الأستاذ كمال الجزولي في الرزنامة... هل نحتاج إلى كلِّ هذه الحروب، والحرائق؟

الأستاذ كمال الجزولي في الرزنامة... هل نحتاج إلى كلِّ هذه الحروب، والحرائق؟


06-25-2008, 09:41 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=160&msg=1214426510&rn=1


Post: #1
Title: الأستاذ كمال الجزولي في الرزنامة... هل نحتاج إلى كلِّ هذه الحروب، والحرائق؟
Author: Elawad
Date: 06-25-2008, 09:41 PM
Parent: #0

Quote: رزنامة الأسبوع

نَزِيهْ جِدَّاً!

كمال الجزولي
[email protected]

الإثنين

* لكي نبرم اتفاقيات نلتزم بتنفيذها لحلِّ نزاعاتنا سلمياً؛

* ولكي نطلق عمليَّة سياسيَّة وإنسانيَّة شاملة تتوسَّل للمصالحة الوطنيَّة بآليات (العدالة الانتقاليَّة) المعتمدة دولياً، والقائمة، أساساً، في الكشف عن حقيقة (ما جرى!)، ومن ثمَّ إبراء الجراح بإعادة تأهيل الضحايا، وبالتعويضات الفرديَّة والجماعيَّة، حسب المعايير الدوليَّة؛

* ولكي نطبِّق نظاماً جمهورياً برلمانياً ديموقراطياً فيدرالياً بأربعة مستويات (إتحادي ـ إقليمي ـ ولائي ـ محلي وريفي)؛

* ولكي نعيد تقسيم الدولة، إدارياً، إلى أقاليم، حسب رغبة المواطنين، ويكون لكلِّ إقليم دستوره، وحكومته، ومجلسه التشريعي، بما في ذلك الإقليم الجنوبي وفق (اتفاقيَّة السلام)؛

* ولكي نحتفظ لكلِّ إقليم بالحقَّ في إنشاء أيَّ عدد من الولايات، حسبما يرى مجلسه التشريعي مناسباً، ويكون لكلِّ ولاية دستورها، وحكومتها، ومجلسها التشريعي، بما في ذلك الولايات الجنوبيَّة الحاليَّة؛

* ولكي نجعل للدولة دستوراً اتحادياً، وحكومة اتحاديَّة، ومجلساً تشريعياً اتحادياً ينتخب رئيس الوزراء الاتحادي المكلف بتشكيل الحكومة الاتحاديَّة حسب نتيجة الانتخابات الاتحاديَّة؛

* ولكي ننشئ مجلساً لرأس الدولة من ممثلي الأقاليم المختلفة الذين تنتخبهم برلماناتهم، ويتولى هذا المجلس أعمال السيادة، وتكون رئاسته دوريَّة؛

* ولكي نعيد تأسيس مجالس الحكم المحلي (بلديَّة ـ ريفيَّة)، كقاعدة للحكم الديموقراطي، بالانتخاب الحر المباشر؛

* ولكي نجعل للمجلس المحلي سلطة الاشراف علي قوات الشرطة، وحرس الصيد، والمطافي، وكافة مرافق الخدمات التعليميَّة والصحيَّة .. الخ؛

* ولكي تكون عضوية المجلسين المحلي والريفي طوعيَّة بلا مرتب أو مكافأة؛

* ولكي يكون للناخبين الحق في سحب الثقة عن نائبهم في البرلمان الاتحادي، أو الاقليمي، أو الولائي، أو المجلس المحلي أو الريفي؛

* ولكي نلزم النائب، إذا أراد الانتقال، في أيٍّ من هذه المستويات، من حزب إلي آخر، أن يستقيل أولاً، ثم يعيد ترشيح نفسه باسم وبرنامج الحزب الذي انتقل إليه؛

لكي نفعل هذا، هل نحتاج إلى كلِّ هذه الحروب، والحرائق، والدمار الشامل، وفتح أبواب بلادنا على مصاريعها أمام التدخلات الأجنبيَّة، ولو من أقرب الأقربين، وتعريض وحدتها وسلامة أراضيها لكلِّ هذه المخاطر؟!



