إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال سر الختم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-19-2024, 11:01 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-15-2017, 04:41 AM

المعز عبدالمتعال
<aالمعز عبدالمتعال
تاريخ التسجيل: 06-11-2011
مجموع المشاركات: 485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال سر الختم

    إبليس

    قصة قصيرة

    تأليف: المعز عبد المتعال سر الختم

    الخرطوم، الثانية ظهراً بتوقيت سطوع الشمس.

    ماراً من أمام دار جارنا سعيد، الذي هو دوماً يهتم بتفاصيل الآخرين ، تلك التفاصيل التي لا تعنيني في شئ، و لا تعنيه هو أيضاً، ناداني بنبرة فيها إستجداء ممزوجاً بلهفة خفية، كأنه يحاول إغرائي بالوقوف، تعمّدت تجاهله، فزاد من عناده، و كرر مناداتي وهو يلهث نحوي حتى كادت أنفاسه ان تلفح وجهي، اقترب مني كثيراً و هو يتنهد، و رائحة الشواء بدأت تنبعث من دار بشرى.
    قال لاهثاً وهو يبعثر رزاز لعابه في وجهي:
    - مابك يا أمجد؟
    - أشعة الشمس، تكاد تلوي عنقي.
    إمتعض سعيد وهو يحاول إلتقاط أنفاسه قائلاً:
    - لا عليك، أنت مدعو اليوم، لوجبة غداء ، كلّفني بشرى بدعوتك.
    قلت له و رغبتي في الحديث تتضائل:
    - ما المناسبة؟
    إرتبك سعيد قليلاً، و بادر بترطيب شفتيه من لعابه المتناثر، و قال كمن يشيئ بسر خطير:
    - حصوله على البراءة من قضية اغتصاب وقتل وفاء .
    شعرت أن الشمس اخترقت رأسي من فوهة بركان انفجر بداخلي، و تعمّدت المضي نحو داري، لكن سعيد لحقني و أمسك بيدي محاولاً إفشاء المزيد من الأسرار:
    - هذه قضية طويلة، تم تلفيقها بعناية ضد بشرى، و أنت أدري م ...
    قاطعته محاولاً الفرار من وهج الشمس و من حوارٍ أعرف انه في طريقه للتمدّد:
    - انا جزءً من هذه القضية، أراك لاحقاً، شكراً للدعوة.
    أجبرني سعيد على الوقوف حين صاح بأعلى صوته:
    - ما يهمنا الآن معرفة المجرم الحقيقي، حضورك يعزّز موقفك.
    شعرت لحظتها أن سهام شكّه تُصيبني من الخلف، فبراءة بشرى خبر جيد، لكن بالمقابل يؤكد في طيّاته أن المجرم الحقيقي لا يزال حراً طليقاً، فكأنما سعيد يجّرني نحو مستنقع شكٍ آسن.
    خلعت ملابسي و الهموم تحاصرني كما تحاصر رائحة الشواء أنفي، تذكّرت كيف وقعت وفاء ضحية اغتصاب وهى فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة، كيف تجاسر وحشاً ما يتدثر في ثياب البشر، ليفترسها و يتركها وحيدة تقاوم العذاب، و كيف فلتت صرخاتها و عبرت سماء الحي ، و هزّت ليله الكئيب، و كيف ماتت قبل ان تصل للمستشفى، و كيف تحولت حياتنا في الحي إلى جحيم من الشك لا يطاق، و بحراً من الريبة، و سماءً ملبدة بغيوم الأسى، و أرضاً تفتحت مسامات حزنها و أخرجت للناس أثقالها.
    وصلت لدار بشرى، تجر قدماي اثقال الهموم، كان داره مكتظاً ، أطفال سعداء يتبادلون الضحك و السباب، نساءً يتهافتن لانتزاع خجلهن من بين الرجال، يمضين و رؤوسن في اتجاه الأرض، فتيات يفوح شذاهن وسط الدار، رجالاً يرتدون عمائم ، روائح الشواء ممزوجة بروائح التبغ تعطّر المكان، جلست على مائدة بها إحدى عشر رجلاً، كلهم يتحدثون في نفس اللحظة، منهم من يغمغم بكلمات يخشى أن يسمعه بقية الحضور، و منهم من يجادل في معرفة القوانين، و منهم من يؤكد ان خبر براءة بشرى يعني بداية رحلة طويلة من التحري و البحث عن المجرم الحقيقي، بدأت الهمهمات تعلو شيئاً فشيئا، تتخللها نظرات تتجه نحوي، تومئ بالشك.
