة .. المدينة فى عامها الجديد فى لونها الأبيض
فى شهرها الأول من السنة .
شهر الكتابة .
شهر الاحلام ..
مع جزيل شكرى
وكثير سلاماتى

Post: #348
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-12-2010, 06:16 PM
Parent: #347

كنا جالسين على حاجز الأمواج الأسمنتي، أقدامنا متخالفة معلقة في الفراغ، وأيدينا إلى حافة الحوض الخلفية مبسوطة تسند ثقل ظهورنا، بعد دقائق من مغادرتنا لتلك المائدة الطرفية حول المقهى المقام في الهواء الطلق. كان "أسيني بويني" يلوح أمامنا على بعد خطوات قليلة، مياهه راكدة معتكرة تقلقها حركة الزوارق النهرية الصغيرة من آن لآخر، على ضفته الأخرى تنهض غابة صغيرة من أشجار الآش بينه وبين "الريد ريفر"، وقد ذكرني موقعها لسبب ما بموقع جزيرة توتي في السوداني، وهي تنهض بطيبة بين نهري النيل الأبيض والنيل الأزرق، قبل أن يلتقيا ويتوحدا في مجرى نيلي واحد، وتلك بداية نهر النيل ورحلته في ما يشبه المعجزة عبر صحاري وكثبان رملية وأراض صخرية صوب مصبه على البحر الأبيض المتوسط في مصر، وأنا أعاني سريان البيره طفيفا على أطرافي، بدأت أتخيل مشهد هندي أحمر مر عبر ذات المكان قبل ألف عام، من المؤكد أنه لم يطرأ وقتها على ذهنه أن الحياة على جانبي النهر يمكن أن تشهد كل هذا التحول الدرامي. كانت أصوات المحتفلين بعيد "يوم كندا" تتناهى من غير مكان، "واسيني بويني" لا يزال يتككأ، لكأنه في تكاسله لا يريد أن يفوِّت عليه بهجة الألعاب النارية عند حلول الظلام، قبل أن يواصل طريقه للقاء "الريد ريفر" العارم المندفع في حياء وتهيب. كنت أتشاغل بمرأى أطفال صغار، أخذوا يتطلعون إلينا عبر ذلك الفضول العفوي الخالد والعالم لا يزال في عيونهم طازجا بكرا لا تشوبه الأحاسيس المعقدة، حين ألقى عادل سحلب ذلك السؤال، "هل تظن أنني المسؤول المباشر عن انتحار مها الخاتم"؟.


يتبع:

Post: #349
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-12-2010, 07:09 PM

قلت في نفسي "الموت آخر ما يذكر في هذا المقام". أدرت رأسي صوب عادل سحلب ببطء وحذر. لم يكن ينظر نحوي. كان مطرقا يتلاعب بقدميه في الفراغ ومرأى الأرض من تحته بدا داكنا. أعدت بصري إلى مداره الأول متفقدا من حولي تلك الظاهرة الطبيعية الموحشة: "الأشياء داخل العتمة (تبدو ولا تبين)". حين التقيت نظرته، على ضوء المصابيح المتناثرة، والمحتفلون يضيقون مساحة اليابسة المنبسطة بعد النهر انتظارا لبدء الألعاب النارية الوشيك، لم تكن نظرة عاشق سابق على أبواب العزاء، كانت نظرة طائر ذبيح. قصدت أن أطيل مدى الصمت أكثر فأكثر. آناء ذلك، بدأت أدرك مدى الفجيعة بوضوح تام. عادل سحلب. إسم له شنة ورنة وسط مجتمع المنفيين الغرباء في القاهرة. لكنه يبدو الآن شأن الثوريين الآخرين في عالمنا الرابع، واجهة براقة ومحتوى معتم، وهو يعطي كل تلك الأهمية لعوامل خارج ذاته منتظرا بنفاد صبر أن تحدد إجابتها مصيره الخاص. قلت في نفسي "لا، لن أحل تناقضاته العالقة". لكنه عاد لتكرار نفس السؤال بالحاح طفل حائر هذه المرة. عندها فقط طلبت منه تأجيل إجابتي إلى حين الإنتهاء من رؤية الألعاب النارية التي بدأت وسط صيحات المحتفلين بالفعل. لم أكن أراه والأشكال النارية الجميلة تُزين سماء النهرين لكنني كنت أحسّ بوجوده البائس وقد بدا مثل لحن جنائزي نشاز من خارج جوقة الفرح العام، وتلك محنة السياسي السابق وحده.


يتبع:

Post: #350
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 01-12-2010, 07:36 PM
Parent: #349

edmonton in the winter


PBSYCAOBAONOCA6577VICA3E4VGLCALQA12PCA09CCU6CA6UF8MGCAX1XV75CA3UHO55CATXFH0CCAP9PVS7CAONZQ59CA9Q79KWCAS8HUS3CAX2ZRJICAGMS90UCAGXN38MCAJIU8RACAQB63DY1.jpg Hosting at Sudaneseonline.com



S3M9CACST4AACA8ZPT7ICAOZRA7UCAZ5DR75CA4PGGD7CATFTG2YCAHKY2AVCABA72JGCAPXQ0K7CAJ9H8Y4CA4HIVHHCANI5I13CAA4A032CAQ5WSBVCAIIARW9CAEOAEXACALEU9XUCALHPALY.jpg Hosting at Sudaneseonline.com



العزيز عثمان موسى
سلامي وتقديري
ادمنتون في الشتاء
تبعث في النفس الذكريات والحنين

Post: #351
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-13-2010, 06:10 AM
Parent: #350

كانت احتفالات الناس في ذلك العام باليوم القومي لكندا قد بدأت في التحول داخل نفوسهم ولما تنفض بعد تماما إلى صور لا مرئية وتسجيلات غير مسموعة يدعونها أحيانا "الذكرى". لا شيء يتبقى في نهاية المطاف. الأشياء خارج الإنسان تتآكل بمرور الزمن وخارجه عرضة للنسيان وزواله (المحتوم) هو نفسه. كان الناس يخلون ميادين المقرن زرافات ووحدانا سالكين طرقا مختلفة وعادل سحلب اقترح عليَّ أن أذهب معه إلى شقته لتكملة السهرة في صحبة الصيني الذي طرأ عليه تحول غريب "هذه الأيام". لقد كفَّ تماما عن تقديم الخدمات للآخرين. صار يتعاطى الخمر كما لو أنه يقوم بتصفية حسابات معقدة ظلت عالقة طويلا بينه وبين الاستقامة والصمت وأشياء أخرى. لقد تبدلت الأحوال على نحو درامي داخل شقتهما. عادل سحلب بعد حادث انتحار مها الخاتم أخذ يميل إلى الصمت أكثر فأكثر. الصيني في أعقاب صدمة اليوناني لا يكاد يترك أمرا إلا وقتله حديثا وتعليقا حتى أن عضلات وجهه أخذت تكتسب مرونة فائقة في فترة وجيزة فصار مثل عامة الناس لا تنقصه المشاعر المعلنة. لقد شرع وجهه الشمعي في الذوبان بلا عودة. حين هدم الصيني أسوار سجن "الساقي" داخله، بدا الأفق أمامه مليئا بالوعود، ومخزونه من الخيال بدا كما لو أنه احتفظ به كل هذه المدة ليكون بمثابة جسر يعبر به من عالم المنفيين الغرباء إلى الحياة في بر كندا، حتى أنه بدأ في غضون سنوات قليلة في التفكير جديا في شراء النادي الليلي من اليوناني نفسه.

آنذاك، أخذ الصيني يكتشف مواهبه الدفينة في التجارة. لقد بدأ بعادل سحلب نفسه. كان الأمر أشبه بالتواطوء والاتفاقات الضمنية. عادل سحلب يشتري الخمر مقابل تلك الترجمات التي درج الصيني على تقديمها له بصورة تكاد أن تكون يومية. عادل سحلب نظر إلى الأمر في البداية بنوع من شفقة يشوبها الغموض، ثم تحول موقفه منه إلى سخرية خفية، قبل أن يغرقه الذهول في بحر من الحيرة، وهو يرقب عن كثب إزدهار تجارة الصيني ورواجها. كان الصيني الذي هبطت عليه الطلاقة دفعة واحدة قد أدرك حقيقة هامة: تزايد أعداد المنفيين الغرباء في المدينة. لا يكاد يمر نصف العام حتى يتم بقذف أعداد جديدة منهم في طرقات المدينة وأحيائها المختلفة هنا وهناك. كانوا دائما منهكين حد الإعياء بتعب المنافي الوسيطة مثل نيروبي وأديس أبابا والقاهرة ومرضى بداء مزمن عضال يدعى "الحنين". كان بعضهم، في أحيان قليلة نادرة، يتحسس مظروف خطاب قادم من الوطن، ويتمعن فيه من وراء ستارة الدموع الخفيفة، كما لو أنه يشهد وقوع معجزة سماوية في زمن كثرت فيه أعداد الملحدين. أما الذين أُخبروا منهم أن ما يمضغونه الآن تمرة من نخيل الوطن فتمنوا لو أن الزمن يتوقف بهم عند تلك اللحظة.

شيئا فشيئا، صنفا فصنفا، أخذت شقة عادل سحلب والصيني تتحول، بمرور الوقت، إلى محل تجاري صغير لبيع "مضادات الحنين"، بدأ الصيني ببيع كروت المحادثات الدولية، كان المنفيون بحاجة دائمة إلى تلك السلعة، الحنين لا وقت له، قد يهجم على المرء في أية لحظة، إذا لم يُخمد في الحال قد يؤدي إلى اعتلالات صحية خطيرة، قد تكون السوق موصدة حين تقرع أجراس الثانية بعد منتصف الليل، قد يكون البرد في عنفوانه عند السادسة صباحا، قد يخلو جيب المنفي الغريب في تلك اللحظة من دولار واحد، لكن الصيني دائما هناك، يُملي عليك شفرات ما تطلبه من كروت عبر الهاتف، ولا يهم متى يتم دفع قيمة ما خفَّ من ثقل الحنين من ذرات طالما يتم الدفع في نهاية المطاف. وطموح الصيني، لا يتوقف. كان لا بد من تغذية أرواح المنفيين الغرباء بألبومات غنائية لمطربي الوطن وأخرى دينية وثالثة تذكرهم بأن العالم الذي تركوه وراءهم لا يزال به مَن يلقي النكات ويُضحِك. كانت السلع تتكدس داخل الشقة المشتركة حتى الحمام وصلت أحد أركانه كومة من المسابيح الحجازية المضيئة وقد تم وضعها داخل شنطة بلاستيكية محكمة الإغلاق.

لكن النقلة الحاسمة في سيرة تاجر "مضادات الحنين"، تحققت حين شرع الصيني في سد حاجة المنفيات الغريبات من مستلزمات تقاليد الزينة الضاربة في رُحم التاريخ، لقد جلب حتى الودك والحنّة وبخور الصندل والخُمرة وفركة القرمصيص وشعر الجورسي المستعار والخُمرة الزيتية والمحلبية والسرتية و"فرير دمور" و"الزمام أبو رمشة" والكُحل والمراويد وحلاوة شيل الجسم في عُلب بلاستيكية سمنية صغيرة بلا تواريخ صلاحية وأثواب السهرة الهندية، ناهيك عن سده لحاجة العجائز من أدوية عُشبية وتمائم مانعة للسحر وشر الأعين الخائنة، وحتى غرفة عادل سحلب اكتظت بثياب الرجال التراثية مثل الجلاليب والعمائم المختلفة والعراريق وسراويل التِكَة. والحال تلك، لم يعد أمام الصيني، الذي لم يفت عليه أن يسد حاجة المنفيين الغرباء من أطعمة الحنين، سوى الزحف إلى محل تجاري داخل مجمع "بورتج بليس"، وقد أضاف إمكانية تحويل الدولارات إلى الوطن إلى قوائم تجارته المزدهرة. لقد أعطى الصيني للغرباء المنفيين ما أرادوا: الشعور أنهم لم يغادروا موطن أجدادهم لحظة.




يتبع:

Post: #352
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-13-2010, 09:05 AM
Parent: #351

لقد كان الصيني واعيا منذ البداية بخطورة أن يقيم المرء قصرا وسط الأكواخ الماثلة.



يتبع:

Post: #353
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-13-2010, 05:23 PM
Parent: #301

نتابع

Post: #354
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-14-2010, 09:47 AM
Parent: #353

كنا نسير في اتجاه شقة عادل سحلب ببطء وتمهل. كان قد اعتلى منبر النظريات الكبرى ومنصة الأفكار الكبيرة على حين غرة. لا يتبادر إلى ذهنك، يا رفيق حامد، أنني مجرد كادر جماهيري سابق، لست خطيبا دينيا في مسجد الحزب فحسب، ما كان من أمري في القاهرة ليس سوى دور في مسرحية هزلية كنت قد أتقنت القيام به مكرها من باب "العيش بالحيلة"، ولو إنني اتبعت وقتها ما يمليه عليَّ فكري وقناعاتي الحقيقية لمت من الجوع أوالتشرد. العالم لا يكاد يطيق وجود الأذكياء هذه الأيام وحكمته لاءات ثلاث: لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم. لم أكن يوما في موقع الفيلسوف الآمن الذي يشير بسبابته إلى علل الأشياء بلا خشية. كان الخوف من المجهول لحظة النطق بالحقيقة ولا يزال يحكمني. أنت لا تعرف بأس الرفاق، لأنك لم ترَ حتى الآن سوى ابتساماتهم، لقد أوغلوا في تقديس الرموز حد تأليههم، ولو أنني أخبرتهم وقتها أن ما اعتبروهم مأخوذين ببريق تضحياتهم البطولية ليسوا في واقع الأمر سوى رجال دين في ثياب حديثة لانهد المعبد وتساقط على رأسي بما فيه. الماركسية وغيرها من النظريات الحديثة لا ينتجها سوى منهج عقلاني. نحن أسرى لمناهج ثنائية تقليدية قائمة على النقل والحفظ والالزام والتلقين. المأزق لا يبدأ من زعماء اليسار التاريخيين فحسب. المأزق تعود جذوره إلى رواد النهضة لدينا أنفسهم. قاسم أمين مثلا. حين نادى بحرية المرأة، أنتج ذلك بمنهج الخرافة السائد آنذاك ولا يزال، إنه حين يدعو أن تكون وضعية المرأة لدينا مماثلة لوضعية المرأة في أوربا من حيث الحريات العامة يستدرك قائلا عند كل نقطة "ولكن هذا لا يتعارض مع الاسلام"، إنه لا يحدث قطيعة تاريخية مع النظرة السائدة إلى المرأة، قاسم أمين للأسف لم يختلف مع المرجعية السائدة إلا على مستوى تأويل المرجعية نفسها، إن خطورة مثل هذه الدعاوى تكمن في كونها لا تفعل من داخل ثوب تقدميتها القشرية سوى إعادة إنتاج التخلف في قالب جديد. ما فعلته النهضة الأوروبية كان أمرا أكبر من ذلك وأكثر أصالة. إن الفعل الحاسم للنهضة الأوروبية تمثَّل في نقل تصورات الإنسان لنفسه والعالم من خارجه إلى داخله، من المقدس المطلق إلى النسبي التاريخي، وهذا جوهر العقلانية. لم يكن عادل سحلب وهو يفلسف الأمور فجأة على ذلك النحو "مثل رجل ثمل يمشي فوق جليد زلق". لقد بدا لي منطقيا إلى حد بعيد. لكنني لسبب ما لم أستطع أبدا أن أواصل الإصغاء إليه من دون التفكير في عمله كغاسل للأواني والصحاف في مطعم "سويس شاليه" ذي الشعبية الواسعة في كندا. لقد بدت لي آيديولوجيا اليسار أثناء حديثه مثل آنية حوت إيدام ملوخية لزج طَعِمَ منه الكبار ثم عبثت به أصابع طفل متخم مسافة قبل أن يترك ليجف ويتحجر على حوض غسيل جاف.


يتبع:

Post: #355
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-14-2010, 04:12 PM
Parent: #301

الأخت العزيزة الهام
بعد السلام
الشكر من بعد السلام على المرور الكريم
ووضع صورة المدينة
المدينة ( الهمبريب ) المدينة التى تهب القلب اكسجين الكتابة .
ألف شكر جميل أن تتخلل الخيط صور المدينة وصور شقة السطوح وصور المقابر
وصور الحبيبة عين شمس .
.. عبدالحميد هو الذى شعلق صوت تلك المكانات .. نتابع
تحياتى وجزيل شكرى

Post: #356
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-14-2010, 05:49 PM
Parent: #355

كمن يُحلَّق بجناح قوي وحيد في سماء شاهقة العلو.

هاتفتني مها الخاتم في صباح صحو جميل. كان صوتها دافئا مترعا منسابا يضج كعادته بالحياة. طلبت مني أن ألتقيها لتناول وجبة الغذاء معا في مطعم لبناني في مصر الجديدة شهد إعلان حبي وميلاد علاقة بدت واعدة. قالت بكلمات غامضة إنها ستقوم بعدها بصحبتي في رحلة العمر. وافقتها تلقائيا على تناول الوجبة. كان عليَّ في مساء ذلك اليوم أن أكون المتحدث الرئيسي في ندوة ينظمها "طليعة الشباب" موضوعها على ما أذكر "الأمثال الشائعة كآلية للسيطرة الاجتماعية السائدة". حين بدا صوتها فجأة مثل إناء زجاجي سقط من شاهق على سطح صلب، سألتها: "إلى أين ستكون الرحلة"؟. كان ذلك موافقة ضمنية مني بتعديل خططي المسائية بشأن الندوة والذهاب معها إلى نهاية العالم. كما انتهتْ، عادت نبرتها الآسرة تطرق مسامعي من جديد بمزيد من الغموض والإغواء. قالت "ستذكر ذلك طويلا". كما يقول الأدباء الروس: الشيطان وحده يعلم كيف قضيت ما بدا لي ساعات أشبه بقرون طويلة متفكرا في كلماتها مستعيدا حلاوة صوتها متخيلا أية رحلة يمكن أن تكون بعد تلك الوجبة؟.

قبل أن تغلق سماعة الهاتف، قالت بكلمات شاعرية أدهشتني إنها ترغب لحظة حضوري أن ترى مدى أناقتي أفقا أزرق، هواء عليل وعاصف معا، سماء لا تشوب صفاءها سحب، نحن في طريقنا أخيرا للوقوف داخل محراب لحظة إنسانية خالدة. أتذكر آخر عبارة لها خلال تلك المحادثة التي أخفت في ثناياها الناعمة شيئا أقرب إلى الجحيم: "عادل!، أحبك بجنون".

لو أن الحرية مسألة شخصية فقط لا علاقة لها بما يحدث في الخارج، يا حامد؟.



يتبع:

Post: #357
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-14-2010, 10:06 PM
Parent: #356

أثناء سيرنا المتمهل نحو شقة عادل سحلب، خيل لي للحظة وكأنني أتوغل داخل دهاليز كابوسية لا مخرج لها، مخلوقان بائسان، في بلاد بعيدة، لا يدرك أحدهما شيئا عن تاريخ رفيقه البعيد الموغل في القدم والنسيان، التقيا في القاهرة من على البُعد خلال مناسبات عامة عديدة، افترقا كما التقيا كغريبين ثم التقيا مرة أخرى وبينهما هذه المرة جثة فتاة ألقت بنفسها من أعلى نقطة في بناية سكنية ضخمة، قبل أن تنشطر وتتخذ طريقها إلى دواخلهما مناصفة في شكل ذكرى، أحدهما لا يريد حتى أن يتذكرها، الآخر يحاول عبثا أن يتقيأها بسؤال لا يُعيد إليها حياة. كان عادل سحلب بعد نفاد صبر يتوقع إجابتي في أية لحظة. لكنه لسبب ما اعتلى منبر النظريات الكبرى ومنصة الأفكار الكبيرة على حين غرة. أخيرا، وصلنا إلى شقته المشتركة مع الصيني. الأخير، لم يكن هناك. أحضر عادل زجاجة فودكا كبيرة من داخل المطبخ وكأسين وكان قد أعد مجلسا على البلكونة على عجل حتى أنه لم يهتم بتبديل ثيابه بأخرى بيتية. لقد بدا واضحا أنه يحاول جاهدا الإرتقاء عبثا بمواقف وضيعة حدثت في الماضي بروافع فكرية وجمالية مكثفة. كنت أراقب كل ذلك بغير قليل من عدم الارتياح ولو أنه تصالح مع جوانبه الوضيعة بمثل ما فعلت لجنبني مشقة مواجهة أكثر الأشياء احتقارا بالنسبة لي في هذا العالم: جلد الذات.


يتبع:

Post: #358
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-15-2010, 08:44 PM
Parent: #357

كانت علاقتي بمها الخاتم في الفترة الأخيرة قد بلغت منعطفا خطيرا.