الثلاثاء

إتصل بي الكثيرون، من أهل الفاشر بالأخص، يبدون إعجابهم بما خط يراع صديقي الشاعر العذب عالم عباس، الشغوف بالأمكنة، والذي تشرَّفت الرزنامة باستضافته قبل أسبوعين، حيث حافظ، بأسلوبه الشائق، على (قوسقزحيَّة) الرزنامة، رغم أن كتابته تلك انحصرت، فحسب، داخل حدود مدينته العريقة التي كانت يوماً عاصمة لـ (سلطنة الفور).

واستطراداً، وبحسب تقرير ممتع زوَّدني به عالم نفسه، من إعداد آدم عيسى إسحق، بعنوان: (فاشر السلطان تتحدى الأزمان)، فإن المدينة كانت، في بدايتها، مقسَّمة أرباعاً، كلُّ رُبع يمثل حيَّاً، ولمَّا توسعت، على أيام الادارة الاستعماريَّة، أضيفت إليها أربعة أخرى غلب عليها، أيضاً، الإسم الشائع: الرُّبع، فصارت (أرباعُ) الفاشر، للمفارقة اللغويَّة، ثمانية!

وكان يوم الثلاثاء الأول من كل شهر يسمى (يوم المرور العام). وبما أن الأرباع ثمانية، فقد يخصص الثلاثاء الأول للرُّبع الأول والثاني، والثلاثاء الذي يليه للثالث والرابع، وهكذا. ويقصد (بالمرور العام) طواف مدير المديريَّة البريطاني ومساعدوه بأحياء الفاشر، ممتطين صهوات خيولهم، وأمامهم العلمان الإنجليزي والمصري، إظهاراً لهيبة الدولة وسلطانها، وذلك للتأكد من استتباب النظام العام، كنظافة الشوارع، وانعدم المباني العشوائيَّة، والجزارات غير المرخصة، وما إليها.

ويسبق يوم المرور تنبيه عام، حيث يطوف أحد معاوني شيخ الرُّبع بعد صلاة العشاء، ينفخ في صفارته، ويصيح مردِّداً:

ـ "أسمعوا التنبيه، مرة أو راجل، الحاضر يكلم الغايب، والصاحي يكلم النايم، باكر يوم المرور والتفتيش، عاوزين نضافة جوة وبرة، وكل زول مسئول من بيتو، شارع بيتو، أطراف بيتو، ما عاوزين وساخة، لا جدادة ميتة، لا كديسة ميتة، لا كلب ميت. المقصِّر يدقوهو بقروشو (أي يُغَرَّم مالياً)، والمفلس السجن قاعد والمدماك راقد"!

وفي تمام السابعة من صباح يوم التالي يبصر الناس تشكيلة المرور، يتقدَّمها شيخ الرُّبع المعيَّن ليقود خط سيرها، وخلفه بوليسان يحملان العلمين البريطاني والمصري، ثم مدير المديريَّة، وخلفه الحرس المكون من ثلاثة رجال بوليس بكامل سلاحهم، وخلف هؤلاء مفتش المركز، وعن يمينه مأمور المركز، وعن يساره قومندان البوليس، وخلفهم ضابط الصحَّة، فالعمدة، فمشايخ الأرباع.

وما أن يشاهد المدير ما لا يعجبه حتى يوقف الرَّكب، ويصدر توجيهاته لمفتش المركز أو المسئول المباشر. ومن أكثر ما كان يزعجه مرأى المتسكعين يلعبون (الضالة) أو (السيجة) على جنبات الطرقات، أو يسبحون في (الفولة)، وكذلك مرأى راكب علي حيوان يعرج، أو شخص يقسو علي حيوان بتحميله حملاً ثقيلاً! وكثيراً ما يتوقف أمام مجموعة من البيوت ليستوثق من ضابط الصحة عن تفتيش أزيار الماء بواسطة العمال المختصين، أو يتوقف عند شاطئ الوادي ليتحقق من سكب زيت الناموس في البرك المتقطعة.

