نقد الانتلجنسيا السودانية

نقد الانتلجنسيا السودانية


06-19-2007, 02:24 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=188&msg=1182843257&rn=23


Post: #1
Title: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-19-2007, 02:24 PM
Parent: #0

______________________________


إن أول مناطات البحث حول الانتلجنسيا السودانية هي محاولة الإجابة عن الأسباب التي أدت إلى عدم انتشار الأدب السوداني كما هو الحال في بقية الآداب الأخرى. ولعل هذا الأمر هو واحد من المعوقات الأساسية في سبيل لقاء الأدب السوداني حظه من الانتشار والنقد والتداول إقليمياً وعالمياً، وإن استثنينا الأديب والروائي العالمي الطيب صالح وشاعر القطرين محمد الفيتوري اللذان هربا من حصار القوقعة المحلية إلى عوالم أرحب، نجد أن بقية الأدباء السودانيين مازالوا محاصرين إن لم نقل مدفونين إما ذاتياً أو لأسباب أخرى يصعب حصرها نظراً للتغيرات المطردة في مناحي الحياة السودانية المختلفة: اجتماعياً وسياسية واقتصادياً وحتى تقنياً إذ أن دُور النشر والتوزيع السودانية تفتقر إلى أهم المقومات التي تجعلها لا تعي دورها الرسالي في حمل الثقافة والأدب على النحو الذي يجب، فتكتفي بدور الناشر والموزع السلبي على أساس ربحي ليس إلا. وتطوير مؤسسات ودور النشر لتقنياتها المهنية والحرفية وكوادرها وأدواتها في التعامل مع النصوص الأدبية هي واحدة من الركائز التي يعتمد عليها الأدب السوداني في عملية اختراق سوق الأدب العالمي. وأنا هنا حين أقول عالمي، لا أحصر العالمية أبداً في القراءات والكتابات غير العربية وإنما أقصد بها ما وراء السودانية عموماً.


إن غياب النقد هو أحد العوامل التي ساعدت على دفن التراث الثقافي السوداني، وما لم يجد الأدباء السودانيون طريقة لوصول أعمالها للنقاد فلن تجدي جميع المحاولات الفردية التي يقومون بها من جلسات استماع وقراءة ونشر في الشبكة العنكبوتية في محاولات متواضعة جداً منهم للوصول إلى المتلقين. فمعظم الأدباء السودانيون يكتفون بنقد المتلقي غير الأكاديمي والمتمثل في ردود أفعالهم سواء عبر وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة أو حتى موجة التصفيقات التي يتلقها في ندوة أو أمسية أدبية. ليصبح التصفيق أو مجرد الإشادات الفردية هو تيرمومتر النقد الأدبي السوداني. وهذا التواضع في الحقيقة ليس تواضعاً حميداً، بل هو تواضع المغلوب على أمره. وبدون محاولات شخصية أو مؤسسية جادة للوصول إلى حدود أبعد من المتاح فسوف لن يصل الأدب السوداني إلى مرحلة التداول التي تتيح بدورها لفت أنظار النقاد وبالتالي نيلهم الانتشار الذي يستحقونه. وعليه سيظل النقد مجرد أخوانيات تتداول في أروقة الأدب السوداني الضيقة من نقاد سودانيين إلى مبدعين تربط بينهم علاقات.


وبعيداً عن الحركات النقدية الجادة، نجد حركة يُمكن أن أسميها بالاكتشافات الفردية كتلك التي قام بها الروائي الفرنسي دو سان بول والأديب الفرنسي خافيير لوفان. وما قام به الشاعر يحيى العبدلي والدكتور سليمان يحيى محمد من تناول نقدي وتشريحي للأدب السوداني بجميع أنواعه، على مر العصور القديمة والمعاصرة. ورغم ما في هذه التجارب من غنى وجدية، إلا أنها تظل قاصرة عن تقديم الأدب السوداني بجميع خصوصيته كما يجب.


واحدة من معوقات انتشار الأدب السوداني، هو إيغال الأدباء أنفسهم في السودنة. ولا أعني بذلك أن الحل في سبيل ذلك هو التخلي عن التنميط المطلوب لكل أدب. ولكن أعني بذلك تلك الرؤية التغزلية التي يتعامل بها الأدباء السودانيون تجاه ثقافة سودانية جغرافية بعينها وهي ثقافة أهل البطانة والجزيرة على وجه التحديد، في محاولة منهم لإيهام القارئ السوداني والعربي أن الثقافة السودانية لم تنتج أنضج من هذه التجربة الثقافية المتفردة في لغتها ومفرداتها. فالمتتبع لنصوص الأدب السوداني وحتى على مستوى المسرح والدراما يجد التشدق والالتصاق الواضحين بهذه الثقافة والتي لا تعدو أن تكون واحدة من روافد الثقافة السودانية واسعة التعددية، وبالتالي لا يصح القول بتمثيلها لها.


والمطلع على الآداب غير السودانية يكاد يلحظ عدم اهتمام من قبل الأدباء بإعطاء قائمة تفصيلية بمحتويات تراث البيئة التي يكتب عنها إلا ما ينفذ منها من خلال وصوفات فنية صرفة، لا سيما في الآداب الأجنبية التي تهتم بالجانب الإنساني السردي على وجه الخصوص دون الدخول إلى تفاصيل تراثية أكثر خصوصية. مع التشديد على خصوصية الأدب المكتوب باللغة العربية المغاير لهذه الآداب حول كون اللغة تراثاً قي حد ذاته، وخصوصية هذه المتنقلة جغرافياً من بيئة إلى أخرى. علينا للخروج من هذا المحك أن ننتقل من حالة الاهتمام بأدوات الثقافة والتراث إلى الاهتمام الكامل بالثقافة والتراث نفسيهما، لأن هذه الأدوات – بما فيها من لغة - متغيرة بشكل دائم ومستمر. وإن كنا سنعول كثيراً على ميكانيكية التغيّر لتنتقل من أدوات التراث إلى التراث نفسه، فإن الحركة التأريخانية هي المقصودة في تعريفنا الأزلي للأدب وهو مناط اهتمامه الأوحد.


إن الأدب هو تاريخ الشعب المُصاغ بطريقة فنية – حتى لا أقول أكاديمية – والأدب الحقيقي هو الذي يستطيع أن يتعرف القارئ من خلاله على تلميحات واضحة وسريعة لمجمل الواقع للبيئة التي يتناولها النص الأدبي: سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتاريخياً وعسكرياً وأمنياً وكافة المرجعيات التي قد توضح جوانب البيئة بكل دقة. وعندها يصبح التشبث بأداة متغيرة هو نوع من الدوغمائية التي تعمل على قتل النص الأدبي وبالتالي على قتل المبدع أدبياً فيحول بينه وبين التطور من ناحية وبين الانتشار من ناحية أخرى.


ودون أن نلجأ للخوض عن مركزية الثقافة السودانية وهامشها، فإن ثقافة المركز الفعلية هي إنما خليط متميزة من جميع الثقافات السودانية المتعددة والمتشابكة، بغض النظر عن أسباب تشكل هذه الثقافة الوسطية من أسباب سياسية واقتصادية مختلفة على مر التاريخ السوداني المعاصر والقديم على حد سواء. ويمكن اعتبار هذه اللغة الهجين صالحة للتصدير دون اللجوء إلى التعريفات الجغرافية والإحالات المعرفية لها على أي حال. متخطين ورطة التشبث بعنصرية اللهجة الجغرافية ومتجاوزين لحدود جذورها التاريخية إلى أفق سوداني أرحب، يكون في العنصر السوداني أشد تعميماً وأكثر وضوحاً. وليس المجال هنا لسرد نماذج من ذلك فالواقع الأدبي السوداني مليء بهذه النماذج المقروءة والمشاهدة والمسموعة



القائمة السودانية المدفونة تطول لتشمل أسماء تجعلنا نصاب بصدمة حقيقية عندما نعلم أن هذه الأسماء الكبيرة ما زالت تجهل طريقها إلى المتلقي العربي والعالمي، ولنا أن نتخيل وضع الثقافة والأدب السوداني إن كان أُتيحت له فرصة الوصول إلى خارج حدود القطر السوداني، لحصول المنافسة التي يستحقها مع نظيراتها من الثقافات والآداب الأخرى: علي المك، بشرى الفاضل، إبراهيم إسحاق إبراهيم، فضيلي جماع، عمر الدوش، مختار عجوبة، عبد العزيز بركة ساكن، محسن خالد، عيسى الحلو، محمود مدني، طارق الطيب، بثينة خضر، أمير تاج السر، محمد أحمد عبد الحي، يوسف عيدابي، محي الدين فارس، مصطفى سند، أبكر آدم إسماعيل، رانيا مأمون، ملكة الفاضل عمر، عاطف خيري، الصادق الرضي، عصام رجب، أنس مصطفى وغيرهم الكثير من الأسماء التي يجهلها حتى السودانيون أنفسهم ناهيك عن النقاد والمتلقين العرب وغيرهم.


وإذا أردنا الخوض في واحدة من هذه المناحي الأدبية في محاولة لتشكيل أنموذج نقدي لها، نجد أن لا أجدى من تناول الرواية السودانية كمثال أكثر خصوصية لحياة التراث والثقافة السودانية، وللوقوف على حركة الوعي والثقافة الكائنة في مجمل الأدب السوداني، لأن بقية الآداب لا تحتمل هذا العبء التاريخي أبداً إلا إذا استثنينا بصفة خاصة: المسرح والدراما والنصوص الملحمية. وعندما نتكلم عن الرواية فلا بد لنا عندها – دون نتعرض لمحاولة تقييم – أن نقف على عدد من أهم الروايات السودانية التي ساعدت كثيراً في التعريف بالبيئة والانتلجنسيا السودانية بشكل أكثر ملائمة لمتطلبات المرحلة الحالية من حالة "الانزواء" الأدبي أو المرحلة الجنينية إن جاز لي التعبير.


وإذا تناولنا رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" أو "عرس الزين" للأديب العالمي الطيب صالح، ورواية "الطريق إلى المدن المستحيلة" للروائي أبكر آدم إسماعيل أو رواية "أخبار البنت مياكايا" للروائي إبراهيم إسحاق سنجد أنه قد تكونت لدينا حصيلة مهمة جداً تساعدنا على فهم الشخصية السودانية من خلال فهم المعطى البيئي الواضح في كل رواية من هذه الروايات. وإذا رجعنا لروايات الطيب صالح التي نالت حظها الوافر من النقد والدراسات النقدية، بحكم عالميته، فإننا نجد أن بقية المنتوجات الأدبية للروائيين السودانيين لم تلق ذات الحظ، رغم أن معظمها لا يقل – من حيث الحبكة الدرامية واللغة ومقومات الرواية المعرفة – عن بقية روايات الطيب صالح. وإذا عرفنا أن المتلقي العربي أو غير السوداني بصفة أدق مستعد تماماً لمعرفة المزيد عن الأدب السوداني نجد أنفسنا أمام إشكالية أخرى تكمن في المبدع السوداني نفسه. الذي آثر الانزواء إلى عوالم الأسفير والأخوانيات، مكتفياً بذلك عن اقتحام حائط العزلة المضروب حوله إلى آفاق أوسع وأرحب.


إن الفهم المغلوط للأدب ولدوره، يُعد واحداً من أهم أسباب تأخرنا في مواكبة الآداب الأخرى ومجاراتها إن لم يكن سبقها، فليس الأدب وسيلة إمتاع ذاتية أو حتى جماهيرية بقدر ما هو حِرفة دبلوماسية في أسمى مقاماتها، وعمل تأريخي في واحدة من أهم خصائصها الداخلية. وربما كان ذلك هو السبب المباشر في نيل الطيب صالح جائزته العالمية، إذ أنه وعى تماماً هذا الدور الريادي للأدب، ونقل بحرفية لغوية تفاصيل الحياة والبيئة السودانية متمثلة في شخوص روايته. وبهذا المفهوم الحيوي للأدب نجد أن رواية كرواية إبراهيم إسحاق "أخبار البنت مياكايا" لا تقل أهمية وروعة عن رواية الأديب العالمي الطيب صالح. إذ يعتمد فيها الراوي على ديناميكية الصراع بين اللغة والأسطورة والتاريخ بجميع متناقضات هذه العناصر الحيّة والفاعلة. وكذلك قصة "عندما يهتز جبل البركل" أو رواية "صالح الجبل" للدكتور مختار ود عجوبة الذي يحتفي فيه بالخرافات متمثلة في شخوص روايته الذين لهم علاقات "سفلية" بعالم الجن والشعوذة كما هي في شخصية "فتح الرحمن" و "ود حبوبة" ولا يختلف اثنان على أن الروايتين لهما طابع استكشافي خطير جداً وهو أقرب إلى مزايا التنقيب في خبايا التراث والتاريخ، وما يجعل رواية الدكتور ود عجوبة رواية قيّمة بالفعل.


إن المهمة التاريخية الجسمية التي تقع على عاتق المبدع السوداني والناقد السوداني هي نقل هذا التراث الأدبي الثر إلى الآخرين، والانتقال من مرحلة إلغاء الآخر إلى اكتشافه، ومن مرحلة انتظار الآخر إلى الذهاب إليه لا سيما وأن الجو ملائم لمثل ذلك ، متى ما توفرت عوامل التفعيل الإيجابية. لأن المزاج الأدبي ليس مزاجاً ذاتياً صرفاً.


ولي عودة أخرى ...

Post: #2
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-19-2007, 03:32 PM
Parent: #1

______________________________

نماذج نقدية

التجربة الإبداعية لإبراهيم إسحق , لهي تجربة غنية . تجعلنا نتوقف عندها طويلا , ونحن نحاول سبر أغوارها , العصية في لغتها وتقنيات سردها وتنوعها الحكائي , الذي يتقاطع فيه الأسطوري مع الواقعي مع السحري ..
القامة الإبداعية لإبراهيم إسحق لا تقل عن قامة الطيب صالح . فإسحق دون المبدعين الآخرين, الذين كتبوا منذ الستينيات. وعاصروا مرحلة التحولات الحداثية , شكلت كتابته نسيجا حداثويا منذ الوهلة الأولى على مستوى استخدامات اللغة والتقنيات ...

وربما استخداماته للغة هي ما جعلته يعتني بشرح المفردات الواردة في متن روايته أخبار البنت مياكايا - على سبيل المثال - حتى لا تحول هذه الاستخدامات ومفرداتها في تلقي هذا النص الروائي المدهش .

والولوج إلى عالم إبراهيم إسحق الروائي, لهو أمر تحفه المغامرة , لذا لا نملك أمام أعماله الشاهقة, سوى أن نأمل في التمكن - فعلا - من الكشف عن بعض القواعد الأساسية , التي ينهض فيها عالم إبراهيم إسحق الروائي, من خلال هذه الرواية البارزة: أخبار البنت مياكايا والتي يقول عنها: "كل الذي فعلته أنني أخذت قصة شعبية صغيرة ووسعتها من خلال الدراسة التاريخية (..) ووضع صورة واقعية لتلك القصة الشعبية , ومواجهة الأسئلة الملحة التي تفرضها أحداث رواية كهذه , في كيفية الاستطاعة على التفاهم وقبول الاختلاف بين العرب والشلك" (1 ) .. ويكشف هذا المجتزأ من كلامه عن مدى إدراكه لتوظيف الأسطوري في العمل السردي , بما ينطوي على أهداف نبيلة تعني بالحراك الاجتماعي , وعمليات التشكيل القومي, من خلال المعرفة الجمالية التي نتحصلها من النص دون تواطؤات أيديولوجية ..

يحاول إبراهيم إسحق, عبر توظيفه للأسطوره. هدم هذا العالم - المحيط بمياكايا .. بنا - وإعادة بناءه من جديد , محاولا إبراز إسهام البسطاء البدائيين - إذا جازت التسمية - في صناعة هذا العالم الجديد والمعنى الاجتماعي العام لوجودهم ووجود الآخرين فيه . فهم, يمتلكون قدرة تامة على التفكير اللانفعي , إذ يتحركون بدافع الحاجة, أو الرغبة في فهم العالم المحيط بهم .. في فهم طبيعته وفهم مجتمعهم من جهة أخرى , كما نلاحظ - لاحقا - في علاقتهم بالتماسيح وأفراس البحر والأرواح , الخ ..

وهكذا نجد هؤلاء الذين تخيم عليهم, أجواء الأساطير والوعي الأسطوري.. هؤلاء (العالم ثالثيون) المنسيين , الذين عبرت عنهم أخبار البنت ماياكايا , استطاعوا أن يمضوا في حياتهم, عبر وسائل فكرية ووجدانية , لا تقل أهمية عن وسائل الفيلسوف أو العالم (2)..
وبهذا الوعي التام من قبل إبراهيم إسحق, لمعنى الأسطورة. وما تحمله من معرفة مختزنة, منذ آلاف السنين , بما يصوغ الإنسان في اللحظة الراهنة. على نحو ما وفقا لما كان عليه أسلافه - بهذا الإسقاط - تعاصر الرواية فضاء البلاد الكبيرة - خاصة أن أحداثها ووقائعها تجري في مساحة واسعة على امتداد النيل الأبيض من قلبه وصعودا إلى ادغال الجنوب فهذه المساحة الواسعة من الوسط والجنوب هي التمازج بين السكان الأصليين والوافدين , ومنبع سؤال الهوية !! - بأساطيرها التي شكلت وجدان إنسانها, وصاغت قوانين استمراريته, وطرق تفكيره وممارسته اليومية ..

إن اعتناء إبراهيم إسحق بالأسطورة في أعماله الإبداعية المختلفة, يعكس الحاجة الملحة لتفسير الحاضر عبر هذا الماضي الذي ينطوي عليه حاضرنا بصورة من الصور , ولذلك نجد الأسطورة في شخصيات مثل الزاكي ود بخيت, الذي اشتهر لدى الأتراك وأعوانهم, باسم راصد القيزان وصار طريدا مطلوبا, من قبل السلطة التركية (3) . فالزاكي نموذج للبطل الخارج من قلب الجماهير الشعبية , والذي لديه القدرة على الإتيان, بضروب من الشجاعة والبسالة الأسطورية التي تستعصي على سواه , والزاكي ببطولته هذه يتبدى عن قانون اجتماعي ونفسي, حول الشخصية السودانية واستجاباتها لموضوعات صراعها الوجودي, قانون حكم مسيرة شعب اللوة العظيم بقيادة نيكانج في هجرته البطولية مصارعا الطبيعة وعابرا البحر الكبير , إلى أن وصل إلى تخوم الجنوب وشكل قبائله المختلفة .. ذات القانون يمكننا ملاحظته في شخصية أسطورية مثل مرين (4) الطفل الصغير الذي اتسم بالشجاعة والجرأة إلى الحد الذي جعله يواجه المفتش الإنجليزي .. هذا القانون الذي يتخذ مظاهره المختلفة يرتبط في أعمال إسحق بصراع الإنسان ضد قوى الطبيعة - الناهضة في قلب الليل بكل ما يحتوي من هيبة المبتدأ ورعب القرون الماضية - وتوسله للماورائيات والأسطورة والسحر..حينا كما في أخبار البنت ماياكايا أو بتصعيد البطولة في الأشخاص العاديين, الذين ينتمون إلى عامة الشعب - كالزاكي ود بخيت ومرين - , وتحويلهم إلى أبطال ..

ما أشرت إليه أتصور أنه من السمات الأساسية لعالم إبراهيم إسحق الروائي, الغني بالمعرفة بالتاريخ واللغة في بنيته الظاهرية والرؤيا الثرية للعالم في بنيته الباطنية .
ففي أخبار البنت ميا كايا على المستوى الظاهري للنص , نتعرف على كثير من الألفاظ غير المألوفة لأذننا التي شكلتها ثقافة الوسط , ونتعرف على أسماء العديد من الأماكن, والمواقع الوظيفية في جهاز القيم الهرمي, بل ونكاد نمتلك شجرة نسب , نمضي على هداها مستكشفين أغوار الرواية.. تماما مثلما نكتشف على المستوى الباطني الرغبة في هدم هذا العالم, الناهض في قلب الظلام بسحره وشعوذته , وبناء عالم آخر جديد متحرر من سلطة الظلام على كل شيء حتى قصص الحب الجميلة ..
هذا الظلام الكثيف الذي يخيم على فضاء الرواية - وهو ما لاحظه أيضا الصديق الناقد المصري أحمد الشريف -, الذي هو مثير الذكريات , ومتكأ الإنسان عندما تهتاجه الانفعالات والأشجان ..هو ملك الزمان , وهو الرحم الذي خرجت منه البشرية إلى فجرها.. وهو رمز الصراع الدائم على قاعدة الأضداد الثنائية : الظلمة / النور .. الخير/ الشر .. ولطالما ارتبط بالسحر والخرافة والأساطير , وظل مكمن خوف الإنسان , ورمزية لا شعوره.. هذا الظلام الذي تكون فيه الإنسان جنينيا بمثابة الرحم , الذي ينطوي على النور , بمثابة الرحم للوجود الإنساني في الصراع الدائم لأجل الاستمرارية والبقاء .. لقد وظف إسحق الليل كثيرا, في هذه الرواية . على هذه القاعدة, التي يقابل فيها الأسود/ الأبيض .. ولقاء الأضداد عموما ظل يشكل محورا للإبداع الإنساني بأجناسه المختلفة ومن هنا يمكننا الزعم - على مستوى التأويل - أن الظلمة أو الليل في أخبار البنت ميا كايا تطرح سؤلا مستمرا : هل هو ليل الإنسان أم الليل الناتج عن الحركة الظاهرية للقمر المضيء حول الأرض .. . أم هي تلك الأفكار التي تنبع ليلا من اللاشعور أشبه بالأساطير فللأساطير ملامح حلمية والليل هو لا شعور السلطة كما الريف أيضا حيال المدينة , وكما بلاد المستعمرات حيال المراكز الاستعمارية .. لكن هل النهار هو مفتاح المعرفة ومعراج الرقي؟ تركيز إسحق على تعاقب الليل والنهار في هذه الرواية لا يتوقف عند الإحالة إلى ليل الأساطير .. ليل مايكايا المطرود في أعماق اللاشعور حيث القدرات العجائبية.. ربما ليل الإنسان الراهن , بعد وقت طويل من فجر ميكايا ..


أخبار البنت مياكايا:
أخبار البنت ميا كايا يأتي اختلافها عن أعمال إسحق , الروائية والقصصية الأخرى, في كون مسرحها هو النيل الأبيض , فأحداثها التاريخية, والمستلهمة من وقائع حدثت في القرن السادس عشر, تجري على امتداد واسع, من أطراف الجزيرة ابا إلى مقرن السوباط وبحر العرب - ويمكن الإحالة هنا أيضا, إلى مقرن النيلين الأبيض والأزرق, موطن الشلك الأول "توتي" - . على عكس مسرح الأعمال الأخرى لإبراهيم إسحق: أم درمان اوقري وحلالات غرب السودان..
عالم هذه الرواية " أخبار البنت مياكايا ", محتشد و متشابك ومكثف . تنساب فيه اللغة بكل شاعريتها ومحتوياتها التاريخية , لتدفق عبرها الأزمنة والحكايات التي لا تخلو من شجن : عن أسلافنا وتاريخنا "الشخصي" - هذه الحكايات الخرافية والتي "ليست خرافية"- والتي كانت جداتنا "تحجينا" بها كل مغرب بعد أن نشرب الحليب استعدادا للنوم. مع إبراهيم إسحق في أخبار البنت ميا كايا تتداعي إلى أذهاننا كل حكايا طفولاتنا , لنخرج من قلب هذه الطفولة إلى اللحظة الراهنة التي أراد أن ينقلنا إليها إسحق , ويتركنا عند مفترق أسئلة عن الأمس واليوم ونحن ..

إن إبراهيم إسحق يستعيدنا إلى لحظات عزيزة علينا, تعود إلى عهد براءتنا ودهشتنا البكر , فنرقب معه الآن التحولات التي طرأت علينا , فنشعر بالمرارة لاندثار مؤسسة الجدة "الحبوبة" . صحيح أنها رواية قصيرة, لكنها متخمة بالأشياء والعوالم التي تعبر عن البدايات في قلب عالم يمور بالأساطير والخرافات, التي تعطي الحياة لكل شيء في هذه الجغرافيا التي يرتبط فيها الإنسان بالطبيعة البكر حيث تعكس حال الأشجار والنهر , والهمس السري وهمس اللغة , ما يعتمل في النفوس "من جهة النهر هدأ الحال تماما , فلا شجار ولا غزل إلا غرغرة الماء على الجروف , كالأبد يهمهم الدفاق بأسرار كونية كالطلاسم" (5).. يهدأ كل شيء وتبقى الطبيعة/ الإنسان وحدها , متحفزة للتواصل ..

أخبار البنت مياكايا غنية بنهوضها في اللغة والتاريخ والذاكرة الشعبية , التي عندما نقرأ تقاطعاتنا فيها نكتشف مدى ما فقدناه من حنين .. فهي رواية تستعيد الحنين الهارب منا مرة أخرى إلى داخلنا ؛ ليتخذ شكلا معذبا وملتاعا, في الحكي المشحون بالرموز, والدلالات والأساطير والأقنعة ..
إذ يوظف إسحق كل ذلك وفقا لآلية التضمين, من خلال اصطناع عدد من الأساليب المحايثة , في السرد , حيث نجد أن آراء طبيعة النفس الإنسانية - إيحاء - والإنسان البدائي, والتمازج بين العرب والسكان الأصليين.. كل ذلك نجده دون تنظير, بقدر ما هو معرفة عميقة بالتاريخ والذاكرة الشعبية, تحملها الرؤيا الباطنية للرواية .. ربما هي الحاجة الملحة عند إسحق, في محاولة تدمير القوالب, والديمومات والرتابة, دعته إلى اقتراح هذا الشكل الروائي أخبار البنت مياكايا (6) .. هذه الرواية المتمردة في شكلها ومضمونها على ما هو سائد , وتشكل بنضجها خط شروع جديد للرواية الاستيهامية , في السودان ..
من خلال اللغة الإشارية بين غانم العربي, وماياكايا ابنة رث الشلك, يتعرفان على بعضهما- في الليل - وتنشأ العلاقة بينهما لتفضي في نهاية المطاف إلى الزواج . لتنهض في لغتهما الإشارية أسئلة اللغة/ الثقافة/ التنوع .. مثلما تنهض لغة الرواية ذاتها, بتعابيرها غير المألوفة لثقافة وسط السودان التي ينتمي إليها غانم . لتفضي الرواية في التحليل النهائي إلى سؤال الهوية : هؤلاء العرب الوافدون, واختلاطاتهم بالقبائل الأصلية من خلال علاقة غانم بميا كايا . وحول هذا السؤال يخلق إبراهيم إسحق الحوار الداخلي للنص, بين مكونات الأنواع السودانية المختلفة , محيلا عبر لغة السرد الروائي إلى القوانين التي صاغت إنسان هذا المسرح الواسع , الممتد من الجزيرة ابا حتى قلب الجنوب .

تحتشد أخبار البنت مياكايا ببنى حكائية - صغرى - عديدة تتشكل من الأساطير . مثل أخذ التماسيح لجثة زوج اينابور "يقولون أن جدتهم تمساحة فهي تستلم أولادها من كل جرف .. وأهلها هن أفراس البحر" (7) والوعي الأسطوري يهيمن على فضاءات الرواية, من خلال محاولات الاستفادة, من علاقة القرابة بأفراس البحر , الخ "فرس البحر التي تمرن أولادها على الشط الشرقي اغتاظت لمرورها . ترنمت أمامها وتعذرت لها بكلام حفظته عن أبيها , فما أجدى يقولون أنها وكل القرابات الدنيا تنسى علاقتها أحيانا بالشولو" (8) الخ من أساطير تشكل البنى الحكائية الصغرى إلى جانب البنية الحكائية المركزية (علاقة ميا كايا بغانم) ..

منذ أول فقرة في الرواية, نلحظ تشابك وتعدد الرواة والشخصيات, وهو ما أشارت إليه دكتورة آسيا محمد وقيع الله, في بحثها القيم عن الأسطورة, في عالم إبراهيم إسحق الروائي (9) كما نلاحظ الروي الذي يتوسل صيغة الراوي/ المتكلم "جليل يغالطني يا حازم, من الذي يعرف هذه الأعاجيب هنا غير عمر وعبد القادر. يقول لي, ولا أجدني أرضى, أقول له يا جليل أقول لك حكاها لي رجل في محطة لواري على الرمال وراء ود عشانة تحت القمر والليل صاف وحله المساعد تكركر فوق اللهيب يحيكها لنا ذلك الحساني القادم من بادية الدويم" (10).. فهذه الرواية حاولت أن تلقي بكل أعباء المواقف والأحداث على شخصياتها , دون سلطة قابضة للراوي أو المؤلف , وقد نجحت في ذلك .

نلاحظ أيضا أن نتوءات الجغرافيا وتعرجاتها , التي وسمت الإنسان حملتها لغة السرد فاتسمت بها , فجاء السرد معقدا , وانعكس ذلك وظيفيا على التقنيات المستخدمة (أعني بالتفاعل الوظيفي هنا التأثير المتبادل بين السرد والتقنية السردية) والاستخدامات اللغوية غير المألوفة - كما أشار أحمد عبد المكرم في بحثه القيم عن فتح مغاليق عالم إبراهيم إسحق الروائي إلى وعورة السرد في أعمال إبراهيم إسحق , وهي ملاحظة قريبة الشبه من ملاحظتنا - (11) . فأدب إبراهيم إسحق ينزع باستمرار- نحو البحث عن قيمة اكتشاف, أو تحليل شارح لواقع ما: كما يقول عبد المكرم - .. واقع ملتبس غائب أو معزول تسعى النصوص في تكاملها إلى تبيانه أو تجليته..

أسلوب إبراهيم إسحق شديد الإيجاز والثراء .. ثراء موضوع هذه الرواية , التي تنهض تيمتها في الطبيعة الفسيحة جغرافيا والمعقدة إنسانيا , لكنها رغك كونها شائكة بهذا القدر من زاوية أخرى بسيطة , فهؤلاء الذين ارتبطوا بها "يتصارعون كالجواميس وبشراتهم تجمرت مثل أكباد الإبل ووجوههم عندما تشوه تصبح كالذي تمضغ في أحشائه الأفاعي, وهم حذرون ينسابون على تعاريج الشط كالثعابين, يتحركون عندما تموت الشمس ويهبط الظلام على الكون, يحيط بهم عواء الذئاب والثعالب والصقور التي تداوم على خطف الأرانب والقطى والجديان. عندما ترجع الشمس وتكشف أماكن الأنهر والبحار ومجاري الأودية وغابات السنط والجبال وجذوع الأشجار والبردي في المستنقعات وطين الماء الضحل, يمكثون في قطياتهم حتى يظلم الليل لمثل لون الغراب (12) هذه اللوحة التشكيلية , تشير إلى تقنية محددة لجأ إليها إسحق عبر توظيف الوصف في السرد التشكيلي بهذه الرواية , إذ نرى لوحة كاملة لإنسان بدائي وحياة برية , بطبيعتها الخلابة التي تنطوي على غموض الطبيعة وقوتها ومخاوف الإنسان .. فكل شيء في هذه الرواية يحدث باتفاق مع الطبيعة التي يحيطها الليل في رحمه, وظواهر هذه الطبيعة القابضة على فضاءات الرواية فحتى علاقة الحب بين غانم وماياكايا ترعاها هذه الطبيعة إذ تنشأ في ليلها المدلهم .. حيث يتم كل شيء في الرواية على قاعدة الأضداد الثنائية - على مستوى المضمون - كذلك على مستوى الشكل نجد تزاوج التراثي والحداثي والثقافي والشعبي التاريخي واليومي والعامي والفصيح والإيقاعي والسردي وذلك في ساق التفكك والتشظي وكسر النموذج وزواج غانم من ماياكايا هو الإيحاء بقصة كليلة ودمنة عن الليل والنهار والجرذين الذين يتناوبان قرض الحبل : الحياة والموت (13) فالحياة والموت كليهما مظهر من مظاهر هذه الطبيعة , وسمت به أبناءها فحمله سلوكهم وحياتهم .. ومثلما الشمس تموت لتحيا الدنيا بأسرها تولد من جديد "كأن الدنيا بأسرها ولدت من جديد عندما عوعى الديك" (14).. هذا الثنائي في خروج الحياة من الموت.. والموت من الحياة . وخروجهما كليهما من مصدرهما الأساسي : الطبيعة , يدفعنا إلى المجازفة بزعم أن النص يقيم حوارا مع التفسير الديني للخلق ..

____________
هوامش :
(1) كتابات سودانية "كتاب غيردوري". مركز الدراسات السودانية. العدد الثاني والعشرون . ديسمبر 2002 . ص :82
(2) كلود ليفي شيتراوس. الأسطورة والمعنى . ترجمة صبحي حديدي . دار الحوار طبعة أولى 1985. ص:18
(3) إبراهيم إسحق . وبال في كلمندو . مركز الدراسات السودانية 2001.
(4) إبراهيم إسحق . مهرجان المدرسة القديمة . إدارة النشر الثقافي .طبعة أولى 1976 .
(5) إبراهيم إسحق . أخبار البنت ماياكايا. مركز الدراسات السودانية . 2001.
(6) السابق . ص 17
(7) السابق ص :5
(8) نفسه ص : 6
(9) كتابات سودانية . مرجع سابق . ص :73
(10) إبراهيم إسحق ." مرجع سابق " . ص 9
(11) كتابات سودانية مرجع سابق . ص :95
(12) إبراهيم إسحق .مرجع سابق .. ص : 63
(13) مجلة إبداع . العدد العاشر أكتوبر 1997. ص 54
(14) إبراهيم إسحق مرجع سابق .. ص 13

بقلم : أحمد ضحية
...... كاتب وناقد سوداني مقيم في القاهرة

المصدر

Post: #3
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-19-2007, 05:19 PM
Parent: #2

________________________


نص قصص

أبواب
التصنيف : قصة قصيرة
الكاتبة : رانيا مأمون


استيقظ باكراً على غير عادته. منشرحاً ونشطاً غادر فراشه. توجَّه إلى الحنفية ليغسل وجهه ويغِّير ريقه بمعجون أسنان بروح النعناع، وجد الماء مقطوعاً .. يا إلهي.. متى حضر هؤلاء ..؟ ألا ينامون أبداً ..؟

تذّكر أنه لم يدفع مستحقات هيئة المياه بداية الشهر، وكيف له أن يفعل وهو إذا دفعها لا بُدَّ أن يؤجِّل شيئاً آخر. كان يستغني عن الكهرباء شهراً، والمياه شهراً، والهاتف شهراً، ويتحمَّل مضايقات صاحب الدكان واستفزازات مالك البيت، وأقسم لو أن الحكومة تسمح له بالسكن في الشارع لاستغنى عن البيت شهراً أيضاً، وبذا يدخل في قائمة المستغنى عنهم أو ما يسمِّيه "القائمة الهامشية" ... حاول أن لا يجعل هذا الأمر البسيط المتكرِّر، يحظى بشرف تعكير مزاجه الصباحي الجميل .. تجاوزه؛ فهم دائماً ما يضعون احتياطيَّاً وعندما ينتهي بعد اليومين الأولين من انقطاع الماء، فخرطوم الماء طويل بحيث يصل إلى بيت أكثر من جار في الحي ..