    قال عبد الله وهو يداعب سبحته و يهز رأسه بحزن:
    - من كان يتصور ان يحدث هذا، كيف يتجرأ إنسان لاغتصاب فتاة بريئة و قتلها؟
    اومأ نصر الدين بالإيجاب، ثم لوّح بيده قابضاً الفراغ، كأنه يخنق شهوة الإنتقام، قائلاً:
    - لن يضيع دمها هدراً، أقتربت الحقيقة، و حينها لا يلومني أحد.
    بادر عبد الرحمن قائلاً:
    - ما حدث لا يوصف، كلنا على يقين أن بشرى برئ منذ الوهلة الأولى، لولا عناية الله لكان الآن معلّقاً على خشبة الإعدام.
    شعرت برعشة خفية تسري في خلايا دمي، و تصوّرت نفسي مدلدلاً على خشبة القصاص، فاض خيالي بالجنوح، أنقذني آذان العصر ، و مع أصوات ارتشاف الشاي بادرت بالوقوف معلنا انصرافي.
    وضع سعيد يديه على عصاته و خاطبني بطريقة قاضي يوجه اتهامه لمتهم:
    - لا أسكت الله حسك يا أمجد.
    - ليس لدي ما أقوله، قُبح الفعل ألجم لساني و عقلي.
    - انت جار وفاء، لعلك شاهدت أو سمعت ما يفيد القضية؟
    شعرت بشباك الشك تدخل مياه حزني و تصطادني، كسمكة تحاول الفرار من صيادها، قلت بإرتباك:
    - كلنا جيرانها، و ليس لدي ما أقوله.
    أجاب سعيد و عطر الشك يفوح في سماء الدار:
    - كأنك تتهرب من شئ ما؟ اهو الخوف من المواجهة، ام هو طبعك الكتوم؟ كلنا نعلم أنك متهم في هذه القضية.
    صرت قاب قوسين او أدنى من مواجهة محتومة مع الجميع، ترددت قليلاً، و إستجمعت إرادتي كاشفاً عن شخصاً آخر بداخلي بدأ في الظهور:
    - لا أسمح لك يا سعيد بإتهامك، ما تقوله خطير، و يوردك مورد الهلاك، كنت متهماً، اما الآن فلا، أخلاقي تجبرني على تجاوز كلماتك ليس احتراماً لك، بل تقديراً للمكان و الحضور.
    قطب سعيد حاجبيه، و كشّر عن أنياب عينيه، و تعمّد النظر للجميع كأنه يستجدي عطفهم للوقوف معه ضدي.
    هتف صلاح معاتباً:
    - لا تتسرع يا سعيد، إن بعد الظن إثم.
    صاح سعيد مدافعاً عن موقفه، مبعثراً بذور الفتنة في ارض معركة خصبة:
    - لم يكن هذا رأيك قبل مجئ أمجد.
    أجابه صلاح و غضبه يشتد:
    - لكل مقام مقال يا سعيد.
    شعرت أن الجميع ضدي، و أنني مطالب باقتحام الموقف بجرأة أكبر.
    كما أعور اكتشف عدم جدوى عينه العوراء ، قررت الإشتباك في معركتي المصيرية، و قلت بثبات:
    - هو مقامكما الوضيع يا صلاح و سعيد، من غيركما تحدّث عني في غيابي؟ و قبل ان أمهلهما فرصة للرد، و قبل أن يفيقا من الصدمة أردفت:
    - انا أعرف المجرم الحقيقي، هو بيننا الآن.
    تحوّلت نظرات الجميع عني، إنحسرت نظراتي، حين إلتهم الشك شجر الريبة، تعالت الأصوات، و اندلع حريق الظنون، ثم غادرت.
    لا أدري لماذا إدّعيت أنني أعرف المجرم الحقيقي، و أنه موجود بين الحضور، لعلها القشة التى تعلقّت بها محاولاً النجاة من بحر الفتنة.
    كمطعون ينزف، طافت بي ذكريات حزينة، تذكّرت وفاء، إفترستني ذكرى موتها، عامان الآن على رحليها، و سياط العذاب تغدق ألمها على ظهر قلبي بسخاء.
