|
Re: كميونة الدراويش (Re: ودقاسم)
|
وفي صباح اليوم التالي بدأت الشاحنات تنزل الطوب والأسمنت والحديد في الزاوية الجنوبية الغربية من بيت أمي . كميات كبيرة من مواد البناء ، وعدد كبير من العمال ، وجموع من المتطوعين والذاكرين والمتطفلين ، كلهم جاءوا لحضور الاحتفال بوضع حجر الأساس للقبة التي ستضم رفاة أبي، ثم تتسع من بعد لتدفن فيها أمي، ويتبعها ابنها الخليفة . هكذا خططت أمي، ووافقها أبرهة، ونقل إلي فكرتها في نقل رفاة أبي من مقبرته التي دفن فيها لنواريه هنا داخل قبة ضخمة تقام داخل حدود بيت أمي ، مقاما طيبا يضم جسدا طاهرا، ومن ثم تصبح مزارا لكل القاصدين والمريدين. ومن قال أننا سنفارق الدنيا بهذا التوالي الذي حدده أبي وصدقته أمي، وهاهي الآن تضع له خطته فتحدد من سيموت قبل من ، وأين ستتم مواراة جثمانه، وتفترض صلاحه وطهارته، وتطلق على الموقع كله هذا الكم من القداسة، ثم تفرضه على الناس مزارا . كان أبرهة، وهو يحدثني عن رؤيا أمي في المنام، يبدو مصدقا لهذا الحديث بكل تفاصيله، ينقله إلي بجدية ليقنعني بصحة ما رأته أمي في حلمها ذااك. لم ترده نظرات الاستخفاف التي صدرت مني، ولا يبدو أن هناك أملا في تراجعه عما يراه دعما للفقراء، فهو الآن ينظر للمشروع أنه ينمو ويكبر ، وأنه سيلبي حاجة أعداد إضافية من المحتاجين . يستمر أبرهة في نفس جديته في مواجهة ذهولي ، كمن ينقل خبرا أتاه من السماء ، فيقول أن أبي زار أمي في المنام ، فجلسا متواجهين على مسافة قريبة، وخاطبها كزوجة لا كمطلقة ، فتوجست منه خيفة ، وبكت بحرقة حتى سُمعت عبرتها . ثم أمرها أمرها أن ترسل من يأتيها برفاته ، لتقوم بدفنها هنا في الطرف الجنوبي الغربي من البيت حيث كانت تقوم غرفته. وقال لها أنها ستكون أول من يلحق به ، وأن ابنها الخليفة سيأتي بعدها ، وأنه يترك لهم أمر اختيار الخليفة الثاني ومن يليه ، يختارونه من أصلح وأتقى أبناء الأسرة من ذريته ، فإن انقطعت ذريته تنتقل الخلافة لأبناء أمي من أزواجها الآخرين أو أحفادهم . وكما حكى أبرهة فإن أمي قالت له أنها ألجمت في جلستها مع أبي، فظلت صامتة لم تنطق بكلمة في مواجهة أبي وأوامره ، كانت تستمع إليه فقط ، لكنها قررت فور انقطاع الحلم أنها لن تتوانى ولن تتردد في تنفيذ التوجيهات التي صدرت إليها من الرجل الصالح . يكاد عقلي ينفجر، أكاد أطلق ساقي للريح وأهرب إلى ما لاحدود، فلا قدرة لي على استيعاب هرطقات أمي وأبرهة، ولا قدرة لي على مواجهتهما بالحقيقة، أو نفي ما أجمعا عليه ، أو إنكاره . وبدا لي أن أمي استمرأت صمتي وبدأت تتدرج في مشروعها، وتنقله من مرحلة إلى مرحلة ، وأنا أنظر إليه كوليد شيطاني ينمو ويكبر تحت رعايتي. كانت أمي تبدأ كل مرحلة بمفاجأة لا نستطيع لها صدّا ، ولا نعلم كيف نواجهها أو ندفع عن أنفسنا شرورها. وظلّ أبرهة يقول نعم لكل باطل تأتي به أمي حتى بدا لي أنه سيقول لها إنني آمنت بك نبية. وأنا الضحية التي يقوم عليها المشروع كله ، وقد دخلت في صراع نفسي داخلي بسبب انتهازية أبرهة، فقد عرفته من قبل مقتنعا بالثورة التي تنتصر للفقراء، لكن أن تأتي هذه الثورة عبر بعض التصرفات الانتهازية فهذا أمر لا يقنعني. ثم أن الفقراء الذين تصرف عليهم أمي ويحتضنهم أبرهة داخل بيتنا لم يكونوا يعملون شيئا ولا يبذلون جهدا، ولم يكونوا مستغلين اقتصاديا ، بل كانوا مستلبين اجتماعيا ودينيا لصالح مشروع أمي الذي جذب تبرعات الأغنياء حد الترف تحت ستار ديني كثيف وهي تمنحهم نصيبا طيبا من عائدات المشروع . لم أعد أنظر