- يا ولد ..أملا الجردل دا سريع، عاوز استحمى وأطلع ..

حمل الباب خلفه، رغم أنه لا يغطي كل فتحة الباب .. مع انسياب الماء البارد على جسده أحسَّ بالنشاط، وتمنى أن يتجاوز اليوم ساعتيه القادمتين ويرميهما أو يعود إليهما مرة أخرى، ليس مهمَّاً. المهم عنده هو أن يغمض عينيه ويفتحهما فيجد الساعة التاسعة موعد استلامه لعمله .. منذ اليوم لن ينتظر إعانات إخوته المغتربين المتقطعة .. لن يغيّر خط سيره تهرباً من صاحب الدكان أو الجزار أو جاره الذي يقاسمه معاشه .. لن يسير برنامجهم الغذائي على نهج ( يوم في ويوم مافي ويوم كسرة بموية ) .. لن ينام أبناؤه دون عشاء ولو كان كوباً صغيراً من اللبن ..

- لا ..لا ..لا .. أمشي يا ولد.. يا محمد تعال تعال الولد دا رمى الباب .. يا على امسك الولد دا الباب وقع ليهو في كراعو ..

وما كان الباب سوى شريحة من الزنك لا تغطِّي كل فتحة الباب ولكنها تستر مَنْ خلفها. ارتدى ملابسه قبل أن يزيل الصابون عن كل جسده، وأقسم أنه سيغير هذه الشريحة من الزنك الصدئ التي يطلقون عليها مجازاً باباً .. شرب الشاي، كالعادة سكَّر خفيف. توكَّل على الله وبسمل وأراد الخروج. ولكن .. الباب! ما باله الباب..؟ حاول أن يفتحه وحاول أكثر وأكثر ولم يطاوعه .. الباب ذو (الضلفتين) إحداهما أقصر من الأخرى.

- تباً لهذا الباب الأعرج!

قال بحنق وواصل :

- يا محمد مية مرة قلت ليكم ما تقفلوا الباب الملعون دا شديد كدا .. أهو رزعة الباب دي خلتو يبقى كدا ..


عندما نجحت محاولاته أخيراً بعد رزمة من الكلمات الغاضبة، فتح الباب، سمع صريره نصف سكان الحي و"انكمش" كم القميص في يده اليمنى لكن .. لا بأس، فهو اليوم لا يريد لأيّ شيء أن ينال من مزاجه، حاول فرده بيده الأخرى وواصل سيره .. استقل الحافلة واقفاً، ليس أمامه خيار آخر لا يريد أن يتأخَّر عن مواعيد العمل..

- يا ولد .. دخِّل الناس الفي الباب ديل عليك الله، ما ناقصين غرامات من الصباح..

صرخ سائق العربة. بانتهاء جملته الأخيرة، أحس بأيدي تدفعه إلى الداخل وبدأت المعركة ..

- يا أخوانا لو سمحتوا، أدخلوا لينا جوَّه عليكم الله ..

هذا يلكم هذا، وهذا يدوس على قدم ذاك، والآخر الطويل منحنٍ وكأنه يصلي ..

- يا أخوانا أفتحوا الشباك دا .. الدنيا سخانة والسحاوي حايم الأيام دي …!

و.. و .. و أخيراً وصل محطته. اقتلع نفسه من بين الآخرين وقذف بها إلى الطريق، ومع وصوله اكتشف أن باب الحافلة أراد الاستيلاء على جزء من قميصه، فانتزع نصيبه منه وواصل سيره بقميص مثقوب.. تخطَّى تفكيره في هذا الأمر وأقنع نفسه: "لن ينتبه أحد إلى هذا الثقب" سيحاول أن يداريه ويخفيه عن الأنظار .. سيشتري واحداً جديداً بعد أيام، فهو الآن غيره بالأمس، عندما كان عاطلاً .. دخل الشركة التي يمتلكها أحد رجال الأعمال (هؤلاء الذين يظهرون فجأة أغنياء ويُعتمون على تاريخهم فلا يُعلم سوى أنهم رجال أعمال.. كيف ومتى ..؟ لا أحد يعلم) ولكن.. ماله وهذا ..؟ ليس شأنه ما يهمه هو عمله ودون ذلك خارج عن دوائر اهتمامه .. سيجدُّ في عمله ويثبت كفاءته، ويغيّر وضعه، وربما فتح له هذا العمل أبواباً أخرى مع قبيلة رجال الأعمال الغنية هذي .. سيعيد الماء .. سيلغي نظام الاستغناء عن أحد مكونات القائمة الهامشية كل شهر.. ستبقى كل القائمة كل الشهور .. سيشترى باباً للحمام ويركِّبه ويصين أرضيته. بعد فترة أيضاً سيصلح الباب الأعرج ويقوّمه، ولن يحتاجوا لشرب الشاي سكر خفيف، حتىّ لو بدعوى الحفاظ على الصحة وسـ .. وسـ ..وسـ .. وغرق في الحلم.

وصل مكتب رجل الأعمال في الطابق الثاني، تأمَّل الباب الجميل الشكل المتين والجيّد الصنع، "لا بُدَّ أنه من أحد المصانع التي تصنع الأبواب والنوافذ وغيرها، أو ربما كان مستورداً، وعلى كل الأحوال فهو قطعاً لم يُصنع في أيّ ورشة من ورش المنطقة الصناعية". أعلاه لوحة أنيقة وفخمة محفور عليها "المدير". تحسَّس الباب، كم هو بارد، أخذ نفساً عميقاً، أمسك مقبض الباب وقال في نفسه: " الآن ألج دنيا البشر".

لكن .. ما به ؟! لمَ لا يفتح ..؟ هل هو أعرج أيضاً مثل باب بيته؟ أم أنه يُحمل مثل باب حمامه؟ أم أنه لص أقمشة مثل باب الحافلة؟ أدار المقبض أكثر من مرَّة .. طرق وطرق مرة أخرى وأخرى ولا جدوى. مرَّ الساعي سأله:

- المدير موجود ..؟
- أنت عاوز المدير ..؟

قال بنفاذ صبر

- أيوه يعنى سألتك عشان شنو ..؟
- أنت عمر أحمد؟
- أيوه انا ذاتى بلحمي وعظمي …
- معليش المدير طلب مني لما أنت تجي أقول ليك انو الوظيفة دي أدوها لزول تانى واستلم الشغل خلاص .
- شنوووو ..؟! كيف الكلام دا ؟ وليه ..؟
- والله دا الحصل .

غضب .. ثار .. صرخ .. طالب بحقه .. قرع الباب وحاول اقتلاعه .. زاد الثقب في القميص .. أولاده ما مصيرهم ..؟ لقد وضع كل أمله في هذه الوظيفة .. هو يستحقها .. يستوفي شروطها .. لِمَ تعطى لآخر..؟ لِمَ ..؟! لن يغادر هذا المكان ما لم يجد إجابات لأسئلته، ما لم يعرف السبب. فكّر بوضعه.. بيته .. قائمته الهامشية .. إخوته الذين يقطّرون عليه إعاناتهم قطرة قطرة .. بباب بيته الأعرج .. بباب حمامه المحمول .. آآآآآهـ .. أرهقه عبور كل هذا وأنهكه التفكير في الغد، ارتمى قبالة باب المدير وبكى.. بحرقة بكى .. بقهر وإحساس بالظلم بكى .. ظل في مكانه وبين لحظة وأخرى يرفع نظره إليه عسى أن يُفتح أو يطل منه أحد .. طال الانتظار والباب موصد دونه.



Post: #4
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-19-2007, 05:31 PM
Parent: #3

____________________

مما تجدر الإشارة إليه أن للأستاذة "رانيا مأمون" قصة مترجمته إلى اللغة الفرنسية وهي منشورة على الموقع إضاءات على الأدب السوداني تحت عنوان "Des villes… et d’autres" - مدن ومدن أخرى. سوف أحرص على نشرها هنا

Post: #5
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-19-2007, 07:34 PM
Parent: #4

________________________


قراءة نقدية

الرواية : إحداثية الإنسان
المؤلف : محسن خالد
الناقد : رانيا مأمون

تجرى أحداث هذه الرواية داخل مدينة "ودمدنى" وبالتحديد في جوف أكبر سجن في المدينة الذى وصفه الكاتب بـ( لا شيء يشبه إنعكاس نجمة ثابت على ظهر نهر متحرك مثل هذا المكان ) بهذه العبارة بدأت الرواية . و(شيء قاتل جداً أن تبقى جامداً بلا معنى علي تيار زمن يجرف الكون والحياة نحو غاية تتوارى في المجهول) وبهذا وصف لنا وضع الإنسان في ذاك المكان وعجلة الزمن لا تتوقف أو تنتظر أحد متخذاً من هذا محوراً يخترق من خلاله نفسية الشخصية الروائية؛ وفى دوائر أصغر متداخلة ما بين علاقتها بالمكان العالى الأسوار وعلاقتها بالآخر بل حتى رؤاها الفكرية والفلسفية حيناً.

الشخصية الروائية هنا لم تقتصر على المحكومين ( المساجين) فقط، وإنما اتسعت لتشمل الموظفين وحتى مأمور السجن .. في هذه الرواية (الكتاب الأول) لا يقدم الكاتب قصة تحكي عن حويات شخصياته بقدر ما يتيح للقارىء أن يتعرف على فكرهم، بل لم يوضح التهمة التى جاءت بالمسجونين إلى هذا المكان ما عدا "سانتينو" اللص "وكمال" الذى سطا على بنك السودان كما جاء على لسانه في آخر فصل الذي عنون بـ " من وثائق سلامة – التداعي الأول – الرجل الأميبي" الذي جاء عن طريق السرد الذاتي خلافاً للفصول التي سبقته. وسرد فيه "كمال" أحد أبطال الرواية والذي لم تظهر شخصيته إلا فى الفصل الذى سبقه مباشرة رغم أن اسمه ورد أكثر من مرة .. أيمكن أن نعتبر أن هناك تداعي ثانى وثالث بذات النهج وأن الفصول الخمسة الأولي ما كانت إلا مقدمة لهذه التداعيات ..؟ أم أنه يحقق رؤيته لكتابة الرواية كما جاء على لسان "كمال" ( الرواية منطقها الوحيد أنها رواية. ويجب أن نخرج بها من لونية الروايات التي تحدثنا عن آل فلان وبنى علان. فالشخص قد أصبح بمفرده آل. كما أن سينماالمؤلف همها خلق دنيا كل إنسان فيها عاصمة لبلاد الإنسان) أهو – الكاتب بهذا يؤسس لخطابه الروائى ويدعو لفتح جديد في كتابة الرواية ..؟ خاصة وأنه قدم ذات الفهم في هذه الرواية. حتى رواية "كمال" لقصته جاءت من داخل وثائق "سلامة" الأخصائية النفسية ولم تأتِ بطريقة تقليدية بأن يحكى كلٍ منهم حكياته لزملائه وجريرته التى انتهت به إلى السجن .. أيّاً كان من الإحتمالين أو كلاهما - وأرحج كلاهما فقط علمنا أنها جزء أول من ثلاثية- فهو حتماً أضاف بمنجزه هذا جديداً للمكتبة الروائية السودانية .


ركز الكاتب علي بناء شخصياته وأهتم بها إهتماماً واضحاً ولم يهتم بتحديد الأزمنة سواء كان الزمن الروائي الذى جرت فيه أحداث الرواية داخل المتن الروائي وبالطبع داخل السجن، أو زمن القصة الذي يخبرنا وقتها أو حقبتها الزمنية التي جرت فيها على الواقع – واقعه المتخيل – حتى الفترة الزمنية التى قضاها "كمال" متسكعاً فى أوربا لم يشر إليها أو يحددها وإنما إكتفى بالشخصية وبعدها الفكرى رغم أن الفترة قد تخبر القاريء مدى تأثر "كمال" بالغرب إعتماداً على طولها أو قصرها .
هل أسقط الكاتب الزمان ولم يلتفت إليه ..؟ ونحن نعرف أن الزمان أحد عناصر السرد وبالطبع الرواية لا يتمفصل عنها .. لم يسقطه على طول الرواية وأشار إليه دون أن يحدد مدته سنين، شهور أو أسابيع ، تركه مفتوحاً وترك للقاريء الحرية في ذلك، إضافة إلي أن الرواية أصلاً لا تتحدث عن أحداث وقعت فى زمان معين وإنما تعكس مستويات فكرية لأناس عاشوا أو يعشيون دون تحديد نقطتى بداية ونهاية زمنية .

أكتفى الكاتب بالإشارة إلي الأماكن عدا موضعين أو ثلاثة تفصيلياً رغم لغته الوصفية الدقيقة ولم يغفل إرتباط المكان بساكنه مثل وصفه لغرفة "مكاشفى النورانى" إمام المسجد وخطيبه ( في الفناء الخلفى لمسجد السجن تنهض غرفة "مكاشفى النورانى" كدكة سفينة نوبية باهظة التاريخ. البحر يترامى أمامها وتروق له فكرة أنه بحر. وأشرعتها مطوية كهن النوبيات الختين. من تحتها أقراص الملح ومن فوقها رائحة العاصفة . فارقت إلفة المراسي وصار لها فى الألم حياة. غرفة وحيدة ومحبة. لا يعتبرها صاحبها موشع قدم لمزيد من الأرض، بل خطوة نحنو عالم آخر. ولهذا فقد استوحشت المدن مقبوضة الروح وباردة الإرادة. وثبتت أقدراها فى هذا المكان.)

"مكاشفى النورانى" رجل متصوف ترك الدنيا وملذاتها وتعلقت نفسه بالآخرة دار البقاء. ورغم هذا له أحزانه وشجونه التى لم ندرك أسبابها رغم وجدوها - الناس يكافحون الحزن. ولكن الصوفي وحده الذى يترك حزنه للعدم. قال هذا لحمدان وقبلها كان يردد مقطع لـ" كمال"

مع الريح ألقيت دمعي
وتركت حزنى للعدم

نلاحظ فى عموم الرواية إستحضار الموروث والتاريخ خاصة فى تلك النقاط التى تتحدث عن " سانتينو" جذوره وعادات جدوده وتقاليدهم إضافة إلى الروح الصوفية النقية التى صاحبت " مكاشفى النوراني" فى غير ذى موضع وإستعمال كلمات لها صلة وطيدة بها مثل كلمة "نافلة" فى الفصول الأولى.

الفضاء الروائي؛ فضاء فكري جدلي، يحاول الجميع التعمق فيه وتكاد تتساوى مستويات السقف الفكرى الى يظلهم ويتجادل الكل تحته؛ كلٌ متكيء على بعده الثقافي والفكري وحتى لونه السياسي، كلٌ منطلق من فكرة. فـ "سانتينو" ذاك الأفريقي مائة بالمائة الذى يستحضر فى ذهنه مراراًعادات جدوده الوثنيين؛ " سانتينو" اللص بنظر المجتمع والمحكمة التى قضت بأمرها؛ لا يعتبر نفسه لصاً لمرض في نفسه أو أن اللصوصية فيه فيروساً يجب العلاج منه و إستئصال ما يساعد على إنتشاره، بل يسرق "سانتينو" بدافع من تحقيق العدالة الإجتماعية التى ينادى بها هو والتى هي إحدى الدعائم التي يرتكز عليها فهمه الإشتراكي.

يقول عن نفسه :
- ..... سانتينو لم يتخلى عن اللصوصية حتى تشفي كل قبور الموتى من الفقراء.
ويقول أيضاً مخاطباً "الفليل":
- أتعتقد هذه المهرطقة – يقصد "سلامة" الأخصائية النفسية- أننا نولد كى نتفرج على الناس وهم يعيشون..؟ إن كانوا ينظرون إلينا كفائض بشر؛ فسنوظف أنفسنا في ما يعود باللعنة الجميع .
إذاً "سانتينو" لا يسرق لنزعة شريرة أو روح إمتلاك ما عند الغير أو مرض وإنما يسرق منطلقاً من مفهومه الإشتراكي رغم أنه لا يتفق مع الإشتراكيين فى كل حماقاتهم كما قال ..

وشيطان مكة (خالد العوض) ذاك الرأسمالي الذي وضع مبادئه على رفوف وأدراج مكاتبه، الذى كان ينال ما يريد ويدفعه الظلم أكثر ويحثه الطموح والشعور بالقوة على السير على جثث الضعفاء الذين يسقطهم فى طريقه إلى الأعلى. لم يفعل كل ذلك إلا لأنه أراد ان يطوع المال وأن يجعله خاضعاً له فقد كان يقول لنفسه: ( إن كان المال جنى المدينة؛ فلابد أن أجعله أحد خدامي المطيعين أقول له : شخلاي مخلاي، فينفذ رجال القانون طلباتى كالمنومين مغنطيسياً، فيتبرع الناس بتقديم أنفسهم للقضاء بدلاً عنى).
وهاهو الآن ينتظر حبل المشنقة، يعض أصابع الندم وتتآكله الحسرة على نفسه. ورغم أأنه كان يعي تماماً ما يفعله من تجاوز ديني وأخلاقي وإجتماعي إلا أنه كان مستمراً في فعله
- كنت أختبىء من ظلامة فى ظلامة .. وأينما أخفيت رأسي سقطت عليه دعوة مظلوم. أنقذنى يارب وسأسجد لك على الجمر .

و "بشري محمود" السجين السياسي والشاعر الذي أُدخل هذا المكان لأنه اكتشف أن ما كان يفعله أكبر خطأ وهو إستراكه فى حرب جنوب السودان وسيره علي خطى السلطة ..
يقول بأسى :
- ما هو محتمل أن تندم علي فقد حبيبة أو ارتكاب خطأ، أما أن تندم على حرب فهذا ندم بالغ التعقيد.
متى يندم الإنسان على خوض حرب..؟ جميعنا يعرف أن خوض الحروب هي مفخرة لكل مشارك فيها، ولكن عند "بشرى تحولت إلى ندم عندما اكتشف عبثية ما يقوم به وبعده عن المنطقية. اكتشافه هذا جعله يتحول من (مع) إلى (ضد) ولهذا هو هنا .
يتمنى " بشري" لو أنه خاض حرباً يفهم أسبابها ودواعيها ..
- ليت الاستعمار يعود من جديد، لنحاربه فتضمن لنا حربنا معه شيئاً يفهمه هو على الأقل. أو على أسوأ الفروض لكي نموت بطريقة يحترمها الأحفاد ولنعرف مع من ندفن .
إذاً كان اكتشافه ذاك تحولاً وغيّر مسار حياته..
وما هذه إلا نماذج للشخصيات الروائية التي تضمنها المتن الروائي، غيرها نجد " كمال" الذي يمارس الضياع ؛ ذاك الشاعر الذي لم يعد يؤمن بشيء فترك جامعته وطار إلى أوربا، جابها وتشرّد فيها وتاه حتى عن نفسه ..

الحوارات اتسمت بالجدلية حيث ينهض كل صاحب فكرة ليدافع عن أفكاره وطريقته التي اختارها للعيش ويتبارى الكل في إطلاق عبارات وأحكام تحدّث القارئ أن يتبناها، ورغم اختلاف المتحاورين إلا أننا نلمس تقارباً ثقافياً بينهم عدا شخصية المأمور الممثل للسلطة داخل السجن والتي ظهرت واهية مثل خيط العنكبوت وتكاد تكون بغيضة.
لا يمكن أن نحدد شخصية روائية بعينها لننصبها بطلاً لهذا الرواية، فكل شخصية وردت يمكن أن تكون بطل للرواية.

" إحداثيات الإنسان " رواية فكرية تجلّى فيها الكاتب في رسم شخصياته وتنوعها - ومن هنا جاء اهتمامنا بها- تنوعت الشخصيات بحيث شملت ألواناً من طيف المجتمع السوداني بكل شجونه وهمومه .. الخ اجتمعت داخل مبنى عالي الأسوار .. كان ذكياً في حواراته ومتعمقاً في أفكار أبطاله وقوياً في لغته ودقيقاً وجميلاً وساحراً في وصفه ..

المصدر : شظايا أدبية

Post: #6
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-20-2007, 09:03 AM
Parent: #5

________________________

الجزء الثاني من "نقد الانتلجنسيا السودانية":


إن العلاقة بين المبدع والناقد أو فلنقل بين الكاتب والناقد على اعتبار أن الاثنين مبدعين هي علاقة لصيقة جداً، ولكن ميكانيكية هذه العلاقة ليست واضحة بالنسبة إلينا نحن كسودانيين، على وجه التحديد، وكعرب بشكل عام. الوضع الافتراضي لهذه العلاقة هي أبجدية كون الكاتب كاتباً في المقام الأول، والناقد قارئاً في المقام الأول. وعلى هذا فإن "وظيفة" الكاتب تنتهي بمجرد انتهائه فعل الكتابة والنشر للمتلقين، ويأتي هنا دور الناقد الذي يمارس "وظيفته" كقارئ، وعندما يستفزه نصٌ ما، فإنه يعكف على قراءته بعين احترافية هذه المرة. ومن هنا يتبين لنا أن الكتابة المستفزة "المبدعة" هي التي تجلب النقد، وبالتالي فهي المحرك أو الباعث الأساسي للحركة النقد. تماماً كالرسام الذي يستفزه منظر طبيعي ما، أو حالة شعورية معينة تجعله يشرع بتحليل هذه المشعورات والمرئيات ويترجمها إلى لوحة، ويبقى التحليل محصوراً في نطاق المدرسة التي يتعامل بها الرسام سواءً كانت إنطباعية أو تجريدية أو سريالية أو تكعيبية أو رمزية أو غيرها من مدارس الفن التشكيلي المختلفة. ومن مجمل هذه الدائرة الإبداعية نستطيع أن نوجد حدود الدائرة بالتركيز على تماساتها الكثيرة لنخرج في النهاية إلى حصيلة محددة هي: الفعل وردة الفعل.


مما سبق، نجد أن دور الحركة النقدية في حقيقته لا يقتصر على النقاد فقط، بل يقتصر على الكُتاب كذلك، فهي مسؤولية مشتركة، ومن الصعب أن نحدد هذه المسؤولية في نطاق جغرافي محدد، طالما أننا نتكلم عن "فن" أو "أدب" على اعتباره أحد روافد الفن الأكثر عبقرية. لا أزعم عنصرية أدبية، أو انحيازاً لهذا الجانب من الفن، ولكنه في نظري أكثر الفنون عمقاً ونضوجاً من الناحية الإنسانية. وعليه فلا نستطيع أن نقول أن النقاد المصريين "مثلاً" لا تقع عليهم مسئولية تتبع الحركات الأدبية في السودان "مثلاً" والعكس صحيح تماماً، فأنا لا أتكلم عن جغرافيا بل أتكلم عن قضية إنسانية في المقام الأول. الإبداع بغض النظر عن بيئة هذا الإبداع.


والنقد المقيد بجغرافية محددة، أعتبره في حقيقته نقداً مقنناً لا يُساعد على التطوير. وعندما أقول "تطوير"، فإنني أعني التطوير الذي يشمل حركة النقد، وحركة الأدب على حدٍ سواء. فالملكات النقدية تحتاج إلى نصوص تشعر الناقد بالتحدي أول الأمر، في محاولة لتفصيص النص الأدبي، لغور أسباره وكشف خباياه، ويظل ذلك مستحيلاً في ظل تكرار النماذج البيئة الموحّدة. وعليه فإنني أرى أن المسؤولية مشتركة بين الكُتاب والنقاد السودانيين من جهة وبينهم وبين النقاد العرب من جهة أخرى.


فيما يختص بتشبث الأنتلجنسيا السودانية بثقافة محددة، فإن الحديث عنها يطول ليأخذنا إلى جدلية المركز والهامش والتي تناولها الدكتور أبكر آدم إسماعيل بإسهاب وعمق شديدين، وتكلم فيها عن إشكالية الهوية كحجر زاوية في هذه القضية. وهذه الإشكالية تتمحور في كوننا عرباً أم أفارقة في المقام الأول. وهذه الإشكالية الموغلة في الإغراق قد تقودنا إلى معرفة عامة عن وضع الانتلجنسيا السودانية بشكل أكثر منهجية ودقة. وكما يرى الدكتور أبكر آدم إسماعيل – وأنا أتفق معه في ذلك – أن السودان بلد متعدد الثقافات، وأن مفهوم الدولة السودانية، ما هو إلا جزء أصيل من تراثها الإثني والديني والثقافي والتراثي ...إلخ. وهذه التعددية التي خلقت لنا تبايناً واضحاً في العادات والتقاليد والطقوس واللهجات أو حتى اللغات في بعض الأحايين كانت هي سر تغزل الأنتلجنسيا السودانية في فترة ما، غير أنها كانت هاجساً اكثر تأريقاً لهم فيما بعد. وحتى اليوم فإن المتحدثين باسم الثقافة السودانية مازالوا يتغزلون بهذه التعددية دون أن يكونوا قادرين على حل إشكالية الهوية بشكل قاطع وجذري.


وربما لم تكن مشكلة الهوية، مشكلةً بالبُعد الأدبي لها عندما نتحدث عن تاريخ السوداني القديم، وتحديداً في العهد المسيحي، ولكن دخول الإسلام إلى السودان هو ما أوجد هذه المشكلة "مشكلة الهوية" ومنذ تلك الحقبة التاريخية وهذا الدخيل يمتد في العمق مشكلاً مداً حضارياً يهدف إلى إعادة إنتاج الآخر داخل هوية هجينة "إسلاموعربية" كما يوضح دكتور أبكر. وحتى تلك الحقبة التاريخية لم يخلق هذا المد الحضاري أي إشكالية تذكر، إلا بعد أن انهيار الحضارة العربية والإسلامية بدأت الإشكالية بالظهور. واختصاراً يمكنني أن أقول أن طفح ثقافات محددة، ومحاولات تشبث الانتلجنسيا السودانية بها، ما هي إلا امتداد طبيعي لهذا المد الحضاري غير المبرر، واستعلائية غير معلنة، أو معلنة في مواطن أخرى. وهذا ما يُفسر التصاق الانتلجنسيا السودانية بها، فالمسألة ليست إشكالية هامش ووسط، بقدر ما هي إشكالية عروبة من عدمها. وارتباط مفهوم العروبة بالإسلام من ناحية، وانتقال اللغة العربية إلى السودان والبدء في تداولها منذ بدايات الفتح الإسلامي لأفريقيا من ناحية أخرى يجعل من هذه الإشكالية إشكالية شديدة الخصوصية والعمق. وفي ظل سيطرة جغرافية لثقافات كان لها دورها التاريخي البارز في تهديد الكتلة السودانية بشكلها التعددي الواسع. أو يمكننا أن نقوم أنه استعمار الداخل.

Post: #7
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-20-2007, 10:55 AM
Parent: #6

_____________________

دراسة هامة جداً

مداخل لقراءة تجربة السرد في السودان
بقلم: أحمد ضحية

ارتبط السرد فى السودان، سواء فى جنس القصة القصيرة أو الرواية، بالعلاقة الجدلية بين الإنسان , والتاريخ الذى شكله، بوقائعه وأحداثه.. ولأن السودان - إلى حد كبير - جزء من المجال الثقافى العربى، أخذ عن العرب، الاحتفاء بالتاريخ «إن توحد التاريخ والحضارة فى المخزون الثقافى للوعى الاجتماعى العربى، أنتج وعيا مبدداً، بالتاريخ والحضارة معا» وهو ما نلاحظ انعكاساته، فى العلاقات الإشكالية، التى تربط إحداثيات النصوص السردية، خاصة فى المقولات التى تنطلق منها (وهى مقولات إجمالا تتعلق بمتناقضات البنى الاجتماعية = الرؤى المختلفة = الدين، العادات، التقاليد، الأساطير، إلخ.. = سؤال الهوية وعلاقة الذات بالآخر..)، وهى مقومات تنهض فى التاريخى، بالمعنى اللوكاتشى.. «التاريخى بالنسبة للوكاتش، هو اشتقاق الشخصية الفردية للشخوص، من خصوصية عصرهم التاريخية.. فالهيمنة الفنية على التاريخ، تعنى إمكانية المبدع فى تقييم خصوصية الحاضر المباشر، بإيلاء الأهمية الملموسة للزمان والمكان والظروف الاجتماعية، والنظرة إلى الإنسان بوصفه نتاج نفسه، ونتاج نشاطه فى التاريخ، مما يؤدى بالضرورة إلى اعتبار فكرة التقدم الإنسانى قانوناً تاريخياً وفلسفياً محسوساً"..

وفى هذا الإطار ظلت تجربة السرد في السودان، مسرحا لتداول الرؤى المتباية، التى يتقاطع عندها التاريخ, والمجتمع والإنسان، بهاجسه اليومى، وأسئلته الوجودية، والكونية، المحيرة والحارقة.. وتمزقاته فى واقع مبنى على الاختلاف (التنوع) والخلاف (إقصاء التنوع) = (القطيعة)... لتمثل حركة السرد فى السودان خلال مسيرة تطورها منذ طبقات ود. ضيف الله (فى شأن الأولياء والصالحين) مرورا بملكة الدار محمد عبد الله وإبراهيم إسحق إبراهيم والطيب صالح ومحمود محمد مدنى وكل الأجيال المتعاقبة منذ الأربعينيات، حتى اللحظة الراهنة، اتصالا لهذا التوتر والقلق الإنسانى الجمالى، المصنف سردا..ً.

كما أثر غياب مفهوم الوسط الثقافي، عن المشهد الثقافى فى السودان، سلبا على تجربة السرد فى السودان (عائقا أمام حوار نصوص الأجيال المتعاقبة، بحيث يخلق هذا الحوار تجربة سردية متصلة، يمكن قياس تطور تجربة السرد من خلالها) إذ إن عدم وجود مؤسسات، لتداول المنتوج السردى على نحو واسع، وتقييم العمل السردى، وتحديد قيمته، أسهم فى خلق حالة من الإبهام والارتباك, إزاء تطور التجربة السردية، وهنا أيضا تبرز علاقة التاريخ بالغياب الفاجع لمفهوم الوسط الثقافى! إذ ارتبط هذا الغياب, بقمع أجهزة الدولة الأيديولوجية منذ 1956 حتى الآن.. ما دفع المبدعين للبحث عن متكآت أخرى، مثلت انفتاحا للسرد فى السودان. على السرد فى أمريكا اللاتينية والغرب( سواء باللغة الانجليزية او لغة الترجمة الى العربية )، ومما لا شك فيه أن السرد فى السودان، قبل انفتاحه على السرد فى الغرب وأمريكا اللاتينية، كانت له تجربة حوار عميقة ومتصلة مع السرد فى مصر، والمشرق العربى بصورة عامة.. وما يبرز كعلامة واضحة أن السرد فى السودان، - إلى حد كبير - مثل إعادة إنتاج للسرد العربى، بحيث غاب أثر السرد فى أفريقيا عنه، إلا قليلا.. وهنا يبرز سؤال الهوية مرة أخرى، ليطل برأسه كأحد الأسئلة الأشد حرقا.

ومنذ خواتيم القرن الماضي، أخذت تتبلور رؤية جديدة حول اتصال التجربة السردية، وإيجاد مؤسسة تعبر عن هذا الاتصال، تمظهرت هذه الرؤية فى تجربة نادى القصة السودانى الذى تأسس فى العام 2000 وأصدار ابتداءً من العام 2001م مجموعة ضمت ثلاثين قصة لعشرة كتاب ينتمون لأجيال مختلفة، تتراوح بين الثمانينيات والتسعينيات، وحملت هذه المجموعة اسم (دروب جديدة - أفق أول) ، كما كرر النادى ذات التجربة في العام 2002، بإصداره لأفق ثان لعشرة كتاب آخرين.. وما يميز هذه التجربة ملمحان أساسيان::

* اعتماد مفهوم العمل الجماعى.
* الاهتمام بالصوت السردى الجنوبى.

وهكذا نجح نادى القصة الوليد فى التأسيس لتجربة, فشل الآباء والأجيال الذين أعقبتهم- باستثناء رائد القصة عثمان علي نور _ منذ الأربعينيات فى بنائها.. هجست القصة القصيرة فى السودان، بصورة أساسية، بطرح السؤال : كيف يكون الإنسان، أكثر إنسانية، ليرى كل شىء، فيشيد من هذه الآلام العظيمة، حياة أفضل، وهو نفس ما عبرت عنه نظرة تشيخوف للحياة التافهة فى روسيا.. ومثل هذا السؤال الخلاصة، التى تتقاطع عندها كل الأسئلة الحارقة، ابتداءً من الأسئلة، الخاصة بقضايا المرأة، مروراً بسؤال الهوية ومتناقضات اليومى المعاش.

