جــــــــدران بيتنا

جــــــــدران بيتنا


06-16-2009, 11:08 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=17&msg=1252113285&rn=0


Post: #1
Title: جــــــــدران بيتنا
Author: ودقاسم
Date: 06-16-2009, 11:08 AM

لا أدري كيف تكونت لدي تلك القناعة ، وأصبحت راسخة لا يزحزحها زمن ولا يهزها حراك الأرض والسماء من حولي ومن فوقي لأكثر من خمسين عاما .. بل الأيام تثبت لي صدق قناعتي وتبقيني على يقين من أن أجدادي ، وجداتي ، وأبي وأمي إن لم يكونوا أنبياء فهم حكماء .. جدي الرابع هو من وضع حجر الأساس لبيتنا . أنا لم أره ، لكن قالوا أن والدي شديد الشبه به ، وقيل أنني أنا ، أقرب اخوتي للشبه بوالدي .. فكنت دائما أتخيله ، رجلا فارع الطول ، قمحي اللون ، بادية على وجهه آثار الشمس الحارقة وسموم الصيف في إقليم السافنا .. رسمت له صورة وهو يركب جمله الأصهب ، يتقدم قطيع أبقاره تارة ويأتيها من خلفها تارة أخرى ، يحدثها فتفهم ما يقول ، يأمرها فتأتمر ، تتوقف ، تدلف يمينا أو يسارا ، أو تسير في خط مستقيم .. ذلك الحجر الذي وضعه جدي في تلك البقعة _ وظللت أنا أطلق عليه اسم حجر الأساس _ حدد به ذات الموضع الذي نصب فيه خيمته ، حفر جدي حفرة ارتفاعها نصف متر ، وأعانه أبناؤه ، وأنزلوا فيها ذاك الجحر ، وكرروا هذا الأمر في اربعة أركان ، ثم نصبوا خيمتهم عند المنتصف ، حيث ركز جدي عكازته ، ومن موقعه ذاك وزّع المساحة على مختلف احتياجاته ، وجعل الجزء الغربي وعلى مسافة من طرف الخيمة موضعا باتت فيه أبقاره وأغنامه وأبله في الليلة الأولى ، ثم أصبح هذا المكان بعد طول سنين يعرف بزريبة المواشي . وقال لأولاده إنه إن عاش للعام القادم فسينشيء خلوة للضيوف ، يؤمها الغاشي والماشي .. ثم بات ليلته تلك داخل الخيمة مع جدتي الرابعة ، ليضع في رحمها جدي الثالث الذي لم يتشرف بحضور وضع حجر الأساس مع والده واخوته الكبار ..

Post: #2
Title: Re: جــــــــدران بيتنا
Author: ودقاسم
Date: 06-16-2009, 12:05 PM
Parent: #1

وجدتي الرابعة هذه كانت حكاية هي الأخرى ، فقد أنجبت من البنين عشرة ، ومن البنات سبعا ، وعاشت مايقارب المائة وخمس وثلاثين عاما .. وكانت تقوم بأعمال الرجال وأكثر ، كانت تجلب الماء ، وتجلب الحطب ، وترعى مواشيها ، وتركب ناقتها تتجول بها بين الوديان والفرقان ، وكانت تحلب بنفسها ، وتحضّر الروب والسمن وتطبخ على قدور صنعتها هي بيدها .. قيل انها كانت تعمل في كل وقت ، وتحت كل ظرف دون شكوى .. كانت تقوم بعملها وهي حبلى ، ومرضع ، وكانت تربط طفلها خلف ظهرها وتستمر في عملها دون توقف إلا لإرضاع الطفل .. حين كانت أمي تحدثني عنها أسميتها المرأة القاطرة ..
لم تمر فترة طويلة ، لكن بعد جهد وصبر كبيرين كانت هناك بئر عذبُ ماؤها في الركن الشمالي الشرقي ، ما لبث أن تدفق منها الماء واجتمعت حولها الطيور ونبت نبات السعدة على جوانبها ، وحفرت الكلاب حفرة ظلت تنام فيها نهارا ، ثم تتجه لحراسة الماشية ليلا .. وتماما كما حدث بذاك الوادي المجدب من جزيرة العرب ، توافد الناس إلى هنا ، ونصبوا خيامهم ، في مساحات متباعدة كأنهم يتحسّبون لمستقبل بعيد .. كان جدي يوزع عليهم أماكن سكناهم وكأنه قد ملك هذه الأرض منذ وجدت الخليقة ..