لهؤلاء الفقراء نظرتي القديمة ، بل أراهم الآن منعمين يتقلبون في النعمة أكلا وشربا ولباسا ، وأرى كل حاجاتهم تقضى لهم دون أدنى تعب . وكلهم ينظرون إلي أنني الرمز الذي لا يصل إليه الشك ، وأنني الشيخ المبارك الصالح الخارق للعادة ، والذي أكرمه الله بكل هذا . لكن من المؤكد أن أمي وأبرهة يعلمان حقيقة الأمر ، ويخططان - كل على حدة - لاستكمال المشروع، وكل واحد منهما يستهدف ثمره . وكنت أقول في نفسي أن نهاية المشروع قريبة ، لكن من الواضح أنه يتمدد كليلي ذاك يوم نادتني أمي إلى بيتها ، فأتيتها ككبش الأضحية ، يهيأ له مكان بالبيت ، ويحتفى به ، ويعلف ويسقى ، ثم يساق إلى حتفه في يوم فرحة الناس بالعيد. كانت أمي فرحة غاية الفرح باكتمال بناء القبة التي حوت رفاة أبي، وزغردت بنفسها وتبعتها النساء بالزغاريد، يوم نقل إليها الرفاة المزعوم . لم أر أمي من قبل في مثل هذه الفرحة ، كانت ممتلئة بالسعادة والهمة كبنت عشرين في يوم زفافها. احتضنت القبر ، واختلط الفرح بالنحيب، وشمّر ضاربي النوبة، فأنّت نوبتهم ورنّت ، وارفضّت هديرا ثم جنّت. وحملت سلوى البخور تطوف به حول القبر تنثر دخانه فوق رؤوس الحاضرين، فيستنشقونه، ويستعذبون عطره ، فتمتليء رئاتهم بالبركات والنفع بالجاه ، كما يهيأ لهم، فيبرأ مريضهم ، ويشبع جائعهم ، وتغشى السكينة قلوب الخائفين منهم. أطلقوا الكذبة بأنفسهم، ثم صدقوها، وجاءوا يطلبون ثمارها. ولما سألت أبرهة هل تمكنوا فعلا من تحديد قبر أبي ؟ ردّ بكل بساطة: وهل هناك فرق بين رفاة الأموات يا صديقي ؟ سألنا الناس تكرارا ، فقابلوا سؤالنا بالدهشة واللامبالاة ، لكن عجوزا منهم دلنا على قبر من وسط القبور ، ففتحناه وأخرجنا الرفاة ولم يعترض أحد ، فجئنا بها إلى هنا. ثم أضاف ضاحكا : تسخير يا خليفة، تسخير ، وكله من بركاتك، ولو نقلنا رفاة كل الأموات لما اعترض أحد من سكان القرية ، فنحن نترك لهم مساحة يوارون فيها ميتا آخر ، وكلهم انتهازيون يا صديقي.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
كميونة الدراويش | ودقاسم | 12-30-15, 12:48 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 12-31-15, 12:20 PM |
Re: كميونة الدراويش | جورج بنيوتي | 12-31-15, 02:13 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-01-16, 05:57 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-03-16, 07:03 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-05-16, 08:42 AM |
Re: كميونة الدراويش | ابو جهينة | 01-05-16, 11:08 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-06-16, 01:07 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-10-16, 01:57 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-07-16, 10:33 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-06-16, 01:26 PM |
Re: كميونة الدراويش | doma | 01-10-16, 03:20 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-11-16, 06:31 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-12-16, 01:18 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-13-16, 08:46 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-18-16, 08:22 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-20-16, 01:46 PM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 01-22-16, 07:59 AM |
Re: كميونة الدراويش | ودقاسم | 04-04-16, 07:40 PM |
|
|
|