المصدر: القصة السورية

Post: #8
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-20-2007, 11:05 AM
Parent: #7

_____________________

تابع: مداخل لقراءة تجربة السرد في السودان
الكاتب : أحمد ضحية

جنس القصة القصيرة:

انطلقت القصة القصيرة فى السودان من خلال مجلتى الفجر والنهضة، منذ أربعينيات القرن الماضى، وولدت وقد هيمن عليها الاتجاه الواقعى الرومانسى والوجودى، وقد عبرت عن هذه الهيمنة، الكتابات السردية القصيرة، لرائد القصة القصيرة فى السودان (الأستاذ عثمان على نور)، الذى نشر أول مجموعة قصصية قصيرة (غادة القرية)، وقد اتسمت قصصه وقصص الجيل الذى جايله وتلاه مباشرة، باعتماد الحبكة على التعمية والمفاجآت ما جعلها تبدو مفتعلة، وتقريرية أحياناً.. ومنذ عثمان على نور وحتى اللحظة الراهنة مرت القصة القصيرة فى السودان بمسيرة طويلة ومعقدة من التلاقح والتطوير والاستلهام، برزت خلالها أسماء عديدة مثل صلاح أحمد إبراهيم فى مجموعته «البرجوازية الصغيرة»، وعلى المك فى «حمى الدريس» و«هل أبصر أعمى المعرة» , وعيسى الحلو فى «ريش الببغاء» و«وردة حمراء لأجل مريم» وبشرى الفاضل فى «حكاية البنت التى طارت عصافيرها» و«أزرق اليمامة» وصديق الحلو فى «الفصول» و«غصة في الحلق» وسلمى الشيخ سلامةفي ( مطر على جسد الرحيل )، وعادل القصاص في ( لهذا الصمت صليل غيابك ) ومبارك الصادق، وأحمد ضحية، وزهاء الطاهر، واستيلا قاتيانو , ومنال حمد النيل، وبثينة خضر مكى.. وغيرهم تقلبوا بين مختلف الاتجاهات والتيارات والمدارس، خلال أكثر من نصف قرن من الزمان، تعبيراً عن سيرورة إنسان يمضى فى اللانهاية، بحثا عن قيم الخير والحرية والجمال.

إن ما أنجز من قصة قصيرة فى السودان، لهو كثير مقارنة بحداثة تجربة كتابة القصة _ في شكلها الحديث _، كجنس غربى وافد إلى السودان، وتعتبر ملكة الدار محمد عبد الله، من الرواد الأوائل فى هذا المجال.. إذ إن أول مسابقة للقصة القصيرة أجرتها إذاعة أم درمان 1947، فازت فيها هذه الأديبة بالمرتبة الأولى عن قصتها «حكيم القرية»، ومنذ الأربعينيات حتى الآن. تطورت القصة القصيرة فى السودان. تطوراً كبيراً فى ظل مناخ التنوع الثقافى الخصيب بإيحاءاته، الغنى فى دلالاته وبيئاته الغامضة. وإذا كان لكل نص بنيتان، واحدة ظاهرية هى بنية المتعة_ متعة الحكى_ والثانية بنية خفية تحمل رؤيا العالم. نجد أن القص السودانى غنى فى بنيتيه : الظاهرية والخفية، بغنى مناخاته وفضاءاته, المتنوعة. فالقصة القصيرة منذ موباسان وتشيخوف, حدثت لها تحولات وتبدلات كثيرة ، واستطاع القاص السودانى، استيعاب كل هذه التحولات والتبدلات، فجاءت قصته دينامية الشكل والمضمون، خالية من المواقف السكونية..

جنس الرواية:

تعتبر ملكة الدار محمد عبد الله من أوائل الروائيين فى السودان، إذ كتبت روايتها الفراغ العريض فى العام 1952، وصدرت هذه الرواية فى العام 1970م، عن المجلس القومى للآداب والفنون، والمعروف أن أول رواية سودانية هى رواية «تاجوج» لعثمان محمد هاشم فى 1947، تليها رواية «إنهم بشر» لخليل عبد الله الحاج فى 1962م. واتسمت الروايات فى هذه الفترة، برصانة اللغة، إلا أن تقنيات الكتابة يُلاحظ فيها ضعف واضح، وقد مرت الرواية السودانية منذ الخمسينيات حتى هذه اللحظة الراهنة بمحطات عديدة، تقلبت فيها بين الواقعية، كما عند ملكة الدار والواقعية السحرية كما عند الطيب صالح ومحمود محمد مدنى وعيسى الحلو. وإذا كان جيل الستينيات، أرسى دعائم تقنيات حديثة, وشق السبيل إلى تطبيقاتها العملية, فى سردياته الروائية من خلال: «موسم الهجرة وبندر شاه وعرس الزين» للطيب صالح ودومة ود حامد "، أو «جابر الطوربيد والدم فى نخاع الوردة» لمحمود محمد مدنى أو أعمال الليل والبلدة وحدث فى القرية، وأخبار البنت مايا كايا ومهرجان المدرسة القديمة»، لإبراهيم إسحق إبراهيم، فان ثمرات تقنيات هذا الجيل تتجلى في اعمال الاجيال اللاحقة مثل : «الجنخانة» لعمرو عباس و«مسرة» لبشرى هبانى و«الزندية» لإبراهيم بشير ابراهيم و«مارتجلو ذاكرة الحراز / ولانجور مناخات التحفز» لأحمد ضحية.


وهنا تجدر الإشارة إلى أن كثير من الروايات في تسعينيات القرن الماضي, هجست بالاحداث الكبرى, سواء كانت سياسية او طبيعية, و بالتاريخ والحاضر السياسي الممأزق, بفعل تجربة الديكتاتورية المستمرة ..، فهى تاريخية - رواية التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة _ بالمعنى العام للرواية بوصفها فنا يتعذر على بنيته التكوينية أن تعادل الراهن وتزامنه, دون أن تخترقه تعاقبيا، وتاريخيتها تتصل برؤيتها, أكثر مما تتصل بأحداثها وتقنيتها القادرة على تفريد العام، أى اشتقاق الشخصية الفردية من خصوصية عصرها التاريخى, وما يتولد عن ذلك, من طابع ملحمى, قادر على استحضار صورة صراع المصائر الفردية، بالتقاطع مع المصائر الوطنية. وقد مثلت كل هذه الروايات (بما فى ذلك صباح الخير أيها الوجه اللامرئى الجميل لعيسى الحلو، المتهمة بأنها إعادة إنتاج لموسم الهجرة) حضورا إنسانيا عاليا، قاسمه المشترك، التاريخ الذى تتمحور فيه التجربة, بحضورها الحى ونكهتها المميزة، لكأنها تجربة طازجة، راهنة.. فالذاكرة المشتركة للنص / القاريء , تلتقط كل ما هو جوهرى في المقولة والشكل والمضمون وتكثف كل ذلك, فى إبداع روائي فذ منذ الستينيات «الوظيفة المعرفية للنص ثمرة تحقق الوعى فى الممارسة بغض النظر عن درجة قدرة الوعى على تحقيق التطابق أو التغاير كدال يطمح إلى احتواء مدلوله, والسير عليه فنيا ومعرفياً ودلالياً»، من هنا كانت للتجربة الروائية فى السودان أهميتها الخاصة، إذ تقاطعت فيها أحدث التقنيات، كما انشغلت بتوطين قيم الحداثة والتنوير، إذ نهض القول الروائى من مواقع عدة : التحديث والردة.. قضية المرأة والسلطة الذكورية القابضة ومشكل الهوية وسؤال المركز، الهامش.

المهاجرون والسرد:

إذا كانت الكتابة مقاومة للموت، فالسرد وطن الكاتب، ومن الأمور اللافتة للنظر فى السودان، ظاهرة الكتاب المهاجرين و المغتربين، فكثيرون وجدوا أنفسهم مضطرين لترك البلاد الكبيرة و الاغتراب اوالهجرة ,إلى منافٍ بعيدة، أو وجدوا أنفسهم بهذه المنافى : فى أمريكا وأوروبا والعالم العربى. وكتبوا كثيراً من الأعمال الرائعة فى مجال القصة والرواية، بحاجة لإفراد دراسات وأبحاث بكاملها، لاكتشاف القوانين التى تتحرك فيها.. بعض هذه الكتابات كتب باللغة العربية وبعضها الآخر بالإنجليزية، وبعضها وصل السودان وأغلبها لم يصل ومن أشهر هؤلاء المهاجرين والمغتربين لدى القارئ السودانى ليلى أبو العلا وإبراهيم بشير وأمير تاج السر وأحمد محمد الأمين وعبد الفتاح عبد السلام وطارق الطيب - لكن هذا الاخير يعتبر حالة خاصة سنتعرض لها في حينها -، وقد مثل هؤلاء سفراء للسرد السودانى فى البلدان التى نشروا فيها أعمالهم الرائعة، التى ينقصها النقد فى السودان، لإحيائها كجزء من نسيج التجربة السردية فى المشهد السردى السودانى ...

السرد فى جنوب السودان:

أحد أهم الأسئلة التى طرحها السرد فى الجنوب: سؤال الهوية، ويواجه السرد فى جنوب السودان مفارقة كونه مكتوبا باللغة الإنجليزية، لقارئ إن لم يكن أميا (ويكاد يكون أميا فى الجنوب) فعلاقته ضعيفة باللغة الإنجليزية- باستثناء المتعلمين بالطبع وهم قلة مقارنة بغير المتعلمين _، إذ إن القارئ فى السودان بصورة عامة لغته الرسمية سواء التى يتحدث بها أو يمارس بها حياته اليومية - بل ويفكر ويحلم بها -، هى اللغة العربية. وأبرز ما اعتمدت عليه البنى الحكائية، فى السرد الجنوبى كتيمات أساسية : الهوية، قضية المرأة، الطقوس، الأساطير، الحكايا الشعبية وعلاقة الإنسان بالمكان، واتسم السرد الجنوبى بتوظيفه للتقنيات الحديثة أسوة بالسرد فى الشمال، كالأسلبة الاجتماعية وانعكاس المرايا لبث التاريخ الذاتى، إلى آخره من تقنيات مثل الفلاش باك والفلاش فور وول كما وسم العديد منها الأسلوب الأرسطى الموباسانى كما عند جوناثان ميان وألينو رول دينق - ، ونجد أن السرد فى الجنوب والشمال يسير فى خطين يتقاطعان عند نقطة واحدة تمثل مشتركا إنسانيا كونيا فى جوهره : سؤال العلاقة بين الذات والآخر!.. ومن أبرز الكتاب الجنوبيين:

* تعبان لينفق «الكلمة الأخيرة» 1968، و«مات زنجى آخر» 1968
* جاكوب جل أكول: «عودة العاصفة» مجلة الخرطوم 1995
* أغنيس لوكودو: «الربيبة» مجلة سوداناو 1995
* ألينورول دينق: «نهاية القحط» صحيفة الصحافة 1978، «حفيد كاهن المطر» مجلة الإذاعة والتليفزيون 1976، «الشجرة العرجاء» سوداناو 1976
* فرانسيس فيليب: «من أجل محبةاياي» 1976
* أيتم آياك: «حياتان» 1976
* فرانسيس دينق: «بذرة الخلاص وطائر الشؤم» 1994، وقد صدرت الروايتان فى مركز الدراسات السودانية القاهرة.

ويُلاحظ عند تناولنا لفرانسيس دينق، أنه منذ أخذت الرواية فى السودان توظف التاريخ فى إطار تحليلها للظاهرة الاجتماعية التى تشكل المحتوى السردى بأحداثه ودلالاته.. أصبح التاريخ بُعداً أساسياً فى الفضاءات التى تحيل الرواية إلى ملابساتها وبهذا المعنى كونت ملابسات التاريخ فى موسم الهجرة للطيب صالح (شخصية مصطفى السعيد) كشخصية منبتة، ووسمت هذه الملابسات مستر سعيد بآثار عميقة كما لم يكن التاريخ بعيداً عن الغرباء الذين حفلت بهم رواية أحمد حمد المك «عصافير آخر أيام الخريف» المحتشدة بحكايا الذاكرة الشعبية، الناهضة فى الشفاهى والأسطورى والفانتازى، وهى تبحث بين كل هذه العلاقات التى تربط الغرباء وتحكم علاقاتهم فى الجغرافيا.

وفى بذرة الخلاص لفرانسيس دينق نجد الالتباس بين مستوى الحكاية ومستوى القول، يربك المتلقى فى تحديد الجنس الذى تنتمى إليه هذه الرواية التى تعالج التاريخ. إذ يتداخل ما هو حكاية / تاريخ / سياسى. مع ما هو روائى بالمعنى الروائى! هناك أيضا القاصة استيلاقاتيانو، التى يأتى تميزها من كونها الصوت النسوى الذى يكتب باللغة العربية_ الى جانب ارثر غابريال وآخرين _، بين الأصوات الجنوبية، وهنا يدخل مفهوم شمال / جنوب فى مأزق لدى التعامل مع استيلا قاتيانو وارثر غابريال ، فالكتابة إنسانية وكونية، لا تنهض فى الانتماء الاثنى، ولكن تأخذ حيويتها وخصوبتها من هذا الاثنى الذى تنهض فيه ثقافة مغايرة لثقافة الشمال.. إذن فاستيلا وارثر واغنيس بقدر ما ينتمون للجنوب اثنيا، كذلك هم من الشمال، الذى منحهم ذاكرة أخرى، ووجدانا ثقافيا آخر، إلى جانب ذاكراتهم ووجدانهم الذى شكله الجنوب. فاللغة العربية التى تكتب بها استيلا واخرين غيرها ، ليست أداة تواصل وتفكير فحسب، بل هى الأسلوب الذى تحلم به وتحيا به وتمارس به الحياة اليومية أيضاً.. وهو ما يسهم أيضا فى معالجة مشكل الهوية, بالإجابات اللازمة عن طريق هذه اللغة باتجاه تصحيح علاقة الذات بالآخر (الشمال/ الجنوب) وصولاً لكونهما ذات واحدة تشظت إلى ذات وآخر بتأثير عوامل متباينة...

المرأة والسرد:

باكتمال حلقات الوعى الاجتماعى والوطنى فى الأربعينيات والخمسينيات. ارتفع الصوت النسائى من خلال كتابات الأديبة: فاطمة عبد الرحمن فى مجلة الفجر، فى ظل مناخ صراعى حاد. بين قوى التقدم, التى تناصر قضايا المرأة, وقوى التخلف المناهضة لحقوق المرأة، وبرزت القاصة: آمال عباس العجب، فى مجلة صوت المرأة، وآمنة أحمد يونس، واستمرت المرأة القاصة فى السودان, تعبر عن همومها وقضاياها, فيما تبدع من سرد قصصى وتطور من أسئلتها، ليفضى السؤال فى رحلة الإجابة، إلى أسئلة أخرى، شائكة ومعقدة، قد تفضى لأسئلة الوجود الكبرى : الموت، الحياة، وعلاقة الإنسان بالوجود، كما عند زينب عبد السلام المحبوب وسلمى أحمد البشير، وزينب بليل التى نشرت أعمالها فى مجلة المنار 1957م...

وقد اتسمت الكتابة النسوية فى هذه الفترة «الخمسينيات» بالتقليدية. فالبناء السردى محكم وفقا للمنظور الأرسطوطاليسى، ولكن اللغة تقريرية يغلب عليها الوصف وتحاول عكس الواقع والوقائع كما هى مكرسة لخدمة أغراض أيديولوجية وتربوية. ومنذ السبعينيات أصبحت الكتابة النسوية فى السودان, ذات سمت يميزها، ككتابة مهمومة بالدرجة الأولى, بالخطاب التحرري الحداثى، انطلاقا من مفهوم: أن المرأة تعيش نفيا وجوديا، وبرزت هنا سلمى الشيخ سلامة، وسعاد عبد التام، وآمال حسين، وفاطمة السنوسى.. وهكذا أشرع الطريق. بعد أن أرسى قواعده الرائدات منذ ملكة الدار محمد عبد الله، وزينب بليل، مروراً بسلمى الشيخ سلامة وصولا إلى منال حمد النيل، واستيلاقاتيانو، وأميمة عبد الله. ويُلاحظ هنا أن الكتابة النسوية منذ السبعينيات حتى الآن، استفادت من تقنيات الكتابة القصصية الحديثة، كما برزت اللغة القصصية فى النصوص، كلغة تقترب كثيرا من تخوم الشعر. حيث تجد المفردة ملأى بالإيحاء, ومكثفة ومتعددة الدلالات، كما برزت تلك الوشائج الحميمة, التى تنطلق منها المرأة الكاتبة, فى تأسيس إبداعها. انطلاقا من تجاربها الذاتية. ومن وعيها باختلافها. واستقلاليتها, وتصديها لآليات القهر المختلفة، التى تريد إحكام السيطرة على جسدها وعقلها "ومنذ هذه الفترة يمكن الحديث عن كتابة مختلفة للمرأة فى السودان عن كتابة الرجل، وكذلك يمكن الحديث عن أن لكل قاصة صوتها الخاص".


المصدر : نفص المصدر السابق

Post: #9
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-20-2007, 11:10 AM
Parent: #8

__________________________

تابع: مداخل لقراءة تجربة السرد في السودان
الكاتب : أحمد ضحية


خاتمة:

ظلت بنية السرد فى القصة القصيرة، والرواية فى السودان، منذ استقر هذان الجنسان, بين أجناس الكتابة فى السودان.. ظلا يكشفان عن المفارقة التاريخية للذات المتشظية إلى آخر, وهى تتحسس مركزية القمع الذى يطال كينونتها.. حيث لا تملك إزاءه سوى انكسارها الروحى والاجتماعى وجرح هويتها المشكوك فيها، وأسئلة المهام التاريخية للتحرر الوطنى التى ظلت حبيسة الأضابير ولم تنجز. وقد تجلت هذه المفارقة, بدرجات متفاوتة. على مستوى القصة أو الرواية, منذ الميلاد في مجلتى الفجر والنهضة. فى ثلاثينيات القرن الماضى، مروراً بمجلة القصة التى أسسها: عثمان على نور, أبو القصة القصيرة فى السودان.


وأخذت الأسئلة الحارقة, تتطور وتنضج إثر كل جيل.. تبلغ ذروة نضوجها، فيما اعترى البنى الاجتماعية فى السودان. من تمزقات وتشظ باعتلاء النظام الكولونيالى الإسلاموعربى منذ 1989 لدست الحكم ووقوع البلاد في حقبة من حقب الانحطاط التي لم يسبق لها مثيل. وبين كل هذا الركام من التمزق والتشظى نهض السرد الجنوبى, وسرد المرأة. كعلامتين بارزتين فى هاجس الكتابة. وهى تسعى لتأكيد ذاتها، من موقع الحوار بين الذات والآخر.

وإذا كانت فترة السبعينيات, هى فترة سيادة الشعر بلا منازع، فإن فترة التسعينيات من القرن الماضى, وأوائل القرن الجديد. هى فترة سيادة الرواية كجنس ينهض فى تحليل التاريخ وإعادة إنتاجه، فى سبيل خلق واقع أفضل, من واقع افتراضى متخيل.. هذه الرحلة الطويلة منذ ثلاثينيات القرن الماضى حتى الآن (بالنسبة للقصة القصيرة والرواية)، لهى رحلة شاقة. استلهمت فيها الكتابة من التراث تيمتها. ومن الواقع خصبه. ومن الأشكال الحداثية الغربية تقنياتها, المبدعة.. وتحاورت النصوص فى السودان مع النصوص الأخرى فى مصر, والعالم العربى مشرقه و مغربه ؛ وأفريقيا، وأمريكا، وأمريكا اللاتينية وأوروبا.. تحاورت حواراً بناءً. أنتج تجربة ناضجة فى خاتمة المطاف: شكلا ومضمونا، عبرت عن خصوصية السودان كمفترق طرق، تلتقى وتتقاطع عنده حضارات أفريقيا العريقة, وحضارة العرب. وثقافة الغرب الكولونيالى....

المصدر : نفس المصدر السابق


Post: #10
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-20-2007, 11:43 AM
Parent: #9

___________________________

صفحة من دفتر الحياة!!

بقلم: د. عبد الله صالح

تحتوي هذه القراءة النقدية لرواية الكاتبة ملكة الفاضل عمر، والتي خرجت الى الوجود بعنوان «الجدران القاسية» على التحية والاحترام اللازم تسجيله لكل قلم يتوكأ على الكتابة في درب الابداع الانساني بصفة عامة، كما تحتوي على الوان واشكال من التهانيء بعد النشر. وبالنظر الى الظروف الغرائبية السلبية لعوالم الطباعة والنشر في بلد كالسودان، تميل وتختل جميع الموازين فيه لمصلحة الخبز قبل الكتابة والادب والفن بشهادة واقع الحال الاصدق من كل مقال.
تشير السطور المنثورة عن السيرة الذاتية للكاتبة ملكة الفاضل، الى اشتغالها بالقصة القصيرة والشعر قبل كتابة او نشر روايتها موضوع هذا المقال.. ولا شك ان لهذين الحقلين الابداعيين، تأثيرا واضحا على قلم الكاتب عندما يضع نفسه مكان الراوي او الكاتب السارد او المخرج الصانع لاحداث العمل الروائي، باعتباره عالما مصنوعا من ذلك المزيج المركب: رواية الاوهام واوهام الرواية.
فالشعر بانفتاحه على الكلام ـ تقليديا كان ام تفعيليا، او حداثيا ـ قادر على نشر وتوصيل العديد من اشكال المعاني والصور من جهة، كما انه الاقدر على ممارسة الاخفاء والغموض والتبختر في دهاليز الاستتار امام قاريء النص. وربما لهذا كله، تأتي مساهمته المفترضة في النص الروائي مطبوعة بطابع الترميز والاغناء لشعرية العمل وشاعريته، كما تشهد بذلك العديد من الاعمال الروائية التي كتبها شعراء مطبوعون، انتقلوا الى السياحة في عالم السرد الروائي المفتوح على اكثر من شخصية ومشهد، واوسع من زمان ومكان.


اما القصة القصيرة التي تتركز حكمتها وخلاصة هويتها في عنصر «التكثيف» الشبيه بضغط وتصفية واستخلاص المكالمات والعبارات والعبرات والمعاني والمشاهد والاحداث في قالب ادبي معين، هو القص وتقديمها للقاريء على هيئة «كبسولة» ادبية تحتوي على معناها ومبناها المحدد وغير المحدد بشهادةالتأويل او التفسير الذي يمتحن تذوق القاريء لها. وقد يكون مفهوما هنا الاتجاه نحو اعادة قراءة «عينة» رمزية من القصص الفائتة للكاتب نجيب محفوظ للتفهم ما تقصده عن كيفية الاشتغال والانتقال من القصة الى الرواية وبالعكس.


كان لا بد من هذه المقدمة قبل الدخول الى عالم رواية «الجدران القاسية» التي شيدتها مخيلة الكاتبة ملكة الفاضل خريجة جامعة الخرطوم التي كانت وما زالت وستظل معلمة ورمزا حاضنا وحاويا للتاريخ والتراث والهوية والآمال المستقبلية للمجتمع المدني السوداني الذي تشهد فعالياته بحضور ساطع لخريجيها في جميع مرافقه ومشاريعه السياسية منها او الاقتصادية والثقافية رغم التراجع المذهل لدورها في السنوات الاخيرة بسبب من الظروف المحبطة والمرهقة التي اقعدت الوطن وانسانه عن ذلك الدور الطليعي المنتظر.


ينفتح السرد الروائي في «الجدران القاسية» على مشهد «امبراطورية صلاح»: الشاب المحامي الذي يحظى بنوع من الرعاية والدلال عند اسرته ووالدته بصفة خاصة منذ طفولته. كان قد اختار مساحة من الباحة الخلفية من الحوش الكبير الحاوي لمنزل الاسرة الكبيرة ليقوم بتعميره وتسويره بشكل عفوي حتى اصبح بواقع الركن اليماني الاكثر رحابة ودفئا في الحوش فمن الاثاث المنتقى بعناية الى نباتات اللبلاب المتسلقة والشجيرات التي تزين المكان مروربا بـ«قلة» ا لماء الصغيرة و«شاي باللبن»وجلسة الانس الحميمية في المكان المصطفى على ضوء الفانوس الصغير. ان التفسير الرمزي لانفراد بطل روايتنا صلاح المدلل سابقا والمحامي لاحقا بهذا المكان او ا لحيز المكاني في مستهل الرواية والذي اختار الروائي ان يسميه «امبراطورية صلاح» هو التفسير الذي يشكل مدخلا يتجه نحو النفق المسود بتلك الجدران القاسية التي احاطت بفضاء ووقائع السرد البنائي لاحداث الرواية واتجهت بها الى البقاء بين الوقائع المحددة والخواتيم المحدودة نظريا ودراميا كما سنرى.


داخل هذا الحيز المكاني الخاص في الحوش الكبير وفي احضان الاسرة والوالدة وداخل مكتب خاص للمحاماة عاش صلاح حتى تعدى سن الخامسة والثلاثين و«مازالت امه تخاف عليه كأنه طفل صغير». ولكن.. وقعت الطامة الكبرى يوم ان اقتحم زوار الفجر منزلهم واقتادوه بهدوء وبرود شديدين الى المعتقل.. كان يتساءل حينما الجمته المفاجأة «لا بد ان في الامر خطأ» وكان الحي يغط بسكانه وقططه وكلابه في نوم عميق.


لم يكن صلاح سياسيا بالمعنى المفهوم كما يسجل الراوي اي انه لم ينتم الى اي تنظيم سياسي او حزب بعينه ظل مستقلا بافكاره وسط اصدقائه منذ ايام الجامعة.. «ظل الانسان قضيته الكبرى» وسخر مهنته كمحام وقلمه ككاتب صحفي لهذه القضية، للدفاع عن العدل والحرية. ولكن انزرعت المفارقة الدرامية هنا ـ في الرواية ـ في مشهد اعتقال رجل هو من هذا الصنف.. وايداعه غرفة مظلمة تنضح بالرطوبة وتضج بالعفونة والصمت والحيطان الرمادية والقضبان الحديدية.


كان من الطبيعي ضمن هذا الاتجاه الجنائزي ان يحظى هذا المعتقل السياسي بعلقة ساخنة حتى يعترف اويقر او يتقيأ ما كان وما سيكون من معلومات واحتمالات او مؤامرات تريد السلطة الوصول الى المبتدأ والخبر في شأنها. فالاعتقال بآلية زوار الفجر لا يكون عادة في الوطن العربي والبلدان المتخلفة ـ الا لاسباب سياسية تمس بامن البلاد او هيبة صاحبة الجلالة الحكومة او رموز السلطة او ربما احيانا لحسابات خاطئة في الجوهر ولكن لا بد وان يعطى الاعتقال والتعذيب فيها على المظهر حتى اشعار آخر.
لقد تفنن زبانية المعتقل: تمساح و«شلته» في تعذيب صلاح المعتقل دون سابق انذار كما تبارى المحققون في استجوابه دون كلمة واضحة.. ويبدو ان بنية شخصيته الدرامية كمحام ملتزم بالدفاع عن العدالة وحقوق الانسان المتشفع له في مسلسل التعذيب كما لم تشفع له حالته الصحية المتردية ما دامت المعلومات المطلوبة من طرف المحققين غير كافية لتوقيف فنون التعذيب ودرجاته ويبدو ان الاستفزاز قد زاد من عناده فرفض اطلاقا الادلاء بأية معلومات عن معاملاته وعلاقاته كما رفض عرضا بالتعاون مع اجهزة الامن بعدما لمح المحققون بذلك من باب التخفيف عن التعذيب.


ننتقل الى مشهدآخر من الرواية حيث يطل علينا ضابط الامن برتبة رائد اختار له الراوي اسم «الطيب» وهو شاب لا يشبه الزمان ولا المكان الذي اعتقل وعذب فيه صلاح.. وقد نسج قلم الراوي علاقة روحية بين الاثنين انتهت الى علاقة حقيقية استمع خلالها ضابط الامن الى شكوى المعتقل عبر وسيط ثم التزام بانقاذه من محنته وابعد من ذلك «....» التزم ا لتزاما حميميا وعنتريا / عسكريا بالبحث عن الاسم والرمز «زينب» التي تشكل عالما قائما بذاته من الحب البتول المعجون بنداوة الطفولة وطلاوة المعشر وطيب الذكر. كانت المحبوبة في مرتبة اشبه بالقداسة لكنها شقيقة الشهيد والصديق ورفيق الدرب والدراسة.. وقد قست عليها شواغل الظروف والاقدار حتى انتهت الى اليتم الفاضح بعد وفاة الاب والام واعتقال الحبيب «صلاح» وكانت وفاة والدتها في غياب صلاح بالمعتقل قد انتهت بها الى رحلة قسرية من قلب ام درمان الى منزل خالها والمتزمت والمتزوج من ثلاث نساء في احدى قرى شمال السودان. والشاهد ان الضابط الطيب قد تعاطف مع صلاح وجند نفسه لخدمته بفك اسره والعثور على حبيبته مهما وكيفما كان!!!


تنداح دائرة الاحداث ليتدخل القدر الضاحك فيساعد من فك عقدة الرواية حين يتضح ان السبب في اعتقال صلاح هو مكيدة دبرها ضابط سام هو «الزعيم» في جهاز الامن انتقاما من صديقه وزميله ـ سابقا ـ بعدما وقع اصطدام على مستوى المواقف والقناعات.. وقد كان الشهيد عبد الرحمن شقيق زينب ضحية عمل جبان ساهم فيه بشكل ما ضابط الامن الزعيم في غابر السنوات، ثم ترقى وتسنم المناصب في ظل النظام الحاكم لينتهي اخيرا الى ضرورة اغلاق ملفاته القديمة وتصفية الشهود الاحياء حتى لا تعكر مزاجه فكان صلاح هو الضحية لهذا المزاج. وقد اجتهد الرائد الطيب في التحري حتى وصل الى الادلة الدامغة على خيانة رئيسه الزعيم وشرب حليب السباع برسم المواجهة سلمه وثائق الادانة لافعال ضباط جهاز امن النظام وهو في طريقه الى خارج السودان ليفصحها امام الرأي العالمي اذا دعت الحاجة.تنتهي الرواية بالخاتمة التقليدية لكل قصة حب ساهم في اشتغالها مزيج التوابل السياسية والبهارات الفكرية والادبية التي اندمجت في السياق الاجتماعي ليفوز الرائد البطل الطيب بانقاذ المعتقل صلاح من براثن زعيم جهاز امن النظام وليخرج به منتصرا على غريمه ثم يزفه الى حبيبته زينب وسط اهله والليالي الملاح.


المصدر : صحيفة الصحافة

Post: #11
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-20-2007, 11:50 AM
Parent: #10

___________________________

مما تجدر الإشارة إليه أن للأستاذة "ملكة الفاضل عمر" قصة مترجمته إلى اللغة الفرنسية وهي منشورة على الموقع إضاءات على الأدب السوداني تحت عنوان "Les murs cruels" - الجدران القاسية. سوف أحرص على نشرها هنا

Post: #12
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-20-2007, 12:09 PM
Parent: #11

__________________

الموضوع : تأملات على هامش الذات الشعرية لعاطف خيري
الكاتب : د. ناهد محمد الحسن

ظلت الذات المستبصرة للفنان نهبا لتجارب قدرية مختلفة، تقودها في رحلة استكشاف متفردة لمعارف ورؤى مختلفة... وكلما صعدت هضبة كشف ما... فتحت نفسها لتستقبل آلاما مهمة... وكلما صعدت الذات كلما تعمق الالم... وعلى مختلف الارتفاعات تأتي مختلف التفاعلات الفنية... فالذين ينظرون الى الحياة من قريب تصرعهم نشوة التحليق، فتأتي أناهم الادبية متعاظمة وساذجة... مبتهجة في الغالب بتفاؤل من لا يدرك ما ينتظره من طريق... حين تقرأ لعاطف

يا خيل... يا بني... يا براك
يا ليس من مرضع بلاك
فاطنوه من سقية هلاك
كان شفته جوه الجنة طين
بالنو لي آدم سواك
وكان تكفي جغمة من الحنين
وتجتمع من الموج الهناك
وما كنا في جوف الكمين
غنينا غنوات الفكاك
صنارة العدم السنين
صارقيلا وحشة وارتباك


لا يفوتك انه وقع على كشف ما... لكن قد يفوتك الانين الخاص لهذا الكشف... مصيدة الاقدار الخاصة بالفنان الذي تستهويه الرؤى فلا يقنع من الموج الهناك وتؤرقه الوحدة... وبدلا عن الصراخ والاستنجاد يغني عاطف لخلاصه فقد صار اسيرا للحيرة والارتباك والغربة الابدية... وهذا ما يميز الذات الشعرية لعاطف خيري... ذات متصوفة ذات ضمور خاص... متخوفة من عزلة الاكتشاف اكثر من فرحها بالنبوة... انها مسح كزانتذاكس في(الاغواء الاخير للمسبح).... مسبح يتجاهل الامر الصادر بنبوته... يرى بسيرته الصلب المعلق خلف مجد الانبياء... يفضل ان يتزوج ويرى ابناءه وكلابه ويجلس تسيل دماؤه على صلب خلاص البشرية... والنص اعلاه ليس أدل نص (يطنطن) فيه عاطف من هول البسيرة ففي (منفستو الهمباتة)


الجسد مصلاية الروح
الروح المنحوتة كم وكت
الوكت الموهط النزوح
طالع أعالي الفوق تحت
تحتل ينقز في سطوح
رهن الأصابع ومنفلت
فالت اذا كنت الجنوح
وحدك منادي وملتفت

وفي نص آخر :

وانا في سقالة الشوف
قدح البسيرة تقي
فاتح زريبة الجوف
تمرق تحث الخيل
على كيفا... كيف معلوف
ضهر المظنة يشيل


وفي (سيناريو اليابسة)

سبحانك الاديتنا من خزنك فوانيس

لا شك ان هذه الآهة المستنيرة هي التي اضاءت نصوص عاطف وارهفت مسارات الحضور الشعري لديه...
(والقصيدة بالعيش الرهيف فينا) والكشف الذي يصيبك بالالم هو نافذة لكشف جديد... لشاعر استطاع من ضباب الحضور الآني ان يستشرف قمم ما ينتظره من طريق وظل مشدودها... تتشظى ذاته تحت وطأة الاكتشاف العميق والوعي المخيف بالرسالة...