    وفاء، في الثامنة عشرة من عمرها، طويلة، جميلة حد الدهشة، عيناها واسعتان، بهما رغبة في البوح بسرٍ ما ، شعرها طويل، أسود، مسدول، شفتاها حائرة، كأنها تبحث عن أذن لتهمس لها بولعها بحب الحياة، تمشي كأنها تدنو من أسوار الفرح، فاردة جناحيها كنورس سعيد ، نهداها في عمر التكوين، برزا في عناد، تكورا، و استدارا خلسة في بهاء.
    وكان ذلك اليوم، ثالث أيام عيد الأضحى، قررت وفاء الذهاب لرحلة ليلية مع الجيران، و في طريق عودتها لدارها، سمع أهل الحي صراخاً متقطعاً ممتلئاً بالأنين، تجّمع الجيران، و تبيّنو مكان الصوت، بيت مهجور، يتوسط الحي، به باب صدئ، غير موصد، أسواره تطوّق عزلته الممتدة لسنوات، اقتحموا الدار عنوة، ركل بابها جبريل بقوة، وجدوا وفاء، شاحبة، عارية، مُمدّدة تنزف من رأسها و فخذيها، وهي تئن بشدة، عليها آثار معركة جنسية مفرطة.
    أقترب منها جبريل أكثر، تبيّن ملامحها على ضوء خافت تسّرب من بعيد، صاح برعب هائل:
    - يا إلهي، إنها وفاء، اللهم لطفك، هرع نحوها، و حملها على كتفه و هي تنزف، و مضى بها للخارج، و و أصوات رجال الحي تهتك ظلام الليل و صرخات النساء تتصاعد.
    استقلوا سيارة كبيرة، و مضوا بها للمستشفى، و في الطريق فاضت روحها، و على تقرير الطبيب الشرعي، كانت أسباب الوفاة، إغتصاب و تهتّك في الرأس، دفنوها ليلاً، و على قبرها تحدث أبيها قائلاً:
    - دم وفاء معلّق على جبينكم جميعاً، وفاء لم تمت مقتولة و حسب، بل ماتت بعد اغتصاب، بيني و بين قاتلها دم الاغتصاب و دم الروح.
    ضمّه جبريل باكياً، جفف دموعه بدموعه، و قال و الأسى بحر من الأحزان:
    - لن يفلت منا، في الأرض نحن له بالمرصاد، و في السماء ينتظره رب العرش العظيم.
    تقدم الجميع نحو والد وفاء، إنهالت عليه الدعوات، صفّق ريح الحزن، و المواساة بساط ممدود تحت أقدام المُعزين.
    عاش الحي شهوراً من القلق و الخوف و الرعب، و التوتر، انحصر الاتهام على ثلاثة، أنا و بشرى، و أحمد.
    قضينا جميعاً شهرين في السجن، أطلقوا سراحي انا و أحمد، و بقى بشرى في السجن، كل الأدلة ضده، نزقه و شغفه بالجنس، مغامراته الطائشة، و حكاياته التى يرويها بنفسه عن أمجاده المزعومة، وضعته في مقدمة المتهمين، و اطمئن قلبي و قلب أحمد بعد خروجنا من الزنزانة، تطورت الأحداث بعدها بإيقاع متسارع، يوماً تلو يوم، يظهر خيطاً جديداً ضدي او ضد أحمد، طُلب مننا عدم السفر الا بإذن، فأيقنت أنني تحت المراقبة.
    لم يكن أحمد قلقاً مثلي، لا أدري لماذا، ربما لطبيعة شخصيته، أو ربما تاريخه الناصع الا من صداقته بي.
    كان هادئاً حد الإستفزاز، حتى أيام السجن، كان مطمئناً، كأنه نزيل على فندق في رحلة استجمام، يأكل بشراهة، و ينام كثيراً، يتلو الأشعار مع القرآن، يدندن أحياناً بأغاني مختلفة، أحياناً يشاركني شرودي، فالسجن هو المكان الوحيد في العالم الذي يعلمك حُسن الشرود.
    عصفت بي الهواجس يوماً و قلت له و ظنوني نمر طائش يهاجم الفراغ:
    - كأنك لست متهم، تبدو كسجّان و ليس سجين.
