عادل القصاص والحصه تاريخ//محمد خلف الله عبدالله.......

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-16-2024, 11:01 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-22-2016, 00:49 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    شرق الدَّلنج (امسودان)؛ غرب النِّيل (أُمدرمان)؛ أسفل النَّهر، صوب الصَّعيد (أسوان)

    2. غرب النيل (أ)

    الأخ كبَّر والأخ منصور قلنا في متنِ "الرِّسالة" إنه بينما كان الأستاذ جمال محمد أحمد يمزِجُ بين الرِّوايةِ والتَّاريخ، مُستهدِياً برأيِّ فيكو (غيامباتيستا فيكو)، كان شبابُ الكُتَّابِ ينشدون فكاكاً منه، بتبنِّيهم بنيويةً مرَّةً ثم تفكيكاً، فيحفرون عميقاً في تربةِ الثَّقافة، مستهدين بفوكو (ميشيل فوكو)؛ إلَّا أن أولَ رئيسٍ لاتِّحاد الكُتَّاب السُّودانيين كان له أيضاً حفرياتُه في جسدِ اللُّغةِ العربيةِ السُّودانية، فأوجد لها وشائجَ بالفصحى، مما أكسَبَ لغتَه نكهةً جماليَّةً لا تُخطئُها العين؛ ولكن إذا أرَدنا أن نتعرَّفَ على منطقة غرب النِّيل بسردِ مآثرِها منذُ ساعةِ "حفرِ البحر"، فإن العينَ وحدَها لا تكفي؛ فثمَّة فارقٌ واضحٌ بين الجغرافيا والتَّاريخ، مثلما أن هناك فرقاً جليَّاً بين مسحِ الأراضي وعلمِ الآثار.

    على امتدادِ الأفق، تتجاورُ المظاهرُ الجغرافية ذاتِ السِّماتِ البارزة؛ فهنا حقلٌ، وهناك واد؛ وهنا نهرٌ، وهناك تل؛ وبالطَّبع، هناك غابةٌ، وهنا صحراءُ، كما أدرك رهطٌ من شعراءِ السِّتينات. إلا أنه عند الحفرِ عميقاً، قد تتجاورُ كلُّ تلك الموجودات داخل حيِّزٍ جغرافيٍّ، أو بالأحرى موقعٍ آركيولوجيٍّ واحد، مثلما أدرك جون إشتاينبيك في رواية "شرقيِّ عدن"، التي طلبنا من معشرِ السُّودانيينَ، ساكني وادي ساليناس وخليج مونتري بكاليفورنيا، مراجعتها أو إعادة قراءتها معنا؛ فقد ذَكَرَ الرِّوائيُّ الأمريكي، الحائزُ على جائزة نوبل للآداب في عام 1962، أن والدَه حَفَرَ ذات يومٍ بئراً على بُعدِ 50 ميلاً أسفل وادي ساليناس؛ فبَعدُ التُّربةِ السَّطحيةِ مباشرةً، جاء الحصى، ثم رمالُ بحرٍ بيضاءَ ملأى بالأصداف وقِطَعٍ من عظامِ الحوت؛ ثم قطعةٌ من الصَّنوبرِ الأحمر، في أعقابِ رمالٍ وتربةٍ سوداء؛ فقبلُ مجئِ البحرِ إلى بطنِ الوادي، لا بدَّ أن المنطقة كانت تزدانُ بغابةٍ صنوبريةٍ زاهية.

    لا نُريدُ الحديثَ في هذه المشاركة عن كلِّ المناطقِ الواقعةِ غرب النِّيل، وإنما تخيَّرنا من بينها تُحفةً أثرية، وهي منطقة أمدرمان وضواحيها؛ وهي البقعةُ التي تُحيطُ بها قبائلُ الجمُّوعيَّة كما يُحيطُ السُّوارُ بالمِعصَم، عِلماً بأنهم ينتشرون في منطقة شرق النِّيل وغربها، على حدٍّ سَواء؛ كما أن ذلك السُّوارَ (أو القوسَ لذوي الذِّهنِ الرِّياضيِّ) يتَّسعُ بعضَ الاتِّساع، فيشملُ المنطقة بأسرِها من جبل أولياء إلى السَّقاي؛ أو يضيقُ قليلاً، فيشملُ المنطقة من الفتيحاب والشِّقلة إلى الشِّيخ الطَّيِّب، طيَّب اللهُ ثراه (وشُكراً لخالتي فوزية محمود سليمان كركساوي، التي أنقذتني باكِراً من موتٍ محقَّق، حينما حَبَوتُ خِلسةً نحو شَفَا هاويةٍ سحيقةٍ جنوبيِّ جبل الشِّيخ الطَّيِّب، في غفلةٍ عن أمِّي، التي تجمَّدت من الرُّعب عندما أدركت هولَ الموقف؛ إلا أن خالتي، التي حباها اللهُ بعقلٍ يقظ وفطرةٍ سليمة، مشت نحوي بِجَنَانٍ ثابت، وبُطءِ فهدٍ يتحيَّنُ الانقضاضَ على فريسته، فحارَ نِسوةٌ يَفتَرِشنَ سَجَّادَةً عَجَمِيَّةً على مقربةٍ من الهاوية ماذا يفعلن وقد أعجَمَ الخوفُ ألسنتهنَ، فإذا هي تخطِفُني، وتنتشِلُني بغتةً -قُبيلَ انزلاقٍ وشيكٍ- من براثنِ الموت)؛ فظلَّتْ أُمِّي طيلةَ حياتِها تعزو أُعجوبةَ هذه النَّجاةِ إلى نفحةٍ مباركةٍ، قادِمةً من ضريحِ شيخٍ عابدٍ أسفلَ الجبل.

    تمتدُّ منطقة الجمُّوعيَّة شمالاً حتى حجر العسل؛ وفيما وراؤها، تترامى منطقة حضارتي مروي وكرمة، وآثار جبل البركل والكرو عند منحنى النهر قرب كريمة؛ إلا أننا نُريدُ التَّوقُّفَ قليلاً عند حضارة الشِّهيناب، وآثارها الواقعة بين كرري والسُّروراب. ففي نهايةِ السَّبعينات، تحرَّكَت بنا عربةُ لاندروفرَ شهباءُ، تابعةً لشُعبةِ الآثار بجامعة الخرطوم، نحو رَوَابٍ واقعةً شمال مدينة أمدرمان القديمة، التي كانت تُحَدُّ -قبل تداخلِها مع ضواحيها- بِخَورِ عُمَر. لم أكُن طالباً بالشُّعبة، إذ كُنتُ مُقيَّداً بقسمِ الفلسفة، ولكنَّ صديقي وزميلي عبَّاس أحمد الشِّيخ كان يُدركُ وَلَعِيَ بالتَّاريخِ القديم وتداخلِ الأجناسِ البشريةِ والأدبية، إضافةً إلى قناعتِه بأهميةِ تداخُلِ العملِ الذِّهنيِّ واليدوي، حيث لا ينفصلُ في نظرِه علمُ الآثارِ عن علمِ المِساحة، ناهيك عن انفصالِه عن الأنثروبولوجيا أو فنِّ التَّصوير؛ فأصرَّ على أن أصحبَه في رحلةِ تنقيبٍ ضمن حضارة الشِّهيناب. وعند موافقتي، استأذَن عبَّاسٌ رئيسَ الشُّعبة؛ وعندما جاءت موافقته، صَحِبتُه برِفقةِ أحمد أبي القاسم ونَفَرٍ من طلاب الفصول المتأخِّرة.

    وكانت دهشتي لا حدودَ لها، عندما توقَّفَتْ بنا العربةُ الشَّهباء عند بابِ جَدِّي بابكر عبد القادر بالجزيرة إسلانج. لم أكُن أعرَفُ أن هذا هو مُقامُهُمُ الدَّائم في رِحلاتِهُمُ المتكرِّرة للمنطقة؛ وما كنتُ أدركُ أنَّهم يَعرَفونَ أبناءَ جَدِّي بابكر: حسن والصَّادق والبُشرى وبشير؛ أو أنَّهم على صِلَةٍ حميمةٍ بأبناءِ الصَّادق: محمد والمكي؛ بل أكثر من ذلك إنَّهم يَعرَفونَ خالاتي: سعاد، ونفيسة وحليمة وليلى وسعدية. وبسرعةٍ فائقة لم أكن أتوقَّعها، تشابكَ انتمائي للأُسرةِ الجامعية مع انتمائي للأُسرةِ الحقيقية، وتداخلَ حُبِّي للمؤسَّسةِ الجامعية التي علَّمتني التَّفكيرَ الموضوعي، مع حُبِّيَ الحقيقيِّ للمؤسَّسةِ الأُسَرية التي ظلَّت تقِفُ معي في السَّراءِ والضَّراء، وتُسنِدُ ظهريَ في المُلِمَّاتِ، ظالماً كنتُ أو مظلوماً. فاهتديتُ مُبكِّراً إلى طريقٍ ذهبيٍّ لا يُضحِّي بالأُسرةِ من أجل موضوعيَّةٍ مُتوهَّمة، كما لا يَعصِفُ بالتَّفكيرِ السَّليمِ تزلُّفاً لرغباتٍ أُسَرِيَّةٍ جامحة. والأُسرةُ الكبيرةُ المُمتدة، بالتَّوازي مع هذا الوطنِ المُمتدِّ، تحتاجُ إلى هذا الحبِّ الجارف، بقدرِما تحتاجُ إلى عقلانيَّةٍ راشِدة. ومن هنا جاء اختيارُنا للإطارِ السَّرديِّ الذي يَسمَحُ بفضحٍ مؤلمٍ للحقائق، فيما يعتملُ القلبُ بحبٍّ جارفٍ لساكني هذا الوادي الطَّيِّب؛ ومن هنا كان ذلك اللَّمعانُ الذَّهبيُّ الفاتر لمقبضِ سكينٍ مغروسةً في صدرِ جِيدٍ سكسوني، فيما كان برايان (في إشارةٍ إلى برايان هيكوك، أستاذ التَّاريخ القديم بكلية الآداب) يَهتِفُ من أحشاءِ "الرَّابيةِ الشَّمالية": "ما أحزنَ هذا الأمرَ؛ أصدقائي، ما أحزنَ هذه الأمر" (من قصَّةٍ قصيرة، كُتِبَتْ في أعقابِ تلك الرِّحلة، ونُشرت لي بمجلَّةِ "المحتوى" -التي كان يُشرِفُ عليها الصَّديقُ القاص بشرى الفاضل بخيت- تحت عنوان: "مُخلَّفاتُ الرَّابيةِ الشَّمالية").

    تقعُ الرَّوابي التي قصدها فريقُ التَّنقيب داخل منطقةٍ مُحاطة بالأسلاك الشَّائكة؛ فهي منطقةٌ تابعة لمصلحةِ الآثار، ولا يتمُّ العملُ بداخلِها إلَّا بإذنٍ منها، وهو ما تحرصُ الشُّعبة على استصدارِه قبل بدءِ التَّنقيب. يقوم الفريقُ أولاً بتصويرِ المنطقة، ومسحِ الرَّابية المُراد العمل بها، توطئةً لبدءِ الحفر. وعند بدئه، يتمُّ استخدامُ الأدواتِ الغليظة، مثل المِجرفة والمِعزقة والمِعول؛ وفي مرحلةٍ تالية، يبدأ استخدام الأدوات المتوسطة، مثل المِطرقة و’المِسطرين‘؛ وعندما يلوحُ مع الحفرِ المتَّصل بوادرُ مُكتشفٍ ما، يبدأُ العملُ بالأدواتِ النَّاعمة، مثل فرش الرَّسم بأنواعها وأحجامها المختلفة؛ وذلك حتى يُضمنَ استخراج الموجوداتِ سالمةً من غير عيب.

    وهنا لا بُدَّ من إعطاءِ فكرةٍ مبسَّطة عن ذرَّة الكربون، حتى يُمكِنَ لنا معرفة تحديد عمر المُكتشفات الأثرية. فهي مثل أيِّ ذرَّة من الذرَّات المُشكِّلة للجدول الدَّوري للعناصر مكوَّنةٌ من نواةٍ بها عددٌ من البروتونات والنِّيوترونات، ويدور حولها عددٌ من الإلكترونات مساوٍ لعدد البروتونات؛ وبناءً على ذلك العدد، يتحدَّد الرَّقم الذَّري للعنصر، وليس وزنه الذَّري. على سبيل المثال، الرَّقم الذَّري للهايدروجين هو ١؛ والهيليوم ٢؛ أمَّا الكربون، فرقمه ٦. إلَّا أن عدد النِّيوترونات داخل النَّواة يُمكن أن يزيد قليلاً عن عدد البروتونات، فيُشكِّل بذلك نظيراً أو آيسوتوباً لذلك العنصر.

    عليه، فإن خصائص الكربون تتحدَّد وفقاً لبنيته (أي طريقة تشكُّل واصطفاف ذرَّاته، وتُعرف اصطلاحياً بالتآصُل) أو وفقاً لتركيبه (أي عدد النيوترونات المشكِّلة لآيسوتوباته). فمن اصطفافٍ محدَّد، يصبح الكربونُ ماساً (ألماظاً)؛ ومن اصطفافٍ آخر، يُصبحُ فحماً نباتياً أو غرافيتاً يُصنعُ منه أقلام الرُّصاص. ومن عدد نيوتروناته، يصبح الكربونُ آيسوتوباً ذا خصائصَ محدَّدةٍ، ويُعرَّفُ الآيسوتوبُ برقمه؛ فهناك، على سبيل المثال، كاربون-١٢، وكاربون-١٣، وهي نظائرُ (أي آيسوتوباتٌ) مستقِرَّة؛ وهناك كاربون-١٤، وهو نظيرٌ مشعٌّ وغيرُ مستقِر؛ ويتكوَّن بتفاعل الأشعة الكونية مع غاز النيتروجين داخل الغلاف الجوي؛ وبما أن عملية اضمحلاله النَّووي تؤدِّي إلى انخفاض كميته إلى النِّصف كلَّ ٥٧٣٠ عاماً، فإنه يُستخدم لتحديد عمر المُكتشفات الأثرية.

    لا نمضي مع السَّيِّد يحي عبد الله المك، في كلمةٍ موسوعيَّةٍ ضافية ألقاها في حفلِ وداعِ المستشار بالسَّفارة السَّودانية بالرياض السَّيِّد جلال الشِّيخ الطَّيِّب، بالقول إن منطقة الجمُّوعيَّة الممتدة على شريط النِّيل الغربي هي "من أوائل البُقعِ التي ظهر فيها ابنُ آدمَ"، ولكننا نَقِرُّ معه بأنَّها من الرَّاجِحِ -خصوصاً منطقة الشِّهيناب- قد "عُتِّقت بسَبقٍ [ما لِـ] النَّشاطِ البشري"؛ فقد وُجدت فيها صناعةُ الفَخَّار وأدواتُ الصَّيدِ الحجرية، مثلما وُجدت إلى الشَّمالِ منها في مروي صناعةُ الحديد. فنحنُ إذاً في خضمِ منطقةٍ حضارية، نشأ في أحضانها الأستاذ السيِّد محمد شريف، حفيدُ الشَّيخ أحمد الطَّيِّب بن البشير، الذي نشر الطَّريقة السَّمانية في السُّودان؛ وهو الحفيدُ الذي تلقَّى الإمامُ محمد أحمد المهدي على يديه قدراً من العِلم. فكيف تفاعلتِ الفوتوناتُ المُتسرِّبةُ "في أخراجِ التِّجار، وحقائب الدُّعاة والمسافرين"، وتلاقحتْ مع الحضاراتِ الوطنية القديمة؟ قد لا نستطيعُ وحدُنا الإجابةَ على هذا السُّؤال، لكنَّ الإطارَ السَّردِيَّ الذي اقترحناه ربما يُسهِمُ عند مرورِنا عبر بلادِ المريس في إضاءةِ بعضٍ من عَتَمَتِه.

    إلَّا أننا الآن قد هبطنا -بتداعٍ تسبَّبت فيه مشاركةُ كبَّر- هبوطاً اضطرارياً في شريط النِّيل الغربي، مما يستوجبُ زيارةَ البُقعةِ التي اختارها الإمامُ المهديُّ عاصمةً لدعوتِه. ومثلما تحدَّثنا في تمهيدِنا لمشاركة "شرق الدَّلنج" عن أبناءِ المهديِّ عبر مسيرةِ الأدبِ العربيِّ في (امسودان)، فإننا سنتحدَّثُ في حلقةٍ مُكمِّلة لمشاركة "غرب النِّيل" عن أحفادِ المهديِّ الحقيقيين في (أُمدرمان)، وأحواشٍ للميرغنيِّ على الطَّريق الذي ينتهي عند ’صينية‘ الأزهري، وثلاثةِ أحواشٍ شهيرةٍ على نهرِ النِّيل؛ وسنتحدَّثُ –سيداتي، آنساتي، سادتي- عن "مدينةٍ من تراب"، وعن طريقٍ كان يخترقه ’التُّرام‘؛ وعن حيِّ المسالمة وفريق المريخ، وعن حي العرب وفريق الهلال؛ وعن بيتٍ بالقرب من نادي "الزَّهرة"؛ وسنتحدَّث عن أبي روفَ والهاشماب، وعن ندوة "الفتيحاب"، وجماعة "تجاوز"، ومنتدى "الجندول"؛ فإلى لقاءٍ في حلقةٍ مكمِّلة، قُبيلَ الرُّجوعِ أسفلَ النَّهرِ، صوبَ الصَّعيد (أسوان).



    محمد خلف


                  

06-02-2016, 10:40 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    على خُطى عمدة لندن السَّابق، وليس عمدتها المُسلم الحالي

    في مساءِ كلِّ خميسٍ بعدَ آخرَ تقريباً، كنَّا أنا وصديقي عادل القصَّاص نذهبُ في صُحبةِ الصَّديق المُشترك محمد عبَّاس محمد نور لقضاءِ العطلة الأسبوعية بمنزله الكائن بحي بيت المال القديم؛ ولأنه هو الحيُّ الذي نشأتُ وترعرعتُ في كَنَفِه إبان صباي الباكر، فقد كنتُ أمشي معهما في أزقَّتِه الضَّيِّقة، من محطَّة عبدالله خليل، وعلى طولِ شارع السَّيِّد علي، وعبر طرقٍ جانبيةٍ ملتوية إلى منزلٍ قديم، بالقرب من سوق الشَّجرة، فينتابُني بغتةً إحساسٌ بدنوِّ ارتفاعِ الأمكنة وانكماشِ أبعادِها الرَّاسخة في الذَّاكرة منذ نعومةِ خلاياها العصبية، وكأنني غاليفرُ أفريقيٌّ أو عملاقٌ في بلدٍ تقزَّمَ سُكَّانُه فجأةً تحت وطأةِ العابرين المُسرِعين.

    وكنتُ دائماً ما أستغربُ من جرَّاءِ التَّغييراتِ المُدهِشة التي تطرأ على سلوكِ زملائي بكلية الآداب، الذين يختارون تعلُّم اللُّغةِ الفرنسية؛ فبعدَ قضاءِ عطلةٍ صيفيةٍ في فرنسا (بمدينة بيزانسو أو غرينوبل على وجه التَّحديد) لدراسةِ لغتها ذاتِ الوقعِ الحَسَنِ على آذانِ غيرِ النَّاطقين بها، سرعان ما يتبدَّلُ سلوكُهم نحو الأرقى، والأجمل، والأكثر لباقةً وتهذيباً، وذلك في غضونِ فترةٍ لا تتعدَّى عشرة أسابيع؛ فماذا بحقِّ السَّماء يفعلُ أولئك المدرسون بهؤلاء الدَّارسين، وأيُّ سحرٍ معهم يستخدمون، عِلمَاً بأن كثيراً من زملائي بالجامعة قد تعثَّرَ زمناً في تلقِّيه للُّغةِ الإنجليزية، التي سعى البعضُ في طِلابِها قرابة العشرةِ أعوام.

    لم نكن نعبأُ كثيراً بإيجادِ إجابةٍ شافية على ذلك السُّؤال، بقدرِ ما كنَّا نسرحُ ونمرحُ أنا وصديقي عمر علي فتيحابي بانتهاكنا لخزانة الأقمصة الزَّاهية التي يوفِّرها لنا حمدان إبراهيم العاقب بمحبَّةٍ وبقليلٍ من الغضب، علاوةً على استمتاعنا بحكاوٍ لا نملُّ سماعها منه عن بيزانسو، إضافةً إلى استماعنا واستمتاعنا بالأغاني الفرنسية التي تمَّ تسجيلها على شرائط كاسيت، اكتظَّت بها حقيبتُه وخزانةُ ملابسِه المُحتشِدة بشتَّى ألوان التَّقليعات الفرنسية؛ ولم يكن وحدَه في حرفة تكديس المقتنيات الباريسية، ولكنه كان نسيجَ وحدِه في كرمه وسخائه، وإغداقه على مَنْ حوله من غير حساب؛ وهو القادمُ من ود عشانا، كما نوَّهنا على ذلك في حديثنا عن داخلية أربعات، والأكثرُ معرفةً بغِبطةِ اقتسامِ عشاءِ الفقراء.

    وكنَّا نجدُ عند محمد عبَّاس، الذي يُقيمُ في ذلك البيت اللَّطيف في الحيِّ الأمدرمانيِّ العتيق، بصحبة عصام الخوَّاض، ما يُقيمُ الأودَ، ويُنعشُ الرُّوحَ، وما يُعزِّزُ أقوالاً باهرةً قد استمعنا إليها من قبلُ من أفواهِ حمدانَ وحسن علي عيسى وآخرين من مُبتعثي شعبة اللُّغة الفرنسية إلى بيزانسو وغرينوبل؛ إلا أن محمد عباس، الذي التقيتُ به في زيارةٍ لاحقة للندن لصديقنا المُشترك الرِّوائي الرَّصين محمد سليمان الشَّاذلي، قد اشتكى مُرَّ الشَّكوى من إجحافِ سوقِ العمل وسوءِ أوضاع المهاجرين، حيث رأى بأمِّ عينيه فرقاً هائلاً بين المجهوداتِ التي بُذلت في جامعةِ بلادِه لإعدادِ الدَّارسين، والاجتهاداتِ التي حُظي بها استقبالُهم كمهاجرينَ حالمينَ بحياةٍ هانئةٍ على ضفافِ نهرِ السِّين الشَّهير.

    وهذا ما يقودنا إلى الحديث مباشرةً عن شخصية محمد عبَّاس في رواية "تسليم" (أو "استسلام"، في إشارةٍ للدَّلالة الحرفية لكلمة "إسلام")؛ فهو بخلافِ صديقنا محمد عبَّاس، شقيقِ الشَّاعر عالم عبَّاس محمد نور، الذي استنرنا برأيه في ندوة العلَّامة عبدالله الطَّيِّب، لم يكن من المهاجرين الجُدد إلى فرنسا، وليس لديه ما يشكو منه بصددِ شظفِ العيش وسوءِ المعاملة، بل كان من الجيلِ الثَّاني من المهاجرين، مما أكسب شخصيته مرونةً وقدرةً فائقةً على التَّأثير في كافَّة قطاعات الشَّعب الفرنسي، حسب المنطق السَّردي المُقنِع للرِّواية، التي كتبها الرِّوائيُّ الفرنسي المثيرُ للجدل ميشيل ويلبِك (كُتبت الكلمة وفقاً لطريقة نطق الاسم الفرنسي باللُّغة الإنجليزية).

    تُعتبرُ الرِّوايةُ في حدِّ ذاتها جيِّدة السَّبك، وتستجيبُ إلى حدٍّ كبير لشروطِ السَّردِ المقبولة عالمياً، من حيث بناءِ شخصياتها، وتتابعِ أحداثها، وتناسقِ مواقفها، واتِّساقِ منطقِها الدَّاخلي، ورشاقةِ لغتها، وحداثةِ تراكيبها؛ إلَّا أنَّها، مع ذلك، محتشدةٌ بالمواقف المثيرة للضَّجر، والإيحاءاتِ العدمية، والعباراتِ التًّجديفية، والممارساتِ الجنسية الفاضحة؛ وكلُّ ذلك على خلفية التَّحذير من صعود الإسلام في أوروبا، مما يعزِّز حالة الذُّعر والخوف من الإسلام، علاوةً على تدنيسِ معتقداتِه بتناولها جنباً لجنب مع الأفعالِ التي تُخالفُ تعاليمَه بزاويةٍ لا تقلُّ بأيِّ حالٍ عن ١٨٠ درجة.

    تدورُ أحداث الرِّواية في عام ٢٠٢٢، أي بعد سبعةِ أعوامٍ من تاريخ صدورها، مما يُعزِّزُ الخوفَ من وقوعِ خطرٍ وشيك، وهو صعودُ الإسلاميين إلى سُدَّة الحكم في فرنسا، هذا إضافةً إلى ازديادِ المخاوف من أنْ تحذو دولٌ أوروبية أخرى حذوَ فرنسا. ففي استطلاعاتِ الرَّأيِّ الأخيرة قُبيل الانتخاباتِ التي جرت في ذلك العام، كان حزبُ مارين لوبان في المقدِّمة بنسبة ٣٤٪‏، تلاه بفارقٍ كبير كلٌّ من الاشتراكيين (22٪‏) والإخوان المسلمين (21٪‏). وفي الجولةِ الأولى من الانتخابات، استطاع الإخوان المسلمون بطريقةٍ ما زحزحة الاشتراكيين، حيث‏ فازوا بالمقعد الثَّاني، الذي يؤهِّلهم خوض الانتخابات النِّهائية ضد اليمين المتطرف، المتمثِّل في حزب الجبهة الوطنية، الذي تقوده لوبان.

    لم يكنِ الاشتراكيون يرغبون في فوزِ اليمين المتطرف، بل كانوا يسعون بكلِّ ما يملكون من قوةٍ انتخابية لزحزحته عن كرسي الحكم. وما سهَّل عليهم الأمرَ بعضَ التَّسهيل أن محمد عبَّاس الذي يتزعم حزب الإخوان المسلمين، الذي برز لتوِّه من البونليو (ضواحي المدن)، معتدلٌ في مواقفه، وراغبٌ في إجراءِ تنازلاتٍ كبيرة للاشتراكيين، بما فيها الدِّفاع والمالية والخارجية، إلَّا أنه مُصِرٌّ بأن لا يتزحزح لهم قيد أنملة عن التَّعليم. وفي اتِّفاقٍ سلس مع الاشتراكيين، صعد الإخوان المسلمون إلى كرسي الرِّئاسة الفرنسية. وبسرعةٍ فائقة بسط الإخوانُ نفوذَهم على الجامعات، وفرضوا الزَّي الإسلامي على الطَّالبات، ومُنع تداولُ الخمور، وتمَّ فصلُ الأساتذة، وتعيينُ مُوالينَ، أُغدقت عليهم أموالٌ طائلة، قادمةً من السِّعودية، وتزويجُهم لعددٍ من النِّساء الحرائر. ومن ضمن مَنْ طالتهم هذه الإجراءات من أساتذة السُّوربون فرانسوا، بطل الرِّواية البالغ من العمر 44 عاماً، حيث تمَّ فصلُه، إلا أنه قد تمَّ استدعاؤه لاحقاً، بعد قبولِه عبر وساطةٍ حاذقة بالشُّروط الجديدة التي فرضها الإخوان.

    ومن غرائبِ الصُّدف، أن ما لفتني إلى هذه الرِّواية المثيرة للجدل هو عمدة لندن السَّابق بوريس جونسون، الذي كتب مقالاً بصحيفة "الدِّيلي تلجراف" في يوم 3 يناير 2016، ندَّد فيه بالرِّواية التي تُعزِّز الذُّعرَ من الإسلام، وأشار فيه إلى أهمية إقامةِ فارقٍ ضروريٍّ بين قلَّةٍ من المتطرفين الإسلاميين، والدِّيانةِ الإسلامية التي يعتنقها أكثرُ من بليون شخصٍ على نطاقِ العالمِ أجمع. وقال جونسون إننا لا نحتاجُ إلى اختراعِ سيناريو غير مرجَّحٍ يَحدُثُ بعد ستةِ أعوامٍ في فرنسا لنرى ما يؤولُ إليه الحالُ في البلاد بعد تسلُّم الإسلاميين مقاليد الحكم، إذ إنَّ كل ما نحتاجُ إليه هو السَّفرُ إلى غرناطة، لمشاهدةِ الإرث الرَّائع الذي خلَّفه حكمُ المسلمين لإقليمٍ أوروبي، بدءاً من أوائل القرن الثَّامن وحتى نهاية القرن الخامس عشر.


    عُدتُ في بداية هذا الأسبوع من رحلةٍ شاحذةٍ للفكر، وممتعةٍ في ذاتِ الوقت، إلى كلٍّ من مالاغا، وغرناطة وقرطبة بإقليم الأندلس (أندلسيا) بجنوب إسبانيا؛ وسنقوم معاً بعونِ الله في حلقةٍ قادمة بجولةٍ مُستفيضة -على خُطى عمدة لندن السَّابق- عبر أروقة الحمراء، التي تشمل قصر الحمراء وقلعتها الشَّهيرة في غرناطة، إضافةً إلى زيارةٍ لاحقة إلى المسجد الأموي الجامع في قرطبة الذي تحوَّل بمشيئةِ قادرٍ إلى كاتدرائية سانتا ماريا بدءاً من عام 1146.


    محمد خلف

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 06-02-2016, 11:19 PM)

                  

06-08-2016, 11:50 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    روعة التناول وعمق المحتوى وقدرة الرواة على الحبك والسبك وبث الرسائل الهادفه
    والعظات الواجبه وقول الواقع بمعياريه تقديريه تحث المتلقى للتهيؤ لما يلى.

    شكرا خلف

    منصور



                  

06-09-2016, 06:16 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    العزيز محمد خلف لك ألف سلام ودعاء فى هذا الموسم الروحانى العرفانى الملهم فالصوم والقيام من أسس ودعائم الفتح الربانى الكبير فقد تثنى إلىّ ثانية معاودة سفرك عن غرب النيل وأهل البرش فى رمضان ناس ود جنقل يقولون عودوا طعامكم تعودوا الجنه وذلك دفعا للناس بعد صلاة المغرب وما أحيلى الآبرى وقتذاك وسحاب الثلج على سطحه الهادئ يتسرب ذلك المذاق الفريد والبلايل فريكاً ولوبه من ذلك الوادى الذى تحتضنه تلك الهضبه المكنوزه بالعجائب من أثار السلف وأهلنا حينما يرغبون فى الردة للأصل الفارع المتجذر يقولون بأننا عنجٌ من عنج وكيف لا وتلك أرضهم أرض الحضارة والمجد فكما ذكرت مبتدئاً لجمال محمد خالط التاريخ بالأدب فى سرده بلغةٍ تمور بلهجات أثرتها لغة الخلف وأختلفت عن لغات الغير فمن يغالطنى فاليأتنى بمن يعرف معنى كديسه أوكوديك أو سباليق وكاويق فحتماَ لا يستطع وجمال نزاعٌ للجميل من ذاك وفصيح العرب أما أحمد أبوالقاسم خفيف الصمم فقد عملت وأترابى معه بالكروة لحفر تلك الآثار بأقل من شلن فى اليوم ومعه البروف حاكم والبروف على عثمان محمد صالح ودكتور عبدالرحيم الخبير ودكتور أنور ودكتور إنتصار صغيرون وكثرٌ غيرهم كالمرحوم جمال بدر وهاديه إدريس ومنازل الهندى وأحياناَ كان يزورهم السلطان على بحرالدين على دينار. نعم هى حاضرة الجموعيه شمال وقلبها النابض ومسيدها الضجاج بالذكر والوجاج بنيران القرآن وحلق النوبات والإنشاد والصيحه، نعم أقام أهلك بذات الربع فى إسلانج ونميزهم بالدناقله علما بأنهم خنادقة بديريه جاءوا فى ذات زمان مجئ المهدى وذهب البعض الآخر منهم للبقعة بعد المهديه فكان الكركساويه ببيت المال وكذا الخنادقه، ونرى إن شحذت فيك تلك الهضبة نفس القص وبذلته للناس فذاك دوما يمها وخراج أهلها من ذلك مبذول للناس أدباً ومعرفةً وعلم ولأنها عين حضارة راسخه فقد كانت مكانا للتركية وللدواليب من بعد علوة وما قبلها حتى أصبحت اليوم قلب السودان أجمع وقبلته الجامعه بإحسان لأطياف أهله بالتساوى بلا منٍ ولا أذىً فيا عزيز أصعد وأهبط فأنت سالم فيها كما سلمت من أذى من على الجبل الذى يطل على النهر فدوماَ هى كذلك ولأمثالك الأوفياء الذين خبروا قدرها من جوانب عده ستبقى دوماً وأبداَ كذلك ولك الشكر أجزله ولك السلام.