أنا ليه تجيني المويه ضعيانه
أدنقر البسه في شبط اخضر
ابيت مسلول أصلح في رباط
أنا ليه... دكاكين البيوت الواجهة
والناس البساط


كتب (كذانتزاكس) في (القديس فرانسيس): ذات ليلة كان فرانسيس يتجول في ازقة اسيزي والقمر بدر معلق في كبد السماء والارض بكاملها تعوم بفرح في الجو، اجال بصره فلم ير عند مداخل البيوت احدا يمتع ناظريه بهذه المعجزة العظيمة، اندفع الي الكنيسة ثم ارتقى برج الجرس وراح يقرع الناقوس وكأن كارثة قد وقعت، استيقظ الناس مروعين وقد باغتهم احتمال حريق محتم واندفعوا - نصف عراة - راكضين باتجاه فناء سكان رفينو حيث رأوا فرانسيس يقرع الجرس باهتياج فصرخوا به هادرين:

(لماذا تقرع الجرس؟ ما الذي حدث؟)

اجابهم فرانسيس من اعلي البرج: (ارفعوا ابصاركم يا اصدقائي، ارفعوا ابصاركم انظروا الى القمر!)..

هكذا كان كزانتزاكس كاتب الجمال والطبيعة الذي تسرقه جماليات الطبيعة من حوله في سرده القصصي فيقودك الى جو متكامل مضمخ برائحة الاكليل الجبلي والنباتات المبتلة للتو بندى الصباح حتى انه يجعلك تشعر بعظمة وحميمية حماة سمراء ملقاة على قارعة الطريق كان يمكن ان تركلها بعينك دون ان تحس بها حتى... وهو يحتمل آلام هذا الوصف في جلد القديسين... بينما عاطف شاعر هش للغاية ليس له اي جلد على هذا الجمال يرى الكون بجماله الطبيعي كما يراه فرانسيس واكثر مؤامرة كبرى ضد سكينته وراحته الخاصة تهشمه الى شظايا صغيرة صغيرة يمكنها ان ترى وهي تتكسر بزوايا مختلفة وآلام عديدة... فعاطف شاعر (يولول) تحت وطأة الجمال القاسي اقرأوا معي:

وآه من المأتم في الجسد
وآذان المغارب
ومن شبابيك الحبيبة على


المصدر: بوست ( تأملات على هامش الذات الشعرية لعاطف خيرى )
نقلاً عن : صحيفة السوداني

Post: #13
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-23-2007, 10:17 AM
Parent: #12

________________________

تابع: مداخل لقراءة تجربة السرد في السودان
الكاتب : أحمد ضحية

الخاتمة:
ظلت بنية السرد فى القصة القصيرة، والرواية فى السودان، منذ استقر هذان الجنسان, بين أجناس الكتابة فى السودان.. ظلا يكشفان عن المفارقة التاريخية للذات المتشظية إلى آخر, وهى تتحسس مركزية القمع الذى يطال كينونتها.. حيث لا تملك إزاءه سوى انكسارها الروحى والاجتماعى وجرح هويتها المشكوك فيها، وأسئلة المهام التاريخية للتحرر الوطنى التى ظلت حبيسة الأضابير ولم تنجز..

وقد تجلت هذه المفارقة, بدرجات متفاوتة. على مستوى القصة أو الرواية, منذ الميلاد في مجلتى الفجر والنهضة. فى ثلاثينيات القرن الماضى، مروراً بمجلة القصة التى أسسها: عثمان على نور, أبو القصة القصيرة فى السودان..

وأخذت الأسئلة الحارقة, تتطور وتنضج إثر كل جيل.. تبلغ ذروة نضوجها، فيما اعترى البنى الاجتماعية فى السودان. من تمزقات وتشظ باعتلاء النظام الكولونيالى الإسلاموعربى منذ 1989 لدست الحكم ووقوع البلاد في حقبة من حقب الانحطاط التي لم يسبق لها مثيل ....

وبين كل هذا الركام من التمزق والتشظى نهض السرد الجنوبى, وسرد المرأة. كعلامتين بارزتين فى هاجس الكتابة. وهى تسعى لتأكيد ذاتها، من موقع الحوار بين الذات والآخر..

وإذا كانت فترة السبعينيات, هى فترة سيادة الشعر بلا منازع، فإن فترة التسعينيات من القرن الماضى, وأوائل القرن الجديد. هى فترة سيادة الرواية كجنس ينهض فى تحليل التاريخ وإعادة إنتاجه، فى سبيل خلق واقع أفضل, من واقع افتراضى متخيل.. هذه الرحلة الطويلة منذ ثلاثينيات القرن الماضى حتى الآن (بالنسبة للقصة القصيرة والرواية)، لهى رحلة شاقة. استلهمت فيها الكتابة من التراث تيمتها. ومن الواقع خصبه. ومن الأشكال الحداثية الغربية تقنياتها, المبدعة.. وتحاورت النصوص فى السودان مع النصوص الأخرى فى مصر, والعالم العربى مشرقه و مغربه ؛ وأفريقيا، وأمريكا، وأمريكا اللاتينية وأوروبا.. تحاورت حواراً بناءً. أنتج تجربة ناضجة فى خاتمة المطاف: شكلا ومضمونا، عبرت عن خصوصية السودان كمفترق طرق، تلتقى وتتقاطع عنده حضارات أفريقيا العريقة, وحضارة العرب. وثقافة الغرب الكولونيالى

المصدر : نفس المصدر السابق

Post: #14
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-23-2007, 10:51 AM
Parent: #13

_________________________

النص الفرنسي لمترجم لقصة "مدن ومدن أخرى"
الكاتب : رانيا مأمون
ترجمة: مريم العلاوي


Des villes… et d’autres

Elle m’importuna fortement alors que je tentais de l’éloigner de mon visage et qu’elle refusait de le faire.

Un doute s’empara de moi : j’avais peut-être quelque chose sur le visage qui l’attirait, des petites particules de sucre ou des taches de saleté. Et bien que je sache que mon visage était propre, du moins assez pour ne pas attirer des mouches, je l’essuyai à l’aide du mouchoir que je tenais dans la main, puis, pour plus de certitude, je sortis mon portefeuille, sur lequel était fixé un petit miroir.

Il semblait que la mouche m’attendait, dans l’autocar que j’avais choisi pour mon voyage. Je suis sûre qu’elle m’attendait. Car j’étais à peine installée sur mon siège, qu’elle commença d’abord à me courtiser, puis à m’effleurer, pour finir par me déranger, faisant accroître le malaise et l’inquiétude que j’éprouvais déjà.


J’étais assise près d’une dame qui devait avoir la quarantaine, sur l’un des deux premiers sièges à droite du chauffeur. La route se découvrait devant nous, et je me rappelai le conseil de ma mère, qui craignait les accidents de circulation dans les rues de Khartoum : il faut toujours s’asseoir sur l’un des sièges du côté du chauffeur – car les chances de survie y sont plus grandes. Sur le siège situé immédiatement derrière le chauffeur, était assis un homme et à ses côtés, une jeune fille.


Je tirai le rideau bleu foncé qui couvrait la vitre pour regarder au dehors. J’aperçus le cimetière et je récitai alors une prière pour le repos de l’âme de mon père et de celles de tous les morts musulmans.


Sans que je ne puisse rien y faire, mon regard s’en alla embrasser ma ville, aussi triste que celui qui s’en va et qui est avide de tout regarder une dernière fois.


La mouche qui m’avait attendue, me fit manquer l’occasion d’écouter les chansons de Mustapha Sayyed Ahmed [1] sur lesquelles je comptais pour m’aider à tenir le coup. Elle s’obstina à m’ennuyer et je fus alors convaincue que les mouches étaient les plus agaçantes de toutes les créatures.

Après m’être assurée qu’il n’y avait aucune raison pouvant inciter la mouche à s’accrocher à mon visage - se posant tantôt sur le nez, tantôt sur la joue, parfois sur le front ou encore sur les cils, demeurant indifférente à mes constantes invectives - elle finit par se poser sur mes lèvres et j’en éprouvai de la répugnance. A ce moment-là, elle provoqua tout le mal que j’avais à l’intérieur de moi, la colère, la rancune et l’envie de tuer. Je lui assenai un coup dont la violence atteignit surtout mes lèvres et me fit mal. La mouche quant à elle, vacilla puis tomba. Je baissai la tête et la regardai longuement, j’éprouvai de la pitié pour elle, surtout que j’avais moi-même ressenti la douleur du coup que je lui avais donné. Je crus qu’elle était morte et me le reprochai. Je me trouvais trop sévère et mon moral baissa d’avantage.


Un instant après, je la vis bouger. Elle était tombée sur ma jupe et ma main, celle-là même avec laquelle je l’avais frappée, fut incapable de l’en balayer. J’étais contente. Elle se mit à bouger encore plus, et je réalisai qu’elle était étourdie ou évanouie. Quoi qu’il en soit, elle avait obtenu ma grâce ou ma compassion puis, à une étape ultérieure, mon amitié.

Elle avait retenu la leçon car elle ne se posa plus sur mon visage, cependant elle ne me quitta pas et se mit à rôder autour de moi sans me toucher.


A ce moment là, nous étions arrivés à Al-Hasaysa [2], le steward se mit à distribuer des gâteaux, des biscuits fourrés, du chocolat et des cakes portant la marque commerciale « Nayti » Je tendis la main pour prendre un morceau de gâteau mais il me sembla voir sur la vitre, le visage de Houda, l’amie que j’avais laissée derrière moi. Ce cake était son préféré et je ramenai ma main sans avoir osé me servir. Puis de nombreux autres visages aimés m’apparurent : celui de ma mère, … de mes frères et sœurs, … de mes amis… Certains visages affichaient un léger sourire, ce n’était pas un sourire de joie, mais bien d’encouragement. Sur d’autres la tristesse prédominait… seul son visage à lui avait perdu toute expression.


J’observais « ma » mouche, elle avait accaparé mon attention, se faufilant parmi les images de ma rêverie, quand une voix masculine me transperça les oreilles. L’homme à laquelle elle appartenait semblait concentrer tous ses sens sur la route :

- « Attention mon gars ! »

Il s’adressait au chauffeur turc et bien que le terme utilisé n’appartienne pas à notre dialecte et que nous ne l’entendions que dans les feuilletons télévisés, je me dis que l’homme venait peut-être du pays où l’on utilisait ce mot. En réalité, celui qui l’avait prononcé et qui était assis sur le siège parallèle au nôtre, avait attiré toute mon attention. Ma voisine, ayant suivi une discussion téléphonique du chauffeur, me demanda :

- « Les Turcs parlent une drôle de langue, non[3]? »

Puis elle poursuivit fermement :

- «Ecoute comment il parle ! »

Je ne m’étonnai pas de son ignorance et lui répondis :

- « Ils parlent turc»

Je ressassais les conseils de ma mère et ne laissais apparaître aucun signe d’irritation vis-à-vis de cette voisine qui me gênait. Elle dormait profondément, appuyée contre moi, son épaule ainsi qu’une partie de son bras posés sur moi. Je m’en écartai un peu en suivant du regard les nuages dispersés dans le ciel. Ils me semblaient être comme de la barbe à papa dans sa blancheur, sa friabilité et sa fragile texture.

Une petite discussion derrière moi parvint à mes oreilles. L’un des passagers faisait la leçon à son voisin :

- « Il y a de l’air chaud qui rentre lorsque tu ouvres la vitre. Tu es dans un autocar climatisé et tu te crois dans un bus ordinaire.

- « Je veux cracher mon tabac, mon frère. »

- « Il y a un sachet prévu à cet usage, mon gars! En dehors du cancer de la gencive à quoi ce tabac vous sert-il donc ? »


La cassette arriva à sa fin et l’aide du chauffeur mit à la place celle d’un jeune chanteur. L’homme qui avait crié contre le chauffeur auparavant dit :

- « C’est quoi ça ? On veut des chansons et ça, c’est des hurlements ! »

Le jeune employé s’exécuta en mettant une cassette de Osman Hassan[4]. L’homme demanda :

- « Pourquoi la vidéo ne marche pas ? »

- « Elle est en panne. »

- « Eh bien, réparez-la ! »

Le garçon le regarda et faillit répondre, mais il s’abstint de le faire et garda le silence.


L’homme me désorientait. Chaque fois qu’il avait parlé, il l’avait fait dans un dialecte différent. Au début, je crus qu’il revenait du Proche-Orient, puis je pensai que c’était plutôt du Golfe, ensuite, après une discussion avec le chauffeur, je me dis qu’il avait peut-être été en Egypte…


« Ma » mouche s’était trouvé de la compagnie. Avec sa copine ou son copain, que sais-je, elle me quitta pour une vitre. Je pris le gâteau qui était dans mon sac et j’en coupai un petit morceau. Je le mâchai à l’aide de mes dents de devant, ensuite je le collai à la vitre. « Je serai sûrement accusée d’avoir violé l’une des lois de la civilisation en salissant les vitres des transports en commun ! » Me dis-je. Puis, je me mis à attirer les deux mouches vers le gâteau, mais elles ne s'y intéressèrent guère. Je fus alors contrainte de souiller un autre endroit de la vitre, plus proche d’elles cette fois et là, je réussis mon coup.

Je m’interrogeai : « Qu’est ce qui pouvait bien pousser ces deux mouches à voyager ? Savaient-elles qu’elles voyageaient ? Qu’allaient-elles faire à Khartoum ? Moi-même si je n’y avais pas été contrainte, je n’aurais jamais quitté ma ville chérie. Qu’arriverait-il si j’ouvrais la fenêtre et que l’une d’elles en sortait ? S’égarerait-elle et perdrait-elle la trace de l’autre ? Et moi, m’égarerai-je de ma ville lorsque je vivrai ailleurs ? » Je fus à nouveau angoissée à l’idée de devoir m’exiler à Khartoum, avec sa foule, sa poussière, sa forte chaleur et son rythme effréné. Comment pourrais-je supporter ma solitude ?


« Tu es tout ce que j’ai dans ce monde… » C’est ce qu’il avait écrit un jour… Puis il ajouta une question, oralement cette fois : « Que suis-je pour toi ? » Je ne répondis pas à ce moment-là, mais je regardai dans ses yeux et j’y vis de la sincérité.

Alors que j’étais en train de tout quitter, après toute une vie et après avoir été abandonnée par la personne que j’avais le plus aimée, je me demandai : « Est-il possible que toute la sincérité que j’ai lue dans son regard soit fausse ? Ou bien m’étais-je trompée dans le décryptage de son expression ce jour-là, si bien qu’à présent la solitude soit devenue ma compagne ? »


On distribua des bouteilles de boisson gazeuse. Du « Seven up », c’était la seule boisson disponible. L’homme qui m’intriguait et qui avait provoqué la colère de ma voisine et son mépris, refusa d’en prendre et demanda un « Pepsi », ce à quoi le serveur répondit, avec impatience, qu’il n’y en avait pas et qu’il n’avait rien d’autre à lui proposer.

- « C’est bon, je ne veux rien. »

Répondit l’homme.

- « Mais regarde-moi l’arrogance et l’impolitesse de ce nègre ! » Me dit ma voisine. Malgré ma réserve quant à son racisme, je souris et me demandai pourquoi il ne faisait pas comme tout le monde dans ce bus.

Le serveur complota avec ma voisine et lui dit :

- « Vous buvez du « Seven-up ? » Ma voisine, qui semblait être une bonne adepte des blagues, répondit sur le ton d’Adroub[5].

- « Non, nous ne buvons pas de « Seven-up ».

Ils rirent ensemble et je souris. Il lui tendit une bouteille qu’elle voulut partager avec moi et je l’en remerciai.


Perdue dans mes souvenirs, je m’éloignai de tout ce qui m’entourait et même de « ma » mouche. Lorsque nous arrivâmes au Marché Populaire[6], je la regardai et vis qu’elle était toujours accompagnée. Je l’enviai et lui dis :

- « Au moins toi tu n’affronteras pas seule la chaleur de Khartoum. »

La porte s’ouvrit, à peine mon pied avait-il effleuré le sol qu’une mouche se posa sur mon visage. Elle ne demeura qu’une seconde et je ne l'invectivai pas. J’imaginai que c’était « ma » mouche qui voulait me dire adieu. Je ressentis de l’affection à son égard et la remerciai. Mon inquiétude diminua d’intensité et je me mis à marcher comme les autres au milieu de la foule, au-dessus de nous, le soleil imposait son ardeur.



(Traduction : Meryem EL ALAOUI)


المصدر : إضاءات على الأدب السوداني

Post: #15
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-23-2007, 10:59 AM
Parent: #14

__________________________

الموضوع : كتابة على أبواب مدن .. ومدن اخرى
قراءة في عالم (رانيا مامون) القصصي
الكاتب: ابراهيم عابدين

زمن القصة يبدأ عندما تأخذ بطلة القصة «الراوية» مكانها داخل البص (ازعجتني جداً وأنا احاول ابعادها عن وجهي ولا تريد أن تبتعد. داخلني شك في ان يكون بوجهي شيء ما يجذبها إليه، جزيئات سكر او بقايا وسخ، ورغم علمي ان وجهي نظيف على الاقل نظافة لا تجذب الذباب. إلا اني مسحته بالمنديل الذي كان بيدي، وزيادة على التأكد اخرجت محفظتي المثبتة عليها مرأة صغيرة لأتحقق من الامر. الذبابة على ما يبدو كانت تنتظرني في البص الذي وقع عليه اختياري لأسافر به، اثق انها كانت تنتظرني، فمنذ ان دخلت وجلست في مقعدي بدأت في مغازلتي.. ثم ملامستي.. وتحول الامر الى ازعاجي وزيادة ما بي من توتر وقلق..).. السفر والرحيل دائماً يولد فينا احساس «التوتر والقلق»، والحزن لاسيما عندنا يكون سفر من اماكن ترتبط عندنا بحميمية الانتماء وصور الذكريات الجميلة، ولنتخيل كم سيتضاعف توترنا وقلقنا وحزننا، عندما يزداد هاجس وتعب الرحيل، بمصدر ازعاج اضافي تمنعنا حتى من محاولة التماسك والصبر على تلك الهواجس. وذاك السفر المضني.. (الذبابة التي انتظرتني فوتت عليّ فرصة الاستمتاع بأغاني «مصطفى سيد احمد» - التي اردت التوكؤ عليها لتعينني على التماسك - واصلت ازعاجي باصرار وتيقنت حينها ان الذباب اكثر المخلوقات ازعاجاً).

هناك اماكن او مدن نخاف من الرحيل نحوها لأنها تملؤنا باحساس الغربة والشجن والتوتر ونفقد فيها طعم اشياء كثيرة جميلة مثل الدفء وحميمية العلاقةمع المكان ومع الآخر (سألت نفسي: ما الذي يدعو هذه الذبابة وتلك الى السفر، هل هما تعرفان انهما مسافرتان..؟ وماذا ستفعلان في الخرطوم..؟ انا نفسي لولا اضطراري لما غادرت هذه الحبيبة مدني.. ماذا لو فتحت زجاج النفاذة وخرجت احداهما هل ستتوه من الاخرى وتفقدها..؟ هل سأتوه أنا من مدينتي بعد ان اعيش في غيرها..؟ وعاد لي قلقي كيف سأحتمل الخرطوم وغربتي فيها.. زحامها.. غبارها.. حرارتها العالية وايقاعها السريع..؟ وكيف احتمل وحدتي..؟) مع السفر واحساس الوحدة تتولد فينا الذكريات، فنفتح لها ابواب الذاكرة فتشمخ امامنا وتتمثل لنا بكل الفتها، وكل شجنها (أنت كل ما لي في هذه الدنيا) هكذا كتبها ذات يوم واردفها بسؤال شفهي. ما اكون انا بالنسبة إليك..؟ لحظتها لم اجب انما نظرت إلى عيني ورأيت صدقه...
والتأويل فالفقرة الاخيرة لهذه القصة التي جاء فيها (ارهقه عبور كل هذا وانهكه التفكير في الغد، ارتمي قبالة باب المدير وبكي..

بحرقة بكى.. بقهر واحساس بالظلم بكى.. ظل في مكانه وبين لحظة واخرى يرفع نظره إليه عسى ان يفتح او يطل منه احد.. طال الانتظار والباب موصد دونه) هذه الفقرة تطويل وفقرة زائدة ضيعت بعضاً من اشراق وبهاء هذا النص الجيد من نصوص «رانيا مأمون».

قصة: مدن.. ومدن أخرى..
قصة «مدن.. ومدن اخرى» من أكثر نصوص «رانيا مأمون» نضجاً وتميزاً ويبدو ان السرد الذي جاء بصيغة ضمير «المتكلم» ساعد كثيراً على انسياب هذه القصة بسلاسة، وجاذبية كبيرة، جعلت الذات الكاتبة تتوحد في الكتابة، لتكشف عن لحظة زمانية في الحياة، هي لحظة المعرفة وهواجس الرحيل والسفر، ولحظة انبعاث الذكريات بكل طعمها حلواً كان او مراً، هي قصة تكون الحدث والمكان والزمان واللغة والسرد بتماسك ابداعي جميل وباهر.. على طول مسافة تبلغ حوالي (186كلم) هي مسافة الطريق بين مدينة ود مدني والخرطوم، وفي فترة زمنية تمتد حوالي الساعتين ونصف يستغرقها «البص السياحي» لقطع هذه المسافة، تدور وقائع هذا النص «فالمكان» في هذا النص هو «البص السياحي» المسافر من ود مدني للخرطوم، و«الزمان» هو زمن رحلة «البص» حتى الوصول الى الخرطوم، وشخصيات النص تتمثل في الراوي «الكاتبة»، و«ذبابة» أنسنتها «الراوية» لتأخذ مكانها بجانب الشخصيات الاخرى لهذا النص، فهناك امرأة في اربعينات العمر تجاور «الراوية» في المقعد، ورجل بقربه فتاة في المقعد الموازي لمقعد «الراوية» وسائق البص «التركي الجنسية»، بالاضافة لصوت الفنان «مصطفى سيد أحمد» و«عثمان حسين» وصوت آخر لمغني شاب مبهم، كان حضورهم عبر «الكاسيت» من خلال جهاز تسجيل «البص السياحي» وطبعاً لا يخلو حضور هذه الاصوات الغنائية بالتحديد من دلالة ومعنى...

تبدأ قصة «مدن.. ومدن اخرى» وهي قصة مكونة من عشر فقرات أو مقاطع بشكل سرد على جدلية قائمة على التذكر واستحضار الماضي من جهة والزمان الحاضر من جهة أخرى. بعد عمر وانا اغادر كل شيء بعد ان غادرني اكثر من احببت اسأل نفسي: ايعقل ان يكون كل ذاك الصدق الذي قرأته في عينيه زائف..؟ ام انني اخطأت التهجئة حينها، كما صارت الوحدة رفيقتي الآن..؟).. تداعى الذكريات اخذت البطلة «الراوية» عن كل ما حولها حتى «الذبابة» التي انسنتها الراوية في هذا النص الجميل على طول زمن هذه القصة ومكانها ليواجها معاً في نهاية الرحلة كل الاحتمالات في تلك المدن، حيث جاءت نهاية هذه القصة مفتوحة على احتمالات كثيرة مثيرة في ذهن القاريء اكثر من سؤال عن «المصير» (اخذتني ذكرياتي مما حولي حتى ذبابتي، وعندما وصلنا السوق الشعبي، نظرت إليها فوجدتها مازالت في حالة رفقة. غبطتها وقلت لها: على الاقل لن تواجهي هجير الخرطوم وحدك مثلي... فتح الباب وبمجرد ملامسة قدمي الارض حطت على وجهي ذبابة لم تمكث سوى ثانية ولم انهرها. خُيل إلىّ انها ذبابتي تريد ان تقول لي وداعاً.. شعرت تجاهها بود وشكرتها.. ارتفعت وتيرة قلقي وصاحبني في سيري مع السائرين في هذا الزحام وفوقنا شمس تفرض سطوتها..).... وهكذا تبقى الكتابة التي تثير فينا الاسئلة من أهم وأخطر وأروع أنواع الكتابة في مجال القصة القصيرة.

خاتمة:
وتبقى «رانيا مأمون» صوت قصصي جدير بالاهتمام والمقاربة النقدية، فهي صوت واعد ومنتظر في مجال الابداع القصصي.

«مدني - يناير 2006»

المصدر : صحيفة الصحافة

Post: #16
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-23-2007, 11:06 AM
Parent: #14

____________________________

الموضوع : النص العربي لقصة "مدن ومدن أخرى"
الكاتب: رانيا مأمون


أزعجتني جداً وأنا أحاول إبعادها عن وجهي ولا تريد أن تبتعد.

داخلني شك في أن يكون بوجهي شيء مما يجذبها إليه، جزيئات سكر أو بقايا وسخ، ورغم علمي أن وجهي نظيف على الأقل نظافة لا تجذب الذباب، إلا أني مسحته بالمنديل الذي كان بيدي، وزيادة على التأكد أخرجتُ محفظتي المثبتة عليها مرآة صغيرة لأتحقق من الأمر ..

الذبابة على ما يبدو كانت تنتظرني في البص الذي وقع عليه اختياري لأسافر به. أثقُ أنها كانت تنتظرني؛ فمنذ أن دخلتُ وجلستُ في مقعدي بدأت في مغازلتي .. ثم ملامستي .. وتحول الأمر إلى إزعاجي، وزيادة ما بي من توتر وقلق.

***

كنتُ أجلس بقربي إحداهن أظنها في أربعينيات العمر في أول مقعدين على يمين السائق.

الشارع مكشوف أمامنا، تذكرتٌ وصية أمي أن أجلس دائماً في المقاعد التي باتجاه السائق ـ زيادة من نسبة النجاة وخوفاً عليَّ من حوادث شارع مدني الخرطوم. في المقعد الموازي لنا خلف السائق مباشرة يجلس رجل وبقربه فتاة.

***

أزحتُ ستائر النافذة الزرقاء القاتمة، نظرتُ من خلالها، واجهتني المقابر، قرأت الفاتحة على أبي وعلى موتى المسلمين.

عيناي تغادرني وترتمي في حضن مدينتي بحزن المغادر ولهفته في النظر إلى كل شيء.

الذبابة التي انتظرتني فوتت عليَّ فرصة الاستمتاع بأغاني "مصطفى سيد أحمد" - التي أردتُ التوكؤ عليها لتعينني على التماسك – واصلت في إزعاجي بإصرار وتيقنتُ حينها أن الذباب أكثر المخلوقات إزعاجاً.

بعد أن تأكدتُ من انتفاء السبب الذي يدفع هذه الذبابة على ملازمة وجهي .. تارة في أنفي .. على خدي .. جبهتي .. رمش عيني .. في كل مرة أنهرها لا تكترث لي، ثم حطّت على شفتي فشعرتُ بالقرف.

حينذاك استفزت الشر الذي بداخلي .. الغضب .. الحقد عليها ورغبة القتل .. ضربتها ضربة قوية وقع معظمها على شفتي فألمتني، أما هي فقد ترنحت ثم سقطت. حنيتُ رأسي ونظرتُ إليها مطولاً، شعرت بالشفقة عليها خاصة وأني ذقت ألم الضربة التي وجهتها إليها. ظننتها ماتت، عاتبت نفسي على قتلها ووصمتها بالقاسية، تكدَّر مزاجي أكثر.

بعد حين رأيتها تتحرك؛ فيدي التي ضربتها عجزت عن أن تدفعها عن تنورتي وهو المكان الذي وقعت فيه، فرحتُ، ثم زادت حركتها فأدركتُ أنها ربما داخت أو كانت في حالة إغماء.

أيَّاً كانت الحالة التي فيها فقد نالت رضائي أو تعاطفي، وفي مرحلة لاحقة صداقتي. تعلمت من الضربة التي آذتها ولم تزر وجهي بعدها، ولكنها لم تغادرني فقد أخذت تتجول فيَّ ولم تلامس جلدي.

حينذاك كنَا قد وصلنا "الحصاحيصا" بدأ عامل الضيافة في البص بتقديم الحلوى والبسكويت المحشي والشوكلاتة والكيك الإسفنجي الذي يحمل علامة تجارية باسم "نايتي". مددتُ يدي لأخذ قطعة حلوى، ولكن وجه "هدى" صديقتي التي تركتها خلفي تراءى لي على زجاج النافذة وحوَّل مسار يدي لأخذ "نايتي" فهذا الكيك المفضل لديها. ثم تراءت لي وجوه كثيرة حبيبة، أمي .. إخوتي .. أصدقائي، بعض الوجوه رسمت ابتسامة خفيفة هي لتشجيعي أكثر منها فرحاً .. بعضها بدأ عليها الحزن أكثر نتوءاً.. إلا هو .. إلا وجهه هو فقد خلا من كل تعبير..

***

ذبابتي تابعتها، سرقت انتباهي وتخللت صوري الذهنية إلى أن اخترق أذني صوت رجولي يبدو أن صاحبه موجِه كل حواسه للطريق

- دير بالك يا زلمة

مخاطباً السائق التركي، ورغم أن كلمة (زلمة) ليست من جسد عاميتنا ولا نسمعها إلا في المسلسلات قلت: ربما هو قادم من بلاد هذه المفردة. وحقيقة الأمر فقد نال ناطقها الجالس في المقعد الموازي لنا اهتمامي.

الجالسة بقربي سألتني من واقع متابعتها لمكالمة هاتفية مع السائق

- الأتراك ديل بيرطنوا موش ..؟

واتبعت سؤالها بأمر

- أسمعي كلامن كيف ..؟

أجبتها دون أن استغرب جهلها

- هم بيتكلموا لغة تركية.

***

وصايا أمي أعيدها بيني وبيني ولا أبدي استياء لمضايقة جارتي لي في المقعد، كانت تغط في النوم مائلة عليَّ، وكتفها وجزء من ذراعها فوقي، ابتعدتُ عنها قليلاً وعيناي تتابع سير السحب الصغيرة المتقطعة، بدت لي مثل حلاوة قطن في هشاشتها وبياضها وضعف بنيانها.

تناهي إلى مسامعي نقاش قصير خلفي، أحد الركاب يعطي درساً لجاره:

- لما تفتح القزاز الهواء الحار بيجي داخل .. أنت في بص مكيف قايل نفسك في حافلة..

- ياخي أنا عاوز أبصق السفّة ..

- يا بني آدم دا كيس عشان تبصق فيهو سفتك .. هو الصعوط دا غير سرطان اللثة فايدكم بشنو ...؟

***

انتهى الكاسيت فغيَّره المساعد بكاسيت لمغني شاب، احتج صاحب الصوت الذي صرخ في السائق من قبل وقال:

- شو هاذ يا ريال ..؟ بدنا غنا .. هاذ صراخ ..

استجاب الشاب لطلبه ووضع كاسيت لـ (عثمان حسين). سأله:

- ليش الفيديو مو شغال ..؟

- عطلان ..

- طيب صلحوهو..!

نظر إليه الشاب وكاد أن يرد عليه ولكنه عدَل عن رأيه وصمت ..

حيرني الرجل؛ فكلما نطق تحدث بلهجة مختلفة، في بداية الأمر ظننته عائد من الشام .. ثم تحوَّل ظني إلى أنه عائد من الخليج .. وبعد حوار قصير مع السائق قلت ربما كان في مصر ..

***

ذبابتي وجدت لها رفيقاً، غادرتني إلى زجاج النافذة هي ورفيقها أو رفيقتها لا أدري .. أخذت الحلوى التي كانت بحقيبتي واقتسمتُ جزءاً صغيراً منها، مضغته بأسناني الأمامية وألصقته على زجاج النافذة، وقلتُ: لا بدَّ أنني سأُتهم بخرق بند من بنود الحضارة بتلطيخ زجاج المركبات العامة ..! ثم بدأتُ في جذب الذبابتين إلى الحلوى .. لم تهتما بي فاضطررتُ أن ألطخ الزجاج في موضع آخر أكثر قرباً إليهما .. ونجح مسعاي ..

سألت نفسي: ما الذي يدعو هذه الذبابة وتلك إلى السفر، هل هما تعرفان أنهما مسافرتان ..؟ وماذا ستفعلان في الخرطوم ..؟ أنا نفسي لولا اضطراري لما غادرت هذه الحبيبة مدني .. وماذا لو فتحت زجاج النافذة وخرجت إحداهما .. هل ستتوه من الأخرى وتفقدها ..؟

هل سأتوه أنا من مدينتي بعد أن أعيش في غيرها ..؟ وعاد لي قلقي في كيف سأحتمل الخرطوم وغربتي فيها .. زحامها .. غبارها .. حرارتها العالية وإيقاعها السريع ..؟ وكيف أحتمل وحدتي ..؟



***

(أنت كل ما لي في هذه الدنيا..) هكذا كتبها ذات يوم وأردفها بسؤال شفهي: ما أكون أنا بالنسبة إليكِ..؟ لحظتها لم أجب إنما نظرتُ إلى عينيه ورأيتُ صدقه ..

بعد عمر وأنا أغادر كل شيء بعد أن غادرني أكثر من أحببت أسأل نفسي: أيعقل أن يكون كل ذاك الصدق الذي قرأته في عينيه زائف ..؟ أم أنني أخطأت التهجئة حينها كما صارت الوحدة رفيقتي الآن..؟

***

وُزعت علينا زجاجات المياه الغازية، كانت فقط صنف واحد هو مشروب السفن أب، رفض الرجل الذي حيرني وأثار سخط جارتي وسخريتها أن يأخذه وطالب بالبيبسي، أجابه الموزع بنفاد صبر أن البيبسي غير متوفر وليس لديه سوى هذا .. فأجابه:

- خلص ما بدي ..

قالت جارتي:

- عليك الله شوف فلهمة العب دا وقلة أدبو ..!

رغم تحفظي على عنصريتها ابتسمت وتساءلت ماذا لو تحدث مثل خلق الله داخل هذا البص ..؟

تآمر الشاب الذي وزع الزجاجات مع جارتي وقال لها:

- سفن أب تشربو ..؟

وجارتي التي يبدو أنها متابعة جيدة لأشرطة النكات قالت بلهجة أدروب

- سفن اب ما نشربو ..

ضحكا سوياً وابتسمتُ أنا، ناولها الزجاجة التي أرادت أن تقتسمها معي فشكرتها.

***

أخذتني ذكرياتي ممَّا حولي حتى ذبابتي، وعندما وصلنا السوق الشعبي نظرتُ إليها فوجدتها ما زالت في حالة رفقة.. غبطتها وقلت لها: على الأقل لن تواجهي هجير الخرطوم وحدك مثلي ..

فُتح الباب وبمجرد ملامسة قدمي الأرض حطّت على وجهي ذبابة لم تمكث سوى ثانية ولم أنهرها، خُيِّل إليَّ أنها ذبابتي تريد أن تقول لي: وداعاً..

