|
|
 من عجائب الأخبار عن جبال النوبة ومنطقة التماس
|
بقلم / الفاتح الزين حسب الله كجَقَلا
الرياض ـ المملكة العربية السعودية
جاء بالصفحة(101) من كتاب " تنوير الغَبش في فضل السودان والحبش " للشيخ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي" قول عجيب إستوقفني يدل على أن (لقمان الحكيم) الذي ورد ذكره في القرآن الكريم كان حكيماً من النوبا ، وقد جاء نص الكلام كالآتي : (حدثنا ابن سمعان عن زيد بن أسلم أن لقمان لما ظهرت حكمته للناس جاءه رجل من عظماء بني إسرائيل فقال له : يا لقمان ألم تكن عبداً (نوبياً)لفلان ؟ قال : بلى ، قال فمن أين بلغت هذه المنزلة ؟ قال: صدق الحديث ، وتركي ما لا يعنيني).
غير أن هنالك مسافة كبيرة وشاسعة تفصل بين قبائل جبال النوبا التي تتخذ من من ولاية جنوب كردفان في أواسط السودان موطناً لها و(النوبيين) الذين يتخذون ضفاف نهر النيل في شمال السودان موطناً لهم بالقدر الذي جعل بعض المهتمين بالجغرافيا البشرية يرون عدم وجود علاقة بينهما ألبتة.. لذلك إقترح بعضهم إطلاق مصطلح (النوبة ـ بالتاء المربوطة) على النوبيين في شمال السودان .. ومصطلح (النوبا ـ بالألف) على النوبا في جنوب كردفان .. غير أننا قد لا نلتزم هنا بهذا كثيراً في سياق ما سنكتب…خاصة وأنني لا أزال أعتقد أن هناك ثمّة علاقة تربط بينهما.. وذلك عندما سنحت لي الفرصة بالإغتراب إلى المملكة العربية السعودية والعمل بأحد المستشفيات الشهيرة هناك حيث تمكنت من التعرف على العديد من شعوب العالم عن قرب ،بما في ذلك قبيلتان سودانيتان هما قبيلتا " دنقلا" و" المحس ". وهي بصراحة الفرصة التي لم! تكن متاحة لي في الماضي حتى وأنا داخل السودان …وقد تلاحظ لي وجود بعض الكلمات المشتركة بين نوبا الشمال لدى " المحس " على وجه الخصوص وبين نوبا الجبال في جنوب كردفان كقبائل الدلنج والكدر والغُلفان وما إليها من قبائل توصف بأنها قبائل تتحدر لغتها من لغة قديمة تعرف بلغة " الأجانق ".. أما لغة قبيلة الصبي التي أنتمي إليها أنا شخصيا وينتمي إليها كذلك عضو المؤتمر الوطني الحاكم في السودان ومستشار الرئيس لشؤون السلام سابقاً الأستاذ /مكي علي بلايل هي لغة في الحقيقة تختلف إختلافاً أساسياً عن لغة مجموعة لغة الأجانق آنفة الذكر .. غير أنّ لغة قبيلة " الصبي" على سبيل المثال والتوضيح تتفق مع لغة قبيلة " النيمانج" التي ينتمي إليها مؤسس الحزب القومي السوداني الشهير بالأب /فيليب عباس غبوش في كثير من المفردات كنطق (الشينِ) (سيناً) عند قبيلة النيمانج وكالفرق أيضاً بين الإنجليزية الأمريكية والإنجليزية البريطانية إن دعى داعي للتشبيه.
ومع ذلك فإن هناك ثمةً كلمات مشتركة نجدها بين مجموعة " الأجانق " ومجموعة "نيمانق"و" الصبي" على سبيل المثال خاصة وأن تلك القبائل تتزاوج فيما بينها .. لنجدها تقف جميعاً صفاً واحدأ لتقول أيضاً بصوت واحدٍ لأخوتهم النوبة في الشمال: إن هناك ثمة علاقة قديمة تجمع بيننا جميعاً وهي إن لم تكن علاقة مباشرة ببعضنا فلعلها تكون علاقة أخرى لم يكتب عنها الباحثون .. وكيف لا تكون كذلك ؟! والجدول التالي يبين لنا هذا التطابق اللغوي المدهش والذي عثرت عليه أنا شخصياُ بين زملائي وأبناء وطني في بلاد الغربة:
معنى الكلمة المطابق عند سكان شمال السودان وعند قبائل جبال النوبة المذكورة في جنوب كردفان.