    منصور

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 06-09-2016, 06:27 AM)
    (عدل بواسطة munswor almophtah on 06-09-2016, 06:27 AM)

                  

06-11-2016, 02:11 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    على خُطى عمدة لندن السَّابق، وليس عمدتها المُسلم الحالي -

    الحلقة الثَّانية-

    سافرتُ الأسبوعَ الماضي بصحبةِ الأسرة إلى قرطبة، ولم يصحبنا هذه المرَّة ابننا محجوبٌ لارتباطه بالعمل، إلا أن محجوباً آخرَ قد سبقنا إليها منذ عهدٍ بعيد (فشُكراً لصديقي مسعود محمد علي على تنبيهي لزيارة محمد أحمد محجوب للمدينة الأندلسية الشَّهيرة، التي كان من نتاجها قصيدته المعروفة: "الفردوس المفقود"، في إشارةٍ إلى 'ضياع' الأندلس، وتفلُّتِه من أيدي المسلمين، إضافةً إلى تشبيهه لضياعه بسقوط القدس في العصر الحديث، ووقوعها تحت قبضة الدولة اليهودية الحديدية). وربما يكون هذا التَّركيز الدَّائم من قبل الشُّعراء العرب على الجانب السياسي، الذي يستدعي مخاطبة المشاعر القومية المتدفقة، على حساب غيرها من القيم المحتبسة في الأغوار، هو واحدٌ من الأسباب القوية التي تدفعني دفعاً إلى المناداة بتنحية الشَّاعر، وإحلال النَّحوي محلَّه، باعتباره بديلاً إستراتيجياً ورائداً معرفياً أكثر ملائمةً لقيادة مسيرة الحداثة في منطقتنا.

    لا نلومُ المحجوبَ كلَّ اللَّوم، فرؤيةُ مسجدٍ في قرطبة يُحالُ إلى محفلٍ كنسي، يُثير أسًى في القلب، وغُصَّةً في الحلق، هذا إنْ لم يُرسلْ دمعةً حرَّى إلى العين؛ إلَّا أنه بدلاً من تعليَّةِ الحاجب وتقطيبِ الجبين، فإن من الممكن استقطاب المُوجِبِ في قرطبة؛ ولا يتأتَّى ذلك إلا بسبيلين: نبشُ الماضي وفحصُ ما تبقَّى في الحاضر من آثار، ومقارنةُ ما حدثَ في قرطبةَ بما يجري الآن في غرناطة (فلأجلِ ذلك، قد جئنا إليها، سائرينَ على خُطى عمدة لندن السَّابق، وليس الحالي يا بابكر أخي؛ فاتِّباعُه لا يُفيدُ كثيراً، لأنه سيكونُ بمثابةِ عِظةٍ لمُهتدينَ أصلاً؛ ولكنها جاءت على خُطى مَنْ لم نكن نتوقَّع منه مردوداً إيجابياً، لمحافظته ويمينيته، علاوةً على قيادته لحملةِ الخروجِ من الاتِّحادِ الأوروبي، الذي من شأنِه أن يُحدِثَ أثراً سلبياً على المهاجرين).

    كما لا نُشدِّدُ اللَّومَ على المحجوب، لاستعانته بصنوه أبي الوليد ("أبا الوليدِ أعِنِّي ضاع تالدُنا")، المعروف بابن زيدون، الذي اشتُهر بولعه بولَّادة بنت المُستكفي، لكننا نستدعي أبا الوليدِ الآخرَ، المعروف بابن رشد، ونستنجدُ بِمَنْ يُعيننا عليه، فالتُّراث التَّليد الذي خلَّفه قاضي القضاةِ قي قرطبة، لا يكفي عقلٌ واحد لاستكناهِ جوانبه أو الإلمامِ بكلِّ أقطاره. ولأن أبا الوليدِ الآخرَ كان مثل رأسِ الدَّبوس (وشكراً للمهندس أحمد الفكي، الضَّليع في شئون الحاسوب، على تزويدي بهذا التَّعبير المُدهِش، الذي ربما ارتبط لديه بإعادة تشغيل الأجهزة الإلكترونية؛ وشكراً لتغريداته على الهاتف، عِلماً بأننا كنَّا نلقِّبه بأحمد عصفور) الذي اخترق غشاء العقل الأوروبي، ولقَّحه بجيناتِ الفكر الإسلامي الجديد، فمكَّنه من فكِّ مغاليق التُّراث الإغريفي العريق وإعادة تشغيله على أفضلِ وجه. وعندما نُشيرُ إلى الدَّبوس، فإننا لا نحتفي برأسِه فقط، وإنْ كان وحده رائداً في هذا الشَّأن، وإنما نُشيرُ أيضاً، وفي ذاتِ الوقت، إلى بقية الجسم المعدني، الذي لولاه ما كان للرَّأسِ قدرةٌ على الاختراق؛ وهو اختصاراً ذلك المتنُ الفلسفيُّ العربي، الذي يبدأ بمؤلَّفات الكندي والفارابي وابن سينا في المشرق العربي، ومؤلَّفات ابن باجة وابن طفيل وابن رشد نفسِه في مغربِه.

    لم يضِعِ التُّراثُ الإسلاميُّ في قرطبةَ تماماً، حتى يشتدُّ بكاؤنا عليه؛ فلا زال الصَّرحُ الإسلاميُّ العتيق في الحاضرة الأندلسية الشَّهيرة، يُشارُ إليه بـ"ميثكيتا" (يُقلبُ حرفُ الزَّاي المجهور ثاءاً مهموسةً في لهجاتِ الإسبان)، وتعني المسجد باللُّغةِ الإسبانية (كما توجد بلديةٌ باسم "لا ميثكيتا" في منطقة غاليسيا بشمال غرب إسبانيا)؛ واسمُه المُشار إليه رسمياً في الوريقات التَّعريفية هو "مسجد-كاتدرائية قرطبة"؛ وما زالتِ الآياتُ القرآنية تُغطِّي جانباً من الجدران الدَّاخلية، وإنْ تعرَّضت أعمدتُه للمَحوِ المتعمَّد؛ فمن ناحيةٍ معمارية، ينتمي المبنى إلى الفنِّ الإسلامي، بتميُّزه بالخطِّ والزَّخرَفةِ العربية والمُنمنمات وديكورات الجدران، هذا إضافةً إلى الأقواسِ المزدوجة المُرتكزة على أعمدةٍ رُخامية متقاربة؛ أمَّا من ناحيةٍ إعمارية، فمن المتعذَّر بمكان، إنْ لم يكن من المستحيل، أن يعمُرَه مُصَلُّونَ مسلمون، فقد تمَّ تحويلُ ما بين الأعمدةِ التي تتوسَّط المسجد إلى كاتدرائيةٍ كاثوليكية، شُرِعَ في تكريسِها بدءاً من عام 1146؛ وبصورةٍ قاطعة، حسب ما جاء في كُتيبٍ تعريفي، في عام 1236. وعلى ضوءِ ذلك التَّكريس، يُمكننا أن نفهمَ قول المحجوب ونتعاطفَ مع رِثائيته الشَّهيرة ("ولا المساجدُ يسعى في مآذنها مع العشيِّاتِ صوتُ الله رَيَّانا" – هل وصلت ابنتُك "ريَّانُ" يا مسعودُ، لتقضي معك طرفاً من رمضانَ في فرجينيا؟).

    هذا ما كان في شأنِ السَّبيل الأول، وهو نبشُ الماضي وتأمُّلُ آثارِ الحاضر؛ وإذا كان السَّبيلُ الأولُ في مجمله تعاقبياً (دياكرونياً)، فإن السَّبيل الثَّاني في جوهره تزامنياً (سنكرونياً)، إذ إنه يختصُّ بما يجري الآن في غرناطة، على خلفية ما حدث في قرطبة، التي أثارت شجون المحجوب، فأهدانا قصيدته الرَّائعة "الفردوس المفقود"، التي تستجيبُ بشكلٍ كلاسيكي لواحدٍ من أغراض الشِّعر المعروفة، وهو الرِّثاء. فكلُّ ما يمَسُّ حياةَ النَّاسِ العاديين في غرناطة، يدورُ اليومَ بصورةٍ أو بأخرى حول الحمراء؛ وهو مجمَّعٌ معماريٌّ ضخم، شِيدَ على سفح جبل الثَّلج الأندلسي (سلسلة "سييرا نيفادا" الإسبانية)؛ ويحتوي المجمَّع على قصر الحمراء، وقلعة الحمراء الشَّهيرة، وجنَّة العَريف (جنراليف، بالإسبانية؛ وينبغي ألا تُخلط مع عبارة "جنرال لايف" الإنجليزية، التي تعني الحياة العامة؛ وجنراليف، أو خنرليفي بلهجة أهلها، كانت مُكرَّسةً للحياة الخاصة للأمراء المسلمين في غرناطة، فهي لهم بمثابةِ قصرٍ صيفي، مكتظٍّ بالحدائق الغنَّاء، التي يستخدمونها كمنتجعٍ ومنتزهٍ للرَّاحةِ والاستجمام؛ بل إن أحد الأمراء استخدمها مكاناً للالتقاء السِّري بعشيقته، بعيداً عن زوجاته الأربعة، ونيفٍ وعشرين محظيَّةً من محظيَّاتِه، اللائي يقمن في قصر الحمراء الشَّتوي).

    لا يمكن رؤية مجمَّع الحمراء من فرطِ ضخامته، إلا من شُرفةِ المراقبة (ميرادور) بكنيسة القديس نقولا (نيكولاس)، التي تقع في حي البيازين (أو ألبيثين، حسبما يُنطقُ الاسمُ باللَّهجة المحلية) الشَّهير، الذي يحتفظ إلى الآن بطابَعِه الإسلاميِّ القديم؛ وهو مَحَلُّ حفاوةٍ من قبل السِّياح الذين يتقاطرون عليه لرؤية الحمراء من جانبه، كما هو أيضاً مَحَلُّ تقديرٍ من قبل منظمة اليونسكو التي اعتبرته موقعاً تديره ضمن برنامجها الخاص بمواقع التُّراث الدُّولي (إلى جانب خنرليفي وقلعة الحمراء)، إضافةً إلى أنه مَحَطٌّ لاهتمامِ الرِّوائيين، حيث وصفه الرِّوائيُّ اللَّبناني أمين معلوف في روايةٍ له باللُّغة الفرنسية، تمَّت ترجمتها تحت عنوان "ليون الأفريقي"؛ هذا علاوةً على أن الحيَّ نفسَه كان موقعاً روائياً من المواقع الأربعة للرِّواية (غرناطة، فاس، القاهرة، وروما)، ومسقطاً لرأسِ بطلِها الرَّئيسي حسن بن محمد الوزَّان، المُلقَّب بـ"ليون الأفريقي". ولا يُعدُّ أمراً مستغرباً أن يُعجبَ زوَّارُ غرناطة الذين يُحسبون بالملايين سنوياً بمعمار الحمراء البهي، بإضاءته الطَّبيعية الباهرة، وبحدائقه الغنَّاء، وأشجاره الباسقة، وأزهاره العطرة، ونوافيره التي يصلُها الماء المتدفق من جبل الثَّلج، وأحواضه التى تُسقى عبر جداولَ طبيعيةٍ وقنواتٍ صناعية متفرِّعة عنها؛ ولا عجبَ أن ينبهِرَ الزُّوارُ برَدهاتِ القصرِ الواسعة، وسقوفه المزخرفة، وخزفه المُنمنم؛ أو أن يستغرِبَ معظمُهم من كثرةِ الآياتِ المنقوشة على الجدران، ولا سيما "لا غالبَ إلا الله" التي صارت شعاراً للقائد العربي، حاكم غرناطة في ذلك الزَّمان، محمد بن نصر، الملقَّب بالأحمر. كما لن يتعجَّبَ أحدُنا من بعدِ ذلك كثيراً من قولِ عمدة لندن السَّابق، بأنْ ليس لأوروبا ما تخشاه من حُكمٍ غيرِ مرجَّحٍ للمسلمين، إذا كان ما سيخلِّفونه من تراثٍ هو في روعةِ الحمراء وبهائها الآسرِ للألباب.

    قدِمَ جونسون إلى غرناطة مُشبَّعاً بأجواءِ وإيحاءاتِ رواية "تسليم"، إلا أنه حرَصَ مع ذلك على إكمال قراءة الرِّواية التي كتبها الرِّوائي الفرنسي المثير للجدل، ميشيل ويلبك، قبل أن يهبِطَ من طائرة "إيزي جيت" التي أقلَّته إلى المدينة الأندلسية العتيقة، وذلك حتى يُديرَ لها ظهرَه، ويضعَ تأثيراتِها السَّلبية خلفَه تماماً؛ وقد حَرَصنا، من جانبنا، أن نسيرَ على خُطى عمدة لندن، فبدأنا تصفُّحَ الرِّواية على متنِ طائرة "لوفتهانزا"؛ ولأن السَّفرية لم تكن مباشِرةً، فقد أخذتنا إلى مطار فرانكفورت، مما اضطرنا إلى أن نركضَ عبر صالاتِ التَّرانزيت حتى نلحقَ بالطَّائرة التي ستقلُّنا إلى مالاغا؛ إلا أننا لم ننسَ مع ضيقِ الوقت أن نتذكَّرَ رهطاً من المفكِّرين الألمان الذين تركناهم رَدَحَاً على مقاعد الانتظار. خلاصة الأمر، أنني لم أستطِع إكمالَ قراءةِ الرِّواية إلا بعد يومٍ من عودتنا إلى لندن؛ ولكنني نجوتُ من تأثيراتِها السَّلبية بإعمالِ الخيالِ المُضاد، وبما أحتفظُ به في قرارةِ نفسي من تحيُّزاتٍ تعصمني من الوقوع في الأحابيل الرِّوائية التي صنعها الكاتبُ باقتدارٍ شديد. ومع ذلك، فقد تركتُ له حبلاً طويلاً ليُقنِعَني بحُجَّتِه، إلا أنني توصَّلت في نهاية المطاف إلى ما توصَّل إليه عمدة لندن السَّابق، بوريس جونسون.

    اعتمد الكاتب على لعبة التَّصوُّرات المتضاربة لدى كلٍّ من المسلمين في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها والأوربيين على وجه العموم، والفرنسيين منهم على وجه الخصوص. فما يبدو لدى طرفٍ قريبَ المنال، يبدو لدى طرفٍ آخرَ بعيدَ المنال أو قريباً من المستحيل. والحيلة الأساسية التي اتَّبعها المؤلِّف، هي تصويرُ ما هو بعيدُ المنال وكأنَّه على مرمى حجرٍ أو هو أقربُ إلى التَّحقيق، لتغذيةِ الأوهام وتعزيزِ المخاوف من صعود الإسلام. وما يُستفادُ من درسِ الحمراء، هو أنْ ليس هناك ما يخشاه الفرنسيون أو تخشاه أوروبا من حُكمِ المسلمين (الذي يتمثَّلُ تمثيلاً رمزياً خافتاً في عمدة لندن المسلم الحالي)؛ ما يخشاه العالمُ أجمع –بالفعلِ- هو صعودُ التَّطرُّف، من أيِّ طرفٍ أتى، مسلمين كانوا أم مسيحيين أو يهودا؛ وما ينبغي تذكُّره من تاريخ الحمراء، أن المسلمين، إلى جانب اليهودِ كذلك، همُ الذين تمَّ طردُهم من غرناطةَ وإجلاؤهم من بلادِ الأندلس قاطبةً، بعد أن حكموا بلاداً تعايشَ فيها نوعاً من التَّعايشِ كافَّةُ الدِّيانات والثَّقافات، لمدَّةِ نحوِ ثمانيةِ قرون.

    ربما تكونُ هذه هي الحلقة الثَّانية والأخيرة، ما لم يطرأ هاتفٌ من صميمِ الرِّحلة، أو ينبعِجُ سياقٌ مناسب، أو يبدو أمامَ العينِ أمرٌ تفلَّتَ اليومَ من إسارِ الذَّاكرة.


    محمد خلف

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 06-11-2016, 05:29 AM)
    (عدل بواسطة munswor almophtah on 06-13-2016, 00:09 AM)

                  

06-11-2016, 08:53 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    الأخ خلف الحمد لله الذى سخر عمدة لندن ذلك لتُخْرِج لنا من صخر الأندلس بمبضع صاحب القانون وعارف أسرار أرسطو الوليد إبن رشد صوراً نرى عبرها حركة غزالة إبن طفيل ونستمع لموسيقى موشحات إبن زيدون وبنت المستكفى ونطالع فى وهجها خطاب الشرق للغرب ورد الغرب للشرق ونختم حينذاك تهافت الفلاسفه وتهافت التهافت وفى بالنا فن التوليد الذى جاء بالمحجوب فى غياب محجوب وجاء بريان المسعود حضورا مع الريان فى الفردوس المفقود للمحجوب كذلك والدهشة تلجمنا من دس الكتدرائية فى المسجد بقرطبة مكراَ وزوراً لا يخفى الحق ولا يطفئ أنواره وتمتشق الحمراء التى نحتها لنا بذات إزميل من نحتها فى زمانها لتبقى أسطورةَ من أساطير العصر الذى أبقى لنا فقه المغرب وفكره وفلسفاته وآدابه فماج إبن ماجه وأجاد إبن طفيل وأفاض إبن رشد والذى أشبه بقنال السويس وقناته التى جرى عبره بحر القديم فى بحر الحديث، فمن غيره فك شفرة أرسطو ووضع أساساَ للطب والفلك والفلسفه والقانون فيا لك يا أبو المحجوب، ودعنى أرفعها عنيةً لأنى أعنيك من محجوبٍ عن الناس رفع الحجاب لنا عن ذلك الفردوس المفقود لنرى ما صوره المحجوب لنا لنسافر مع ذلك العقد الظمآن ونحن أكثر ظمأَ منه الآن وأكثر واقعية فى النظر إليه من ما مضى عندما كانت تتملكنا المراهقه فى فصول درسها ومرسها بعاطفة جياشه يلهبها أساتذتنا الدكتور المعز الدسوقى والأستاذ جعفر سعد وننزغم ونندغم فى كل الفصول والأنهر لكى نستمتع بالإصتنات إليها ثانية وثالثة وإلى ما لا نهايه، شكرا خلف فقد أعدت الأمل من غرناطه بعد أن تأسينا عليه فى قرطبه والشكر لك والسلام.


    منصور

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 06-11-2016, 08:55 PM)
    (عدل بواسطة munswor almophtah on 06-11-2016, 08:56 PM)
    (عدل بواسطة munswor almophtah on 06-11-2016, 08:59 PM)

                  

06-26-2016, 10:40 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)





    لندن بين عُمدتين ومملكةٌ مُتَّحدةً بالاسم إلى حين إشعارٍ آخر

    قُبيلَ استفتاءِ الخميسِ (الأسودِ بحَسَبِ معسكرٍ والأبيضِ بحَسَبِ آخر)، قال لي ابني محجوب: "علينا أن نبحثَ عن بلدٍ ثان، إذا فازَ معسكرُ 'الخروج' من الاتِّحاد الأوروبي"؛ وبُعيدَ فوزِه، أرسلتْ لي ابنتي ماريا رسالة واتساب من تايلند تُحِثُّنا على الرَّحيلِ إلى برلين؛ ومن فرجينيا، أرسلَ لي مسعودٌ رسالةً أخرى مستفسراً فيها عن "شعوري" إزاء نتيجة الاستفتاء، بعد أنْ قال لي إن خروج 'المملكة المُتَّحدة' من الاتِّحاد الأوروبي قد "شَطَرَه" (أي حزَّ في نفسِه وأعياه أمرُه على مستوًى أنطولوجيٍّ عميق، بحسب تفسيري لعبارته المكثَّفة، التي اعتَدناها منه في مواقفَ شَّبيهة من غيرِ أنْ تكونَ مُطابِقةً).

    لا أُريدُ أن أبدأ بمشاطرةِ المهزومين تأسُّفَهم على تبدُّدِ حُلمٍ إلى هباء أو التَّحسُّرِ على وضعٍ مثاليٍّ ضاع سُدًى، بلِ الأوجبُ أن نبدأ بتهنئةِ المُنتصِرين على فوزِهمُ المؤكَّدِ بفارقِ ما يربو على مليون ومئتي ألف صوت، وإنْ كانتِ النِّسبةُ المئوية لا تتجاوزُ الاثنين بعد الخمسين؛ خصوصاً وأن فوزهم، على علَّاته، قد جاء تعبيراً عن إحساسٍ صادقٍ بانتصارِ الكُتَلِ الشَّعبية المُقصاةِ من اتِّخاذِ القرار على النُّخبِ التي تتحكَّمُ في اتِّخاذِه؛ هذا لا يعني أنهم كانوا بمَنجاةٍ في خياراتهم الفردية من التَّغريرِ بهم من قبل قلَّةٍ مُهرِّجة تستغلُّ غرائزَهمُ الفِطرِية، ولكن من نحنُ حتى نغمِطهم حقَّهم في فرحٍ زائف؟ كلُّ ما نستطيعُ تسجيلَه في مصاحبةِ هذه التَّهنئة الواجبة هو أن السماءَ في لندنَ في صباحِ الجمعة ٢٤ يونيو الموافق ١٩ رمضان (وشكراً لمنصور عبد الله المفتاح على دعواتِه التي تصلني كلَّ جمعةٍ بنفحةٍ من فضلِ هذا الشَّهرِ الكريم)، كانت صافيةً والطقسُ صَحوٌ، في أعقابِ ليلةٍ مُمطِرة وفيضاناتٍ جارِفة؛ وهي خلفيةٌ قد تساعدُ، ورُبَّما ساعدتْ بالفعل، بعضَنا على تأمُّلِ قوله تعالى "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"؛ (سورة "البقرة"، الآية رقم 216).

    وفي ذاتِ يوم ٢٤ يونيو (وهو يومُ المِهرجان، المقابل في العصرِ الحديث في إنجلترا لاحتفالاتِ غلاستونبري؛ التي تغنَّت فيها المُغنِّية الأمريكية بيونسيه العام الماضي، وأديل البريطانية يوم أمس لمدَّة ٩٠ دقيقة) من عام ١٤٩٣، وهو العامُ التَّالي لسقوط غرناطة، كان المسلمون في الأندلس حتى ذلك الوقت (وشكراً للرِّوائي اللُّبناني أمين معلوف الذي وفَّر لنا بعضاً من المعلوماتِ في كتاب غرناطة، وهو الجزءُ الأول من روايته الشَّهيرة "ليون الأفريقي") يحتفلونَ، بطوائفِهمُ المُختلِفة، جنباً إلى جنب مع ذوي الأديان الأخرى، بمناسبةٍ ترتبط في ظاهرها بالانقلاب الصَّيفي (وإنْ كانت في الأصلِ تعني الاعتدالَ الخريفي)، بينما يمور باطنُها بأُوارِ نارٍ وثنيةٍ قديمة. وربما يكون هذا التَّداخلُ الثَّقافي، الذي يتمُّ التَّعبيرُ عنه، في جانبٍ منه، بالتَّواصلِ بين الأديان وحريةِ الانتقالِ بينها، خاصَّةَ في أواخرِ أعوامِ حُكمِ المسلمينَ في الأندلس، هو الذي سهَّل مَهَمَّةِ تسليمِ مفاتيحِ غرناطةَ من غيرِ وقوعِ حربٍ داميةٍ بين فيردناند الثَّاني ملك قشتالة وإيزابيلا الأولى ملكة أراغون من جانب، والأمير محمد الثَّاني عشر، الشَّهير بأبي عبدالله أو "بوعبدل"، من جانبٍ آخر.

    وفي لندن، هذه المدينة الشَّهيرة دولياً بتداخلِها الثَّقافي، انتقلت مفاتيحُ المدينة فيها بسهولةٍ ويُسر من عُمدةٍ سابقٍ، تتبَّعنا خُطاهُ إلى غرناطةَ، إلى عُمدةٍ مُسلِمٍ حاليٍّ يقبِضُ الآن بعُرى التَّماسُكِ بكلتا يديه، في بلدٍ بدأتْ تعصِف به، من جرَّاء تبعاتِ الخروجِ من الاتِّحادِ الأوروبي، رياحَ التَّغييرِ من كلِّ حَدَبٍ وصَوب؛ وهي وضعيةٌ يُمكِنُ لخيالٍ سرديٍّ جامح، مثلما هو الحالُ لدى الرِّوائيِّ الفرنسيِّ ميشيل ويلبيك، أن يستغلَّها في توظيفٍ آيديولوجي غيرِ أخلاقي. إلا أنه من ناحيةٍ واقعية، فإن عُمدة لندن السَّابق، بوريس جونسون، لحُسنِ الطَّالعِ، هو الذي يقود مسيرة الخروجِ من الاتِّحادِ الأوروبي، وليس مايكل فاراج، ذلك السِّياسيُّ الذي صِيغ، لسوءِ الطَّالعِ، على شاكِلَةِ دونالد ترامب. صحيحٌ أن عُمدة لندن السَّابق قد عُرِفَ بالتَّهريجِ، ولجوئه إلى التَّهكُّمِ، وتقديمِ الحُججِ الواهية، واستخدامِ الخُطَبِ النَّاريةِ المُضلِّلة؛ إلا أنه في واقعِ الأمرِ سياسيٌ بارع، وخطيبٌ مفوَّه، وأكاديميٌّ لا يُشَقُّ له غُبار، فهو من خريجي جامعة أكسفورد ومدارسِ إيتون الإنجليزية الشَّهيرة؛ وهو فوق ذلك منافِسٌّ قديم لرئيسِ الوزراء البريطاني المُستقيل، ديفيد كاميرون، ووزيرٌ بلا وزارة في حكومته، وشخصيةٌ محبوبةٌ في أوساطِ المحافظين، إضافةً إلى قدرتِه على تأليبِ أعدادٍ كبيرة من المُعجبين بشخصيَّتِه من خارج دائرته الحزبية المحدودة، على اتِّساعِها الجماهيري. وهي كلُّها ميزاتٌ تؤهِّله –إنْ أرادَ اللهُ خيراً- للتَّعلُّم، وحشدِ القدراتِ لتجميعِ الشَّتات؛ وفوق ذلك كلِّه، يمكنه التَّعاونَ مع عُمدة لندنَ الحالي: صادق خان (إلا أن جونسون يحتاجُ أولاً أن يكسبَ المحافظين إلى صفوفِه، قبل تطلُّعِه إلى خَطبِ وِدِّ الآخرين).




    سنحاول في حلقةٍ قادمة التَّركيز على مآلِ المملكة المُتَّحدة، في أعقابِ تصويتِ إنجلترا وويلز للخروجِ من الاتِّحاد الأوروبي، فيما صوَّتت إسكتلندا وإيرلندا الشَّمالية، إلى جانب لندن، للبقاءِ ضمنه. هذا إضافةً إلى المعارك المُحتدِمة داخل الحزبين الرَّئيسيين، في أعقابِ استقالة كاميرون، واشتدادِ الضُّغوط لاستقالة جيريمي كوربن، زعيم حزب العمال؛ فيما تُشيرُ صحيفة "الديلي تلجراف" في تغريدةٍ إلى قطعِ توم واطسون، نائب رئيس الحزب، لإجازته وعودته من احتفالات غلاستونبري، بعد أن استقالَ نصفُ طاقم القيادة في حكومةِ الظِّل.


    محمد خلف






                  

07-09-2016, 00:47 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)


    فى مهاتفه مع الكاتب الرصين والراصد لدقائق الدقائق فى المعارف والأدب الاستاذ محمد خلف عن إنفعاله بخروج بريطانيا أو المملكه المتحده عن الإجماع الأوربى ذلك الخروج الداوى والعاصف لكل العقول حتى تلك التى أحدثته أو عملت على تحقيقه فقد ماثل ذلك الخروج الآخر أوالإخراج الذى كان صاعقة كذلك من قبل خمسة قرون سالفه تاركاَ العمارة والعلوم والمكتبات والفلسفه وأسس النهضة الحديثه عبوراَ للمتوسط ولا أدرى باى سفن وأى مراكب بعد أن أشعل فيها إبن زياد النيران ليكون طريق العبور الأول إتجاه واحد ولكن إجتمعت الأسباب وحدث ما لا تقدر العقول على إستيعابه حتى يدج بعض الخارجين لاحقاَ لحلم الدوله الإسلاميه الوليدة بسنار مقر السلطنة الزرقاء ليتشكل بهم واقع السودان الآن، وفى إجابه فوريه لخلف عن المقارنه وببلدية مطلقه قلت له شده بالعضل فقد إستطعت أن تحقن عقولنا والقلوب بحقنه خمسه سيسى بالعضل تحمل المقاربه بين الحدثيين الفارقين عن سواهما!!



    منصور


                  

07-10-2016, 00:41 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    ذكروا أنَّ في الصحراء واحةً لا يعثر عليها إلا المُوشِك على الهلاك. في كلِّ مرَّة يا خلف تأتي مقالتك بمثابة الواحة الظليلة والتي يتوفَّر فيها الماء العذب
    والتمر المُشْبِع والفاكهة الدانية والظلال الرحيبة الممتدة...ونحن في هذا العالم نسير في أكثر من صحراء؛ وقبل أن يتلقَّفنا الهلاك، نظفر بإبداعك. ..
    الذروة، ثم القلب.


    عبد الواحد وراق



    يا لك من فنان يرى ما يراه أهل الخطو والحظوة والكشف والإلهام، يا وراق الحديث والفعل ويا ساقى الخير بقواديس من صندل للعطشى، فى الصحارِى والعتامير، ويا عراف لحوجة الناس للماء والظل فى تلك الصحارَى ويا لك من نزاع للحقائق من ماهيتها فى ذهنك وتشكيلها فى صورٍ راقصةٍ، كتلك التى لم تسهب فيها بل أطنبت، ولم يستطع شراح قولك بأن يقووا على نقلها فى لغة شارحةٍ للناس حتى وإن تمادوا فى الإسهاب يا وراق فقولك ببذل خلف كما الواحة والظل فى الصحراء توظيف لامس الحقيقة ومسك بخصرها حتى ماحت ومالت ودنت وصارت (قاب قوسين أو أدنى) الشكر لك يا وراق والذى له مع الظلال ودادٌ راسخ، ثابتةٌ كانت أو متحركه فما بالنا بها فى الصحراء والماء الفرات!!



    منصور


                  

07-10-2016, 10:59 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    عفارم عليك وبرافو أيضاً يا منصور؛ نصرك اللهُ على نفسك، وقوَّاك على غيرك، وحفظ لك أولادك وأهلك، وأنعم عليك بفضلٍ دفَّاقٍ من عنده؛ فقد أحسنت القول،
    وافتتحتَ فضاءً واسعاً للحديثِ عن رجلٍ يستحقُّ كلَّ خير. حفظ الله ورَّاقاً لأهله ووطنه، ولأهل الخير في جميع بقاع الأرض.