ظلت تدفعني على نحو متزايد للارتباط بها رسميا وبدا وكأني استنفدت كل حيلي للإبقاء عليها كعشيقة لأطول فترة ممكنة. أحيانا تبدو لي مسالمة وديعة شاردة، وهي تعطيني جسدها بسخاء المغلوبين على أمرهم، لا تقاومني إلا على نحو يفجر براكين الرغبة في داخلي، وقد بدأتْ تدرك رويدا رويدا توقيت اللحظة التي أكون فيها قاب قوسين أوأدنى من ذروة التحقق العليا، عندها فقط تفاجئني، وهي تدفع صدري عنها بعيدا، وثمة بريق مخيف يشع من داخل عينيها الغاضبتين. في مثل تلك الأحوال، أجلس على حافة السرير مطرقا، أنصت لصوت انفعالاتها الهادر بينما ترتدي ثيابها كيفما اتفق، أمسح غالبا بصاقها المشمئز من على وجهي وريقي جاف، أرقب عضوي الخاص وهو يتراخى إلى أن ينكمش تماما على نفسه مثل شيء بائس ملقى وحيدا في العراء، لكنها ما تلبث وأن تعود إلى الغرفة بعد فترة قد تطول أوتقصر، ترفع رأسي إليها بيدين مرتعشتين، تنظر إليَّ بعينين مليئتين بالدموع، ورائحة جسدها توقظ الرغبة في داخلي بعد موات.

أنت لا تريد أن تبرهن لي على حبك. لعلك تراني مجرد عاهرة. لدي مثل كل النساء أحلام. بيت وزوج أفاخر به في العلن وأطفال يشعرونني بأمومتي. هذا الخفاء والإحساس المزمن بسرقة الحب يميتني في اليوم ألف مرة. غدا، نذهب إلى الشهر العقاري في الحي السابع. نكتب عقد زواجنا. الحياة لن تتوقف لفاقة. أنا حزينة وأنت سيد مَن يعرف الحزن. لك أن تتخيل حين نذهب إلى اجتماع الخلية متماسكين متقاربين متحابين. حتى الآن، لا أدري من أي أنواع الحجر قد قُدَّ منه وقتها قلبي؟.

"الأنبياء وحدهم معدون لحمل الصليب في هذا العالم ولستُ منهم".

تلك العبارة الشاعرية اليتيمة الغامضة، رثيت بها مها الخاتم في نفسي، بعد أن أنبأني عادل سحلب آناء تلك الليلة بانتحارها المأساوي، لم أستجب لما حدث مثله. لا وقت للبكاء، تلك واحدة من تعاليم المنفى، وإن وُجِدَ وقت للبكاء، لا توجد يد تربت على الكتف حاملة العزاء والسلوى، لكن للبكاء وظائف أخرى في كتاب المنفى. أتذكرها خلال أيامي الأخيرة معها على أرض الكنانة. كان حزنها يشبه مطر المناطق الإستوائية إلى حد بعيد، تارة يندلق ثقيلا متواصلا، وتارة أخرى يُهمي خفيفا متباعدا، وفي كلتا الحالين لا تدري متى يبدأ أويتوقف، ولم يكن يعنيني منها سوى الهرب إليها فرارا من نفقات أعياد الميلاد الباهظة في عالم ظلت تجتاحه اللاءات من كل حدب وصوب، والمنفى تحكمه الحاجة لا القيم. كان الإقتراب منها في تلك الأيام أقرب إلى الإقتراب من شيء قابل للانفجار في أية لحظة.

ذات مرة، أخبرتني عبر الهاتف أنها تعد في شقتها احتفالا خاصا للمناسبة، بدا صوتها مشرقا مطهما بالدلال والإغواء، وسألتني وسط تلك اللحظة النادرة من الأمان الذي أتاحه لي القرب منها في الآونة الأخيرة: "لا بد أن لديك مفاجأة بالمناسبة كذلك"؟. أخبرتها "نعم". لكني بعد الإنتهاء من مكالمتها القصيرة شرعت أفكر لمعرفة تلك المناسبة بلا جدوى. كنت أعلم أن "لا" كفيلة بتبديل مشاعرها في أقل من ثانية واحدة من النقيض للنقيض. كانت مشرقة على غير عادتها أخيرا، شعرها مصفف بعناية فائقة، ترتدي فستان نوم أحمر بأكمام قصيرة، بدا على وجهها أنها أنفقت أمام المرآة وقتا طويلا لإخفاء أي أثر يدل على البثور التي أخذت تنتشر على وجهها بكثرة. كانت أضواء شمعتين ذهبيتين تُضفي على الصالة شيئا أقرب إلى لمسات الأحلام الحانية وثمة موسيقى خافتة تبثها "إذاعة البرنامج الثاني" ظلت تصدر من مكان ما أسفل نور الأباجورة الطولية الواقفة عند أحد الأركان كشاهد. على المنضدة المغطاة بمفرش بني فاتح ذي حواف جانبية مخرمة في شكل دوائر صغيرة متلاصقة لاحت بين الشمعتين تورتة بيضاء رُسم أعلاها بطبقة رفيعة من شوكولاته ذائبة قلب مخترق بسهم الحب وثمة كوبان مليئان بعصير البرتقال. قلت في نفسي لا يزال لها ذقن جميل. وسألتني إن كنت أعرف مناسبة الاحتفال.



يتبع:

Post: #359
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-16-2010, 07:57 AM
Parent: #358

في اليوم التالي مباشرة، منتصف نهار تلك الجمعة، بدا وكأننا على موعد، جاءت داخل رداء سابغ فضفاض، على رأسها طرحة، وجلست على الأرض إلى جواري قبالة ذلك القبر في هدوء شديد. قالت بصوت خافت إنها ظلت تهاتفني طوال الليلة الماضية و"هذا الصباح" لكن هاتفي ظلّ مغلقا "لا يرد". قالت "أنا آسفة". بعد قليل، أخرجتْ من شنطة يد سوداء مصحفا صغيرا وراحت تقرأ بعينين ملؤهما دموع. لم أعلق بشيء. بل لم أفه بكلمة واحدة. واصلتُ الاستغراق إلى القبر الحجري المصمت بعينين جافتين تماما. حاولتُ وقتها عبثا تذكر تلك المناسبة. كان عقلي صفحة بيضاء ورد فعلها فوريا مباغتا. لم أشعر سوى بقالب التورتة وهو يلتصق على وجهي بعنف وبكوبي عصير البرتقال وهما يفرغان على رأسي وقبضتي يديها وهما تتهاوان على جسمي كله بلا شفقة. حين غادرت شقتها، في حال يرثى لها، كانت هناك، على الأرض، تتلوى ويداها مضمومتان بين فخذيها وفمها يُزبد. "انظر"، تناهى صوتها وصوت شنطة اليد السوداء وهي تُفتح في آن واحد. أرتني خصلات شعر كثيرة قائلة إنها وجدتها على مخدتها هذا الصباح.

كيفية الهروب من كيان آدمي آئل للسقوط في أية ثانية. ذلك كل ما فكرتُ فيه لحظتها. بدأ الصمت الثقيل المطبق يلف المكان مرة أخرى. قالت قريبا لن تكون على رأسي شعرة واحدة. رأيتها تزحف نحو القبر ببطء. وضعت خصلات الشعر عند حوافه وعادت إلى مكانها. خيل لي لوهلة أنها تبكي في صمت. لم يطاوعني قلبي لمعاودة النظر إلى وجهها. نهضنا في وقت واحد بلا اتفاق وسرنا متباعدين صامتين والشمس تنحدر صوب مغيب شاحب. قلت في نفسي لو إنني فقط تذكرت أن يوم أمس قد صادف مرور ثلاث سنوات من علاقتنا معا.


يتبع:

Post: #360
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-16-2010, 09:04 AM
Parent: #359

أقف الآن على قمة جبل اللحظة الحاضرة. أحاول النظر إلى ما بعد الأجمة المنبسطة صوب السهل الواسع وعباب المحيط. لا أتعرف على ذاتي القديمة وراء ركام كل هذه السنوات. سوى ملامح غائمة تنحدر إليَّ أحيانا من خطاب صديق نسيت للأسف حتى ملامحه. "عزيزتي ليليان"، سألتني ذات وردية بعيدة "لماذا لم تقم حتى الآن بلم شمل أسرتك في كندا"؟. لكأني أقرأ وقتها من كتاب الحكمة "ليليان، عزيزتي ليليان، إذا لم يكن لدى المرء من الأسباب ما يجعله يغادر أرض أجداده، فلا يفعل". المنفى آكل الحواس. يبدأ بالنظر وينتهي باللمس.

ما يتبقى بعد ذلك، لا شيء.

قبل يومين، أثناء عملي الليليّ كحارس في وزارة الزراعة في "أتوا"، والساعة تشير إلى الرابعة صباحا، حدث أمر هزَّ كياني كله، كانت صورة العزيزة ليليان تتصدر كل الصحف اليومية.



يتبع:

Post: #361
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-16-2010, 06:19 PM
Parent: #301

نتابع

Post: #362
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-17-2010, 12:33 PM
Parent: #361

كانت صورة مها الخاتم تتراءى لي لسبب ما أثناء القراءة.

كانت رواية جميلة، للصديق "باولو كويلو"، تدعى "إحدى عشرة دقيقة"، وصورتها تبدو مثل صوت يُخاطبك وأنت على بعد ثانية واحدة من العطسة، لقد بدأتْ تستيقظ هذه الأيام وتطل بحزنها الأخرس من تحت جلدي كثيرا، مثل شيء مزعج، وددتُ لو أنه لم يعبر من سماء حياتي قطُّ، ولا أظن أن ذلك الشعور بالضيق مرده إلى مسألة تأنيب الضمير، قوانين المنفى في ذهني واضحة وقاطعة، وكانت هي تحمل فيروس الانهيار في جيناتها الوراثية منذ الولادة، العوامل الخارجية لا تفلح في غزونا إن لم نكن قابلين ذاتيا لذلك الغزو، لكنها ظلت تخترقني مثل وجه "لا أريد أن أتذكره" كلما أوغلتُ في القراءة.

"أتوق الى فهم الحب . أدرك شعورى بأنى كنت مفعمةً بالحياة حين أحببت. وأعرف أن كل ما أملكه الآن مهما يبدو مهما لا يلهب فى قلبى الحماسة . رغم أن هدفى يتمثل فى فهم الحب.. العذاب الذى عانيته على أيدى هؤلاء الذين سلمتهم قلبى.. فإن بإمكانى القول: إن هؤلاء الذين لامسوا روحى لم ينجحوا فى إيقاظ جسدى من كبوته، وإنَّ هؤلاء الذين لامسوا سطح جسدى لم ينجحوا فى بلوغ أعماق روحى".

حين وصلت إلى ذلك المقطع من يوميات بطلة الرواية، وهي في سن السابعة عشرة، وكانت تشير إلى الثانية بعد الظهر، رنَّ جرس الهاتف فجأة داخل حجرة نومي، فإذا بصوت "أماندا" يتناهى من على الجانب الآخر بعد فترة طويلة وممتدة من الغياب، لم تكن الأوضاع وقتها قد استقرت بيننا بعد، وكنت حانقا عليها بسبب تلك المواقف المتكررة. آخر مرة، غيَّرتُ جلدي كما يقولون لأجلها، لبستُ ما تريدني هي أن أكون عليه، تخلصتُ مرة واحدة وإلى الأبد من زيّ صحفي محترم بمقاييس القاهرة بعد سنوات عديدة من الألفة، حتى صرت موضوعا محببا للتندر وسط المنفيين الغرباء على مقاهي "بورتيج بليس"، هؤلاء قوم خلقهم الله غالبا من طينة التعليق على الأحداث لا صناعتها. وهناك، داخل النادي الليلي، ظلتْ تستنزف مواردي المالية المحدودة بلا مبالاة فتاة مستهترة، أصرف شقائي على كؤوسها وكؤوس صويحباتها بلا حساب، قبل أن تتركني في نهاية السهرة حائرا داخل تلك الملابس مثل قروي قام في زمان بعيد بشراء القصر الرئاسي مقابل عائد المحصول السنويّ برمته.

صيغٌ جديدة لنصبٍ قديم.




يتبع:

Post: #363
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-18-2010, 01:33 AM
Parent: #301

نتابع

Post: #364
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-18-2010, 07:35 AM
Parent: #363

قالت إنها تريد أن تراني على نحو ملح.

وسألتني:

- "ألا تفتقدني، وليم"؟.

- "بلى".

- "لا تقلق، سأحضر الآن، هذه المرة مختلفة، إنني جادة، أحبك".

- "ولكن..

- "ماذا"؟.

- "إنني مشغول الآن".

- "لا بد أن في الأمر فتاة أخرى، وليم"؟.

- "أبدا".

- "إذن سأحضر، كن في انتظاري، اتفقنا"؟.

- "لا، أرجوك، في يوم آخر، لا بد أن أنهي المكالمة الآن، أحبك"؟.

- "سأتصل مرة أخرى، وداعا".

- "وداعا".

كان اليوم الثالث في عطلة سنوية تمتد لعشرة أيام. لقد اخذت ساعات العمل الأساسية والإضافية معا الكثير من أحمال الحزن المتراكمة على كاهليَّ بمرور الأيام والسنوات. هكذا، بعد فترة طويلة، عادت ذكريات الماضي البعيد تهاجمني دفعة واحدة، ولم يكن ثمة من معين إلى جانبي، سوى النوم لساعات قليلة.. التفكير طويلا بلا جدوى في جدوى ما حدث هنا وهناك.. ما لا يحصى من أكواب القهوة السوداء المرة خلال النهار.. القراءة أحيانا.. وتجرع زجاجة ويسكي كاملة على مدى المساء والليل وساعات الصباح الأولى. لقد بدأت الشقة منذ نهاية يوم الاجازة الأول في التحول شيئا فشيئا إلى مقلب للقمامة. رائحة السجائر المحبوسة، أواني الطعام المتسخة وصلت حتى الحمام، أطفيء أعقاب السجائر على باطن حذائي البيتي السميك وأقذفها بحركة طفولية كيفما اتفق، قشر البصل متناثر على أرضية الصالة إلى جانب قشور خضروات أخرى، الملابس المؤجلة للغسيل منذ ثلاثة أسابيع تلوح أينما وقع البصر، لقد بدا المشهد برمته أشبة بعملية طقوس سحرية لتحضير روح شيطان رجمه نجمٌ منذ عهد عاد.

لقد لهثتُ وراء "أماندا" قرابة العامين. سلكت إليها سُبل الأولين والآخرين. كل حيلي بدت معها عديمة الجدوى. كانت في كل مرة تقترب بقدر يسمح لها بالهرب في أية لحظة. كاد ذلك يدفعني إلى الجنون لو لا ركوب العابرات أحيانا وإبقاء الأمل بالذهاب إلى الكنيسة أحيانا أخرى طمعا في مؤمنة تُعيد للمنفي الغريب ورعه وتقواه القديمة القديمة. أخيرا، وطنتُ نفسي على نسيانها. لكن الله هداها بالذات في هذا اليوم الذي وصلتُ فيه إلى نقطة اللا رغبة في كل شيء. حين أشارت عقارب الساعة إلى الثامنة مساء كانت "أماندا" قد هاتفتني بالحاح لأكثر من تسع مرات. لم أكن أرفع سماعة الهاتف. أترك الجرس يرن ويرن إلى أن أسمع صوتها وهي تترك رسائلها القلقة بعد الرد الآلي. كانت تقول عند بداية كل رسالة "أعلم أنك هناك، أجبني وليم، لن أيأس معك، ألا ترغب فيَّ"؟.

بعد الثامنة، أخذتْ تهب ريح عاتية، البرق يومض من آن لآن، المطر يتساقط بغزارة، يتوقف فجأة. لقد وقع المحظور حوالي التاسعة والنصف. كانت طرقاتها على باب الشقة تحمل تصميما غريبا. كانت مبتلة تماما من شعرها حتى أخمص قدميها وفي يدها حقيبة ملابس بنية صغيرة ومن داخل عينيها أخذ يومض حبّ أمومي غامض أقرب إلى الحنان لا يتناسب ورعشة متصلة ظلت تصدر لدقائق من شفتيها الرفيعتين، كانت أشبه بقارب إنقاذ صغير في يوم عاصف.



يتبع:

Post: #365
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 01-18-2010, 05:13 PM
Parent: #364


على سبيل الحب

Post: #366
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-18-2010, 08:01 PM
Parent: #365

بعد مكالمتها الأولى، فاتني أن أدرك الطريقة الغريبة التي تم من خلالها إعلان ذلك الحبّ. طريقة عصرية بحتة. سمّها إن شئت "الحاجة". لا حاجة الذرات الموجبة والسالبة نحو اندماجها لإحداث طاقة ما، هي التكامل أوالحبّ، بل حاجة الذرات السالبة والموجبة معا لحماية وجودها العقيم المنعزل داخل فضاء من العلاقات الهلاميّة.

كانت قد سبقتني إلى الحمام ريثما أنهي تسوية الفراش الذي بدا بعدها كحقيقة إنسانية وحيدة داخل معمل تحضير الشيطان المزري الذي تحولت إليه الشقة بين ليلة وضحاها. هناك بدت مرحة سعيدة وهي تحاول أسفل مياه الدش الدافئة صدَّ يدي المراوغة المتجهة لأول مرة نحو مناطقها الأكثر خصوصية. لقد أنعش ذلك شجرة الحياة التي ذوت في داخلي أوتكاد. أخيرا، أقبلت اللحظة التي حلمت بها طويلا، رأيتها على بعد خطوة، وهي تستلقي على الفراش مشرعة ساقيها، لكأنها أعدت بدورها للحظة نفسها وتهيأت منذ تعارفنا الأول، كان كيانها كله مخيّرا لإرادتي، وهو يكاد يضيئ داخل العتمة بنور ذاتي، لا تدري إن كان مصدره الروح أم شدة بياضها الحليبي؟.

بدأتُ ألاطفها بمخزون شوق دفين، الثوان والدقائق تمر، حرارة جسدها الفتي وصلت إلى أقصى درجاتها، لكن "موضوعي الخاص" لم يُحرّك ساكنا، حتى وهي تستلم دفة القيادة بحذق أنثى لا تعوزها الحيل، لقد ظلّ بكلمة واحدة "ميتا"، بكلمتين "ميتا تماما"، بعبارة حاسمة "ميتا تماما كخرقة بالية". لم تبعثه من موته الذي بدا أبديا حتى ذكريات الحرمان ولاءات الحاج إبراهيم العربي وحفل عيد الميلاد الدرامي. بدأت أفقد توازني واليأس يعصرني، وهي بدأت تغمض عينيها، لعلها تحاول أن تعيد لي هدوئي، لكن الدماء لم تتصاعد إلى عروقه بعد وأعصابه ظلت مرخية، لا يحسّ حتى بقُبلاتها الجنونية، كما لو أن ما يحدث أمرا أشبه بتقوقعه أثناء محادثة رجالية.

ما أخذ يضاعف من خيبة الأمل في داخلي، ليس لأنها المرة الأولى فحسب، ليس لأنها حدثت في أول لقاء لي بها على فراش، بل عظمة الاكتشاف في مثل ذلك الموقف وفداحة الحقيقة الماثلة قبالة كل ذلك العنفوان الأنثوي الموَّار: لم يعد "عضوي الخاص" صالحا للعمل مرة أخرى. قالت بعد أن استلقيت إلى جانبها مذهولا محطما مأخوذا بوقع المفاجأة وحدتها: "هذا أمر مرده الإرهاق ليس إلاّ". كنت أسمعها ساكنا مشلولا لا أقوى حتى على تحريك عينيّ الشاخصتين داخل العتمة كعينيّ ميت. في صبيحة اليوم التالي، دخلتُ على الطبيب بكل ذلك الفزع، سألني عن تاريخ العائلة المرضي، كشف على قلبي، طلب مني أن أسحب سروالي لأسفل، مرر يده مرارا خطفا على طول المنطقة الواصلة مابين الساق والحوض فجفلت، قال "أنت معافى، ذلك أمر يحدث أحيانا للرجال في مثل عمرك"، لكأنه أعطاني شهادة ميلاد رجولة جديدة. سألتني بعدها "أماندا"، وهي تراني أفتح باب الشقة سعيدا متحررا من كل تلك المخاوف، قائلة: "ماذا قال الطبيب"؟. قلت "لا شيء" وأنا أدفعها فجأة نحو السرير.

وقد كان.



يتبع:

Post: #367
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-19-2010, 00:10 AM
Parent: #366

Quote: على سبيل الحب



أم العيال:

شكرا للصبر على خيالات الكتابة وأوهامها التي لا تنتهي، يا لكِ من سيدة استثنائية، أحبك.