    قال لي بيقين فشلت في معرفة مصدره:
    - لا أخشى مصيري، أقسى ما يمكن حدوثه هو الإعدام، جربت الحياة ولم تدهشني، و لم أجرب الموت.
    قلت له بقلب واجف:
    - لو لم تدهشك الحياة فلأنك لم تعرف ملذاتها، فلا معنى من تصور الموت و التشوّق لتجريبه، فالموت ليس نزهة في عالم القدر. الموت فعل غامض، غير جدير بالتجربة.
    قال أحمد بعمق، وهو ينظر لفراغ الزنزانة:
    - هل تدري ما هي أمنيتي؟
    قلت بشغف:
    - لا.
    قال كمن يسمع نداءً خفياً داخل صدره:
    - أن أقابل أحداً جرّب الموت، ليحكي لي عن مذاقه، كيف يبدو؟ كيف تنفصل النفس عن الجسد، و كيف تتبدّد الروح، و تتلاشى و تنعزل.
    قلت له و شعور بالموت يلف عنقي:
    - ما يعنيني هو الحياة، لا أود ان أموت.
    - و لكنها سنة الحياة، فلابد من الموت.
    - لا أود ان أموت الآن، لم أحقق أي أمنية في حياتي.
    - يمكنك تحقيق أمانيك في الآخرة.
    - أود تحقيق أمنيات الدنيا قبل الآخرة.
    - تبدو عاصياً.
    - تبدو حالماً.
    - علّم إبليسك معنى اليقين، يبدو أنه تمكّن منك؟
    - من هو إبليس؟ إبليس ليس كائناً منفصلاً، هو نفسي و نفسك، إبليس يسكن بداخل كل منا، لكل منا إبليسه المُمّيز، هو جزءً من تكويننا، شيطاناً مأفوناً، يبتهج لمعاصينا و يزمجر حين يصيبه الوهن.
    - لماذا انت خائف؟
    - لأنّ الموت مخيف، و لماذا أنت مطمئن؟
    - لأنني برئ.
    - أنا برئ أيضاً، السجن يخنقني، أشعر كأني أموت كل يوم، إحساس خانق، و مصير مُبهم، لا أدري كيف صار مصيرنا على هذا النحو؟
    - من اغتصب وفاء يا أمجد، و من قتلها؟
    على نحوٍ مباغت، فاجأني أحمد بترديد سؤال معلّقاً عليه مصيرنا المشترك، قلت له و الخوف من حبل المشنقة يزداد التفافاً حول عنقي:
    - لست أدري.
    ما أقسى السجون، ليلها كنهارها، عتمة، و ضجر، إكتئاب خانق، هواء رطب، طقس مُشبّع بالحزن، إحساس باللاجدوى، أن تكون بلا إرادة خلف قضبان بائس، هو الجلوس على هرم الموت المدبب. خرجنا من السجن، أنا و أحمد في نفس اليوم، بعد أن أمضينا شهرين متتاليين، شعرت حينها بمعنى الحرية، و الإنتصار، فالسجن هزيمة كبرى لا فكاك منها إلا بالخروج و عناق الحياة.
    ما أجمل الشوارع، كأنها ازدادت بهاءً و نضرة، ما أجمل الهواء، كأنه صار أكثر إنتعاشاً و نقاء، يشدّني الحنين إلى طاولة طعام صنعته يد أمي، و أود لو أركض نحو دارنا، أستحم، اتمدد على فناء الدار، أنام، ما يشاء لي النعاس، كم أشتهى الظمأ و الرواء، كم يداعبني الحنين أن أستلقي على وسادتي الوثيرة، استمتع بالقمر، بضياءه و خفوته، كم أشتاق لرؤية تيار كهربائي إنفصلت عنه ذرات النيون و عاد.
    بعد وصولنا الحي إنتزع أحمد خيالي قائلاً:
    - صارحني يا أمجد، أنا صديقك، و لست شرطياً، من إغتصب وفاء و قتلها؟
    قلت له و ضميري يتهتك:
    - نعم يا أحمد، أنا المجرم، إشتهيتها، و إغتصبتها، خفت أن يفتضح أمري، قتلتها، و أخفيت كل معالم الجريمة.