شعرتُ تجاهها بود وشكرتها.. ارتفعت وتيرة قلقي وصاحبني في سيري مع السائرين في هذا الزحام وفوقنا شمس تفرض سطوتها ..




المصدر : صفحة رانيا مأمون في موقع شهس

Post: #17
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-23-2007, 01:09 PM
Parent: #16

_______________________

الموضوع : الترجمة الفرنسية لقصة "الجدران القاسية"
الكاتب : ملكة الفاضل عمر
المترجم : عمر بيلاري

Le lieutenant Tayyeb arrêta sa voiture blanche, une « Hunter », devant sa maison. La porte ne tarda pas à s’ouvrir, laissant apparaître le domestique qui se tînt sur le côté, et près de lui, son fils Hamadé. Tous deux attendaient qu'il entre, le serviteur afin de fermer la porte et le petit Hamadé pour s’agripper à son père et chercher dans ses poches le bonbon qui, comme tous les jours, l’y attendait. Sa conscience le tarauda lorsqu’il vit son enfant s’accrocher à lui, cherchant dans sa poche la friandise qu'il ne trouvera pas. Contrairement à son habitude, il l’avait oubliée. Cette journée avait été chargée d'événements qui avaient occupé tout son temps. Il porta son fils, le serra contre sa poitrine en s’excusant et lui promit de l’emmener acheter des bonbons et une crème glacée le soir venu.

Il traversa la véranda, embellie par des pots et des vases garnis de fleurs et de plantes ramenées par son épouse ‘Azza. Elle les entretenait elle-même, nourrissant le rêve de voir enfin sa famille habiter dans une maison possédant un jardin. ‘Azza l’accueillit dans le salon avec sa bonne humeur et son sourire jovial. Ensuite, elle lui demanda avec inquiétude si un souci le préoccupait. Il secoua négativement la tête puis la rassura en disant qu’il était juste fatigué. Il pénétra dans leur chambre et ôta son uniforme, pour enfiler une djellaba dans laquelle il se sentait plus à l'aise. Il fit ses ablutions, accomplit sa prière, et revînt ensuite se vautrer dans le fauteuil en bois poli qui occupait tout un côté de la pièce.

Soudain, Shada apparut du haut de ses cinq ans, pleine de joie de vivre. Ses rires et ses bavardages innocents ne laissèrent pas Tayyeb indifférent, qui ressentit à ce moment un soulagement se propager au fond de son cœur. Ce n’est qu’à ce moment qu’il commença à oublier cette journée trop chargée. ‘Azza posa devant lui le plateau du dîner puis s’assit et lui présenta le plat de salade, sachant que c'était l'un de ses plats préférés. Son regard se posa sur le sparadrap blanc enroulé autour du doigt de sa femme. Il s’enquit de ce qui était arrivé, et elle lui expliqua qu’elle s’était blessée par accident, en coupant des oignons avec la lame de la nouvelle éplucheuse, et que son ongle s'était retiré. Il fut dès lors pris d’inquiétude et voulut savoir si la situation nécessitait d’aller chez un médecin. Elle répondit qu’elle avait demandé l’aide de la voisine, une infirmière qui travaillait dans un hôpital, et que celle-ci s’était très bien occupée de sa plaie. Elle l’avait rassurée en disant qu’il n’était pas indispensable d’aller à l’hôpital ou chez le docteur.

Après le dîner, Tayyeb s’allongea sur le lit, éreinté. ‘Azza avait porté les petits dans leur chambre. Quant à lui, il ne tarda pas à s'endormir. Mais il fut aussitôt réveillé par la main de Hamadé, qui le secouait en lui rappelant sa promesse d'aller acheter des friandises et une crème glacée. Il demanda à ‘Azza de se préparer et d'habiller les enfants pour sortir.

Ils passèrent une agréable soirée dans le parc d’Al-Mogran[1], jusqu’à ce que la nuit étende son voile et que les lumières colorées illuminent l’endroit. L’atmosphère y était tout à fait particulière, ponctuée par les rires des enfants qui jouaient. Leurs parents, installés non loin, les suivaient des yeux. Une mélodie jaillissait d'un haut-parleur :


« Celui qui quitte le foyer
Ignore vers où ses pas le guident.
Je dis adieu à mes espérances.

De Fataih à Khor et à Maghalig
De ‘Alayel Abrouf à Mazalig
J’erre pieds nus, bien rasé,
Dans cette rue grouillante de monde »[2]

Tayyeb s'assit pour observer Shada et Hamadé qui dévoraient leurs glaces, pendant que ‘Azza causait avec sa spontanéité si plaisante. Il ressentit à ce moment un profond bien-être soulager son esprit angoissé et lorsqu'ils retournèrent vers la maison, il sentit qu'il allait bien mieux.

Les petits se réfugièrent dans leurs lits, s'abandonnant à un profond sommeil. Leur père suivait un programme à la télévision et ‘Azza lavait la vaisselle quand soudain, elle poussa un soupir et vint s'asseoir près de son mari, en secouant son doigt blessé. Tayyeb lui demanda ce qui s'était passé, elle répondit que l'eau avait traversé son pansement et que ce dernier s'était fendu, découvrant la blessure et une douleur énorme.

Un instant plus tard, il voulut savoir si elle allait mieux. Elle lui dit que la douleur s'était apaisée puis ajouta, le visage couvert d'une expression grave :

- « Tu imagines la douleur de ceux qui se font arracher les ongles sous la torture ? Ce doit être une souffrance atroce ! »

Ensuite elle le surprit par une question qui le foudroya de la tête aux pieds :

- « Tayyeb, tout ce que l'on entend à propos de la torture a-t-il lieu chez nous, je veux dire dans notre pays ? »

Pris de frayeur, il la questionna :

- « Pourquoi me demandes-tu ça ? »

Elle dit sans hésiter :

- « Parce que c'est une chose horrible ! ... Et c'est sûrement impossible que cela se passe ici. »

Elle attendit une conclusion de sa part avec, sur le visage, un air exprimant l'attente d'un jugement.

Il répondit, tout en continuant à suivre l'émission :

- « Evidemment ... évidemment, il est impossible que cela se passe ici. »

Mais elle reprit en le regardant :

- « Et quand bien même cela devait arriver, tu n'aurais rien avoir avec ça, n'est-ce pas ? »

Il dit, le regard fuyant :

- « Bien sûr, bien sûr... Est-il raisonnable de penser que je pourrais être en rapport avec ce genre de chose ? »

Elle dégagea un profond soupir et, visiblement soulagée, elle ajouta :

- « Dieu soit loué ! »

Puis elle alla dormir. Tayyeb ressentit le poids du monde entier peser sur sa poitrine. ‘Azza dormait profondément alors que lui ne cessait de se tourner et de se retourner dans son lit, comme s'il cherchait à échapper à l'insomnie.

Après ses interrogations, ‘Azza avait trouvé le sommeil, laissant son mari les yeux ouverts.

Ces questions le cernaient de toutes parts ...[3]

- « ... Tu ne sembles pas être comme les autres, alors que fais-tu ici ? »

- « ... Un nouveau cas ? ... y a-t-il une fin à tout ceci ? »

- « ... La torture a-t-elle lieu ici ? »

- « Et quand bien même cela devait arriver, tu n'aurais rien avoir avec, n'est-ce pas ? »

Il observa son épouse endormie, vit sur son visage une expression de quiétude et de confiance. Il se mit alors à se remémorer les années qui s'étaient écoulées depuis que ‘Azza était entrée dans sa vie.



(Traduction : Omar BELLAARI)


المصدر : إضاءات على الأدب السوداني

Post: #18
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-24-2007, 08:56 AM
Parent: #17

___________________________

الموضوع : 13 شهراً من إشراق الشمس
الكاتب: رانيا مأمون

13 ليس رقماً للتشاؤم أو لسوء الحظ، إنه عدد أشهر العام في إثيوبيا..!

لكن..

هذه قصة أخرى..

كنتُ بغاية الانزعاج عندما جاء. أمامي كمبيوتر معطّل وفتاة تريد مساعدة، الوقت صباحاً ولم أكمل نومي بعد..

ظننته سودانياً عندما رأيته، وتحريّا للدقة لم أظن شيئاً، ربما لعادية الأمر أن أجد سوداني في بلدي، أليس عادياً أن يعيش السودانيون في بلدهم؟ عندما خاطبني بالإنجليزية لا أدري لمَ لم أسأل نفسي لحظتها عن جنسيته؟ ربما لانشغالي.

حللتُ مشكلة الجهاز المعطّل، هدأت وراق مزاجي، سمعته يتحدث مستاءً إلى القرص المرن:

- لم يجدر بي أن أستخدمك..

- عليك استخدام الأقراص المدمجة أو الفلاش ديسك؛ لأنّها أكثر ضماناً، لا يجدر بك بعد الآن الوثوق بالأقراص المرنة.

- نعم، لن أفعلها ثانية..

- ألديك نسخة من المادة التي كانت بالقرص..

- نعم ولكنها في الورق، كنت أريد معالجتها..

سألته:

- إرتيتري، أم إثيوبي ..؟

- إثيوبي..

قالها بفخامة..

حتى ذلك الوقت لم أكن أعرف التمييز جيداً بين إثيوبيا وإرتريا، ولا أدري لمَ أحببت إرتريا وأسمرا أكثر من إثيوبيا وعاصمتها أديس أبابا؟ رغم أني لم أزر أيّاً منهما، أظن أن وقع موسيقي إرتريا لقى هوىً في نفسي، كما ترك وقع اسمرا ذات الأثر، عموماً أحب البلدين، وأحب (الحبش) جداً منذ صغري فقد كنّا نجاور مكتب (للحبش) والحبش لفظ نطلقه على كل من الإثيوبيين والإرتريين النازحين والمقيمين في السودان أو حتى الزائرين.

عندما كنتُ صغيرة كان المكتب - وهو عبارة عن منزل كامل- يقيم نشاطات ثقافية واجتماعية، أمامه ميدان خالٍ يستخدمه الشباب في لعب كرة القدم، وفي بعض زواياه، توجد حدائق صغيرة أمام بعض البيوت، مسوّرة بسلك شائك بعضها بالقنا والحصير، في هذا الميدان يقيمون احتفالاتهم، ينصبون خيمة كبيرة، بداخلها مسرحاً يعلو على مستوى الأرض، وكراسي كثيرة.

كان يعجبني، ويعجبني حتى الآن رقصهم وطريقتهم المتطرفة في الانتفاض، كنتُ أظل أحدِّق في الراقصين على المسرح فاغرة الفم ويدي ممتلئة بالفشار الذي يوزعونه علينا، والبياض يجمِّل ملابس نسائهم.

لم نكن نفهم شيئاً مما يقولون أو بما يتغنون؛ لأنهم حينها يتحدثون الأمهرية ويتغنون بها، ولكنّا كنا ننبهر باللحن والموسيقى والرقص ووالروح والمناخ الذي يسود ذلك اليوم.

باحتفالاتهم كانوا يشيعون حيوية في الحي، وفي سكانه وأطفاله - نحن وابتهاجنا بها؛ لأننا نجد فيها فرصة للشقاوة واللعب باستخدام الخيمة في انسحابنا تحتها إلى داخلها أو العكس وضربنا لبعضنا بعضاً من خلالها، والتقاتل على الكراسي كلٌ يريد أن يستحوذ على الكرسي، بفوضى وصخب وضجيج، نجد فيها فرصة للانفلات من رقابة الكبار والتعبير عن طفولتنا بحرية ودون قيود..

قلت له:

- أحبُ الحبش جداً.

- إن لنا نفس الملامح، لذا نشعر بالألفة، على فكرة إنك ترتدين زيّاً قريباً لازيائنا.

كنتُ وقتها أرتدي عباءة ببنطلونها مصنوع قماشها يدوياً عن طريق النول، بيضاء بها خيط بني وعلى أطرافها ثلاثة أشرطة من خيط أحمر. كان فعلاً يشبه زي (الحبش) وتعمدّت أن يدخل النسّاج الذي نسجها اللون الأحمر، لأنه يجعلها أقرب لزي الحبش..

ارتدائي لتلك العباءة ربما جذبه إلي وإلى الحديث معي؛ لأنه وجد شيئاً مشابه لما في بلاده، ونحن دوماً في الغربة نحنُ كثيراً إلى أي شيء من بلدنا، أشخاص، لغة، معالم، أشياء لها نفس الملامح، ويكون إحساسنا بها مختلفاً عنه ونحن في أحضان الوطن.

نشأت من وقتها علاقة صداقة جميلة بيننا، لسهولة التواصل بيننا، فكما قال لي: إنه يعاني لأنه لا يستطيع التواصل مع الآخرين بسهولة دون شرح وتوصيف. وجد فيّ شخصاً يفهمه ووجدت فيه نافذة أرى من خلالها إثيوبيا، وكم كان يحبها..!

كان يخطيء في الأيام الأولى في نطق اسمي فيناديني: راينا.. بترقيق الراء، وكنت أنا أدعوه: كيدان.

فقال لي كيدان اسم امرأة هناك.. قولي كيدانا..

فقلت له: كيدانا اسم امرأة عندنا لأن نهايته الألف.

كنتُ أسأله على الدوام عن كثير من الأشياء، ابتداءً من الأكل الزغني (طبخة إثيوبية) والزليخ (شطة) حتى السياسة ومشاكل إرتريا مع إثيوبيا التي خلقها الاستعمار الإيطالي كما فعل كل مستعمر في الحدود بين الدول وزرع فكرة الانفصال في رأس الأقليات، حدثني عن خدعة مليس زِنّاوي للإرتريين عندما أرادوا أن يكون لهم عملة خاصة بهم بدلاً عن البيير الإثيوبية فغيّر التصميم فقط.

في أي شيء صغير أو كبير يقارن بين ما هو هنا وبين ما في بلده، قال لي: إنه لم يكن ليتخيل أنَّ بإمكانه التحدث والجلوس والضحك وخلق علاقة صداقة جميلة مع امرأة سودانية يتندر معها، ويشرب الشاي، والسفن أب معها، وعصير العرديب الذي قال إن لونه البني يشبه لون مشروب كحولي هناك.

كان يظن كغيره أن هذا لا يحدث، فقلت له: الآن أنت رأيت وخبرت فأذهب وأخبر كل من تستطيع عن طبيعة الوضع هنا. أرسل لي قبل أيام إيميلاً يخبرني انه يخبر أهله وأصدقاءه وكل من سأله عن كيف وجد السودان والمرأة السودانية، ويحدثهم عن العادات والتقاليد والثقافة الإسلامية.

طلب مني أن أرافقه كي يشتري بعض أشرطة كاسيت لموسيقى وأغان سودانية، ذهبنا إلى استديو العديل والزين واخترت له أشرطة لكبار المغنيين السودانيين إضافة إلى حافظ عبد الرحمن عازف الفلوت، كاسيت الأيام الخالدة.

- عليك أن تتذكرني كلما سمعت هذه الأشرطة..

- سأقع في حبك إذا فعلت هذا - كلما سمعت الموسيقى تذكرتك.

- لا، عليك ألا تقع في حبي ..

- أنا الآن أحبك، ولكن على طريقتي

- أنا أيضاً أحبك على طريقتي.

محمد الصغير (12عام) الذي يعمل في الكافتيريا في الإجازة كان دائماً ينظر إلينا بفضول، ويحاول أن يتقرب منّا. ذات يوم سألني:

- دا سوداني ..

- ايوة..

- ما بعرف عربي .. كان في أمريكا ولا شنو ..؟

ضحكت، أخبرت كيدان بما قاله لي فضحك هو أيضاً..

- هو اثيوبي ..

- حبشي يعني.

- أيوة يا سيدي حبشي..

- طيب انتي حبشية..

ضحكت مرة أخرى

وقلت له:

- امي حبشية ..

- الزول دا ببقى ليك ..؟

- أيوة ود خالتي ..

بدأ بعدها في استعراض لغته الإنجليزية التي لا تتعدي العشرة كلمات. أرتاح له كيدان جداً قال إنه أُعجب به؛ لأنه يريد أن يعرف ولأنه يحاول استخدام الإنجليزية، وأصبحا صديقين مذذاك. يسألني عنه محمد كلما ذهبت حتى الآن، وعندما عرف أنه لا يقرب لي أصبح السؤال كيف تعرفتِ به؟

لن أدّعي أني أتحدث الإنجليزية كأولاد جون كما يسمي أهلي الإنجليز، ولكنّا كنا نفهم بعضنا بما هو أقدر على اللغة من الإفهام، بروح الإنسانية، إذا بدأ جملة لا أحتاج إلى أن يكملها، وإذا أخطأت في كلمة لا يحتاج أن أصحَّحها ولا أشعر بأي حرج.

جاء كيدان ليجمع بيانات عن المياه، لأنه يحضّر رسالة الماجستير، كان أمامه خيارين بما أنه يبحث في حوض النيل، إما أن يذهب إلى السودان أو مصر فاختار الأول، وجاء ليجمع البيانات من مشروع الجزيرة أكبر مشروع زراعي في قارة افريقا من رئاسته في بركات أو من المزارعين في قرى الحلوة و بيكة و مدينة الحصاحيصا، وهيئة البحوث الزراعية في ودمدني.

قال لي:

- إننا نشرب ذات الماء.

- نعم.. وبهذا نحن إخوة.

أجبته، فنهر النيل الأزرق الذي يخترق مدينتي مدني ينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا، وهذا ما جعلنا إخوة في الرضاعة من نفس المصدر، في حين ينبع النيل الأبيض من بحيرة فيكتوريا في يوغندا ويلتقي النهران الأزرق الجامح والأبيض العريض الهاديء عند ملتقى النيلين (المقرن) في الخرطوم حيث يشكّلان الأثر الجمالي الخالد، ثم يلتحمان ويكونان نهر النيل العظيم الذي يعبر مصر متجهاً إلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط.

شاي بالأمهرية، شاهي بالتقرنجة، يخبرني هذا كلما طلبت كوباً من الشاي.. يعرف كلا اللغتين الأمهرية التي يتحدث بها الأمهرا، والتقرنجة التي يتحدث بها التقراي. فهو من أب من التقراي وأم أمهرية. أخبرني بالقبائل أو القوميات هناك: الهراري المسلمون، الجميلون نساء ورجالاً والذين يعشيون حتى الآن في مدينة تحوطها جدران ضخمة مثل المدن القديمة، والعفار، والأومرو والصامولي وسكان الجنوب، والأنوك وهم متداخلون وجزء من قبيلة الدينكا في جنوب السودان.

عندما كنت صغيرة احدي صديقاتي أخبرتني أن قريب لها جاء من إثيوبيا وقال إن عامها به ثلاثة عشر شهراً..

طفت قصة الـ 13 شهر في ذهني عندما كنا نتصفح أحد المواقع الإثيوبية، سألته ما الحكاية؟

- أن كل شهر عندنا يتكون من ثلاثين يوماً فقط، واليوم الواحد والثلاثون من كل شهر به واحد وثلاثين يوماً يجمع ليكون الشهر الثالث عشر من العام.

باقومن Pagumen هو اسم الشهر الثالث عشر والذي يتكون من خمسة أو ستة أيام كل أربعة سنوات. كيف يكون الشهر شهراً وعدد أيامه لم يكمل أسبوعا؟! إنها إثيوبيا بلد العجائب..!

إنها الدولة الوحيدة في العالم التي عامها ليس كبقية الأعوام، عام زائد شهر، تقويمها مختلف، وكلما تذكرت الأمر اسأل أقرب شخص بالنسبة لي: هل تعرف أن إثيوبيا بها ثلاثة عشر شهراً؟

- هل هذا المكان يناسبك؟

سألني ونحن نتخير مكاناً للجلوس

- ليس المهم المكان، وإنما الشخص الذي يشاركنا فيه، فإما جعله جنة عدن أو جعله جحيماً..

- في هذه الحالة لا بُدَّ أنه يناسبك ..

ضحكنا كثيراً ولما قال لي ذات يوم:

- أشعر الآن وكأنني في وطني..!

غمرني الفرح في أنني استطعت أن أخفّف عنه شعور الغربة الحاد، وعندما أعطاني ظهره في آخر يوم رأيته فيه، شعرت بأن يداً قوية تطبق على قلبي وتعصره بشدة، لم أستطيع أن ابعد عيني عنه إلى أن توارى.

كان الوقت مساء، أمامنا ميدان واسع مكسو بالخضرة، تحيط به أشجار فتية، يقول صديقي: إن المسافات الواسعة تغذي الخيال. هل تخيلته مختلفاً ذاك المساء الأخير؟ كان مختلفاً، نعم، أو هكذا أحسسته لأنَّ إحساسي به مختلف، إحساس سابق لكلمة وداعاً! وربما للأبد. إحساس تلاوة تلك الوصايا: خلي بالك على نفسك. خليك على اتصال. أمانة عليك ما تنسانا..!

اعتراني إحساس لحظة التوديع وشمل ما يصاحبه عادةً من تداعيات…!

سألت من كان بقربي:

- هل سألتقيه يوماً ما، في مكان ما؟

Kidane Kiros هو اسمه..



المصدر : ملتقى أسمار

Post: #19
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-24-2007, 09:01 AM
Parent: #18

___________________________

الموضوع : قراءة نقدية لقصة "13 شهراً من إشراق الشمس"
الكاتب: جبريل سبعي "ناقد عربي"


شكرا لصاحبة هذا النص الممتع. يقول نقاد القصة في كل نص قصصي لابد من سيادة عنصر، وأجد في هذا النص سيادة العنصر الروحي .. كأني بالقاصة تشتغل بإخلاص تام على معاني الألفة والتقارب والود ما بين الروحين. وكانت هناك جذور تغذي هذه المعاني لتزهر وتثمر تلك الجذور هي :

1 - توافق في العمل فكيدانا يصلح أجهزة الحاسب وكذا رانيا ، والذي منعه من إصلاح كمبيوتر الفتاة التي طلبت مساعدته هو أن الوقت صباحاً ولم يكمل نومه بعد .

2 - توافق في الزي والشكل :
هي تقول : " ظننته سودانياً عندما رأيته "
وهو يقول : " إن لنا نفس الملامح، لذا نشعر بالألفة، على فكرة إنك ترتدين زيّاً قريباً لازيائنا "
وهي تقول أيضا : " كنتُ وقتها أرتدي عباءة ببنطلونها مصنوع قماشها يدوياً عن طريق النول، بيضاء بها خيط بني وعلى أطرافها ثلاثة أشرطة من خيط أحمر. كان فعلاً يشبه زي (الحبش) ...... "
" ارتدائي لتلك العباءة ربما جذبه إلي وإلى الحديث معي؛ لأنه وجد شيئاً مشابه لما في بلاده، ونحن دوماً في الغربة نحنُ كثيراً إلى أي شيء من بلدنا، أشخاص، لغة، معالم، أشياء لها نفس الملامح، ويكون إحساسنا بها مختلفاً عنه ونحن في أحضان الوطن " ومما غذى تلك الألفة أيضا

3 - ذكريات سارة :

" وأحب (الحبش) جداً منذ صغري فقد كنّا نجاور مكتب (للحبش) والحبش لفظ نطلقه على كل من الإثيوبيين والإرتريين النازحين والمقيمين في السودان أو حتى الزائرين. عندما كنتُ صغيرة كان المكتب - وهو عبارة عن منزل كامل- يقيم نشاطات ثقافية واجتماعية، أمامه ميدان خالٍ يستخدمه الشباب في لعب كرة القدم، وفي بعض زواياه، توجد حدائق صغيرة أمام بعض البيوت، مسوّرة بسلك شائك بعضها بالقنا والحصير، في هذا الميدان يقيمون احتفالاتهم، ينصبون خيمة كبيرة، بداخلها مسرحاً يعلو على مستوى الأرض، وكراسي كثيرة. كان يعجبني، ويعجبني حتى الآن رقصهم وطريقتهم المتطرفة في الانتفاض، كنتُ أظل أحدِّق في الراقصين على المسرح فاغرة الفم ويدي ممتلئة بالفشار الذي يوزعونه علينا، والبياض يجمِّل ملابس نسائهم. لم نكن نفهم شيئاً مما يقولون أو بما يتغنون؛ لأنهم حينها يتحدثون الأمهرية ويتغنون بها، ولكنّا كنا ننبهر باللحن والموسيقى والرقص ووالروح والمناخ الذي يسود ذلك اليوم. باحتفالاتهم كانوا يشيعون حيوية في الحي، وفي سكانه وأطفاله - نحن وابتهاجنا بها؛ لأننا نجد فيها فرصة للشقاوة واللعب باستخدام الخيمة في انسحابنا تحتها إلى داخلها أو العكس وضربنا لبعضنا بعضاً من خلالها، والتقاتل على الكراسي كلٌ يريد أن يستحوذ على الكرسي، بفوضى وصخب وضجيج، نجد فيها فرصة للانفلات من رقابة الكبار والتعبير عن طفولتنا بحرية ودون قيود.. "

4 - التفاهم اللغوي :

" فكما قال لي: إنه يعاني لأنه لا يستطيع التواصل مع الآخرين بسهولة دون شرح وتوصيف. وجد فيّ شخصاً يفهمه ووجدت فيه نافذة أرى من خلالها إثيوبيا " وبشأن الإنجليزية تقول رانيا : " إذا بدأ جملة لا أحتاج إلى أن يكملها، وإذا أخطأت في كلمة لا يحتاج أن أصحَّحها ولا أشعر بأي حرج "

5 - قبول جماليات الآخر :
" طلب مني أن أرافقه كي يشتري بعض أشرطة كاسيت لموسيقى وأغان سودانية، ذهبنا إلى استديو العديل والزين واخترت له أشرطة لكبار المغنيين السودانيين إضافة إلى حافظ عبد الرحمن عازف الفلوت، كاسيت الأيام الخالدة "

6 - تقارب الأصول :
تقول رنيا : " امي حبشية .. "

7 - وحدة مصدر الاغتذاء :
- إننا نشرب ذات الماء.
- نعم.. وبهذا نحن إخوة.
أجبته، فنهر النيل الأزرق الذي يخترق مدينتي مدني ينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا، وهذا ما جعلنا إخوة في الرضاعة من نفس المصدر

8 - الألفة المكانية :
يقول كيدانا : " أشعر الآن وكأنني في وطني..! "
وإذن بالإجمال فالتوافق في العمل ، والزي ، والشكل ، وتقارب اللغة ، والأصول ، وكذا توفر الذكريات السارة ، والشعور بالراحة تجاه المكان والجماليات كل ذلك كانت جذور تغذي الشعور بالود ، والتقارب ، والألفة ، وتجعل السيادة للعنصر الروحي الذي بدا فيه نكهة إنسانية مختلفة . والشيء الجميل الذي يحسب للقاصة هو أنها وظفت الزمان ممثلا في الحاضر بظروفه ، والماضي بذكرياته ، واللغة بعربيتها وإنجليزيتها ... والجنس والمكان والفن والحضارة بسودانيتها وحبشيتها ، من أجل صناعة العلاقة الحميمة ، ومن ثم الإيحاء بتقارب الروحين الفريدين المنسجمين .


المصدر : نفس المصدر السابق

Post: #20
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-24-2007, 05:15 PM
Parent: #19

_____________________________

حوارية ممتعة

الشاعر عاطف خيري في منبر «الصحافة»:

لا أدعي أن لدى مشروعاً جديداً في الشعر!!

استضاف منبر «الصحافة» الشاعر والمسرحي عاطف خيري في قراءات شعرية، وحديث عن التجربة الشعرية من خلال مداخلات الحضور في المنبر. وقد تطرق الى موضوعات عديدة من ضمنها حديثه حول الكتابة باللغة العامية ومدى تجاوب جمهور الشعر معها، كما تطرق الى بداياتهم كشعراء، وقد ذكر أنه لا يدعي أنه أتى بمشروع جديد في الشعر، مشيراً الى أنه تعلم كثيراً من شعراء يكتبون بالعامية مثل محمد طه القدال وحميّد، وقدم مجموعة من النصوص العذبة والجديدة ثم اقيم لقاء مفتوح حول تجربته فالى مضابط المنبر:
الشعر الجيّد يوجد في الدارجة والفصحى على حدٍ سواء

* مجذوب عيدروس:
نفسح المجال الآن لمداخلات الحضور وتعليقاتهم حول تجربة الشاعر عاطف خيري الثرة ولابد أن المجال مفتوح للحضور لإبداء آرائهم حول هذه التجربة التي أحسب أنها قد تميزت داخل إطار الشعر السوداني في العقد الأخير.

* حسام الدين ميرغني:
ينصب سؤالي حول التحول من اللغة المحلية إلى اللغة الفصحى خاصة بعد الهجرة لاستراليا.

* عاطف خيري:
حقيقة، إن التحول من اللغة المحلية الى الفصحى لم يتم بعد الهجرة وكنت قد طبعت كتاب «الظنون» بعد كتاب «سيناريو اليابسة» المكتوب باللغة المحلية، وكتاب «الظنون» كان قد كتب في العام 1998، بينما كتب السيناريو في العام 1996 أو هو مجموع نصوص منذ العام 1994 وحتى 1996 ولذلك فإن التحول لم يرتبط بالهجرة، خصوصاً وأن كتاب «الظنون» كان سابقاً لهجرتي، ولكن التحول إرتبط بفهم خاص عندي لمصطلح كلمة دارجي التي لا تعني لدي معناها القاموسي وإنما مصطلح يشير الى الشاعرية، حيث أن هنالك شعراء يكتبون بالفصحى لكنهم دارجيون. لذلك فإن الدارجية عندي تعني الشاعرية نفسها فليس بالضرورة أن أكتب داخل اللغة المحلية إنما باستطاعتي أن أكتب داخل اللغة الفصحى بدارجية أو بشاعرية عالية.

* طارق شريف:
أنا لا أريد التحدث كثيراً عن تجربة الشاعر عاطف خيري على إعتبار أن هنالك من هم أجدر مني للتحدث عنها، وإنما أريد أن أثير قضية أساسية وهى قضية المبدع السوداني. فكلما استمع الى صوت بازخ الثراء مثل الأستاذ عاطف خيري أو مغنٍ شاب أو أحد المخضرمين مثل الاستاذ محمد الأمين أو غيره أو أي مبدع آخر، ينتابني شعوران، أحدهما شعور بالفخر على اعتبار أنني سوداني وآخر بالإحباط والغبن هو لماذا لا نستطيع تقديم هؤلاء المبدعين للعالم، وبالتأكيد أن كثيراً من مبدعينا أجدر من كثير من اولئك المسيطرين على الفضائيات ووسائل الاعلام الأخرى، وفي الزيارة الأخيرة للمفكر السوري عبد اللكي وجلسنا معه في حوار طويل وحين سألته عن سبب زيارته للسودان أجابني بأنه استمع وشاهد تجارب محمد عمر خليل وشاهد أعمال الصلحي وذكر أنهما من أعظم مبدعي العالم، وقال إنه أراد أن يتعرف على الحضن الكبير الذي خرج منه هؤلاء المبدعون. ولذلك يمكننا تلخيص المسألة في ثلاثة أسباب رئيسية السبب الأول متعلق بالمبدع نفسه لأنه يعاني من حالة سودانية اسمها التواضع الزائد عن الحد ليس كما يقول المثل الفرنسي أعمل جيداً وأظهر عملك فنحن غير قادرين على تقديم أعمالنا بالشكل الكبير حتى أن نزار غانم أشار من قبل الى أن هنالك كتباً سودانية عظيمة في دار الوثائق الا أنه حتى أغلفتها غير جاذبة. والحالة الثانية متعلقة بالإعلام السوداني فأنا لا أعفى الصفحات الفنية أو الثقافية من إتهامها بالتقصير في تقديم المبدعين خصوصاً وأننا نكتب عنهم ماهو سلبي دائماً معتقدين أن الحديث الايجابي ينحو ناحية الشكر والتطبيل. الحالة الثالثة وهى متعلقة بالوسط الابداعي نفسه الذي يعاني من حالة يمكنني أن أسميها حالة عبوة نافسة. فبدلاً من أن نفرح بنجاحات مبدعينا فنحن نعتقد ان هذا النجاح خصماً علينا. في الوقت الذي لم يكن فيه نجاح الآخرين إلا داعماً لنا. فالى متى سنظل في هذه الحالة والى متى سنضع عبوات ناسفة تتفجر بالخير والجمال كما تقول روضة الحاج على طريق المبدعين المحفوف بالورود.

* أحمد عوض:
أنا اتساءل أنه ومنذ وقت مبكر جداً منذ بداية التسعينات تمت عدة تصنيفات لا ادري ما اذا كانت قد تمت بواسطة النقاد أو الجيل المبدع بكامله، كانت هذه التصنيفات تتحدث عن نص تسعيني وقد تم تصنيف شعراء مثل عاطف خيري والصادق الرضي وبابكر الوسيلة على إعتبار أنهم رأس الرمح أو قادة لخط مشروع جديد في كتابة الشعر. فالى أي مدى تتحقق صحة هذا القول، وثانياً أود أن أتعرف على أثر الغربة على الديوان الجديد الذي لم يصدر بعد؟

* عاطف خيري:
لم ترتبط أسماء الشعراء الذين ذكرهم الأستاذ أحمد إلا لأنهم بدأوا النشر في التسعينات الا أنه لا يمكن أن نطلق القول بأن هنالك مشاريع جديدة في الشعر ففي ذلك تجنٍ على الشعر في السودان لأنك قد تعثر على شاعر كتب من الثلاثينات ولكن لا يزال شعره جديداً كل الجدة، فأنا لا أعتقد إن لدى مشروعاً جديداً في الشعر وانما الشعر أصلاً أن تقرأ وتتأثر بالآخرين، وعليه لا أدعى أن لدي مشروعاً جديداً كل الجدة وإنما أنا أرضي ذائقة محددة ونشاطاً محدداً وهى طبيعة عملي إنني أنتج شعراً وأنا لا أتفق مع من يقولون بأن هنالك شعراء جدد لكأنما يلغون وجود الشعر القديم.
أما عن الغربة والكتاب الجديد وهو «تشجيع القرويات» وقد كتب في الفترة بين 2001 - 2002م أثناء زيارتي للقاهرة نعم ستعثر فيه على بعض التحولات خاصة بالانتقال من السودان الى الحياة في بلد مختلف تماماً، ولكني أتمنى أن نتحدث عن الكتاب بعد صدوره وإمتلاك الجمهور له.