نطق الكلمة عند بعض القبائل في جنوب كردفان منها الدلنج والصبي والنيمانج.
نطق الكلمة في شمال السودان عند قبيلة المحس على وجه الخصوص وربما الدناقلة في بعض الكلمات.
الرقم ستة في الحساب
الرقم سبعة في الحساب
الرقم ثمانية في الحساب
وجه الإنسان
تعني رأس الإنسان
تعني الله الخالق الأعظم
و تعني التمســـاح
كوارشي Koarshayh
كولاد Kolad
إيدو Iddo
كونج Konj
أور Aur
إبتي Ebti
أيليم Elem
كوارشي Koarshayh
كولادو Koladdo
إيدو Iddo
كونج Konj
أور Aur
آرتي Arti
أيلوم Elum
وفي إعتقادنا إن من بين الأدلة الإضافية التي تؤكد وجود مثل تلك العلاقة التاريخية بين نوبا الشمال ونوبا الجنوب ، وجود كلمة "أيليم" التي ورد ذكرها في ذيل القائمة وتعني " التمساح " لدى قبيلتي " النيمانج " و" الصبي" رغم أن " التمساح " في الحقيقة حيوان يعيش في النيل وليس له أي وجود في مناطق جبال النوبة كلها وهذا بديهي لعدم وجود أنهار هناك سوى " خور أبي حبل " الموسمي الذي يمر بمدينة الدلنج إحدى مدن جبال النوبة ..فالتمساح يوجد في مياه النيل وحيث مناطق دنقلة والمحس أما كلمة " إيلوم " بحرف الواو التي يستخدمها أهل المحس وتعنى عندهم (التمساح) فتستخدمها قبائل جبال النوبا في جنوب كردفان ولكنه يعني عندهم حيوان آخر يثير الرعب أيضاً في الجبال مثلما يثير التمساح الرعب في مياه النيل ..هذا الحيوان هو! ضبع الجبال الذي يُعرف باللهجة العربية الكردفانية بإسم" المرفعين "! وهو أكثر حيوان يخشى سماع إسمه الأطفال من أفواه آبائهم.
ومن عجائب الأخبار أيضاً عن جبال النوبة هو أن مدينة (الدلنج ) تحديداً وهي أكبر مدن جبال النوبا التي تمثل بداية النهاية لمنطقة جبال النوبا إلى جهة الشمال من ولاية جنوب كردفان بحيث كان يطلق علي مجلسها البلدي منذ الإدارة الأهلية القديمة في السودان إسم (مجلس ريفي شمال الجبال).. تمثل في الحقيقة نقطة الإلتقاء الحقيقية بين أفريقيا جنوب الصحراء وأفريقيا شمال الأدغال كما أسميها.. كما تمثل أيضاً منطقة تماس حقيقية في السودان .. عندما يتحدث المتحدثون عن مناطق التماس .. وعندما يتفاوض المتفاوضون أيضاً في(نيفاشا) بكينيا عن (المناطق الثلاث).. دليلنا على ذلك أنّ (مدينة الدلنج) تقع في منتصف المسافة تقريباً بين أكبر مدينتين مختلفتين و متباينتين من مدن ولاية كرفان الكبري وهما مدينة( الأبيض) عاصمة ولاية شمال كردفان ومدينة (كادوقلي) عاصمة ولاية جنوب كردفان، أما التبانين الذي نقصده هنا فهو تباين متشعب العناصر متعدد الجوانب نجد بعضه عرقي وبعضه الآخر جغرافي ومثال ذلك أنّ مدينة (الأُبَيِّض) يحيط بها الصحراء والكثبان الرملية الذهبية من كل ناحية لذا نعتوها بـِ(عروس الرمال) … أما مدينة (كادوقلي)عاصمة ولاية جنوب كردفان فتحيط بها التربة الطينية الخصبة السوداء اللزجة وكذلك الجبال من كل ناحية لذلك نعتها أهلها بـ(عاصمة الجبال) أي جبال النوبة Nuba Mountains. القرى والمدن في ولاية شمال كردفان تجده! ا على وجه العموم تحمل أسماء عربية كالحمادي و" أم قرفة " و" أم روابة " و" أم درابة" و" أبوجبيهة" و"العباسية" و" النهود " و" الضليمة " و" الحمّيضاية " و" الفرشاية "و " الدبيبات " و" العين " و" الرهد" و" الغبشة " والقُرى في مناطق جبال النوبا وجنوب كردفان تتخذ أسماء أعجمية …ولاية شمال كردفان تسكنها قبائل عربية راحلة وغير راحلة منها البقارة التي ترعي الأبقار والحمر التي ترعى الأبل ،والغريب كذلك في شمال كردفان كما جاء في إحدى البرامج التلفزيونية في الفضائية السودانية وجود واحات في الصحراء الكردفانية شمال الأبيض تعرف بإسم (واحة ود البشير)تلك الواحات تزرع فيها أشجار النخيل العربية الأصل ويقال أنّ سكان تلك المنطقة الكردفانية يستخدمون ذات المصطلحات الزراعية المستخدمة لدى مزارعي النخيل في أقصى الشمال السوداني …كما أورد البرنامج أيضاً إعتقاد الناس هناك بوجود م! جموعة من الخيران والأنهر الموسمية في (واحة البشير )يبلغ عددها (99)خوراً…وطالما قد ذكرنا الرقم (99) فإن الأمر حتما سيقودنا إلى تذكر هذا الرقم في النصف الآخر من كردفان وحيث جبال النوبا الـ(99) حسب إعتقاد الناس في حقبة الستينات. وإن كانت هنالك (أم)درابة و(أم) روابة و(أم)قرفة في شمال كردفان ..أو(أم)بدة و(أم)درمان في مناطق أخرى في النصف الشمالي من السودان.. فإن الغريب العجيب الذي تلاحظ لي أنا شخصياً وأقدمه هنا لأول مرة، هو حرف(الكاف) الذي يبدو أنه هو سيّد الحروف في جبال النوبة قاطبةً بحيث تجد أن أغلب الأسماء هناك تبدأ به . . ولا أدري ما إذا كان للأمر علاقة بسرّ حضاري قديم ودفنين لم يكتشفه الباحثون بعد ،وأوّل ما نضرب به المثل هو مدينة "كادوقلي " التي هي عاصمة ولاية جنوب كردفان ،كما هناك أيضاً مناطق وقبائل أخرى مثل " كاودا " و" كيقا تميرو " و" كيقا الخيل " و" كتشا" و" كندرمة "و" كُرونقوـعبدالله" و" كُحليات " و" كاونجارو "! و" كلوقي " و" كواليب " و"كرتالا " و" كدرو " و" كرورو " و" كافير " و" كرماريه" و" كولداجي" و" كرمتي " و " كلارا " و " كاركو" و" كدر" و" كينينق " و" المندل ـ كولي " و" كتلة " و" كجورية " و" كركراية " و" كويكاية "و" كُرقُل" و" كتنق" وهكذا ...وربما إمتد الأمر إلى من ذلك إلى مناطق أخرى ً إستوائية قريبة من جنوب السودان ومثال ذلك " كيلك" و " كدوك" "كافيا كنجي" المتنازع عليها بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان فيما يتعلق بترسيم حدود الإقليم الجنوبي … والغريب أيضاً في داخل مدينة " كادوقلي " ليس فقط لأنّ أقدم حي فيها هو حي " كاليموه " ولكن الغريب فيها هو أنّه حتى أسماء الناس ! هناك تجدها أيضاً تبدأ بحرف الكاف! …وتلك الأسماء هي عبارة عن ألقاب تطلق عادة على أفراد الأسرة حسب تسلسلها الولادي من الأكبر سنّاً إلى الأصغر سنّاً ..لذلك تجد أن هذه الأسماء تتكرر في كل بيت في كادوقلي و ماحولها تقريباً ومثال ذلك " كوكو" و" كابي " و" كُوة " و" كومي " و" كالو" و" كجّو" و" كجالوه " إذا كان الأفراد (ذكوراً) .. و" كاكا " و" كوشيه " و" كنيه" إذا كانوا (إناثاً) …والبعض قد يتخذها إسماً حقيقياً له كما في إسم قائد جبال النوبة في الحركة الشعبية لتحرير السودان الراحل( يوسف كوة)…أو يشتهر هذا الإسم أيضاً فيرتبط بإسم حي من الأحياء المشهورة في العاصمة السودانية الخرطوم كما في(حلة كوكو)[1] التي اشتهرت بزراعة الألبان وإنتاج المواشي …وفي مجال الفن والطرب فأنّ من أشهر الآلات الموسيقية الوترية في جبال النوبة هي آلة " الكوجانق " أو " الكوجونقانق " لدى بعد القبائل وهي الربابة أو الطمبور المعروفة في شمال السودان ..