    محمد خلف




                  

07-12-2016, 10:45 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)


    العودة إلى أولِ السَّطر
    (إلى الورَّاقين السُّودانيين جميعاً، وإلى عبد الواحد ورَّاق بصورةٍ خاصة)



    يتراجعُ الوَحْشُ إلى خارجِ الحرف
    يواجهُ قوَّةَ الرُّوحِ بقوَّةِ الصَّوْلَجان
    يعودُ ورَّاقٌ إلى أولِ السَّطر
    رَشْفَةُ شايٍ بالهبَّهان
    خيطُ حرير
    من النَّسيجِ الأخير
    لقلبِ الإنسان
    نحيلٌ، أليفٌ
    خالٍ من العنفِ والادِّعاء
    أُعانقه
    يذوبُ هجيرُ الخُرطومِ في ظِلِّه
    * * * *
    يعودُ ورَّاقٌ إلى أولِ السَّطر
    أو إلى فضاءِ لوحتِه
    لأداءِ الصَّلواتِ الجميلة
    والسُّجود فوقَ الغَمامة
    وارتداءِ العِمامة
    وإنقاذِ لحنٍ من النِّسيان
    نتبادلُ روايةَ أحلامِنا:
    "لم يسقطْ قَوْسُ قُزَحٍ على الطَّريقِ الزِّراعي
    وإنما رأى نجمة
    تُرسِلُ إشارةً واضحة
    ثم تَهْوِي على الأفق
    بعد كَلِمةٍ جارحة"
    * * * *
    يعودُ ورَّاقٌ من باطنِ النَّصِّ
    يَعْبُرُ الجِسرَ إلى أولِ السَّطر
    رغم المصاعب
    يعودُ
    حزيناً على ما جرى
    حزيناً على صغارِ الوحوش
    وهم يتجاهلونَ تحَلُّلاً لضمائرِهم خارجِ المَقْبَرة
    فهم يتغافلونَ بأنَّ "اللهَ يرى"



    إدنبره نوفمبر 1991
    سيد أحمد علي بلال
    من ديوان "والماء إذا تنفَّس"
    الطَّبعة الأولى 2007

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 07-24-2016, 11:36 PM)

                  

07-24-2016, 11:46 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)


    عبد الواحد ورَّاق الصديق الزاهد القادم من السقَّاي (نوري)

    ذلكم الانسان الهادئ الذي تشرَّب الهدوء من جريان مياه النيل وهدوئه في مناطق الشمال، يتهادى وكأنه يتلطَّف على سوامق النخيل وجذورها الممتدة! واتخذ منه كرم سقيه الدافق الذي أزهر فاكهة ورطباً وخضرة. وبالإضافة لصلة الدم والقرابة التي تربطنا فقد جمعت بيننا صداقة متينة. يحادثك بصوت هادئ وهو المستمع الجيِّد والذي صار لنبْله حائط مبكي لكثيرين وكثيرات. وعبد الواحد ورَّاق يختزن الكثير من الأسرار في أمانة لم نعهدها في انسان! فهو يعلم الكثير ولا يتفوَّه بشئ منه. لم أقابل انساناً أميناً، صادقاً، نقياً، ونبيلاً مثله قط! فهو نعم الصديق والأخ والرفيق! كم تسكَّعتُ معه في شوارع الخرطوم التي أفتقدها ونعمت بحكاوى لطيفة بريئة معه. حين أكون في قاع حزن أو أسى، تأتي كلمات مثل (ناس حليمي سوَّن الربيت عيللي حرَّقنْو)!! ( فاطني جات زعلاني، قالتلو: إنت آآ حومد إِحمد وينها الفرطاقة اللت الْمِي جايي اِسْقِيبَا العمبلوك عشطان من اصْبَحَتْ)!! حكي مرة فقال: (مشيت البلد وكنت ماشي أزور ناس أهلنا أبوهم جزار وأنا نسيت بيتهم بس بقيت أعاين في الواطة أفتش للعضام! لقيت بيت قداموا عضام كتيرة، والله عرفت البيت بالعضام!!). هذه كلها ارتجالات يحيكها من الذاكرة تستدعي سنوات قضيناها في مناطق الشايقية ويبدل بها دفة لحظة طافت حاملة مسحة حزن طرأت فيبعث بها البهجة في النفس! ونعاود الضحك من جديد. ف مرة من المرات وجدنا مبلغاً من المال ونحن لا نملك شيئاً حينها فكان يترفع من أن نأخذه بحجة أن أصحابه قد يعودون من أجله! ما أجمله من نُبلٍ! لم أر انساناً عفيفاً مثله أبداً! كان ينوي السفر إلى السقَّاي لقضاء اجازته السنوية وكان السُّكَّر شحيحاً في السودان في ذلك الوقت. وقد أهداه صديق جوَّالاً من السُّكَّر. وكان ورَّاق يعمل مصمماً بصحيفة القوات المسلحة وكنت قد أتيت لزيارته في مكان اقامته فإذا برجل طاعن في السن تبدو عليه الفاقة جاء خارجاً من المكان نفسه حاملاً جوَّال السُّكَّر! وحين استفسرت من وارَّق علمت أنه قد وهب جوَّال السُّكَّر للرجل الذي قابله لأول مرة لأنه اشتكى له الفاقة والظرف المالي العصيب الذي يمر به. لله درُّكَ يا ورَّاق فقد تعلمنا منك الكثير من القيم والدروس الإنسانية! صديقي عبد الواحد ورَّاق رجل متأمِّل لا تفوته شاردة! حكى لي مرة أنه ذهب لزيارة قريب مؤسر يسكن أحد أحياء الخرطوم الراقية، فوجده بالرغم من كل سبل الراحة المتاحة بداره والسفرة العامرة بكل ما طاب من طعام إلا أن الصداع حال بينه وبينها. وفي المقابل ذهب لزيارة أسرة من الأقارب في أحد أحياء الغبش، ففتحت له صاحبة الدار الباب وحكي فقال (جات إيديها مليانات خُدْرة (ملوخية) ورقبتها وشعرها مجلبطات بالعجين! وهي تضحك وتنظف فيهن وقالت: مرحب يا ورَّاق جيدن جيت بس تتغدى معانا! دابي فركت الخُدْرة ورميت حرف القراصة. ودخلت. لقيت زوجها نائم تحت شجرة فوق عنقريب بلا لحاف، وفي سخيلة حائمة تحت الكرَّاب تندعك فيهو تحت العنقريب وهو قام صحصح ينهر فيها (تك السخلة بالمرض اليخمك)! وهو يجبِّد في العراقي يغطي في عوارة في كراعو وينهر في سوسيوة تنقد في العوارة ويقول: كر شوف السوسيوة الفقُر دي! هي والسخيلة قطعت لي نومة سمحي خلاس!! وفي شُفَّع من أولادو وبناتو قاعدين جنب راسو يدقدقوا في علب صلصة ويكوركو ويلعبوا!!! هذه مفارقة بين نقيضين ووضعين متباينين لأُسرتين! مقارنة وملاحظة وتأمل لا يأتيان إلا من إنسان مفعم بالفن والشفافية! إنسان فَكِه ونقي السريرة مثل ورَّاق! هاجر ورَّاق إلى أمريكا ولم يتغيَّر بل ظل ورَّاق الأصيل النقي! حكى مرة: كنت صائم وبس جاتني رغبة أفطر بي بطيخ! لكن ما كان موسم البطيخ بس قلت أفتش كل الأسواق يمكن ألقى، نزلت من العربية بلا جاتني سيدة كبيرة شايلة قروش كتيرة وتقول لي: شيل القروش دي ! قلت ليها شكرا أنا بخير. الزولة دي بقت ماشية وراي تحنس فوقي قلت ليها لا، شكراً. دخلت السوق فتَّشت البطيخ وهي وراي تحاول تقنعني. الزولة دي والله يمكن حاولت معاي أكتر من عشرة مرات وكل مرة أقول ليها شكراً وهي تقيف محتارة. في الآخر مشيت ركبت العربية عاوز أمشي بلا أحس بزول مراقبني! التفت لقيتها نفس السيدة أتاريها عربيتها واقفة جنب عربيتي! عاينت لي وبابتسامة عريضة قالت: ما غيرت رايك؟؟ شكرتها ومشيت!!! هذا هو عبد الواحد ورَّاق! هنالك أُناس أصيلون لا يغيرهم الزمن ولا الغربة ولا الظروف!! لله دَرُّكَ يا ورَّاق!


    سكينة كمبال - ملبورن - أُستراليا.



                  

07-24-2016, 11:50 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    من امرأةٍ رائعةٍ من ملبورن (فيكتوريا) إلى رجلٍ نادرٍ من كولمبس (أوهايو)

    نزلت سُكَينةُ إلى أرضِ الكتابة، فأقامت عوداً من أعوادها اليابسة وسقته بماءِ الوردِ والذِّكرياتِ النَّدية؛ فهي تأملاتُ امرأةٍ رائعةٍ من ملبورن حول رجلٍ نادرٍ من كولمبس. وكان هذا الرُّكن، رغم إدارته من قبل قصَّاصٍ ماهر، قد شكا لطوبِ الأرضِ من نقصِ الكتاباتِ النِّسائية، إلى أن هيَّأ اللهُ له سُكَينة، فنزلت عليه برداً وسلاماً، إذ لم تكتفِ بدفعِ الأبوابِ المفتوحةِ أصلاً، بل طرقت باباً ظنَّه ضيقُ أفقٍ مُقيمٍ بأنه غيرُ قابلٍ للفتحِ أو الاختراقِ عنوةً واقتدارا. وما أجملَ أن تتوجَّه هذه الكتابة إلى رجلٍ لا عيبَ فيه سوى أنه بلا عيب، وما أروعَ أن تصدُرَ عن امرأةٍ تعرفُ كيف تنفُذ إلى صميمِ العذوبةِ واللَّهو البريء؛ لسانُها العفيفُ يلهجُ بجزالةٍ مُحبَّبة، ولغتُها المحلية تنضحُ بفصاحةٍ لا تُخطئها الأذن؛ وذاكرتُها، يا لنقاءها وفوتوغرافيتها، كيف تسنَّى لها، مع تقادمِ العهدِ وجورِ أيَّامه، الاحتفاظَ بكلِّ هذه الدُّررِ والنَّفائس؛ لا غروَ، فإنَّها قد تلقَّت دروساً على يدِ شيخٍ خبيرٍ بترويضِ الرُّوحِ وتنميتها، وتخرَّجتْ بامتيازٍ من مدرسة ورَّاق، بينما خرجتُ أنا من معطفِه بغيرِ أوراقٍ ثبوتية. نزلت سُكينةُ إلى أرضِ الكتابة، فنثرت عليها رِقَّةً وصبابة، مثلما غطَّتها برهبةِ ومهابة؛ وكان عبد الواحد صديقها نسيجَ وحده في العفَّةِ والشَّهامة، مثلما كان عبد الواحد شقيقها نسيجَ وحده في الحنان والكرم؛ فكما أسبغ الثَّاني بِرَّاً وحناناً على شقيقاته (زكية وأم الخير ومريم وسُكينة)، أسبغ الأوَّلُ عليهن محبةً جارفةً وعطفاً أخوياً لا حدَّ له. وكنتُ شاهداً على بعضٍ من ذلك؛ وما توحي به كتابةُ سُكينةَ يشيرُ إلى ما هو أجلُّ وأجمل. ليس بوسعِ النَّملِ (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً) أن يرشدَ إلى مكانِ إقامته؛ فالسُّكَّرُ، كما جاء في سردِ سُكينةَ عن ورَّاق، لا يبقى طويلاً في مهجعه؛ فكما دخلَ سالماً بالباب، يخرجُ مُسرِعاً منهُ في تمامِ هيئته، مثلما دخلَ عبره كاملاً في المرَّةِ الأولى. إلا أن فوحَ الذِّكرى، وأريجَ أيامٍ خوالٍ، ورائحةَ الكلمات التي نثرتها سُكينةُ في سياق عباراتٍ صادقةٍ عن ورَّاق، ستُنيرُ بعونِ اللَّهِ طريقاً إلى أعماقِ روحِهِ القصِيَّة.

    محمد خلف



                  

07-29-2016, 06:54 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)


    كان هذا الرُّكن، رغم إدارته من قبل قصَّاصٍ ماهر، قد شكا لطوبِ الأرضِ من نقصِ الكتاباتِ النِّسائية، إلى أن هيَّأ اللهُ له سُكَينة،

    كتب خلف، محقاً، عن فقد الخيط لصوت المرأة.

    والعمرابي كان داير ليهو "إمرأة نبية": "لو فى النساء رسل كنت النبية"



    كيفك يا قصّاص وكيفك يا خلف

    هيلاري كلنتون تستعد لتفوز بالرئاسة الامريكية
    كأول إمرأة تصل لهذا المنصب، وفي السودان القديم
    كان في ملكات وكنداكات وكدا، ولكن المرأة الوحيدة التي تجرأت وأعلنت النبوءة
    هي سجاح التي تزوجت بمسليمة وتخلت عن نبوءتها (وخبرها مشهور كما يقول البروف عبد الله الطيب).
    بصورة ما يبدو أن الله لم يشاء أن يختار لهذه المهمة إمرأة، وهو سؤال وقفت أنا عنده طويلاً، وتذكرته،

    وأنا أقرأ ما كتب خلف عن "سَكِينة"، وبالمناسبة ليه كتبتها "سُكَينةُ"؟

    الصادق إسماعيل


                  

07-30-2016, 00:58 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    نزلت سُكينة إلى أرض الكتابة، فلنُحيي بنزولِها صُورةً من صُورِها الغابرة .

    كانتِ الكتابة منذ تجسيدها المِسماري على ألواح الطِّين، أو تصويرها الهيروغلوفي على جدران المعابد، تمثيلاً لصورٍ في الذِّهن؛ ثم صارت عند نشأتِها الحديثة تصويراً لمكنوناتِ الذِّهن، وتعبيراً تقريبياً عمَّا يلهجُ به اللِّسان. وعندما نزل القرآنُ على النَّاسِ بلسانٍ عربيٍّ مبين، لم تكنِ الكتابة العربية بخطِّها المعروف لدينا الآن قادرةً على تسجيل المحتوى الصَّوتي للكلام الإلهي على قدرٍ من الدِّقةِ الكافية؛ وهذا ما لا يُمكِنُ أن يُقالَ على اللِّسانِ العربيِّ نفسِه، فقد كان مؤهَّلاً تماماً لترديدِ الكلامِ الإلهيِّ وترتيلِه. ولم يكن هذا التَّخلُّفُ في الكتابة العربية عيباً جوهرياً، فالقرآنُ في شكلِه المُنزل على الأرض، في جوهره، ذكرٌ وتذكيرٌ صوتيٌّ محفوظٌ في صدورِ المؤمنين. ولمَّا كان الذِّكرُ تنزيلاً من عَلٍ لا مناصَ من توصيلِه إلى النَّاس، فقد سهُل جريانُه على لسانِ النَّبي، وجمهرةِ القرَّاء، وحفظةِ القرآن من عامَّة المسلمين أو ما تيسَّر منه لبعضٍ من أتقيائهم.

    وعندما نشأتِ الحاجة إلى تسجيل الوحي مع بدءِ نزوله، أشار الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بعضِ أصحابه، مِمَّن صاروا يُسمَونَ بكتبةِ الوحي (وهمُ الخلفاء الرَّاشدون الأربعة وعددٌ من الصَّحابة الأجِلَّاء رضوان الله عليهم؛ ومن بينهم، أُبَّي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل)، بالبدءِ في هذه المَهمَّة، لا ليُعمِّموا ناتجَ عملِهم على النَّاس في ذلك الوقت الباكر، فقد كان ذلك مطلبُ عُتاةِ الكفَّارِ في مكَّة "وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ" (سورة "الإسراء"؛ الآية رقم 93)، وإنما لِحَفظِه إنْ دعتِ الحاجةُ مستقبلاً -وهو عينُ ما حدث لاحقاً- إلى الرِّجوع إلى نسخةٍ أرضيةٍ نموذجية منه لا يعتورها تحويرٌ (مثلما حدث مع التَّوراةِ على يدِ الكتبة الذين أخذ عليهم المسيحُ عليه السَّلام تشدُّدَهم وتشبُّثَهم بظاهرِ اللَّفظ) ولا يرقى إليها أدنى شك؛ فنُسختُه الأصلية مُودعةٌ في الأعالي في لوحٍ محفوظ، ومنها صَدَرَ هذا التَّنزيلُ الحكيم بلسانٍ عربيٍّ مبين.

    كانتِ المصاحفُ المُنتجة من قِبَلِ كتبةِ الوحيِّ خاليةً من حركاتِ الإعجام (وضعُ النِّقاطِ على الحروف) والإعراب (تشكيلُ الحروفِ بعلاماتِ الحركة والسُّكون والتَّنوين)؛ وتلك هي المَهَمَّة التي تصدَّى لها لاحقاً أبو الأسود الدُّؤلي. ولم يعُدِ الآنَ من الممكن التَّمثيل الواضح عن هذا الوضع عبر لوحة المفاتيح المتداولة، إذ إنَّ حروف الإعجام أصبحت مُدمجةً في صورةِ الحرف المطبوع عليها وبواسطتها، ولا يمكن فصلُها منها؛ هذا بخلاف حروف الإعراب، التي صارت خياراً مُتاحاً على اللَّوحة، ويُمكن وضعُه –حسب مقتضى الحال- فوق أو تحت الحروف الأساسية. وسعياً للتَّمثيل، على الرَّغم من صعوبته، فإن حرفاً بعينِه يمكن أن يُنطقَ باءً أو تاءً أو ثاءً أو ياءً أو نوناً؛ وآخرَ جيماً أو حاءً أو خاءً؛ وغيره دالاً أو ذالاً؛ سيناً أو شيناً؛ صاداً أو ضاداً؛ طاءً أو ظاءً؛ عيناً أو غيناً؛ وأخيراً، فاءً أو قافا؛ بينما تُعزِّزُ الخياراتُ التي تأتي مع حركاتِ الإعرابِ من التَّباديل التي تُحدِّدُ احتمالَ نُطقِ الحروف. بعد مجهوداتٍ متلاحقة للنَّحويين واللُّغويين عبر القرون، أصبح المُصحف العثماني الذي نتلقَّى عنه آيِّ الذِّكرِ الحكيم حافلاً بجميعِ العلامات الضَّرورية التي تساعد على نُطقِ الآيات، من حروفِ إعجامٍ وإعرابٍ، واصطلاحاتِ ضبطٍ، وعلاماتِ وقف. بل أصبح المُصحف، إلى جانبِ بعضِ القصائد العربية الكلاسيكية النَّادرة (المعلَّقات، والمفضَّليات، والأصمعيات)، هو المثالُ النُّموذجي لإمكانية نُطقِ الكلام في تمثُّلِه الخطِّي والغراماطولوجي؛ فيما أصبحتِ الصُّحفُ السَّيَّارةُ المعاصرة عاريةً تماماً، أو تكادُ، من علاماتِ الإعراب التي تعِينُ على النُّطقِ المفهوم -ولا أقولُ الصَّحيح، فالصِّحَّةُ أمرٌ نسبي- للحروف العربية والكلام العربي وغير العربي (أي المُعرَّب أو المكتوب بحروفٍ عربية). ولا نستطيعُ الآنَ أن نقرأ ما بالصُّحفِ المتداولة، إلا بما نستعينُ به من الذَّاكرة (وقد يكونُ ما نستذكِرُهُ أبعدَ من واقعِ الحال إزاء النُّطقِ المفهومِ للكلمات) أو السِّياق (الذي لا يمكنُ بدونه، مثلاً، التَّفريق بين "سُكَينة" –وهي اسمُ علم- و"سَكِينة" –وهي اسمٌ عام- و"سِكِّينة" –وهي اسمُ آلة- أي مِدية أو سِكِّين).

    قد تغيَّرَ الوضعُ قليلاً مع انتشارِ لوحاتِ المفاتيح الحديثة، وانحسار ِالآلات الكاتبة القديمة ذات الخيارات المحدودة، والتي كانت تتطلَّبُ جهداً كبيراً في تعلُّمها وتشغيلها، حتى صارت حِكراً على النِّساءِ الصَّبورات والمغلوبِ على أمرهن، واللَّائي امتلأت بهنَّ، على قِلَّتهن، مكاتبُ الدَّولة والشَّركاتُ الخاصَّة. إلَّا أنَّ عاداتِ النَّاسِ لم تتغيَّر، فعلى الرَّغمِ من ثراءِ لوحاتِ المفاتيح الحديثة واشتمالها على فائضٍ من الرُّموز والعلامات، ما زال النَّاسُ يكتبون ويقرأون بذاكرةِ الآلة الكاتبة القديمة، التي تضرِبُ صَفحَاً عن جُلِّ علاماتِ الإعراب المعروفة. وما يزيد الطِّينُ بِلَّةً أنَّ الهواتف المحمولة -بما تتيحُه من إرسالِ بريدٍ إلكتروني ورسائلَ نصِّيَّة مُستعجلة، علاوةً على عدم مواكبة التَّطبيقات العربية لهذه المُستحدثات- تضطرُ المُستخدمَ لاتِّباعِ طُرُقٍ مُختصرة وأساليبَ ملتويةٍ أحياناً لتوصيلِ رسائلِه على جناحِ السُّرعة، مما يعصفُ بالدِّقَّة، ويضربُ عُرضَ الحائط بثراءِ الخياراتِ المُتاحة.

    فيا صديقي الصَّادق إسماعيل (ومرحباً بإطلالتكَ المُنعشة)، فإن "سُكَينة" (على وزنِ "فُعيل"، مع زيادة تاء التَّأنيث) من صِيغِ التَّصغير، التي تُستخدم أحياناً للتَّحبيب؛ ومن أمثلتها الأخرى، "أُميمة" (أين أنتِ يا بنتَ أبي صالح، وأيُّ ريحٍ هوجاءَ قد عصفت بكِ عن مرمى بصري ومسارِ رادارِيَ الإلكتروني)؛ و"هُويدا" ("بحبها، وهي حبيبة أمها، ياخواتي، ياخواتي"، كما كنَّا نردِّد أغنية "صباح" الشَّهيرة")؛ و"رُفيدة" (هل لا زالت تلك المركبات السَّريعة تحملُ مسافرينَ إلى مشاريعِ الزِّراعةِ المطريةِ في القضارف، وعبر القاشِ إلى التَّاكا وتوتيل و"سيدي الحسن راجل كسلا"؟)؛ هذا بالطَّبع، إضافةً إلى "زُبيدة"، و"مُهيرة"، و"فُطيمة"، و"سُليمة" و"نُسيبة"؛ وإلى ما لا يُحصى من الأسماءِ الأنثويةِ المُحبَّبة.

    وعلى نفسِ صيغة هذا التَّصغير للثُّلاثي، يأتي اسمُ "حُميراء" ( على وزن "فُعيل"، مع زياءة الألف الممدودة للتَّأنيث)، وهي للتَّحبيب؛ أمَّا "مُسيلمة"، فهي على نفس الوزن مع زيادة التَّاء المربوطة للتَّأنيث اللَّفظي، إلَّا أنها للتَّحقير، وليس التَّحبيب، تقبيحاً لادِّعاءِ النُّبوة. أمَّا لماذا لم يكن هناك من بين النِّساءِ نبيَّة، فيُمكنُ الإجابة على السُّؤال بتبصُّرنا لمعنى الآيتين الكريمتين: "قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكَاً رَسُولاً" (سورة "الإسراء"، الآية رقم 95)؛ وقوله تعالى في نفس السُّورة، "أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً" (سورة "الإسراء"، الآية رقم 95). فالتَّنزيل أتى مُتناسباً مع مُقتضى الأحوال والأعراف البشرية السَّائدة في الزَّمان والمكان المُحدَّدين؛ فلو كان في الأرض ملائكة، لكان الرَّسولُ مَلَكَاً؛ ولو كان ذلك المجتمعُ أقلَّ صلفاً وذكوريةً، لما كان أمراً مُستكرهاً في الخيالِ أن يبعثَ اللهُ له امرأةً رسولاً. وفي الفكرِ العلميِّ والمنطفيِّ الحديث، يُسمَّى هذا الضَّربُ من التَّدليل الذي تضمَّنته الآيتان بالتَّفكيرِ المُخالفِ للوقائع؛ وقد أشرنا إليهِ عَرَضَاً في مَتنِ الرِّسالة، وربما تطرَّقنا إليه في شيءٍ من التَّفصيل في سانحةٍ أخرى يأتي بها سياقٌ ملائم. يكفي هنا أن نركِّزَ على أمرٍ هام، وهو أن الحاكمَ الأكبر في أمرِ الدَّلالة هو السِّياق؛ إلَّا أنه ليس هو العنصرُ الأوحد في تحديدِها. ولا يُدركُ من صيغة التَّصغير وحدها إلى ماذا تُشيرُ: أهي للتَّحقير أم للتَّحبيب؟ ولكننا نعرف بقرينة السِّياق أن "مُسيلمة" للتَّحقير، بينما تشيرُ "الحُميراء" إلى السَّيدة عائشة بنوعٍ من التَّحبُّب؛ وكذلك إشارتُنا المُتكرِّرة إلى بنتِ كمبالَ، يا ابنَ إسماعيلَ، بـ"سُكَينة". ولا نريد أن نخوضَ مع الخائضين حول صِحَّة حديث "الحُميراء" المرفوع بالسَّندِ الضَّعيفِ إلى رسولِنا الكريم، ولكننا نقولُ في تسليكٍ للتَّفكيرِ المُخالفِ للوقائع (كاونترفاكشوال ثينكينغ) إنه لو كان ذلك المجتمعُ المكيُّ مجتمعاً أمومياً، أو أبوياً معتدلاً، لما تمادى ابنُ القيِّمِ في تأكيدِه بأن كلَّ حديثٍ فيه ذكرُ "الحُميراء"، فهو حديثٌ مُختلق؛ ومن ضِمنِه ما تناهى إلينا عن قولِ النَّبي عن عائشة: "خُذوا شطرَ دينكِم عن هذه الحُميراء".

    محمد خلف




                  

08-01-2016, 11:20 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)


    عُمدة لندن السَّابق يتلقَّى صفعةً مزدوجة ربَّما تُمهِّدُ الطَّريقَ لبروزِ "امرأةٍ حديديةٍ" ثانية

    كان جَدِّي محمود سليمان كركساوي لا يَمَلُّ من ترديدِ الحديثِ القدسي: "أنتَ تُريد، وأنا أُريد، واللهُ يفعلُ ما يُريد"، في أعقابِ كلِّ جدلٍ عقيم يجري بيننا بعدَ صلاةِ العصرِ أو قُبيلَ العشاء؛ وكان هو الذي يقومُ إلى الصَّلاة ويرفعُ يديه بالدُّعاء، وكنتُ أنا الذي ينزلقُ إلى المناكفة ويرفعُ حِدَّة النِّقاش؛ وفي صدري غيظٌ مكتوم، ورغبةٌ عارمة في إحداثِ تغييرٍ تطِلُّ ملامحُه باهتداءِ جَدِّي بما أهتدي به، وبمباركتِه لما أفعل، مهما اشتطَّ الفعلُ وطفحَ كيلُه. وها أنذا أقتربُ الآنَ حثيثاً من سِنِّ جَدِّي في ذلك الوقت، فلا أجِدُ إرثاً أجملَ من ذلك الحديث القدسي؛ غير أنِّي، خِلافاً لجَدي، أضعُ الإرادة البشرية ضمن مجال "الحقيقة" (وهو مجالٌ، لأنه يشتمل على الأخبار التي تحتمل التَّصديق والتَّكذيب، إضافةً للعبارات الإنشائية والصِّياغات التي تتضمَّنُ مقاصدَ أو وقائعَ شرطية لا تحتملهما، لكنها تستند بشكلٍ ما إليهما)، بينما تبقى إرادته تعالى هي الغالبة، فهي "الحقُّ" الأبلج من قبلُ ومن بعدُ.

    كنتُ أُريد أولاً أن أضمَّ الرِّوائي السُّوداني جمال محجوب إلى التَّشكيلة المحجوبية للرِّسالة، التي ضمَّت حتى الآن محجوباً أخي، ومحجوباً ابني، وهاشم محجوب، ومحجوب كبلو، ومحمد أحمد محجوب؛ هذا غير أنَّه سُمِّي على عمِّه جمال محمد أحمد، أولِ رئيسٍ لاتِّحاد الكُتَّاب السُّودانيين، الذي تحدَّثنا عنه في متنِ الرِّسالة، وفي كثيرٍ من المشاركات. إلا أن طاهرة عبد الحميد، حفيدة الخليفة عبد الله التَّعايشي، زوجة صديقي مسعود، قد زارتنا في منزلنا بلندن في يوم 17 رمضان؛ فتعزَّزت لديَّ الرَّغبةُ مجدَّداً في الحديث عن البُقعة وأحفاد المهدي وخليفته، بعد أن لقِيَ المُقترحُ ترحيباً من كثيرٍ من الأصدقاء المقرَّبين. ولكن أحداثاً عاصفة في لندن في يوم 18 رمضان غيَّرت، بإرادةِ قادرٍ، مسارَ الحديث.

    قلنا في الحلقةِ الماضية إن عُمدة لندن السَّابق، بوريس جونسون، شخصيةٌ محبوبةٌ في أوساطِ المحافظين، وإن له قدرةً على تأليبِ أعدادٍ كبيرة من المُعجبين بشخصيَّتِه من خارج دائرته الحزبية المحدودة (وكلمة "الضَّيقة" أفضل، كما ترى مُنى ابنة أخي بابكر، إذ إنَّ كلَّ دائرةٍ هي محدودةٌ بالضَّرورة) على اتِّساعِها الجماهيري. وهي كلُّها ميزاتٌ تؤهِّله –إنْ أرادَ اللهُ خيراً- للتَّعلُّم، وحشدِ القدراتِ لتجميعِ الشَّتات؛ وفوق ذلك كلِّه، يمكنه التَّعاونَ مع عُمدة لندنَ الحالي: صادق خان (إلا أن جونسون يحتاجُ أولاً أن يكسبَ المحافظين إلى صفوفِه، قبل تطلُّعِه إلى خَطبِ وِدِّ الآخرين). وبدلاً عن ذلك، تلقَّى صفعةً مزدوجة عجَّلت بانسحابه من سباق التَّرشُّح لزعامة حزب المحافظين، والتَّراجع مؤقَّتاً عن تحقيقِ حُلمِه الباكر بأن يصبِحَ ذات يومٍ أبلجَ من أيامِ اللهِ رئيساً للوزراء في بريطانيا.

    جاءت الصَّفعة الأولى من مايكل هيزلتاين، نائب رئيس الوزراء البريطاني السَّابق، الذي قاد حملةً استهدفت جونسون شخصياً، وذلك بالتَّنبيه الحاذق إلى أثر "الإجهاد" أثناء حملة الاستفتاء على سلوكِ عُمدة لندن السَّابق، وجنوحِه إلى إصدارِ "تصريحاتٍ سياسية فاحشة وسخيفة"، مشيراً إلى تهوُّرِه وخَشيته من أن "عقله بدأ يفارقه"، مما يشكِّك في قدرته على الحكم. ليس غريباً على كبارِ أعيانِ حزب المحافظين المناصرينَ لبقاءِ بريطانيا ضمن الاتِّحادِ الأوروبي، مثل جون ميجر وكين كلارك، أن يوجِّهوا انتقاداتِهم لحملةِ "الخروج"، ولأبرزِ ممثليها، إلا أنَّ انتقاداتِ هيزلتاين، الملقَّب بـ"طرزان" (لإمساكه في عام 1976 بصولجان البرلمان وتلويحه نحو نوَّاب حزب العمال اليساريين، في أعقابِ فوزِ مقترحٍ لهم بتأميمِ صناعاتِ بناءِ السُّفنِ والطَّيران) كان لها وزنٌ وتأثيرٌ كبير، لأنه كان في عام 1990 وراء إقصاءِ مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا السَّابقة، المشهورة بـ"المرأة الحديدية"؛ وربما تمهِّد انتقاداتُه هذه المرَّة بطريقٍ غير مباشر إلى بروزِ "امرأةٍ حديدية" ثانية (خصوصاً وأنَّ رئيس حزب المحافظين الجديد سيكون هذه المرَّة امرأةً، هي إمَّا تيريزا ماي، وزيرة الدَّاخلية الحالية أو أندريا ليدسَم، وزيرة الدولة للطَّاقة؛ وذلك بعد انسحاب مايكل غوف من قائمة المرشَّحين).