* نجاة عثمان:
أرحب بحرارة بالشاعر الغازي المحارب وغيرها من الصفات ويبدو لكوننا شعراء كان يتوجب علينا الجلوس مع بعضنا للتحدث فيما يخص الكتابة السودانية، ولكن يمكنني طرح بعض الأسئلة التي تتعلق بالتعامل مع المفردة داخل النص الفصيح هل يمكن أن نقول إن هذا التعامل نتاج فكرة الإحساس؟

* عاطف خيري:
الشعر الجيد يوجد في الدارجية والفصحى على السواء. هنالك شعر جيد قد تجده في الدارجية أو الفصحى، ولذلك أنا لا أفرق بين الدارجية والفصحى لكأنما هنالك تراتبية بينهما، ولكن هنالك قصيدة جيدة فإن وجدت بالدارجية أو الفصحى ففي كل الحالات هى جيدة. فالتقييم لم يعد كأنما الفصحى هى المرتبة الأولى وتليها الدارجية إنما هما معاً يسيران في توازٍ. وبإمكاننا أن نتوفر على قصيدة مثلاً لود شوراني. وأنا أقول إنه لابد من إيجاد وسائل لطباعة جيدة وفاخرة لهذا الشعر وخصوصاً لفائدة الباحثين في هذا المجال ومحبي الشعر حيث يوثق من خلال ذلك الى شعراء مثل العبادي وود شوراني وغيرهم. وليس في تصوري أن هنالك قصيدة دارجية وأخرى فصيحة وإنما يعنيني من ذلك أن هنالك قصيدة جيدة. وفيما يخص قراءة الشعر الدارجي في العالم الخارجي فهنالك منتدى شموس بالقاهرة الذي استضاف عدداً من الشعراء من بينهم الاستاذ أزهري محمد علي، وقد قدموا خلاله تجارب عدة من بينها ما هو بالدارجية. وقد استطاع الاخوة المصريون أن يتجاوبوا مع هذا الشعر، أما أنا فقد قرأت في عدة منتديات في القاهرة كان يديرها الشاعر المصري حلمي سالم وكانت مشاركاتي فيه بالدارجية والفصيح وللمفاجأة عثرنا هنالك على شخص من الاسكندرية يحفظ كل أغاني مصطفى سيد أحمد وهى طبعاً نصوص بالعامية. فأنا لا أعتقد أننا بحاجة لأن نتحدث عن أن فننا لم يستطع إختراق الحدود والوصول للعالم العربي وإنما أنا على يقين بأن العالم العربي هو الذي سيبحث عنّا ما دام أن هنالك عدداً من الشعراء السودانيين وعدداً من الفنانين والذين هم موجودون في كل مكان في العالم وجميعهم مؤثرين لكن المطلوب هو كيف يتم التواصل بينهم.

* مجذوب عيدروس:
يتوجب علينا تثبيت ملاحظة مهمة هى أن مجموع نصوص عاطف تمتلئ بصور شعرية كثيفة وواضح من خلالها القدرة على توليد مثل هذه الصور وهذا ما لفت إنتباهي في هذه التجربة. وثانياً الحس الدرامي في الشعر وفي تجربة عاطف فإن القصيدة العامية والفصيحة تسيران جنب الي جنب على السواء.. وفي الشعر السوداني عموماً فإن القصيدة العامية راسخة منذ القدم كما في شعر الحردلو. وكثير من الشعراء المحدثين قد استلهموا هذه التجربة، وكثير من شعراء التسعينات قد استفادوا من هذه التجربة ويمكننا القول بأن هذا الجيل قد استفاد كثيراً من سابقيه. خاصة وأنه قد أتيحت له فرص أكبر من فرص السابقين وهم طبعاً أعني جيل التسعينات قد وجدوا في ظروف استثنائية ويذكرني ذلك قول محمود درويش «في ظروف المعركة يولد الأطفال رجالاً فكيف الرجال».

* سعد الدين ابراهيم:
أرحب بالإبن والأخ العزيز عاطف خيري وأنا أحد الذين حضروا له كثيراً منذ أن بدأ وأنا أود أن أعلق على نقطة مهمة قد اثارها طارق شريف عن التواضع الا أن عاطف رغم ذلك تواضع كثيراً فأنا لاحظت أنه في الفترة الماضية منذ بداية التسعينات ان عاطف خيري قد أصبح مدرسة في كتابة الشعر وحتى نفسه في قراءة الشعر أصبح ديدن كل الشعراء وحتى ان لم نقل صاحب مدرسة فإنه صاحب إتجاه تجديدي أو تيار جيد وربما أن شعراء مثل عاطف خيري لايوجدون كثيراً، فشاعر صاحب قضية لهذه الدرجة صعب العثور عليه لكن قد يكون هنالك شاعر مجيد وربما تحدثت الى الشاعر عالم عباس عن تمرد عاطف فقال لي: «وهذا مصدر حبي له» هذا التمرد غالباً ما يكون صادقاً وليس بالضرورة أن يكون الثابت هو ما نؤمن به أو ما درجنا عليه. لذلك فإن مساحة التجريب واسعة عند عاطف. وثانياً في التراث عند عاطف قد تم استيعابه بدرجة عالية.

ً* مجذوب عيدروس:
هنالك نقطة صغيرة عن التواضع أذكر انني والاستاذ محمود محمد مدني كنّا نتحدث عن الزهد والتواضع عند معظم المبدعين فقال لي: إن الذين يتجرأون ويقتحمون المنابر هم في الغالب عديمي الموهبة.

* حسن البطري:
أنا مضطر لأن اقول لا بأس من أن نتواضع على المستوى الانساني أى هو التواضع على مستوى المؤسسة وهو بالضرورة أحد سمات العمق عن المبدع وهو بالضرورة لا يعني السذاجة أو الغفلة.. ويظل عاطف خيرى أكثر جمالاً عندي كلما إزداد تواضعاً وبالنسبة لي فإن هنالك مؤسسات من شأنها الإلتفات الى هذا الاتجاه القوى وإبرازه أنا أتفق مع عاطف خيري بل وسعيد بما قاله عن شعر التسعينات وما يقال عن مشروع جديد في الشعر.. فالمشاريع دائماً معرضة لهزات قد تقودها الى الانهزام كما حدث لمشروعات كثيرة وكنت سأكون سعيداً جداً لو أن الاستاذ سعد الدين قد وصف عاطف خيري على أنه شاعر مميز، واكتفى بذلك أكثر من إطلاقه كلمة مدرسة فهو صوت مميز هذا مما لا يمكن أن نختلف عليه أما مسألة مدرسة فهى موضوع آخر. كما ان الحديث عن مسألة العامية والفصيح فإن هذا القول يحتاج الى تأسيس أكبر. صحيح أن المسألة ترتبط بالفهم فاذا فهمنا ان الفصيح يعني المعقد فهذه مشكلة.

* طارق شريف:
أرقني جداً أن القول الذي قلته كان حصيلة عشر سنوات من الدراسة والتمحيص ولخصه الاستاذ سعد الدين في كلمة واحدة هى التواضع. وهذا القول ثبت لي من خلال التجربة وكنت قد شاركت في مهرجان جرش حيث أن هنالك أكثر من مائة شاعر عربي ليس بينهم سوداني واحد وعرفت أنه منذ عشرين عاماً لم يشارك أى سوداني في هذا المهرجان. فأنا لا أتفق مع عاطف في أن العالم العربي يمكن أن يكتشفنا، أكاد أجزم أنه ولمائة عام في المستقبل لن يلتفت أحد اذا ما ظللنا على هذا الحال.

* علاء الدين بشير:
يقول الشاعر الراحل محمد عبد الحي الشعر رزق من الله. فنشكر الله على هذا الرزق المتمثل في عاطف خيري. وكنت أتحدث الى الاستاذ الشاعر عبد الله شابو من قبل عن ان الامام إبن عربي كان دائماً ما يقول حدثني الوارد حفظه الله الا أن الشعراء دائماً يتحدثون عن شيطان الشعر فهل لعاطف خيري وارد كما للإمام إبن عربي أم شيطان كما لبقية الشعراء. يقول الشيخ محمد المهدي المجذوب إن له محبة خاصة جداً للمساكين فأين المساكين من شعر عاطف خيري. أخيراً نحن عرفنا عاطف خيري من خلال الأغنيات التي قدمت له في سنين التسعينات فهل يكتب عاطف الشعر ليغنى أم أنه يكتب لمجرد أنه شعر.

* عاطف خيري:
لا تنسى ان الشعر يورث الفقر وسوء السمعة والشعر لا يوجد فيه شيطان لأن القول بوجود شيطان يبرز الشعر وكأنما هو هبة ولكنه يأتي نتاج عمل مضنٍ بداية من الكتابة والتنقيح واستبعاد أصوات الآخرين أما فيما يخص الشعر الغنائي ففي البداية كنت أكتب كراسة الشعر ولكن بعد دخولي لمعهد الموسيقى والمسرح وبعد إنفتاحي على التجارب الدرامية الكبيرة قررت أن أكتب شعراً لا يكون قدره أن يلحّن فكتبت كراسة أسميتها تشريد الغناء الممكن وكانت أولى قصائده هى قصيدة إقتراح وشهيق وللمفارقة ان اقتراح هذه هى أولى الأغنيات التي أداها مصطفى.

* نوال شنان:
من خلال القصائد التي قرأتها تنسمت عبير محمد طه القدال فما هو تأثرك بهذا الشاعر كما لمست وجود المفردة الشايقية في شعرك فما هى درجة تأثرك بها.

* عاطف خيري:
إذا جاز الحديث عن مشاريع الشعر في السودان فهنالك شاعران هما محمد طه القدال ومحمد الحسن سالم حميد أنا لم أستفد من هذين الشاعرين فحسب بل ما زلت استفيد منهما في كل صباح. و«سيناريو اليابسة» هو تجربة متواضعة جداً تجاه مشاريع حميد والقدال و«سيناريو اليابسة» كان مجرد تحية أو دين لابد من أن أرده للشعر الدارجي الذي تأثرت به. أما فيما يخص المفردة الشمالية فهذا فقط لأني ولدت هناك.


المصدر : صحيفة الصحافة


Post: #21
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-24-2007, 05:33 PM
Parent: #20

________________________

حوار مع عاطف خيري

أجرى الحوار: الصادق الرضي

منذ أن بدأ يقرأ قصائده بالمنتديات الثقافية المختلفة بالجامعات والمعاهد العليا - نهايات ثمانينيات القرن المنصرم - بدأ جمهور عريض يلتف حول أعماله الشعرية والتي حققت قدرا كبيرا من الذيوع والإنتشار واطراد طفق الشاعر عاطف خيري يطور أدواته الإبداعية ويفاجئ جمهوره ونقاده بنقلات جديدة في سياق تجربة لم تخل من مغامرات كبيرة تضمنها كتابه الأول (سيناريو اليابسة- طبع ثلاث مرات) وكتابه الثاني (الظنون) . صدر ديوانه الجديد (تشجيع القرويات) في مارس الماضي عن (منشورات الشريف الأكاديمية) وهو في مهجره الاسترالي حيث يعمل ويقيم هناك منذ عدة سنوات بالاضافة الى إسهاماته الثقافية الاخرى من خلال عمله ضمن فريق تحرير صحيفة (المهاجر) وإشرافه على القسم الثقافي على وجه الخصوص إضافة إلى تأسيسه ضمن آخرين أول إذاعة سودانية باستراليا وقد تمكن - كذلك - من تكوين فريق مسرحي مكون من مهاجرين أفارقة يعمل على إعدادهم لمستوى إحترافي في تقديم العروض المسرحية هناك.
من خلال البريد الإلكتروني كانت معه هذه المقابلة



الشعراء الذين يعتقدون في النقد ينصرفون إلى كتابة نصوص مغلقة الخروج عن أفق ( سيناريو اليابسة) الى (الظنون) هل هو انتقال من لغة الى اخرى حقا ـ كما تبدى لكثيرين ـ أم ان هناك حيثيات اخرى ؟!

- يبدو لي أن هنالك حلقة مفقودة خاصة بالنصوص التي كتبتها قبل كتاب سيناريو اليابسة، وهي نصوص لو تـمّت قراءتها لذهب السؤال مذاهب أخرى، حتى أن بعض الأصدقاء والذين شهدوا معي تلكم الفترة، أيام النصوص المبكرة، قالوا فيما بعد بأنهم يجدون مشقة في التعامل مع نصوص سيناريو اليابسة والتي يرونها وعرة بل وغريبة على مفردتي وعالمي الشعري، ولكنك ترى كيف جلس السيناريو مطمئناً على أرفف المكتبة وكأنه بداية فعلية لمشوار طويل بدأ في الحقيقة مبكراً جداً وخلّف وراءه نصوصاً كثيرة لم تقع عينُ القارئ عليها ولو فعل لكنتُ مطالباً بالإجابة على السؤال الأصعب. إذن السيناريو أيضاً، تمشياً مع مزاج السؤال، يبدو انتقالاً من لغة إلى أخرى. من واجبي أن أقول إنه أثناء كتابة السيناريو وأثناء ذيوع نصوصه في المنتديات والليالي الثقافية كنتُ أعالج نصوصاً أخرى ستشكّل فيما بعد كتاب الظنون، لكنني لم أجد الحيلة والشجاعة معاً، لمراجعتها ولإعتمادها نصوصاً يمكن قراءتها ونشرها بطريقة لائقة آنذاك، ربما لأنني كنتُ أرقب إكتمال ونضج الصوت داخل موسيقى المفردة العربية الفصيحة بإعرابها وحمولاتها الشعرية المتشابكة. المنابر والقراءات الشعرية ساهمتْ أيضاً في خفوت صوت تلك النصوص، حيث أنني كنت مطالباً في أكثر الأحوال بقراءة نصوص بعينها، تحديداً نصوص السيناريو، والتي بدتْ في عين وأذن جمهور الشعر آنذاك، طقساً شعرياً يستحق الإحتفاء ، وما كنتُ بمفسد ذلك الإستقبال، وما كنتُ بغافل، في ذات الوقت، عن الكائنات الشعرية الوليدة التي بدت تتشكّل أمامي جراء الظنون. تلكم هي القصة، لكنني لم أقل الفكرة بعد، ففي تصوري الخاص والذي ظللتُ أردّده دائماً ولم أفلح بعد في صياغته بشكلٍ مكتمل، إن بإمكاننا إنتاج الشعر و العثور عليه في كلتيهما: دارجية وفصحى، ناهيك عن بقية اللغات واللهجات: انظر إلى الشعر المترجم عن لغات أخرى مثلا، وكيف نستمتع بمعظمه ونعثر على الشعر فيه من قراءة أولى فحسب. أخيرا، وهذا هو لب الأمر: القلق، عدم الإطمئنان لما تمّ إنجازه ثم الرغبة في المغامرة تحتم على الشاعر أحياناً أن يحتقب أهوالاً كثيرة، أقلها فيما أرى: الظنون .



تضمن كتاب الظنون، معالجات شعرية مختلفة، في متنه. نص كتاب الحنان غير نص الجلوس على سبيل المثال، بينما نجد (تشجيع القرويات) على ما تحفل به نصوصه من تنوع نسبي، كأنما هو نص واحد بعناوين فرعية، هل هو اتجاه جديد في سياق تجربتك الشعرية ؟!

- نعم. في الظنون كنتُ نهباً لقراءات كثيرة ومتنوّعة، هذا هو قدر الكاتب فيما أعتقد، ولعل عنوان الكتاب يدلّك على طعم تلك التجربة، فالظنون لم تكن سوى ظنون أدبية محضة، بمعنى أنها كانت أقرب إلى التأمل الشرس في أجناس الكتابة الشعرية من نثر وتفعيلة إلى غنائية وعرة ثم مزج بين كل ذلك. كنتُ، مثلي مثل كثيرين، شاهداً على مدارس واتجاهات - شعرية ونقدية - متنوّعة و خاصة بإنتاج القصيدة: بناؤها وموسيقاها وحتى توزيعها وتحريرها جغرافيا على بياض الصفحة. ظهرتْ هذه الهموم بشكلٍ لافت في كتاب الظنون لكنها، من وجهة نظري، نجتْ بأعجوبة من التشويش والبلبلة، كما أنها خلت من الغموض الذي عادةً ما يرتفق مثل هذه التحولات. كنتُ بحاجة إلى إبراز بطاقة شخصية، شخصية جداً، تدل على تاريخي مع هذا الجنس من الكتابة، لذلك قد تعثر في الظنون على طفولات شعرية وتجاريب ناضجة وخلاف ذلك كثير. ربما ظلّ وسيظل ذلك بالنسبة لي واحداً من أسرار هذا الكتاب والتي تدعوني دائماً إلى النظر إليه بعين الإمتنان كونه التجديفة الأولى في محيط غويص. أما تشجيع القرويات فهو التفرغ بعناية إلى صوت ارتطام الإناء الذي تحطم إثر السيناريو والظنون والعمل بدأب على مزج وتركيب ذلك الصوت، وليس الإناء. هذا ما منحه هذا التماسك الهش والذي يليق بقصيدة واحدة طويلة. وهذا أيضا ما منحنى دروبا، يبدو أنني سأسير فيها طويلاً، وهي الدروب التي ينبغي فيها الإحتفاظ بصوت تهشم الأشياء وليس بالأشياء نفسها.



لأول مرة يصدر لك كتاب، وأنت خارج الوطن، لم تتحسس براءة قدومه الاولى في الناس والحياة، كيف تحسستها الان وأنت هناك ؟!

- مقالب الهجرة لا تنفد أبداً، والغريبة يا أخي هي تشبه مقالب المكوث أيضا مع اختلاف طفيف في اللغة والضرائب. خذ مثلاً الكتاب الأخير من جهة التصميم والإخراج، ساهم ضيق وقتي وغيابي مثلا في خروج الكتاب بالشكل الذي لم أتوقعه أبداً. أما هنا في ملبورن وعلى كثرة السودانيين فالأمر لم يتعد مناولة بضعة أصدقاء نسخاً من الكتاب الجديد ثم حلّ بعد ذلك الصمت المطبق والذي يليق، كمكافأة متجهمة، بكاتبٍ ترك أهله وأصدقاءه وقراءه وانضم إلى قبيلة المهاجرين : القبيلة التي ستضيف إلى تراجيديا القبائل السودانية - على كثرتها وشربكاتها - دمعة هائلة. الوحيد الذي اكترث كثيراً بأمر الكتاب الجديد كان شاعراً أسترالياً، لم يفهم منه حرفاً واحداً لكنه انفعل بالفكرة: فكرة الشغف بالكتابة داخل اللغة الأم ثم طباعة كتاب شعري أثناء مزاولة أعمال هامشية لكسب العيش ومزاولة أعمال أخرى تطوعية لكسب الهواية!!! تتويجاً لهذا الإهتمام بدأنا في طرق دروب ربما أفضتْ إلى كتابٍ جديد وربما أسفرتْ مستقبلاً عن ترجمة محترفة لبعض الأعمال الشعرية.



كيف تتعاطى مع الاطروحات ذات الطابع النقدي التي تحوم حول الانتاج الشعري المعاصر، من لدن (قصيدة النثر) (الشعرية الجديدة).. الخ، والى أي مدى تمتح تجربتك من هذا الفضاء ؟!

- الشعراء الذين يعتقدون في النقد أكثر مما يجب ينصرفون في الغالب إلى كتابة نصوص مغلقة، والحريف فيهم ربما انصرف إلى كتابات ذات طابع نقدي وهذا مكسب كبير كما لا نعلم. في إعتقادي أن هنالك هماً شخصياً، محلي للغاية ، دارجي وبسيط ينبغي الاعتناء به أثناء كتابة القصيدة ، كيف ؟ لا أدرى، لكن ذلك في تصوري ما سيمنحها اختلافها، حياتها وحيويتها. المشكلة تبدأ حين يتم التعصب لشكلٍ شعري أو لمنهج نقدي واحد ويتم تعاطيه كأنه الوصفة السحرية لكتابة نص ما. قصيدة النثر مثلاً كانت حاضرة بشكل أو بآخر و باستمرار في الشعر العربي وغير العربي، نعم بدرجات متفاوتة وبتقنيات أقل، لكن المجزرة بدأت حين بدأ بعض النّقاد وتبعهم بعض الشعراء يتعصبون لهذا الشكل الشعري دون غيره وبدأوا يروّجون لهذه القصيدة كأنها القياس الوحيد لشاعرية الكاتب. ضمن هذا التشويش يظل العثور على نقد جيد يشبه كثيراً العثور على ناشر أمين ومحترف. نعم أنا مهموم، مثلي مثل غيري من الكُتّاب، بهذه الأطروحات لكنني أبحث فيها عن كشوفات يظل آخرها: كيف تكتب قصيدة معاصرة؟. النقد الذي يقول مثلاً بعدم جدوى الشعر القديم، والذي يقلل من قيمة الشعر الغنائي لا أحفل به مطلقاً. النقد المبصر أحيانا يرفد الشعر بفضاءات رحيبة مثلما تفعل اللوحة، السينما، القصة والقصيدة وأنا أنظر إليه كما أفعل ناحية الحقول من نافذة القطار.



الاقامة قليلا في القاهرة، ملامسة جانب من المشهد الثقافي المصري عن كثب وجوانب من المشهد السوداني بالقاهرة، أيضاً المكوث باستراليا والنظر الى العالم من هناك، بلغة أخرى (ملامح أخرى؟!) إضافة الى نمط ـ أنماط مختلفة من الحياة، ماذا أضاف أو بالاحرى، كيف وجدت المنفى (بينهما) لأول مرة؟!

- القاهرة عندي هي صحيفة أسبوعية اسمها أخبار الأدب تصدر صبيحة كل جمعة، هي الجلوس في المقهى دون الشعور بالذنب، حلمي سالم، عبد المنعم رمضان، إذاعة القرآن الكريم، سوق الكتب في الأزبكية، لوحات حسان على أحمد، صيام شهر رمضان كلّه وبجروحٍ نادرة، الكتابة يومياً في الصباح وتمزيق المسودات في المساء، مطعم الخرطوم: بعضهم يقول إن الفيتوري يغشى ذلك المكان من وقتٍ لآخر، صوصل يقدم عرضاً مسرحياً بمفرده مستخدماً بضعة مواقف ومشاهدات مرّت به قبل ساعات من العرض ويقوم بإضحاك المصريين شخصياً، ندوة عن كتاب الظنون نظّمها وأدارها حلمي سالم، القاص أحمد الشريف وشغفه بالروائي السوداني إبراهيم اسحق، مثابرة عفيف اسماعيل في تأسيس شموس الثقافية، جمع وتحرير بضعة كتب ومجلة، (في طريق الليل ضاع الحادثُ الثاني وضاعتْ زهرةُ الصبار) بصوت صابر عبد الهادي، حي عابدين ومقاهي عابدين، مكتبة المحروسة، هل قلتُ عين شمس؟ هذه هي القاهرة التي تنتابني والتي أعشقها بحذرٍ شديد. أما استراليا فهي درس قاس في الجغرافيا: قارةٌ مدهشة بتنوّع ناسها وطقسها وكائناتها فقط لو تركتها أمريكا في حالها وتركتنا هي في حالنا. وجدتُ مثلاً أن ما تحاول أن تفعله الدولة هنا وتصرف عليه الملايين سنوياً من احتفال بالتنوّع الثقافي والتعدد الإثني فعله السودان ببساطة وبتكلفة أقل قبل عقود من الزمن ودون أي آلة إعلامية هادرة كالتي نشهدها هنا. لكن السودان كالعادة ضيّع ذلك وتلك وأولئك. المنفى، ومن دون مبالغة كائنٌ هنا وهناك وفي كل مكان كما ترى، ذلك وبشكل رئيسي ومن دون حاجة إلى بصيرة شعرية ناتج، مرة أخرى ودائماً، عن موت الأطفال والأبرياء يومياً بسبب الحرب، الجوع، المرض، التعصّب، حكّام أفريقيا، الملوك والأمراء، الظلم واسرائيل.



في ز يارتك الاخيرة للخرطوم جرى الاحتفاء بك في منابر الشعر ومنابر أخرى هل الوطن بخير، هل الشعر في الوطن وجمهوره بخير- كيف وجدت الأمر؟!

- الجميع بخير، لكن من هم الجميع وما هو الخير؟ هنالك كتابة حقيقية قادمة وشعراء حقيقيون في الطريق، فقط علينا البحث عن وسيلة للتواصل مع جمهور الشعر وإن استدعى ذلك تغيير طريقتنا في كتابة الشعر نفسها، والأهم أن نعلم أنه لا وجود لقصيدة قديمة وأخرى حديثة، هذا مقلب نقدي يجب أن نتفاداه بكل السبل، هنالك شعر أو لا شئ. كما أنه ليس بالضرورة أن يكون كل الشعراء مغامرين كبار، هذه الأمنية أفقدتنا عدداً لا يستهان به من الشعراء، المغامرة الحقيقية هي أن نكتب قصيدةً ما تحفزنا وتحفز آخرين إلى هذا الفعل، أثناء ذلك بالطبع يجب أن ننظر إلى تاريخ الشعر كله بجحودٍ جميل. أما الإحتفاء فهو بعضٌ مما ابتدرناه نحن قديماً ومن دون كلل: فلو تذكر يا عزيزي، ظلننا وعلى مدار أكثر من عشر سنوات خلت، أنت وبضعة أصدقاء وأنا، نقدّم كل أسبوع ندوة شعرية في مكان ما بالسودان. ما من جامعة، جمعية، كلية، منظمة، رابطة ونادٍ إلا واستجبنا لرغبتهم في الاستماع الى الشعر، فعلنا ذلك بمحبة ومن دون أن نطلب شيئاً سوى الإنصات. سأظل ممتناً للذي طيّبوا خاطري والذين عكّروه أيضا، أرادوا، كل بطريقته، أن يقولوا مرحباً بعد غيبة.


نعتقد أن المثقفين والمبدعين السودانيين لم يتمكنوا من خلق حراك ثقافي بمهاجرهم كما حدث مع مثقفين ومبدعين مغاربة كيف ترى الأمر- من واقع تجربتك؟!

- هذا صحيح وإلى حد بعيد، رغم أنني لا أنظر إلى الأمر من هذه الزاوية. ثم هل سمعت ولوقت طويل شيئاً عن المغرب، باستثناء الجزائر، في نشرات الأخبار؟ حاول أن تفعل ذلك ستجد بصعوبة خبر ولو صغير عن المغرب، لكننا يوميا في نشرات الأخبار تسطع صور أطفالنا ونسائنا ورجالنا وهم يموتون لأسباب غريبة: حروبات، سوء تغذية، سوء فهم، ثأرات، حقارة، عطش وملاريا. ذلك هو حراكنا إلى حين إشعار آخر. المغرب بلد منظم وجميل به جامعات، مؤسسات أكاديمية، ودوائر معرفية عريقة لم تطلها قبضة المهووسين بعد، ديكتاتورية ملكية راسخة، سياحة ومكتبات، مقاهٍ وأزقة، شعوذة، ساحات كرنفالية، وفرنسا. أعتقد أننا مطالبون بخلق حراك ثقافي داخل السودان أولاً، بمعنى لا بد من رد الإعتبار للآدمي السوداني دون تمييز أولاً، لا بد أن يأكل ويشرب، يتعلم ويتعالج، يعمل ويتفسّح بعيدا عن هذه البشتنة. وفيما يخص العمل الثقافي لا بد من خلق، دعم ورعاية منظومة البحث العلمي والأدبي: جامعات، معاهد، منظمات، مطابع، دور نشر، توثيق، تراجم وبحوث. لو كنا تابعنا ما بدأه على المك مثلاً من جمع، تحقيق، تحرير وتقديم خليل فرح وأردفنا ذلك ببقية العقد الفريد من كتاب ومبدعي السودان لكان من السهل الحديث عن تواصل ثقافي خارج السودان. هذا بالطبع لا يجحد ما يتم انتاجه من تواصل مشرق قام ويقوم به قلة من المهاجرين السودانيين وواحدة من ثماره الحديثة مثلاً تلك البذرة الواعدة والتي بدأ سقايتها: حافظ خير وأنت.



قد مارست العمل الثقافي، بصورة أو بأخرى إبان تواجدك بالقاهرة، وابتدرت انشطتك الثقافية في استراليا بتأسيس اذاعة سودانية إضافة الى العمل مع فريق مسرحي مكون من اقطار مختلفة وأخيراً تعمل ضمن طاقم تحرير صحيفة المهاجر لأي مدى كانت هذه الانشطة خصماً على الشعر لأي مدى أثرت تجرتك الشعرية؟!

- أضف إلى ذلك كوني إجتماعي إلى حد بعيد. قصائدي وهجرتي تدفعانني لذلك، أعتقد في الناس وفي التواصل معهم وأسعى من وراء ذلك إلى تبادل وإلتقاط المعادلات الماكرة والبسيطة التي يبتكرونها في حلهم لمشكلة الحياة: اليومية، العميقة والعابرة أيضا، وكيف يحاربون الملل واليأس والرحيل. أرى الناس قصائد غيّبتها لجنة نصوص جائرة. لم أعد أكتب لأنني قارئ جيد فقط، ولكنني أكتب لأتفادي هذا الارتطام المهول بالآخرين ونصوصهم المجهولة. في القاهرة عملت مسؤولاً عن جمع وتحرير وتقديم اصدارة من مجلة (اركي) تبع المركز النوبي للدراسات والتوثيق، عملت مع فريق تحرير لإصدارة من كتابات سودانية تبع مركز الدراسات السودانية الذي يطرح الآن فيما أعتقد واحدة من أجمل المبادرات الثقافية في تاريخنا المعرفي، شاركت في عدد من الندوات الشعرية وعملت على جمع، وتحرير، وتصميم كتاب شعري وآخر قصصي، أكملت تدوين كتابي تشجيع القرويات كان ذلك بين عامي 2001 ونهايات .2002 في أستراليا وبمساعدة عدد من المهتمين تم تأسيس الإذاعة السودانية التي أردتُ لها أن توثّق في المقام الأول لتجربة المهاجرين عامة إضافة إلى بعض الإهتمامات الأدبية خاصة في محاولة لخلق معبر صغير ناحية المجتمع الأسترالي وحياة الغرب الضاجة، ذلك تمّ ويتم عبر حوارات وبرامج تعتمد الحوار والحكي وتحتفي بقرى ومدن سودانية كما تسهم في كسر طوق العزلة والصمت الذي يحاصر المهاجرين وذلك بالتوثيق لتجاربهم في بلادهم وهي غالباً ثرة وتجاربهم في مهاجرهم وهي لا محالة مؤلمة وصار لدينا مكتبة متواضعة تعثر فيها على أصوات شيوخ ونظار قبائل، موظفين ومحاربين قدامي، فنانين، أطفال، أكاديميين، خريجين، عتّالة، تلاميذ، شذاذ آفاق ومحترفي سفر يحكون عن قراهم ومدنهم وعن ذكرياتهم وتجاربهم في السودان ويستعرضون السؤال الصعب الذي يواجههم هنا كلاجئين ومهاجرين ثم يطلبون أغنيات مفضلة ومدائح. الإذاعة أيضا كانت حاضرة أثناء مأساة دارفور وأدارت عدداً من الحوارات مع مختصين في هذا الشأن، كانت حاضرة أثناء احتفال السودانيين هنا باتفاقية السلام وعودة قرنق، ثم هنالك عدد من الحوارات عبر الهاتف مع كتاب وفنانين وأكاديميين كلها موثقة ومحفوظة مع عدد من التمثيليات والمعالجات الدرامية ثم تغطيات لمهرجانات ومناسبات دينية وإجتماعية وسياسية تمت وتتم هنا في ملبورن. لدينا أيضاً توثيق لحوارات مع أستراليين وتغطيات لمهرجانات أفريقية وجاليات أخرى. في المسرح بدأت أؤسس مع شبيبة نابهة لفرقة مسرحية من جاليات القرن الأفريقي تقدّم عروضاً بلغة انجليزية بسيطة وهي عروض قصيرة نسبياً نعالج فيها بعض الهموم الخاصة بالمهاجرين ونستعد الآن لمعالجات مسرحية أكثر احترافاً. في صحيفة المهاجر وضمن طاقم التحرير أعكف على إعداد وتحرير ستة صفحات ثقافية إضافة إلى بعض المهام التحريرية الأخرى، نعم نواجه بعض الصعوبات الخاصة بالطباعة مما استدعى صدورا شهريا للصحيفة، لكن المستقبل واعد، خاصةً بعد استكتابنا لعدد من الأقلام خارج استراليا وبعد دمجنا لملحق انجليزي داخل الصحيفة مما قد يغري بعض المؤسسات والمنظمات بالإعلان عندنا حينها أتوقع لصحيفة (المهاجر) صدوراً أسبوعياً أو على الأقل بصورة نصف شهرية مما يمنحها خطوات أكثر وثوقاً واحترافاً. كل ذلك يزاحم علاقتي بالقصيدة، لكن لم يكن بالإمكان تجنبه، وكما ترى كان لا بد من تأسيس مناخ فيه شبهة من الشعر وله وشيجة بما أحبه وأسعى إليه، ولعل ذلك يمنحني مهلة، إن كان هنالك مهلة، قصيرة عن الشعر ويجنبني كتابة نصوص متشابهة كثيرة، ثم أنت تعلم كيف يكون المرء معرضاً للقصيدة بعد مشاهدة أو إنتاج عرض مسرحي مثلاً، فقط أخشى وبعد كل هذا التأسيس والتحضير أن أعود للقصيدة فلا أجدها!! أخيراً تبقى أن أقول إن كل ذلك على كثرة مطباته وتعبه، جماله وثماره المرجوة، هذا كلّه، صدّقني، لا يساوي أمسية أدبية في واحدة من أندية السودان المهجورة.