    بكى أحمد، و بكيت انا، هرولت هرباً منه و من نفسي، و لكن إلى أين؟ كما عبد آبق لا يجيد الهروب، فشلت في الهروب، هزمتني نفسي المُمّزقة، صار الكون أضيق من قُطر خرم إبرة، و أنا محض جملٍ يحاول الولوج من سِمْ الخيّاط، ما أتعسني، و ما أقبح جرمي، ليت الأرض تبتلعني و ينتهى عذابي.
    تمضي الأيام، و شعور دائم يلازمني بأنّ هناك أحداً يتبعني، كلما أرى شرطي أحس أنه في طريقه لإعتقالي، ما أسوأ ان تحس أنك هدفاً مطارد، ما أسوأ ان تشعر أنك تنجو من محاولات اعتقال فاشلة، الى محاولات محتملة، أنام و كل أحلامي ان أستيقظ و أنا على فراشي، ثمة اختناق يحدث لي عند النوم، كأنّ الليل تحوّل الى مخبر سري يتواطأ مع الشرطة ضدي، ليتني أموت و أرتاح.
    أعلنت أختي الصغرى زواجها، هبط عليها الحظ فجأة في هيئة عريس مفرط البدانة، يمشي كأنه يقتحم الهواء، يداه غليظتان، صدره واسع، عيناه صغيرة، حجبتهما كتلة لحم سالت من مكان مجهول، تجمّعت حولهما، فضاقت حدقتاها.
    كان أملس الوجه، كثير العرق، يتصبب عرقاً و لزوجة، يُشعرك أنه أكمل إستحمامه للتو، كثير الضحك، يفتعل الظُرف و المداعبة.
    قدمتني له أختي في أول تعارف:
    - أقدم لك مدثر.
    حاولت ان أضمه اليّ، منعتني حواجز من شحوم غير مؤكسدة تراكمت حول بطنه، و تكوّمت كحصنٍ منيع، قلت له مُمتعضاً:
    - مرحباً مدثر، انا أمجد، فرصة سعيدة.
    أشعل سيجارة، و قدم لي اخري، رفضتها بلطف، لسبب ما شعرت نحوه بعدم الارتياح، ربما ان يتقدم أحداً للزواج من أختك، فكرة تبدو و كأنها مخجلة، أو فيها تحدّي، شعرت كأنه يُعريها أمامي، و يغمس يديه في مفاتنها، هكذا شعرت لوهلة، و قلت له بغيظ:
    - حدثتني أحلام عنك، أين درست؟ و أين تعمل؟
    قال و هو يسحب نفساً عميقاً من سيجارته و ينفض غبارها بغير مبالاة:
    - درست في جامعة النيلين، كلية القانون، و أعمل وكيل نيابة في قسم شرطة الخرطوم.
    شعرت بالاضطراب، كأنّ رأسي بدأ في الدوران، قلت له متملقاً:
    - مرحباً بك، يُسعدني نسبك الكريم، ثم أستأذنت منه و انصرفت.
    خائف أنا حد الهلع، ظهور مدثر في حياتي يبعث على القلق ، صرت أتوقع اعتقالي مُجّددا تحت اي لحظة، ثم موتي معلّقا على مقصلة، بعد أن نجوت من الموت بإعجوبة، كيف اقتحم مدثر حياتي بهذا الشكل؟ كيف صار الكون حبلا يلتف حول عنقي، كيف تحوّلت حياتي الى مطاردة في شوارع العذاب.
    تذكّرت وفاء، كانت يانعة كما الغصن، تمتلئ عذوبة و رواء، أكثر ما ادهشني فيها نهديها، متماسكان كما ثمار مانجو ترفض القِطاف.
    اذكر جيدا ذلك اليوم، حين انقطع التيار الكهربائي، طرقت بابها و انا أمجّد الظلام، و ألعن الضياء، الظلام فرصتي، و ما أجمل اغتنام الفُرص، الآن أستطيع الاعتماد على القمر في هز ثمار المانجو، ماذا لو ادّعيت أنني أبحث عن شمعة أوقد بها شبقي الليليّ، طرقت بابها، و أنتظرت، سمعت خطواتها تمضي نحوي، تخلّت عن نصف خجلها، ساعدها الظلام حين فتحت نصف الباب و النصف الآخر غطت به نصف جسدها و إحتمت، ثم أطلت بوجهٍ كقمر الدجى، تنازل القمر عن موضعه حين نزل و اتكأ على خديها، كانت ترتدي جلباباً مفتوح الصدر، إختبأت خلفه ثمار المانجو، ساورتني رغبتي المجوسية في النظر لنهديها، رأيتهما، يتلألآن مع ضوء القمر، ليتها تنحني قليلاً حتى يكتمل البهاء.، قلت و صوتي المبحوح يفضح رغبتي:
    - مساء الخير يا وفاء.