    أمَّا الصَّفعة الثَّانية المباشرة، فقد تلقَّاها العُمدة السَّابق عندما أعلن غوف، وزيرُ العدلِ، وساعدُه الأيمن في حملة الاستفتاء، ترشُّحَه -في آخرِ لحظةٍ- لرئاسة حزب المحافظين، من دون أن يتركَ له وقتاً كافياً للاستفاقة من الصَّدمة وإعادة ترتيب حساباته، فلم يبقَ له خيارٌ سوى الانسحاب، على أملِ أن يتهيَّأ ظرفٌ آخر -يتشكَّك الكثيرون في إمكانية حدوثه- يتسنَّى له فيه أن يلعبَ دورَ البطل المُنقِذ للحزب، إنْ لم يكن لبريطانيا بأسرها. وحتى بعد انسحابه، لم يُخلِ هيزلتاين سبيلَه، بل شنَّ عليه هجوماً لاذعاً، متَّهماً إياه بأنه تسبَّب في "أكبرِ أزمةٍ دستورية في العصر الحديث". وقال هيزلتاين إن عُمدة لندن السَّابق قد "مزَّقَ حزبَ المحافظينَ إرباً إربا"، واصفاً جونسون بأنه "مثل جنرالٍ قاد جيشَه وسط قعقعةِ السِّلاح؛ إلَّا أنه على مرأًى من ساحةِ المعركة، انسحب وتخلَّى عن القتال". فهل سيتخلَّى جونسون تماماً عن حُلمِه القديم، أم أنه سينتظر سانحةً أخرى، ربَّما تحدُث قريباً جداً؟ لن نستطيع الإجابة على هذا السُّؤال، لكننا سنراقب هذا الملف في سُباته الحالم؛ ولن نُفَعِّلَه، إلا إذا انبثقَ سياقٌ جديد يستدعي إيقاظه. في هذه الأثناء، ما زال زعيم حزب العمال البريطاني، جيريمي كوربن، مُصِرَّاً على موقفه بألا يتزحزح قيد أنملة عن رئاسة الحزب، رغم تصويت نوَّاب الحزب في البرلمان سحبَ الثِّقة منه؛ إلا أن مصادرَ تتحدَّث عن "خطَّةٍ" تضمن "خروجاً مشرِّفاً" له، بينما يوافق الحزبُ على استمرارِ بعضِ السِّياسات التي أقرَّها كوربن. وسواءً استمرَّ كوربن أو قبِل "خطَّة" التَّنحي المُشَرِّف أو واجه تحدِّياً من قبل أنجيلا إيغل، وزيرة الأعمال المُستقيلة من حكومة الظِّل، ستظلُّ مشكلة حزب العمال قائمةً؛ وهي كيف يتسنَّى للحزب البريطاني العريق أن يعملَ بكفاءةٍ وسرعةٍ وسلاسة في ظلِّ ديمقراطيةٍ نيابية، إذا كان صُنعُ القرارِ بداخلِه تتحكَّم فيه بنيةٌ ثلاثية سلحفائية، هي القاعدةُ الشَّعبية للحزب، والنِّقابات، ونواب البرلمان؟

    ستهون تداعياتُ نتائجِ الاستفتاء، إذا انحصر أثرُها السِّياسي على الحزبين الكبيرين، رغم فداحته؛ ولكنه طفح وطال المملكة المتَّحدة برُمَّتِها. وتلوحُ الآن في الأفقِ بوادرُ أزمةٍ دستورية، سنفردُ لها حلقةً منفصلة، إذا استفحلَ أمرُها. إلا أننا نريدُ أن نختِمَ هذه المشاركة بالتَّنبيهِ إلى أمرٍ هام جاء في ثنايا ترشُّح مايكل غوف لزعامة حزب المحافظين، وهو أن سارة فاين، زوجة مايكل غوف، قد سرَّبت رسالةً بالبريد الإليكتروني بطريق الخطأ، أشارت فيها إلى زوجِها بوجودِ مخاوفَ بشأنِ جونسون لدى عضوية حزب المحافظين، وزعماء وسائل الإعلام، مثل روبرت ميردوخ وبول داكر، رئيس تحرير صحيفة "الدِّيلي ميل" التي تعمل بها فاين كصحفية. ما يلفتُ الانتباه في هذا التَّسريب، هو أن ميردوخ، إمبراطور الصَّحافة والمالك لعدَّةِ صحفٍ وقنواتٍ تلفزيونية، والذي يقابله بعضُ رؤساء الوزراء في بريطانيا بالبابِ الأماميِّ (وبعضُهم بالبابِ الخلفيِّ) لرقم 10 داوننغ إستريت، قد لعِبَ -مرَّةً أخرى- بكيفيَّةٍ ما دوراً في دراما حيَّة، ما زالت تداعياتُها تعصِفُ بالبيتِ البريطانيِّ الكبير؛ فتهزُّ قوةَ اقتصادِه أولاً، ثمَّ تُهدِّدُ لاحقاً تماسُكَه السِّياسي، هذا إنْ لم يتم تلافي الأزمة بالحكمة، وتناسي الخلافاتِ الضَّيِّقة (وليست المحدودة يا مُنى)، والعملِ يداً واحدةً من أجل الكيانِ الواسع.

    محمد خلف

                  

08-02-2016, 09:27 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)


    يَوْمَ عُيِّنَ عُمدة لندن السَّابق وزيراً للخارجية البريطانية

    ما كِدنا نُغلِقُ ملف عُمدة لندن السَّابق حتى نهضَ مُجدَّداً كما العنقاء، وبسرعةٍ فاقت تصوُّرَ أكثرِ المحلِّلينَ تفاؤلاً بشأنِ عودتِه إلى مسرحِ السِّياسةِ البريطانية، ولكنه عاد لا ليملأ السَّاحة المحلية مرحاً وتهريجاً، وإنَّما ليغطي السَّاحة الدولية الواسعة، التي لا يتساهلُ البعضُ فيها مع هذرِه ومزاحِه أو ينفُذُ من خلال عَبَطِه وحُمقِه إلى حِدَّةِ ذكائه وعُمقِ استبصاراتِه؛ فهو كما تبيَّنَ لرئيسةِ الوزراء البريطانية الجديدة، أو "المرأة الحديدية" الثَّانية، رقمٌ لا يسهُل اقتلاعُه من السَّاحةِ السِّياسية، ولو استُعملَ معه قبضةٌ من فولاذ؛ فهو "قيصرٌ" بريطانيٌّ من أصلٍ تركي، تلقَّى طعنةً غادرة من "بروتس"، فلم تُؤدِ بحياته، بل ألقت مُسدِّدَها (مايكل غوف) خارج حلبة السِّياسة البريطانية الفاعلة.

    على أنه ينبغي لنا -قبل أن نشرعَ في سردِ تفاصيلِ هذا الموضوع- أن نعتذرَ لأحدِ القرَّاء، راجينَ منه أن يتحمَّلَ معنا مسؤولية سوء الفهم، لأننا لم نُنبِّه بشكلٍ كافٍ بأننا بصددِ شأنٍ ليس للإحيمرِ ناقةٌ فيه ولا جمل؛ إلَّا أنه بدورِه لم يُدرك دلالة الحديث القدسي: "أنتَ تُريد، وأنا أُريد، وَاللَّهُ يفعلُ ما يُريد" في ارتباطِه بموضوعِ حديثِنا في الحلقةِ السَّابقة عن عُمدة لندن؛ فقد جاء بإرادتِه الغالبة، وكانت إرادتُنا القاصرة تهيؤ نفسَها لحديثٍ عن صعيدٍ باستدعاءِ ملكاتِ الرِّوائيِّ السُّوداني جمال محجوب، وافتتاحِ كلامٍ عن بُقعةٍ باستدعاءِ ذكرى عطرةٍ لأحفادِ المهدي وخليفته. إلَّا أننا نُنبِّه الإحيمرَ منذ الآن بأننا سنتحدَّث -إنْ تهيَّأ ظرفٌ ملائم- لا عن أحبابٍ (أو "حبايب") وإنَّما عن زملاءَ بالمدرسةِ المتوسطة (وكان زميلي محمد النَّذير الإحيمر شاهداً، فأرجو إنْ كان حيَّاً، ولم يكن اسماً على اسم، أو كان واحداً من أقاربِك، أن تستيقنَ منه حقيقة ما أقول) والمرحلة الثَّانوية والدِّراسة الجامعية ومكاتب الخدمة المدنية؛ فقد كانوا دائماً بيننا، يسيرونَ معنا كتفاً بكتف؛ ولا يفترقونَ عنَّا إلَّا لينصرفوا إلى أهليهِم ليسمعوا منهم نصائحَ تُعينُهم على تدبيرِ شؤونِنا، إنْ تسنَّى لهم ظرفٌ مُؤاتٍ للحُكم.

    عِوَضَاً عن أن نُسهبَ في سرد تفاصيلِ اليومِ المشهود لتعيين بوريس جونسون وزيراً للخارجية البريطانية في يوم الأربعاء 13 يوليو 2016 والانتقادات التي انهمرت من كلِّ حَدَبٍ وصَوب، علينا أن نُشيرَ إلى ثلاثِ نقاطٍ رئيسية، لعلها تصلُحُ مجتمعةً كخلفيةٍ لقراءةِ سيلٍ من التَّعليقاتِ التي صدرت من جهاتٍ متعدِّدة حول العالم بشأنِ تعيينِ عُمدة لندن السَّابق في واحدٍ من أعلى أربعةِ مناصبَ في المملكة المتحدة. وهذه النقاطُ الثلاث هي: وظيفة العُمدة والتَّوقُّعات المُحتملة لسلوكِ شاغليها؛ والكتابة على أعمدةِ الصُحفِ اليومية والحرية النِّسبية المُتاحة ضمنها لأقلامِ الكُتَّاب المعروفين؛ وأخيراً، التَّوظيفات المُتضاربة لمفهومِ "الاستقامة السِّياسية" (وهو مفهومٌ سائد في الأدبياتِ البريطانية والغربية على وجهِ العموم، إلا أنه غيرُ معروفٍ بشكلٍ كافٍ في الكتابات العربية والمحلية، على وجه الخصوص؛ لذلك، فإن ترجمته غير مُستقِرَّة لقلَّةِ تداولها وعدم الاتِّفاق العام على أيٍّ من الصِّيغ المطروحة، ومنها: "اللَّباقة السِّياسية" و"الحصافة السِّياسية" "والصَّواب السِّياسي").

    أمَّا بشأنِ وظيفة العُمدة والتَّوقُّعات المُحتملة لسلوكِ شاغليها، فإن أولَ ما يتبادرُ إلى الذِّهن أنها وظيفةٌ إدارية محلية، ويُتوقَّعُ من شاغلِها معرفةٌ بالمنطقة وثقافتها المحلية، وأن يعكسَ سلوكُه ومأكلُه وملبسُه تقديراً لبيئته وأسلوبِ المعيشةِ فيها؛ على أن يتحلَّى في كلِّ ذلك بقدرٍ من الظُّرف والمرح وأن ينثُرَ على مَن حولِه أجواءً من المُتعة والتَّسلية؛ وتتناقص كلُّ تلك الصِّفات نسبياً بقدرِما تتَّسعُ الدَّائرةُ الإدارية التي يشرف عليها العُمدة، وتتنوَّعُ ثقافاتُها، ويصبحُ من المستحيل، كما هو الحال في المُدنِ الكبرى، الدِّفاعُ عن ثقافةٍ بعينِها أو تبنِّي أيٍّ من تعبيراتِها الأكثر سطوعاً، بل الأنسب هو التَّرويج للتَّعدُّد ذاته والاحتفاء بالتنوُّع وإظهار كلِّ أنواعه القابلة للاستحسان من قبل أكبر قطاعٍ من المواطنين.

    وفي ما يختصُّ بكتابة الأعمدة في الصُّحف، فإنها بخلافِ التَّقاريرِ الخبرية التي تتطلَّبُ دقَّةً في محتواها، وثقةً قي مصادرِها، وفحصاً وتمحيصاً لصدقيَّتِها في كلِّ حالةٍ منفردة - خلافاً لكلِّ ذلك، نجد أن الكتابة في الأعمدة الصَّحفية تتطلَّبُ قدراً من الحرية، التي تسمحُ للكاتب بإضفاءِ طَابَعِه الشَّخصيِّ على ما يكتُب؛ فإنْ تميَّز بالعُمق، جاءت تحليلاتُه عميقةً ورصينة، واكتسب جمهوراً من القرَّاء الباحثين عن الكتابات الجادَّة؛ وإنْ تميَّز بالفكاهة والمرح، جاءت كتاباتُه سلِسةً وجَزلة، واكتسب جمهوراً من القرَّاء الباحثين عن التَّسلية والمرح؛ وخيرُ الكتاباتِ ما اختطَّ طريقاً ذهبياً بين الإفراط في الجديَّة والتَّفريط في أن يأخذه القرَّاء على محملٍ من الجد.

    أمَّا النُّقطة الثَّالثة والأخيرة، فهي مفهوم "الاستقامة السِّياسية" وارتباطها بالنُّقطتين السَّابقتين. فإلى أي مدًى يمكن لشاغلِ وظيفةِ عُمدةٍ أن يضفي أجواءً من المُتعة والتَّسلية من غير أن يجرحَ مشاعرَ مُمثِّلي أيٍّ من الثَّقافاتِ التي تقعُ تحت إدارتِه المحلية؟ وكيف يتسنَّى لكاتبِ عمودٍ في صحيفةٍ سياسيةٍ يومية أن يتحلَّى بالفكاهة والمرح من غير أن يتسبَّبَ في إحداثِ تجريحٍ لأيٍّ من قرَّائه العديدين؟

    بدأ مفهوم "الاستقامة السِّياسية" أولَ الأمرِ في أوساطِ الأحزاب اليسارية التي عادةً ما تفرض على عضويتها التَّقيُّدَ بلوائحَ سلوكيةٍ صارمة، من ضمنِها الالتزامُ التَّام بعدم خدشِ مشاعرِ الآخرين أو تعمُّدُ السُّخرية على أيٍّ من الأفراد الممثلين للأجناس والثَّقافات المُتعدِّدة أو الخياراتِ المتنوِّعة أو أصحابِ الإعاقةِ بشتَّى أنواعِها. ولفترةٍ طويلة ظلَّ ممثلو اليمين حائرينَ بصددِ تبنِّي إستراتيجيةٍ ملائمة إزاء هذا المفهوم الذي أصبح، على بداهتِه، حِكراً على ممثلي اليسار؛ إلا أن الفرصة قد سنحت لهم عندما لمِسوا تطرُّفاً واشتطاطاً لدى البعضِ في فرضِ المفهوم على كافَّةِ التَّعبيرات، ومن ضمنها مجال الكوميديا؛ فأصبح المفهوم عند استخدامِهم له نزقاً يسارياً مسعوراً، بعد أن كان عند خصومهم نوعاً من التَّلطُّف في القول.

    في البدء، كان بوريس جونسون عُمدةً للندن المِتروبولية، كما كان كاتباً لأحدِ الأعمدةِ الثَّابتة بصحيفة "الدِّيلي تلجراف" اليومية؛ وفي كلتا الوظيفتين، اختبر وزيرُ الخارجية الجديد مفهوم "الاستقامة السِّياسية" ببُعديه المتعارضين؛ فبصفتِه عُمدةً لحاضرةٍ متعدِّدةِ الثَّقافات، كان مُلتزماً بالدِّفاع عن هذه التَّشكيلة المِتربولية البالغةِ التَّنوُّع؛ إلَّا أنه من هذه القلعةِ الحصينة على جانبَيْ نهر التِّيمز، لم يتورَّع في إبداءِ السُّخرية اللَّاذعة على كلِّ زعماء العالم: من باراك أوباما إلى أنجيلا ميركل وحتى رجب طيِّب أردوغان، كما لم تسلم الجارة فرنسا من لسانِه، الذي اتَّسع مداه حتى وصل إلى أرضِ الصِّين. وبصفتِه كاتبَ عمودٍ بصحيفةٍ محسوبةٍ على حزبِ المحافظين، كان عليه الالتزام بسياسةِ الحزب إزاء عضويتِه المُختلفةِ المشارب؛ إلا أنه قد وظَّف العمود، بما يتيحه له من حريةٍ نسبية، في توصيلِ السَّباب والتَّعليقات الجارحة إلى أقصى مدًى لها ببكين.

    إلا أن جونسون لم يعُد عمدةً للندن، منذ أن تولَّى صادق خان هذا المنصب في 9 مايو 2016؛ كما توقَّف نهار اليوم الاثنين عن كتابة العمود الذي كان يدرُّ عليه مبلغاً قدره 247 ألف جنيه في العام، ليتفرَّغ إلى وظيفة وزير الخارجية التي تمَّ تعيينه بها في 13 يوليو 2016. وبهذا يكونُ قد تجفَّف كلُّ المصادرِ التي كانت تُتيحُ له قدراً من الحرية النِّسبية؛ فإذا كانت وظيفة العُمدة تسمحُ له بقدرٍ من المناورة في التَّعبير، وأن الكتابة في العمود كانت تُفسِحُ له مجالاً واسعاً للتَّصرُّف بالكلمات؛ فإن منصب وزير الخارجية، تحت سمع وبصر دهاقنة الدِّبلوماسية العالمية ودُهاتها الذين لا يُشقُّ لهم غبار، سيعلِّمه الحكمة، والعبارة المُقتضبة، والحِنكة الدِّبلوماسية؛ هذا غير تلقينه بملاعقَ من فِضَّةٍ لمفهوم "الاستقامة السِّياسية".

    هذا بالطَّبع، إنْ أراد التَّعلُّم؛ وإلا تعلَّمنا نحن، فيما ستُبدي لنا الأيامُ مما نجهل، أو يأتينا بوريس بطرفٍ من إبداعاتٍ وقفشاتٍ لم تكن تخطُر على بال. وفي كلِّ الأحوال، سنفتقد، مع عمقِ اختلافنا معه، جزالة عبارتِه، ورشاقة كَلِمَتِه، وعُمقَ فكرتِه، وحسِّه الكوميديِّ العالي. وشكراً له، فقد زوَّدنا في آخرِ مقالٍ له بصحيفة "الدِّيلي تلجراف" بتاريخ اليوم الاثنين 18 يوليو بتبصُّرٍ عميق لأداءِ وزارة الخارجية البريطانية في يومِ كريهةٍ أو ما اصطُلح على تسميته في الدَّوائر الدِّبلوماسية بـ"وضع أزمة" (كرايسِس مُوْد)، في إشارةٍ إلى تتبُّع أحوال العالقين البريطانيين في صالةِ الجمارك بمطار إسطنبول أتاتورك، إبَّان المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا.


    محمد خلف

                  

08-14-2016, 01:21 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

                  

08-15-2016, 05:58 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    "صَفُّونا صفَّاً صفَّا.. الأجهرُ صوتاً والأطول وضعوه في الصَّفِّ الأول" يتحرَّك كلُّ شخصٍ مِنَّا ضمن شبكةٍ من التَّرابطات الاجتماعية؛ لذلك، لا يأتي أيٌّ منَّا إلى ذاكرةِ الآخر فردا، بل يتداعى إليها معه في ذاتِ الوقتِ نَفَرٌ ذوو صلةٍ بالدَّائرة المشتركة. على أن الأمرَ لا يخلو من تدافعٍ وتزاحمٍ جائرٍ على مدخل الذَّاكرة. وما يدخلُ إليها أولاً، ليس هو دائماً ما يستحقُّ احتلالَ المقاعد الأمامية منها. فهناك اعتباراتٌ تخرج عن سيطرة التَّقييم الموضوعي؛ منها، بسطةُ الجسم، وضخامةُ الجثَّة، وسماحةُ المُحَيَّا، وعُلُوُ الصَّوت، وكثرةُ الضَّجيج، وتميُّزُ المسكن، وأناقةُ الهندام (وكلُّنا يذكرُ مقولة الشِّيخ فرح الشَّهيرة: "أُكُلْ ياكُمِّي قُبَّالْ فمِّي" أو عدم تعرُّف حارس البوَّابة على البروفيسور عبدالله الطَّيِّب، ومنعه من الدُّخول، مع أنَّ صوته كان يأتي إلينا يومياً عبر المذياعِ في شرحِه المُيسَّرِ لما تيسَّرَ من الذِّكر الحكيم، بصُحبة الشِّيخ صدِّيق أحمد حمدون).

    تعرَّضنا في متن الرِّسالة، والمشاركاتِ التي جاءت في أعقابِها، إلى عددٍ من مشاهير المبدعين، على رأسهم الصَّديق عادل القصَّاص، إلَّا أننا قد حرصنا، إلى جانب ذلك، أن نفسَحَ المجالَ لعددٍ من المنسيينَ، على عِظَمِ مساهماتهم؛ والمهمَّشينَ، على مركزيةِ نتاجهم الفكري؛ والأخفضِ صوتاً، على ارتفاع هامتهم المعرفية؛ والأبعدِ عن دائرة الضُّوء، لأنهم قابعون خلف البؤر والكواليس التي تُحَدِّدُ في الأصل مساره وانكساره قبل سقوطه على الشُّخوص المتحرِّكة على الخشبة. وعندما تحدَّثنا عن الحركة البنيوية في السُّودان، حرصنا على أن نُلقيَ مزيداً من الضُّوء على مجهودات الأستاذ المفكِّر محمد عوض كبلو، قبل رسوخ المصطلح على كتفي الأستاذين الصَّديقين عبداللَّطيف علي الفكي وأسامة الخوَّاض؛ ولم يخطُر ببالنا قط -إلَّا بعد مشاهدة عمل الفنَّان التَّشكيلي أحمد عامر حول قصيدة سيدأحمد بلال عن المبدع عبدالواحد ورَّاق- أننا أغفلنا شخصاً لا يُمكِنُ فهمُ دورِ الضُّوء نفسِه دون الاستعانة باستبصاراته الحاذقة؛ وذلكم هو الشَّخصُ المهذَّب، الأخفضُ صوتاً، والأرفعُ مقاماً، والأَحَدُّ بصراً، والأنفذُ بصيرةً: الأستاذ الفنَّان التَّشكيلي محمد عبدالرَّحمن حسن.

    كان من روَّاد الحركة البنيوية في السُّودان، في مجالٍ فرَّ فيه النَّقدُ عن موضوعاته؛ فدعانا الأخ محمَّد في وقتٍ باكر، عبر محاضراتٍ عامَّة ألقاها في كلية الفنون الجميلة، إلى تأمُّلِ الأعمال الفنية ذاتِها، والنَّظرِ إلى اللَّوحة، على سبيل المثال، بوصفها نصَّاً تتشابكُ فيه علاقاتٌ متداخلة للشكلِ واللَّون، تشكِّل فيما بينها بنيةً قادرةً على استكناه الدَّلالات العميقة للعمل الفني، عوضاً عن الاكتفاء بالسِّيرة الذَّاتية للفنَّانين التَّشكيليين أو سرد مآثرهم أو التَّرويج لمذاهبهم الفكرية أو نسج أقاصيصَ لا تمِتُّ لأعمالهم الأصلية (أي "نصوصِهم" التَّشكيلية) بأدني صلة. وكان محمَّدٌ يجري تحليلاتِه العميقة بيُسرٍ مدهش، فلا تستعصي عليه حتى ابتسامة "الموناليزا" لدافنشي، أو "عبَّاد الشَّمس" لفان جوخ، أو أيٍّ من "تجريدات" موندريان، أو كلٍّ من "زنابق المياه" (أو "النِّيلوفر") لمونيه؛ ناهيك عن الفنَّانين التَّشكيليين الذين أنتجتهم بيئته المحلية، ومن ضمنهم أحمد عامر، صاحب اللَّوحة التي أمامنا، التي رسمها في توضيحٍ موازٍ لقصيدة سيدأحمد عن ورَّاق.

    محمد خلف

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 08-18-2016, 01:37 AM)

                  

08-17-2016, 11:05 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    أن تتوفر الظروف لك وتلتقى بأناس يمتلكون طاقاتٍ من الإنسانيه وقدراتٍ فى تنزيلها على واقعهم الحياتى الذاتى والمنفعل مع الآخر وبأريحية ساحره كالتى تلمستها فى شخوصٍ شتى وفرتهم هذه الكتابة الرصينة العميقه والتى أكرم الله بها عزيزنا محمد خلف فدلقها خيراً للناس فى هذا الخيط الأوحد المتفرد والذى جمعنا بمسعودٍ فى صياصيه وبسيد أحمد ووراق وعبدالرحمن والسر السيد والقصاص وآخرون أكثر بذلاَ لله درهم جميعاَ ولكنى عايشت بعقلى وروحى حجم الوفاء والرباط الروحى بين هولاء البشر النوادر وكيف لا فقد سطر سيد أحمد قصيدة معبرةَ عن وراق قاله فيها بتفاصيلٍ كثيفة لطيفه تخطفها الفنان التشكيلى أحمد عامر ليقوله فى لوحةٍ تشكيلية معبره أضافت لتلك اللوحه التى طرزتها سكينه كمبال بخامة من لغة الشايقية القحة العكاسة للأشياء كما هى فأخرج كل ذلك لنا ما يخفيه وراق عنا من ذاته تلك الجميلة الناصعه بصوفيته وزهده وإنتمائه الفطرى للبساطة والعفوية الصادقه فيا وراق يا من أورقت دواخله وخصاله تلك الشتول النواضر اليانعات للناس، فمالك تخفى عنا كل ذلك يا ملك الأخفياء الأقوياء من أهل الصدق والإلتزام وصحو الضمير أو ليس بأولى لك أن تمنح من هم أولى ذلك الجمال الروحى النادر والذى حباك به الله فحبب فيك خلقه يا وراق فعبرك يا عزيز أشكر الإخوة عبدالرحمن وسيد أحمد وخلف وأشكر الأخت سكينه التى جلبت لنا السكينه بقراريص حكوها الطاعم عنك فلك وللكل الحب والسلام.

    منصور
    (عدل بواسطة munswor almophtah on 08-18-2016, 01:41 AM)

                  

09-10-2016, 11:37 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)


    أحمرُ وأخضرُ وما بينهما (مليحُ اللَّمى) حلوٌ وطازَج

    إذا كانت سُكينة أحمد كمبال قد ساقتنا بطلاوةِ حديثِها وحلاوةِ لهجتِها واسمِها العذبِ الرَّخيمِ إلى عالمِ التَّصغير، فإن محمد عبد الرَّحمن حسن (بوب) قد قادنا بسَمتِه الأجملِ إلى عالمِ التَّفضيل؛ فاسمُه الذي تأتي صيغتُه دائماً على وزنِ "أفعل" قد غطَّى المشاركة السَّابقة بهمزاتِه البارزة عند أولِ الكلم، فأكسبها حِدَّةً ظاهرةً في الدَّوال، وقطعيَّةً خفيَّةً في الدَّلالة ( فجاء قولُنا عنه في ذاتِ الحلقةِ بأنه "الأخفضُ صوتاً، والأرفعُ مقاماً، والأَحَدُّ بصراً، والأنفذُ بصيرةً")، وكأنَّنا كُنَّا نُريدُ أن نُشيرَ إلى تمرُّدٍ مُبكِّرٍ لدى مُحمَّدٍ على الأطُرِ التي تسعى لخنقِ بعضِ سماتِ التَّفضيلِ في مهدِها. إلا أننا سنُرجئُ كلامَنا على "اسمِ التَّفضيلِ" إلى حلقةٍ قادمة، ونتناولُ عِوضاً عن ذلك وتمهيداً له، صيغةَ "أفعل" غير التَّفضيلية، التي يكونُ مؤنَّثُها على صيغةِ "فعلاء"، مثل "أحمرَ-حمراء" (وليس "حُميراء" التي أشرنا إليها في الحلقةِ السَّابقة عن التَّصغير)، و"أخضرَ-خضراء"، لنفسحَ بينهما -رغم مُقترحِ المُجمَّعِ اللُّغوي الشَّهير، وفشلِه المُدوِّي في فرضِ ترجمة "ساندويتش" على مُستخدمي العربية- مكاناً للطَّزاجةِ المحبَّبة.

    منذ أن تفتَّحت أعيُنُنا على مظاهرِ التَّحديثِ الأوروبي (ولا أقولُ الحداثةَ الأوروبية ذاتَ الشَّأنِ التي خبِرناها لاحقاً بصبرٍ ومثابرة)، كانت أغلفةُ المجلَّاتِ الصَّقيلة تعِجُّ بالهيفاوات ذواتِ الشَّعرِ المُسترسِل، والأصباغِ الصَّارخة، وأحمرَ الشِّفاهِ الذي يحتلُّ مكاناً بارزاً في صورةِ الوجهِ وطُبُوغرافيا الصَّفحةِ الأمامية على حدٍّ سواء. وتكادُ لا تخلو أيٌّ من مجلَّاتِ المُوضةِ الشَّهيرة في أيِّ أسبوعٍ من تلك الحُمرةِ الفاقعة، التي تُعرَضُ على الأغلفةِ والصَّفحاتِ الدَّاخلية بدرجاتٍ متفاوتةٍ منها، إلَّا أنها تُشيرُ جميعُها إلى قدرٍ من المُبالغةِ في الصَّنعة، إنْ لم نقلِ الاصطناعَ البائنَ فيها. وعلى مستوى العقلِ الباطنِ الجمعي (بالمعنى الذي قصده غوستاف يونغ، الذي تحدَّثنا عنه في مشاركاتٍ سابقة)، كانت هذه الصَّنعة التَّجميلية المُتقنة، بكلِّ ما تحملُ من معاني الزَّيفِ ومفارقةِ العاديِّ والمألوف، تضعُ المُنْتَجَ الأجنبي، الذي تُمثِّله الحُمرةَ (التي أباها المهدي، أي كرِهَها)، في مقابل المُنْتَجِ المحلي، الذي تُمثِّله الخُضرة، بكلِّ ما تحملُ من دَلالاتِ الخِصبِ والنَّماء، بحسب نظرية النَّماذج والرُّموز الأصلية التي تبنَّاها يونغ.

    إلا أن هذا الغِطاءَ الأخضر، على قُربِه من الدَّلالةِ على المزارعِ النَّامية في التُّربةِ المحلية، وبُعدِه عن الإشارةِ إلى المصانعِ القادمة مع الزَّحفِ الأجنبي، وعلى مراوغته وصبغته اللَّونيةِ المُضلِّلة، كان يُخفي عُنفاً يُمارسُ بشكلٍ عادي -من غير أن ترمُشَ عينٌ أو يخفقُ قلب- على الجسدِ الأُنثويِّ البرئ. فقد كانتِ الشِّفةُ السُّفلى للأنثى المُقبِلة على الزَّواج تُوخزُ بالإبرِ وشوكِ العوسج إلى أن تدمي، فيتمُّ حشوُها بسائلٍ أخضرَ مُستخلصٍ من مرارةِ السَّمك أو رشُّها ببودرةِ (أو "دُقَّةِ") الكحل، إلى أنْ تكتسِبَ لوناً أخضرَ (أي أسودَ)، حتى يُسقى فارسُ أحلامِها من شفةٍ خضراءَ "أحلى من الزُّلال وأنقى". ولا نُريدُ بهذا الوصفِ أن نصُبَّ غضباً على "المُعتدِي"، وإنما نُريدُ، جَريَاً على روحِ التَّسامحِ التي ابتدرها المجذوب، أن نُشيرَ -في إطارِ الإثمِ الجمعي، وبالإنابةِ عن أمِّي حاجَّة مُنى- إلى اعتذارِ "المُعتَدَى عليها" الذي نبَّه عليه شيخُ الشُّعراءِ السُّودانيين، حين قال في قصيدة "سيرة": "شلَّخُوها حتى تُضِيءَ فأضمَرَتْ حناناً لأمِّها واعتذارا".