Post: #368
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-19-2010, 05:44 PM
Parent: #301

نتابع التدفق

Post: #369
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-19-2010, 09:26 PM
Parent: #368

حين التقيت عمر لأول مرة، بدت شعرات التدين قليلة متفرقة مثل أنجم بيضاء وسط ليل شعره الفاحم. يعمل في سلام بقاعدة اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ولآخرتك كأنك تموت غدا. ما إن يفرغ من "جيسكا" حتى يهرع إلى سبيل المصلاة وكأن عزرائيل في أعقابه. إلى حين تشتعل الرغبة بين سراويله مرة أخرى فيرى بعد مقاومة قصيرة أنه مجرد "عبد لله فقير وقع في فخاخ شيطان رجيم" وباب التوبة لا يزال مفتوحا على أية حال. شيئا فشيئا، بدت شعرات التسامح القليلة المتناثرة على رأسه مثل جواهر سوداء وُضِعت متفرقة داخل غرفة بيضاء مضاءة بقوة في مستشفى للأمراض العصابية.

كان عمر قد أعد نفسه وحساباته لسعادة أسرته في مهجره الجديد على نحو دقيق. لم يترك شاردة أوواردة وإلا أحصاها. لقد عزم منذ البداية على تعويض ما عانته أسرته بسبب من حرمان وفاقة وغيابه الطويل هو بالذات. كانت ثقته في الله كبيرة، وهو يسر لي قبل يومين فقط من وصول زوجته آمنة وبناته الثلاث هبة وإيمان وسلوى، قائلا إنه إذا حدث وأن "زنا" في الماضي تحت تأثير "شر الوسواس الخناس" إلا أن "الله غفور رحيم". كان يمتدح زوجته كثيرا، آنذاك تنفرج أساريره ويتهلل وجهه لذكرى وجه حبيبة لم يرها لسنوات طويلة، ولا ينسى في كل مرة أن يذكرني بعظمة "نسائنا المسلمات اللائي (لحكمة لا يعلمها إلا الله) يحفظن فروجهن حتى في حالة غياب أزواجهن لأكثر من نصف قرن". ربما لهذا ظل ينصحني على الدوام "لا تتزوج (يا حامد) إلا من مسلمة حتى ولو كانت صينية لا تعلم لغتها ولا تعلم لغتك طالما الدين واحد". لكنَّ شيئا واحدا أغفله عمر قد أحدث على صعيد حياته الخاصة دمارا هائلا.

ذات عصر بعيد، طرق عمر باب شقتي على نحو غير متوقع، كنا في داخل الصالة، أشارك "أماندا" على سبيل المجاملة فرحتها بزيارة صديقتها القديمة "جيسكا" بعد طول قطيعة. كانت "أماندا" لا تزال ترتدي بدلة رياضية زرقاء بعد حضورها ظهرا من مبارة كرة قدم وديّة مستاءة مما حدث هناك، قالت إن أغلب البنات كنّ في حالة من عدم التركيز والتوازن بعد أن أسرفن الليلة الماضية في الشراب وممارسة الحبّ. كانت "جيسكا" ترتدي بلوزة صيفية حمراء بالكاد تغطي أسفل سُرتها الغائرة وسروالا أبيض قصيرا للغاية وفي كامل أناقة بدت لي غريبة ومستعارة إلى حد بعيد ولم يبدُ لي أنها ترتدي مشدا يسند نهديها الصغيرين. بدا عمر داخل جلباب أبيض قصير وعمامة بدت مسدلة حول رأسه مثل طرحة. لم يكن عمر قد توهط على مقعده المنعزل داخل الصالة بعد، حين عالجته "جيسكا" بسؤال، وهي تحتمي بجهله الكامل باللغة الانجليزية، قائلة:

"هل أصبحت ل..وط..يّاً، يا أُومر"؟.

كنت قد جلست على الكنبة إلى جوار "أماندا" التي لا تزال تحمل شيئا من عمر في نفسها منذ أن تجاهل تحيتها له لحظة خروجنا من دكان الأثيوبي. قالت لي وقتها بكبرياء أنثوي جريح إن الشيء الوحيد الذي سيظلّ يربطها بعمر هو ذكرى أول لقاء لي بها. حين عاتبتُ عمر بعدها على هامش مناسبة للمنفيين الغرباء، ضرب يديه ببعضهما البعض، وهو يهز رأسه بدهشة، قائلا "يا حامد، حتى الفاجرات في هذه البلاد لهن مشاعر". كانت "جيسكا" تجلس إلى يسار "أماندا"، على مقعد هزّاز أمام إحدى النوافذ الزجاجية الواسعة، ومن ورائها بدت الشمس باسطة يدها في تكاسل على قمم المنازل القريبة، في حين جذب عمر مقعد سفرة جلدي أسود، وجلس قبالتنا أنا و"أماندا" أسفل لوحة صديقي فان جوخ "نجوم الليل"، ناظرا إلى اليسار في اتجاه الثلاجة في بلادة ووجوم، وقد خيل لي أنه يظن أن سؤال "جيسكا" له ليس سوى مواصلة لحديث سابق قطعه حضوره. فجأة سألني إن كانت "هذه الفاجرة" ويعني "جيسكا" تتحدث عنه. قلت "نعم" والحيرة والترقب يعصفان بدواخل "أماندا" خلف ملامحها الهادئة. "قالت شنو"؟. سألني وهو لا يزال يغض الطرف عنهما معا. قلت هي فقط تراك مكتئبا وتريد أن تعرف لماذا تغيرت في الآونة الأخيرة ولم تعد تسأل عنها؟. مثل عاهرة حقيقية، بدت "جيسكا"، وهي تطلق ضحكة ماجنة على حين غرة، بينما تمد نحوي سبابتها، قائلة "وليم، أنت تكذب، أنت غير أمين، ذلك ليس سؤالي".

في هذه اللحظة، جذبت "أماندا" صديقتها من يدها، وقادتها نحو حجرة المكتب في جلبة، قال "متى يتوب الله عليك، يا حامد"؟. قلت في سري "حين تموت براكين الشهوة في داخلي". قال وهو يقترب بمقعده قريبا مني "عندي مشكلة، يا أخي". أشعلتُ سيجارة، ورجعت بظهري للوراء، ومَن بدأ يشكو همومه الآن لم يكن عمر الداعية الذي سبق وأن زارني من قبل في صحبة السوري، كان نفس عمر القديم، يُعاقر الشيطان على خمر المعاصي تارة، ويبكي لله من خشية تارة أخرى، إنه الإنسان في قوته وضعفه وجماله الأبدي الذي لا ينتهي لحظة أن يشرع فقط في الحديث عن أشياء حقيقية تلامس عصب وجوده الحيّ.

بعد مغادرة عمر و"جيسكا"، بدأتْ "أماندا" في تجميع الأواني المتسخة ووضعها على حوض المطبخ تمهيدا لغسلها، لكنني أمسكتُ بها من الوراء فجأة، وحملتها وهي ترفس الهواء بقدميها محاولة التملص مني بلا جدوى، قمتُ بوضعها على منضدة السفرة، وبدأنا نمارس الحبّ هناك، وسط صرير الخشب وأنينه المتصل وتداعياته المحتملة بالسقوط في أية لحظة، وكأن الأحزان لا وجود لها. كانت تعشق مثل تلك المفاجآت. وكنت ألجأ لها فقط حين يتكاثف الحزن على قلبي ويصل تلك الدرجة القصوى التي لا تحتمل.





يتبع:

Post: #370
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-20-2010, 05:48 PM
Parent: #369

كنت مستلق إلى جوارها داخل غرفة النوم الغارقة في العتمة. نتجاذب حديثا ناعسا أيقظته ذكرى ما حدث عصرا بين "جيسكا" وعمر. فجأة، سألتني "وليم، ألا يزال أبواك على قيد الحياة"؟. قلت لها "ربما". ما أذكره الآن أنني افتقدتها خلال السنوات الأولى التي أعقبت رحيلي. أمي بكت لحظة الوداع. أبي قال لي عند باب الحوش "لا تدع الغربة تنسيك أهلك". كان شقيقي الوحيد لا يزال نائما لحظة أن غادرتهم في ذلك الصباح. بعد سنوات قليلة، علمت أنهم ساقوه إلى الحرب ومات هناك. لقد تعودت أن أعيش منذ وقت طويل بلا جذور. لا أحد يسألني من أين أتيت وإلى أين ذهبت؟. كنت أقاوم حنيني للإنتماء بالقراءة تارة، بالشراب تارة أخرى، وبالعمل من داخل أحد الأحزاب تارة ثالثة. أجعل من فان جوخ وموتسارت ورامبو أصدقاء في زمن قلّ فيه الوفاء أويكاد. أنسج علاقة أمومة وأبوة بيني وبين الأم تريزا وغاندي ومانديلا. تزوجت في خيالي ممثلات وعارضات أزياء لا حصر لهن. أقمت علاقة عمومة وخؤولة بيني وبين ميخائيل بولغاكوف وصادق هدايت ومعاوية محمد نور وكافكا وديستوفيسكي وفرانتز فانون وألتوسير والتجاني يوسف بشير وأمل دنقل ووليم فوكنر وماركيز وغيرهم. كنت أسترسل في حديث بدا لي تلك الليلة ذا شجون. ولم أنتبه إلى شخير "أماندا" وهو يتعالى منذ فترة.

"المسكينة"، لقد بدأتْ يومها بمباراة رياضية في كرة القدم.


يتبع:

Post: #371
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-20-2010, 07:25 PM
Parent: #370

كان على المائدة بيني وبينها، الفتوش، التبولة، أقراص من الكبة المقلية، سلطة البطاطا بالكزبرة الخضراء، ورق عنب محشو، باذنجان متبل بالطحينة، دجاج بالأرز، صيادية السمك بالأرز، وداوود باشا وأنواع أخرى من السلطة. ثم جييء إلينا بورد الشام ومربى البلح الطازج بالقريشة وشيئا من ليالي لبنان. حلويات ذات مذاق مدهش. كنا نأكل ببطء وتلذذ على أنغام فيروز الشجية الخافتة. كانت إضاءة المطعم حالمة، ستائر الواجهة الحمراء السميكة مسدلة، على الجدران المكسوة بورق برتقالي مقوّى ثمة لوحات لطبيعة صامتة تمثّل أنيات وخضروات وفواكه وزجاجات لشراب بألوان مختلفة. كنت أشعر كما لو أن المنفى لا وجود له. ولم يدر في ذهني وقتها أن ما يحدث داخل ما بدا لي نعيما سماويا ليس سوى البداية الحقيقية للمأساة. كان عليَّ أن أنتظر وقوع مثل تلك الخطوة لأكتشف خرائب قصوري الثورية.

يا لضياع عادل سحلب، يا حامد.





يتبع:

Post: #372
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: محمد عيد
Date: 01-20-2010, 07:52 PM
Parent: #371

اخى عبد الحميد ..

أتابع بحب عميق اندياق أحرفك الرائعة

وعباراتك التى تشحذ النفس ألقا وأملا ..

لا اريد اعتراض انسياب ابداعك .. .

ولكنى وددت فقط ان احييك .. واجدد شوقى وأشواق كل الزقازيقاب

وترقبهم لمرور محبب منك اليهم فى دارهم ...

Post: #373
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-21-2010, 06:37 AM
Parent: #372

Quote: ولكنى وددت فقط ان احييك .. واجدد شوقى وأشواق كل الزقازيقاب

وترقبهم لمرور محبب منك اليهم فى دارهم ...


محمد أخي:

شوق لكم ولتلك الأيام، لا يحد. أطالع حروفكم كل يوم عبر زيارتي الصامتة فأطالع عالما بأكمله سبق لي وأن عشته بكل تفاصيله اليومية الحميمة. رهبتان تقفان إلى الآن بيني وبين الكتابة في وعن (ناس الزقازيق): فرحة وجودكم إلى جانبي عبر كل هذا القرب بعد تسليم لقانون الأيام وتقلبات الزمن. تخيل -مثلا- لدي أحاديث كثيرة أختزنها لمجتبى فاروق وفجأة أراه أمامي ولا أعرف من أين أبدأ ما انقطع ذات مساء بعيد. كنا وقتها في شارع متسع بين بيت الطالبات والاتحاد ناحية مساكن الجامعة. بعد أن افترقنا ناديته وودعته مرة أخرى. ورهبة مطالعة آثار الزمن على وجوه أصدقائي وصديقاتي مثل ما تكشف لي حال ودالجعلي. ثمة وعد بحضور معلن وكتابة مطولة لحظة أن أفرغ من كتابين أعمل عليهما منذ فترة. شكرا لحضور دال.

Post: #374
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-21-2010, 08:55 AM
Parent: #373

كانت تفوح منها من آن لآن رائحة خفيفة من عطر يدعى "رُمبا". لم يكن التاريخ والمستقبل حاضران. وقد أصابني منها عدوى اللحظة وثمالتها. منذ أن صافحتها عند مدخل المطعم، بدا لي على خلفية مكالمتها التلفونية في الصباح وكأننا مقبلان على نهاية حياة وبداية حياة. لمسة يدها، شعرها الطليق، إيقاع نهديها عند الخطو، نبرتها، نظراتها الحالمة، كل ذلك وغيره، وشى لي آنذاك عن رغبتها الجارفة في التحليق عاليا تلك الليلة. بجرأة، عند منتصف الوجبة، وهي تضع عينيها الجميلتين داخل عينيّ، سألتني واضعة شرفي الثوري على محك التجربة إن كنت على استعداد للطيران إلى جانبها بعيدا بعيدا. لوهلة قصيرة، خيل لي أنني أسمع صوتا يتناهي من أعماقي القصيّة يخبرني أنني لا أملك الأجنحة الكافية للتحليق في فضاء أنثى مثلها تضع وجودها كله على كف المغامرة مدفوعة بمفاهيم غامضة عن الحرية والمساواة والعدل. كنت أنظر إلى مجرى نهديها الضيق العميق حين قلت "نعم". قالت وهي تهدهد مخاوفي الخفية إنني سأرى أن البستان لم يطأه من قبلي رجل. لعلي ظللت أسوقها في طريق الإيحاء لإتخاذ تلك الخطوة كما لو أن كل شيء يتم بإرادتها. الوقت يمر. للطعام شهية. فضاء الجذب بيني وبينها يتكاثف عبر ملايين الأمواج اللامرئية وللتأجيل إطالة أمد اللذة. وا.. أسفاه، يا حامد. جمال الأنثى يظل آسرا قويا، حين نتطلع إليه في الأعالي مدفوعين بحمى الرغبة وسعيرها، لكنه سرعان ما يبدأ في الذبول ويفقد بريقه شيئا فشيئا كلما زدنا من تملكنا له. اقترحتُ عليها أن نذهب إلى شقتي في ميدان المحكمة القريب بعربة أجرة. قالت تبرر رفضها إنها تفضل أن تسير بقدميها إلى جانب فارسها نحو أكثر لحظات الحبّ قداسة. كان الوقت على مشارف الغروب، حين بدأنا السير على الرصيف ببطء أسفل أشجار البونسوانا المتعاقبة، كانت تسند رأسها على كتفي وتلف يدها اليسرى حولي بيسر، بينما أحتويها من خصرها بيدي اليمنى. كنّا نتوغل على مدارج قرارنا بين جفن العالم ودهشته و"شرف المرأة في عقلها، لا بكارتها".


يتبع:

Post: #375
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-21-2010, 05:41 PM
Parent: #374

ألف مرحب أخى العزيز محمد عيد
وألف شكر
على المرور الجميل
تحياتى

Post: #376
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-21-2010, 08:13 PM
Parent: #375

في البدء، جذبني إليه حديثه في الندوات. وسيم يفيض جسده رجولة ظلت تخترقني كلما رأيته هنا وهناك. كل نظرة منه تفجِّر براكين الرغبة الكامنة في داخلي. أحادثه في العلن حول أمر عام. في الطريق، أكتشف أن صورته لا تغادر مركز تفكيري. أضع رأسي على المخدة. أتلهف لملاقاة حلم جميل ظلّ يتراءى لي أثناء النوم بنفس تفاصيله الحميمة. أرق وشعور قوي بصدى صوته المعدني وهو يداعب حلمة أذني. أحسّ بمرور الوقت بجوع هائل إليه. أريد فقط أن أبتلعه. مرة، جاء لتنويرنا في الخلية بأمر ما. صادف وأن جلس إلى جواري. كنت أنصت فقط إلى صوت جسمه الصامت. أثناء ذلك، لا مس ذراعي بحركة عفوية خطفا. لا، لم تكن مجرد ملامسة عابرة. كان الأمر أشبه بارتطام كتلة مشاعر هوت من فضاء إنساني بعيد. لعله أحسها بنفس العنفوان. لأنه صمت بعدها فجأة. وحدها هي الأشياء الباقية التي تستوقفنا على ذلك النحو. لحظتا الميلاد والموت. سحر معانقة أثر خالد. صارحته بحبي عبر الهاتف. كنت خائفة على كبرياء الأنوثة في داخلي. لم يطلب فسحة للتفكير. قال فقط إن جرأة مثل هذه وُجدت في قلب أنثى أمر يجعله يقابل مصاعب هذا العالم بإبتسامة. كانت كلماته كالعادة شاعرية ومثيرة ولكنها تعني هذه المرة أنه يبادلني حبا بحب. حين وضعتُ سماعة الهاتف، قفزت أرقص في الهواء فجأة، ولم يكن يبارح ذهني حتى خلال النوم سوى أمر واحد: التفكير في شعر صدره الكثيف. كنا نسترق في البداية القُبلات والأحضان. يحدث ذلك عند منتصف سلالم بناية غارقة في العتمة، حديقتي الميرلاند في مصر الجديدة والأسماك في المهندسين، على المقاعد الخلفية لقاعة سينما مظلمة. الحبّ حيوان هائل كلما أطعمته طلب المزيد. صحراء العشق عطش دائم. رواء ولا رواء. الرغبة الجارفة في ابتلاعه دفعة واحدة، لا تفارقني. عسى تسكن أسباب هواجس فقده الغامضة في داخلي. في ذلك الصباح، طلبت منه أن يحضر للغذاء في مطعم لبناني في مصر الجديدة بكامل أناقته. لم أعد أحتمل أكثر. كان قد استقر قراري بوضع حد لنقصان الحبّ. لم تعد تلك الملاطفات مجدية بين رجل وامرأة في سبيلهما إلى قلب نظام العالم. كنت أستعير كلماته للتفكير في حالتنا وقتذاك معا. أريد فقط أن أضع غشاء بكارتي أمام أطول الثوريين قامة على مائدة القيم والتقاليد الرثة. حاستي السادسة تخبرني أنه لن يخذلني. لو فعل لبكتْ شموع قلبي وسالت دموع كثيرة على خدود روحي المغدورة. كنت أسير إلى جواره مطمئنة ولحظة الاندماج الأبدي تقترب خطوة خطوة.

كانت مها الخاتم قد بدأت تنتعش إلى جواري شيئا بعد شيء، حتى أنني شرعت في تبديل خططي تجاهها في لحظة إشراق ثوري عابرة، كانت قد أتاحت لي في استراحات الفراش المستعر أن أطالع دفتر مذكراتها، لعلي أتفهم جراحات الماضي من قريب، لكن معاشرة الضحايا مدى العمر أمر أخذ يتعثر دائما بصخرة تعاليم المنفى القابعة في داخلي، كنت أستفيد من تلك "اليوميات" في ترميم ما أحدثه الزمن على جدران تلك الخطط الحصينة، كنت ممتنا في داخلي لله الذي أودع في دواخلنا "التفكير السري" والقدرة المتقنة لوضع "التعابير الزائفة" على وجوهنا. لكنّ تعبيرا مليئا بالمرارة قد استوقفني طويلا عند مطلع يومياتها:

"طريق الحبّ يقود أحيانا إلى كراهية العالم".




يتبع:

Post: #377
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-22-2010, 07:56 AM
Parent: #376

كانت تشير إلى الرابعة صباحا. منذ قليل، ألقى موزع الصحف الحزم المخصصة لوزارة الزراعة أمام الواجهة الرئيسية للمبنى. عليَّ أن أنقلها إلى الداخل ريثما يقوم الحرّاس في وردية الصباح بتوزيعها إلى أماكنها المخصصة داخل المبنى. يبدو دائما على عجلة من أمره. ملامحه لاتينية. في نحو الخامسة والأربعين تقريبا. له "فان" حمراء قديمة ماركة فورد. على مدى أربعة أشهر، هي مدة عملي كحارس ليلي في "أتوا"، لم تلتقِ عيني بعينه قطّ، يلقي فقط بحزم الصحف كمن يبصق في أعقاب نوبة سعال. قبل أن ينطلق بعيدا نحو مؤسسة حكومية أخرى.