المصدر : صحيفة السودان الدولية

Post: #22
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-24-2007, 05:43 PM
Parent: #21

________________________

في النقد الشعري

الموضوع : قراءة نقدية في أشعار عبد الله داش
الكاتب : وقّاص


المتأمّل لأشعار الأديب الشاب / عبد الله داش ، يلفي نفسه مسربلٌ بالعشق المطلق للأشياء ، ويتوه في عوالمٍ من الطلاسم المتناسلة التي لا تقف إلا عند اللانهايات . فالكلمات عنده غريبة ثائرة متوهّجة ، والمقاطع حميمة متماسكة كأنها وُجِدت معاً . يأسرك الجمال وأنت تنزلق بسهولة عبر قصائده ، ويفترق بك الطريق عند معضلة الجمال المطلق : هل نحن نكتب لأن الكتابة فعلٌ جميل ؟ أم أننا نريد أن نقول شيئاً؟ حيّرني هذا السؤال مراراً وتكراراً . ومع (داش) جرفني الجمال إلى شواطئ النزق والانفلات ، فرحتُ ألملم بقايا (منطقي) الغرقى وأدفنها على الشاطئ دون كَفَن . وأترك العنان لفرسي تعدو بين ممرات حروفه المذهلة . حقاً ، ما الذي نريده من الكتابة ؟ يقنعك (داش) أن الجمال غايةٌ لا تحتاج إلى مبرر ، وأن الكتابةَ عملٌ أصيلٌ في ذاته لا يلتفت إلى الأغراض . وقديماً وقفتُ عند المدرسة التي تخرّج منها (عاطف خيري) وآخرون ، وألفيت نفسي كمن يحاول فك شفرات لوحةٍ تشكيلية من الوزن الثقيل !
التجريد ، والرمز الموغل في الطلسمية وألفاظ أخرى هي في حد ذاتها معضلات لغوية مربكة . وتساءلتُ عن (جدوى) مثل هذه الأشعار ! وكيف يكون الشعرُ شعراً وأنت تدخله محتاراً وتخرج منه مذهولاً مفغور العينين ! وناقشتُ نفسي في (مبادئ) الشعر و(قوانينه) الراسخة منذ أن اتكأ الأعراب على أقواسهم ونثروا كلماتٍ ليست كالكلمات ، ورسموا للشعر خطاً ثابتاً من القوافي والأوزان والبحور . ثم خَلَف من بعدهم خلفٌ أضاعوا المبادئ في سبيل التحرر الجمالي الثائر ، فهل سوف يلقون غيّاً؟ أم أنهم عاشوا في عصر الآلة والاختراع بعيداً عن السيف والرمح والقرطاس والقلم ، وليس ضرورياً أن ينفعلوا كما انفعل الذين من قبلهم ! غير أن الجمال في كلتي الحالتين وافرٌ . وهو هنا في مدرسة داش/خيري يأخذ أشكالاً متعددة وأنماطاً شتّى يجمعها التثوير والانفلات إلا من الموسيقى الشعرية التي ما زالت تناضل كمقاتلٍ وحيد أبقت عليه ظروف المعركة .

دعونا نمسك المبضع و نبدأ هذا التشريح (من الأعلى) . لنأخذ أسماء القصائد كمدخل معرفي يوحي بماهية الشاعر وطريقة إحساسه بما يكتب . فأنت تسمي القصيدة تماماً كما تسمي أبناءك ، فتسقط عليهم ثقافتك الدينية أو مرتكزاتك الأدبية أو ربما نمطك العشوائي في إطلاق الأسماء . والاسم بطريقة أو بأخرى يفصح عن رؤية الكاتب للقصيدة ، فهو مختصرٌ من الكلمات يحاول الشاعر من خلاله إعطاء الهوية للقصيدة ، ووصفها وتتويجها وربما تلخيص فكرتها من حيث الحالة النفسية التي يود رسمها.

آسفين
القمرا الوَسَط
مقاطع الرحيل الكسيح
سودة ..ومميزة .. بامتياز
زيف النهار


هذه بعض الموضوعات الشعرية للكاتب . ويمكن إجمال التعليق عليها بأنها لاتخلو من بعض التعقيد المليح إن جاز التعبير ، والشاعرية العالية ، كما أنها تصف لك مدخلاً (معقولاً) للقصيدة ، وتهيؤك لها جيّداً .

ُمشهاد السكة
الراحت مِنك
طشَّت بين أبعاد اللوحة
وذابت في التلوين
كونتِك ُزمرة شوق
فسرتِك من سِفر التكوين



ضع معي الألفاظ الآتية على طاولة (التفاوض) : ُمشهاد ، طشَّت ، ُزمرة .
ستجد أنك ما تفتأ تشهق منفعلاً بهذه الصناعة الأدبية المتينة . من كان سيلوي تصريف (المشاهدة) و(الشهود) إلى : ُمشهاد !! ومن كان سيفكّر أن (الطشيش) بكل ما به من كلاسيكية بدائية لوصف التوهان ، يمكن أن ينسجم بتؤدة ووقار مع الــ(: ُمشهاد) !! مشهاد السكة ضاع ذوباناً في اللوحة . ولكن أية لوحة ؟ ربما هي القصيدة نفسها التي تبرز كلوحة حرة حروفها هي الألوان وكلماتها هي الخطوط .


داهمتِك
وإنتِ قريبة الطيف
الجافل مني
وفارض نفْسو على الأحلام
مبتُوت لاقيتِك
من الصوب للّوب
في ِوجهة دربي الماش
خليتِك في أهداب العين قُنديف



تخيّل معي أن المحبوبة أو المخاطَبة (على الأقل) تنسل من الطيف لتكون قريبته ، وهذا ربما يمكن أن يسمى (تجريداً) ، حيث أن المحبوبة هي الطيف نفسه ، فكيف بها تقاربه وهو (جافلٌ) من الشاعر وفارضٌ نفسه على أحلامه ! مبتُوت .. هنا أيضا يطوّع الشاعر اللغة ويصرّفها أيما تصريف ، يجعلك تتلفت يمنة ويسرى لترى هل أنت وحدك من يشك في المعنى ؟ وينتابك نفس الشعور مع : من الصوب للّوب , و قُنديف . أية معانٍ وأية لغة ! يحاول الشاعر المروق من الدروب المهترئة التي سار عليها الآخرون ، ويعمد إلى سكك جديدة غير مطروقة لا تؤدي إلا إلى وادي عبقر.


نفاج مفتوح
في روحي دروب
بتخضب شُح البكا من عين
دا الحين ..!!
مين كان في ظنك فارع طول ..؟؟
ومّوسم لونك لو مشهُوب
مين ودَّر فيني نعاس الليل بالكوم ..؟



كيف يستطيع الشاعر أن يتحفنا بكل هذا الجمال ونحن سكارى بكل هذه الطلاسم ؟ كيف يتم توسيم اللون حتى وإن كان (مشهوباً) ! نعود هنا مرة أخرى للجمال من أجل الجمال ، فلن ننكر أننا أدهشنا ورقصت شياطين أشعارنا طرباً مما نجد . غير أن هذه اللونية تمجّد الشعر لذاته ، وتتخذه معبراً للتعبير عن كل الموسيقى التي تصرخ في أعماق الكاتب وتمتزج بآلاف الحروف والكلمات المدهشة . الشاعر هنا يجتر من مخزونه اللغوي اجتراراً تلقائياً لا تمليه أية ضرورة ، ويمزجه بموسيقاه الخاصة التي لا تأبه لبحور الشعر و(أنهاره) ، وإنما تسعى نحو الفكرة الوثابة والكلمات المضيئة بالثورة والتحرر . ولو أننا سلّمنا بجمالية اللون الشعري هذا ومقدرته الفائقة على جذب انتباه القارئ والخروج به إلى دنياوات جديدة ودروب مكتشفة حديثاً ، فإننا لن نغفل الأسئلة الكثيفة التي تقفز هنا وهناك بين شوك الكلمات الصارخة وغرابة التعابير والتراكيب ، عن المعاني والمقاصد والتوجهات التي يرنو لها طرف الشاعر ، والتي تجعلنا نقف طويلاً عند هذا الباب ونصلح من هندامنا جيداً قبل الطرق . وأخيــــــراً :

يا بنية وسختى النفس
بالخضرة..
كيف الدبارة؟
إذا العصافير قدمنّك:
الرسول كان تدخلى



المصدر : منتديات النيلين


Post: #23
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-24-2007, 05:52 PM
Parent: #22

____________________________

الموضوع : نص شعري
عنوان النص : سيناريو البحث عن يابسة
الكاتب: عاطف خيري


الهدهد مخدوش الفضا
طويل الحزن .. مفتول الحنين
مصاب بالديانات والشرود

نوح: يبلغ من الطول مسافة
يشتهى الغرقان .. شهيق
لونو زى سرك .. تكلمبو الصديق
أمو تتوحـّم على طين البحر
قبال تقابل والدو .. صدفة على الطريق
عمرو ستة شهور حِلِم
إنو الأرض مسجونة فى موية ..
وكل الناس مراكبية
اليابسة .. فِركة ..
مدخورة لى يوم فيهو ساير النيل
قطـّاع رحط كل الجزاير
والبنات البفتحوا الباب للمطر
وأنا جدولك شارف على كل الجداول
الصاحية فيك
والغباش فى دمى منك
لو كسر ضلعين عذرتو
لكن نهر كل العصافير البتلعب فى الوريد
وفنـّاكى جواى زى حجر
والبينـّا ما فات الدوائر
الليل خِمار القمرة ..
مجدوع فى الفراغ
والرقصة لى البت فينا ..
فوق كل المسامير الندقها فى البساط
والرياح حكـّامة بى دلوكة
مرّقت الشياطين .. المنها

إتجنن فقير الحلة دقيناهو
بى نفس السياط
كل المجرات .. النيازك والشُهُب
ودع راميهو الله على السما
والدنيا زار
يا هدهد هنا مرت مراكب نوح
محملة بالبخور
مين اللى شال من طاقة الطين البعيدة
قنديل حبيبتى وطيـّب الجرح المثير
مين السرق من بابا مفتاحو الملون ..
والصرير
منهوبة مقبرة الفواكه فيكى
قولى معاى شرف القبايل .. جر
الشاف تباريح الطلح فى النار
شافنى مرقت من عندك ضرير
أنا ليه تجينى الموية حفيانة ..
وأدنقر ألبِّسا فى شبط أخضر
وأبيت مبلول .. وأصلِّح فى الرباط
أنا ليه شبابيك البيوت الواجمة ..
والناس البُساط
وليه يرجانى النخل
فى السكة يفتح قلبى خمارة ..
وخلاوى ..وبيت بكا
تعبت من المساسقة والهتاف .. ياغيمة
أتبنى جبهة القمرة
السهر والحمى طول الليل تهضرب
ويا هدهد لقيت أمك
ترشرش فى السعف من عينها
وتجبر خاطرا المكسور عليك
ينكسر خاطر السعف فى إيدا
يا هدهد قيام
من السما الأول قيام
من السما السابع قيام
وأنزل مسافة تهبشك غنوة .. وأناولك كاس
ومرت مراكب نوح محملة بالملوك
ركعت على الموج الجنود
من كل جندى تفوح ضحية
ودم مشتت فى الأبد
دسيت جبهتى من السجود
بكى فى مخاض الخوف .. ولد
إشتبهوا فينى ورا الجبل
شافونى دسيت الهداهد والزبد
صفا !
إنتباه !
وقعت من الهدهد بلد
نهبوها .. وإتقسموا الحدود

ومرت مراكب نوح محملة بالطيور
واقف مع نوح الغراب
ينضم ويأشر فى إتجاه
باقى الطيور يتوسوسوا
إلاّ الحمام .. إتوضا مارق للصلاة
القانقرد فى حزنو يغزل
شالة من صوف
الطواويس شارّة قمصانا
المزركشة فى الضحى
الزرازير بى عراريقا
المغبشة ..جات على
أرجينى يا صالحة !
ومشيت فى الموج
يا النبى نوح أصل سالم
يا النبى نوح أصل .........
حجر الدُّغُش فى الموية
يقلع ضُفرى يادم !
ده ما وكت الرسم واللون
وجات المغارب حننت إيدا .. ومشت
سبحانك الأديتنا من حزنك فوانيس
الغراب يا نوح طفش
واليابسة وين ...؟
يا الله ما يابس سوى حلقى
المجرح بالدعا
طير يا حمام !
والحمام يا نوح يجامل فى السما
وبيّاع مناديل خضرا فى كل العصور
ارفع سوالك بوصل
ليه الفجر مهجور تحت
حاجب حبيب النايمة فى الجبل
المشلخ بالرمال
أنا ما خلقتك يا ظنون
شان تبيتى الليل معاى
وتجرى من فوقى الغُطا
ما تشُرّى فى حبلى الوساوس
والمعانى الداكنة .. والليل والشتا
الهدهد تميمة الموت
معلّق فى بيوت الناس .. نعش
من خرافاتهم تعال
من دياناتهم تعال
نفّض نعاسك من كل بيت
من كل حجوة حكوها عنك
فى الليالى الباردة والأطفال نيام
مين يشترينى من الملوك الخاينة
فى الدم القديم
مين يوصف للنحل ريق الحبيبة
وحبة القمحة التقوم فوق محفضة حبوبة فى الزمن اللئيم
مين اليوصف
بيتنا لى هدهد يتيم
مين النبى القادم؟
من مكة !
أو من دكة !
فى شارع حميم
مزيداً من الطين يا إله
أبنى خوفى عليك .. ومنك
أبنى آخر بيت .. حرام
ومرت مراكب نوح محملة بالحجيج


ــ وين ولدك ؟
ــ تركتو على الجبل .
ــ وين بلدك ؟
ــ ضربتها فى مثل .
ــ وين نحن ؟
ــ مرقت على عجل .
ــ يا نوح تخلينا
زيتونك مخلل بالشمس
نار الله والرِجل الغريبة
نحن البلاد الشاكية جرحها للصديد
جاتنا القوافل بالضجيج
جرتنا من حلبة رقيص
ورتنا كيف صلبوا المسيح
ورتنا كيف كتلوا الحسين
وبكينا أكتر منها
ساقتنا فى الآخر .. عبيد
مين يشترينى من الملوك
الخايدة فى الدم القديم
مين البوصِّف بيتنا لى هدهد يتيم

يا هدهدى المهدود
مين هدهدك .. نمت
كل الطيور غنت ..
منك يجينى سكوت
مين الهداك للناس
أو هدّ فيك الموت؟
يا أوسم الجايين ..
أنا قلبى حِلّة حنين
والشوق فتحنى بيوت
يا صالحة لا جنبك ..
لا فتّ منك فوت
دايماً معلق بين ..
بين الحياة والموت
أدخل ضلام الناس
نورك يجينى خيوط
وقبّال أقع فى الضو
جوّاك سندنى خِفوت
أنا برضى حلة شوق

لكنى فى التابوت
ومرت مراكب نوح محملة بالعبيد
الجنة .. زى هدهد معلقة فى الكتاب
ونحن العبيد
باب الحياة السرِّى
حرير فى فكرة الدودة الموجعة .. بالنسيج
وصيوان عزا نوح
المكفّن بالوعود
الهدهد يرك فوق دفـّة المركب .. يدندن
الريح سكن خيمة حريمو الأربعة
النيل رجع فى اللوحة
للوادى القديم
البحار مكتوفة الأيدى
.. الشموس فاقت
ونوح بعاين فى مفاتن اليابسة
تغسل فى حصا .. ومتبرجة
سبحانك الأديتنا من ملكك سلاطين .. وإختفيت
هاك أنبياءك سالمين
وأنزل مسافة توجعك .. غابة
رقيصنا الحى
طبولنا...
وليك شبال
من اليابسة الممشّطة بالملح
وهدهد

Post: #24
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-24-2007, 06:40 PM

______________________

الموضوع : حوار ثقافي
[blck]المحاور : عيسى الحلو
الضيف: عالم عباس


عالم عباس صوت شعري متميز. وهو من جيل وسيط بين طلائع الشعر عقب الاستقلال ثم طلائع تحديث القصيدة في الستينات، حيث جاء عالم في السبعينات لتواصل حركة الشعر مسعاها التاريخي دون ان تفصل هذه السيرورة من حركتها. ومن هنا تأتي جدية ابداع عالم عباس. وهي تمثل موقفاً فكرياً قاطعاً غير قابل للتزييف أو المساومة .. فقصيدة عالم عباس هي ابداع عبقرية فردية داخل شرط عبقريتها الجماعية، هذا بعض من ابداع شاعرنا الكبير عالم عباس فإلى الحوار الذي يعبر عن بعض هموم الشاعر على مستوى الشعر ومستوى قضايا الوطن.

* هل يمكن ان ينفصل العمل الابداعي عن بيئته الثقافية؟

- الاجابة بداهة هي لا. لعل الذي قاد الى هذا السؤال هو ان كثيراً من المثقفين يهتمون بالحراك العام - لابد للمثقف ان يتأثر بحركة المجتمع من حوله ... التذمر من الوضع السائد هو موقف .. حتى الهروب هو موقف وإن كان سلبياً .. التحرك - الوقوف امام التحديات .. درجة اعلى من حيث الموقف. وتذكرت قول الشاعر محمد المكي ابراهيم في رثاء المجذوب (الآن ينفصل الجمر عن صندل الشعر) .. هل يمكن ذلك؟



* ما هو دور المثقف في القضايا الوطنية المصيرية؟

- كثيراً ما يدور الحديث عن قضايا تهم الوطن والمواطن .. يبيح بعض الساسة لأنفسهم حرية ارتكاب الاخطاء باسمنا .. يبدو ان للسلطة السياسية محورين - محور استقطابي تحشد له الموالين والمتوالين للاستنصار بهم لتحقيق رؤاها واقصاء الآخرين باعتبار كل من ليس معنا فهو ضدنا. ويبدو ان القطب الآخر لديه نفس النظرة .. النظرة في السودان تكون دائماً: انا ضد الآخر .. وتغيب نظرة نحن جميعاً. ولكن برؤى مختلفة وما يتبع ذلك من احترام الرأي والآخر .. هل الثقافة او المثقفون السودانيون هم فقط المنضوون في هذين القطبين؟ من ناحية اخرى جل الفاعلين في حقل الثقافة هم من خارج هذين القطبين .. وما يجري على الساحة حالياً - بالرغم من طغيان النبرة السياسية فيها هو في واقع الامر حراك ثقافي .. وهذا الحراك يمتد من زمان بعيد. ولقد كان يتم في ظروف موضوعية وثقافية وليست سياسية .. بمعني ان المظهر السياسي هو المظهر الحاد ومظهر الصراع وليس الحوار .. وبالتالي قاد الى العنف والاقصاء والاقصاء المضاد. ومثل الوجه القبيح لذلك الحوار الثقافي الذي كان يدور على مستوى الفكر .. ونحن نحتاج لمشروع وطني جديد ونحتاج الى قدر اكبر من التواضع وفهم ونقد الذات ودراسة المكونات الثقافية لكل سكان هذه الرقعة المسماة السودان.. ونحتاج الى ما يمكن ان يسمى بميثاق ثقافي في المقام الاول يعترف بكل التكوينات العرقية والقبلية والثقافية، على اساس كامل من المساواة دون وضع اعتبارات للاوزان اوالاحجام. والاعتراف بالآخر ودون اقصاء اي طرف. ومن هنا تبدأ مهمة تأسيس هوية سودانية معبرة عن السودان بكل تنوعه واشكاله .. واذا استطعنا تحقيق ذلك نستطيع ان نتحدث من بعد عن دور فاعل للمثقف في قضايا الوطن .. وقبل ذلك سيكون الموضوع اجتهادات فردية تخطئ وتصيب دون رؤية متكاملة.



* الشعر السوداني المعاصر يتجه للعروبة بشكل مطلق او الى الافريقانية بشكل مطلق ايضاً ... حاولت مدرسة الغابة والصحراء التوفيق؟ وكذلك فعلت مدرسة الخرطوم في التشكيل؟

- دعني اتناول الموضوع من خلال زاوية شخصية محضة ..انا كثيراً ما اتهم بالتخلي عن عروبتي ان صحت هذه النسبة. وكثيراً ما اردد ان العروبة في تقديري هي عروبة لسان. واستهدي بقول الرسول «ص» «ليست العربية منكم باب ولا ام، فمن تحدث بالعربية فهو عربي» لكن يبدو في هذا الوطن الكريم ان العربية ليست هي باللسان وفي هذا - بالرغم من كثرة الادعاءات في هذا الصدد - لا اجد نفسي كثيراً خارج الاطار الذي حدده الرسول «ص» .. والمؤسف ان هذا الاحساس تركز عندي حينما اتيحت لي فرصة الاتصال بكثير من الاعراب الذين نحسب ان اعراقهم عربية، رغم انهم لا يحسنون حتى لغتهم، فاجد سحنتي منكورة لديهم ، ويصبح انتمائي العروبي مثار ريبة وتساؤل. والاغرب ان فيهم الفينيقي والارمني وربما الشركسي والكردي، لكن هؤلاء في العرق السائد هم العرب ويصدرون شهادات لنا باننا نحسن التحدث بالعربية، مع ان فينا من يدعي ان جده العباس. في هذا السودان نجد هذه النبرة : نبرة التمسك بالعروبة «عرقياً» نبرة عالية بلا ضرورة. وهي كما قال الرسول «ص» «دعوها فإنها منتنة» .. يكفينا من الامر كله ان لساننا الغالب هو العربية : ثقافة وديناً ولكن هذا السودان - وان اردت الانصاف - اغلب اهل هذا السودان ليسوا بعرب على النحو الذي ذكرته آنفاً ... ذلك ان اكثر الناس لديه لغة اخرى «رطانة» كما اوردت الاحصاءات مئات اللغات واللهجات والرطانات .. ابتداءً من حلفا حتى نمولي - ومن بورتسودان الى الجنينة.. «يتراطنون » وتجمعهم اللغة العربية .. «انظر تجربة عربي جوبا - وعربي الجنينة وابشي وعربي حلفا وعربي بورتسودان ...«هلمجرا». واللغة العربية تتكيف في مختلف البيئات اللغوية والثقافية. كنت اتمني ان اجد شعراً سودانياً نزاعاً الى الافريقية، هذا نادر وخجول مع الاسف .. هل المقصود الشعر السوداني المكتوب باللغة العربية - اذا كان كذلك فإني لا اجد شعراً بهذا المعني يعبر حقيقة عن وجهنا الافريقي يوازي مقدار التأثير الافريقي فينا .. ثمة محاولات كنت اتمنى ان تستمر وتتجذر كالتي بدأها المرحوم جمال محمد احمد - محمد عبد الحي - النور عثمان أبكر - ابراهيم اسحاق - ابكر آدم اسماعيل «الروائي» ومحاولات فرانسيس دينق ومحمد هارون كافي - الذي اتمنى ان تستعيده الثقافة ليكمل مشروعه الذي بدأه وآخرون .. وهذا ليس اغفالاً لجهود الفيتوري ومحيي الدين فارس وتاج السر الحسن وجيلي عبد الرحمن .. لاني اتحدث عن الاعمال التي كرست عن وعي كامل في اتجاه تجذير ذاتنا الافريقية التي تناسيناها في الحمى والهذيان العروبي. والذي عالجناه بسذاجة وبحماس فطير .. هل انتبهنا نحن كسودانيين الى أننا حقاً افارقة؟ وماذا انتجنا كمثقفين وكتاب في هذا الاتجاه .. كأننا نحس بمعرة أننا افارقة وهو امر بائس ومحزن. بالنسبة لمدرسة الغابة والصحراء، فقد ادت دورها وماتزال بعمق وانتشار مبين. وان اتخذت اشكالا مغايرة وتطورت. وان انكرها المنكرون فهي حقيقة كرست وعياً نشاهد ثمراته يومياً ويبشر بالمستقبل.



* ابراهيم اسحاق وعالم عباس ومن بعد أبكر آدم اسماعيل - حيث ان تعريف الجنوب ليس هو بالضرورة الجهة الاخرى المقابلة لجهة اخرى والتي هي الشمال فهناك الشرق والغرب ايضاً؟

- قدرنا كسودانيين ان نتعايش مع بعضنا البعض .. ولا مجال للكيانات الصغيرة في هذا العصر في وقت يتجه فيه العالم كله نحو الاستقطاب والتكتل - من حسن حظ السودان انه بهذا الحجم وهذا التنوع، لكن مما يعيب هذا الوطن الجميل ان كافة الساسة الذين تداولوا السلطة نجحوا نجاحاً باهراً في قتل ووأد كل عناصر القوة والتمتين في جعل هذا الوطن متجانساً متماسكاً متوحداً في تنوعه - فظلوا باستمرار ولكي يبقوا مسيطرين، يواصلون اللعب على النقائض. ظللنا على مدى خمسين عاماً نتعامل مع ما يحدث في الجنوب باعتباره تمرداً على الوطن الكبير. وحتى هذه اللحظة نظرتنا ماتزال قاصرة حيالها.. فكلنا نعلم في قرارة نفسه انها نتيجة لمظالم عرقية وتاريخية وثقافية لا يتجاهلها الا مكابر. ومع ذلك قضينا نصف قرن كامل في الاحتراب وازهاق الارواح واهدار الموارد ... لنأتي اخيراً لنعترف بذلك على استحياء ومماطلة .. هذا امر محزن ومؤسف. وفي تقديري ان الجنوب حالة تكاد تنطبق على اجزاء اخرى من السودان. وفي تقديري ان ثمة فهماً خاطئاً، بمعنى ان كل ما هو غير جنوبي فهو ليس شمالياً بالضرورة، بمعنى اذا حددنا الجنوب هل ما تبقى بالمقابل هو شمالي؟ هل الشرق شمالي في هذا التصنيف - هل الغرب شمالي ؟ ما هو الشمال ؟ هل التعريف ان الشمال هو ما ليس بجنوب ؟ اذا كانت النظرة هكذا فإننا سنواجه مخاطر اخرى لا ادري كم يطول الزمن حتى ندرك أننا كنا نسير في الطريق الخطأ .. وثمة ارهاصات واضحة نعيشها يومياً هذه الايام شرقاً وغرباً وشمالاً ... الاحساس بالتهميش اوالوعي به «حقاً او كذباً » هو الذي يحرك ويدفع باتجاه ازالة هذا الظلم .. هل نفوت فرصة اخرى كان يمكن فيها ان نرسم وطناً نتعاهد فيه جميعاً بما نحس ان هذا الوطن لنا جميعاً اخشى ان فرصة اخرى ستضيع.



* هل الشعر السوداني ينكفئ على ذاته محلياً أم له بعده الكوني؟

- هذا تعميم مخل .. ومن الصعب بمكان تنميط الشعر السوداني بأنه كذا او كذا ... ما يعتري الشعر السوداني يعتري الشعر في اي مكان آخر من العالم .. باعتبار ان الشعر شكل من اشكال التعبير يمس الذات وغيره .. هل نحن في السودان منكفئون على ذواتنا لكي يكون الشعر تعبيراً عن هذه الحالة؟.. في اعتقادي اننا شعب منفتح اكثر من اللازم على العالم. وربما هذا جزء من ازمتنا: الانفتاح علي العالم يوسع المدارك ويجعلك تحس بالتقصير .. نحن نعرف العالم اكثر مما يعرفنا العالم. وتبين لي بعد معايشة مع الاخوة في الاقطار العربية انهم هم المنكفئون على ذواتهم . ولا يعلمون عنا الا القليل .. ضعف وسائط النشر والاعلام لدينا امر بائس ومحزن .. وتتسم اعمالنا بالمكابرة وعدم الاستمرار والفجائية .. ويبدو اننا ما نزال في بداوتنا الاولى .. غياب المؤسسية والاستفادة من تراكم الخبرات، حيث لا يوجد ارشيف او حتى قوائم باسماء الادباء والنقاد والفنانين والشعراء وغيرهم ... ولا عناوينهم .. فوضى محزنة - في وسط هذه الفوضى هل يمكن الحديث عن أدب سوداني وتواصل مع الآخر - اذا كانت اجهزتنا الثقافية لا تعرف أسماءنا؟ اين مؤسساتنا الثقافية اذا كانت مثل كناتين الاحياء وخيام السلع النموذجية تظهر وتختفي حسب مزاج الحاكم والسلطة؟ والتي كلما دخلت امة لعنت اختها وجبت ما قبلها، كأن ليس لها قبل ولا بعد. ولعلنا ايضاً شركاء في هذا العبث والهرج والمرج ولا حول ولاقوة الا بالله !


المصدر : صحيفة الصحافة

Post: #25
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-24-2007, 06:46 PM
Parent: #24

____________________________

حــمى الرواية
(مقاربة أولى للمشهد الروائي السوداني )

د.هاشم ميرغني


فجأة انتابت حمى الرواية الجميع : الشعراء الذين لم يكتبوا حرفا في النثر ،العشاق الذين انتظروا على أرصفة الصبر قرونا وهم يضبطون ساعات معاصمهم ، البحارة الأشداء الذين لم يروا سوى صورتهم في المياه ، موظفي الخدمة المدنية الذين أفنوا زهرة شبابهم ولم يتبق في أيديهم سوى حبر الحنين ، المهاجرين الممروضين بنوستالجيا العظام ، المطاليق ، طلاب الثانويات المداهمين برعب الحب الأول ……

لا بصيص رغبة في المبالغة، ولكن هذا هو الحال: الأصدقاء جميعا يكتبون الرواية .
أيضا لا وصاية على قلم أحد في خدشه الأعمى لبراءة البياض ، ولكن أي كتابة لا تضيف جديدا ، لاتنزاح عن السائد وما تمت كتابته آلاف المرات لا تلبث أن تؤول إلى هناك: قبو النسيان .

قبل عقود طويلة، قبل أكثر من سبعين عاما، في 22 أكتوبر 1934 كتب معاوية محمد نور ذلك الحاضر الغائب (1909ـ1941 ) مقاله العلامة " أصدقائي الشعراء هذا لا يجدي " ، وفيه تحدث عن الشعراء/الشعراء الذين يعود كل منهم من رحلته الشعرية " وحقيبة وعيه ملأى بالأحاسيس المختلفة ،ملأى بالثعابين التي تبرق كاللولؤ ، وبالسلام الذي تعقبه أشد فترات الحرب تمزيقا للأجسام والأرواح ،وبالذهول الذي يسمو إلى طبقات السماء ، وبالسحر الذي يرى " القمر في أمسية حب أشبه ببالون يلعب به الأطفال" ، ثم كانت مطالبته الحازمة للشاعر :" نطلب منه إذا لم يكن لديه ما يؤلم ويحير ، ويسعد ويشقي ،أن يريحنا ففي الحياة من التفاهات اليومية ما يجعلها عسيرة الاحتمال فليس بنا ثمة حاجة أن نقرأها في عالم الحبر والورق" .

ويبدو أننا بعد هذه العقود الطويلة مضطرون أن نذكر كتاب الرواية في السودان بهذه الأسطر المضيئة لمعاوية محمد نور ، فمنذ بداية التسعينيات انهمر سيل من الروايات السودانية عبر دور النشر التي انفتح بابها واسعا دون أي معايير نقدية.

لقد انجلت إشكالية النشر التي كانت قائمة حتى سنوات قليلة مضت عن إشكالية أخطر : عدم امتلاك دور النشر الحالية ـ التي قذفت في وجوهنا المتعبة بعشرات الكتب في غفلة من الزمن ـ لأهلية النشر ، أعني عدم امتلاكها لهيئات تحرير رصينة تجيز النصوص، وافتقارها لأي استراتيجية نشر واضحة المعالم ، أو لأي حساسية أدبية للنصوص المنشورة ، بل لأي مراجعة لهذه النصوص المنشورة ولو في جانب أخطائها اللغوية الساذجة المريعة ، فإذا أضفنا إلى ذلك خضوع بعض دور النشر لأيديولوجية الهلام الإنقاذي السلطوي التي تسعى إلى تمريرها عبر كل المنافذ وفتح باب النشر للمحاسيب، والمؤلفة قلوبهم، فيمكن أن نرى بوضوح ساطع صورة مشهد النشر السوداني ، و الدأب الذي يمكن أن يمارسه الجهل النشط في تمرير نصوص ضعيفة وترويجها ، بل ورفعها لصدارة المشهد ... وهكذا فإذا كنا نقول إن الأدب السوداني يتكون مما لم يتم نشره بعد ، فيمكن القول الآن ـ حتى بعد اتساع مجال النشر _ إنه لازال يتكون مما لم يتم نشره بعد ، لأن ما نشرـ في غالبه ـ لايرتقي عاليا للقناديل التي لاتشبه سوى بصمة دمنا ...

لماذا استباحة الرواية إذن ؟
لماذا الرواية تحديدا؟
لسهولتها الخادعة ؟ لأنها ترضي نزعتنا العميقة للمشافهة والتي تتسع لها الرواية باندياحها اللامحدود وتوهم افتقارها للتكثيف والاختزال ؟
للأثر الطاغي الذي مارسته في وعينا ولا وعينا شهرة الطيب صالح العريضة ؟
أم لأسباب دلالية : اتساعها لخيبة الأمل التي تغلفنا جميعا ، رسائل الحب التي لم تنشر، وارتباكات الحب التي صادرها الواقع ؟ .

ما المغري في الرواية إلى هذا الحد ؟
فرارا من القصة القصيرة التي تفضح كاتبها فورا فهي إما جيدة أو رديئة ؟سهولة تمريرها في ظل الهرجلة الثقافية التي تغلفنا منذ سنوات ؟ اتساعها لتهويمات الشعر المجانية ووهم السيولة والاندياح (العاطفي) وهي سمات أضحت شبه ملازمة للكتابة ؟ ندرة الإرث الروائي السوداني مما يغري بالتجريب في أرض شبه خالية ؟ سهولة دس السيرة الذاتية في ثنايا السرد بحيث يصعب الفصل بين الواقعي والتخييلي ؟.

لماذا استباحة الرواية تحديدا؟
لضعف الضمير النقدي غير القادر على ترصد الأخطاء والتشوهات؟ بسبب باب النشر الذي انفتح واسعا بلامعايير نقدية ؟بسبب الهلام الإعلامي القادر على رفع نصوص ضعيفة لذرى عالية لم يحلم بها أصحابها ، والسكوت عن نصوص مغايرة لم يستطع أن يدرجها في منظومته التقليدية ، أم هكذا ببساطة : لأن البعض أعجبه أن يكون كاتبا روائيا في هذا الوطن المحزون ؟.

هذه هي صورة المشهد :روايات تنشر ، وحوارات لا تنتهي مع أصحابها ، وأعمدة صحفية لا يجف حبرها ، ومقالات (نقدية! ) هنا، وهناك ، ثم ما يلبث الأمر أن يتكشف عن فقاعات تأخذ مجراها نحو مصب العابر الذي لا يثبت في ذاكرة أحد حتى صاحبه .