    وفي بلادِ الأندلس، التي يمتزجُ فيها رائحةُ المُنتجِ المحليِّ بنكهةِ الأجنبيِّ المُستورد، ويختلِطُ فيها حابلُ الأنا بنابلِ الآخر، ويتنازعُ على سواحلِها كلٌّ من الماضي والحاضر ويتدافعانِ داخلَ مُخيَّلةِ العقلِ العربيِّ الجمعي، كانتِ الفتياتُ البيضاواتُ يصبُغنَ شفاهَهُنَ بمسحوقٍ طازَجٍ من جذورِ أشجارِ اللَّوز، فيُكسِبُها سُمرَةً في اللَّونِ ورائحةً ’طبيعيةً‘ ذكية؛ ومن أجلِ ذلك، على وجهِ التَّحديد، يكثُرُ في الموشَّحاتِ ذِكرُ اللَّمى (وهي سُمرَةُ الشِّفاهِ أو شِدَّةُ سوادِها)؛ ومن فرطِ استحسانِهم لها، غالباً ما يصِفُها الشُّعراءُ الأندلسيون العربُ بالمَلاحَة (وشُكراً لصديقي عبد الواحد ورَّاق، الذي أرسلَ لي أغنية "يا مليحَ اللَّمى وحلوَ التَّثنِّي"، فأدمنتُ الاستماعَ إليها بصوتِ فيروزَ، إلى أنْ قادني صدى لحنِها العذبِ داخلَ أذُنُيَّ بطُرُقٍ مواربةٍ، على خُطى المحجوبِ، إلى أعتابِ قرطبة؛ وعلى خُطى عُمدة لندن السَّابق إلى مشارفِ غرناطة وأزِقَّةِ ألبيثنَ ذاتِ النَّكهةِ العربيةِ السَّاحرة).



    سنحاولُ أن نتمعنَ قُبيل العيدِ في بعضِ معاني التَّفضيلِ في صيغة "أفعل"، التي استدعتها المشاركةُ السَّابقة بخصوص الاعتذارِ للأستاذ محمَّد عبدالرَّحمن، إلى أن نصِلَ –بإذنِ الله- إلى فهمٍ ناصعٍ لها، بحلولِ العيدِ الكبير.

    محمد خلف

                  

09-12-2016, 10:10 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    فضاء اسم التَّفضيل: من مجال الحقيقة إلى مشارفِ الحق

    -الحلقة الأولي-

    مهَّدنا في المشاركةِ السَّابقة إلى اسمِ التَّفضيل بحديثٍ عن صيغةِ "أفعل" الأخرى لغيرِ التَّفضيل، مثل "أحمرَ" و"أخضرَ"، ونُميِّزُها عنه بأن المؤنَّثَ منها يأتي دائماً على وزنِ "فعلاء"، مثل "حمراء" و"خضراء"؛ والتي قادنا الحديثُ عنها إلى الموشَّحات، والكشفِ عن بصيصِ توهُّمٍ أو شعورٍ فاترٍ لدى شعرائها بوجودِ طزاجةٍ ’طبيعية‘ في أحشاءِ بلادِ الأندلس، ضاعت بضياعِها؛ ويتمُّ الحنينُ إليها باستدعاءِ "اللَّمى"، وملاحتِها الآسرة، التي تُعيدُ إلى مُخيَّلةِ العقلِ العربيِّ "الذكوريِّ" الجمعي "فردوسَها المفقود". أمَّا في هذه الحلقة، فإننا سنعودُ إلى الصِّيغةِ "ستِّ الاسم"، التي أثارها حديثُنا عن محمَّدٍ "صاحبِ الاسمِ" الأجمل؛ وهو الفنَّانُ التَّشكيلي والنَّاقدُ الفنِّي "الأخفضُ صوتاً، والأرفعُ مقاماً" محمَّد عبدالرَّحمن حسن (بوب).

    تخترقُ صيغةُ التَّفضيلِ، في نظرِنا، مجالَ الحقيقةِ من أقصاه إلى أقصاه، فهو مجالٌ قائمٌ بصورةٍ رئيسية، خصوصاً جانب العلوم الاجتماعية والأحياء منه، على آليةِ التَّدورُنِ الأساسية، وهي الانتخابُ الطَّبيعي؛ ويُمكنُ تمديدُ هذه الآلية لتغطِّي كافة أوجهِ الكونِ المرئي، مثلما يسعى علماءُ الكونيَّاتِ إلى تحقيقِه؛ ومنهم، على سبيلِ المثال، مارتن ريز، عالم الفلك الملكيِّ البريطاني، منذ عام ١٩٩٥. فلِكَي تتدورَنُ خاصيَّةٌ ما، اجتماعيةً كانت أم طبيعية، لا بدَّ من وجودِ خاصيَّتينِ (أو أكثر) بين نفسِ الكائنِ الحي أو الفردِ أو الجماعة، يقوم بينهما تغايرٌ في البنية أو الشَّكلِ أو الوظيفة، بحيث يُمكنُ المحافظة بواسطةِ عمليةِ التَّدورُنِ على أفضلِها وأكثرها ملائمةً لبقاءِ النَّوع أو تكيُّفِه وتحقيقِ أفضلِ شروطِه عن طريقِ الانتخابِ الطَّبيعي. فإذا تساوتِ الخواص، وانتفى بينها التَّفاضل، يتجمَّدُ الكائنُ على صورتِه، فيدورُ في مكانِه، عِوضاً عن تدورُنِه إلى الأفضل، والأكثرِ قدرةً على البقاء، والأبعدِ احتمالاً عن الانقراض.

    وفي سعيِّ البشرِ باختيارِهُمُ الحرِّ لتحقيقِ العدالةِ الاجتماعية، وشوقِهُمُ الجارفِ للمسِها باليدِ العارية ورؤيتِها بالعينِ المجرَّدة، لا بدَّ من الانتباهِ إلى الفعلِ الطَّبيعيِّ المضاد الذي ترسِّخه آليةُ الانتخابِ الطَّبيعي؛ فَلو تُركت على سجيَّتِها، لتحوَّلنا إلى حيواناتٍ مفترسة؛ ولو تجاهلنا تأثيرَها أو عطَّلنا أثرَها، لدارت قدراتُنا في مكانِها، ولمُنِعَ أفضلُها من التلاؤم، ناهيك عن التَّدورُنِ إلى الأفضل، الذي يستدعيه اسمُ التَّفضيل. ففي عالمِ الوحوش والأنيابِ البارزة والمخالبِ الدَّامية، –تعضيداً للتَّنافسِ أو دفاعاً عن الذَّات- يتراجعُ ذكرُ محمَّدٍ وينخفضُ صوتُه؛ وفي حضرةِ ورَّاقٍ والنَّاسِ الأفاضل،–بُغضاً للمزاحمةِ أو نُكراناً للذَّات- يتجلَّى نورُ محمَّدٍ ويرتفعُ هامتُه حتى تكادُ أن تعانقَ أنجمَ السَّماء. ومن أجلِ ألا نكونَ نهباً لهذينِ القطبَيْنِ المتنازعَيْن، نطلبُ من مبدعينا وأفضلِ أساتذتِنا أن يرسموا للنَّاسِ طريقاً ذهبياً أو "خاطفَ لونَيْن"، كالذي يبشِّرُ به عددٌ من آيِ الذِّكرِ الحكيم: "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومَاً مَحْسُورَاً"؛ (سورة "الإسراء"، الآية رقم ٢٩)؛ "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامَاً"؛ (سورة "الفرقان"، الآية رقم ٦٧).

    أمَّا في التَّنظيماتِ السِّياسية والتَّجمُّعاتِ المذهبية والتَّكويناتِ الاجتماعية ومنشآتِ العملِ ومكاتبِ الدولة، فإن أصحابَ الفضلِ والامتيازاتِ الشَّخصية إن تُرِكَ لهم الحبلُ على الغارب، فإنه ينشأ عن ذلك ظاهرةُ الدِّيكتاتورية والاستفرادِ بالرأي والتَّسلُّطِ البطريركي والتَّعسُّفِ الإداري والظُّلمِ الوظيفي؛ وإن تمَّ تجاهلُها أو التَّبخيسُ من دورِها أو إضعافُها، فإنه ينتجُ عن ذلك ضَعفُ الشَّخصية ونقصُ الكاريزما والسَّبهللية وتدنِّي الإنتاجية والتَّسيُّبُ الإداري. ومن أجل ذلك لا ندعو إلى توفيقيةٍ تلفيقية أو إمساكٍ واهنٍ للعصا من وسطِها، وإنَّما ندعو دائماً إلى إعمالِ العقلِ واستخدامِ أقصى درجاتِ الحكمة لبعجِ مسارٍ أو صقلِ طريقٍ ذهبي، يمهِّد الطَّريقَ لامتصاصِ التَّوتُّرِ وإقامةِ العدلِ بالاعتدالِ ومُخالقةِ النَّاسِ (أي معاملتِهم) بخُلقٍ حَسَن؛ "وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"؛ (سورة "آل عمران"، الآية رقم 159).


    سنحاول أن نستكشف، بِإِذْنِ الله، في حلقةٍ قادمة، نرجو لها أن تُستكملَ قبل انقضاءِ العيدِ الكبير، فضاءَ اسم التَّفضيل، الذي يتاخمُ مشارفَ الحقِّ، من غيرِ جزمٍ بالوصولِ إليه.

    محمد خلف

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 09-13-2016, 00:10 AM)
    (عدل بواسطة munswor almophtah on 09-13-2016, 00:11 AM)

                  

09-18-2016, 11:28 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    فضاء اسم التَّفضيل: من مجال الحقيقة إلى مشارفِ الحق


    -الحلقة الثَّانية-

    تعرَّضنا في الحلقةِ السَّابقة إلى اسم التَّفضيل في مجال الحقيقة، وسنسعى في هذه الحلقةِ المكمِّلة إلى تلمُّسِ خُطُواتِنا على مشارفِ الحقِّ، فلربَّما نعثُر بفضلٍ من الله على صُوًى على سبيلِه، فتُهدينا إليه. وما أحوجُنا إلى مثلِ هذه المناراتِ على طولِ الطَّريق؛ فهل نجِدُ في سبيلِ الحقِّ خيراً من آيِ الذِّكرِ الحكيم؟ فالآياتُ في جوهرِها علامات، ولكنْ شتَّانَ ما بين إماراتٍ تهدي إلى الحقِّ، وبين علاماتٍ أخرى تؤطِّرُ لعلمِ النُّصوصيَّة أو تغذِّي عِلمَ العلامات (أي عِلم السِّميولوجيا أو السِّميوطيقا؛ وهي ليست السِّيمنطيقا، التي تُشيرُ إلى عِلم الدَّلالة). فالاهتداءُ إلى دَلالةِ الآياتِ هِبةٌ من الحقِّ، ويستند في واقعِ الأمر، وقبل كلِّ شيءٍ، على الإيمان؛ أمَّا النَّظرُ إليها بوصفِها نصوصاً قابلةً للتَّفسير الدَّلالي بمدارسِه المختلفة، فهو كسبٌ إنساني، يزدهي به مجالُ الحقيقة، الذي تُمثِّله في عصرِنا خيرَ تمثيلٍ المذاهبُ النُّصوصيَّةُ الحديثة. ونحنُ لا نضعُ الحقَّ والحقيقةَ في مسارٍ تصادمي، وإنَّما ننظرُ إلى علاقةِ اللَّاتماثلِ القائمةِ بينهما، حيث يستغني الحقُّ عن غيرِه، بينما تفتقرُ الحقيقةُ، بنقصِها الدَّائمِ، إليه.

    لم يعترض اسمَ التَّفضيلِ في مجالِ الحقيقةِ عائقٌ، فهو مبنيٌّ في الأساس على فضلٍ نسبي، يعزِّز في وجودِه -القائمِ دائماً على خاصيَّتين أو أكثر- استخدامَ الاسم (أي اسم التَّفضيل)؛ فنقولُ إن الحصانَ أسرعُ من حمارِ الوحش أو أن العقربَ أشدُّ لَسعَةً من الزُّنبور (في إشارةٍ إلى "المسألة الزُّنبورية" التي تعرَّضت لها الرِّسالة، من غيرِ أن نُثيرَ هنا نُكتَتَها –أي علامتها الخفيَّة- النَّحوية)، حيث يُوجدُ دائماً طرفان، تُمكِّنُ العلاقةُ بينهما من إجراءِ مقارنةٍ، يكونُ طرفٌ فيها أفضلَ في صفةٍ أو خاصيَّةٍ ما من الطَّرفِ الآخر. إلَّا أن الحقَّ واحدٌ، ولا يُضاهيه غيرُه؛ فما هو جدوى استخدامِ اسمِ التَّفضيلِ مع الحقِّ الواحدِ في غيابِ ما يُماثِلُه؟

    نبدأ إجابتنا على هذا السُّؤال بالقول إن القرآنَ كلامُ الله، وهو الحقُّ، وقولُه الحقُّ، إلَّا أنَّه نزلَ على بَشَرٍ بلسانٍ عربيٍّ مبين؛ ويشتملُ على قصصٍ عن البشر، تنقلُ أقوالَهم، وتعقِدُ مقارناتٍ بصددِهم؛ فلا غروَ أنْ كثُرَ استخدامُ اسمِ التَّفضيلِ في القرآنِ الكريم. فلمَّا نُودي موسى إلى الوادي المُقدَّسِ، قال لربِّه: "وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانَاً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءَاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ"؛ (سورة "القصص"، الآية رقم ٣٤). ويحضُرنا أيضاً إخوة يوسُفَ "إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ"؛ (سورة "يوسف"، الآية رقم ٨). وقال تعالى عن تفضيلِ النَّاس بعضهم على بعضٍ في الدنيا وتفاوتِهم في الآخرة: "انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلَاً"؛ (سورة "الإسراء"، الآية رقم 21)؛ وقال اللهُ في شأنِ الغيبِ وأمر السَّاعة: "وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"؛ (سورة "النَّحل"، الآية رقم 77)؛ ويخبر الله تعالى عن نفسه في حديثه إلى نبيِّه محمَّد: "وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى"؛ (سورة "طه"، الآية رقم 7). وفي تجاورٍ ملفتٍ لدَلالة الإيجاد مع تقديرها المجازي، يقول إلياس لقومه: "أتَدْعُونَ بَعْلَاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ"؛ (سورة "الصَّافات"، الآية رقم 125)؛ وفي نفس المعنى، يقول الله تعالى عن إنشاءِ البشر: "ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامَاً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمَاً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقَاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ"؛ (سورة "المؤمنون"، الاية رقم 14).

    وما يُلفتُ النَّظرَ في القرآنِ الكريم أن أشهر صيغة تفضيلٍ نعرفها، وهي "الله أكبر"، التي نُردِّدُها ستةَ مرَّاتٍ في كلِّ ركعةٍ من الصَّلوات الخمس وخمسَ مرَّاتٍ في تكبيرِ العيدين، لم ترِدْ مُطلقاً في القرآن، على أهميتها المركزية ضمن أُسسِ العقيدةِ الإسلامية؛ فهل من تفسيرٍ واضحٍ لهذا الغياب المُدهش، الذي قد لا يُصَدِّقُه بعضُ القرَّاءِ إلَّا بالرُّجوعِ مُجدَّداً إلى متنِ القرآن؟ وقبل أن ينصرفَ البعضُ مُسرعاً إليه للاستيقانِ من صِحَّةِ هذا الأمر، يجب التَّنبيه على أن هناك تماساً في ثلاثةِ مواضعَ لاسمِ الجلالةِ (الله) مع صيغة التَّفضيل (أكبر)، من غير أن يتمَّ إسنادٌ كاملٌ للصِّيغة إلى اسم الجلالة، بحيث تُصبحُ هي العبارة ذات الشَّأن: "الله أكبر". وهذه المواضع الثَّلاثة هي: "وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ"؛ (سورة "العنكبوت"، الآية رقم 45)؛ "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ"؛ (سورة "غافر"، الآية رقم 10)؛ "وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ".

    في هذه المواضع الثَّلاثة، اقتربتِ العبارةُ القدسية من تحقيقِ نفسها، ولكنها لم تكن؛ فالقرآنُ على سعته، واحتوائه على مُحكم تنزيله، وربَّما لأنَّه في الأصلِ تنزيلٌ، من لوحٍ محفوظٍ، إلى بشر، لا يسعُ عبارةً تفتح بصيغتها التَّفضيلية المميَّزة على رحاب الحقِّ، وتطلُّ بشحنتِها الدَّلالية المفتوحة على المُطلق، حيث لا يكونُ لدى مشارفه موجودٌ غيره؛ فحَقَّاً، "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" (سورة القصص، الآية رقم 88)؛ و"كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" (سورة "الرَّحمن"، الآيتان رقم 26 و 27). فغيابُ صيغة (الله أكبر)، تماماً مثل غياب مفردة "الحقيقة"، من متنِ القرآن، يُعطينا ثقةً في وجاهةِ ما نقول، إلا أننا في هذا الشَّأنِ نكتفي، مع ذلك، بالقول في ختام هذه الحلقة إن اللهَ أعلمُ.




    سنسعى في حلقةٍ قادمة لأنْ نوضِّحَ لماذا وجَّهنا خطابنا في الفقرةِ قبل الأخيرةِ من الحلقة السَّابقة إلى مُبدعينا وأفضلِ أساتذتِنا، طالبينَ منهم أن يرسموا للنَّاسِ باستخدامِهم لأقصى درجاتِ العقل طريقاً ذهبياً، تُبشرُ به عددٌ من آيِ الذِّكرِ الحكيم؛ كما سنسعى لأنْ نوضِّحَ، مثلما فعلنا في حلقاتٍ سوابق، لماذا نعتمدُ القصصَ القرآني، عِوضاً عن أساطيرِ الأولين؛ ولماذا نختارُ الأديانَ الكتابية، بدلاً من أديانِ السِّجلِ الأنثروبولوجي.

    محمد خلف


                  

09-25-2016, 03:18 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    النِّسبية وياء النَّسب: اعتدالُكم ربيعيٌّ ياعادلُ في ملبورن، واعتدالُنا هنا في لندنَ خريفيٌّ؛ فتأمَّل!

    كان يومُ أمسِ في الجزرِ البريطانية مُساوياً في ساعاتِه تماماً لليلتِه، فيومُ الخميس ٢٢ سبتمبر من عام ١٩١٦ يُصادِفُ الاعتدالَ الخريفيَّ في نصفِ الكرةِ الشَّمالي؛ وهو أيضاً، وفي ذاتِ الوقت، الاعتدالُ الرَّبيعيُّ في نصفِها الجنوبي؛ بمعنًّى آخر، فإن اعتدالَكم ربيعيٌّ هناك ياعادلُ في مِلبورن (في أسفلِ الكرةِ، بالنِّسبةِ إلينا، أو "داونْ أندرْ"؛ وهو التَّعبيرُ الاصطلاحيُّ الذي يُطلِقُه البريطانيون على أستراليا)، واعتدالُنا هنا في لندنَ (في أسفلِ الكرةِ، بالنِّسبةِ إليكم) خريفيٌّ؛ فتأمَّل! وكان بإمكانِ الأستراليين (بمن فيهم أنتَ يا صديقي وجمهرةُ السُّودانيينَ المُنتسبينَ إلى ذلك البلدِ البعيد) أن يصنعوا من ذلك التَّعبيرِ الاصطلاحيِّ سَفَرُوقَاً مجازياً، يُعيدون توجيهَه إلى نُحُورِ البريطانيين (بمن فيهم نحنُ جمهرة السُّودانيين المُنتسبين إلى هذا البلدِ الجذَّاب). فالكرةُ المستديرةُ تَسمَحُ بتعدِّدِ وُجهاتِ النَّظرِ ونِسبيَّتِها، من غيرِ أن تُلغيَ وَجَاهَتَها أو تُضعِفَ من قوتِها الدَّلالية. وهي في ذلك كما الحقيقة، التي تتعدَّدُ بتقلُّبِ الأوقاتِ وكثرةِ زوايا الشَّوف؛ على خلافِ الحقِّ، الذي لا يتأثَّرُ بدورانِ الأرضِ أو يخضعُ لابتلاءاتِ الزَّمن.

    وهذا ما أدركه ألبرت آينشتاين في فكرةٍ جميلة، وتعبيرٍ شهير. أمَّا الفكرةُ الجميلة، فهي إعادةُ تفسيرِه للقانون الثَّالث للحركة عند إسحق نيوتن، وهو القانونُ الذي ينصُّ على أن "لكلِّ قوةِ فِعلٍ ردَّ فِعلٍ مُساوياً لها في المقدار ومُعاكساً لها في الاتِّجاه". فتخيَّلَ آينشتاين (ولم يتأمَّلْ فقط)، في حالةِ السُّقوطِ الحُرِّ (وهو سُقوطُ الجسمِ نحو مركزِ الأرض، في غيابِ أيِّ قوةٍ أخرى، عدا جاذبية الأرض)، عِوضاً عن تحرُّكِ جسمِه باتِّجاهِ الأرض، أن تتحرَّكَ الأرضُ ذاتُها صاعدةً نحوَه (ما فيش حدِّ أحسن من حد، فكلاهما مُساويانِ في المقدار، ومُعاكسانِ في الاتِّجاه). أمَّا التَّعبيرُ الشَّهير، فهو قولُه إن "اللهَ لا يلعبُ النَّردَ بإزاءِ الكون"، وهو القولُ الذي جاء في أعقابِ اعتراضِه على مبدأ اللَّاحتميَّة، الذي أرسته ميكانيكا الكم (أي الميكانيكا أو الفيزياء الكوانتية)، عِلماً بأنَّ آينشتاين كان واحِداً من مؤسِّسيها الأوائل. من جانبِنا، يُمكنُنا أن نُفسِحَ لِكِلا المبدأين -النِّسبية وميكانيكا الكم- مكاناً في مجالِ الحقيقة، في حين تسعى جملةُ آينشتاين الشَّهيرة بأيديها وأرجلِها إلى الاقترابِ من رِحابِ الحق.

    ولا تكتفي النِّسبية فقط بمعانقةِ ميكانيكا الكم في إطارِ الحقيقة، وإنَّما تقودُنا كذلك إلى ياءِ النَّسب. وهي لا تقِفُ عند حدودِ انتسابٍ بريءٍ للذَّواتِ والأشياءِ إلى هُويَّاتِها الأصلية أو المُكتسبة، كأنْ تقولَ أنتَ يا عادلُ إنَّك سودانيٌّ، أو سوداتريٌّ، أو سودانيٌّ أسترالي؛ أو أقولَ أنا بِدَورِي إنَّني سودانيٌّ، أو كِتَيابِيٌّ، أو سودانيٌّ بريطاني؛ وإنَّما تتعدَّاها إلى الاستخداماتِ الآيديولوجية الواعيةِ منها أو الخفيَّة. ومن أشهرِ الاستخداماتِ الآيديولوجية ما كتبه محمود درويش في مُقتبلِ تجربتِه الشِّعرية، ضمن قصيدتِه الشَّهيرة "بِطاقة هُويَّة"، التي يقول في مطلعِها "سجِّل أنا عربي". إلا أنَّ الاستخداماتِ الخفيَّة هي التي تحتاجُ إلى انتباهٍ أكبرَ من كافَّةِ القرَّاء.

    عند إضافةِ ياءِ النَّسبِ إلى الاتِّجاهاتِ الأربعة الرَّئيسية (شمال، جنوب، شرق، غرب)، يتأكَّدُ وقوعُ المكانِ المعنيِّ ضمن رُقعةٍ جغرافيةٍ بعينِها؛ على سبيلِ المثال، يقعُ جبل كرري شَماليَّ أمدرمان، في حين تقعُ مدينة شندي شمالَها. ويقول أشقاؤنا في شَمالِ الوادي: تقعُ أسوانُ جنوبيَّ مصر؛ وكذلك السُّودانُ عندهم، فهو يقعُ، عند استخدامِ ياءِ النَّسبِ استخداماً آيديولوجياً خَفِيَّاً، جَنوبيَّ مصر، أي أنَّه جزءٌ من مصرَ (خصوصاً قُبيلَ وأثناءَ الحُكمِ الثُّنائي)؛ أمَّا الإقليمُ الجنوبيُّ سابقاً (ودولةُ جنوبِ السُّودانِ حالياً)، فهو قد كان عندهم دائماً جنوبُ السُّودان؛ فتسرَّبَ التَّعبيرُ المُيسَّرُ إلى ألسنتِنا، فأصبحنا نقولُ، وكأنَّنا ننظرُ من علٍ إلى خارطةٍ بشكلٍ موضوعيٍّ بارد، خالٍ من إلزاماتِ الهُوية، فنقولُ هذا جنوبُ السُّودان، وذاك غربُه، شمالُه أو شرقُه. ومع تطوُّراتِ الأحداثِ على مجرى الزَّمن، ذهبَ الجنوب (ومكانُه ما زالَ حاضِراً في القلب)، وتَبَقَّى عندنا شمالُ السُّودان، شرقُه وغربُه؛ فهلَّا أضَفنا إليهِم جميعاً ياءَ النَّسب قبل فواتِ الأوان، أي قبل أن تتفرَّقَ بلادُنا الحبيبةُ أيدي سبأ.

    محمد خلف




                  

09-29-2016, 00:49 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)



    حروفُ المعاني: هل هناك فيلٌ في الغرفةِ أم أنَّ بها غوريلا؟

    -الحلقة التَّمهيدية-

    تحدَّثنا في حلقاتٍ سوابق عن موضوعاتٍ نحوية غطَّت صيغتَي التَّصغير وأفعل التَّفضيل وياء النَّسب، وقيَّدناها جميعَها بسياقاتٍ خاصَّة، شملت شخصياتٍ متنوِّعة، امتدَّت من عُذوبة سُكينة كمبال، إلى رِقَّة محمَّد عبدالرَّحمن (بوب)، وصولاً إلى عبقرية ألبرت آينشتاين. وبدءاً من هذه الحلقة، سنتناول موضوعاً نحوياً آخرَ، هو حروفُ المعاني، وسنربِطُه أيضاً بسياقٍ خاص، يشملُنا كلُّنا، جمهرة المُحتفين بهذا الرُّكنِ الرَّائع (أو هذا العمود البديع، إذا رغبنا في ترويجِ بدائلَ أو صِيَغٍ مُنافِسةٍ أخرى لكلمة "بوست" المُعرَّبة)؛ فقد شاركنا جميعُنا من غيرِ قصدٍ في تعزيزِ تجربة "الغوريلا في الغرفة"، هذا إنْ لم نجِد أنفسَنا أمام حالةٍ تستدعي مُجدَّداً استخدامَ التَّعبيرِ الاصطلاحي: "الفيل في الغرفة".

    سنشرحُ معنى التَّعبيرِ الاصطلاحي، كما سنُعطي تفصيلاً كافياً للتَّجربة، إضافةً إلى إعطاءِ أمثلةٍ لاستخداماتِ حروفِ المعاني، وقابليتها لتبادلِ المواضِع، خصوصاً أداتَيْ "في" و "الباء"، اللَّتينِ أُشيرَ إليهما في عنوان هذه المشاركة. ولكن، قبل كلِّ ذلك، دعونا نُوضِّحُ أولاً ما أدخلَنا جميعَاً، في المقام الأول، وقبل كلِّ حساب، في هذه التَّجربة الشَّهيرة. وعندما أقول جميعَنا، أعني نفسي أولاً، مُقدِّمَ المُشاركة السَّابقة؛ وعادل القصَّاص ومنصور المفتاح وعثمان حامد، الذين تصِلُهم نسخة المُشاركة قبل نشرِها؛ والسِّر السَّيِّد وبابكر الوسيلة وعبدالواحد ورَّاق وسيدأحمَّد بلال، الذين تصِلُهم بعد نشرِها مباشرةً؛ وعبدالمنعم رحمة وآمال علي، اللَّذينِ أُرسلت لهما نُسخةٌ منها قبل نشرِها؛ وعدداً يربو على العشرين شخصاً وصلتهم عن طريق الواتساب؛ وأخيراً، مئاتٍ من الأشخاص الذين زاروا الرُّكنين (أو العمودين) بموقعَيْ "سودانفورول" و "سودانيزأونلاين"، منذ نشر المُشاركة قبل خمسةِ أيام (وهمُ الأشخاص الذين لم نجد حتَّى الآن وقتاً كافياً لإسداءِ الشُّكر لهم على القراءةِ النَّهِمة والحرصِ على المتابعة).

    جاء في أول جُملةٍ من المُشاركةِ السَّابقة ما يلي: "كان يومُ أمسِ في الجزرِ البريطانية مُساوياً في ساعاتِه تماماً لليلتِه، فيومُ الخميس ٢٢ سبتمبر من عام ١٩١٦ يُصادِفُ الاعتدالَ الخريفيَّ في نصفِ الكرةِ الشَّمالي". وهذا يعني أننا قد رجعنا بأنفسِنا في هذا الخطأ غيرِ المقصود ١٠٠ عام، من غير أن ينتبهَ إليه (أو يُعلِّقَ عليه) أيٌّ من الأشخاص المذكورين (بِمَنْ فيهم كاتبُ هذه السُّطور). فقبلَ أن نُواصلَ حديثَنا عن اثنينِ من حروفِ المعاني في ارتباطِهما بتجربة الغوريلا وتعبير الفيل الاصطلاحي، نرجو من القارئ الكريم أن يُلقيَ مرَّةً أخرى نظرةً مُتأنِّية إلى بدايةِ هذه الفقرة، وأن يُضاهيها بالجُملةِ الواقعة في مستهلِّ المشاركةِ السَّابقة، التي كان ينبغي أن تُكتبَ "فيومُ الخميس ٢٢ سبتمبر ٢٠١6"، .




    سنُفصِّلُ في حلقةٍ قادمة دلالاتِ هذا "الخطأ" غيرِ المقصود، وسنربِطُه بحديثِنا عن حروفِ المعاني.


    محمد خلف


                  

10-01-2016, 11:59 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    حروفُ المعاني: هل هناك فيلٌ في الغرفةِ أم أنَّ بها غوريلا؟

    -الحلقة الأولي-

    أشِرنا في الحلقةِ السَّابقةِ التَّمهيدية إلى خطأٍ غير مقصود، وقلنا إننا سنربِطُه بالموضوع الرَّئيسي الذي نتناولُه ضمن عددٍ من الحلقات، وهو حروفُ المعاني. كما أشِرنا أيضاً إلى أنَّ تناولَنا للموضوعاتِ النَّحوية، ومن ضمنِه هذه الحروف أو الأدوات المتعدِّدةِ الاستعمالات، سيكون مُرتبِطاً بسياقاتٍ شخصية، حيث ربَطنا "التَّصغيرَ" بعُذُوبةِ امرأةٍ من مِلبورن، و"صِيغةَ أفعلِ التَّفضيلِ" برجُلٍ من الخُرطوم، و"ياءَ النَّسبِ" برجُلٍ آخرَ من وادي عبقر. أمَّا "حروفُ المعاني"، أو تلك الأدوات الدَّلالية الفارهة، فسنربِطُها بنا: نحنُ المتابعين (نُصبت للتَّخصيص) بلهفةٍ وتشويقٍ عارِمَيْن لهذا العمود الذي عَمَرَهُ لنا القصَّاص، وتناوله المفتاح، وتابعه ورفعه جمعٌ عرمرمٌ من القرَّاء. إلَّا أنَّ كَثْرَتَنا، على تحبيذِنا لها، لم تعصِمنا من الذَّلل أو تنبِّهنا في الوقتِ المناسب إلى مَوضِعِ الخطأ.

    غير أن للأمرِ وجهاً آخرَ إيجابياً (أو عدَّةَ أوجُهٍ، كما سنتعلَّمُ لاحقاً من حروفِ المعاني)، فتجربةُ "الغوريلا الخفيَّة" الشَّهيرة أو "الغوريلا في الغرفة" (وهي غيرُ تعبيرِ "الفيل في الغرفة" أو "الغوريلا ذاتِ الثَّمانِمائة طن")، التي أجراها كلٌّ من كريستوفر تشابريس ودانيل سيمونز في عام 1999، تؤكِّدُ وجودَ ما أسماه كلٌّ من إيريان ماك وإيرفن روك في عام 1992 بـ"العَمَاءِ غيرِ المقصود" أو "العَمَاءِ الإدراكي"، وهو نقصٌ يعتري الانتباه، ليس بسببِ عيبٍ في الرُّؤية، وإنما هو وَضعٌ نفسيٌّ ينتابُ المرءَ (أو يتمُّ إحداثُه عمداً، كما في التَّجربة)، فيمنعه من رؤيةِ مؤثِّراتٍ غير مُتوقَّعة، مثل الغوريلا في تلك التَّجربة الشَّهيرة. وتتلخَّص في جعلِ مجموعةٍ من الأشخاص يُشاهِدونَ شريطَ فيديو يَعرِضُ لعبةً داخل قاعةٍ صغيرة يشتركُ فيها سِتَّةُ أشخاص، ثلاثةٌ بفنائلَ بيضاءَ وثلاثةٌ آخرون بأُخرى سوداء، يتبادلون بينهم كرة سلَّة بتمريراتٍ سريعة؛ ويُطلبُ مُقدَّماً من المشاهدين أن يحصوا في صمتٍ تمريراتِ الكرة التي يتمُّ تبادلُها بين الَّلاعبين.