زميلي "مايكل"، الحارس الليليّ الآخر الملازم، لا يزال يتفقد الطوابق العليا للمبنى، يقوم عادة بأعمال الدورية بوجه تلميذ مهمل في صباح يوم الامتحان. تواطوء مدهش نشأ بيننا بمرور الوقت. أخذْ أقساط من النوم بالتناوب أثناء الوردية. يحدث ذلك دائما بالتساوي كما لو أن اتفاقا يتم بيننا في كل مرة. في كندا، بدأت أدرك، بتراكم الخبرة في مجال الحراسات الخاصة، ألا أحد يسأل في الغالب عن كيفية آداء العمل طالما أن المهمة انتهت بسلام. لكن هذا صباح غريب تصدرت فيه صورة العزيزة "ليليان" الصفحات الأولى من الجرائد اليومية. "الصن"، "قلوب آند ميل"، "ناشونال بوست"، وغيرها. كنت ما بين مكذب ومصدق ودقات قلبي تتصاعد في عمق السكون بقوة. قالت "إنها تنتوي القيام برحلة حول العالم بصحبة ابنتها وحفيدتها الوحيدتين"، مؤكدة أنها قبل ذلك "ستشرع في شراء حذاء جديد وتناول وجبة متكاملة في مطعم (الكيج) الفاخر"، وأضافت من باب الوفاء لهواية قديمة أنها فور عودتها من تلك الرحلة "سأقوم بتكوين ورعاية فرقة موسيقية محلية سأطلق عليها اسم (البيتلز الثانية)". وفي سؤال حول إمكانية عودتها إلى عملها كحارسة "لم تعلق بشيء، فقط "ابتسمتْ". لقد فازت "العزيزة ليليان" وقتها بجائزة "اليانصيب القومي" في غفلة تاريخية من حرّاس الألم. سبعون مليون دولار كندي لا غير. هذا العالم فكرة مجنونة. ثمة شيء يمنعني الآن من فكرة الاتصال بها مرة أخرى.

"هذه كندا".

مجرد عبارة تتكون من كلمتين. بدت كفيلة بتشتيت شمل" آل عمر" وهدم وحدتهم الأسرية على نحو درامي. "هذه كندا". خيل لعمر في البداية أن الأمر لا يعدو أن يكون مزحة ثقيلة. "هذه كندا". بدأ الألم الصغير المحدود يتكشف عن سرطان مدمر. "هذه كندا". الحالة ميئوس منها تماما.

كان قد مضى على زوجته في مدارس تعليم الكبار نحو نصف العام تقريبا، حين سمعت بتلك العبارة لأول مرة، وعنّ لها أن تمارسها في البداية كتطبيق داخل البيت على أمر محدود، وقد كان. يومها سألها عمر كعادة روتينية تعود للوراء لأكثر من عقدين أن تعدّ له شايا. "هذه كندا". ذلك كل ما ناله من أمر الشاي. سألها بدهشة عن معنى ذلك. قالت من دون أن تحرّك ساكنا "هذه كندا، عليك من الآن أن تعتني بمثل هذه الصغائر بنفسك". أي دماء غلت في رأسه وقتها؟.

كل ما قامت به وهي تتحسس آثار أصابعه على وجهها المسخن أنها أخبرته أنه إذا مد يده عليها مرة أخرى سترمي به بمكالمة هاتفية داخل السجن مثل "كلب طيب". كان العالم قد أخذ بالفعل يميد تحت قدميه. حين كرر فعلته في مناسبة أخرى، بدأ يدرك وسط جدران السجن المقبضة ملامح الوجه الآخر لكندا، وقد رسخ في وعيه تماما مدى القوة الضاربة التي يمكن أن تنطوي عليها عبارة مؤلفة فقط من كلمتين.

"هذه كندا".

كنت مستلق وحيدا داخل غرفة النوم، تخلصت من معظم أثاث الشقة البسيط، وهبت بعضه ورميت ببعضه الآخر داخل صندوق حديدي كبير مخصص للقمامة والمخلفات الأخرى إلى يسار مدخل البناية الخلفي، لم يعد لدي الكثير على بعد نحو ثلاثة أيام من رحيلي إلى "أتوا". فجأة، رنّ جرس الهاتف. ترددت مسافة في رفع السماعة. كانت مكالمة من "كنترول" شركة أمن الحراسات الخاصة في مدينة "ادمنتون" عاصمة محافظة البرتا. طُلب مني أن أعمل خلال وردية الليل في مستشفى جامعية تدعى "مركز علوم الصحة" ناحية شارعي "نوتردام" و"شيربرووك". كنت قد أخبرتهم عن رغبتي الملحة للعمل ساعات إضافية في أي وقت وأي موقع إلى أن يحين موعد سفري المرتقب. كنت خائفا من الوقوع فريسة سائغة لأشباح الماضي. لم أعد أحتمل سماع المزيد من أصوات الذكريات الصادرة من غير مكان داخل الشقة. كل شبر يذكرني بشيء من "أماندا". للخيانة طعم العلقم. الآن فقط، بدأتُ أدرك هول ما دار داخل مها الخاتم من مرارة وغبن. شجاعتها، الشيء الوحيد الذي ينقصني في "هذه اللحظة". لا، الأمر ليس كذلك. الشيء الوحيد الذي ظلّ غائبا عن محيط تفكيرها حتى الممات هو الرغبة العميقة في تمعن ملامح وجه القبح بمتعة. الإشمئزاز يتيح للقبح وقتا لتبديل صورته المعتادة. لقد جنبني النظر بثبات وجرأة في التفاصيل الدقيقة لقسمات وجه القبح ولا يزال مسألة السقوط في براثن اليأس حتى النهاية.

كانت تشير إلى الحادية عشرة ليلا وثلاثين دقيقة بالتمام، حين تجاوزت البوابة الرئيسية للمستشفى، واتجهت إلى مكتب الأمن، حيث سيتم توجيهي برقم الوحدة والمهام المناطة بي خلال الوردية. هناك، طُلب مني أن أذهب إلى عنبر الأمراض العصبية والنفسية لمساعدتهم في السيطرة على بعض المرضى "الخطرين". لكأن المهنة ترغب في وداعي على نحو مختلف. كان قد جرى تدريبي في بداية الخدمة على السيطرة الجسدية على أفراد في حالة من "الهياج العصابي الحاد". لكنني لم أكن متأكدا تماما من مدى قدرتي على تنفيذ تلك الدروس النظرية في فن القتال على المستوى العملي التطبيقي. زاد من مخاوفي تلك، وأنا أقوم بتسجيل نفسي عند ديسك الاستقبال عند مدخل العنبر، أن ممرضة من أصل فلبيني أسرَّت لي أنني سأتعامل هذه الليلة مع "مريض شديد المراس". قالت "هو الآن في نوبة من الهدوء العميق الشامل بسبب الجرعة الكثيفة من الدواء". لعلها تمعن في تعذيبي من وراء لهجتها المناصحة في تعاطف "الأسبوع الماضي، أصاب أحد زملائك الحرّاس بلكمة على فكه الأسفل أسقطته أرضا بلا حراك، على كل حال خذ حذرك جيدا".

مرت الساعة الأولى من عمر الوردية في سلام. لم يحدث أمر ذو بال. الممرضة المسؤولة طلبت مني في البداية أن أجلس فقط على أحد المقاعد وأترقب. بعد منتصف الساعة الثانية من الوردية عنّ لي وقد هدأت مخاوفي أوتكاد أن أخرج من حقيبتي كتاب سلاطين باشا "السيف والنار في السودان"، وأبدأ في إعادة قراءة سيرة الأسير الغريب. ""وكان أخي هنري في الهرسك فقضيت ثمانية أيام في فينا أودع أفراد أسرتي ثم ذهبت إلى تريستا في 21 ديسمبر سنة 1878 وأنا أجهل تماما أنه سيمضي عليَّ 17 سنة أرى فيها الأهوال والغرائب قبل أن أرى بلادي ثانيا. وكان عمري إذ ذاك 22 سنة".

"وكانت جنود المهدي قد كثر عددها فكان العرض يحتاج إلى ميدان كبير جدا مفتوح مفتوح من ناحية واحدة يدخل منها المهدي ومعه صحابته. ويقول آخر إنه سمع أصواتا من السماء تبارك في أنصار المهدي وتعدهم بالنصر. بل بعضهم يقول ويؤكد أنه رأى الملائكة تبسط أجنحتها وتؤلف سحابة تقي الجيش وهج الشمس".

حين وصلت إلى نهاية تلك الفقرة من القراءة، حدث أمر غير عادي، ثمة أربعة أشخاص ضخام الجثة يقفون أمام ديسك الاستقبال في حالة تأهب، وقد تنادت أصوات من هنا وهناك، كان من بينها توجيه الأمر لي بالاستعداد. كنت أتوغل معهم صوب القسم الخاص من العنبر. غرف قليلة متقابلة في صدر بابها كوة زجاجية سميكة تسمح بمراقبة المريض داخل حجرته الخالية من أي أثاث أوفرش قد تساعده على إنهاء حياته في لحظة تدهور مباغت على صعيد حالته العصبية والنفسية. كانت الغرف مضاءة بقوة لسبب أوآخر. "إنه ذلك المريض". همست لي ذات الممرضة الفلبينية. كان بعضهم يحمل بعض الأدوية وكوبأ من الماء. لا أثر لضوضاء تتناهى من الداخل. كدتُ أسقط من الصدمة لحظة أن فُتح الباب. كان المريض هادئا تماما في تلك اللحظة. ينطوي على نفسه عند أحد الأركان البعيدة. بدا وكأنه لم يشعر بمقدمنا. لم يلتفتْ إلى وجودي بينهم حتى النهاية. أخذ منهم الأدوية في صمت وتناولها عن طواعية تامة. قال أحدهم "ولد طيب". كان ذلك المريض عمر.

حوالي الثامنة صباحا، حضر الحارس البديل، تمنيتُ له وردية خالية من المصاعب، قال كمن يتأكد من صحة أمر تم توضيحه له من قبل بعناية تامة "يقال إنه خطير للغاية، لكم أكره العمل هنا، هل هو خطير بالفعل"؟. قبل أن أتفوه بشيء، بدا لي وكأن صوتا مكتوما أشبه بصرخة الموت أوالحياة يتناهى من داخل غرفة عمر، قائلا بلغة عربية فصيحة:

"هذه كندا".






يتبع، أوعلى مشارف نهاية هذه المسودة الأولية للرواية:

Post: #379
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-23-2010, 08:30 AM
Parent: #377

نشأتُ في بيئة قيل عنها إنها تجمع في آن واحد ما بين "قساوة المدن وجلافة الريف".

يا للعبارة؟.

ربما لهذا بدأت أفكر على مشارف الأربعين في ضرورة أن أزن كلماتي جيدا إذا ما أردت مواصلة العيش بسلام في هذا العالم. قرأت في مكان ما أن الكلمة إذا خرجت من فم صاحبها "لا سبيل إلى رجوعها". لعل كل ما تبقى لدي الآن من تراث الأمومة مجرد عبارة لم أفهم مغزاها إلا مؤخرا "الكلمة أطول من العمر، يا ولدي". الكلمة الكلمة. يتلفظها الإنسان، أويكتبها، ثم ما تلبث أن تستقل بذاتها، تحيا في ذاتها ولذاتها، وتظل أحيانا تثرثر لقرون حتى بعد موت صاحبها وفنائه. الكلمة خالق ومخلوق في آن. الشاهد الوحيد الذي لا تعلو وجهه التجاعيد. المحيطات تنوء بحمل مليارات السنوات، الجبال ترهق كاهليها خبرات البشر المتراكمة عبر التاريخ، لكن الكلمة وحدها كفيلة بحمل كل هذا العناء، ولا شكاية، أوتذمر. لعلي سأشعر ببعض الراحة إذا ما قمت في يوم من الأيام بوضع بعض أحمال هذا المنفى على وعاء الكلمة العتيق.

لم يتبق الكثير على الوصول إلى شقتي في أنحاء وسط المدينة. كنت ممتنا لهما على رؤية الوجه الآخر للشتاء في كندا. كان "جيف" يقود بحرص وحذر. "دون فيشر" أنهتْ للتو سرد ذكريات بعيدة عن متعة التزحلق على سطح البحيرات المتجمدة خلال شهري يناير وفبرائر. لم يبدُ من نبرة صوتها أنها تأثرت بقصة زوجها لحظة أن غادرنا حيّ الأغنياء عن هويته كرجل ظلّ يعيش كل هذه السنوات وهو يجهل تماما وجود أبيه الحقيقي في هذا العالم. حين تمدد الصمت قليلا، سألتهما "هل لديكما أطفال"؟.

كان جيف في منتصف العقد الرابع من عمره تقريبا. كانت "دون فيشر" في تلك السنّ التي يلتبث على المرء فيها تحديد مدى قدرتها على الانجاب بعد. لو أن تلك الكلمة شيئا ملموسا لقفزتُ ألتقطها قبل أن تطرق آذانهما القريبة. كان "جيف" غارقا أمامي في الصمت كما لو أنه لم يسمع شيئا. على ضوء مصابيح سيارة قادمة من الاتجاه المقابل، إلى يسار مقعد "جيف" وراء عجلة القيادة، أخذ يرتجف جانب وجه "دون فيشر" للحظات، قبل أن تجيبني بصوت مختنق "ليس لدينا أطفال، يا هميد". بعدها ساد صمت ثقيل ومطبق بدا لي خلاله أنني أفسدت بسؤال أخرق ما يقومان به تجاهي منذ فترة. لكأني من غير عمد نقلتُ أحزاني إليهما. ذلك شعور مقيت.


يتبع:

Post: #380
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: elham ahmed
Date: 01-23-2010, 04:03 PM
Parent: #379

ابوالعيال
متابعة

Post: #381
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-24-2010, 07:01 AM
Parent: #380

تمنيا لي ليلة سعيدة.

بعد أيام، اعتذرت له أثناء وردية جمعتنا معا. قال "لا عليك، أعرف أنك طرحت سؤالك بنوع من البراءة، لكنه جدد تلك المعاناة في نفسها، لقد ظلتْ تلح عليَّ بضرورة تبني طفل لأكثر من عقد، لكن المشكلة بالنسبة لي في الطفل نفسه عندما يكبر ويعي حقيقته. قد يسخط على أبويه الواقعيين. قد يصاب تجاهنا فجأة بالنفور كتعبير عن صدمته أن ما ظلّ يعتبره طوال سنوات عديدة أبا وأما أسفر عن شيء آخر. لقد عشت تلك المأساة بأدق تفاصيلها ولا أريد لشخص آخر أن يعايشها على يدي". كنت أنصت لوقع كلمات "جيف" وثمة شعور يتنامى في داخلي شيئا فشيئا بالرثاء تجاهه وتجاه "دون فيشر" ومها الخاتم وعادل سحلب وياسر كوكو وتجاهي.

كان الصباح صحوا وجميلا خارج المستشفى. "هذه كندا". بعد أيام سينتشر نبأ مصاب عمر وسط مجالس المنفيين الغرباء العطشى لأخبار الكوارث، أوالسقوط. كان النعاس قد بدأ يثقل رأسي داخل البص. كان وجها "جيف" وزوجته "دون فيشر" يطلا من نافذة ذاكرتي المتعبة مثل نغمتين منسيتين من نشيد الأسى. لسبب ما، بدأت أتذكر قصة للكاتب "كارلوس فونتيس"، الأب الروحي لماركيز، كان عنوانها على ما أتذكر "قل لهم ألا يقتلوني"، قال الإبن لقاتل أبيه بعد أن عثر عليه أخيرا "كنا وقتها صغارا، لهذا لم يخبروننا بما حدث له، بيد أننا لم نكف نسأل عنه لسنوات طويلة، وليس من العدل أن نعلم في عمر متقدم أن ما كنا نبحث عنه طوال هذه المدة لم يكن له من وجود".

كانت الطريق الساحلية إلى "أتوا" طويلة وفاتنة، اثنتان وثلاثون ساعة، تم تبديل البص خلالها ثلاث مرات أوأكثر، فقد كنت أسافر وقتها بلا مشاعر، ولم تفلح محاولاتي العديدة لملء ذلك الفراغ في داخلي، على الرغم من أن مرأى البحيرات في أوقات مختلفة ظلّ يغريني على نحو غامض من حين لآخر، لعلها الرغبة الثاوية في الانتحار، لعلها الحاجة الماسة إلى التطهر وطي صفحة الماضي مرة واحدة وإلى الأبد.

خلال الأيام الأولى، بدا لي العيش في "أتوا" أشبه بالحياة وسط غابة على درجة عالية من الإتقان أوالتنظيم. منازل بحدائق على أحدث طُرز مختفية بين أشجار شديدة الخضرة وارفة، مصابيح تشرئب من داخل الأغصان كثمار مضيئة، نسائم تهب بلطف حاملة ألحان عصافير وهي تصافح الآذان كيد أم تمسح بحنو على شعر طفل وليد، وجوه فتيات جميلات يبتسمن في سيرهن الواثق المرح، سماء معطاءة، رعد أصمّ يذكرك بين الحين والحين أن الهدوء نعمة وسكينة، لا شيء يعكّر صفو الفردوس، سوى الذكريات، أو الحنين.



يتبع:

Post: #382
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-24-2010, 08:33 AM
Parent: #381

Quote: ابوالعيال
متابعة


أم العيال:

أتابع معك، مع عثمان أخي، ومع آخرين، مشارف نهاية هذه المسودة الأولية، أحبك.

Post: #383
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-24-2010, 04:23 PM
Parent: #301

نتابع

Post: #384
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-24-2010, 10:23 PM
Parent: #383

ليس هناك وسادة يضع عليها المنفي الغريب رأسه، سوى أقدام القلق وطريق الريح الباردة، وهذا الذي بدا للوهلة الأولى بيتا ومأوى، قد تكشف مع مرور الوقت عن وجه آخر للخواء والعدم. "يا لغربة بورخيس. سافر عبر بحار اختلفت من العالم ورأى أشياء رآها الناس". لكنه أبدا يتذكر وجه فتاة من بيونس إيرس. "وجه لا يريدك أن تتذكره". كان في وعي "أماندا" منذ البداية أن تقودني ببطء وحذق أنثوى إلى نقطة القبول بلا خيار طوعي آخر متاح، على الرغم من تلك العلامات التي أخفاه عن ناظريّ كل ذلك الظمأ المقيم للحبّ أوالإنتماء. هكذا، مرة أخرى، رحتُ أبحث عن عزاء مستحيل على مدارج العبارات، متغنيّا هذه المرة في ظلمة اللوعة وفداحتها برثاء بورخيس لبورخيس.

حين عدتُ من الطبيب، لم يفتني وأنا أدفع بها نحو السرير ملاحظة أنها قامت بقلب الشقة في غيابي رأسا على عقب، لقد بدا كل شيء مرتبا نظيفا موسوما بلمسة أنثوية، وقد تم إعداده وتهيئته لحياة مستقرة مشتركة طويلة الأمد، حتى أنني بدأتُ أفكر أن كل تلك العذابات المتولدة في الماضي جراء اللهث وراءها لمدى العامين تقريبا بلا طائل لم تكن سوى أضغاث أحلام. كانت لا تزال مغمورة بالعرق، تفوح منها رائحة المطهرات القوية وصابون تنظيف الأواني ذو رائحة البرتقال الأسيرة لنفسي، حين وصلنا للذروة معا وغفلنا راجعين بشعور طفلين متعبين، بينما غرفة النوم بنافذتيها الزجاجيتين الكبيرتين الخاليتين من الستائر غارقة تماما في ضوء ما قبل الظهيرة الحاد القويّ.

ونحن راقدين على جنبتينا، واضعين رأسينا على راحتينا، ناظرين إلى بعضنا البعض عبر تلك المسافة القصيرة القصيرة، بدأتْ دموع "أماندا" تسيل فجأة، رأيتها تنحدر سريعا نحو كفها، قبل أن تنزلق صوب الفراش المعجون بلا صوت. ولأنني لم أعرف في الماضي، وحتى تلك اللحظة، سوى دموع الفراق والألم الكثيف، أحسستُ بقلبي يسقط صوب هوّة بلا قاع. لعلها أدركتْ مدى ما أحدثته دموعها في داخلي، حين ضحكتْ على حين غرة، قائلة "وليم؟، إنها دموع الغبطة".

لكنَّ لمها الخاتم دموع أخرى.