وفي غبار هذا المشهد يضيع الحديث الحصيف الدقيق عن إشكاليات الرواية السودانية .
تلك الإشكالات التي يمكن أن نجملها فيمايلي مستضيئين في بعض ذلك ببعض الإشارات المكثفة التي وردت في تقريري لجنة التحكيم لجائزة رفيعة للرواية هي (جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي) اللذين نشرا بصحيفة الأضواء في اكتوبر من العام الماضي2004 وقبل الماضي2003 مضيفين إليها العديد من الإشكاليات عبر متابعة متأنية وصبورة للمشهد الروائي :
• افتقار العديد من الروايات إلى نعمة التكثيف والاقتصاد اللغوي ، والإغراق في التفصيل والترهل السردي القادم عبر تراث ضخم من المشافهة لم نحسن استثماره في الكتابة ( مجمل أعمال أبكر آدم إسماعيل : الضفة الأخرى ، المدن المستحيلة ) .
• تأثر بعض الأعمال برواسب التيار الرومانسي الغارب بكل ميراثه الروائي في تضخيم ذات الراوي وتزييف العالم عبر تل من التنهدات ( قطرات قاسية لغادة ).

• تأتي العديد من الأعمال اجترارا لقراءات أكثر من كونها نتاجا لذات مبدعة وحساسة ، أي أن هذه الأعمال نتاج تأثر ظاهري غير متجذر بأعمال هبت علينا رياحها من هناك ، وتكفلت رغبة التقليد عبر لغة ـ لم تخل من نعمة الركاكة ـ بتسويد براءة البياض ، ترى هل يمكن توصيف حالهم هكذا : لقد قبضوا قبضة من أثر قراءاتهم المرتبكة في الرواية العالمية فأخرجوا للناس " عجلا جسدا له خوار " .. إذا استعرنا توصيفا للبروفسير عبدالله الطيب في سياق حديثه عن أخذ الشريف الرضي من أبي الطيب المتنبئ (انظر التماسة عزاء : 188 )

• الضعف الواضح في تمثل تقنيات السرد الروائي ، وعدم تشرب منجزاته التطبيقية والنظرية على الصعيدين المحلي والعالمي ، على المستوى النظري فيبدو وكأن الروائي يسبح بعيدا عن الإرث النقدي الضخم الذي شاده نقاد أمثال : تودوروف وكريستيفا ولوكاتش ولوسيان غولدمان وسعيد يقطين وصبري حافظ وعبد الملك مرتاض ورجاء نعمة ويمنى العيد وسيزا قاسم وعبد المحسن بدر،وعبدالله إبراهيم ومحمد عزام والسريحي ....إلخ إلخ ، ولذا تبدو الروايات السودانية وكأنها تبدأ من درجة الصفر محرومة من ثمار هذا الحقل السردي بكل عطاياه البهيجة .

• تهافت الدلالة الكلية لبعض الأعمال وغياب الرؤيا الكاملة التي يمكن أن تمنح العمل عالمه الكامل الموازي لعالم الواقع في غناه واتساعه .
• ضعف المغامرة التجريبية التي تنحو صوب التجريبي ، والمغاير ، والمختلف ، والاكتفاء بالنسج على نول الجاهز والمتداول .
• ضعف القدرة على استبطان الواقع ، وتعقيداته ، وكشف جبل الجليد العائم تحته ، واقتناص الجوهري ، والسرمدي ، والباطني ، والمستتر الثاوي عميقا هناك كلؤلؤة ، والاكتفاء بمضامين الواقع القريبة والمتداولة ، بمجاز عابر : لقد نقلوا لنا حجارة المنجم ، وترابه ، ونحاسه بدلا من النزول عميقا إلى هناك : عروق الذهب .


• إشكالية اللغة التي لا يعي أصحابها أن اللغة الفقيرة تنتج نصا فقيرا بالضرورة ، وأن اللغة المتعثرة بوحل أخطائها اللغوية والنحوية والإملائية تنتج نصا متعثرا بالضرورة ، إذ لا تنفصل اللغة عن الدلالة التي تحملها في قلبها .

لقد نفض اللغويون والنقاد والأدباء أيديهم من تقرير حقيقة ارتباط اللغة بالدلالة ، و برهن دي سوسير عبر بحث لغوي شاق أنه لا يمكن فصل الكلمة عن الدلالة إلا إذا استطعنا أن نفصل صفحتي الورقة عن بعضهما ، وأقر بول فاليري أن الأدب لا يمكن أن يكون إلا توسيعا لبعض خصائص اللغة واستعمالا لها ، وكتب جورج أورويل في روايته "1984 " أنه بقدر ما يقل رصيد الإنسان من مفردات اللغة يزداد عجزه عن التفكير ، أو عن التعبير عن الفكرة في ذهنه" .

ويقول د. محمد عبد المطلب في كتابه القيم " البلاغة والأسلوبية " إن كل تغير في تركيب الجملة إنما يرجع إلى المعنى ومتطلباته ، وأدنى تغيير في التركيب النحوي للجملة يؤدي إلى معان ثانية تتأتي من صيغة التركيب وطبيعته ، فموضوع النحو ليس قاصرا على دائرة الخطأ والصواب بل يمتد إلى دائرة النسق والتركيب ، وقد وجد عبد القاهر الجرجاني الإمكانات النحوية قائمة في تركيب الجملة وبنيتها الداخلية فقاده ذلك إلى فكرة قوية الصلة بالإمكانات النحوية وهي فكرة النظم ، ويخلص عبد المطلب إلى أن تركيب الصيغ والعبارات شديد الالتحام بعملية الإبداع فلو نظرنا للغرض أو المعنى دون النظر إلى العلاقات النحوية من حيث فعاليتها فإننا نبتعد عن الإدراك الحقيقي لعملية الإبداع ..…… فالنحو ليس عنصرا هامشيا أو جانبيا ركنيا في العملية الإبداعية بل هو لحمة هذه العملية وسداها في الشعر والنثر ، والنحو بإمكاناته الواسعة هو الذي يقدم للمبدع احتمالات الأوضاع الكلامية التي ترتبط بعضها ببعض في وحدة من المعاني والأفكار التي تتمثل في الذهن .

فلماذا يبدو الخطاب الروائي في السودان _ إذا استثنينا نماذجه المضيئة ـ لماذ يبدو وكأن الكاتب لا يمتلك غير تلك اللغة الفقيرة الشائعة في الاتصال اليومي، والمستهلكة على نطاق عريض عبر الصحافة ، والإذاعة ، ووسائط الإعلام المختلفة ، وما الذي يقذف به بعيدا عن كثافة اللغة وغناها الذي يمكن أن يحتضن العالم ؟ ولماذا تبدو اللغة عبر خطابنا الروائي السوداني وكأنها تعاني تعسرا حادا في ولادتها ؟ .

تدليلا على هذه الحالة المتمثلة في في عدم إدراك بعض كاتبي الرواية في السودان لـ" اللغة " التي هي ألف باء الكتابة ، وصلصال خلقها ، أهدي مثالين للتدليل على الضمير اللغوي والفني اليقظ الذي يتعامل به غيرنا مع الكتابة ، ودليلا ثالثا على الجهل اللغوي الفظ الكفيل بالإطاحة بكل البناء الروائي .

الدليل الأول سوف نقتطفه من غارثيا ماركيز .
في ختام روايته " الجنرال في متاهته " كتب ماركيز ما أسماه بكلمة شكر ، التي قدم فيها ما يمكن أن أسميه درسا ماكرا للروائيين المتعجلين الذين يسلقون الروايات سلقا ، فلكي يكتب ماركيز رواية ـ نكرر رواية _ "الجنرال في متاهته" في سيرة الجنرال سيمون ديبوليفار، ورحلته الأخيرة في نهر مجدلينا استعان بحشد من العلماء والأصدقاء .. لايكاد يحصرهم عد ..فمثلا: قام الجغرافي غلادستون أوليفار والفلكي خورخي بيريث دوفال من أكاديمية العلوم الكوبية بتقصي الليالي التي كان فيها القمر بدرا خلال السنوات الثلاثين الأولي من القرن قبل الماضي ، ليستعين ماركيز بكل ذلك في جملة أو جملتين تردان عرضا في الرواية ، أما أنطونيو بوليفار غويانيس فقد راجع الأصول معه في تصيد مليمتري للتأويلات المناقضة للواقع ، والتكرارات ، والأخطاء المطبعية ، وفي التحري الشرس للغة والإملاء حتى استنفاذ سبع صياغات للرواية .

الدليل الثاني نجده عند كاتب روائي مثابر مثابر هو علي الرفاعي الذي يكتب بمثل هذا الضمير اللغوي والفني اليقظ ، فقد انتهي من روايته " قبيلة من وراء خط الأفق " في 16/12/1986 ، واستمر في تنقيحها حتى فراغه من كتابتها بنفسه على الكمبيوتر 22/11/2003، ثم استمر في ضبطها بعلامات الإعراب حتى 14/3/2004.. أي أنه انتظر حوالي ثماني سنوات تقريبا ـ من التدقيق اليقظ ـ ليذهب بكتابه إلى المطبعة (انظر في ذلك ص: 184من الرواية ) .

هل من الضروري أن نستمر في سرد مثل هذه الأمثلة ؟ هل من الضروري مثلا أن نقول أن فوكنر قد كتب روايته " الصخب والعنف "خمس مرات ، أو نذكر بمقولة الروائي ترومان كابوت الذي كتب عن نفسه مرة أنه" من الممكن أن يسيطر على الكتاب ذوي الأسلوب المتميز أحساس سيء حول وضع الفاصلة ، أو أهمية الفاصلة المنقوطة .. إن الأفكار المتصلة من هذا النوع .. والوقت الذي أبدده في سبيلها يؤرقني فوق ما أحتمل " .

هل من الضروري أن نقلب العملة على وجها الآخر ، لنشهد مثالا صارخا على (كلفتة) الكتابة ،وفقرها ، وتعثرها اللغوي والنحوي ، فنقول أنه في صفحات قلائل من رواية ـ سأتناولها عشوائيا دون ترتيب مسبق من الرف ـ ، ولتكن مثلا "تخوم الرماد " لمنصور الصويم " نستطيع أن نرصد منذ صفحاتها الأولى هذه الأخطاء الساذجة القادمة من دفتر تلميذ في الثالث الابتدائي :
• " ضمور يوشي يالتلاشي " ص 5 ،و الصواب " ضمور يشي بالتلاشي " .
• فاجاءهم ذات صباح ص 2 والصواب فاجأهم ذات صباح .
• الرجال اليقظين نيام ص 4 والصواب الرجال اليقظون نيام .
• تركنا العربة ورائنا ص 6 والصواب تركنا العربة وراءنا
• شربت أطنان من المريسة والبغو 8 والصواب شربت أطنانا
• لأشتري له صنفا خاص من الشطة ص 11 والصواب صنفا خاصا .
• هؤلاء الرجال جميعهم خائفين ص 14 والصواب جميعهم خائفون .
• وهكذا ...

والإشكالية التي يواجها النقد الحديث مع مثل هذه الأخطاء في النص السابق أنه يتعامل مع النص باعتباره بنية لغوية مكتملة ، ومن ثم فإن أي إشارة لغوية واردة في النص يتم تناولها بجدية متناهية ، أي أن أي إشارة لغوية واردة في النص يجب أن تحتضن حمولتها المعرفية والانفعالية ، وأدنى تغيير في هذه الإشارات (صرفيا أو نحويا أو نسقيا) يوهم الناقد بتغيير طبيعة الدلالات التي تحملها، وما يمكن أن تقدمه في سياق الرؤيا الكلية للنص .. ولكن الناقد ما يلبث أن يكتشف أن هذه التغييرات النحوية ـ سنسميها الأخطاء الآن ـ هي تغييرات خاوية من الدلالة .

بداهة فإن مثل هذه الأخطاء الساذجة لاعلاقة لها بما اصطلح على تسميته بتفجير اللغة عن طريق علاقات التضاد والتناقض والتجاور والانحراف الأسلوبي واللغوي ، وخلخلة سكونها ، وانزياحها عن مستوياتها الصارمة ، لسبب بديهي فتفجير اللغة له علاقة وثيقة بالدلالات الجديدة التي يمكن أن يخلقها هذا الانزياح ، أي أن كل انزياح لغوي يتضمن بالضرورة توسيعا لأفق الرؤيا التي يمكن أن تحتجزها اللغة، فما الدلالات التي يمكن أن تكشف عنها مثل هذه الأخطاء على مستوى النص عند الصويم أو بركة أو أبكر آدم إسماعيل أومحمد هرون أو بثينة خضر ؟ .. ولماذ يستحيل تقريبا أن نجد مثل هذه الأخطاء في نصوص كتاب أمثال : أدونيس ، أو محمد بنيس ، أو الخراط ، أو الغيطاني ، أو سليم بركات ، أو الحسن البكري ، أو محفوظ ، ولماذا نفتقدها حتى في أكثر الكتابات العربية ـ وغير العربيةـ شطحا لغويا حيث مغامرات اللغة ، وجيشانها العضوي المضطرم لايكاد يقف عند حد؟.

هل يمكن توصيف إشكالات ذوات كاتبي الرواية السودانية على هذا النحو إذن : إنها مشكلة ذوات ساذجة ، بسيطة ، تحاول مجابهة هذا العالم الغني ، الموار ، الملتبس ، الغامض ، وهي غير مسلحة سوى بالقليل من الوعي ، الأقل من عتاد اللغة والحدس ، والكثير من عمى البصيرة ، ثم فيض من العاطفة المجانية التي لن تقوى قط على اقتناص شراسة العالم وكثافته ، دعك من اختراقه، وتغيير نواته.


الخطاب النقدي الروائي في السودان إذا استثنينا بعض نماذجه الناصعة لعب دورا متواطئا مع الرواية في بعض الأحيان عن طريق علاقات المجايلة ، أو الرفقة السيكولوجية أو الأيديولوجية ، أوغيرها ، وبمثل ما خدم هؤلاء النقاد هذه النصوص الضعيفة فإن هذه النصوص قد خدمتهم بتعزيز حضورهم في الساحة، بحيث يكاد يستحيل وقوفهم دون الاستناد لعكازة هذه النصوص .

و في ندوة عن إشكالات الرواية عقدت بمركز عبد الكريم ميرغني أواخر العام الماضي 2004 حذر الشاعر محجوب كبلو ، حذر الناقد السوداني من لعب دور الناقد الوطني الذي يقتصر دوره على تشجيع "الإنتاج الوطني " دون أن ينتبه لمزلق تشجيع أعمال ضعيفة، ورفعها ، وترويجها تحت تأثير هذا الدافع الوطني الذي لاعلاقة له بصرامة ونزاهة النقد ودوره التنويري والتحليلي والتقويمي.
ذلك الدافع "الوطني" الذي لايصمد طويلا أمام هشاشة النصوص ، فغالبا ما يكتشف القارئ الحصيف أن تلك الروايات التي أريق حولها حبر كثير لا تستطيع أن تصمد أمام أي ذائقة مدربة ، أو أمام أي حساسية جديدة ، ولاتقوى على إغوائنا للدخول لعالمها.وسرعان ما يكتشف بألم أن بعض هذه الأعمال يصعب وضعها باطمئنان في رفوف أي مكتبة عربية أو عالمية .

وقد أشار الناقد مصطفى الصاوي في سياق ورقته القيمة التي قدمها عن النقد الروائي في السودان في المؤتمر الثاني للرواية السودانية بمركز عبدالكريم ميرغني في أكتوبر 2004 إلى الإشكالات العديدة التي يعاني منها هذا النقد مثل : غياب الجهد الجماعي ، وضعف الصوت المنهجي ، وسيادة النقد الصحفي السريع ، وغياب المجلة النقدية المتخصصة على غرار مجلة مثل " فصول " في مصر، وقصور هذا النقد عن متابعة المشهد الروائي ، وغياب الحوار النقدي الخلاق في مناخ صحي ديمقراطي يسمح بازدهار شجر الأسئلة .

وما لم يشر إليه الصاوي ، هو ما يمكن أن أسميه بظاهرتي الكسل النقدي ،والتكريس النقدي فقد أدى الكسل النقدي في تناول الأعمال المميزة إلى ترديد أسماء بعينها حتى حافة الملل ، خذ مثلا روائيا مثل الطيب صالح الذي لايكاد يختلف أحد حول قامته السامقة في المشهد الروائي .. ماالذي حدث؟
لقد تم ترديد اسمه حتى الابتذال ، وصار مادة ثابتة للملاحق الثقافية ، وللمحررين الكسالى، وتم تكريس اسمه حتى الهوس بالصورة التي كادت تختزل كتابة أمة بأسرها في فرد ، وتم غض الطرف عن الإنجازات السردية الهامة لروائيين آخرين (إبراهيم بشير ، يوسف العطا ، محمد الحسن البكري أحمد حمد الملك ، علي الرفاعي، إبراهيم سلوم ، عبد الفتاح عبد السلام ، أمير تاج السر، حامد بدوي ، إلخ إلخ ) ، وتم اغلاق باب الاجتهاد الروائي ، وعمد (بضم العين وتشديد الميم المكسورة ) الطيب صالح سقفا للرواية السودانية لايمكن اختراقه إلى الأبد .

وتفاقمت ظاهرة الافتتان بالطيب صالح بصورة تنذر بالخطر ، فإذا كان البعض يتحدث عن ظاهرة مثل الـ EGYPTO MANIA أي ظاهرة الهوس بالمصريات القديمة ، فيمكن لنا أن نتحدث في الصحافة السودانية عن ظاهرة الـ TAYEB MANIA أي ظاهرة الهوس بالطيب صالح ، ذلك الهوس الذي يمكن أن يحجب نصوصه عن النقد النزيه والخلاق و الحوار الخصب حول رؤاه الغنية ، كما يحجب نصوص غيره عن مثل هذا النقد ، تصور مثلا لو أن النقد المصري اكتفى بالتسبيح بإنجازات نجيب محفوظ ليلا ونهارا ، هل كان لمصر أن تنجب كل ذلك الرتل من الروائيين : فتحي غانم ، جمال الغيطاني ، إدوار الخراط، إبراهيم أصلان ، صنع الله إبراهيم ، محمد البساطي خيري شلبي ، يوسف القعيد ، لطيفة الزيات ، سلوى بكر ، مجيد طوبيا ، سليمان فياض ، بهاء طاهر ...إلى آخر هذا العقد الذهبي والذين تجاوز أكثرهم الإنجاز المحفوظي ؟ .

لقد كتب غاستون باشلار في كتابه العلامة " جماليات المكان" عن استعارة الأدراج عند برجسون في حديثه عن الذاكرة ، حينما قرر أن الذاكرة لا تشبه الأدراج لكي نحفظ بها ذكرياتنا .. تلك الاستعارة التي رددها حتى الأعياء كل من تحدث عن الذاكرة عند برجسون ، يقول باشلار :" وقد أصبح بإمكاننا حين نصغي لبعض المحاضرات أن نتنبأ بأن استعارة الدرج على وشك الظهور" .. فهل يمكن قول شيء مثل هذا عن اسم الطيب صالح : أي إننا عندما نفتح أي ملحق ثقافي ، أو نقرأ حوارا أدبيا ... فإننا نستطيع أن نتنبأ أن اسم الطيب صالح أو صورته على وشك الظهور ... ألا يحق للطيب صالح أن يهتف حينها : أنقذونا من هذا الحب القاسي .. كما هتف محمود درويش من قبل عندما كان يتم ربط اسمه اعتسافيا مع كل حديث عن القضية الفلسطينية ، بينما تنزوي فتوحات نصوصه بعيدا .

أيضا يمكن للمتابع أن يلحظ بأسى أن كل هذا الهوس الإعلامي حول الطيب صالح لم يقربنا من عوالمه شبرا واحدا ، لم يضف لمعرفتنا به سطرا ، فقد ظل يردد حتى الإعياء المقولات الجاهزة التي لاكتها الأقلام منذ السبعينيات عن الصراع بين الشرق والغرب ، تلك المقولات التي تلتقط الإشارات الظاهرة للنص وتلصقها بالواقع دون أن تنتبه إلى أن هذه القراءة المتعجلة كفيلة بإفقار النص ، واختزال خصوبته وتحويله إلى خطاب مضموني مباشر من الدرجة الثانية كاختزال عالم "موسم الهجرة" بتلك المقولة الجاهزة عن الصراع بين الشرق والغرب .

إن هذه القراءة الجاهزة لموسم الهجرة تشبه مثلا أن نقول " رواية " ذهب مع الريح " لمرجريت ميتشل " تتحدث عن الحرب الأهلية الأمريكية ، أو أن رواية " البحر والسم" للروائي الياباني " شوساكوندو " تتحدث عن الضعف المهني الأخلاقي للأطباء ، لأن مقالا واحدا مدعما بالوثائق والإحصاءات والبراهين يمكن أن يفي بالغرض ، فالرواية " "لاتتحدث عن" "، إنما " تخلق عالما " كاملا مكثفا غنيا يمد (بضم الياء ) فيه جسر الحدس بين الباطني بعوالمه الحدسية المروعة ، وأفاعي فراديسه ، وطمي غرائزه البدائية ، وأحلامه المنتهكة بضراوة واقع قاس ، ورغباته المستترة بمطارق التابو ...، وبين الخارجي بكل جزيئاته التي تتفلت من البصيرة الكليلة ..كل ذلك معجون بفتنة السرد وحرائقه وشهد ثماره المضيئة ... وفي ركن صغير من هذا العالم نستطيع أن نرى الأطباء في" السم والبحيرة " وهم يشرحون الأسرى الأحياء ، منحدرين رويدا "لأقصى ما يمكن للمرء أن ينحدر إليه" .

لماذا استباحة الرواية إذن ؟ الرواية التي نعنيها هي تلك الرواية التي " تتحول إلى فخ هائل يرقص فيه الموت ، وتنوس الحياة ،حين تصير حلما للمخيلة فيه ينفجر الزمان والمكان ،وحيزا لأفكار أبعد ما تكون عن الفكر …..تبدأ كلعبة لامتلاك الزمن ، وتنتهي بمرآة يبحث فيها الخاسر عن جهة خامسة ، وزمن رابع " كما يقول الراوي في رواية" توقيت البنكا " لمحمد علي اليوسفي .

هل من الضروري سرد قائمة طويلة بتلك الروايات ليشهر أصدقاء جوبلز مسدساتهم الصدئة ؟
يظل قوس السؤال مفتوحا ..



المصدر : منبر سودان للجميع sudan-forall.or

Post: #26
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-24-2007, 06:52 PM
Parent: #25

___________________________


الموضوع : في نقد المشهد البنيوي
الكاتب : عبد المنعم عجب الفيا


سررت جدا بالمقال المطول الذي أدلى فيه أسامه الخواض بشهادته عن ملابسات نشوء الحركة البنيوية وما بعدها في السودان والأثر الذي أحدثته في الساحة الثقافية ومصدر سعادتي وسروري أن تأتي هذه الشهادة من أهم الأسماء التي مهدت لدخول هذه التيارات النقدية للحركة الثقافية السودانية ، رغم أن المقال قد كتب تحت إحساس طاغ بالخذلان والتهميش وأخذ الحديث فيه عن النسيان كلازمة من لوازم الذاكرة السودانية ، حيزا كبيرا إلا أن أهميته تأتي من أنه أول محاولة لتقييم الأثر الذي خلقته تيارات الحداثة في الساحة الثقافية في السودان ، سلبا كان هذا الأثر أم إيجابا .


وأول ما لفت نظري في مقال أسامه الخواض ، التغيير الذي طرأ على خطابه ، فقد كتب المقال بلغة مباشرة لا تختلف عن اللغة الإخبارية والتقريرية المتداولة . وهذا شئ لم نعهده في خطاب الحركة البنيوية وما بعدها حيث أتسم خطابها دائما بلغة المراوغة المتعالية التي تلفت النظر إلى ذاتها أكثر مما تلفت النظر إلى موضوعها ، كذلك لفت نظري حديثه عن قضايا إنسانية واجتماعية عامة مثل الوظيفة البنائية للكاتب في المجتمع ومسؤولية الدولة ودورها في تهيئة المناخ للكاتب والحديث عن الحقوق والواجبات وخذلان الأصدقاء ، وخياناتهم إلى غير ذلك من المواضيع فالحديث عن مثل هذه القضايا بهذا الوضوح من الأمور الممقوتة في عرف البنيويين وما بعدهم .


فالمعروف أن البنيوية تقوم أصلا على إحلال الأبنية اللاواعية مثل " النسق والنظام اللغوي والأسطوري واللاشعوري محل الوعي الفردي والجماعي في صناعة وتغيير التاريخ . لذلك فهي تعمل جاهدة لتنقية النشاط الأدبي والإبداعي عموما من تلوث المعنى الاجتماعي والسياسي . أما بعد البنيوية فتقوم على تدمير مبدأ الإحالة المرجعي ، سواء كان هذا المرجع التقاليد والأعراف اللغوية والاجتماعية أو المعارف الإنسانية المشتركة ، وبالتالي يصبح في هذا السياق الحديث عن أي دور للكاتب في المجتمع حديث بلا قيمة . ولكن أسامه لا يشير من قريب أو بعيد إلى هذا التحول الذي طرأ على خطابه من حيث الشكل والمضمون وذلك رغم ما ينطوي عليه هذا التحول من مغزى عميق ، وربما يرجع هذا التحول إلى تخصص أسامه في دراسة التحليل السسيولوجي للنصوص الأدبية ، ونحن من جانبنا نرد هذا التحول الذي طرأ على خطاب أسامه إلى التحولات التي طرأت على مجمل خطاب تيارات الحداثة الغربية . ففي الوقت الذي يدلي فيه أسامه الخواض بشهادته عن منجزات البنيوية وما بعدها ، تجهر فيه تيارات الحداثة الغربية البنيوية وما بعدها وتعود مرة أخرى


إلى نقطة البداية التي انطلقت منها البنيوية في الخمسينيات . فبعد كل الحديث المفرط في حماسه عن عزل النص الأدبي عن سياقه التاريخي والاجتماعي والتعامل معه بمثابة بنية مغلقة وبعد كل الحديث عن ( موت المؤلف ) و ( سحر الدال ) ومطاردة العلامات تعود هذه التيارات وترد الاعتبار مرة أخرى للسياق التاريخي والاجتماعي ويبدأ الحديث من جديد عن التحليل السسيولوجي للأدب وعن نظريات التلقي والقراءة والتأويل " الهيرمونطيقا " .


ولعله من المصادفات السعيدة أن يأتي تخصص أسامه الخواض في دراسة التحليل السسيولوجي للنصوص الأدبية متزامنا مع هذه التحولات ، ولكن مما يؤسف له أن أسامه ، لا يتعرض مطلقا للحديث عن هذه التحولات والنقلات التي تركت أثرها على خطابه هو نفسه وبدون التعرض لهذه التحولات ومناقشتها ، فإن المحاولة لتقييم تجربة البنيوية وما بعدها ستكون ناقصـة .


إن إغفال أسامه الإشارة إلى التحولات التي طرأت على الخطاب الحداثي ، تفسر بإحدى أمرين : فأما أنه غير واع بحقيقة هذه التحولات وهذا احتمال بعيد أو يفترض كذلك ، وأما أنه ينظر إلى هذه التحولات كأنما كلها تسير في خط مستقيم لتصب في خانة البنيوية وما بعدها . وهذا هو الاحتمال الأقرب ، بدليل أنه ختم شهادته بالحديث عن تطور المشهد البنيوي في المهجر بفضل توفر الكتب والمراجع :إن المنافي والمهاجر ساهمت في إضفاء حيوية فائقة على المشهد البنيوي وما بعده . فقد تم التغلب على كثير من العقبات والعراقيل التي كانت تحد من تطور وثراء ذلك المشهد .


إن ظاهرة انتقال كتاب الحداثة من خطاب إلى آخر دون التمهيد أو التنويه لهذا الانتقال ، ظاهرة لا تخصنا في السودان بل تشترك فيها كل تيارات الحداثة العربية فهم بعد أن بدأوا في الترويج للبنيوية في حماس يحسدونهم عليه أهلها ، انتقل خطابهم فجأة إلى ما بعد البنوية ( التفكيكية ) ثم ها هو خطابهم ينتقل مرة أخرى إلى السيسيولوجيا دون تمهيد أو إشارة إلى هذه الردة . وسبب ذلك في رأي أنهم ينظرون إلى هذه التيارات كأنها تكمل بعضها بعضا لتسير في خط مستقيم إلى غاية معينة ، بينما الواقع على العكس من ذلك تماما ، فتيارات الحداثة لا تسير في خط صاعد بحيث يمكن اعتبار كل تيار امتداد طبيعي للتيار السابق له ، لكنها متضاربة وتقوم أصلا على تناقضات بعضها البعض .



والدليل على أنصار الحداثة عندنا يتعاملون مع تيارات الحداثة على اعتبار أنها امتداد طبيعي لبعضها البعض دون الوعي بحقيقة التناقضات التي تنطوي عليها، شهادة أسامه الخواض في قوله ( قمنا في البداية بكتابة بيان إبداعي يوضح المقاربات النقدية الحديثة وكان ذا طابع بنيوي . وبعد فترة قصيرة تعرفنا علـى ما بعد البنوية فقمنا بتعديل البيان ) .


فهم ، أسامه وعبد اللطيف على الفكي ومحمد عبد الرحمن حسن ، تعرفوا أولا على البنوية فتبونها وقاموا بصياغة بيان تبشيري بها ، على طريقة الحركات الأدبية والفنية في أوربا ، وقبل أن يظهر البيان في الناس قاموا بتعديل محتوياته بعد أن نمى إلى علمهم فجأة أن هنالك منهج أو تيار جديد ظهر اسمه ما بعد البنيوية،على حد تعبير اسامة، ، دون أن يتعرفوا على حقيقة هذا التيار الجديد . فكل اهتمامهم كان محصورا في مجاراة هذه التيارات الحديثة وركوب أي موجة جديدة من موجات الحداثة بغض النظر عن اتجاه هذه الموجة أو تلك . وهذا ما يؤكده قول أسامه بطريقة غير مقصودة : أهم المنجزات التي حققتها تلك المقاربات في نظرنا ربط الحقل الثقافي السوداني بهذه التيارات"اذن لم يكن الهدف إقامة حوار مع هذه التيارات لاعادة توظيفها والإفادة منها لدفع مسيرة الحركة الثقافية . لقد كان عبد الله بولا محقا عندما قال أن هؤلاء الشباب يطبقون مناهج النقد ، البنيوي ولكنهم لا يحاورونها ولا يساهمون في نقدها وإعادة صياغتها .


ومن المفارقات التي تظهرها مجاراة البنيويون لتيارات الحداثة العالمية دون تمييز ، هي أنهم في الوقت الذي كانوا فيه يرفعون شعارات معاداة الإمبريالية والصهيونية العالمية ومناهضة التبعية السياسية والاقتصادية نجدهم في نفس الوقت بذات الحماس يهللون ويكبرون لتيارات الحداثة الأدبية دون الوعي الكافي بحقيقة هذه التيارات القائمة على التشكيك في النزعة العقلانية والروح العلمية التي أنتجت الحضارة الغربية والتي نحن أحوج ما نكون إليها .


ومما يعمق هذه المفارقة أن معظم إن لم يكن كل الذين انضموا تحت لواء الحركة البنيوية وما بعدها في السودان ، كانوا من التيار الماركسي . وهذا ما يؤكده حديث أسامه عن ( المزاج اليساري الذي يصبغ الحقل الثقافي السوداني ) والوضعية الطبقية لمنتجي تلك المقاربات ، والحقيقة إن الصبغة الماركسية لحركة الحداثة لا تميز الحقل الثقافي السوداني فحسب بل أن كل تيارات الحداثة في العالم العربي ذات صبغة ماركسية ، صحيح أن السبب في ذلك أن مبدعي هذه المذاهب في أوربا كانوا أصلا ماركسيين ولكن هذا وحده ليس كافيا لعدم اتخاذ اليسار الماركسي في البلدان العربية موقفا نقديا جدليا من هذه المذاهب . أن مسؤولية اليسار الماركسي عموما عن هذه التيارات الحداثويـة التـي كادت أن تنتهي بالحركـة الأدبيـة إلى نوع من العدمية والعبثية ، رغم الانجازات التى لا يمكن نكرانها، في حاجة إلى المزيد من المناقشة وتسليط الأضواء .


ومما يزيد المشهد البنيوي ما بعده بؤسا ، هو أننا لم نبدأ في التعريف على هذه المناهج في العالم العربي ، إلا في أوائل الثمانينات أي في الوقت الذي انحسرت فيه هذه التيارات تماما في البلدان التي شهدت مولدها . فالبنيوية لم تدم أكثر من عشر سنوات في فرنسا وتم تجاوزها عقب ثورة الطلاب عام 1968م وهجرها الناس هي الأخرى في فرنسا منذ أوائل السبعينات ثم انتقلت إلى أمريكا حيث خبأ بريقها مع نهاية السبعينات ، أقول هذا وأنا أنظر إلى تطور الفكر البشري نظرة جدلية أن الأفكار لا تموت نهائيا وإنما يحدث لها تمثل ولكن قصدت بذلك القول إن انحسار هذه التيارات الحداثوية في بلدانها كان حريا به أن يجعلنا نقف موقفا نديا يقوم على الأخذ والرد والمساءلة والنقد ولكنا بدلا عن ذلك وقفنا منها موقف الانبهار والتسليم المطلق بكل مقولاتها.


المصدر : فى نقد المشهد البنيوى-قراءة فى شهادة اسامة الخواض

Post: #27
Title: Re: نقد الانتلجنسيا السودانية
Author: هشام آدم
Date: 06-24-2007, 07:05 PM
Parent: #26

____________________________

متى يتم التوثيق النقدي لهؤلاء

- شاهين محمد شاهين
- جلال داؤد (أبو جهينة)
- أسماء الجنيد
- خالد عويس
- فضيلي جماع
- عثمان محمد صالح
- لنا مهدي
- رقية وراق
- تيسير عووضه
- غادة عبد العزيز خالد
- صفاء فقيري
- سالي أحمد
- عماد عبد الله
- عبد المنعم سيد أحمد محمد الحسن
- علياء عوض الكريم
- صالحة الكارب
- د. شذا بلّة (إيزابيلا)