    أبتسمت حين قالت:
    - مرحبا، أمجد،
    - ابحث عن شمعة أو فانوس.
    - لدينا بعض الشمع، انتظرني لحظة.
    مضت تاركة الباب موارب، تململ إبليس بداخلي، و صار يهتف بعنف، هي فرصتك الآن، الظلام نعمة تغطي شرورنا، لا تكن غبياً.
    ركلت الباب، تدافعت الرغبة و اشتعلت، امتطيت خيل عنادي المطيعة، و راهنت على الظلام، قبل وصولي إليها فاجأني الضياء، عاد التيار الكهربائي بغتةً، رأيتها تبتسم لي و هي تحمل شموعا بيد، و بيدها الأخرى شمعة مضاءة، شعْرتْ بالخجل لغياب ظلام كانت تتستر خلفه، منحتني الشموع و اختفت.
    خرجت سريعاً، نفخت خيبتي انفاساً كتمت ضوء الشمعة فإنهار ضياءها ثم اندثر. طبطب إبليس على ظهري مواسياً، و وعدني بجولة أخرى في معارك شهوتي المستبدة.
    كان ذاك اليوم، يوم زواج فتحي، و كعادة الحي في الزواج، يحتشد الشباب في باص يستقلونه للذهاب لحضور المناسبات، كان الزواج في قرية العروس، إرتديت أجمل ما عندي، و تعطّرت، و ركبت الباص، كان مزدحماً، نساء و رجال و أطفال، كبار السن جلسوا على المقاعد الشحيحة، و قوفاً كانت الفتيات و الفتيان، تبعثر الأطفال في كل مكان، صراخهم يعلو، يشاكس الموسيقى، لمحتها في منتصف الباص، متكئة على أنغام الموسيقى، ترتدي فستانا بلون الكاكاو، تركت ضفائرها تترنح على صوت الموسيقى المنبعثة، قابضة بيدها على مقبض بلاستيكي يتدلي من سقف الباص، تركت جسدها يتمايل من نشوة الغناء، أطل وجه إبليس من شُرفة الشبق، كأفعى تتجه لفريستها، زحفت نحوها ببطء، شيئاً فشيئا وجدت نفسي التصق بها، حاولتْ الاعتراض، منعها التكدس و الازدحام، استسلمت للقدر، كانت تتمايل مع الغناء، صار الباص أكثر ازدحاماً، و صرت أكثر إلتصاقاً، يا للروعة، انبعثت روائح النشوة، صار كتفي بكتفها، و يدي حول خصرها، و ثمار المانجو على بعد مليميتر، و أنفاسها تلفح وجهي، و يرتفع منسوب الشبق، شهيقها زفيري، و زفيرها شهيقي، وكان سحر الإلتحام.
    سار الباص يتهادى بطيئاً، حمولته أكثر من طاقته، كل شاب يبحث عن فرصة التصاق مجانية بفتاة، تلعثم خجلها حين إنحنى الباص و وجدتها تنكب على وجهي، احتويتها سريعا كقناص، قبّلتها خلسة، دون صوت، جعلت شفتاي تلامس قمر خدها، و تسلقت سطح القمر، لم يكن بمقدورها الرفض، هنا وسط الزحام تخور طاقة الرفض، هنا تحتدم معارك النشوة الخفية، الكل يُشهر سلاح الرغبة و يحتمي بالزحام، تخطي الباص المنحنى، صار يسير دونما تعرجات، نظرت إليها و همست لها.
    - ليت الطريق أكثر تعرّجاً و أنحناء.
    قالت بهمس، و الخجل يذوب من شفتيها:
    - أرجوك، دعني و شأني، عمي يجلس في المقدمة.
    قلت كمن يعاتب القدر:
    - لا ذنب لي، إنه الانحناء، تباً للطرقات.
    و إبتسمنا سوياً، الالتصاق صار شأننا المشترك، كلما حاولت الابتعاد، صارت اكثر ليونة و عذوبة، أحيانا يصير الابتعاد أكثر التحاما بعد ارتداده اللذيذ، هكذا احتشدت جيوش الرغبة داخلي، و انتصر قائدها إبليس.