Post: #3
Title: Re: جــــــــدران بيتنا
Author: ودقاسم
Date: 06-17-2009, 10:07 AM
Parent: #2

وبعد أقل من عام كانت خلوة جدي الرابع أول خلوة تقام في تلك البقعة ، وكان المرتحلون والمسافرون يأوون إليها ، فيطعمون ويشربون وينامون وتوفر لهم الأباريق المملوءة بالماء والبروش فيؤدون صلواتهم ، ويغتسلون ويغسل بعضهم ملابسه ، وفي حفظ الله ورعايته تنام مواشيهم ودوابهم ، ويقدم لكل منها الأكل الذي يناسبه ، قصب ، فتريتة ، أمباز ، تبن .. وقد ظلت هذه الخلوة عبر السنين ملاذا لكل المسافرين على الدروب التي تقود الناس في مرورهم عبر قريتنا ، والآن يطلق عليها الديوان ، ويخيل إلي حين أزور أهلي أن هذا الجزء من بيتنا مملوك لدولة وليس لأسرة . فهو دائما عامر بالضيوف ، وعامر بما ظل يقدمه أهل الدار لضيوفهم ، يقومون به كواجب يؤدونه وكأنه التزام أبدي فرض عليهم من فوق سبع سموات ..

Post: #4
Title: Re: جــــــــدران بيتنا
Author: Suad I. Ahmed
Date: 06-17-2009, 02:00 PM
Parent: #3

شكرا على امتاعنا.. لك اسلوب سلس وموهبة امتعتني بحكاية سرت كالماء السلبيل في هذا الزمن الفميء الذي يتجبر فينا كوارث يتوهمون انهم خلفوا للسلطة والثراء عن طريق افقار الجميع ةارهابهم حتى يضيع ما فعله اجدادك من حياة من اجل اسرتهم واجل الصيف الغريب ايضا
واصل الحكوة ربما جعلتنا نستعيد التوازن ونشد الحيل ونلقي بجكامنا الكذوبين بعيدا عن سدة الحكم ونستمتع بالأدب والفن بعد ذلك
سعاد إبراهيم أحمد
الكثيبة في الخرطوم 17 يونيو 2009

Post: #5
Title: Re: جــــــــدران بيتنا
Author: ودقاسم
Date: 06-18-2009, 07:37 AM
Parent: #4

شكرا لك أستاذة سعاد ، شكرا لك أيتها القامة السامقة ... وأهديك هذا الجزء ...


جدي الرابع وزوجته لم يفترقا أبدا ، كانا متناغمين كأنهما توأمان خرجا من بطن واحدة . يعملان في حقل واحد ، يرعيان نفس القطيع ، اهتماماتهما مشتركة ، وأفعالهما متشابهة ، أفكارهما في تربية الأبناء متطابقة تماما ، يكملان بعضهما في نسق لا يصيبه الخلل ، وكل منهما يمكن أن يقوم مقام الآخر . الفرق الوحيد أن جدي عمّر أكثر ، فقد رحل عن الدنيا في عمر يناهز المائة والستين . لكن كلاهما مات واقفا ، لم يصبهما الهزال ولا الضعف ولم يهز جسديهما مرض ، وكان كل منهما يعمل حتى آخر ساعة في حياته ، ويرحل عن الدنيا وكأنه يلوح للناس بيده مودعا في سفر لا يلبث أن يعود منه .
يقول الناس أن جدي وجدتي دفنا في مكان واحد ، هناك في الطرف الجنوبي من البقعة ، منطلق النسمات الخريفية التي تهب على البقعة وأهلها ، تحمل إليهم رائحة المطر ، وتبشرهم بالخير ، حيث تقابلك قبة قصيرة ، لكنها متسعة ، يتم تجديد طلائها كل فترة باللون الأبيض دون أن يعلم أحد من يقوم بهذا الطلاء ومتى يتم ، وقد نبتت أمامها شجرة هجليج ضخمة تستجيب لنسمات الجنوب فتتمايل أغصانها الغضة يمينا وشمالا ، فيتساقط ثمرها غذاء ودواء . هناك واروا جدتي أولا ، وتبعها جدي بعد عدة أعوام بعد أن شيّد بنفسه هذه القبة التي ظلت رمزا حتى يومنا هذا ، وقد ترك وصية لأولاده أن يجعلوا جثمانه إلى جوار جثمان أمهم تحت القبة كأقرب ما يكون القرب ..