لقد بدا الأمر لها عند نهاية اللقاء الأول المكتمل في صورة نظرة لها ملامح البذرة وُضِعت على تربة الملاحظة على نحو غامض. ثمة إحساس بدأ يكبر ويكبر مع مرور الوقت في داخلها. الرجل الذي حلّق معها قبل ساعات قليلة داخل المطعم اللبناني في سماوات بعيدة، بدتْ لغته الجسدية غريبة وغير مألوفة تماما في دنيا أحلامها الوردية النقيّة كدمعة، لقد بدا سقوطه داخل أول نظرة لها بعد أن فرغ مدويّا، وقد هوى من كل ذلك العلو دفعة واحدة. لقد بدأ يتغلغل بعدها ذلك الإحساس في أعقاب كل ممارسة بينهما. لقد بكتْ وهي تشهده على دماء عذريتها. لم تكن تنظر لحظتها إليه. لقد فعلت ذلك لحظة أن وصل إلى قمة اللذة وحيدا. لم تكن بحاجة ثانية لذلك. لأن جسده قال وأوجز. كان جسدها يتحدث لغة وجسده يتحدث لغة أخرى. لجسده روح صيّاد، أحكم قبضته على فريسة أخذتْ تتهادى نحو فخاخه المخبوءة بطمأنينة، لكأن ذلك حدث عند بدء الخليقة، حين لم تحكم الريبة بعد قانون العلاقة ما بين الصيّاد والفريسة. لجسدها روح بحث دائم متصل عن المشاركة في أرقى معانيها. وهما يسيران أسفل أشجار البونسوانا بزهورها الحمراء الآسرة، أخذتْ الطريق إلى شقته في ميدان المحكمة القريب تبدو لعينيها كمسار تصاعدي صوب الحرية، حتى أن أصوات التقاليد التي أخذت تتناهى إليها في شكل مخاوف غامضة بعد أن رأته يسقط داخل نظرته بدتْ لها مثل توابل فاتحة للشهية عند محراب الحبّ المختلس، لقد كانت ترفض التسليم منذ الوهلة الأولى بحقيقة ما شعرتْ وأحسَّت به. لكنّ الأمر اتخذ مسارا آخر، لحظة أن بدأتْ تلك الأصوات تتكشف لها عن أشياء يدعونها أحيانا "الحقيقة بلا رتوش". تلك كانت الخطى الأولى على طريق الانتحار.


يتبع:

Post: #385
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-25-2010, 04:56 PM
Parent: #384


ليس هناك وسادة يضع عليها المنفي الغريب رأسه، سوى أقدام القلق وطريق الريح الباردة، وهذا الذي بدا للوهلة الأولى بيتا ومأوى، قد تكشف مع مرور الوقت عن وجه آخر للخواء والعدم. "يا لغربة بورخيس. سافر عبر بحار اختلفت من العالم ورأى أشياء رآها الناس". لكنه أبدا يتذكر وجه فتاة من بيونس إيرس. "وجه لا يريدك أن تتذكره". كان في وعي "أماندا" منذ البداية أن تقودني ببطء وحذق أنثوى إلى نقطة القبول بلا خيار طوعي آخر متاح، على الرغم من تلك العلامات التي أخفاه عن ناظريّ كل ذلك الظمأ المقيم للحبّ أوالإنتماء. هكذا، مرة أخرى، رحتُ أبحث عن عزاء مستحيل على مدارج العبارات، متغنيّا هذه المرة في ظلمة اللوعة وفداحتها برثاء بورخيس لبورخيس.

حين عدتُ من الطبيب، لم يفتني وأنا أدفع بها نحو السرير ملاحظة أنها قامت بقلب الشقة في غيابي رأسا على عقب، لقد بدا كل شيء مرتبا نظيفا موسوما بلمسة أنثوية، وقد تم إعداده وتهيئته لحياة مستقرة مشتركة طويلة الأمد، حتى أنني بدأتُ أفكر أن كل تلك العذابات المتولدة في الماضي جراء اللهث وراءها لمدى العامين تقريبا بلا طائل لم تكن سوى أضغاث أحلام. كانت لا تزال مغمورة بالعرق، تفوح منها رائحة المطهرات القوية وصابون تنظيف الأواني ذو رائحة البرتقال الأسيرة لنفسي، حين وصلنا للذروة معا وغفلنا راجعين بشعور طفلين متعبين، بينما غرفة النوم بنافذتيها الزجاجيتين الكبيرتين الخاليتين من الستائر غارقة تماما في ضوء ما قبل الظهيرة الحاد القويّ.

ونحن راقدين على جنبتينا، واضعين رأسينا على راحتينا، ناظرين إلى بعضنا البعض عبر تلك المسافة القصيرة القصيرة، بدأتْ دموع "أماندا" تسيل فجأة، رأيتها تنحدر سريعا نحو كفها، قبل أن تنزلق صوب الفراش المعجون بلا صوت. ولأنني لم أعرف في الماضي، وحتى تلك اللحظة، سوى دموع الفراق والألم الكثيف، أحسستُ بقلبي يسقط صوب هوّة بلا قاع. لعلها أدركتْ مدى ما أحدثته دموعها في داخلي، حين ضحكتْ على حين غرة، قائلة "وليم؟، إنها دموع الغبطة".

لكنَّ لمها الخاتم دموع أخرى.

لقد بدا الأمر لها عند نهاية اللقاء الأول المكتمل في صورة نظرة لها ملامح البذرة وُضِعت على تربة الملاحظة على نحو غامض. ثمة إحساس بدأ يكبر ويكبر مع مرور الوقت في داخلها. الرجل الذي حلّق معها قبل ساعات قليلة داخل المطعم اللبناني في سماوات بعيدة، بدتْ لغته الجسدية غريبة وغير مألوفة تماما في دنيا أحلامها الوردية النقيّة كدمعة، لقد بدا سقوطه داخل أول نظرة لها بعد أن فرغ مدويّا، وقد هوى من كل ذلك العلو دفعة واحدة. لقد بدأ يتغلغل بعدها ذلك الإحساس في أعقاب كل ممارسة بينهما. لقد بكتْ وهي تشهده على دماء عذريتها. لم تكن تنظر لحظتها إليه. لقد فعلت ذلك لحظة أن وصل إلى قمة اللذة وحيدا. لم تكن بحاجة ثانية لذلك. لأن جسده قال وأوجز. كان جسدها يتحدث لغة وجسده يتحدث لغة أخرى. لجسده روح صيّاد، أحكم قبضته على فريسة أخذتْ تتهادى نحو فخاخه المخبوءة بطمأنينة، لكأن ذلك حدث عند بدء الخليقة، حين لم تحكم الريبة بعد قانون العلاقة ما بين الصيّاد والفريسة. لجسدها روح بحث دائم متصل عن المشاركة في أرقى معانيها. وهما يسيران أسفل أشجار البونسوانا بزهورها الحمراء الآسرة، أخذتْ الطريق إلى شقته في ميدان المحكمة القريب تبدو لعينيها كمسار تصاعدي صوب الحرية، حتى أن أصوات التقاليد التي أخذت تتناهى إليها في شكل مخاوف غامضة بعد أن رأته يسقط داخل نظرته بدتْ لها مثل توابل فاتحة للشهية عند محراب الحبّ المختلس، لقد كانت ترفض التسليم منذ الوهلة الأولى بحقيقة ما شعرتْ وأحسَّت به. لكنّ الأمر اتخذ مسارا آخر، لحظة أن بدأتْ تلك الأصوات تتكشف لها عن أشياء يدعونها أحيانا "الحقيقة بلا رتوش". تلك كانت الخطى الأولى على طريق الانتحار.

( نتابع التدفق )

Post: #386
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-25-2010, 07:02 PM
Parent: #385

لسبب ما، بدا الغروب وراء النافذتين الزجاجيتين الواسعتين مخمليا، حين استيقظت من نومي، مطهما بالحضور الكليّ لها. "أماندا أماندا"، لم تكن تعي دلالة اسمها، لقد هزت آنذاك كتفها بلا اكتراث، لعل ما أثارها أكثر كان سؤالي نفسه. يقال إن "الأصل لاتيني ويعني قيمة الحب أوالشيء النفيس". أحيانا، يحدث مثل هذا. نتقبل الأشياء اللصيقة بنا كما هي. محاولة معرفة الأشياء اليومية في حضورها الدائم الحميم، هي مسألة لا تحجبها العادة وتقصيها خارج دائرة التفكير فحسب، بل الشعور الدفين أن مجرد التعامل معها كموضوع للمعرفة يعني فقدانها لمعناها الكليّ في حياتنا، إنها انفصلت عن ذواتنا بدرجة أوأخرى، وجودها إذن عرضة للزوال في أية لحظة حين لم يعد مطابقا لوجودنا، التفكير في الشيء يتطلب قيام قدر من المسافة بيننا وبينه، ربما لهذا يتقبل أهلنا العطايا من الأقربين كأمر مسلّم به، لأن الأصل واحد، تقديم الشكر في هذه الحال يعني الانفصال.. وجود المسافة.. أوفقدان الواهب بسبب الموت، أوالرحيل.

داخل العتمة، مددتُ يدي اليمنى، أخذت أتحسس مكانها، بدا باردا خاليا من الدفء، لا بد أنها نهضتْ من النوم قبل فترة، كان صوتها يتناهى من ناحية الصالة والمطبخ عبر الطرقة الصغيرة الضيقة خافتا مدندنا بلحن خفيف من أغاني تلك الأيام العابرة. في اتجاه الحمام، بعد الخطى الأولى، بدا وكأن شيئا غريبا قد طرأ على مشيتي، لقد أخذ يتضاعف إحساسي بالأرض، كما لو أني ظللت أمشي قبلها لسنوات طويلة خارج قانون الجاذبية. كانت لا تزال تدندن، حين عدتُ إلى غرفة النوم بهدوء وصمت، وشرعت أتمشي حول السرير حافيا بلا هدف، سوى التمتع بثقل الأرض، لا بد أن حواسي الضائعة قد عادت إليَّ مجتمعة خلال ذلك المساء.

إنه الحبّ.

لا بد أنني كنت أسيرا وقتها لبقايا وحدتي القديمة، حين أغلقت باب الحمام ورائي، وجلستُ على مقعد المرحاض وفق عادة عريقة، متأمّلا على غير المتوقع بعض التفاصيل الحزينة. لكنها فتحتْ الباب فجأة. كانت تقف داخل فراغ الباب مبتسمة. قالت "أراك نمت مثل قتيل". انتبهتُ تماما لها. وقد شعرتُ في داخلي ببعض الخجل جراء استسلامي بغتة لمشاعر قاتمة في لحظة "أشرقت خلالها شمس الحب"، كما يقولون في مثل هذه المواقف عادة. قالت إنها تنتظرني بالأكل. كان يفوح منها عطر خفيف وبدت جميلة داخل روبها البنبي. رأيتها وهي تستدير، تسير بخطى خفيفة كخطى عصفورة مرحة عبر الطرقة المفروشة بسجادة فارسية داكنة، قبل أن تتوارى داخل المطبخ والصالة. قلت في نفسي "يلزمني وقت طويل للتخلص من عادات الماضي السيئة".

لا، لم يكن حبا، كان شيئا آخر مثل الحاجة، أوالتداوي بأية أنثى تعيد للمنفي الغريب حواسه المتآكلة منذ وقت بعيد. ذلك ما أخذت أدركه صبيحة ليلة الخيانة داخل شقتي نفسها. وقتها، لم تجتاحني ثورة الأعماق، لم أطلب ثأرا من غريمي الماثل بين يدي، لم أقدم دم العاهرة على مذبح الغيرة الجريحة، كل ما فعلته وقلته ساعتها ظلّ يؤكد لي وجود الحقيقة الوحيدة القابعة داخلي كمشاعر بطل معتزل: إنني متُّ منذ اللحظة التي غادرت فيها الوطن. وما حدث بعد ذلك لم يكن سوى تقلبات الكائن المختلفة على مدارات الحنين، أوالذكريات.



يتبع:

Post: #387
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-26-2010, 09:22 AM
Parent: #386

news080406_4_g.jpg Hosting at Sudaneseonline.com




"هل الطريق إلى البيت أجمل من البيت"؟.








يتبع:

Post: #388
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-26-2010, 04:20 PM
Parent: #301

نتابع

Post: #389
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-28-2010, 01:16 PM
Parent: #388

عثمان أخي والأصدقاء والصديقات هنا وهناك: أعتذر من غياب بسبب مرض عابر ألم بالولدين أنيس ومحمد تباعا. مودتي. وعودة على مشارف نهاية هذه المسودة الأولية (أسير العبارة):

Post: #390
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-28-2010, 07:45 PM
Parent: #389

كان له سمت داعر محترف. أسود البشرة، طويل القامة، في نحافته شيء من تواريخ الفقر المدقعة وراء البحار. ممدد على ذات الكنبة التي ظللنا نمارس عليها الحبّ من وقت لآخر. الصالة في هدوئها يغمرها ضوء الصباح المتأخر الكثيف. بدا حتى في نومته تلك واثقا جريئا غير هيّاب، أولا مبال. لا بد أن لديه وقت كاف الليلة الماضية لخلع ملابسه وارتدائها على نحو لم يفقده أناقته بعد. كنت أراه لأول مرة، كان يراني ولا ريب للمرة الأولى كذلك، حين فتح احدى عينيه، قبل أن يواصل نومته المطمئنة، وكأن شيئا لم يكن. لم ينسني هول الصدمة أن أرد على تحيته العسكرية الصامتة بإيماءة خفيفة من رأسي.

يا للسخرية، قمتا الوقاحة والتهذيب في موقف لا يحتمل النقائض.

أنتبه الآن فقط إلى خطورة اللغات الأخرى في هذا العالم، فأنتبه إلى تلك الرواية التي تمت صياغتها في السابق عبر لغة الإشارة بين "جيسكا" وعمر، لقد بدت لي ساذجة وقتها ومثيرة للضحك، شأن بدايات الكثير من الأشياء التي قلبت نظام حياتنا تاليا رأسا على عقب، وهذا جلد الذات بعينه. لا، لم أرفض تلك الرواية لغرابتها فحسب، لم أصدقها فقط لأنها حكاية طرفاها يجهلان لغة التخاطب في ما بينهما كتابة وحديثا وقراءة. لقد قمت آنذاك بدفنها حالا في مقبرة الطرفة لا أكثر، لأنني أحبتت "أماندا"، أوهكذا خيل لي، لقد صارت جزءا مني، وكان من الصعوبة بالنسبة لي أن أخرج من مرآة ذاتي لأرى صورة أخرى لا أريد أن أراها، لقد كان قبول تلك الرواية بمثابة وأد تلك الأحلام المتعلقة بها كوطن بديل في مهدها، الأرض والمرأة والحياة سواء في كتاب المنفي الغريب.

تركتُه يواصل نومته المطمئنة لدقيقة أوأكثر. العاهرة، ضاجعته في الصالة أثناء نومي المخمور، ثم انسلت إلى جواري عارية تماما، ربما قامتْ بمغادرته وهو يتأهب للمغادرة بعد أن أخفتْ آثار جريمتها على عجل، لكنه لا يزال هناك بأمر سلطان النوم وأمير الوقاحة، لقد اختفت القاتلة وأدوات الجريمة وأطلت الجثة في الصباح على غريمها ممددا على كنبة الحبّ كدليل إدانة وشاهد اثبات لا تخطئه عين.

ثمة علامات عديدة، أثناء تلك العلاقة، أخذت تدلني من حين لآخر على نهاية الطريق، لكنه عماء الحاجة الذي لا يرحم إلى مستقر يحط عليه المنفي الغريب رحاله. غضضتُ الطرف عن عزوفها النهائي عن العمل أوالدراسة. في الآونة الأخيرة، وقد استنزفتْ مواردي المادية الشحيحة أوتكاد، بدأت تحدثني بشيء من الحنين عن مغامراتها السابقة كتاجرة مخدرات صغيرة، لقد أخذتُ أفكر تحت تلك التأثيرات والإيحاءات العديدة في حاجة المنفيين الغرباء بأعدادهم المتزايدة بمرور الوقت إلى ما سيُذهب الحنين من صدورهم، كما لو أنهم لم يغادروا الوطن لحظة، لقد بدت لي سوقا رائجة ولا مراء.




يتبع:

Post: #391
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-28-2010, 08:09 PM
Parent: #390

ألف ألف سلامة .
كثير محبتى أنيس ومحمد

Post: #392
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-29-2010, 07:56 AM
Parent: #391

إلى نهاية هذه المسودة الأولية لرواية (أسير العبارة):

Post: #393
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-29-2010, 09:21 AM
Parent: #392

لا أدري كيف وصلت وقتها إلى غرفة النوم. بركتُ قبالة وجهها تماما. كانت لا تزال نائمة. تفوح منها في آن رائحة خمر قوية وجسد غريب. هززتها من كتفها بعنف. قالت بين يقظة ومنام شأن الأيام الخوالي "وليم". هززتها بعنف أشد. أفاقتْ. سألتها ضاغطا على حروفي "هل ضاجعتِ الرجل الذي ينام على الكنبة الآن"؟. العاهرة، استوت قاعدة على رأس السرير. قالت "نعم". وجدتني أقف على رأسه. اعتدل من نومته جالسا كما لو كان ينتظرني. قلت له بصوت ميت "اخرج من بيتي الآن". بدا مترددا وهو يتقدمني بخطوة. يا للوقاحة، توقف فجأة داخل حيرته تلك. لكأنه يهم بوداعها وراء باب غرفة النوم الموارب. "من هنا"، أشرتُ إلى باب الشقة بحسم. وجدتها مرتدية ثياب سهرتها الليلة الماضية تنتظر ووجهها إلى الأرض. دعوتها للحضور إلى غرفة المكتب كما لو أنني بصدد اجتماع رسمي. بعد حوارنا ذاك، قالت إنها ستذهب "الآن". قالت إنها لم يعد لها مكان هنا "بعد ما حدث". قالت إنها ستحضر للملمة أغراضها ريثما تهدأ نفسي. في جلستي تلك، وصوت باب الشقة يفتح ويغلق، اجتاحني شعور لا نهائي بالوحشة، لكأن نفسي ماتت داخل جسدي.

ظللتُ أكرع الويسكي بعدها لثلاث ليال. لا أكلم أحدا ولا أحد يكلمني. ظهر اليوم الرابع، بدا كما لو أنني قمت بتصفية أحزاني مع العالم، عندما مكثت طويلا داخل الحمام، وقد أمكنني بصعوبة التعرف على ملامحي المطلة من داخل الحمام، قبل أن أحلق ذقني وأخرج في ما يشبه البعث إنسانا آخر بصفحة بيضاء من الأحاسيس أوالمشاعر، ليس ثمة سطور من كراهية أوغلّ أوحقد على أحد، وليس ثمة سطور من فرح أوبهجة أوحبّ لأحد، كنت فقط صفحة بيضاء قابلة في أية لحظة لأية كتابة جديدة.

كان العصر يقترب من منتصفه، حين أخذ يتناهى بوق سيارة صغيرة بالحاح غريب من أرض خلاء غرب البناية. حين نظرتُ من احدى نوافذ الصالة رأيت "أماندا". أشارت لي بمقابلتها على عجل. هناك، تبين لي وجود ثلاث فتيات على مشارف العشرين كن بصحبتها. قالت إنها حضرتْ كيما تسلمني النسخة الإضافية من مفتاح الشقة. قالت على نحو غامض إنني لم أصحو من نومي لحظة أن جاءت ليلا لأخذ متعلقاتها وإنها لم تؤذيني لأنها تحبني. كنت أنصت إليها ولم يثرني مرأى السيارة الألمانية الجديدة التي تقودها. ما أثارني فقط طريقة كلماتها العملية العجلى. لكن صوتها لان فجأة وتكسرت قساوته على ضوء الشمس الغاربة. قالت وهي ممسكة بباب العربة وقدم على الأرض وأخرى بالداخل:

- "وليم، أ هذه النهاية"؟.

- "أجل، يا أماندا".

- "أ كل شيء انتهى"؟.

- "لم يُترك لي خيار آخر".

- "إذن، يا إلهي، ما زلت أحبك، مع السلامة، وليم".

- "مع السلامة... أماندا".

وقفتُ في تلك الفسحة الخالية من الأرض، أرقب العربة وهي تندفع دفعة واحدة محدثة صريرا عاليا، تابعتها وهي تستدير صوب شارع "سرجنت" بقوة، وحين اختفت عن ناظريّ تماما وتوارى صوتها في عمق الهدوء الحزين للغروب الذي حلّ وقتها، أدركتُ بشيء من الحياد أنه لم يعد لي "بعد اليوم" بقاء "في هذه المدينة".