    يوما تلو يوم اتصيد وفاء، لم تكن تكترث لي، لو صادفتها في الطريق تشيح بوجهها عني، و تدّعي الشرود، نادراً ما تبتسم لي، صارت الرغبة تزداد و تشتعل، نخرت الرغبة عظام الصبر و تهاوت حصون المقاومة، و جلس إبليس على جزوع نخل صبري الخاوية، يُدلدِل قدميه و يحك ذقنه و ينفث دخان الرغبة.
    مع إطلالة عيد الأضحى، ككل عام، يخرج شباب الحي للاحتفال، نفس الباص المألوف يحملنا للحدائق الليلية، بنفس ازدحامه المعهود، مقاعد الرجال احتلتهتن النسوة و الفتيات، تكدّسنا نحن الشباب وقوفاً، تنازلنا طواعية لهن، فشلت في الالتصاق بوفاء، تيقنت أن الحظ يبتسم مرة واحدة فقط، لكن إبليس لديه رأي مخالف، فطفق ينسج فرصة أخرى في طريق العودة.
    انقضت الرحلة، و تهادى الباص في طريق عودته، الغناء لغة الجميع، ماعدا أنا و صديقي إبليس، حاول أحمد ان يشاركني حديثا لم اكترث له، ظل طوال الطريق يثرثر بجدوى السفر، و رغبته في الوصول الى بر أمان خارج حدود الوطن، و كنت مشغولاً بإبليس، عاكفاً معه على وضع خطته اللعينة، نظرت إلى وفاء، كانت قطعة من القمر، هلالاً جذب ضياء الكون نحوه و عانق البهاء، تركتْ خصلة تتدلى على صدرها، فإزدادت رقةً و أنوثة، الغنج سحرها، و الدلال يرتسم على محياها الجميل، و نهداها تمردا تحت فستانها الضيق، يحاولا الخروج.
    أنا و أحمد و وفاء، نسكن في نفس الشارع، و مع وصولنا للحي، بدأ وحش الرغبة يزمجر داخلي بشدة، صار يرفسني رفسا، الهياج لي، لم أعد أحتمل، نزلنا أنا و وفاء أمام دار حاج الطيب، مضى أحمد لداره، و مضى الباص هادئاً يتهادى، نبح كلب لئيم ضدنا، فزعت وفاء، تعمّدت إثارة الكلب بحركة خفية، جرى نحونا، وهجم، إلتقطتُ يداها و سحبتها و هي تصرخ صراخاً خفيفاً، يا لرقتها، تفزع من كلبٍ ضال يحاول عضّها و تحتمي بذئب ينوي إلتهامها، تصاعدت أنفاسها و هي تعدو ، خزلها حذائها فتنازلت عنه، إلتقطه أنا، و احتويتها من الخلف، قلت لها لاهثاً، لا تخشي الكلب، أنا له، إطمئنت و لجأت لأمانٍ مزعوم، كان الشارع خالياً، الواحدة بعد منتصف الليل، باب بيت مهجور أمامي، وضعت يدي على فمها و دفعتها داخل البيت المهجور، حاولت الصراخ، انتزعت خمارها من كتفها و كممّتها، حالفني الحظ حين طرحتها أرضا، وجدت حبلاً قيّدت به يديها و قدميها، صارت لي تماماً، عيناها تومض بالخوف و الرعب، انفاسها تتلاحق بشدة، نبضات قلبها تتسابق بعنف، نزعت عنها كل ما يسترها، كانت تقاوم، ضربتها بحذاءها على رأسها ، فتفجر ينبوع الدم، خارت قواها، و همدت قليلاً، و على ضوء القمر إنتشيت، تفجّرت دماء عذريتها، و إبليس يبتسم حيناً و يضحك، كلما حاول ضميري الاستيقاظ، لكمه إبليس بقرنه المدبب مقهقهاً، صرت أنا و إبليس كتلة واحدة، و وفاء تفرفر بقدميها المُقيدة، و تحاول النجاة مني، وصلت لذروة النشوة، نظرت لعينيها، كانت تستغيث، دموعها إمتزجت بالألم، و أنا مُمدّد على أرض معركتي الخاسرة، انتصرت عليها، و وقفت مهزوماً أمام ضميري، أين إبليس؟، ترك ضميري وحيداً و غادر، تركني أواجه عذابي و عذاب وفاء.