    وفي أثناءِ سيرِ المباراة، يمرُّ عبر الغرفةِ شخصٌ متنكِّراً في زِيِّ غوريلا؛ وعندما يشعرُ بأن لا أحدَ قد انتبه لوجودِه، يعودُ إلى داخلِ الغرفة، ويتوسَّطُ الفريقين، ثمَّ يضرِبُ صدرَه في مُحاكاةٍ لغوريلا حقيقية، قبيل أن يمضي إلى حالِ سبيله. وفي تلك التَّجربة التي أُجريت أولَ مرَّةٍ في جامعة هارفارد، أخفقَ نصفُ الأشخاص الذين شاهدوا الشَّريط أثناء إحصائهم للتَّمريراتِ في رؤيةِ الغوريلا، كأنَّها مخلوقٌ خفيٌّ، على الرَّغم من أنَّ وجودَها داخل الغرفة قد استغرق، حسب شريط الفيديو، تسعة ثوانٍ؛ ليس ذلك فحسب، وإنَّما لم يُصَدِّق الكثيرُ منهم، إلا بعد مشاهدةِ الشَّريط مرَّةً أخرى، أنهم أخفقوا في مشاهدةِ جسمٍ بهذا الحجم الضَّخم (حتَّى ولو لم يبلُغ وزنُه 800 طن)؛ الأمر الذي يعني أنَّنا عند التَّركيزِ الشَّديدِ على شيءٍ بعينِه، لا نُدرِكُ فقط الكثيرَ مما يدورُ من حولِنا، وإنما لا نُدرِكُ أيضاً أنَّنا لا نُدرِكُها!

    وفي التَّجربةِ التي مررنا بها جميعاً، قُرَّاء هذا العمود، انصرف ذهنُنا، أو بالأحرى مئاتُ الآلافِ من خلايانا العصبية (إنْ لم نقل ملايينَ منها)،إلى متابعةِ المباراة، بالتَّركيزِ الشَّديدِ على إحصاءِ التَّمريرات، وكلَّما اشتدَّ التَّركيز، نُشِرَ مزيدٌ من النِّيوترونات (أي الخلايا العصبية)، فتندفعُ في تشكيلاتٍ مُتتابِعة، فتستخدِمُ مساراتٍ جاهزة، وتبني لها شبكاتِ اتِّصالٍ جديدة، إلى أن يُصبِحَ لديها جيشٌ عرمرم، في مجابهةِ المباراة والتَّصدِّي لرصدِ التَّمريراتِ الخاطفة. فلا غروَ، إذاً، أن تظهرَ أمامنا ’غوريلا رقمية‘ (عُمُرُها ١٠٠ عام)، من غير أن تلتقطها عدساتُ الدُّماغ؛ فعندما تتدفَّقُ المعلومات، ويتمُّ تقديمُها في حلقاتٍ مُتتابعة، تنتظِمُها سياقاتٌ محدَّدة، نتطلَّعُ للمزيدِ منها، ونتلهَّفُ لمَقدَمِها؛ وعندما ترِدُ، نقرأُها بِنَهمٍ، ونُركِّزُ على فِيلِ المكتوب (أو غوريلتِه)، ولا نعبأُ كثيراً بظلِّه، سواءً احتوته الغرفة لثوانٍ معدودات (كما في تجربة الغوريلا) أو التصقَ بها التصاقاً (كما في عام ١٩١٦). وهذا يقودُنا مباشرةً إلى حرفَيْنِ من حروفِ المعاني: "في"، فهو للاحتواء؛ و"الباء"، فهو للإلصاق.

    إلَّا أنه قبل الاقتراب من تلك الحروف التي تناولها أبو القاسم عبدالرَّحمن بن إسحق الزجاجي، وأجملها في نحوِ ١٥٠ مَوضِعاً، علينا أن نُوضِّحَ بأن تجربة "الغوريلا الخفِيِّة"، أو "الغوريلا في الغرفة"، تُخلطُ أحياناً بتعبيرِ "الفيل في الغرفة" الإنجليزيِّ (الذي يعني تفادي الحديثَ عن أمرٍ جَلَل)؛ وبتعبيرِ "الغوريلا ذات الـ٨٠٠ طن" الأمريكيِّ (الذي يُشيرُ إلى سيادةِ منطقِ القوة)؛ فكِلا التَّعبيرَيْن الاصطلاحِيَيْن (تماماً كاستخدامِنا للمثلِ السُّوداني "عينك في الفيل وتطعن في ضله"، في الفقرةِ السَّابقة) لا صلةَ له بتجربة "الغوريلا الخفيَّة".






    فإلى حلقةٍ قادمة، إنْ شاء الله، مع الزَّجاجي؛ وإلى أن يحينَ ذلك الوقت، نطلبُ من القرَّاء هذه المرَّة أن يُنظِّفوا زَجاجَ نظَّاراتِهم ونوافذِهم لرصدِ ما يقعُ تحت أعينِهم، وأن يُنبِّهونا إنْ أخطأنا في أمرٍ جَلَل، فالمؤمِنُ لا يُلدغُ من جُحرٍ مرَّتين، ومن أخطائِنا يزدادُ تعلُّمُنا (أين أنت يا أحمد الفكي، ولماذا لم تقرأ حتَّى الآن رسالتي إلى عادل القصَّاص؟).


    محمد خلف


                  

10-03-2016, 08:02 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    جد متعة لا تضاهى في تتبع هذا الخيط (!) وبالطبع، ليست من شأن هذه المتعة أن تعصمني من العمى؛ فربما تمر غوريلا، وأخرى، وأختها، دون أن انتبه إلى أيّ من الغوريلات (!) بل ربما كانت هذه المتعة نفسها هي السبب، لي ولغيري، في حدوث هذا "العَمَاءِ الإدراكي" (وأرجو ألا تكون "العماء" غوريلة أخرى تتربع دون أن نلحظها)! ولعل الأصدقاء، هنا، يوافقونني على السبب المستمد من المتعة. وشرح هذه المتعة هو إنه بالغ ما بلغ حرصنا وموقفنا النقدي، إلا أننا نُصادر، في مرات كثيرة، للشخص الذي نطمئن إلى أنه صاحب معرفة، وأنه شديد الدقة والعناية بما يكتبه.. ويحملني اليقين العريض إلى أن الأستاذ محمد خلف هو من القلة القليلة التي تمتاز بهذه الميزة. على كل حال، سنواصل متعتنا بالتفكُّر في "حروف المعاني"؛ ولا أدري لماذا لم تكن "معاني الحروف"؟ فقد حملتني الصياغة الأولى للتفكير في أن ثمة حروف ليست للمعاني؛ فهل وردت الصيغة لتقصي الحروف غير العاملة من حيث الإعراب؟ أقصد الأحرف التي ليست لديها إمكانية العمل إعرابيًا إذا سبقت الاسم أو الفعل، كحروف النداء في الاسم ، والسين وسوف في غير ذلك. وهل لمجرد أنها لا تعمل في الإعراب أضحت بلا معنى؟! جاء تفكيري الذي أومأت إليه من مظنة معنىً متفق عليه من معاني الإضافة، تحمله الصيغة "حروف المعاني" أو "قصة القصّاص"، مثلًا، وأقصد الإضافة بمعنى "اللام"، ويتوفر هذا المعنى عندما تكون الإضافة ليست بمعنى "في" (الظرفية) ولا بمعنى "من" (التبعيض والخبرية)، وتقديرها كالآتي: "حروف (لـ) المعاني" وقصة (لـ) القصّاص! وهكذا. قال ابن مالك: نونًا تلي الإعراب أو تنوينا.. مما تضيف أحذف كطور سينا والثاني أجرر، وانوِ "من" أو "في"؛ إذا.. لم يصلح إلا ذاك، واللام خذا لما سوى ذينك، واخصص أولا ... أو أعطه التعريف بالذي تلا أرجو ألا أكون قد نسيت غوريلا في تعليقي! عذرًا: عدّلت (طول سينا) إلى (طور سينا) وهذا هو الصحيح! سأتابع..

    يوسف حمد
    .



                  

10-04-2016, 01:10 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    "أجمل من الخطا صاح شنو؟"


    هذه العبارة الشعرية الجميلة التي وردت ضمن إحدى قصائد صديقي عاطف خيري ( وكنت أقول لعاطف خيري الذي يحبك حباً يعجز الشعر، شعره، عن وصفه، إنك تشبه أخي محمد في كثير من طرق التعبير الفلسفي عن العالم، وكان عاطف يحب هذا القول ويختشي من فكرة التشابه هذه). أوردت هذه العبارة فقط لأوضح مدى المساحة الحرة من المعرفة والالتصاقات التي يمكن أن يحدثها الخطأ بين بني البشر منذ أول خطأ ارتكبه الإنسان وآل به إلى هذه الحقائق غير المنتهية في حياته الدنيا. أوليس الخطأ البشري المتكرر هو الذي يؤسس لمجال "الحقيقة" الذي تعتمده يا محمد كحافز للمعرفة والعلم؟ يتوفر الخطأ (وليس دائماً عن لا قصد)، فتتوافر الحقائق بمجالات مغناطيساتها اللامتناهية. إذ كيف كان بالإمكان توفر هذا المجال من كتابتك لولا الخطأ (المقصود في مخيلتي). الخطأ شيء عظيم لا شك في ذلك. به ابتدأت الحياة وعليه ستنتهي. لكن هذا شيء والخطأ الذي وقعت فيه الصحافة السودانية فيما يخصني وأودى بي إلى معارفَ (حقائقَ) جديدة، فهذا ما سأقوله لك لاحقاً.

    أحبك يا محمد.

    بابكر الوسيلة



                  

10-04-2016, 11:09 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    خطأ الصحافة

    رأينا نحن المهتمين (المنصوبة على الاختصاص والخصوصية أيضاً) أن نقيم احتفالاً بالذكرى الثالثة لرحيل صديقنا الشاعر والتشكيلي والروائي والقاص والموسيقي محمد حسين بهنس (كانت أمي تحبه جداً، وكانت تقول له استغراباً في الاسم: بهنس ده شنو). قمت بكتابة إعلان في الفيسبوك بعنوان (بهنس في "بابا كوستا" يشرب قهوته ويفكر في المستقبل). وكان هذا بمثابة توجيه الدعوة للأصدقاء والمهتمين بالأمر للتفاكر في كيفية إخراج الاحتفال. و"بابا كوستا" هو مقهى معروف، خصوصاً لدى الشأن الليلي الخرطومي فيما مضى، ويقع في مكان إستراتيجي في شارع الجمهورية (ولا أعرف من أين أتى هذا الاسم، ولا كيف بقي حتى هذا العهد). كتبت هذه الدعوة على صفحتي بالعنوان آنف الذكر، لكن الصحافة السودانية (ثلاث صحف) المتعجِّلة كعادتها نشرت هذا الخبر من صفحتي دون تدقيق، لتقول من عند خيالِها إن "بابكر الوسيلة" قد أفادها ببدء فعاليات الاحتفال اليوم السبت. فجاءت قناة العربية بكامل فريقها للتغطية، وجاءت قناة BBC العربية؛ وقنوات سودانية أخرى، مثل النيل الأزرق، وسودانية 24. ولكن"الحقيقة" تقول بأن هناك "خطأ" قد ارتكبه أحد الصحافيين، وهذا ما أودى باجتماعنا إلى توسيع الماعون، بدلاً من تضييق مساحات الاحتفال ببهنس رحمه الله. وهذا أمرٌ سيأتي توضيحه.

    بابكر الوسيلة


                  

10-05-2016, 10:37 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)


    تعرف يا محمد دوما نقول العصف الزهنى وهذا الحوار الذى اشعلته بصندل استغراقك لتتجلى من جرائه تلك القطوف المعرفية الدانية والحانيه على جلاس حوضك ذاك المعرفى يتبادلون اقداح دنه المثمل البعاث للنشوة والولاد للرؤى فما ابتدرته عن الخطأ ليتناوله ذاك الأخ فى خيط القصاص ليعقبه بابكر الوسيله من زاوية اخرى فتق فى رؤية ما كان لها أن تتنزل لو لا وقوفى على ما كتبا ذياك بخصوصها اى عن الخطا وجاءنى هاتف الايه ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وتذكرت قصة ذائعة الصيت بان أحد الأبناء بعث والده بأن يخطب له أحلام بنت عمه وكانت مليحة كذات الخمار الاسود فذهب والده والتبست عليه الأسماء أو تماثلت كما تقول يا خلف أو قلت البارحه عن جريان الشمس وتطابقها مع الحقيقه العلميه فبدلا عن احلام طلب الرجل يد حليمه لابنه فوافق أهلها على الفور وكان لحليمه تلك قبح بائن وفى الاثر والعرف نقول سعد الشينه وعندما رجع لولده واخبره بان وافق عمك على طلبك لحليمه فاندهش الابن وقال لوالده يا ابتاه انا لا أرغب فى حليمه بل أحلام فقف الرجل راجعا لأخيه بأن ابنه لم يطلب حليمه ولكنه يرغب فى أحلام فقال له والد البنتين بناتى ليس ببقر أن أراد حليمه فمعها ثلاث بقرات وخمسة حبال فى الجزيره وهى أقرب إلى العشره فدان فذهب لابنه فقبل العرض وتزوج بحليمه وأنجب منها اجمل الأبناء النجباء فانظر لذاك الخطأ الذى اذا تمعناه لن ننفك عن الحق ولن تغيب عنا الحقيقه .


    منصور

                  

10-05-2016, 10:12 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    أبا بكرٍ وَيُوسُفُ أنا أخوكُما، فلا تبتئِسا

    (تقدَّمَ كِلا العلمَيْنِ مُنادًى محذوف، إلَّا أنَّ عملَه فيهما أشدُّ ظهوراً من تلك "الغوريلا الخفيِّة"؛ إلَّا أنَّ في العنوانِ أيضاً إشارةً ظاهرة إلى سورة "يُوسُف"، الآية رقم 69، حيث قال ابنُ يعقوبَ لأخيه "أنا أخوك فلا تبتئس").

    كنتُ مُوقناً بأنَّكما ستأتيان، فقد ظللتُ أسمعُ وقعَ خُطاكُما في الفلواتِ، وعبر الجسرِ، وتحت النَّوافذ؛ وخلفكما جمعٌ عرمرمٌ من الكُتَّابِ والمُبدعينَ والقرَّاءِ النَّشِطينَ والنَّاشِطينَ والنَّاشِطات. وليس هناك أفضلُ من الخطأ لجذبِكُما، (وجحافلِ الآخرينَ)، إلى ساحةِ الإنتاجِ الفكريِّ والإبداعي؛ فالخطأ كما انتبهتُما فعلٌ إنسانيٌّ صميم (ولا فكاكَ من إسارِه، إلَّا بغربلتِه على الدَّوام، للاقترابِ شيئاً فشيئاً من قممِ "الحقيقةِ" أو الظَّفرِ بإحدى ذُرواتِها، من غيرِ يقينٍ بالوصولِ إليها؛ لذلك، فإننا نُشيرُ إلى فضائها دائماً بـ"مجالِ الحقيقة"؛ هذا بالطَّبع بخلافِ الحقِّ الذي لا مجالَ معه للباطل).

    وما "حروفُ المعاني"، بالنِّسبةِ لنا، إلَّا مناسَبةٌ، أو بتعبيرٍ آخرَ سياقٌ، لاستجلاءِ مفهوم الخطأ، وفحصِ تاريخِه، واستشرافِ مستقبلِه ("وفي ذلكَ فليتنافَسِ المُتنافِسون"). أمَّا الحروفُ نفسُها، فقد اختلف النُّحاةُ في تعريفِها، إلَّا أنَّ هناك اتِّفاقاً على تسميتها بحروفِ المعاني، تمييزاً لها عنِ الحروفِ الأخرى، وهي حروفُ المباني أو حروفُ العربية أو الحروفُ الهجائية أو حروفُ التَّهجِّي (أو حروفُ الأبجدية: ألف باء جيم دال). وتُشيرُ كلمة حرف في اللُّغة العربية إلى طرفِ الشَّيءِ أو جانبِه؛ وبما أنَّ الحرفَ حدٌّ من حدودِ الكلمة أو جانبٌ من جوانبِها، فإنَّه لا دَلالةَ له في ذاتِه، إلَّا في ارتباطِه بكلمةٍ كاملة.

    وكذلك حروفُ المعاني، فهي حدٌّ من حدودِ الجملة أو جانبٌ من جوانبِها؛ وبما أن اللُّغة، في تعريفِها الكلاسيكيِّ مبنًى ومعنًى، فإن حروفَ المباني تختصُّ، بحسب اسمِها المُطابِق، بالبناء؛ أي أنَّها تقومُ بتكوينِ الدَّالِ الصَّوتي، بالتَّعبير الحديث؛ بينما تختصُّ حروفُ المعاني، بحسب اسمِها المُطابِق أيضاً، بالمعاني؛ أي أنَّها تَكُونُ لها بمثابةِ المدلولِ (مقارنةً بالدَّال)، إذ إنَّها تشكِّل قسماً من أقسام الدَّلالة، فلا يقومُ الكلامُ (اسمٌ وفعلٌ وحرف) أو يستقيمُ له معنًى إلَّا بتكاملِ أجزائه (لذلك، تُسمَّى أحياناً بحروفِ الرَّبط، لأنها تربِطُ الأسماءَ بالأفعال، والأسماءَ بأمثالِها).

    فيا عزيزاي لا تبتئِسا من ورودِ الخطأ، بلِ اجعلاه مناسبةً لإنتاجِ المعرفة، بالاقترابِ الحثيثِ من أفضلِ مساراتِها؛ وهذا لا يمنعني، بالطَّبعِ، من تحذيرِكما برفقٍ بألَّا ترتكِبا ’خطأً‘ بأنْ تتَّخذا من القاعدةِ الإعرابية قيداً دائماً، بل يُمكنُ للشُّعراءِ أحياناً التَّمتُّعُ برُخصتِهُمُ الشِّعريةِ المعروفة، أي ما كان يُعرفُ بضروراتِ الشِّعر؛ بينما يُمكنُ لغيرِهُمُ التَّمتُّعُ بحُرِّياتٍ محدودة (كتلك التي يُتيحُها تبادلُ المواضع)؛ وهو ما سنتطرَّقُ إليه في حلقةٍ عن تبادلِ حرفَيْ "الباء" و "في" موقعَيْهما في إطارِ الحُرِّيةِ النِّسبية التي توفِّرُها حروفُ المعاني. (وأقولُ النِّسبيةَ، خشيةً من الفوضى النَّحوية، التي تعصفُ بقواعد اللُّغة، فيقودُ ذلك مباشرةً إلى نسفِ مبناها وإهدارِ معناها).



    من حسناتِ ضيقِ الوقت أنَّه أجبرني على ضمِّ تعليقٍ على مشاركةِ أخٍ فعليٍّ إلى أخرى لآخرَ مجازيٍّ، وربَّما ينبثقُ في نهاية الأسبوعِ سياقٌ لتناولهما على انفراد، إلى جانب الإجابة على ما طرحه الصَّادق (صبراً يبلُّ الآبري يا منعم!)


    محمد خلف


                  

10-08-2016, 01:31 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    عادلُ (القصَّاصُ) ويُوسُفُ (الصِّحافيُّ) أضاءَ اللهُ دربَكُما بقَبَسٍ من سُورَةِ "يُوسُف"

    عزيزي عادل

    ظلَّت رسالتي الأصليةُ إليك تستضيءُ منذ أولِ حرفٍ فيها إلى آخرِ نقطةٍ بها (لاحظ تبادلَ المراكزِ بين حرفَيْ المعاني: "في" و"الباء") بقبسٍ ساطعٍ من سُورَةِ "يُوسُفَ"، وأعني بذلك، على وجهِ التَّحديد، الآية رقم ٣ من السُّورة الكريمة: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ". فالقصَصُ القرآنيُّ الذي يصدُرُ عن الحقِّ، لا يَقُولُ إلَّا الحقَّ؛ بينما تنتمي الأقاصيصُ، (التي تبرَعُ أنتَ يا عزيزي في سردِها، لكونِها مُنتَجاً إنسانياً صميماً)، إلى مجالِ الحقيقة، التي نُغربلُها ونُنقِّحُها دوماً بالتَّعديلاتِ وتعديلاتِ التَّعديلات.

    سألتني، بينما كنتُ أعبُرُ حديقة هايدبارك في سعييِّ اليوميِّ إلى العمل، قائلاً: لماذا تضَعُ اسمَ يُوسُفَ مرَّةً داخل مُزدوجتَيْن، ومرَّةً بدونِهما؛ ولماذا لا نُوحِّدُ طريقة كتابتِهما؟ (أعِدتُ صياغة سؤالِكَ بما يتماشى مع أسلوبي في التَّعبير، فأرجو ألَّا ينتقِصُ ذلك قدراً من الدِّقَّة). فأجَبتُك قائلاً: هذا تقليدٌ اتَّبعته في كتابةِ أسماءِ سُوَرِ القرآنِ في الرِّسالة، وفي كافَّةِ المشاركاتِ التي جاءت في أعقابِها؛ ولا أرى مُسوِّغاً كافياً الآن للعُدُولِ عن ذلك التَّقليد (أعِدتُ صياغة التَّعبيرِ الشَّفهيِّ بما يتماشى مع أسلوبِ الكتابة، فأرجو ألَّا يهدِرُ ذلك قدراً من السِّياق). ثم قلتُ لكَ يُمكِنُكَ الرُّجوعَ العشوائيَّ إلى أيٍّ من الصَّفحاتِ أو المُشاركاتِ السَّابقة لتستيقنَ من اتِّساقِ اتِّباعي لذلك التَّقليد (ولو كان تصميمُ المواقع طيِّعاً لمُستخدميه، لقمتُ بتنضيدِ أسماء السُّور باللَّون الدَّاكن، تمييزاً لها عن بقية الأسماء، ولوضعتُها مع رقمِها بين معقوفتَيْن أو قوسَيْن كبيرين). وهنا أتتني فكرةُ هذه المشاركة:

    لماذا لا نستفيدُ من خبرتِكَ السَّابقة في العملِ بمكتبة جامعة الخرطوم، لتُصيغَ لنا نظاماً عددياً أو أبجدياً أو مزيجاً بينهما لتسهيلِ عملية الرُّجوعِ إلى أيِّ سطرٍ داخل هذا الكمِّ الهائلِ من المُشاركات؛ فلربما يستفيدُ الآخرون أيضاً من هذه التَّقنيةِ المُستحدثة في إطارِ هذا الرُّكن، لتكونَ عَوناً للمُتابعينَ للأركانِ الأخرى في هذا الموقع أو لأركانٍ في مواقعَ أخرى بالشَّبكةِ الفضائية.

    على سبيلِ المثال، لدى هذا الرُّكن، حتَّى الآن تسعُ صفحات (تعادلُ أربعَ صفحاتٍ في موقع "سودانيزأونلاين")؛ ويُوجدُ بالصَّفحةِ التَّاسعة حتَّى الآن (غير هذه المشاركةِ التي نحنُ بصددِها) ثلاثَ عشرةَ مشاركةً ( بما فيها مشاركة التَّكرارِ غيرِ المقصود، التي تخلَّلتِ المشاركتَيْنِ الأولتَيْن بشأنِ الخطأ غيرِ المقصود، كذلك)؛ وبهذه المشاركةِ الأخيرة حتَّى الآن أربعُ فقراتٍ (من غيرِ العنوان طبعاً، وبما فيها هذه الفقرة التي نحنُ بصددِها الآن). لذلك، يُمكِنُ الإشارة إلى هذه الفقرة بأنَّها ٩-١٣-٤ (حيثُ يُشيرُ العددُ الآحادي الأول لرقم الصَّفحة؛ والعددُ العشريُّ الثَّاني إلى رقم المشاركة؛ والعددُ الآحاديُ الثَّالثُ إلى رقم الفقرة). أمَّا السُّطورُ نفسُها، فإنَّها لا تخضعُ لمعيارٍ بعينِه، وستكونُ خاضعةً للاجتهادِ الشَّخصي، إذ إنَّها ستعتمدُ على نوعِ الآلةِ المُستخدمة (ديسكتوب، لابتوب، آيباد، آيفون)، وتقنياتِ التَّحكُّمِ في حجمِ الحروف وتصفيفِ الصَّفحات. إلَّا أننا سنكونُ على الأقل على مرمى حجرٍ (أو نقتربُ مثل ضربةٍ أخيرةٍ في مباراةٍ لكرةِ الغولفِ في لندنَ أو مِلبورن) من الكَلِمةِ أو التَّعبيرِ المعنيِّ في أو بالسَّطرِ المطلوب.


    عزيزي يُوسُف (٩-١٣-٥)

    شكراً لك، فأنتَ اسمٌ ورقمٌ لا يُنسى، فقد أتاحَ لنا اسْمُك المحبَّبُ إلى النَّفسِ مناسبةً في المشاركةِ السَّابقة إلى تأمُّلِ توأمةٍ روحية، إضافةً إلى أنه أعادنا في هذه أيضاً إلى صميمِ فكرةِ الرِّسالة؛ على أملِ أن ينبثقَ قريباً جداً سياقٌ آخرُ لتناولِ ما تبقَّى من ملاحظاتِكَ القيِّمة.


    عزيزاي (٩-١٣-٦)

    حَفِظَكُما اللهُ، وأحاطَكُما برعايته، وغَمَرَكُما بقبسٍ ساطعٍ من سُورةِ "يُوسُفَ"، وأشيرُ بشكلٍ خاصٍّ إلى (١٢-٣)؛ (فيا أمَّ ليلاسَ وَيُوسُفَ أنا أيضاً أخوكِ فلا تبتئسي؛ حَفِظَكِ اللهُ، وقوَّاكِ، وشَرَحَ لَكِ صَدرِكِ، وأَسْبَغَ عَلَيْكِ فضلاً واسِعاً من عندِه).

    محمد خلف

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 10-09-2016, 09:34 PM)
    (عدل بواسطة munswor almophtah on 10-09-2016, 09:39 PM)
    (عدل بواسطة munswor almophtah on 10-09-2016, 09:41 PM)
    (عدل بواسطة munswor almophtah on 10-09-2016, 09:52 PM)

                  

10-09-2016, 09:05 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    جاء يحملُ فوق كَتِفِهِ جيتاراً

    جاء شاب، بفعلِ خطأ الصحافة المذكور سابقاً، يحمل فوق كتفه جيتاراً - يرقصُ الحبُّ فيه - كان "الطيِّب بشير" العامل بساحةِ الحديقة يسعى برشاقةٍ بين ضيوف بابا كوستا، وكأنَّه يهِمُّ بالطيران في أيِّ لحظة. سعيداً كان، كما تأكَّد فيما بعد، لرؤيته الجيتار على كتف الشاب الداخل للتو. والمكان يستعدُّ لنومِ آخرِ لمباته الحمراء في الحديقة، حيث لم يتبقَ إلَّا أربعة رجال وحبلٌ من الضوء معلَّقاً بذكرى بهنس على صدور الرجال. حين شعر الطيِّب بشير، فيما يبدو، بشعريَّة المكان والزمان، وأحسَّ بالغناء يتسرَّب شفيفاً من بين مسامِّه، بدأتِ الحقيقة تتموضَّع وتتعرَّى بكلِّ محبَّة أمام ناظريه؛ جيتارٌ وعازف وليلُ أصدقاء. في هذه اللحظةِ العارية، استأذَّن الطيِّب بشير، بتلهُّفٍ جائع صاحبَ الجيتار: "ياخ ممكن أغنِّي ليك وللجماعة ديل شوية أغاني وبعدين تمشوا .. والله أنا صوتي جميل!" - ممكن ياخ، ممكن جداً.

    أخذ الطيِّب بشير يرتِّب المكان بحيث يبدو مسرحاً كبيراً لصوته الذي سوف يندلق بعد قليل. بدأ صاحب الجيتار يعزف أولى الأغاني (أم هي الأغنيات)، بعد أن توسوَّس جانباً مع الطيِّب لاختيار الأغنية الأولى. تبرَّع أحد الحضور بتنويم أضواء اللمبات في اللحظة التي بدأ الضوء يتسرَّب من بين صوت الأغنية. كانت لـ"إبراهيم عوض"، وكان إبراهيم عوض هو مَنْ أخذ بيديَّ إلى تفتيحِ الدروب في "أقاصي شاشة الإصغاء"؛ أنا الذي حملته بيديَّ هاتين، مع حضرةٍ من الأيادي المتشابكة، في مقابر البكري الأمدرمانية، على بُعدِ أشجارٍ من الروضة التي يجلس على ظلالها "الطيِّب صالح"، فتَّاحُ الخيالِ الخصيب. ما زالت دموعك تترى على كتفي يا صديقي الصادق الرضي منذ صبيحة ذلك اليوم، حيث ودَّعنا إبراهيم عوض الفنان الذري، الذي لن تعوِّضه الأرضُ بما رحُبت؛ مثلما كان وما زال شاي المغارب ساخناً بيننا، ينتظرُكَ والبنتَ على أحرِّ من الشعرِ في حديقة بابا كوستا.

    كان صوت الطيِّب بشير مُدهِشاً للجميع. أخذ يُغنِّي ويُغنِّي بنشوةِ الحضور. وكان بهنسُ، كما أُحِسُّ، يُغنِّي مع الحضور ويطرَب. ليلةٌ استثنائية خرجت من بين ليالي الخرطومِ حالكةِ السواد. الخرطوم بالليل عن طريق الخطأ، ونِعمَ الخطأ.

    بابكر الوسيلة


                  

10-15-2016, 01:04 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    ابنَ حَمَدٍ لأنتَ يُوسُفُ الصَّحافيُّ من غيرِ حاجةٍ لأن تنحِتَ صخراً أو تكتُبَ على صفحةِ ماء

    (يُرجى التَّوقفُ قليلاً عند هذا العنوان، وتأمُّلُه مَلِيَّاً وترديدُه عِدَّةَ مرَّاتٍ، قبل استئنافِ القراءة؛ وسيتَّضِحُ جدوى ذلك التَّمرينِ في نهايةِ المشاركة)

    عزيزي يُوسُف حمد آلينا على أنفسِنا في هذا الرُّكن وفي عدَّةِ مناسباتٍ ألَّا نتطرَّقُ إلى موضوعٍ معرفيٍّ بمعزل عن سياقٍ كافٍ لتوضيحه على أفضلِ وجه؛ وهأنتذا تكتُبُ أسطُراً تُتيحُ التَّحدُّثَ عن أكثرِ من موضوع، وِفقَ أكثرِ من سِياق؛ فأنتَ بالفعلِ 'تيَّاحٌ' و'سنَّاحٌ' لفرصٍ معرفيةٍ نادرة؛ فحديثُك عن جوازِ عملِ اسمِ الفاعل (في ارتباطِ ذلك بإشارتِكَ -مُنذُ الحلقةِ التي نبَّهتُنا عليك- إلى احتمالِ تسمية حروفِ المعاني، تمييزاً لها عن الحروفِ التي لا تعمل) يُتيحُ لنا الكلامَ على نظريةِ العامل، المحرِّك الدِّيناميكي والمسوِّغ المنطقي، لعلمِ النَّحوِ العربي، والتي يجهلُها، في ظنِّي، كثيرٌ من القرَّاء؛ ومحاولتُك التِّلقائية 'نحتَ' كَلِمةٍ جديدة تُتيحُ لنا الكلامَ على النِّظامِ الصَّرفيِّ للُّغة العربية، إضافةً إلى موضوعاتٍ مثل "التَّضام" (ضمُّ كلمةٍ إلى أختِها - "كولوكيشن")، والسِّياقِ اللُّغوي، والمَقامِ المُنْتِجِ للدَّلالةِ اللُّغوية، وموضوعِ القصدية الذي سيُرجعُنا إلى إدموند هوسرل، وبضعةِ فلاسفةٍ ألمان تركناهم رَدَحَاً على مقاعدِ الانتظار.