تمت المسودة الأولى

Post: #394
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-29-2010, 05:53 PM
Parent: #393

رسالة إلى عثمان موسى:

Post: #395
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-29-2010, 06:45 PM
Parent: #394

عزيزي عثمان:

أشكرك بداية للاهتمام بما أكتب. للأسف ولحسن الحظ معا، لم ألتقيك من قبل على نحو شخصي، ولم أحادثك هاتفيا سوى مرة عابرة أثناء مأساة ورحيل الناقد سامي سالم قبل عامين تقريبا. للأسف إذ لم أحظ برؤية إنسان بمثل هذه الرؤية العدلية من قرب. لحسن الحظ إذ أعتبر اهتمام عثمان بما أكتب مسألة لا علاقة لها بمجاملة. "لقد أسرجت لي خيل الكتابة هنا" كما أشار صديقي حيدر حسن ميرغني. وذلك مرتقى صعب في مثل ظروف مرض إلهام والاهتمام بها وبالولدين محمد وأنيس. (كل منهما يشد على يدك محييا). ناهيك عن شقاء الكتابة نفسها. لم تكن لدي خطة واضحة هنا. فقط تركت نفسي منساقا لنفسي. لا أكتمك أنني أثناء الكتابة ظللت أعاني من الانصات لشخصية (حامد) في كثير من الأحيان. قد يلامس مسار حياته المتخيل بعض مساراتي الحقيقية في الحياة عند هذه النقطة أوتلك. لكنه ظلّ حتى نهاية كتابة هذه المسودة الأولية شخصية تحتوي على قدر عال من الكراهية. إنه إنسان حوَّله المنفى إلى كائن مجرد من القيم. لكن الأعمال الفنية في الأخير ليست بيانات أخلاقية. على المستوى الخاص الواقعي، تكاد تتقمصني تلك العبارة، التي وردت على لسان "أستروف" في عمل تشيخوف الرائع "الجد فانيا"، أجل "في الإنسان كل شيء يجب أن يكون رائعا: وجهه، وثيابه، وروحه، وأفكاره". لكنني أعي قدري جيدا ككاتب يقع بين مرحلتين، مرحلة فقدت القيم السائدة قدرتها إلى حد بعيد تاركة فراقا روحيا هائلا هنا وهناك، ومرحلة (هي ذات المرحلة السابقة) لم تولد فيها القيم الجديدة بعد على نحو يؤهلها كرؤية للعالم لملء ذلك الفراغ. لقد اختلطت الآن في أذهان الناس الكثير من المعايير. وهذا كما ألمحت شأن التحولات الاجتماعية العميقة التي تفرز قدرا هائلا من المشكلات المعقدة. إنه بعبارة واحدة: المخاض. لست معنيا من كل هذا سوى بالوفاء لموقعي ككاتب. مهمتي هي أن أحكي فقط. ربما وجد الناس في ما أكتب على تواضعه شيئا مما يحزن أويفرح. وهذا العمل، (أسير العبارة)، بمثابة مسودة تنتظر مني الكثير من العرق أوالجهد الشاق، قبل أن ترى النور مفسحة الطريق أمام العمل على مسودة روائية أخرى تدعى (الأمنجي السابق). أخيرا، أرجو أن تقيم هذه الكتابة أوتلك جسورا بيني وبين الناس لا حوائط.

كما تقول أخي الحبيب:

جزيل شكري وعميق امتناني وخالص احترامي ودمت.

Post: #396
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-30-2010, 06:01 PM
Parent: #301

اليوم

الحزن يتمدد فى حقل الشوفان .

Post: #397
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-31-2010, 03:43 PM
Parent: #396

Quote: اليوم

الحزن يتمدد فى حقل الشوفان .



رحمه الله، حياة مديدة، قضى نصف قرن داخل عزلة أغرت بالتلصص كثيرا، شأن موسم الهجرة إلى الشمال، بعض الأعمال تطارد كاتبها إلى ما بعد الموت حتى، وذلك هو جي دي سالينغر، صاحب (الحارس في حقل الشوفان)، الذي رحل أخيرا (1919- 2010).



http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today%5C29qpt88...6%ED%D4&storytitlec=

Post: #398
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 01-31-2010, 04:05 PM
Parent: #397

Quote: رواية عن مراهق غيرت الأدب الأميركي

خمسون عاما على صدور رواية «الحارس وسط حقل الشوفان» لديفيد جيروم سالنجر

ابراهيم الخطيب
لدى صدورها قبل خمسين سنة، أحدثت رواية «الحارس وسط حقل الشوفان» لديفيد جيروم سالنجر (1919) ما يشبه الرجة في مياه الرواية الاميركية الراكدة حينئذ. إن كاتبا آخر، وهمنغواي حي يرزق، لم يستطع ان ينسي النقاد الاميركيين تحفظهم ازاء كل اختراق استثنائي قدر ما فعل سالنجر في روايته الموما اليها، والتي اعتبرت منذ نشرها، أحد ابرز الانجازات الروائية في القرن الماضي. لقد قضى همنغواي نحبه قبل أربعين سنة (1961)، ومن المؤكد أن المفهوم التراجيدي للرجولة، كما عكسته رواياته، كان قد فقد اذ ذاك تأويله المهيمن على مقاربة الاميركيين لواقعهم الذين اخذت تساورهم شكوك بصدده. ان سالنجر لم يكتب سوى أربعة كتب ضئيلة الحجم من بينها رواية وحيدة، غير أن ذيوع صيته لا يعود في الواقع الى عزلته عن منصات الاعلام الادبي، التي غدت أسطورية، وانما لكون سروده استطاعت ملامسة مجازات راهنها المتسم بالقلق.
لقد كان على سالنجر ان يبحث في ذكرياته عن صورة المراهق الذي يملك جرأة الاستخفاف بكل شيء: هكذا تبدأ رواية «الحارس وسط حقل الشوفان» على النحو التالي: «لو كان يهمكم حقا ما سأرويه لكم، وتريدون فوق كل شيء معرفة مسقط رأسي، وكيف مضت مباذل طفولتي، وماذا كان يفعل أبواي قبل أن أولد، وغير ذلك من الترهات التي يمكن العثور عليها في روايات من قبيل «دافيد كوبرفليد»، فإنه لا يلذ لي أن أروي شيئا من ذلك البتة». لم تكن هذه البداية لتندرج في أفق توقعات القارئ في بداية الخميسنات، وذلك لكونها اعتمدت أساسا على صوت راو يشي خطابه بأن ما يريد حكايته ليس هو العالم كما ينتظره القراء، وانما كما ينظر اليه مراهق مشبع بأنانية لم يستطع المجتمع تدجينها. من هنا لاحظ النقاد الاميركيون أن لغة «هولدن كوفيلد» كانت تعبيرا طبيعيا عما يفكر فيه كل المراهقين في مختلف الحقب: تفكير قائم على الضجر وعدم الرضى والصفاقة، لكنه ينطوي، في نفس الوقت، على نوع من الشفقة على الذات والحنين الى تجارب الطفولة التي رسخت الوعي بآفاق وهمية.

إن سلسلة الاحداث التي شكلت مصير «هولدن» تبدو عادية، وليس فيها حدث واحد بارز يمكن تذكره بسهولة: فإثر طرده من معهد (بانسي) ـ بعد تجارب طرد اخرى ـ يقرر «هولدن» الافضاء بمشاعره لاحد أساتذته، ثم يستقل القطار الذاهب الى نيويورك فيلتقي هناك بوالدة زميل له في سنوات الدراسة، قبل أن يمتطي سيارة أجرة ويذهب الى أحد الفنادق الهامشية حيث يقيم في غرفة قذرة. يغادر الفندق للالتحاق باحدى الحانات، وأثناء عودته تتاح له فرصة التعرف على امرأة ، لكن الامر ينتهي نهاية سيئة. في اليوم التالي يتذكر «هولدن» صديقته «سالي» فيحدثها عبر الهاتف، ويقرران اللقاء مساء في قاعة سينما... على هذا النحو تتراكم الوقائع التي تشكل لحمة وسدى الرواية، دون ان تكون احدى تلك الوقائع بؤرة السرد إلا في حالة ما إذا اعتبرناها كافة مسرحا خلفيا لمزاج فتى يطمح الى اختبار انتظاراته على ضوء واقع أقل شاعرية، كما تجسده مدينة كبيرة مثل نيويورك. ان ذلك ما يبرر ايضا حدة لهجة السرد وجرأتها التي تحتل منصة خلت من كل واقعة استثنائية، عدا واقعة لقاء «هولدن» بشقيقته «فوب» التي تعتبر احدى أجمل لحظات الرواية، وحيث تغدو المكاشفة الوجه الآخر لخيبة الظن.

يتحدث مارك صابورتا، مؤرخ الرواية الاميركية في القرن الماضي، عن استقبال رواية «الحارس وسط حقل الشوفان» فيبرز كيف استطاعت الظفر باعجاب القراء، سواء كانوا مراهقين أو بالغين، بحيث صارت علامة على جيل يواجه مصاعب وجودية متنامية، وذلك ما رفع بطلها «هولدن» إلى مرتبة رمز لرجولة قيد التشكل قائمة على انعدام اليقين. إنه من الضروري القول بأن نزعات التمرد التي ميزت عقد الستينات، في أفق التدخل الاميركي في حرب فيتنام، ساهمت في التأكيد على الوظيفة الاستشرافية لرواية سالنجر وتعبيرها الضمني عن شقاءات المراهقين ازاء حماقات الكبار في مختلف أنحاء العالم. لكن ذلك لم يجعلها قط تسقط في خانة رواية تسجيلية يعتصرها الحاضر، أو يقتصر هدفها على رسم لحظة تاريخية تتسم بالتوتر.

لم تثر «الحارس وسط حقل الشوفان»، ككل نص مثير للجدل، اعجاب القراء والنقاد فقط، بل هناك من انتقدها بعنف ايضا: في هذا الصدد لا بد من الاشارة الى «ملحق التايمز الادبي الذي اعتبر الرواية «سيلا من البذاءات والكلام الفاحش»، بينما رأى ناقد انجليزي ان حساسية مواقف «هولدن» لم تكن تتطلب كل الحدة والقسوة اللتين ميزتا خطاب الراوي، فيما ندد معلق مجلة محافظة هي «العالم الكاثوليكي» بـ «دناءة اللغة التي تنم عن تلقائية غير متزنة». لكل ذلك كان من المنطقي تماما ألا تبرمج رواية «الحارس وسط حقل الشوفان»، كنص مدرسي، في المؤسسات التعليمية الاميركية حينئذ وعلى امتداد أربعين سنة: ذلك أن الرواية كانت، في العمق، تخييلا لكل المقاربات التربوية التي تستهجن استقلالية حق المراهق في ابتكار صيرورته الخاصة، ونهج سبل الذات.

بيد أن احدا لم يجادل في جاذبية شخصية، «هولدن»، سواء عند صدور الرواية قبل نصف قرن أو اليوم. فهل تكمن تلك الجاذبية في سلوكاته التي تعاكس التيار؟ أم في وجوده على طرف نقيض من الحلم الاميركي؟ أم في موقفه الصريح من طهرانيه منافقة؟ أم في رغبته في فرض نفسه كمخاطب؟

لم يكن ديفيد جيروم سالنجر رجل أفكار، بل كان يسخر من معاصريه الكتاب الذين أقحموا على تجاربهم أشكالا ذهنية غير مناسبة، لذا آثر الصمت دائما ازاء تحليل النقاد لاعماله الادبية. لقد أثرت ايحاءات الواقع القابعة تحت السطح تأثيرا بينا في نظرته القصصية، وانه من المنطقي الاعتراف بأن كتاباته رددت عميقا صدى التحولات التي كانت أميركا حبلى بها بعيد الحرب العالمية الثانية، وخاصة التحولات المتصلة بدور الفرد داخل نظام اجتماعي متكلس.




http://www.aawsat.com/details.asp?section=19&article=89904&issueno=8489

Post: #399
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 01-31-2010, 04:57 PM
Parent: #301



والله يا عبدالحميد
انا متابع ومستمتع بالتنقل من غصن مزهر الى غصن اجمل .
كتابات تتوشح بعديد الألوان .. نتابع
..
ارجو التكرم بوضع صورة شيخنا سالينجر .
مع كتير شكرى

Post: #400
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 02-01-2010, 05:44 AM
Parent: #399

images7.jpg Hosting at Sudaneseonline.com


Quote: «لو كان يهمكم حقا ما سأرويه لكم، وتريدون فوق كل شيء معرفة مسقط رأسي، وكيف مضت مباذل طفولتي، وماذا كان يفعل أبواي قبل أن أولد، وغير ذلك من الترهات التي يمكن العثور عليها في روايات من قبيل «دافيد كوبرفليد»، فإنه لا يلذ لي أن أروي شيئا من ذلك البتة».




blogSpan.jpg Hosting at Sudaneseonline.com




Quote: وفي هوليوود ثمة اهتمام كبير خصوصا بتحويل "ذي كاتشر" الى فيلم. وقد بيعت اكثر من 60 مليون نسخة من الرواية التي دخلت ثقافة البوب الاميركية وتشكل مرجعا في كل المجالات من الافلام الى الاغاني الى كتب اخرى.

Post: #401
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 02-04-2010, 12:59 PM
Parent: #400

الآن، وأنا أعيد قراءة هذه المسودة الأولية للرواية، لا ينفك يعاودني شعور حاد بالندم، لجهة كل تلك المزالق التي انحدرت عبرها أثناء الكتابة. لعله إيهام التجريب.. فخاخ الاسقاط الذاتي.. إغواء حكم القيمة وبريق الآيديولوجيا.. لعلها أشياء أخرى. أعتذر من تلك المزالق. يبدو الكثير منها من الوضوح بمكان أعلاه. أدين هنا بالشكر لملاحظة زوجتي إلهام أحمد النقدية من حيث كوني تركت مصير احدى الشخصيات الرئيسية داخل العمل معلقا. وهو ما دفعني مبدئيا لتعديل بداية الرواية والتي قمت لاحقا بتعديلها لأكثر من مرة تالية. لا بد أن أمامي جهد شاق للوصول إلى صيغة محددة قبيل التفكير جديا في نشر هذا العمل. أشكركم.

Post: #402
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 02-06-2010, 04:20 PM
Parent: #401



نترحم على روح الزميل معتصم عبدالحليم

Post: #403
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 02-07-2010, 05:39 PM
Parent: #402

نتابع الجمال

Post: #404
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 02-07-2010, 08:32 PM
Parent: #403

حوار قديم نسبيا مع إبراهيم أصلان:

n595046930_735015_930.jpg Hosting at Sudaneseonline.com



إبراهيم أصلان : جيل الستينات لم يكن حالة مجردة بل هو حالة ثقافية متكاملة

25/05/2007

حاوره : أحمد طايل


v المشهد الثقافي تشوبه حالة من الوهن .
v للوصول إلى نقد بناء لابد من إظهار أصحاب الضمائر النزيهة وآراؤهم .
v عملي بالتلغراف علمني ألا أكتب إلا ما هو ضروري .
v جيل الستينات لم يكن حالة مجردة بل هو حالة ثقافية متكاملة .
v جيلنا عاش أحلاما كبيرة و خيبات أمل كبيرة أيضا .



تمهيد :

في بدايات السبعينيات .. وأنا بالمرحلة الثانوية كانت أول معرفتي باسم إبراهيم أصلان كاتبا عن طريق صديقي وابن عمه في ذات القرية "محمود أصلان" الذي قابلني يوما يحمل نسخة من مجموعة قصصية تحمل اسم "بحيرة المساء" لإبراهيم أصلان .. عرفت يومها بأن الكاتب من قرية " شبشير الحصة " المجاورة تماما لقريتي وأن صديقي الآخر كان يحملها يومها نوعا من التباهي والتفاخر بقرابته لهذا الكاتب و اعتقد ان يومها قد أدركنى هذا التباهى و التفاخر ايضاً !! " لم يسعدني الحظ بقراءة هذه المجموعة إلا بعد قرابة عشر سنوات من هذا اليوم !! " مرت الأيام وأنا أتابع أخباره عن بعد إلى أن خرج إلى النور فيلمه "الكيت كات" عن روايته مالك الحزين .. بعد مشاهدتي للفيلم بحثت بجدية وبإصرار عن ما كتب إبراهيم أصلان " وقتها كان أصدر بحيرة المساء .. مالك الحزين .. وردية ليل " قرأتها بشغف كبير .. لابد وأن أعترف بأن من يقرأ لإبراهيم أصلان سوف يجد نفسه يحيا بين أناس يعرفهم جيدا وسبق له التعامل معهم بشكل أو بآخر .. واقعية صادقة وجدت نفسي أسعى جاهدا لمعرفته والتقرب منه إلى أن حادثته تليفونيا بأنني أرغب في حوار معه .. ووافق .. و التقيته بمكتبه بجريدة الحياة اللندنية بجاردن سيتي " وبعد الحوار كانت فكرة تكريمه قد شغلت حيزا كبيرا من تفكيري وقد وفقني الله واستطعت بالتعاون مع ثقافة الغربية ومديرها المثقف الرائع "محمد عبد المنعم" أن نقيم احتفالية كبيرة تليق به .. أعتقد أنها كانت ذات وقع طيب لدي أديبنا الكبير ومازلت على مودة معه .. تجمعني به الكثير من الأحاديث التليفونية .. و أتابع قراءة أخباره وما يكتبه بجريدة الكرامة من مواقف حياتية يجسدها جيدا كعادته ..
تحت عنوان ( شئ من هذا القبيل )

إبراهيم أصلان أديب ذو خاصية نكاد لا نجد سواه على مستوى الوطن العربي ينفرد بها ، حيث يتمتع أصلان بخاصية الكيف دون الكم ، ما إن صدرت مجموعته الأولى "بحيرة المساء" وبعدها بسنوات روايته الأولى " مالك الحزين " حتى أكد سمة وتمايز يؤكد بصمة وإضافة إلى الأدب العربي ، وسمة أخرى لا ندري إذا كانت تحسب لكاتبنا أو تحسب عليه ولكنها الحقيقة المجردة وهي أنه مثل العديد من المشاهير في جيله .. لا يُعرف أي منهم إلا وسط عالم المثقفين ، وعلى مستوى الجمهور يختلف الوضع تماما ، وقد فجر حوارنا معه العديد من القضايا .. مع إبراهيم أصلان كان هذا الحوار .


بعد هذه الرحلة الطويلة في عالم الأدب .. ماذا تقول؟

بعد رحلة طويلة في عالم الإبداع والنشاط الثقافي أقول أنني ما زلت على أبواب أو أعتاب مشروع كبير كان بودي تحقيقه ، إحساسي الخاص يقول إنني لم أقطع فيه إلا خطوات قليلة جدا .

حدثنا عن طموحاتك وأحلامك حينما بدأت الكتابة؟

في الشباب كانت الأهداف ضخمة ، والطموحات كبيرة ، ومع تقدم العمر لم تقل الطموحات ولكن زاد الوعي ، في الصغر كنا نتصور إنه يمكننا تغيير العالم ، وأن الكاتب يملك هذه القدرة على التغيير ، كما كنا نتصور إننا صوت من لا صوت له ، بمرور الوقت أدركنا أن المثقف لن يكون مؤثرا إلا إذا كانت هناك آذان اجتماعية ضخمة تنصت إليه ! وفي ظل ظروف كتلك التي تربي عليها جيلي وفي ظل انهيار المشاريع الضخمة مثل الحديث عن الوحدة العربية التي يعتبر الحديث عنها خروجا عن أي منطق ! كنا نعيش في ظل مجموعة من الأحلام القومية الضخمة وإحساس بكبرياء ضخم جدا انهار تماما عام 1967 ، إذن هذا جيل عاش أحلاما كبيرة و خيبات أمل كبيرة أيضا دون أن يكون له دخل في هذه أو تلك !!


ماذا عن الواقع الثقافي العربي ؟

لا أستطيع القول بأن العمل الثقافي أو النشاط الثقافي وهو ضرورة حيوية لأي كائن إنساني خارج اهتمام الأجهزة المعنية لدينا .. لكنه ليس جزءً من الممارسة الحياتية للمواطن ، بمعني أن توزيع أي مجموعة ثقافية أو كتاب بالفعل يمثل فضيحة بكل المقاييس على المستوى العربي ، نحن نسافر ونرى أن النشاط الثقافي بالنسبة للمواطن في دول أكثر تقدما جزءاً من نشاطه البيولوجي بل أن الأمر بالنسبة له ركن أساسي من حياته اليومية، هناك نوع من التواصل ما بين منظومة ثقافية وفكرية وبين جموع من الناس في حوار حتى لو كان حوارا صامتا ، ما بينها وبين الأطروحات الفكرية الموجودة إذن إمكانية التأثير وإمكانية التطوير قائمة .


