قراءات فى إنتفاضة 6 أبريل.....دعوه للتوثيق والتحليل!!

Quote: ذكريـات مارسو ــ أبـريـليـة حين اشتعلت إنتفاضة مارس ـــ أبريل كنت حديث عهد بالتدريس بجامعة الخرطوم، إذ لم يمض على تعييني بها سوى العام ونصف العام. كانت النفوس مهيأة يومها تنتظر التغيير، بعد أن إستبد النظام، كتم أنفاس البشر وأخفق على كافة الصعد. كنت أقيم حينها بمنزل مستأجر في الرياض قبالة أوماك. خرجت صبيحة يوم السادس من أبريل أحمل قميصاً بللته بالماء تحسباً لما ستطلقه الشرطة لا محالة من غاز مسيل للدموع. لم أخاطر بالذهاب يومها بعربتي خوفاً عليها من الصديق قبل العدو، ولكي أترك شيئاً للورثة إن حدث أمر الله. ودعت أهلي بفعل هاجس داخلي ينبيئني بألا عودة. كان نادي الأستاذة مزدحماً يفيض بالأساتذة وبغيرهم. إحتدم الجدل بين بعض المتحمسين الذين كانوا يرون توجيه المظاهرات صوب مقر الأمن ( وكان له فرع يومها في مقر القيادة العامة الحالية)، وبين بعض العقلاء ممن رفض الفكرة بحجة أن النظام لم يذهب بعد، وأنه من الخطورة بمكان الاقتراب من حيوان مفترس جريح. وحمداً لله أن إقتنع المتحمسون على مضض بصواب الرأي الآخر، وإلا لوقع ما لم تكن لتحمد عقباه. تحركنا عقب ذلك فرادى على أن نلتقي بشارع القصر، إذ يكن لم بمقدورنا التحرك جماعة بسبب القوات المنتشرة بشارع الجامعة من نادي الأساتذة شرقاً، وحتى مبنى وزارة الخارجية الحالي غرباً. أذكر أنه كان برفقتي الأخ الدكتور محمد بشير حامد من شعبة العلوم السياسية، وقد عين وزيراً للثقافة في الحكومة التي أعقبت عهد مايو. وأشهد أنه قد أبلى بلاء حسناً في الكر والفر، وقدم أحدنا للآخر المساعدة تلو الأخرى بعد أن خارت القوى وأوشكت الأمعاء أن تخرج من الحلاقيم بفعل غاز جيد التعتيق! بدأ الاحتكاك بالشرطة بالقرب من القصر الجمهوري، في تقاطع شارع القصر مع شارع الجمهورية على وجه التحديد. تقدمت القوات وأجبرت المتظاهرين على التقهقر جنوباً صوب السكة حديد. لم تكن قوى الأمن في عجلة من أمرها، إذ كانت تقذف بالمسيل للدموع وتكسب في كل مرة عشرات الأمتار. وعندما وصلت المسيرة إلى مكان ميدان أبي جنزير الحالي، أو جنوبه قليلا، أتت مظاهرة أخرى من أمام سينما كلوزيوم تتجه غرباً نحو شارع القصر حتى تنضم للمظاهرة الأم. بيد أن تلك المظاهرة الفرعية وصلت في الوقت الخطأ. ذلك أن الشرطة كانت قد تقدمت كثيراً مما أدى للفصل بين المسيرتين. إقترح هتافة المظاهرة الأم أن يجلس الجميع على الأرض تفادياً للغازات التي اشتدت الآن كثافتها، وحتى نعطي الوقت الكافي للمشاركين في المظاهرة الفرعية من التسلل فرادى، عبر الطرق الجانبية، والانضمام للمظاهرة الرئيسة. والحق يقال أن رجال الشرطة إلتزموا بالعرف وضبط النفس وقتاً ليس بالقصير، فلم يقذفوا غازاً، ولم يستخدموا هراوى والناس جلوس. حتى إذا طالت مدة اللاقيام واللاتظاهر، بدأوا في التحرش بالمتظاهرين الذين تقهقروا على عجل حتى بلغوا أقصى الطرف الجنوبي لكلية الطب. قفز جلهم حائط الكلية ( والذي كان من حسن الطالع قصيراً مصنوعاً من سيخ سميك)، قفزوا من فوقه يبحثون عن الماء، يعيد إليهم التنفس. بدأ المتظاهرون بعدها في الإنصراف فرادى كذلك خشية أن تلتقيهم بعض الدوريات الراكبة، وقد كانت يومها كثيرة لا يحصيها العد. أعمدة دخان الإطارات المحروقة تتصاعد إلى عنان السماء، ولا أحد يدري مصدرها، أو عددية من يحيط بها. تتقاصر المسافات وتتضاءل وقت الخوف وانعدام الأمان. إذ قطعت المسافة بين شارع القصر والرياض، وهي مسافة تستؤجر لها المركبات، قطعتها راجلاً وفي زمن جد وجيز، حتى لكأنها المسافة بين الغرفة والحمام. المنازل يعوزها ما يؤكل أو يشرب. المدينة برمتها تسبح في ظلام دامس لا يقل كلاحة عن سواد النظام الذي يراد إزاحته. أجهزة المذياع وحدها كانت تعمل بحجارة البطارية، يحملها الكل قرابة الأذن كطفل رضيع أتى بعد طول انتظار. إلى أن كانت صبيحة الغد، حيث وردتنا البشرى. نبأ الانعتاق كان دون التوقعات، وأصاب الكثيرين بالغبن والإحباط. لكن، وبما أن السياسة هي فن الممكن كما يشاع، فإنه لم يكن بالإمكان أفضل، على الرغم من سوئه، مما كان!