كانت مكافآت مشايخ الأرباع إسميَّة. ولذا كان يُسمح لهم بتحصيل غرامات على المخالفات الصغيرة لا تتجاوز عشرة قروش، ولهم حقُّ التصرف فيها! غير أن كلمتهم كانت مسموعة لدى سلطات المديريَّة، وكانوا يختصُّون بتحصيل العوائد، وفضِّ المنازعات الداخليَّة، ومراعاة نظافة الأحياء، والتأكد من عدم بناء المنازل العشوائيَّة، أو المباني الطينيَّة بدون تصريح خاص. ويرفع الشيخ أيَّة مخالفة إلى السلطات التي يجوز لها إزالة المبانى دون تعويض، علاوة على العقوبة الجنائيَّة. وإلى ذلك يقوم بإعلان المطلوبين أمام المحاكم، والقبض والتحفظ على المتهمين لحين تسليمهم للسلطات.

http://sudaneseonline.com/sudanile25.html

Post: #2
Title: Re: الأستاذ كمال الجزولي في الرزنامة... هل نحتاج إلى كلِّ هذه الحروب، والحرائق؟
Author: بكري الصايغ
Date: 06-25-2008, 11:29 PM

فــوق،
فـــوق،
فـــــــوق ....
لـمزيـد من الثقافـة والآداب... والأسـتمـتاع بـفخامة وعـظـمة اللغـة العربية ...ونـضـج التعابيـر الـموجـودة فقـط عنـد قلة من الناس.

Post: #3
Title: Re: الأستاذ كمال الجزولي في الرزنامة... هل نحتاج إلى كلِّ هذه الحروب، والحرائق؟
Author: Elawad
Date: 06-26-2008, 04:01 AM

الأخ العزيز بكري
شكرا على المرور

Quote: الأربعاء

لا بأس أن (يدعو) نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم، علي عثمان محمد طه، لدى مخاطبته الجلسة الختاميَّة للمؤتمر العام الثاني لحزبه بولاية الخرطوم، إلى "استئصال الحقد الطبقي!" من السودان (الأحداث، 14/6/08). لا بأس أن (ينادي) بذلك، ومن أعلى المنابر، أحد أبرز أئمَّة الاسلام السياسي في بلادنا، ولو قبل أسبوعين فقط من احتفالهم بـ (العيد) التاسع عشر لانقلاب الثلاثين من يونيو 1989م الذي سحقوا به تجربة الديموقراطيَّة الثالثة، فبدَّدوا، ضمن ما بدَّدوا، آمال ملايين البسطاء في السلام والتنمية، وفتحوا، من بين ما فتحوا، سماوات اقتصادنا على آخرها أمام جراد الطفيليَّة الذي لا حدَّ لشراهته .. في السوق، كما وفي الخدمة المدنيَّة، وغيرهما!

نعم لا بأس، إذ لا بُدَّ قد اتفق لسيادته أن يمعن النظر، ربَّما بالمصادفة، وربَّما خلال أحد طوافاته الحزبيَّة، مؤخراً، ببعض الأقاليم، في وجوه غير التي اعتاد ألا يرى سواها على مدار الساعة، في قاعات القصر، في ردهات الحزب، في أبهاء مؤسَّسات الحكم، في ملتقيات علية القوم، وسط مخمل من لم يعودوا يعرفون من الفقر إلا إسمه، ولا يتصوَّرون للفاقة أو الكَبَد أيَّ معنىً محدَّد، فهاله مرأى الوجوه الشاحبة، والعيون الغائرة، والجباه التي جعَّدها الأسى، والأخاديد التي عمَّقها الغضب، والشفاه المطبقة في غلظة، والأسنان المصطكَّة في قسوة، فانتبه لكون "الحقد الطبقي" قد استشرى في السودان إلى هذا الحد!

إحسان الظنِّ بهذه (الانتباهة) السديدة يستوجب، بطبيعة الحال، دعم السيِّد نائب رئيس المؤتمر الوطني باتجاهها، وإعانته على بلوغ أقصى مراميها المفترضة. وأوَّل ذلك مناصحته بصدق وإخلاص، من خلال مشاركته في الانشغال بهذا الأمر المعقد، غير الميسور، حيث أن هذا "الحقد"، في حقيقته، ضرب من المشاعر والأمزجة الجمعيَّة التي تنشأ، وتنمو، وتتشكل، في العادة، على مدى زمني طويل نسبياً، لتنتمي، في النهاية، إلى مكوِّنات (البنية الفوقيَّة superstructure)، فلا يمكن استئصاله، أو كشطه، أو شطبه بمحض التعليمات، أو التوجيهات، أو حتى المواعظ .. وليته كان كذلك!