    ونعتمدُ السِّياقَ، عِوضاً عن صبِّ المعارفِ من علٍ صبَّا، لأنه يُتيحُ إمكانية نموِّها من أسفل، بعَونٍ من مُساهمينَ آخرين، وبتضافرِ أكثرِ من مُنتِجٍ للمعرفة في مجالِ الحقيقةِ المُتغيِّرة؛ وحتَّى الكلام الإلهي، الذي نزلَ بالحقِّ من علٍ "وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ"؛ (سورة "الإسراء"، الآية رقم 105)، لم يُلقَ على النَّاسِ إلقاءً متعسِّفاً، بل توسَّل سياقاً للنُّزول، ونزل بواسِطةٍ سماوية (الملك جِبْرِيل)، إلى واسِطةٍ أرضية (النَّبي محمَّد)، التفَّ حولها أصحابٌ (هُمُ الصَّحابة)، أُمِروا بالصَّلاةِ يومياً في جماعة (الصَّلواتُ الخمس)، وأسبوعياً وهم مجتمعونَ في طقسٍ جماعيٍّ فريد (صلاةُ الجمعة)، وسنوياً في جمعٍ مهيبٍ (حجُّ البيت)؛ كما أُمِروا، في تعذُّرِ وجودِ نصٍّ، أن يستعيضوا عنه بالإجماع.

    إلَّا أننا نُدركُ بأننا لن نُوفيَ الحديثَ عن كلِّ هذه الموضوعات في مشاركةٍ واحدة، ولكننا نُجمِلُها هنا إجمالاً، إلى أنْ تُتاحَ فرصةٌ أو يَسنَحَ سانِحٌ بتناولِها على انفراد؛ لكنني أُريدُ أنْ أُوضِّحَ هنا بعضَ السِّياقاتِ التي تَرَكَّبَ منها عنوانُ هذه المشاركة؛ فأُمُّ ليلاسَ وَيُوسُفُ التي وَرَدَ ذكرُها في نهايةِ المشاركةِ السَّابقة هي التي استدعتِ الإشارة إلى يُوسُف حمد بابنِ حمد؛ أمَّا أداةُ النِّداء، فقد حُذِفت للتَّذكير بالعنوان السَّابق للمشاركة في ارتباطِه بِـ"الغوريلا الخفيَّة"؛ وفي عبارة "لأنتَ يُوسُفُ" إشارةٌ واضحة إلى سورة "يُوسُف"؛ "قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ" (سورة "يُوسُف"، الآية رقم 90)؛ والصَّحافيُّ هي المعلومةُ الوحيدة التي أوردتَها أنتَ يا عزيزي في قاعدةِ البياناتِ بموقع "سودانفورول"؛ والنَّحتُ في الصَّخرِ إشارةٌ إلى صعوبةِ ترويجِ المنحوتاتِ في سوقِ التَّداول اللُّغوي، في غيابِ التَّضام؛ أمَّا الكتابةُ في الماء، فهي كنايةٌ عن الاستحالة، ولم ترِد إلَّا لمضاهاتِها مع صعوبة النَّحت، من غير إيحاءٍ بتثبيطٍ لهِمَم؛ فكلُّنا في ذلك سواء، باعتبارِنا مشاركينَ في سوقِ التَّداول اللُّغوي، ومن أجل ذلك آخيتُ منحوتَتك بأخرى من عندِي، وطوَّقتُ كلاهما بأقواسِ التَّخويف ('..') حتَّى يُدرِكُ القارئ جسامة الأمر وفداحة المطلب، فاللُّغةُ ليست صناعةً فردية، إنما يُطلبُ فيها تعاونٌ وتضافرٌ من المجتمعِ اللُّغوي والنَّاطقينَ باللِّسانِ المعنِّي.

    محمد خلف




                  

10-23-2016, 11:43 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    رحِمَ اللهُ رِهامَ بنتِ ماجِدةَ بنتِ صفيَّةَ الأولى (أُمِّيَّ الثَّانية)

    لم أرَ رِهامَ من قبلُ، كما لن أراها أبداً من بعدُ (إلَّا في جنانِ الخُلدِ بإذنِه تعالى)، غير أنِّي أُدرِكُ تماماً ما يعنيه موتُها الخاطفُ (هذا الخواءُ الذي ينخرُ في الصَّدر وفي الخاطر عند كلِّ تنهيدةٍ وعند كلِّ خفقةِ قلب) ووقعُه المؤثِّر على أمِّها وإخوانها وأبيها، الرَّجلِ الطَّيِّب مبارك بن الطَّيِّب علي التُّهامي؛ وما يتركه هذا الغيابُ المفاجئُ من أثرٍ مُزلزلٍ على حاتم وجميلة، وكلِّ الأهلِ الأعزاءِ ببيتِ المال وودنوباوي والثَّورات، هذا خلافاً للقضارف والسُّروراب وجدَّة، وبقيَّةِ الأهلِ الموزَّعينَ على مُدُنِ الشَّتات؛ فكيف يُمكِنُ لي أن أُعزِّيَ مَن هو مُستعصٍ -بحُكمِ الفقدِ الجَلَلِ- على العزاءِ وغيرُ قابلٍ للسُّلوان.

    بثثتُ هُمُومي أولَ الأمرِ على منصور المفتاح، فهو خبيرٌ في فنِّ التَّواصلِ بين الأهلِ والأصدقاء، فاقترحَ عليَّ أن أتَّصِلَ بالنَّصري لعلَّه يتفهَّم الموقف ويُسعِفُني بمداخلَ مُجَرَّبَةٍ في مثلِ تلك الحالاتِ النَّادرةِ الحدوث؛ ولكن كيف يتسنَّى لي مخاطبته وقد حَصَرنا، لا أدري لماذا، كلَّ لقاءاتنا السَّابقة على الواتساب المكتوب، ولم نلجأ مُطلقاً إلى خدمتِه الهاتفيةِ المَجَّانية؛ وَمَا أدراني لعلَّه يُعاني من مثلما أُعاني مِنه. كلُّ ما أُدريه أنَّ مُعاناتي إزاءَ ما كنَّا نُسمِّيه بِـ"المِيتَةِ الحارَّة" كانت تُكلَّلُ دائماً بالاختفاءِ لأطولِ وقتٍ ممكن عن أنظارِ المكلومين، إلى أن يُخَفِّفَ الزَّمنُ وطأةَ الفقد، وكأنَّني حَفِيٌّ به، ممَّا تسبَّب في وصفي سابقاً بالجَفَاء تارَةً، وبالتَّعالي على الأهلِ والخُلَّانِ تارَةً أخرى؛ وما دَرُوا أنِّي أُكَتِّمُ حزني في أحشائي، وأتعالى بالفعلِ -بالمعنى الإيجابيِّ للكَلِمَة- على مَصائبِ الدَّهر، وأحصِرُها بقدرٍ عالٍ من التَّوكُّل.

    وقد أَسَرَّ إليَّ مرَّةً أحدُ أبناءِ أميَّ الثَّانية صفيَّة بنتِ البدوي سليمان كركساوي بأنَّ النَّظرياتِ حولي كانت تتكاثرُ وتتقاطعُ كُلُّها في أنِّي إمَّا غريبٌ أو مُتعالٍ أو جافٍّ أو فيلسوف، إلَّا أنَّ امرأةً واحدةً فقط لم تتزحزح ثقتُها في حُبِّيَّ الجارفِ لأهلي وعشيرتي، وإنْ كان ذلك بأسلوبي الخاص، وعلى طريقتي الشَّخصية. وبوجهٍ ما، لم أَكُن مُحتاجاً إلى تزويدي بهذه المعلومة، على أهميَّتِها القصوى لاتِّزانيَّ النَّفسيِّ والوجداني، فقد كنتُ أعرِفُ، بطريقةٍ ما، ما كانت تكِنُّهُ لِي حاجَّة صفيَّة منذ صغري وإبَّان صباي الباكر؛ وكنتُ أعرِفُ أنَّها تُناديني من وراءِ البحر، وتَصِلُ إليَّ دعواتُها في بهيمِ الليلِ وأطرافِ النَّهار.

    وعندما جاء وقتُ النَّحيبِ الجماعيِّ على الأعزاءِ عبدالعزيز الأول (عبدالعزيز محمَّد داود، أميرِ فنِّ الغناء السُّوداني)، وعبدالعزيز الثَّاني (عبدالعزيز العميري، بُلبُلِه الصَّدَّاح)، وعبدالعزيز الثَّالث (الاسمُ العائلي المحبَّب للصَّديق المناضل المثقَّف عمَّار محمود الشِّيخ)، لم أجِد بين الرَّاحلينَ أعزَّ من حاجَّة صفيَّة لأضمُّها لتلك السُّلالةِ العزيزيةِ النَّادرة؛ ففي مقالٍ تحت عنوان: "وداعاً ابن خالتي كليول-يانج" (في نعي عضو "اتِّحاد الكُتَّاب السُّودانيين" الشَّاعر السَّر أّناي (كليول-يانج)، قلتُ في تقديرٍ خاصٍّ لأُمِّ ماجِدةَ، إن "خالتي صفيَّة بنت البدوي كانت تُناديني ممَّا وراءِ البحار، ولكنني تهيَّبتُ الرَّحيلَ معها، وتحت أقدامي صغارٌ في كَنَفي ينشأون". كما قلتُ أيضاً "ما الموتُ الذي أدركَها سوى إذنٍ بانتشارِها في قلوبِ أكثرِ عددٍ من النَّاس".

    إلَّا أنني قلتُ أيضاً في مطلعِ المقال، وفي مُصادَرَةٍ عامَّة إنَّ "الموتَ يُدرِكُ المرءَ، ولكن قلَّما يُغيِّبُهُ، كما تُوهِمُنا بذلك العبارةُ المجازيةُ الشَّائعة. وهذا ما يُفسِّرُ، في نظري، ذلك السلوكَ المُدهِشَ لأولئك الموتى الرَّائعين، الَّذين يتسلَّلون إلى يومِنا العادي، ليُفتِّقوا لونَهُ ورائحتَه. فهاهُم، خِفافاً، ينهضونَ من أسِرَّتِنا؛ يرتشِفونَ معنا قهوة الصَّباح، ويجِدُّونَ في السَّيرِ خلفنا وأمامنا، وفوق رؤوسِنا، وتحت ثيابِنا؛ ويسعَونَ معنا إلى المكاتبِ والمتاجرِ والمصانعِ والمزارعِ والمهاجرِ، وساحاتِ الحربِ اليومية". ولم أرَها رِهامَ، لكنَّ مكانها محفورٌ في القلبِ والذَّاكرة، فهي امتدادٌ لتشعُّبنا الجينيِّ، وصِلةٌ قائمةٌ لا يقوى الموتُ على فصمِ عُراها أو إطفاء جذوتها الرُّوحية. ولأجل هذا، ستحتسي معنا يومياً أقداحَ الشَّاي، وتتنزَّهُ معنا في السَّاحاتِ العامَّة؛ وسننتظرُ بلهفةِ أمٍّ رسائلها النَّصيَّة، ومرفقاتِ بريدها الإليكتروني، ومكالماتها الهاتفية، كما لو أنَّ الموتَ حدثٌ لم يكن أو هو إذنٌ بانتشارٍ أوسعَ للمرءِ أو انبثاقٍ له وفقَ ترتيبٍ جديد.


    محمد خلف


                  

12-22-2016, 11:46 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    عودة إلى الطَّيِّب صالح وعادل القصَّاص وسَبُّورَة الفصل

    كنتُ أظنُّ أنَّني قد أدَرتُ ظهري تماماً لكتاباتِ الطَّيِّب صالح، بعد انشغالي عنها لفترةٍ طويلة بالقرآن؛ وكنتُ أظنُّ كذلك أنَّه لا مُبَرِّرَ للرجوعِ إليها بعد رحيله، خصوصاً وأنَّني وَطَّنتُ نفسي منذ مدَّةٍ على إدارةِ جُلِّ حواراتي مع أحياء، فالموتُ يُسدِلُ قدْراً من التَّستُّرِ على عيوبِ المقروء، هذا علاوةً على إلزامٍ لا عيبَ فيه بتوقيرِ مَنْ مَضَى، وتَركِ نُصوصِه لحُكمِ التَّاريخ؛ ولا غضاضةَ في ذلك، فمن الممكنِ دائماً تناولُ القضايا السَّاخنة التي تُثيرُها تلك النُّصوص من خلالِ سياقاتٍ بديلة. إلَّا أنَّ الصَّديق الفنَّان التَّشكيلي عبدالواحد ورَّاق قد أرسل إليَّ مقالاً للنَّاقد النَّابه أحمَّد الصَّادق، فصَحَّى في نفسي غوايةً قديمة، فكتبتُ إلى الصَّديق ورَّاق أسطراً في غضونِ وقتٍ وجيزٍ من استلامِ هديته؛ وكنتُ أظنُّ كذلك بأنَّني سأكتفي بتلك الأسطر، التي يمكن أن تُشيرَ له بأسلوبٍ شرطي بأنَّ هذا كان سيكونُ موقفي النَّقدي، لو أنَّني ما زلتُ مهتمَّاً بتلك الكتابات.

    وبعد مُضي يومٍ من ذلك، وكأنَّهما على اتِّفاقٍ مُسبَقٍ على إغوائي، أو كأنَّني على موعدٍ مع قدَرٍ لا أقوى على صدِّه أو منعِ وقوعه، أرسل إليَّ الصَّديق الفنَّان التَّشكيلي معتز بدوي نسخةً رقمية من ’مشروع‘ "الأعمال الكاملة للطَّيِّب صالح" (وهي مشروعٌ، لأنَّها لم تحتوِ إلَّا على خمسِ رواياتٍ فقط من مُجملِ كتاباتِه). وكأنَّ الصَّديقين التَّشكيليَيْن قد تعاونا خِلسةً على تشكيلِ مسارِ كتاباتي في الأيامِ القادمة؛ ولا غضاضةَ في ذلك أيضاً، فمن أجلِ ذلك قد استصرخنا خاصَّةَ الأصدقاءِ وعمومَ قرَّاءِ رسالتي إلى الصَّديق عادل القصَّاص، لإعادةِ تشكيلِ مساراتِ بعضِنا البعض، حتَّى نتمكَّنَ من فتحِ فضاءٍ فكريٍّ واسع يسمحُ بإعادةِ بناءِ حركةٍ ثقافية، معافاةً من أخطاءِ الماضي، وممتلئةً بآمالٍ متجدِّدةٍ، ومشرئبةً إلى ألقٍ مُنبثقٍ من خَلَلِ العَتَمَةِ وأفقٍ ممتدٍ فيما وراءِ الغيوم.

    بدأتُ بـ"موسم الهجرة إلى الشَّمال" في قراءةٍ بطيئة، غير أنَّها تتمُّ بتلذُّذٍ عجيب (إذ لا مُبَرِرَ للإسراع، فالنُّسخةُ الرَّقمية لا تُعادُ لمُرسِلِها؛ فهي صَدَقةٌ جارية، ولا صاحِبَ لها؛ ودعواتُنا لمُرسِلِها، وصاحبِ الفضلِ الأكبر كاتبِها: الأستاذ الرَّاحل، ذي الاسمِ المُنطبقِ على مُسمَّاه: الطَّيِّب صالح). وتوقَّفتُ طويلاً أمام حديث مصطفى سعيد، أحدِ شخصيات "الموسم" المُهِمَّة، إنْ لم يكن أهمَّها على الإطلاق، عن نفسِه، قائلاً: "أقرأُ الشِّعرَ، وأتحدَّثُ في الدِّينِ والفلسفة، وأنقدُ الرَّسمَ وأقولُ كلاماً عن روحانياتِ الشَّرق"؛ وهي خلافاً لكلماتِ ماركس الشَّاب الذي كان يحلمُ عبرَها بالقضاءِ على استلابِ العمل وصنميَّةِ البضاعة، قد قيلت بدافعِ المُباهاةِ والتَّنويهِ عن الذَّات، الذي يتطلَّبه بناءُ الشَّخصيَّةِ الواهِمة المُتحرِّكةِ في فترةِ ما بين الحربَيْن في فضاءِ البندرِ الكولونيالي. إلَّا أنَّ ما استوقفني أكثر هو قوله: "فمضى عقلي يعَضُّ ويقطعُ كأسنانِ مِحراثٍ. الكلماتُ والجملُ تتراءى لي كأنَّها معادلاتٌ رياضية. والجبرُ والهندسةُ كأنَّها أبياتُ شعرٍ. العالمُ الواسعُ أراهُ في دروسِ الجغرافيا، كأنَّه رُقعةُ شطرنج". وحملني قِطارُ القراءةِ المُتأنيَّة إلى عالمِ القصَّاص ورسالتيَّ الشَّهيرةِ إليه. وتذكَّرتُ فجأةً أنَّ أولَ يومٍ له بفصلِ الدِّراسة، وهو خلافاً لأولِ يومٍ لمصطفى سعيد بذلك الفصل، في تلك المدرسةِ على ضفَّةِ النَّهر (وأجزمُ بأنَّها أقربُ إلى المدرسةِ الصِّناعية بأمدرمان، وهي المدرسةُ الوحيدة في عاصمةِ بلادِنا على ضفَّةِ النَّهر -التي استأثر بها القصرُ، ومباني الدَّولة ومؤسَّساتُها الرَّسمية، وممتلكاتُ بعضِ الأعيان- وهي مبنيَّةٌ من الحجر الأبيض -وليس الطُّوب الأحمر، كبقية المدارس التي نشأت لاحقاً- وهي أيضاً المدرسةُ التي تتوسَّطُها حديقةٌ غَنَّاء، ويُقرَعُ في ساحتِها الجَرَسُ فتسمعه النِّسوةُ في الضَّفَّةِ الشَّرقيةِ بشمباتَ وحلَّة حمد ببحري؛ وكانت مَدرستي الابتدائية -بيت المال: أبي قرجة- تستعيرُ مباني المدرسة الصِّناعية في الخريف، حينما يُوهِنُ المطرُ الهتَّانُ عروشَها وتخرُجُ قطراتُه الممزوجةُ بالطِّينِ من بين السُّقوف، فتتَّسِخُ ملابسُنا البيضاء، التي قضت أمُّهاتُنا سحابةَ يومِهُنَّ في غسلِها)، لم يقضِ القصَّاصُ اليومَ الأول في إجراءاتِ التَّسجيل، والإجابةِ على أسئلةِ المُشرِفين عليه –وهو واجبٌ عادةً ما يقومُ به الآباء- وإنَّما حباهُ اللهُ بناظِرٍ مُلهَمٍ ومُلهِمٍ، جنَّبَه وزملاءَه الجُدد رهبةَ اليومِ الأولِ، بالشُّروعِ مباشرةً في بسطِ خيوطِ السَّرد: "سأحكي لكم قصَّةً باهرة".

    واللَّافتُ للانتباه، أن النَّاظرَ قد انفردَ بتلاميذه الصِّغار في يومٍ لا يحتاجُ فيه إلى استخدام وسائل الاتِّصال التَّربوية التَّقليدية، ومن ضمنِها السَّبُّورة؛ ففي تلك الأيام، كانت تُستخدمُ سَبُّورةُ الحامل (على شاكلة لوحة الحامل التي يستخدمُها التَّشكيليون، أمثالُ ورَّاقٍ ومعتز)، التي تُطوى وتُنقلُ إلى فصلٍ آخر، بعد الانتهاء من استخدامِها؛ فلم يكنِ النَّاظرُ في سردِه الافتتاحي في حاجةٍ إليها، فخرجَ صوتُه نقيَّاً، متحرِّراً من كلِّ قيد؛ ومن ضمنِها، تلك العوائقُ المعرفية المُختبئة في البنيةِ الثُّنائيَّةِ الأبعاد لسَبُّورةِ الفصلِ السَّوداء، التي يكتبُ عليها المدرِّسون بطَبشُورَةٍ بيضاء، فتنتقِلُ عبرها علومٌ، ومعارفُ، ومعلومات؛ أو تقاليدُ، وعقائدُ، وأيديولوجيات؛ أو أساطيرُ، وأكاذيبُ، وضلالات.

    قدَّمنا في السَّابق، عبر هذا الرُّكن، حيثياتٍ كافية حول السَّرد؛ وسنقدِّمُ في مشاركاتٍ لاحقة بإذنِ الله عدداً من الحيثياتِ بشأنِ اللُّغة ومشكلاتِ الكتابةِ والتَّعلُّم. أمَّا الآن، فيكفي التَّنبيه فقط بأنَّنا لن نبتعدَ شِبراً واحداً عن مِحوَرِ الحقِّ والحقيقة، إذ يُبلِغُنا القرآنُ (الذي بلَّغَه لنا رسولٌ أمِّيٌّ) بأنَّ اللهَ علَّمَ في عليائه بالقلم: "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ؛ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ؛ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"؛ (سورة "العلق"، الآيات رقم 3-5)؛ بينما نستخدِمُ في دُنيانا وسائلَ أخرى كذلك، من بينِها القِرطاسُ واللَّوحُ والسَّبُّورةُ والصَّفحةُ البيضاءُ، في عمليةِ التَّعلُّمِ، بحثاً في نهايةِ المطافِ عن الحقيقة. كما يجدُرُ أيضاً التَّنبيه إلى تعليقِ الصَّديق الأستاذ مسعود محمَّد علي، ذي الخبرةِ الطَّويلةِ في مجال التَّدريس، وهو ما زال مُنهمِكاً بفضلِ الله في مِهنةِ المتاعب، حيث قال لنا باكِراً (3 نوفمبر 2014) ضمن هذا الرُّكن: "شُكراً خلف على الحصَّة؛ شُكراً عادل على السَّبورة".


    محمد خلف



                  

12-25-2016, 06:17 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    أُمَّةٌ يهدِّدُها اليأسُ وسارِدٌ يسعى من داخلِ قبرِه إلى إحياءِ الأملِ بداخلها

    أتى إلى الغربِ باكِراً، واتَّخذ مركزاً مرموقاً ببندرِه الكولونيالي؛ إلَّا أنه كان يُدرِكُ، في الوقتِ نفسِه، أنَّه ينتمي إلى أُمَّةٍ مقهورة، ذاتِ تاريخٍ مجيد، وشعبٍ فريد، وقيمٍ أصيلةٍ ونبيلة؛ لكنْ يقعُدُ بها الفقرُ، ويُنهِكُها المرضُ، وينتشرُ بها الجهلُ؛ فينقصُها لكلِّ ذلك الأملُ، ويتسلَّلُ إليها القنوطُ من كلِّ حَدَبٍ وصَوب، ويُحيطُ بها اليأسُ كما يُحيطُ السُّوارُ بالمِعصم. كان مُلِمَّاً بفكرِ أوروبا، وشَغُوفاً بآدابِها؛ ويعرفُ كيف يتعاملُ مع لغتِها، ويفكُّ شفراتِها الثَّقافية، ويتحاورُ بها مع الآخرِ نوعاً من التَّحاور، إلَّا أنَّ همَّه الأساسَ هو الأنا، ليس بمعناها الفرويديِّ الضَّيِّق (ولو أنَّه حاورَه، ضمن مَنْ حاورَ من رموزِ الفكرِ الغربي)، وإنَّما بمعناها الحضاريِّ الأشمل.

    ومن أجل ذلك، سنَسمَعُ صوتَه من خَلَلِ هذا الرُّكن، نتجوَّلُ عبر مَتنِه الشَّاسِع، ونستنطِقُ (فردياً، وجماعاتٍ جماعات) كتاباتِه وحواراتِه وكلماتِه المسموعةِ والمقروءة، ليَصِلَ إلينا (عبرَه ومن خلالِ قراءاتِنا النَّوعيَّةِ والمتنوِّعة) مغزى حديثِه الشَّيِّق، وفكرُه السَّرديُّ المُستنير، ورسالتُه التي تشرئبُّ إلينا من وراءِ القبر، غامضةً كنهرِ التِّيمز (كما أدرك جوزيف كونراد في "قلبِ الظَّلام")؛ ممتدَّةً كما المُتوسِّط (مثلما لاحَ لمسز روبنسون وهي تُلَوِّحُ بمنديلٍ من على رصيفٍ بالإسكندرية؛) وعميقةً وضاربةً في جذورِ التَّاريخِ مثل نهرٍ عجوزٍ "تحدَّر في الزَّمان"، من غير أن يضِلَّ عبر طبوغرافيا المكان طريقة إلى "الشَّمال" (وفقَ ما تنقَّلَ "مصطفى"، سعيداً في "موسِمِ" هجرته، ووفقَ ما عبَّر "التِّجاني"، صادِقاً في قصيدةِ "النِّيلِ" العظيم).

    وأمامَنا أيضاً سارِدٌ عظيم؛ خبِرَ حِرفة الحَكي، وعرَفَ كيف يُوظِّفُ الحِوارَ والحَبكةَ وتقنيةِ "الفلاش باك" من خلالِ مِنوالِ الإظهارِ والتَّخفِّي. ولا نُريدُ أن نستبِقَ حيثياتِ هذا المَنحى الجديدِ لمشاركاتِنا الآتيةِ ضمن رُكنِ القصَّاص، ولكننا نُريدُ أن نُبشِرَ بمَقدِمِها بإعطاءِ عَينةٍ لما يُمكِنُ أن تتكشَّفَ عنه الحفرياتُ الجماعية في مَتنِ الرَّجلِ الصَّالحِ قولاً وفِعلاً: الأستاذ الطَّيِّب صالح، الغنيِّ عن التَّعريفِ التَّقليديِّ المُبسَّط، وليس البسيطَ، بساطَتِه السَّاحرة؛ أو المتواضِعَ، تواضُعَه الأُسطوري؛ أو المُتأدِّبَ، أدبَه الجم. فـ"الفلاش باك" (أو تقنية الارتجاع بالفيلم أو المسرحية أو الرِّواية إلى أحداثٍ وقعت في الماضي) قد استُخدِمَ بشكلٍ ناجحٍ في فيلم "المواطن كين" في عام 1941؛ وهو الفيلمُ الذي أنتجَه، وشاركَ في تأليفِه، وأخرجَه، وقام بتمثيلِ أحدِ أدوارِه الممثل الأمريكي الشَّهير أورسون ويلز.

    سنتركُ التقييمَ الفنِّيَّ والتَّاريخيَّ لهذا الفيلمِ المُدهش لأيدٍ أمينة (نذكُرُ منهم نُقَّاداً سينمائيين حاذِقين، مثل عبدالرَّحمن نجدي، وسعدية عبدالرَّحيم، ومحمَّد مصطفى الأمين؛ ومُخرجين سينمائيين نابهين، مثل إبراهيم شدَّاد، ومنار الحلو، ووجدي كامل؛ والقائمةُ تطولُ، فليعذِرنا الآخرون للتًمثيلِ –بمعنى ضربِ الأمثلةِ- المخلِّ)؛ ونكتفي هنا بالقولِ إنَّه رُشِّحَ لنيلِ تسعةِ جوائزَ من جوائزِ الأكاديمية، ففاز بإحداها عن جدارة؛ وهي جائزةُ أفضلِ كتابةٍ لسيناريو أصليٍّ لفيلم. إلاَّ أنَّ ما يهمُّنا ذكرُه ضمن هذه المشاركة، أن ويلز نفسَه قد قام بتمثيلِ شخصية النَّاشرِ الصَّحفي "تشارلز فوستر كين"، وهي شخصيةٌ مُركَّبة من عِدَّةِ شخصياتٍ واقعيَّة (سنطلُبُ من ناصر الطَّيِّب المك، وإيمان حبيب الله محمَّد، والطَّيب مهدي، أن يفكُّوا رموزها)؛ على أن الأمرَ المُلفِتَ أن الطَّيِّب صالح قد استخدم اسماً مُثلَّثاً مُشابِهاً لاسمِ هذه الشَّخصية الرَّئيسيةِ في الفيلم، حتَّى لكأنَّه اسمٌ لتوأمٍ أو شقيقٍ لها، لتحمِلَ بعضَ دَلالاتِ تلك الشَّخصيةِ المِحوريةِ المُرَكَّبة؛ وهو "ماكسويل فوستر كين"، أستاذ مصطفى سعيد، الذي دافع عنه أمام المَحكمة الكُبرى في لندن، وحاول تخليصَه من حبلِ المِشنقة، عندما حاول المُدَّعي العام، سير آرثر هيغنز، الذي علَّمه القانونَ بجامعة أكسفورد، أن يُحكِمَه حول عنقِه؛ هذا فيما كان يخطُرُ في بالِه أن يصرخَ في وجهِ المَحكمة: "هذا المصطفى سعيد لا وجودَ له. إنه وهمٌ، أُكذوبة. وإنَّني أطلبُ منكم أن تقتلوا الأُكذوبة"؛ وتلك قصَّةُ أخرى، سيجيء الكلامُ عليها لاحقاً.

    ما يهمُّنا الآنَ، في صددِ هذا التَّداخُلِ بين الاسمين، أن مصطفى سعيد قد قال للرَّاوي إن "جَدَّكَ يعرفُ السِّرَ"؛ ولم يكنِ الرَّاوي ليخطُرُ بخَلدِه ولو لِلَحظةٍ عابرة أن لِجَدِّه أسراراً. وكانت كَلِمَةُ السَّرِ التي باح بها القطبُ الصَّحفيُّ في الفيلم، وهو في فِراشِ موتِه "روزبد" (وتُقابِلُها في العربيَّةِ كَلِمَة "بُرعُم")؛ فهل نُميطُ لِثاماً أو نكشِفُ سرَّاً، إذا ما "تبرعمت" في دواخِلِنا رؤى الطَّيِّب صالح، وسَعَت بيننا كتاباتُه؟ المؤكَّد أنه لا أملَ يُرجى، إنْ لم ينتشر بيننا التَّسامح، ويعُم فكرةُ القبول؛ وتلك هي -في إيجازٍ استدعته مِساحةُ هذه المشاركة- بعضُ الأفكارِ الرَّئيسيةِ المبثوثة عبر متنِه الشَّاسع؛ ومن أجل سيادتِها، نطلبُ من مُخرِجةِ البرامج إنعام عبدالله، ومن السِّر السَّيِّد، أن يسترجِعا أقوالَ الرَّجلِ الطَّيِّب، التي سجَّلها لإذاعتِنا الوطنية، فقد كان يوماً ما مديراً لها؛ وكان من الممكن، لولا تواضعٌ أسطوري، أن يصيرَ أكبرَ من ذلك بكثير؛ كما نطلبُ من يحي فضل الله، وِفقاً لهذا الرُّوح المُتسامح، أن يُعيدَ مَسرَحَةِ مَشهَدِ مَحكمة مصطفى سعيد في "الأولد بيلي"، التي تخرَّجَ بها من قسم الدَّراما بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح.

    على المستوى الشَّخصي، سيُسعِدُني ذلك، لأن السِّرَّ ويحي، تماماً مثل حالي مع بشرى الفاضل، قد تقاسَما سريراً واحداً (بطابقين) في داخلية المعهد العالي ببانت شرق، وقد تبادَلتُ معهما بُصحبةِ محمَّد مدني وعادل عبدالرَّحمن، ذاتَ السَّرير، في وقتِ تشرُّدِنا بالبندرِ الوطني. وعلى المستوى العام، نسألُ جمهرة السِّينمائيين السُّودانيين (ونخُصُّ بالذِّكر سليمان محمَّد إبراهيم، وفاتن وأفكار وتوفيق)، لماذا اكتفتِ السِّينما السُّودانية بإنتاجِ "عُرسِ الزَّين"؛ ولماذا لم تُحاولِ السِّينما العالمية الاقترابَ من "مَوسِمِ الهجرة"، رغم اكتمالِ كلِّ عناصر السَّرد التي تصلُحُ أرضيةً راسِخةً لكلِّ عملٍ سينمائيٍّ ناجح؛ إذاً، لامتلأ جيبُ الرَّاحلِ بمالٍ يستحِقُّه، ولما سعى، حتَّى آخرِ يومٍ من حياتِه العامِرة، إلى رِزقٍ ضئيل، حتَّى تُدفعَ أقساطُ البيتِ، ويكتملُ تزويجِ البناتِ على سَنَنٍ مُرضٍ لأهلِ البلدين.