ما هي الدوافع إلى خوض تجربة الكتابة لدي إبراهيم أصلان ؟

الدافع وراء ممارستي للكتابة أنني أحس بأن الكاتب أو أي مواطن بشكل عام يكتسب توازنه النفسي وتكامله على المستوى الاجتماعي عبر مشاركته مع الآخرين في رؤيته للأشياء بشيء من التوازن ، الكاتب له رؤية بها نوع من الاختلاف بينها وبين الرؤى المطروحة ، من هنا نجد أن إحساسه بالوحشة إحساس خطير جدا ، وعلى المستوى الشخصي أرى أنني عندما أكتب أعبر عن نقاط فيما هو مشترك وإنساني بيني وبين الناس ، وإنني إن كنت لا أستطيع أن أتبنى رؤية سائدة في أن أحقق تكامل مع الآخرين من خلال أن أعيش برؤاهم السائدة فإنني أدعوهم من خلال عمل أن يشاركونني رؤية العالم فأحقق التوازن أو التكامل إن شئت لأننا نعيش في ظروف أصبحت مساحات الدفء داخل قلوب الناس مهددة ، تتآكل وتتضاءل تماما ، أنا أظن أن الكاتب لابد أن يعمل على إحياء هذه المساحات الدافئة داخل قلوب الناس

ماذا لديك عن جيل الستينات ؟

سوف يظل مفهوم الجيل الأدبي غير مفهوم حيث تتلاحق الأجيال ، أما عن الستينات فهي لم تكن مجرد حالة سلمية بقدر ما كانت حالة ثقافية كاملة ، كانت مزاج خاص يدفع بالمبدع لتقديم شهادة جمالية على واقع اجتماعي نعيش فيه وتعيش أنت خلاله .. الستينات كانت مرحلة ، ومفصل أساسي ليس بالنسبة لمصر فقط بل لشباب العالم كله ، نحن نتذكر مظاهرات الطلاب في فرنسا وفي اليابان والثورة الثقافية في الصين ، كان العالم بأكمله يعيد طرح رؤى مغايرة بحساسية مغايرة ، الستينات على هذا الأساس وبهذا المعنى قدمت جيلا مغايرا ولا أعنى أن هناك من كتب القصة أو الرواية بشكل مختلف ، لكنك تجد أنها رؤية عامة تستجمع ملامح هذا الجيل عبر كتاب المسرح والفن التشكيلي والسينما والموسيقى وعبر المفردات النقدية التي طرحت وعبر شعراء للعامية والفصحى ، وكل فصيل من هؤلاء يعبر عن ملمح من هذه الرؤية وعندما تتعرف على هذه المحاولات كلها تجد أنك أمام جيل لديه حساسية مختلفة

ما هي السمات الأساسية لجيل الستينات ؟

الملمح الأساسي الذي كان يجمع بين هذا الجيل أن الكتابة السابقة عليه كانت تبدأ من معنى معين أو أيدلوجية محددة ثم تبرهن الكتابة عبر العمل على ذلك ، حيث كان العمل الأدبي أو الفني يحمل رسالة من أجل القارئ ، وقد أصبحت هذه الرسائل مكررة ولا تعبر عن مجمل الناس ، وجيل الستينات لم يأت كي يحمل رسالة لكنه جاء عبر عمله الفني والإبداعي للبحث عن رسالة ، لم يأت ليعبر عن معنى شائع أو متداول أو مفهوم بالنسبة للعالم من حوله ، لكننا رحنا نسعى من خلال العمل الأدبي والإبداعي للتوصل إلى معنى للتوصل إلى حقيقة .
وهذا لأنه في الحالة الأولى يكون العمل الفني قائم على معني ويحاول أن يؤكده أو يبرهن عليه وهذا بالتأكيد كان يحول العمل الفني إلى برهان على حقيقة بينما الحقيقة الفنية ليست بحاجة إلى برهان .. والذين أسهموا بأعمالهم الإبداعية البارزة في تأصيل هذا المعنى كثيرون ، الأسماء كثيرة جدا ومازالت تحيا معنا بكتاباتها وإبداعاتها ، جيل كامل وليس مجموعة ، كان يوجد إفراز اجتماعي مغاير كما سبق وأكدت لك هذا الإفراز كان موجودا على كافة المستويات من بينهم أساتذة جامعات ، علماء، حالة اجتماعية كاملة ، ونحن نتوقف أمام أبرز الأسماء التي عرفناها في الأدب مثل يحيى الطاهر ، أمل دنقل ، عبد الحكيم قاسم ، بهاء طاهر ، و العديد من الأسماء التي تحتاج لمساحات كبيرة لسردها الخاصية الأساسية في هذه الحالة سوف نجدها لدى من يعملون ويبدعون حتى الآن في أي مجال من المجالات لأن الهموم الاجتماعية هي الأساس في عملهم .


الزمان والمكان ماذا يعنيان لك عند الكتابة ؟

[redنحن لا نستطيع أن نفصل بين الزمان والمكان .. بمعنى أنه لو كان هناك بيت قديم حتى ولو مهجور فهو بالتأكيد يختزن أرواح من كانوا يعيشون فيه .. سوف نجد أثار أقدامهم في كل مكان .. سوف نجد الكثير والكثير ... مجرد علبة قديمة تختزن زمن وتخزن جمالية معينة وقيمة معينة .. أنا مثلا أعتمد على عيني في الكتابة .. الأشياء والأمكنة أساسية بالنسبة لي في علاقتي بالزمن .. مثلا اعرف أنني تقدمت في العمر من خلال تطلعي في وجوه الأصدقاء .. من مروري بالحواري القديمة التي تربيت فيها .. أيضا لأنني لا أعتمد على حدوتة فيبقى إحساسي بجغرافية النص الذي أكتبه أساسي في إحكام عملية البناء لأن الحدوتة تقوم بعملية كساء الهيكل العظمي .. ولابد أن يكون لدىّ جغرافيا النص الذي أعمله حتى ولو لم أكتبها ولكن لابد من أن تكون واضحة جدا داخلي .. هذا على المستوى الفني .. عدم المباشرة هذه تبقى خاصية .. هناك مثلا أناس صوتهم عال وهناك من بطبيعته لا يستطيع تعلية صوته .. وأنا من هؤلاء .. أيضا أنا أؤمن بالأفكار الكبيرة .. والقيم والقضايا العظيمة إذا لم تبدأ في وقائع الحياة اليومية من حولي .. وأي أفكار مهما كانت عظمتها أستمتع بها كقارئ ومفكر ولكن لا تكتسب أهميتها فعلا إلا عبر تقديمها في علاقات بسيطة جدا .. وهذه العلاقات الإنسانية بطبيعتها غير زاعقة .. لا يوجد إحساس إنساني زاعق على الإطلاق .. لحظة الحزن الصامتة أكثر تأثيرا في النفس من الولولة والصياح واللطيم وما شابه ..]


n595046930_734971_9805.jpg Hosting at Sudaneseonline.com


هل يخضع رسم الشخصية لديكم لمنطق ثابت أم يرسمها الموقف داخل العمل الأدبي ؟

[redأنا لا أعتمد على أى ملامح خارجية .. ولكنك إذا اخترعت شخصية واخترعت لها سيكولوجية .. واخترعت لها مصيرا .. فأنت بهذا قد اخترعت جثة .. وإنما نستهدي بأناس من حولنا .. إنك تتكئ على ملامح ما موجودة .. وهذه الملامح قد يشارك فيها عدة شخصيات .. من أجل أن تكون شخص واحد .. ثم تتيح له إمكانية أن يحيا على الورق إذا كان المرء هكذا .. أنت لا تسيطر عليه بالمعنى المفهوم .. و إلا أصبح الأمر كما قلنا إنك تصنع جثة .. وإنما هو كائن حي في إطار فني .. السيطرة عليه ليس منك كمبدع ولكنها تقع عليه .. غير إنه كائن يتحرك داخل إطار فني محدد.. داخل علاقات محددة في علاقاته بشخصيات أخرى .. وفي مهام داخل النص .. هو محكوم بهذه الاعتبارات .. هو محكوم بسياق جمالي هو جزء منه وهو مؤثر وفعال داخل هذا السياق الجمالي .]

ما شهادتك على الواقع الأدبي اليوم ؟

[نحن نعيش في مرحلة صعب الحكم عليها .. نعيش في حالة خلط ويوجد اشتباك أو مجموعة اشتباكات بين الحابل والنابل .. وفيه غياب للمعايير .. غياب للقيمة كمعيار وحيد للحكم .. أصبح هناك نوع من التوسل بوسائل غير أدبية لبلوغ أهداف أدبية .. كل هذا نتج عنه في النهاية ما يسمى أنك تعيش في ظل ضمير عام عليل .. وعلة الضمير هذه مرض خطير .. وآثاره خطيرة جدا .. فكيف يستعيد صحته ونقاءه وعافيته .. أنا شخصيا لا أعرف ؟! نحن بالفعل نعيش مرحلة مضطربة وقلقلة فما هو إيجابي يعمل سواء من الكبار أو الصغار بقدر من الجهد والإخلاص .. وهناك بعض المعايب الاجتماعية طالت الحياة الثقافية وهذا الشيء مقلق تماما .. المفترض أن الحياة الثقافية والمثقفين هم الحارس على كل ماله قيمة في حياتنا ولكن هذا الدور يناله قدر من الوهن والعشوائية والتخاذل !!/B]

الشخصية الثقافية المصرية وكيف تكون في ظل المستجدات الضخمة القادمة ؟


يتبع:

Post: #405
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 02-08-2010, 01:53 PM
Parent: #404

تعرف، يا عثمان، بعد أن بدأت أطالع هذه المسودة الأولية لأول مرة بعد كتابتها، أحزنني أكثر من مزلق انحدرت إليه ككاتب هنا، لكن حزني أمس أخذ يتضاعف وأنا أُباغت بكل ذلك القصور في ما يختص بالتطورات اللاحقة لشخصية ياسر كوكو، أي تبسيط.. أي ظهور صبياني مراهق للسرد.. وأي تسرع من جانبي هنا؟.

عموما، شكرا لصبر القاريء والقارئة الجميل.

Post: #406
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 02-08-2010, 02:24 PM
Parent: #405

n595046930_734963_3349.jpg Hosting at Sudaneseonline.com





إذا نظرنا إلى الثقافة بمفهومها الواسع .. سوف نجد أن المقومات الشخصية للكائن المصري من الصعب تغييرها .. بمعنى أنك لا تخاف عليها .. وهذا من الممكن أن يكون لحسن الحظ وربما أيضا يكون لسوء الحظ ..!!
عندنا تراكم ثقافي ضخم جدا .. إذا ما نظرنا للثقافة بمفهوم آخر .. بمعنى أنك لا تستطيع الحديث عن ثقافة أمريكية مع أن أمريكا دولة عظمى ولكنك تستطيع الحديث عن حضارة أمريكية .. أمريكا تخلق نمط أو أنماط للمضاهاة وللسيطرة على العالم .. عندما تريد الحديث عن الثقافة الأمريكية لن تجد .. لن تجد حرفة تضرب بجذورها إلى عدة مئات أو آلاف من السنين .. الثقافة قضية أخرى تماما .. الثقافة ليست قراءة .. وكتابة فقط .. من هذا الجانب نحن بحاجة أن نستعيد أنفسنا .. كيف .. لا أعرف .. !!!.
أنا لست تراثيا ولا أنظر إلى التراث على اعتبار أنه ورق مكتوب .. لأننا لو نظرنا إليه على هذا الأساس .. سوف نواجه بتساؤل .. إلى أي عام يصبح تراثا .. وإلى أي عام آخر لا يصبح تراثا ..!!

وأعتقد أن التراث ليس قوة منفصلة عن الحياة الاجتماعية التي نحياها.. نحن نتحرك على هدي من التقاليد والقيم والأعراف .. وهذا تراث غير مكتوب .. لأن التراث الحقيقي والفعال والمتأصل حتى هذه اللحظة بداخلنا .. داخل هذا التراث هناك قيم تستطيع أن توائم ما بين هو مستنير وما هو أصيل .. تستطيع التوفيق الكامل بين قيم التقدم والخضوع الكامل للخرافات .. علينا إذن أن نعمل في هذا الاتجاه .. للحفاظ على هذه القيم ونفتح الباب للتغير ولكن بما يفيد .
ما رأيك في مصادرة بعض الإصدارات ؟

بطبيعة الحال مصادرة يعض الإصدارات يعتبر أمر مسيء للغاية .. ولكن ما حدث مؤخرا أنا شخصيا لا يزعجني هذا .. لأن بإمكاني و إمكانك الحصول على كتاب "النبي" من الهيئة العامة للكتاب .. وهو أيضا موجود في معظم البيوت .. ما حدث هو أن الرقيب صادر .. رئيس الدولة يقول لن تتم مصادرة أي كتاب إلا بأمر قضائي .. الخارج قال أن مصر فقدت دورها وفقدت كذا وكذا لأنها أصبحت تصادر الفكر .. ولكن الرد أن مصر لا تصادر الذي صادر هو الرقيب .. لا الرقيب يمثل مصر .. ولا الحكومة المصرية تمثل مصر كلها .. ولا أحد يمثل مصر .. مصر أكبر جدا من أن أي فرد أو جماعة يمثلها كاملا .. وعندما يتم الحديث عن الكتب المصادرة يرون عربيا أن هذه نقيصة .. تلفت انتباههم ولكننا نحن المثقفين المصريين الذين نثير هذه القضية .. وللعلم أنا مثلا باعتباري مشرفا على سلسلة "آفاق الكتابة" بالهيئة العامة لقصور الثقافة سوف أعيد طباعة كتاب "النبي" ولن يعترض أحد .

ما هي البصمات التي تركتها معيشتك في حي شعبي وأثرها على كتاباتك ؟

صعب التكلم عن بصمات محددة ولكن انتهى الأمر أنني أصبحت أنتمي لهذا الحي الشعبي بكل خصائصه ومن الصعب وصف هذه الملامح والأمور لكن هي تجربة مختلفة عما لو كنت نشأت في حي آخر فأنا نشأت في حي شعبي ولازلت أعيش في حي شعبي .
والسرد لا يكون فقط سردا في الروايات والكتب ولكن هناك سرد اجتماعي وسرد سياسي وجنسي والسرد المهيمن عادة تقوم به مؤسسات عبر قرون ومؤسسات سياسية دينية واجتماعية وخطورة هذا النوع يقوم على التفكير بدلا من الناس والتخيل بدلا منهم فهو في النهاية منطق تدجيني لتدجين الناس فالمؤسسات تقوم باختيار ما تعتقده أنه مناسب للناس فهي تفكر لهم وتقرر لهم مصائرهم ويسفر عن ذلك أن تسود حالة كاملة من السلبية لأنك عندما تصورني أو تتخيلني لا تتوقع مني أن أسعى لتحقيق أفكارك لي أو تحقيق أحلامك لي يجب أن أحلم لنفسي وأفكر لنفسي فمنطق السرد الشعبي أو السرد الشفاهي منطق مختلف فهو مفيد جدا إذا انتبهنا لهذا المنطق وهذا يجعلنا مدركين أن أهمية العمل الفني تتمثل في إتاحة إمكانية للناس أن تفكر وتتخيل لنفسها .

تغيير اسم الرواية من "مالك الحزين" إلى "الكيت كات" وما هو السبب وراء تغيير الاسم وإلى أيهما تنحاز ؟

السبب إنتاجي في الأساس ولمالك الحزين كاسم لا يوجد في الرواية ما يسمى مالك الحزين لكني استلهمت هذا الاسم لأنه يطلق على طائر كنت أسمع عنه حواديت كثيرة من بينها أنه عندما لا تفيض المياه والخضرة في بر مصر فإن هذا الطائر يطوي جناحيه ويجلس صامتا وحزينا طوال الوقت أو يحلق في الجو يبحث عن الرواج ويضم جناحيه ويقع عليهما مرات متعددة في محاولة للانتحار للتعبير عن حزنه مما أصاب هذا الوادي فالعنوان مدلول الحكايات التي تدور حول الطائر .
سينيمائيا المنتج صعب عليه أن يكون هناك فيلم "مالك الحزين" وفيلم "الكيت كات" كان أحد الأسماء المقترحة للرواية ومكثت فترة طويلة أمام قائمة العناوين إلى أن قمت باختيار هذا الاسم واختيار اسم مغاير هو حق لمن يقوم بصرف مبالغ طائلة على إنتاج الفيلم .. وأنا بالتأكيد أنحاز لروايتي ولكن هذا لا يمنع أنني سعدت بالفيلم .

وما الذي حققه الفيلم للرواية ؟

الفيلم حقق نوعا من المعادلة الصعبة التي تعد مشكلة للسينما في العالم بمعنى أن يكون هناك عمل أحتفظ بكمالياته وقيمته الفنية وفي نفس الوقت يستطيع أن يكون نوعا من التواصل الحميم مع الجمهور وسعدت أن أكون لي دور في الفيلم الذي يعتبر من الأعمال الهامة في تاريخ السينما المصرية والعربية .

مما تفسر اتجاه جيلك للكتابة التليفزيونية ؟

الأمر مختلف فكتاب الدراما ذو الأهمية بدأوا كتاب قصة كنجيب محفوظ وأسامة انور عكاشة وهؤلاء بدأوا مشروعهم في الدراما من وقت مبكر أما بالنسبة لبهاء طاهر مازال حتى الآن يكتب قصص وروايات و"خالتي صفية والدير" إعداد عن رواية كتبها كرواية ولم يكتبها للتليفزيون.

ما مدي قدرة الكتابة على توصيل رسالة الكاتب ؟

المفروض أن الكتابة تكون قادرة على فعل هذا لكن أقول عن نفسي لا أسعى بالمعنى التقليدي لتوصيل رسالة محددة للقارئ ولكن أنا أسعى نحو رسالة فأنا لا أبدأ من رسالة ولكني أسعى نحو رسالة ولتصل هذه الرسالة بشكل جميل يتطلب من القنوات التي تقوم بالتوصيل أن تكون قادرة على الالتقاء بالناس وكذلك لابد أن تكون الناس مؤهلة فهناك مشكلات تقابل الكاتب فكل ما يقوم به الكاتب الكتابة بشكل سلس وجيد لتوصيل رسالته ولكن هذا يتوقف على اعتبارات سياسية واقتصادية خارج نطاق إمكانية الكاتب .

ما رأيك في مقولة جابر عصفور أننا في زمن الرواية ؟

الحقيقة أنها من الآراء التي أصر عليها وأحاول لفت الانتباه لها وإن كنت أقولها بصيغة مختلفة بمعنى أن الناقد لابد أن يمتلك في عمله الفني تجربة حياتية وحساسية معينة يعبر عنها الكاتب في إطار تجربة بجانب أداوته النقدية ونزاهة ضمير حتى يستطيع التعامل مع النص بشكل جيد .

ما رأيك في كتّاب القصة بعد جيلك وهل هناك تواصل أجيال ؟

بعد جيلي هناك العديد من الكتاب ومن بينهم مواهب حقيقية فأنا أفترض أن التواصل مثل ما يتصور الآخرون أنه تواصل شخص فأنا على علاقة بمن هم أقل مني سنا فالتواصل يتم ضمن موجز أدبي وثقافي ومن هنا فالتواصل موجود شئنا أم أبينا .

ما رأيك في المؤتمرات الأدبية وهل ترى أنها تثرى الحركة الثقافية ؟

هذا متوقف على عنوان المؤتمر و التوصيات التي يصل إليها وإمكانية تحقيقها .

ما هي الآثار الذي تركها عملك في التلغراف عليك؟

جعلني أزداد يقينا ببعض الأشياء فأنا أؤمن بأن كل ما يمكن استبعاده من النص يستبعد ما دام هذا المستبعد إحساس وراء القليل الذي يكتب ومؤمن في نفس الوقت أن المكتوب لا يكون مهما في حد ذاته ولكن أهميته في قدرته على التعبير عن كل الأوجاع الغير مكتوبة لأن ما هو حقيقي غالبا يكون عاصي على الكتابة وهذا الغائب هو الذات التي أكتب بها فنحن أمام نهجين من التعبير إما أن نعبر عن تجربتنا أو بغير هذه التجربة فإما أن نتكلم عن العدل أو نتكلم بعدل .. فأن تتحول القضايا الإنسانية الكبيرة من موضوع التنازل لأداة للتنازل إلى نبرة صوت إلى قيمة لدينا إلى أزميل للتعامل مع حجر وأنا مؤمن بكل هؤلاء بشكل عملي .
وعملي في المواصلات اللاسلكية انتهيت من خلاله لحقيقة أكدت على عدم اللجوء إلا لكتابة كل ما هو مفيد وضروري فأنا عينت سنوات طويلة في مكان الكلام فيه بفلوس وتحولت إلى عبقري في صياغة الكلمات من خلال قراءتي للرسائل المرسلة والآتية من الخارج وهذا يعتمد على خبرة مباشرة بين المرسل والمتلقي أي تجربة يحاول استثمارها ليصل لشفرة توصل معلومات في أقل عدد من الكلمات ومن يمارس عمل إبداعي بينه وبين كل إنسان مشترك إنساني وليست تجربة مباشرة .