أما الذهاب بهذه المناصحة الواجبة، كما افترضنا، إلى أقصى غاياتها، فيستوجب، بادئ ذي بدء، تقريراً مستقيماً بأن ثمَّة طريقاً واحداً لهذا "الاستئصال"، يبدأ بإدارة الظهر، نهائياً، لـ (اقتصاد السوق) الذي جعل من بلادنا محض (مقطورة!) ملحقة بـ (قاطرة!) استراتيجيات الرأسماليَّة العالميَّة، حيث لا مخرج لنا، بدون إدارة الظهر هذه، من الارتكاس في مآل (مصدر الخام وسوق التوزيع) هذا الذي عمد إلى تقسيمنا، في النهاية، هذه القسمة الضيزى إلى قلة تملك وأغلبيَّة لا تملك haves & have nots، وقضى بأن يستشري "الحقد الطبقي" في علاقاتنا الاجتماعيَّة كما لم يستشر من قبل!

هذا الطريق يقودنا، إذا ما غززنا السير فيه، إلى التوجُّه، بكليَّاتنا، نحو إكساب بنية بلادنا الاقتصاديَّة تكاملها المرغوب فيه، وتناسق عناصرها في إطار سوق وطنيَّة موحَّدة، بما يفي، من جهة، بالشروط الضروريَّة لاستقلالنا الاقتصادي، ولإقامة علاقاتنا الاقتصاديَّة الخارجيَّة علي صراط من النديَّة والتكافؤ، وبما يحقق، من الجهة الأخرى، أهداف التنمية الديمقراطيَّة التي من شأنها إحداث أعمق التحوُّلات الهيكليَّة في اقتصادنا الوطني، وتزويده بقوة الدفع الذاتيَّة التي يحتاجها، من خلال توسيع وتنويع قاعدته، وتعميق تقسيم العمل الاجتماعي داخله، وتوطين استخدام التكنولوجيا الحديثة كأهمِّ روافع إنتاجيَّته، وأبرز عناصر الاستغلال الفعال لموارده، وإلى ذلك جعل القطاعات المستندة إلى هذه التكنولوجيا الحديثة، والمولدة لحوافز إنتاجها، بمثابة القطاعات الأقوى ثقلاً فيه، والأكثر تحديداً لوجهة تطوره.

على أنه من المستحيل إنجاز شئ مِمَّا تقدَّم بدون الاسترداد الكامل لكلِّ ما جرت خصخصته من مداميك قطاع الدولة الذي تمَّ تفكيكه، للأسف، خلال العقدين الماضيين، وتحويل ملكيَّته لرأس المال الخاص المحلي والأجنبي، كشرط أوليٍّ للمضيُّ قدماً باتجاه التوسيع المستمر لقاعدة الملكية العامَّة والتعاونيَّة لوسائل الانتاج؛ واستعادة الدولة لدورها في الانتاج والتوزيع المباشر للسلع والخدمات؛ مع تحديد نسبة عادلة بين الحدَّين الأعلى والادني للمرتبات والأجور؛ وسنِّ أكثر القوانين صرامة لمحاربة الفساد؛ وإلزام الموظفين العموميين، وبالأخص شاغلي المناصب الدستوريَّة والعليا، بالامتناع عن استغلال امتيازاتهم في إبرام أيَّة شراكات، سواء كانت خفيَّة أو علنيَّة، في السوق المحليَّة أو العالميَّة؛ وتشجيع إسهام القطاع الخاص في تنفيذ مشاريع مخططة بجديَّة لأجل التنمية المتوازنة القائمة على توفير الفرص العادلة، ليس، فقط، بين كلِّ أقاليم البلاد، بل وبين المواطنين كافة، باعتماد مبدأ التكامل، وقوميَّة الموارد، وإزالة التفاوت، والاستناد، أساساً، إلى التمويل الداخلي، وبالأخص إلى عائدات النفط الذي ما تنفكُّ توسعه تحالفات (الطفيليَّة)، الآن، حلباً، وهو، من قبل ومن بعد، (ثروة ناضبة!)، كيما يصبح، بدلاً من ذلك، مصدراً أساسياً لازدهار وتطوير القطاع التقليدي، بشقيه الزراعي والرَّعوي، وقطاع الصناعة، بما في ذلك صناعة خدمات الصحَّة، والتعليم، والإسكان، وما إلى ذلك، دونما استبعاد لـ (التمويل الخارجي)، حيثما كان مبرَّأ من الشروط المجحفة.