    حاولت وفاء الاستناد على جرحها لتنهض، نظرت نحوها، داهمني إحساس غامض بالخوف، ماذا لو اعترفت ضدي، كيف انجو حينها، عاد إبليس مجددا يلحتف رداءً أسود اللون، اختفى حينا ليضع سيناريو النهاية، ضحك لي و همس بخطة الموت، رفعتُ حذاءها و بكعبه المدبب انهلت على رأسها حتى تفجّرت الدماء، إنتفضت وفاء و إرتعشت، فلت قيدها و حاولت النهوض، طارت دماءها على عيني، مسحتها بخمارها، فلتت منها صرخة كبيرة، ضربتها بكعب حذاءها ضربة في منتصف رأسها، خارت تماماً، لملمتُ ملابسها المنزوعة، و حاولت سريعاً محو آثاري من جسدها و هربت.
    أخفيت الثياب و الحذاء، في مكان آمن، و عدت لداري، و إغتسلت، ثم خرجت إلى الناس مستفسراً عما حدث.
    تقارير الشرطة أثبتت أن بصمات جبريل على كل مكان في جسد وفاء، محاولاته لإنقاذها طمست معالم جريمتي، التحقيق إنتهى و لا يزال البحث عن الجاني مستمراً، نجوت من حبل المشنقة بإعجوبة، و فشلت من النجاة من عذاب ضميري، صرت نحيلاً و فقدت شهيتي للأكل، أصحو أحياناً من النوم و أجهش بالبكاء، أنا في الثلاثين من عمري الآن، و لا أستطيع السير ليلاً في الطرقات وحدي، كل الشوارع أضحت ازقة يرقص فيها إبليس مع كلب ضال ينبح في وجهي، كل البيوت صارت صدئة الأبواب في ناظري، كل خمار أراه يذّكرني بخمار وفاء، احس به يخنقني، كل الأعياد صارت مأتماً بداخلي، نهشني العذاب فصرت مسخاً مشوّهاً، لم أعد أبالي بشئ، فكل الأشياء في نظري سواء، ان احلق ذقني أو اطلقها عندي سواء، ان أصلي أو أترك الصلاة، الأمر عندي سيّان، تركت الصيام، و هجرت المساجد، هجرت أحمد و جميع أصدقائي، تزوجت أحلام بمدثر، و صرت خالاً لإبنها يزيد، مدثر الآن شخصية مرموقة، زارنا الأسبوع الماضي، تحدث معي عن حالي البائس، أدعيت المرض. أنا الآن لا أصلح لشئ، لم أعد بمقدوري الحديث للناس، عاجز لساني عن الحديث، لا أستطيع النهوض من فراشي، هدّني المرض، صرت أتمنى الموت، أين ملك الموت؟ ، لماذا تأخر عني؟، هل نساني،؟ أين انت يا إبليس، تعال هنا، أجلس على حافة ضميري، و أرسم لي خطة الإنتحار.
    المعز عبد المتعال سر الختم
    14 سبتمبر، 2017
    نيو بريتن، ولاية كونيتيكت، الولايات المتحدة الأمريكية

    (عدل بواسطة المعز عبدالمتعال on 09-17-2017, 03:40 AM)

                  

العنوان الكاتب Date
إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال سر الختم المعز عبدالمتعال09-15-17, 04:41 AM
  Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال09-17-17, 03:44 AM
  Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال09-17-17, 03:44 AM
    Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال09-17-17, 04:42 PM
      Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال Dahab Telbo09-17-17, 05:08 PM
        Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال09-17-17, 08:47 PM
          Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال09-19-17, 05:11 PM
            Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال09-21-17, 11:37 PM
              Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال09-28-17, 06:45 PM
                Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال عمر التاج09-28-17, 08:26 PM
                  Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال09-29-17, 02:22 PM
                    Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال سيف اليزل عبدالحليل09-29-17, 07:56 PM
                      Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال09-30-17, 01:56 AM
                        Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال10-01-17, 02:56 PM
                        Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال10-01-17, 03:51 PM
                          Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال10-10-17, 03:33 AM
                            Re: إبليس، قصة قصيرة، تأليف المعز عبد المتعال المعز عبدالمتعال10-15-17, 03:46 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de