ما رأيك في المشهد النقدي الآن ؟

في مجتمعنا العربي نحن مجاملون إلى أقصى حد أي لا أريد القول المنافع الصغيرة وهذا يدر ربحا ولكنه ضار .
وإن كان هذا لا يمنع وجود أصوات ما زالت تتمتع بالنزاهة فإذا كان الضمير العام عليل فعلاجه يتمثل في إعلان أصاب الضمائر الحقيقية عن آرائهم بشكل واضح ليضعوا الأمور في نصابها فالدوريات لا تكتسب قيمتها إلا من المسئولين عنها أو الذين يعملون فيها فهي مجرد دورية وقيمة أي دورية ونزاهتها ودورها يقف على المسئولين عن هذه الدورية .

امتازت الرواية عندك بتقنيات القصة القصيرة .. هل هذا اتجاه مقصود ؟

بدأت كاتب قصة قصيرة وعاشق لها وأنا رؤيتي جزئية ولا أعرف التعامل مع الكليات والمعاني العامة ورجل تثيرني النماذج والتفاصيل الدقيقة جدا والعامرة وأنا اكتب رواية بالمصادفة ولكن يوجد بذهني هذا .. فلقد قرأ لي نجيب محفوظ بعض القصص القصيرة ولفتت نظره وقام بالتبرع لي بعمل تزكية للتفرغ وبالفعل تم الموافقة على ذلك وكانت هذه التزكية تعطي لكبار الكتاب وكان هذا التفرغ لا يكتب إلا للرواية فكتبت مالك الحزين وواجهتني مشكلات فنية عديدة .

لاحظ أحد النقاد أن المرأة في رواياتك مهمشة ومجرد أداة للمتعة ؟

أنا لا أعرف شيئا اسمه المرأة في الأدب فنستطيع القول فاطمة ، حسنين لأن في الأدب لا نتناول المرأة كمعنى عام فكل إنسانة لها مقوماتها الشخصية فالأدب يتعامل مع شخصيات محددة .

ما رأيك في توظيف التراث في العملية الإبداعية ؟

أنا لا أعترض على توظيف أي شيء في العملية الإبداعية لكن أنا ليس لي تراث والتراث ليس ما هو مكتوب فقط ولا أعرف "اللي مكتوب لغاية سنة كام تراث وبعدها ليس تراث" والتراث ليس عنصرا منفصلا عن ممارستنا اليومية فالتراث به ما هو مدون وما هو غير مدون فهو جزء من أعرافنا وتقاليدنا دون أن نستشعرها إنما التراث بشكل عام لست مشغول به.

"الصحافة مقبرة الأدباء" ما رأيك في هذه المقولة؟

أنا لست معين كصحفي ولا أعمل هنا باعتباري صحفي رغم أنها مهنة جميلة ودوري يتوقف على قراءة الأعمال المقدمة للنشر وترشيح الأنسب فانا أعمل وعندي 17 عاما والعمل لدي أساس وعملي هنا جعلني على صلة بالدنيا ومكنني من الإطلاع .

قلة أعمالك الأدبية .. ما السبب وراءها ؟

ما دام هناك كتاب يكتبون الكثير لابد أن يكون هناك كتاب يكتبون القليل وأنا لا أكتب إلا ما يلبي لدي احتياجا حقيقيا داخلي وبالفعل ستلبي احتياجا حقيقيا لدى الآخر .

بعدك عن الأضواء .. بماذا تفسره ؟

عندما أكون بعيدا عن الأضواء اشعر بارتياح نفسي واتزان وتواؤم فمجرد ما أكون محل نظر أشعر بقلق عميق .


http://www.alhafh.com/web/ID-1039.html

Post: #407
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 02-09-2010, 03:57 PM
Parent: #406

أصلان
25/5/ 2007

Post: #408
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: Osman Musa
Date: 02-11-2010, 03:49 PM
Parent: #404

بالتوفيق أخى عبدالحميد .
أتمنا اليك النجاح فى رحلة العمل الكندية .
وننتظر مع الكاتب الكبير ابراهيم أصلان صاحب الحكاوى الحكاوى .

حصل إبراهيم أصلان على عدد من الجوائز منها:

جائزة طه حسين من جامعة المنيا عن رواية "مالك الحزين" عام 1989م
جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2003م – 2004م.
جائزة كفافي الدولية عام 2005م
جائزة ساويرس في الرواية عن "حكايات من فضل الله عثمان" عام 2006م

Post: #409
Title: Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 02-17-2010, 07:59 PM
Parent: #408

مدير موقع الكترونى يسرق اعمالى فى سودانيزاونلاين

عزيزي عثمان:

لقد أردت التنبيه فحسب هذه المرة إلى أن هذه المسودة الأولية جرى نشر معظمها بالتزامن تقريبا مع موقع (الحوار المتمدن):

http://www.ahewar.org/search/search.asp?name=1&U=1&site...F+%C7%E1%C8%D1%E4%D3


كما أن بعض النصوص القصصية القصيرة تم نشرها من قبل في أكثر من دورية أومطبوعة.


هنا حوار آخر مع إبراهيم أصلان:


[B: إبراهيم أصلان: الكتابة سلاحى الوحيد لمقاومة المرض والخوف
Displaying the only post.
Post #1Boshra wroteon July 21, 2009 at 5:25pm
جريدة الشروق

آخر تحديث: الاحد 8 فبراير 2009 5:24 م بتوقيت القاهرة
حوار: دينا يسري - فوتوغرافيا: راندا شعث

إبراهيم أصلان: الكتابة سلاحى الوحيد لمقاومة المرض والخوف


يوشك الأديب إبراهيم أصلان على الانتهاء من مجموعته الجديدة "حجرتان وصالة"، التى تصدر قريبا، والتى يسميها "متوالية منزلية"، وهى شكل جديد من كتاباته بدأه بـ"خلوة الغلبان" و"حكايات من فضل الله عثمان"، و"شىء من هذا القبيل".

حساسية أصلان المرهفة وولعه بالتفاصيل هما مدرسته فى الحياة، عبرتا عن نفسيهما فى مجموعته القصصية الأولى "بحيرة المساء" (1971)، ثم حوّل تجربة عمله فى التلغراف إلى مجموعة بديعة "وردية ليل" (1991)، وحكى علاقته التاريخية مع إمبابة، فى روايته "عصافير النيل" (1999)، التى يتم إعدادها سينمائيا فى فيلم من إخراج مجدى أحمد على، وكانت امبابة أيضا هى المكان البطل فى روايته الأولى " مالك الحزين" التى تحولت إلى فيلم سينيمائى شهير هو "الكيت كات" الذى أخرجه داود عبد السيد.

عن الناس والأمكنة يدور هذا الحوار الحميم معه.

< كتابك الأخير "شىء من هذا القبيل" نصوص تراوح بين القصة القصيرة والمقالة، فهل تراه نوعا جديدا من الإبداع؟

ــ منذ نشرت "خلوة الغلبان"، طلبوا منى فى جريدة "الحياة" أن أساهم بالكتابة فيها، وطبعا أنا لست مفكرا، ومقالاتى درجة عاشرة.. "يضحك"، وعادة أحتفظ بتفاصيل لا تصلح كقصص وفق المعايير الفنية، لكن أعتقد أن النثر اليومى يعطى إمكانيات إنسانية وفنية وقيم شعرية عالية، لذا استعنت بهذه المشاهد واشتغلت عليها بأدوات فنية لأشكل صيغة توسّع مجال التعبير لنفسى ومجال إدراكى، ولا أرى أنى أكتب شيئا جديدا ولا قديما، أكتب شيئا يشبهنى الآن، أو فى لحظة الكتابة، أى مادة سواء واقعية أو متخيلة، إذا نجحتُ فى إكسابها قواماً بأدوات فنية وأعطيتها شخصية تكتسب قدرتها على التأثير، وربما على البقاء أيضا، وعندما فعلت هذا وجدت صدى إيجابيا جدا، وهذا حل بعض المشكلات فأصبحت أكتب أكثر.

< هل تخطط لكتاب جديد؟

ــ نعم.. إحدى قصصى الأخيرة فى "الأهرام" أحاول العمل عليها لتكون كتابا، وهى عن "اتنين عواجيز.. عواجيز جدا.. عاشوا مع بعض لمدة طويلة فى حجرتين وصالة ثم رحلت هى، وبقى هو وحيدا" وغالبا سيكون اسم الكتاب "حجرتان وصالة".

< هل موضوع "حجرتان وصالة" يدور فى امبابة أيضا؟

ــ هى شقة معلقة، ممكن تكون فى أى مكان، وأنا فى هذا المشروع لا أنظر إلى الخارج كثيرا، الحيّز الذى تدور فيه التجربة هو "حجرتان وصالة".

< كل أعمالك تقريبا تدور فى امبابة، من "بحيرة المساء" إلى "حكايات فضل عثمان".. ذكريات على ضفاف النيل، وشخصيات، وأحداث، فما طبيعة علاقة الإبداع بالمكان فى تقديرك؟

ــ امبابة هى المكان الذى تكوّن فيه وعيى، وعرفت فيه أول الأصدقاء، وأول العواطف، وأول اللعب، وأول كل شىء، والمكان يكتسب قيمته بطبيعة الذاكرة المشتركة بينك وبينه، ولا يمكننى الكتابة دون الإحساس بجغرافية المكان وإن لم أذكره، فلو كتبت عن اثنين يقفان على ناصية، فلابد أن أعرف أين تقع؟، والمنطقة المحيطة بها كلها رغم عدم ذكرها، وأقيم النص من خلال البحث عن علاقات بين التفاصيل الصغيرة، فلو دخلت حجرة "ولقيت سرير عليه بنطلون بيجاما وفوطة فى الأرض وشباك موارب ودرجة ضوء ودولاب مفتوح شوية"، فيجب أن ألتقط العلاقة بين هذه الأشياء، تلك العلاقات التى صنعها صاحب المكان الغائب، وما دامت هناك علاقة بين التفاصيل فهناك إمكانية لحوار بينها، ففى أى مكان إذا ركزت جيدا ستلاحظين العلاقات الإنسانية لحدث ينمو ويعينك على إنشاء شىء، ولأنى أعتمد على هذه التفاصيل أحاول أن أحس بالمكان، بدلا من أن أظل فى الهواء الطلق أبحث عن الحيز.

< هل شكّل نيل امبابة هذا الحوار مع المكان؟

ــ أيامها كان ده مكان لعبنا، الطريق العام كان هادئا جدا، مفيش عربات كثيرة، وكان الشاطئ كله طمى، كأنك تلعبىن على شيكولاتة، طول الوقت الواحد عامل السنارة بتاعته وواقفين نصطاد البسارية.

< والبلطى تمسكوه بإيديكم؟!

ــ البلطى نمسكه بإيدينا أيام الفيضان، والبسارية كنا نصطادها بعجينة نزفرها بسمنة أو مش، وتبقى مثل حبة الأرز، نعملها فى سن السنارة وخيط حرير، والبسارية سمكة صغيرة جدا فيها 3 نقط سود، والراية سمكة صغيرة فضية لها ذيل أحمر. طول النهار، وقتك كله ضائع فى المية. وده علمنى حاجات كتير، أولا إنك تبقى صبور جدا، لغاية ما السنارة تغمز، تعلمك اللحظة المناسبة، السمكة ممكن تنط من السنارة، فيه لحظة ما مناسبة، تتخلق معك مع الوقت، لو شديت السنارة فيها هاتمسك السمكة، لو بعد منها هاتكون أكلت الطعم وتوكلت على الله. لكل حدث فى الدنيا لحظة أساسية، فى الكتابة أيضا هناك لحظة أساسية، هى التى اهتم بها ويتخلّق حولها كل شىء.

< كتبت فى استهلال "شىء من هذا القبيل": "أنزع الآن عن امبابة ــ كما تنزع قطعة لحاء جافة، وإن كانت حية ــ عن جذعها الطرى، كما تلتصق بجذع آخر". كيف تطورت علاقتك بامبابة بعد أن تركتها؟

ــ لم تنقطع العلاقة، مايزال إخوتى هناك، وما تزال الشقة القديمة موجودة، بالمكتبة. أنا فى المقطم منذ أربع سنين فقط وساكن سكن جديد، فاحتمالات رحيلى واردة، من أولى المفارقات التى عشتها، إنى كنت أعيش فى حى شعبى، والناس الموجودين قد يكونوا بوابين أو "بينضفوا فى البيوت"، أو "صنايعية". لما رحت المقطم، المكان شيك، فتغيرت المتطلبات، مثلا واحدة "تيجى علشان تنضف الشقة". هذا كان بالنسبة لى كائنا غريبا جدا: امرأة تأتى وتدخل المطبخ، تخلع ملابسها وتلبس ملابس العمل، تتناول الإفطار، تقوم بتوضيب الشقة، ثم تقعد تعمل تليفوناتها، وأنا أعطى لها نقودا. مسألة إنى أمد يدى فى جيبى لكى أعطى لأحد نقودا مسألة مستغربة بالنسبة إلى. علاقتى مع الناس كانت دائما علاقة متكافئة، وعشت عمرى كله عندى قدرة على إقامة علاقة مع مستويات مختلفة من الناس، وأصدقائى يتفاوتون ما بين "سائسى عربيات" وناس "مبسوطين بشدة".

< قرأت فى مدونة "هكذا أنا" لشابة تحكى كيف انتقلت من الهرم إلى امبابة، تقول: "أنا أحب امبابة حيث الأطفال والنيل وأم فارس وحكايات إبراهيم أصلان"، وكأنك أصبحت، أنت وقصصك، جزءاً من مشهد امبابة. هل هذا يصادفك كثيرا؟

ــ جدا، وأحصل على إيميلات كثيرة، وهذا مدهش، من مصريين فى واشنطن ونيويورك، يقرأون ما أكتبه، ويقولون إنهم يشعرون بروح مصرية فى قصصى، تذكرهم بمصر. اتصل بى أحدهم يسألنى لماذا لا أكتب كل يوم، قلت له إنى أكتب كل أسبوع "بالعافية" (يضحك).

< كثيرا ما تقول إنك لا تكتب "عن تجربتك"، بل بـ"تجربتك"؟

ــ المادة المستبعدة تعطى غورا وعمقا للقليل الذى يُكتب، وتبقى موجودة كإحساس وراءه. كنت دائما أضرب مثالا ببعض الفنانين التشكيليين، فان جوخ مثلا. أختاره لأن تجربته الحياتية من أصعب التجارب، رجل عاش حياته دون أن يبيع لوحة واحدة، وقتل نفسه. بالرغم من هذا لا نجد هذه التجربة المأساوية متناولة فى لوحة واحدة بشكل مباشر. غرفته فى آرل، جوز حذاء، كرسى، حقول الشوفان، والناس اللى بتستريح، هى أعمال عظيمة لأن همومه الكبيرة تحوّلت إلى علاقات لونية وأصبحت أداة للتناول ليس موضوعا للتناول.

< أنت قلت مرة إنك تكتب "بالأستيكة" أكثر مما تكتب بالقلم، ولغتك تتميّز بالاقتصاد. كيف تكتب اليوم؟

ــ الكمبيوتر عاوننى كثيرا. من أكثر الأشياء التى أغرتنى فيه هى قدرته على الحذف. فى البداية، عندما وجدته أمامى كنت خائفا أن أمد يدى. وبالرغم من هذا، شعرت أن العلاقة بالكتابة ممكن تنميتها، ممكن تتغير لوسيط آخر. أنا كنت أكتب بالقلم الرصاص والأستيكة، ولكن من "عصافير النيل" وأنا أكتب على الكمبيوتر.

< روايتك الأشهر، "مالك الحزين" حوّلها داوود عبد السيد إلى فيلم "الكيت كات". ما مدى إخلاص الفيلم لشخصيات وروح الرواية فى رأيك؟

ــ على وجه الإجمال الفيلم أعجبنى مثلما أعجب به آخرون. الشىء الوحيد الذى أزعجنى هو تغيير العلاقة ما بين "الشيخ حسنى" و"يوسف". هو فى الرواية صديق وفى نفس الوقت رجل ضالع سياسيا وله نشاط، استبعدت هذه العلاقة كما أستبعد محور المظاهرات، بسبب المشكلات الرقابية. علاقتى بالسينما قوية. عندى شغف بالتعرّف على إمكانيات تعبيرية موجودة فى فنون مختلفة.

الوسيط الذى أعمل به هو اللغة. ذاكرتى فى الأساس بصرية، واللغة ليست هى الوسيط الأمثل لتقديم ما هو مرئى. إذا دخلنا الحجرة التى تكلمنا عنها، سأتنقل من السرير إلى الدولاب من جملة إلى أخرى، هذه الحجرة ككادر سينمائى تراها على بعضها، بالنسبة للغة فيه مشكلة لأنك تنتقل من جملة لأخرى، فتبعد عن تفاصيل هذه الجدارية. "خناقتى" مع الكتابة، إنى أسعى نقيضا لفعل القراءة، لا أريدك أن تشعر أنك تقرأ، أسعى إلى أن أجعلك ترى، وتسمع، وتشم.. أسعى إلى تحويل المشهد إلى مشهد مرئى، وهذه إمكانية لغوية صعبة جدا. ولإغناء الوسيط لابد من التعرف على إمكانيات تعبيرية أخرى.

فى السينما ليس فى هذا مشكلة، أنت تجد الإجابات، مشكلات فن من الفنون موجودة فى فنون أخرى. عندى ولع بمعرفة مشكلات تعبيرية عاشها فنانون كبار. العلاقة ما بين الأدب والسينما مشكلة قائمة، وليس هناك صيغة مثلى لحلها، إنما أنا أتصور أن الأحداث أحيانا ليست مهمة، ولكن تأثير هذا الحدث، قد تكون مشكلة بالنسبة للسينمائى، فعليه أن يبحث عن بدائل تحدث نفس تأثير النص الأدبى. فى هذه الحدود أنا راضٍ جدا عن الفيلم.. الحوار حوارى، باستثناء 5 أو 10٪، الشخصيات شخصياتى كلها، والروح هى روح الرواية. والذى أسعدنى أكثر هو أن عددا كبيرا من الناس انبسطوا من الفيلم.

< أنت قلت إن "الكتابة لحظة فرح حقيقية."؟

ــ لحظة الكتابة هى معركة صعبة جدا، و"خناقة"، لكنى أشعر أن مع الوقت ومع اكتساب مهارات أكثر، أصبحت أشبه بلعبة فيها درجة من المراوغة، أنت تريد أن تمسك شيئا فى المخيلة، تحوله إلى شىء حى بقوام يتحول إلى عالم كامل رغم إنه شىء صغير. ومع التقدم فى السن أصبحت الكتابة سلاحى الوحيد فى مقاومة المرض والخوف.

< كيف تتجاوب مع الكتابات الجديدة؟

ــ أقرأ وانبسط جدا. من مميزاتى أنى لا أقرأ عبر تصورى الشخصى للكتابة. عندى إحساس، أو يقين، أن مجموعة منهم تتمتع بدرجة عالية من الحساسية. طبعا التجربة ستزداد مع الوقت على شرط أن يعيشوا أكثر وينتبهوا للأشياء حولهم. يمكننى أن أقول باطمئنان إن مستقبل الكتابة فى مصر جيد جدا، وهناك إضافات مهمة لرصيد الكتابة الجيدة.

< سنة 2000 نشرت رواية "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السورى حيدر حيدر فى سلسلة آفاق عربية التى ترأسها، وأسفرت عن أزمة شديدة. اليوم مازلت مسئولا عن السلسلة نفسها؟

ــ عدت إليها منذ حوالى عام، بعد أربع سنوات من الغياب، وبعد إصرار من أحمد مجاهد وأحمد نوار. استغربت إنهم "بيرجعوا رجل عنده سابقة ضخمة جدا" (يضحك)، أدركت أن النشر الرسمى فى حالة غير طيبة على الإطلاق، لأن بعد أزمة "الوليمة" أصبحت هناك مخاوف، مثلا لابد أن نأتى بتقريرين لكاتبين، وبعضهم يقرأ بحس رقابى.

قبل "الوليمة"، كنت اختار الكتاب وأقرر نشره. عندما أرى أن العمل يستحق النشر، أكتب أنا، وأوافق عليه، وأنا بشكل عام أرحب جدا بأى عمل جيد، أيا كانت صيغته. كما أن هناك أعمالا عربية كثيرة جيدة ليس فيها تجاوزات قد تكون مقلقة أحرص على نشرها، ومع إلحاحهم قبلت العودة.

رابط الحوار من جريدة الشروق]



http://www.facebook.com/topic.php?uid=9265414556&topic=10571