خطة كهذي من شأنها أن ترسي الأساس المتين المطلوب لإنجاز التنمية، وتوفير الفوائض اللازمة لها، ليس بآليات التخلف التي حرفت الدولة عن دور (الرعاية)، وحوَّلتها، كما هو الحال الآن، إلى محض دولة (ريعيَّة) منكفئة، فحسب، على (التحصيل) و(الجباية)، بل من خلال علاقات الإنتاج العادلة، وخفض الانفاق الحربي، وإتاحة أوسع الفرص لمبادرات الجماهير، وإلهاب حماسها للتضحية، وزيادة التراكم، واتخاذ القرار السياسي والاقتصادي، والمشاركة الديموقراطيَّة في تفجير الفوائض، ثمَّ تنفيذ ومراقبة استثمارها في تحقيق المستوى اللائق من المعيشة والخدمات الاجتماعيَّة المجانيَّة لكلِّ فرد، بما يفضي إلى تخليص حلم (السلام) و(التحوُّل الديمقراطي) من علل الشكلانيَّة الاجرائيَّة المقيتة، ومنحهما محتواهما الاجتماعي الحقيقي، بدلاً من استيلاء ضواري النشاط الطفيلي على هذه الفوائض، كما يحدث الآن، حيث يجري تسريبها إلى خارج البلاد، أو تبديدها على الاستهلاك التفاخري، أو الصرف الحكومي البذخي، أو الإنفاق بسخاء غير محدود على أجهزة القمع والإدارة، حتى أضحت ميزانياتها تقضم، الآن، ما يناهز ثلاثة أرباع الميزانيَّة العامَّة!

ثمَّة أمر واحد، فقط، يحتاج الأستاذ علي عثمان لأن يتحقق منه، أوَّلاً، قبل أن يطرح "استئصال الحقد الطبقي" كخطة قابلة للتنفيذ، وإلا اعتبر هذا الطرح محض (كلام) لا طائل من ورائه! ذلكم هو مدى ثقته في استعداد حزبه، ونخبته الحاكمة، والقوى الاجتماعيَّة الداعمة لنظامه، والمستفيدة منه، للقبول، أصلاً، بمثل هذه الخطة الراديكاليَّة بطبيعتها!



الخميس

قريباً من مزاج العصر الذهبي للمسرح، بعيداً عن غالب (العَكْ!) السائد منذ سنوات، أسعدتني مشاهدة (رئيس نزيه جدا)، التي كتب نصَّها الأستاذ أشرف بشير، وأخرجها، على خشبة المسرح القومى بأمدرمان، الأستاذ أبو بكر الشيخ، وقام ببطولتها، بأداء مُبهر، عدد من الممثلين الشباب، كمحمد عبد الله موسى واحمد المصطفى سنبل وعبد الله عبد السلام ورفعت السر وعبد السلام جلود وقدير ميرغني وآخرين، كتفا إلى كتف، وبثقة لا تحد، مع فنانين كبار من ذوى الخبرة والدربة، كالأستاذين محمد شريف على والرشيد أحمد عيسى.

المسرحية تنتمي إلى (الكوميديا السياسيَّة)، ومضمونها يتمحور، بذكاء شديد، حول (رئيس دولة) افتقد (راحة الضمير!) وسط هيلمان البروتوكولات المغالية حدَّ اللزوجة، فراح يلتمسها لدى أبناء شعبه من المشرَّدين والسكارى في قاع المدينة، بعد أن عَمَد إلى الاختفاء، بغتة، عن أعين الجيوش الجرَّارة من مساعديه ومستشاريه وحرَّاسه المنافقين الذين ما ينفكون يحاصرونه في كلِّ مكان، تعجُّ بهم أقبية قصور الدولة ودواوينها، يستحلبونها مصالحهم الخاصَّة، بينما بعضهم لا يعرف لنفسه وصفاً وظيفياً محدَّداً، بل لا يعرف، أصلاً، حتى اسم (الرئيس) نفسه! وقد نجح الكوميديان الممتاز محمد عبد الله موسى فى أداء دور المسؤول الغارق في لجج همومه الشخصيَّة، فما يكاد يشغله، والجميع مهمومون باختفاء (الرئيس)، سوى إيجاد وسيلة يقنع بها مديره المباشر كي يأذن له بالذهاب إلى المستشفى لمرافقة زوجته التي فات تاريخ ولادتها، والتي لا تكفُّ عن مهاتفته طوال الوقت تستعجله الحضور!