أما " الكامبلا " و " الكيرانق " و" الكيسا " و " الكوسنيقيد " فهي أيضاً من أشهر الرقصات التي تمارسها قبائل جبال النوبة وبعض هذه الرقصات مرتبط بطقوس دينية أفريقية كرقصة الكوسنقيد لدى قبيلة الصبي والمندل والتي يشرف عليها عادة " الكجور"..أما "الكجور" الذي لم ينجُ أيضاً من حرف " الكاف" فهو الشخص الذي يقوم مقام الراهب أو الكاهن أو الزعيم الروحي للقبيلة في مفهوم الديانة الأفريقية القديمة ووجود "الكجور" ليس مقتصراً على مناطق جبال النوبة فحسب ، ولكنه موجود أيضاً لدى قبائل الدينكا والنوير والشُلُك وال! زاندي وما إليها من قبائل نيلية إستوائية في جنوب السودان وربما اتخذ الكجور مسمىً آخراً خارج حدود السودان لدى قبائل(إفريقيا جنوب الصحراء) وقد بدأت علامات الزوال والإندثار تبدوان على تلك الديانة الأفريقية في بعض قرى جبال النوبة من جراء التعليم في المدارس النظامية أو المنظمات الدعوية التي نشطت بعد الإستقلال وكذلك نزوح الأجيال الجديدة المتعلمة إلى المدن والعاصمة القومية بحثاً عن العمل والإستقرار فيها على نميط جديد من الحياة ولم يعد هناك من يحل محل الكجور من الجيل الجديد كما تأثر الكثيرون بالمد التبشيري المسيحي القديم في مناطق الكواليب بمدن "دلامي" و"عبري" و"هيبان" و"كاودا" الواقعة جنوب شرقي مدينة الدلنج .. أما بعد كل تلك " الكافات " التي أوردناها ربما تساءل المرء أيضاً..ما إذا كان للأمر علاقة أو سر تاريخي دفين أيضاً بمدينة " كوستي " أو ولاية "كردفان" ومن يدري ؟! لعل للأمر علاقة أيضاً بمملكة " كوش " النوبية القديمة في شمال السودان .. ولكن لا ننسى أن للمصادفة أيضاً إحتمال.
ومهما يكن من أمر..إن الأخبار التي سقناها عن جبال النوبة والأوصاف التي وصفنا بها ولاية كردفان عموماً ..ما نراها إلا تقف دليلا آخراً على أن ولاية كردفان الكبرى بشقيها المتباينين شمالاً وجنوباً .. هي صورة أخرى مصغرة السودان الكبير .. سودانُ العزة والكرامة .. سودانٌ سنراه قوياً بمشيئة الله بتعدد أعراقه واختلاف أجناسه .. سودانُ يعمّه الخيرُ والعدلُ والسلامُ والمحبّة.
تنويه : هذه المقالة عبارة عن مقتطف من كتاب لم يتم تقديمه للطباعة والنشر بعد ويتناول رسم ملامح السودان الحضارية لمرحلة ما بعد السلام وتجدون فيه ما هو أعجب بمشيئةالله وعنوانه(سُنن تزاوج الأشياء في الطبيعة والكون ) فترقّبـــــــوه.
الفاتـح الزين حســــب الله كجقـــــلا
الرياض ـ المملكة العربية السعودية
23 ينـاير 2003م
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ذكرت ذلك إحدى المهتمات بتراث جبال النوبة تدعى الأستاذة /عفاف تاور في أحد برامج الفضائية السودانية في حوالي شهر يناير 2003م يتناول تراث وثقافة جبال النوبة أن إسم (حلة كوكو)بالعاصمة المثل! ثة مأخوذ من إسم مواطن من مدينة كادوقلي ذكرت إسمه وسبب سفره إلى تلك المنطقة وتوفى حيث دفن هناك.
|
|
 
|
|
|
|
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست