تلفزيون السودان و43 عاماً من البث التجريبي..

ولد تلفزيون السودان عملاقاً كما ولدت بقية الأشياء في بلدنا الحبيب، ثم بدأ الانهيار يغزو كل مرافق الوطن والتي لم يسلم منها التلفزيون بطبيعة الحال. ولعله من الواضح أن هناك أمية تلفزيونية بين المسئولين عن الإعلام في بلادنا، حيث عرف عن الإعلام بأنه يلعب دورا حيويا في الحياة، ويستطيع إحداث تغييرات جذرية على المدى القريب والبعيد في مجالات التنمية المختلفة.

لكن يبدو للعيان أن حكوماتنا المتعاقبة تهتم بقضاياها الأمنية فقط وتجعل اهتمامها بالإعلام قاصراً على ما يخص ذلك الجانب الأمني وتترك بقية القضايا الإبداعية والفنية والثقافية والرياضية دون أدنى اهتمام، لذلك ظل بثنا التلفزيوني أشبه بالمراحل التجريبية حتى بين تلفزيونات العالم الثالث بالرغم من أنه الرائد بينها وذلك لأن القائمين على الأمر نفسهم تنقصهم الخبرات والاحتكاك والتجربة الحقيقية فأصبح التلفزيون ساحة لكل من يود كسب العيش أو لمن لهم مآرب أخرى ومعظمها شخصية بالدرجة الأولى.

اختيار العاملين يجب أن يكون مبنياً على عوامل أساسية أهمها الموهبة والحضور الذهني والمعرفة باللغات وبالثقافة وبتقنيات العصر مع المقدرة على الاستيعاب الحاضر للمتغيرات الحثيثة ومواكبة التطور السريع في عصر العولمة. كما يجب أن يهتم القائمين على أمر التلفزيون بتدريب هذه الكفاءات المختارة مع تهيأت المناخ النقي للإبداع والتركيز على مبدأ المنافسة وتكريم وتحفيز المبدعين وترقيتهم ودفع أجور عالية لهم تناسب أهمية الدور الكبير المنوط بهم وذلك بدلاً من أن تتحول ساحة التلفزيون لمسرح يضم عديمي المواهب أمثال الذين يستحوذون على برامج السهرات الرئيسية وحلقات الوصل الفعالة مع شرائح المجتمع المختلفة داخل وخارج الوطن دون أن تكون لديهم من المؤهلات قيد أنملة سوى الاهتمام بمظهرهم الخارجي بلا جدوى، أما العمق فهو خال على عروشه تماماً.

التخصص شيء آخر هام والدراسة ترتبط بأمر التخصص هذا، فنحن في تلفزيون السودان يمكننا بكل سهولة أن نجد سكرتيرة سابقة قد تحولت بقدرة قادر إلى مذيعة على سبيل المثال دون أن تكون لديها الموهبة أو الخبرة أو المعرفة أو الشكل أو الصوت الجميل الجذاب، والمعد أيضاً قد تحول إلى مقدم برنامج جماهيري والمخرج إلى كذا وكذا دون تخصص أو مهنية أو موهبة يبني المرء عليها.

الإداريون أيضاً يتحولون فجأة إلى إعلاميين ومقدمي برامج، وأصحاب المؤثرات الإستراتيجية يتركون مهامهم الأساسية في وضع السياسات لإحداث التغيير وبحث سبل التطور وإقامة الدورات وابتعاث ذوي الكفاءات لدورات تدريبية تجلب الخبرات وتخلق تجربة سودانية فريدة ليصبحوا موظفين يقرضون السياسة المرتبطة بالحكم والتمكين لا بالتنمية الإنسانية والثقافية والإبداعية.

التلفزيون يحتاج إلى تحسين المهارات القيادية وتعزيز القدرات التنظيمية بالإضافة إلى تنمية وصقل المواهب. فالناظر للفضائيات العربية يجد أنها أحدثت تأثيرا بالغ الأهمية من كل النواحي التقنية والأيدلوجية والفنية والرياضية والسياسية وذلك لتبنيها لأهل الكفاءة والاستثمار فيهم. أما نحن فلا زلنا نعتبر في مرحلة بث تجريبي لم يبدأ انطلاقته بعد.

يجب على الدولة أن تعطي هذا الجهاز الإعلامي البارز أقصى درجات الاهتمام وأن تعلن عصر النهضة فيه، ولتبدأ بتكوين لجنة تقييم من الخبراء العالميين في المجال الإعلامي المرئي تحتوي على كل التخصصات التقنية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والفنية في مجال الإخراج والتقديم والدراما والسياسة والرياضة والموسيقى وبرامج الأطفال والأسرة والسهرات والأخبار وبرامج المنوعات والبرامج المفتوحة وحتى النشرة الجوية والإقتصادية وذلك لتقييم الوضع الحالي للشاشة في ضوء التجربة الطويلة والتي لم تجعل التلفزيون السوداني يحتل أي موقع صداري في أي مجال.

وبدلاً عن الأموال التي تصرف لإنتاج وتقديم برامج لا معنى لها يجب أن ندفع ما ندفع من المال لمثل هذه اللجنة حتى تقدم توصياتها من أجل النهوض بهذا المرفق الهام. وعلى الدولة أن تنفذ التوصيات مهما كان الثمن لأننا بمثل هذا الجهاز نبني أمة بدلاً من تخريبها بالعمل العشوائي وبمثل هذا البث التجريبي الذي كاد أن يستكمل أربعة وأربعين عاماً من الوجع دون أن يتوقف.

مدخل للخروج:
مين بس زيك.. يا موعود بالنيل والضل.. مين بتحدى جوارك ويصبح.. في بستانك شتلة فل.. مين يا سيدنا وروحنا وريدنا.. ومين يا نورنا وأمل الكل.. حيموت الجهل العيب والخوف.. والوطن ينزاح من صدرو السُل..