هكذا، ومن خلال البحث، بلا جدوى، عن مكان اختفاء (الرئيس)، تمضي المسرحيَّة لتكشف ضعفه البائن، وفساد بطانته الفاشي، ومؤامراتهم التي يحيكونها في الخفاء، وملاحقاتهم التي يشنونها على الشرفاء، وبحثهم المحموم عن كبش فداء يلصقون به تهمة اختطاف (الرئيس) وإخفائه، وسط تكتم شديد فضحه أحد الصحفيين، فنكلوا به أيَّما تنكيل، غير أن الخبر كان قد ذاع في الناس، فهبُّوا يطاردون بطانة السوء هذه، ويحصبونها بالحجارة!

فنياً نجح المخرج الشاب الأستاذ أبو بكر الشيخ فى الإمساك بأدقِّ تفاصيل العرض، خصوصاً حركة المجاميع التى نفذتها بأداء جيِّد، على محدوديَّتها، (فرقة سهيل المسرحيَّة)، وتوظيف الموسيقى والألحان التي وضعها د. محمود ميسرة السرَّاج. وإلى ذلك استطاع المخرج أن يضبط إيقاع الممثلين على الخشبة، دخولاً وخروجاً، فضلاً عن ضبط عمليَّة تغيير الديكور أمام الجمهور مباشرة، في اتساق تام مع تسلسل الأحداث فى الزمان والمكان، دون إرباك لعمليَّة المشاهدة، رغم إكثاره من استخدام شتى الحيل الفنيَّة، وفي مقدِّمتها شكل (الفلاش باك) شديد التعقيد، والذي يستدعي الشخوص، من خلاله، أحداث الماضي إلى الحاضر، وكذلك توفيقه، إلى حدٍّ بعيد، في اللعب على تقنيات الإظلام غير الكامل تارة، وتشغيل أضواء الفوانيس الشاحبة تارة أخرى، والتحكم في مساحة الضوء، توسيعاً أو تضييقاً، تارة ثالثة .. وهكذا!

جاء العرض، بالجملة، طقساً درامياً مقنعاً، من حيث ذكاء فكرته، ودقة حبكته، وإحسان تركيبته، كما جاء جرعة كوميديَّة ممتعة، من حيث اعتماده نهج (الإضحاك) على (المواقف) بأكثر من (الاستضحاك) الذي لا مأثرة له سوى المراهنة الكسول على النكات (اللفظيَّة) تفتح (معلبات) الضحك الجمعيِّ الجاهز، أساساً، وبشكل دائم، في الصالة، وهو الداء القديم الملازم لكلِّ الكوميديات التى قدِّر لي أن أشاهدها مؤخراً، باستثناء (المُهرِّج) لفرقة (الأصدقاء)!

أشرف على العرض الفنان القدير عمر الخضر، المحاضر السابق بكليَّة الموسيقى والدراما بجامعة السودان، ومدير المسرح القومي حالياً. ولكم وددت لو انه استطاع، ولو بالحفر في الصخر، أن يوفر من الموارد ما يتيح إصدار وتوزيع (مطبَّق) صغير للعرض، علاوة على استعادة (منتديات المسطبة) لمناقشة الأعمال ما بين مسرحيَّة وأخرى، فهو أحد مَسرحيِّي الزَّمن الجميل الذي افترع مواسمه النديَّة، وأسَّس لتقاليده الرفيعة، حبيبنا الراحل الفكي عبد الرحمن، عليه رحمة الله ورضوانه.

ومن محاسن الصدف أن مشاهدتي الأولى للعرض جمعتني بصديقي المخرج الكبير عثمان قمر الانبياء الذي غاب عن السودان طويلاً، والذي وصف المسرحيَّة بأنها خطوة جريئة باتجاه استعادة المناخات العامَّة القديمة لمسرح أواخر السِّتينات والسبعينات!