    محمد خلف



                  

01-01-2017, 09:54 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    أقبَلَ عامٌ جديد:
    فلنتحَلَّق إذاً زُمَرَاً وجماعاتٍ مختلِفةَ المشارِب حول الرَّجُلِ الطَّيِّب

    سنهتمُّ في هذه المشاركة، والمشاركاتِ التي تليها، ضمن تجوُّلِنا عبر متنِ الرَّجُلِ الطَّيِّب، بأمرين: الأول، استئنافُ ما بدأناه في الحلقةِ السَّابقة، وهو التَّنقيبُ الجماعيُّ المستمر -من خلال الكنوزِ الأدبية التي خلَّفها لنا الرَّاحلُ العظيم- عن الدَّلالاتِ الجديدةِ والمتجدِّدة عند كلِّ قراءةٍ متأنيَّة لأيٍّ من النُّصوص، التي حفِل بها متنُه العامر؛ أمَّا الثَّاني، ولعلَّهُ الأمرُ الأهمُّ في هذه الآونةِ بالذَّات، فهو النَّظرُ إلى الأديبِ السُّودانيِّ الكبير باعتبارِه مِحوراً مُجَمِّعاً للشَّتاتِ السُّوداني بالدَّاخلِ والخارج.

    فكثيرٌ من الأنظمةِ السِّياسيةِ في شتَّى البلدان تُنشئُ لها تكويناتٍ عليا، يتجمَّعُ في إهابِها الخبرة، ويشِعُّ في أعطافِها الحكمة، فتمنحُها استقلاليةً تعلو بها على الحِراكِ اليومي، وتنأى بها عن التَّحيُّزِ السِّياسيِّ الأعمى للانتماءاتِ الحزبيةِ الضَّيقة؛ فتكونُ هناك مجالسُ للشيوخِ واللُّوردات، أو بوندسراتٌ للوجهاء والأعيان، أو هيئاتٌ عليا لكبار العلماء والمستشارين؛ وكان عندنا من قبلُ مجلسٌ للسِّيادة قليلُ العدد، كافٍ رغم صِغَرِه لحلِّ مشكلة الرِّئاسة عن طريقِ تداولِها؛ وكان يمكن أن يتوسَّعَ ويتطوَّر، في إطارٍ ديمقراطي، للإشرافِ السِّياديِّ على حُكمٍ اتِّحاديٍّ فدراليٍّ أو كونفدراليٍّ أو ما شئت، إضافةً إلى اضطلاعِه بقضايا التَّشريع.

    إلَّا أن الشُّعوبَ تتخيَّر لأنفسِها بشكلٍ مستقِل، وعبر مسيرةٍ تاريخيةٍ طويلة وتدورُنٍ لا ينقطع، رموزَها الثَّقافية ونجومَها الدَّائمةَ اللَّمعان. ففي مجالِ الأدب، على سبيلِ المثال، تلاقتِ الشُّعوبُ البريطانية حول شكسبير؛ والتفَّت فرنسا حول بودلير؛ وتجمَّعت ألمانيا حول غوته؛ وتشابكت مصائرُ الشُّعوبِ الرُّوسية حول بوشكين. فلماذا لا نتحلَّقُ، على طريقتِنا، زُمَرَاً وجماعاتٍ مختلِفةَ المشارب حول ذلك الرَّجلِ الطَّيِّب ذي الخصالِ الحميدة، صاحبِ الإنجازاتِ الأدبية غير المسبوقة، الذي عطَّرت كلماتُه المحافل، وطبَّقت شهرتُه الآفاق: أُستاذِنا الكبير (الطَّيِّب صالح).

    على سيرةِ شكسبير، أثار الكاتبُ المسرحيُّ ذائعُ الصِّيتِ أو "شاعرُ الملاحم" ("ذي بارد"، كما يُلقِّبُه أهلُه) على لسانِ "جولييتَ" مسألةَ اعتباطيَّةِ الأسماء (قبل أن يُثيرَها في بدايةِ القرنِ الماضي، عالمُ اللِّسانياتِ السِّويسري، فيرديناند دا سوسور، ضمن فهمِه العام لاعتباطيَّةِ العلامةِ اللُّغوية)، فقد طلبت من عشيقِها "روميو" أن يتبرأَ من اسمِ عائلتِه "مونتيغيو"، ليلتقيا على عشقٍ مستقلٍّ عن سيطرةِ وتحكُّمِ أسرتَيْهما المتحاربتَيْن؛ موضِّحةً له رأيها بالقولِ إنَّ "الوردةَ تفوحُ بعَبَقٍ طيِّب بأيِّ اسمٍ تسمَّت". إلَّا أنَّ الرَّجلَ الطَّيِّب يكسِرُ هذه القاعدة، التي يكسِرُها أيضاً عادل القصَّاص، وفقاً لما يُسمَّى بظاهرةِ "الحتميَّةِ الاسميَّة" (نومينال ديتيرمينيزم)؛ فالطَّيِّب صالح رجلٌ طيِّبٌ وصالحٌ بالفعل، مثلما أن القصَّاصَ قصَّاصٌ، علاوةً على أنَّ أصغرَ أبنائِه اسمُه "الطَّيِّب، حَفِظُه الله.

    في "مَوسِمِ الهجرةِ إلى الشَّمال"، تطلبُ مسز روبنسون من مصطفى سعيد أن يُناديها باسمِها الأول "إليزابيث"، إلَّا أنَّه يُصِرُّ على مُناداتِها باسمِ زوجِها؛ وفي التَّقليدِ الأدبيِّ والصَّحفيِّ المعروف، يتمُّ ذِكرُ الاسمِ كاملاً في المرَّةِ الأولى، ثمَّ يُستعاضُ عنه بالاسمِ الأول أو اسمِ العائلة، حسب المُتعارف عليه داخل كلِّ لغةٍ على حِدَة، ولكن الطيِّب صالح يُصِرُّ، في المرَّتينِ اللَّتينِ جاء فيهما ذِكرُ بروفيسور ماكسويل فوستر كين على لسانِ تلميذِه مصطفى سعيد، على الإدلاءِ بالاسمِ الثُّلاثيِّ كاملاً، بالرَّغم من أن الفاصِلَ بين وُرُودِهما في النَّصِّ ثلاثةُ أسطُرٍ فقط؛ وكان من الممكن أن يقولَ في المرَّةِ الثَّانية لذِكرِ الاسم: البروفيسور أو ماكسويل أو مستر كين؛ فما هي دَلالةُ هذا الإصرار؟

    لعلَّ في إبدالِ الاسمِ الأول من تشارلز (كما في فيلم "المواطن كين"؛ علماً بأنَّ الاسمَ الثُّلاثيَّ الكامل للشَّخصيَّةِ الرَّئيسيَّةِ في الفيلم هو تشارلز فوستر كين) إلى ماكسويل نوعاً من الإخفاء، تتويهاً للقارئ، وإقصاءً له بعيداً عن مصدرِ الدَّلالة؛ بينما نجِدُ في الإصرارِ على بنيةِ الاسمِ الثُّلاثيةِ ذاتِها نوعاً من الإظهارِ الذي يُعينُ القارئ على معرفةِ ارتباطاتِ روايةِ "المَوسِمِ" بالفيلم (ومنها تقنيةُ "الفلاش باك"، وتركيبُ شخصية البطل من عِدَّةِ شخصياتٍ واقعية ذاتِ علاقةٍ بِسِيرةِ المُنتِج، المُخرِجِ أو الكاتب؛ وبقيَّةُ الارتباطاتِ التي عَهَدنا في الحلقةِ السَّابقة إلى النُّقَّادِ والمُخرِجين السُّودانيين بتوضيحِها لنا)؛ ولعلَّ في هذا أيضاً نوعاً من النَّسجِ على مِنوالِ الإظهارِ والتَّجلِّي، الذي أشرنا إليهِ في المرَّةِ السَّابقة.

    في "عُرسِ الزَّين" (وهي روايةٌ يُحيلُ اسمُ بطلِها أيضاً إلى تلك "الحتميَّةِ الاسميَّة" التي سبق الإشارةُ إليها)، يجتمعُ المدعوون، بتنوِّعِ مشاربِهم واختلافِ أمزجتِهم، للاحتفالِ بشخصٍ وَطَّدَ صِلاتِه بالتَّعارُكِ تارَةً، وبالمحبَّةِ تارَةً أخرى، ليس مع "نِعمةَ" وحدِها، وإنَّما مع كلِّ فردٍ من أفرادِ المجتمع؛ فأتى النَّاسُ من كلِّ حَدَبٍ وصَوب، من قِبلِي ومن بَحرِي؛ أتي فريقُ الطَّلحَةِ بأكملِه، وأتى عربُ القوز، "جاءوا عبرَ النِّيلِ بالمراكب، وجاءوا من أطرافِ البلد، بالخيولِ والحميرِ والسَّيَّارات" ليحتفلوا بزفافِ "الزَّينِ" على "نِعمة". ومع إقبالِ عامٍ آخرَ في أعقابِ وفاةِ الرَّجلِ الطَّيِّب (18 فبراير 2009)، يجدُرُ بِنا أن نتحلَّقَ، زُمَرَاً وجماعاتٍ مختلِفةَ المشارِب، للاحتفاءِ الدَّائمِ بالطَّيِّب صالح، رمزاً للتَّوحُّدِ، وإعلاءً لقيمةِ التَّسامحِ فوق منطقِ الشَّتات، حتَّى ننالَ بحُسبانِ الدُّنيا، التي خبِرَ دروبَها، "نِعمةَ" القَبُول (فهذا لا يمنعُ، بل يقتضي، أن ننالَ أيضاً بحُسبانِ الآخرةِ أجزلَ الثَّواب).

    هذا، بالطَّبع، لا يعني التَّطبيلَ للرَّاحل، رغم انقضاءِ فترةِ السَّماح التي يُجلِّلُها رحيلُ الموتى (فهو يُصبِحُ بانقضائها في ذمَّةِ التَّاريخ)، أو الاستنكافَ عن نقدِ المقروءِ أو المسموعِ أو المُشاهَد (بل يستدعيه، إذا كان نقداً موضوعياً أو علمياً)؛ كما لا يعني هذا بالطَّبع أن الرِّوائيَّ الكبير مُبرأٌ تماماً من الأخطاء (وربما بعضٌ منها لا يُغتفر، في نظرِ قلَّةٍ مُعتبرة)، فنحنُ في نهايةِ المطافِ لا ندعو للالتفافِ حول وليٍّ تقيٍّ أو شيخٍ كثيرِ الرَّماد؛ غير أن موتَه بعد عُمُرٍ مديد، وإنجازاتٍ عظيمة، يؤهِّله تماماً ليكونَ مناطاً للاقتداء، وبوتقةً دائمة لِلَمِّ الشَّتات.


    في حلقةٍ قادمة، سنصحبُ القارئ في جولةٍ داخل محطَّة تشارينغ كروس بوسط لندن، لنُضيءَ جانباً مُعتِماً من رواية "موسم الهجرة"، تمهيداً للدُّخول، خطوةً على إثرِ أخرى، في المحاورِ الرَّئيسيَّةِ التي استدعت في الأساسِ ابتدارَ هذه المشاركات.

    محمد خلف





                  

01-09-2017, 00:15 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    سلام يا عادل القصاص و شكرا على مناولاتك الكريمة و سلام يا محمد خلف و شكرا على المكاتيب العامرة و سلام للجميع كتبت يا محمد خلف الله « ومع إقبالِ عامٍ آخرَ في أعقابِ وفاةِ الرَّجلِ الطَّيِّب (18 فبراير 2009)،

    يجدُرُ بِنا أن نتحلَّقَ، زُمَرَاً وجماعاتٍ مختلِفةَ المشارِب، للاحتفاءِ الدَّائمِ بالطَّيِّب صالح، رمزاً للتَّوحُّدِ، وإعلاءً لقيمةِ التَّسامحِ فوق منطقِ الشَّتات، حتَّى ننالَ بحُسبانِ الدُّنيا، التي خبِرَ دروبَها، "نِعمةَ" القَبُول (فهذا لا يمنعُ، بل يقتضي، أن ننالَ أيضاً بحُسبانِ الآخرةِ أجزلَ الثَّواب). هذا، بالطَّبع، لا يعني التَّطبيلَ للرَّاحل، رغم انقضاءِ فترةِ السَّماح التي يُجلِّلُها رحيلُ الموتى (فهو يُصبِحُ بانقضائها في ذمَّةِ التَّاريخ)، أو الاستنكافَ عن نقدِ المقروءِ أو المسموعِ أو المُشاهَد (بل يستدعيه، إذا كان نقداً موضوعياً أو علمياً)؛ كما لا يعني هذا بالطَّبع أن الرِّوائيَّ الكبير مُبرأٌ تماماً من الأخطاء (وربما بعضٌ منها لا يُغتفر، في نظرِ قلَّةٍ مُعتبرة)، فنحنُ في نهايةِ المطافِ لا ندعو للالتفافِ حول وليٍّ تقيٍّ أو شيخٍ كثيرِ الرَّماد؛ غير أن موتَه بعد عُمُرٍ مديد، وإنجازاتٍ عظيمة، يؤهِّله تماماً ليكونَ مناطاً للاقتداء، وبوتقةً دائمة لِلَمِّ الشَّتات.

    « ـ و طبعا استرعت إنتباهي دعوتك للتحلّق حول الطيب صالح ـ لا بوصفه قامة أدبية عالية تستحق الإحترام و الإعجاب ، و إنما بوصفه حسب عبارتك يا محمد" رمزاً للتَّوحُّدِ، وإعلاءً لقيمةِ التَّسامحِ فوق منطقِ الشَّتات"،و هي دعوة تسحب الرجل الطيب الصالح من مقام الأدب لمقام السياسة السودانية المزدحم بالمزالق.و من بينها مزلق التعصب العرقي و الديني الذي قد يحزّ في نفوس قطاع من المواطنين السودانيين الذين لا ينتمون للعرق الطيب و لا للدين الصالح الذين يتخذهما بعض السودانيين بين قرائن إمتيازهم على بقية مواطنيهم الذين لا يقاسمونهم مزاعم العرق و مزاعم العقيدة ، فما رأيك دام فضلك؟


    ـ وأنا أسألك رأيك لأني أتوسم في ثنايا مكتوبك حكمة قد تخفى على نظري الضعيف و كدا.ـ برضو شوف كلام الطيب صالح التحت دا لو كنت ما شفته قبل أن تكتب دعوتك :ـ « .. "..أنت عندما تفكر في ماحدث للعرب في شرق أفريقيا، كانوا هناك لقرون..أو حتى نحن العرب الآن في السودان ، لنا حوالي 800 سنة التي هي فترة وجود العرب في اسبانيا، ثم قاموا و طردوهم و قطعوا دابرهم..أنا لا أرى أي ضمان لما نحن عليه الآن.." ".. الآن نلاحظ النزوح الجنوبي للشمال وصل حتى حلفا، الكنائس تبنى على طول المنطقة الشمالية، هذه ليست قضية حقوق، انها قضية صراع على الهيمنة"( جريدة الخرطوم 26 ابريل 1998).


    حسن موسى
    ا




                  

01-09-2017, 00:18 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)




    "..أنت عندما تفكر في ماحدث للعرب في شرق أفريقيا، كانوا هناك لقرون..أو حتى نحن العرب الآن في السودان ، لنا حوالي 800 سنة التي هي فترة وجود العرب في اسبانيا، ثم قاموا و طردوهم و قطعوا دابرهم..أنا لا أرى أي ضمان لما نحن عليه الآن.." ".. الآن نلاحظ النزوح الجنوبي للشمال وصل حتى حلفا، الكنائس تبنى على طول المنطقة الشمالية، هذه ليست قضية حقوق، انها قضية صراع على الهيمنة"( الطيب صالح- جريدة الخرطوم 26 ابريل 1998).

    ما رأيكم في ذلك، دام فضلكم؟

    إبراهيم جعفر





                  

01-09-2017, 00:23 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)


    لم تصدمني أطروحةُ الرَّجلِ الطَّيِّبِ كثيراً، ياحسنُ (ويا إبراهيمُ)، فقد استأنستُ من قبلُ بِرَهطٍ من صُويحِباتِها

    في البدءِ، يلزَمُني التَّقدُّمُ بعددٍ من الاعتذاراتِ قبل الشُّروعِ في رَدٍّ ينتظرُه عددٌ من القرَّاءِ الأفاضل. أولاً؛ أتقدَّمُ بالاعتذار للصَّادق إسماعيل، وكنتُ أُريد أن أصدُقَه القولَ بأنه يُمكِنُ اعتبارُ فيلم "عرس الزين"، منظوراً إليه من زاوية خالد الصِّديق، بأنه إنتاجٌ كويتي؛ إلَّا أنَّه من جهةٍ أخرى، تنتظرُ تعضيدَ المختصِّين، يمكنُ اعتباره عملاً سودانياً؛ وربما كان هذا الانتظار هو الذي أجَّل الرَّدَ؛ وفي البالِ، مشاركةٌ طويلة في هذا الخصوص. وثانياً؛ أتقدَّمُ بالاعتذار للأستاذ حسن موسى، فليس مثلُه، وقليلٌ غيرُه من تلك الفئة الجادَّة والمُجوِّدة لعملها، مَنْ يُتركُ سويعاتٍ قليلة في انتظارِ ردٍّ، أغلبُ الظَّنِّ أنه مُدرِكٌ لملامحِه العامَّة، إلَّا أن شواغلَ متعلِّقةً بلقمةِ العيش، واضطرابِ الوقتِ في فترةِ بين العيدين، قد فرضت عليَّ تأجيلاً، لم أكن أرغب في حدوثِه، فقد خطرت لي فكرةُ الردِّ الرَّئيسية، بمجردِ الانتهاءِ من قراءتي لملاحظتِه الثَّاقبة؛ هذا إضافةً إلى أنَّه ما كلُّ يومٍ سيَسنَحُ سانِحٌ لمناقشةِ عقولٍ نيِّرة في قامةِ حَسَنٍ وإبراهيمَ. والأهمُّ من ذلك كلِّه، يلزَمُني التَّقدُّمُ باعتذارٍ صادقٍ إلى جميعِ قراءِ هذا الرُّكن، فقد وعدناهم بتخصيصِ هذه الحلقةِ للقيامِ بجولةٍ في محطَّةِ تشيرينغ كروس؛ إلَّا أن الرَّجلَ الطَّيِّب تضرَّرَ كثيراً في حياتِه، بسببٍ من ردودِ أفعالٍ (أي تصريحاتٍ) غيرِ مراقبةٍ من جانبه، وبسببٍ من مدارسَ نقديةٍ اعتمدنا أطروحاتِها من غيرِ تمحيصٍ كاف، سنتعرَّضُ إلى نظرتينِ أو منظورَيْنِ رئيسيَيْنِ منها في هذا الخصوص، لعلنا نُنصِفُهُ في مَمَاتِهِ بعضَ الإنصاف؛ ولكن قبل البدءِ في هذه المهمَّة، سنُقيمُ تفريقاً ضرورياً بين مفاهيمَ أساسية، يحتاجُ استخدامُنا لها إلى توضيح، حتَّى يسهُلَ عمليةُ التلاقي على فهمٍ موحَّد أو الاختلافِ على بَيِّنَةٍ من أمرِنا.

    عند استخدامِنا لمفاهيمَ رئيسيةٍ مثل الثَّقافة، والسِّياسة، والاقتصاد، والاجتماع (والدِّين كذلك)، ينشأُ في العادةِ خلطٌ أو تداخلٌ بين المعنى الضَّيِّق للمفهوم وبين دَلالتِه الواسعة أو الفضفاضةِ في بعضِ الأحيان. على سبيلِ المثال، يُمكِنُ أن ينحصِرَ مفهومُنا للثَّقافة في الإنتاجِ الأدبيِّ والفني، ويُمكِنُ أن يتَّسعَ ليشملَ كُلَّ تدخُّلٍ بشريٍّ في الطَّبيعة، بحيثُ لا يخلو عملٌ إنسانيٌّ عليها من سماتٍ ثقافية؛ ويُمكِنُ أن ينحصِرَ مفهومُنا للسِّياسةِ في الانتماءاتِ الحزبيةِ المعروفة، ويُمكِنُ أن يتَّسِعَ ليشملَ كُلَّ ممارساتِ الأفرادِ داخل المجتمع، بحيثُ لا تخلو ممارسةٌ اجتماعية من مدلولٍ سياسي؛ واختصاراً، يُمكِنُ أن يُقالَ نفسُ الشَّيء عن الاقتصاد والاجتماع، حيث نشأ تاريخياً عن اتِّساعِ الأوَّلِ ظاهرةُ "الاقتصادوية"، بينما نشأت عن اتِّساعِ الآخِرِ مقولاتُ "البِنيَةِ الاجتماعيةِ الشَّاملة" (ليو ألتوسير؛ نيكوس بولانتزاس؛ مهدي عامل). أمَّا بخصوص الدِّين، فهناك التَّعبيراتُ الدِّينية المحدودة داخل كلِّ ثقافةٍ على حِدَة، كما أنَّ هناك فكرةُ الدِّينِ الشَّامل، الذي يجُبُّ كلَّ دِينٍ قبله.

    وعندما يطرحُ بعضُنا فكرة التَّمييزِ الضَّروري، أو يعترضُ غيرُهم على عمليَّةِ الفصلِ التَّعسفي، بين السِّياسيِّ والثَّقافي، فإن الطَّرحَ يعتمدُ المفهومَيْنِ في دلالاتِهما المحصورة، بينما يعتمدُ الاعتراضُ على الدَّلالةِ الواسعة للمفهومَيْن. وباعتمادِ هذه التَّفرقة الضَّرورية، يُمكِنُ اعتبارُ الطَّيِّب صالح بالمفهومِ الضَّيِّقِ للسِّياسة غيرَ مُنتمٍ سياسيَّاً، إذ إنَّه لا ينضوي إلى تنظيمٍ سياسيٍّ بعينِه؛ إلَّا أن الرَّجلَ الطَّيِّبَ قد تناولَ في قالَبٍ سرديٍّ شيِّق، ومنذُ وقتٍ مُبكِّرٍ (إنْ لم نقل غيرَ مسبوقٍ) موضوعاتِ الهويَّةِ الوطنية، وعلاقةِ الأنا بالآخَر، والعمقِ الحضاريِّ للممارساتِ الاجتماعية؛ وكلُّها قضايا سياسية من الدَّرجةِ الأولى، إذا اعتمدنا الدَّلالةَ الواسعة لمفهومِ السِّياسة. وعندما ندعو للتَّحلُّق حول الرَّجلِ الطَّيِّب، فإننا نُدرِكُ تماماً بأن آراءنا المتعدِّدة (التي عبَّرنا عنها بمختلفِ المشارِب) لن تخرُجَ عن هذا المنظورِ الثُّلاثيِّ الواسع الذي بَعَجَتهُ كتاباتُ الطَّيِّب صالح (والذي سنكشِفُ عنه تِباعاً في مُشاركاتِنا اللَّاحقة). ومن مَنظورِ الوحدةِ في التَّنوُّع، نُريدُ لمُساهماتِنا المتنوِّعة في إطارِ متنِ الرَّجلِ الطَّيِّب أن تكونَ أساساً للتَّوحُّد، الذي لا يُلغي تعدُّدَ الأصواتِ أو يُقصي أَحَدَاً، حتَّى لو خَرَجَ ذلك في شكلِ ردِّ فِعلٍ غيرِ مُراقَبٍ أو بسببٍ من جهلٍ أو تجاهلٍ مُتعمَّد.

    بخصوصِ المدارسِ النَّقديةِ السَّائدة، هناك نظرتانِ رئيسيتانِ في هذا الخصوص؛ الأولى، نشأت وترعرعت في مجالِ الفلسفة والعلوم الإنسانية، ويُمكِنُ اعتبارُ الفيلسوف الفرنسي (الجزائريِّ الأصل)، جاك ديريدا، واحداً من مؤسِّسيها، والمتضرِّرين في حياتِه من انتشارِها؛ والثَّانية، انبثقت في مجالِ الفلسفةِ والعلومِ الطَّبيعية، ويُمكِنُ اعتبارُ الفيلسوف البريطاني (النِّمساويِّ الأصل)، كارل بوبر، واحداً من مؤسِّسيها؛ وقد حاولَ تطويرَها توماس كُن، إلَّا أنَّه تضرَّر أيضاً في حياتِه من انتشارِها، وتسرُّبِها اللَّاحقِ خِلسةً إلى حقلِ العلوم الإنسانية. يُمكِنُ وصفُ النَّظرةِ الأولى بأنَّها "تقويضية"، إذ إنها تسعى لـِ"تفكيكِ" العملِ من خلالِ البحثِ عن الجزءِ الحيوي أو النُّقطةِ الرَّئيسية التي يؤدِّي التَّنبيهُ إلى مكامنِ ضعفِها إلى انحلالِ العملِ كلِّه أو تفكُّكِه، بحيث يسمح ذلك بتوليدٍ مستمرٍّ أو انزياحٍ مطَّردٍ للدَّلالة؛ كما يُمكِنُ وصفُ النَّظرةِ الثَّانية بأنَّها "تفنيدية"، إذ إنَّها تسعى للقضاء، مرَّةً وإلى الأبد، على الأطروحاتِ أو النَّظرياتِ "الفاسدة". وانتشرت هذه النَّظرة "التَّفنيدية" أولاً في مجالِ العلوم الطَّبيعية، بينما سادتِ النَّظرةُ "التَّقويضية" في مجالِ العلوم النَّصيَّة؛ وكلاهما تُستخدمانِ بشكلٍ واسعٍ في الممارساتِ النَّقديةِ السَّائدة.

    إلَّا أنَّ ديريدا، خلافاً للتَّابعين له أو المتأثِّرين به، كان يضعُ تقديراً عالٍ للعملِ المُراد تفكيكُه، ولا يقتربُ من عملٍ إلَّا إذا اتَّصف بالثَّراءِ النَّصِّي واحتشدت نواصِيهِ بينابيعَ مُنتِجَةً لدلالاتٍ لا تنقطع؛ إذ لا معنى للاقترابِ من عملٍ "مفكَّكٍ" أصلاً. في المقابل، كان بوبر، خلافاً للوضعيين المنطقيين في فيينا، يرى أنه لا يُمكِنُ البرهنةُ بشكلٍ قاطعٍ للمقولات أو النَّظرياتِ العلمية، ولكن يُمكِنُ "تفنيدُها"، مرَّة وإلى الأبد، إذا تمَّ العثورُ على حالةٍ واحدةٍ فقط، لا ينطبقُ عليها مقتضى الحال أو النَّظرية. وقد أقرَّ توماس كُن بما أتي به بوبر، لكنه نبَّه، علاوةً على أهمية "الدَّحضِ" في مراحلِ "الأزمات"، إلى اندراجِ أنشطةِ العلماء في وقتِهمُ "العاديِّ" داخل صيغةٍ نموذجية، مُتَّفقاً عليها في أَوجِ هيمنتِها من قِبَلِ الجميع؛ بمعنى أن "الخطأ" أو "النَّظريةَ المُتخطاةَ" يظلُّ له أو لها مكانٌ داخل الصِّيغةِ النُّموذجيَّةِ العامة، ريثما يتمُّ استبدالُها تماماً بصيغةٍ أفضلِّ منها.

    لم يكُنْ كُنُّ راضِياً تماماً عن انتقالِ فكرتِه والعبثِ بها داخلَ مجالٍ غير مجالِها الحيوي (وهو العلومُ الطَّبيعية)، وقد عبَّر في كتابِه "السَّبيل منذُ البِنية" (الذي جمعَه أصدقاؤه في أعقابِ وفاتِه) عن امتعاضِه من إحالةِ أفكارِه (التي عُرِضَ أهمُّها في كتابِه الأشهر: "بِنية الثَّوراتِ العِلمية") إلى مجالٍ دَلاليٍّ آخَر، تتحرَّرُ ممارساتُه النَّقدية من معاييرِ الانضباطِ العلمي، بجعلِ كلِّ شيءٍ مُمكِناً وقابِلاً للتَّصديق، مهما تهاوت حُجَجُه. وقد عبَّر ديريدا نفسُه عن امتعاضٍ مُشابهٍ من إحالةِ أفكارِه إلى مَسخٍ على يدِ المروِّجين المتحمِّسين غاية التَّحمُّس لأفكارِ ما بعد الحداثة (التي صدر بعضٌ منها بسببٍ من تحليلاتِ ما بعد البنيوية، التي كرَّسَ من خلالِها قراءاتُه لعددٍ محدودٍ جدَّاً من الكتب لاستجلاءِ أوجُهِها الرَّئيسية). وقد فُتِنتُ رَدَحاً بأساليبَ نقديةٍ "تتصيَّدُ" عيوباً في المقروء، بغرضِ استخدامِها، على طريقة رولان بارت، في التَّعاركِ الآيديولوجيِّ المفتوح. وربَّما تأذَّى الرَّجلُ الطَّيِّب في حياتِه قليلاً (وربَّما جنت على نفسِها براغِثُ) من جرَّاءِ هذا التَّصيُّدِ المتعمَّدِ من قبل عددٍ من النُّقاد المُحدَثين.

    ومنذ خطابي المفتوح إلى الصَّديق الماحي علي الماحي (تكفَّلَ اللهُ برعايتِه ومنَحَهُ صبراً للتَّعاملِ مع مرضِه، ووقتاً كافياً لإنزالِ ما "تصعَّدَ" لديهِ على ورقٍ أبيضَ أو شاشةٍ بلورية)، ومروراً بتدخُّلي في الحوارِ الشَّهيرِ بين الدُّكتور حيدر إبراهيم علي والأستاذ عبدالله بولا (تكفَّلَ اللهُ برعايتِهما ومنَحَهُما صبراً للشِّفاء والاستشفاء، ووقتاً كافياً لإكمالِ مشروعَيْهما وخروجِ ثمراتِهُما إلى المطابعِ أو دُنيا الأسافير)، وانتهاءً برسالتي إلى القاص الصَّديق عادل القصَّاص (أمدَّ اللهُ في عُمُرِه وحفِظَه لأولادِه وأهلِه ووطنِه)، أُحاولُ أن أُحيطَ بالمجالِ كلِّه، مُنبِّهاً لبعضِ العيوبِ الصَّغيرة، ومُغطيَّاً لها في ذاتِ الوقتِ بتحليلٍ عامٍّ إيجابي؛ مُمسِكاً منهجَ الشَّجرةِ بيدٍ، ومُفسِحاً بالأخرى مجالاً للغابِ كي يمتدُّ وينمو بلا حدود؛ وبيُمناي "كراسةٌ منطقية-فلسفية" للفيلسوف الألماني لودفيج فيتجنشتاين، وبالأخرى "تحقيقاتٌ فلسفية"، وهو أيضاً كتابٌ فتَحَ مُنفرِداً طريقاً مُمَهَّداً للنِّسبيَّةِ المعرفيَّةِ الفالِته التي جاءت في أعقابِ حركة ما بعد الحداثة.

    وبفتحِنا لمتنِ الرَّجلِ الطَّيِّب (ليس لرواياتِه وقصصِه القصيرةِ فقط، الذي كُنتُ أُسمِّيه في حياتِه بـِ"المتنِ الرِّوائيِّ المفتوح"، وإنَّما أيضاً لمقالاتِه ومقابلاتِه المسموعةِ والمرئية، وما يظهرُ له لاحقاً من كتاباتٍ ومذكِّرات)، فإننا نفتحُ عالَماً شاسِعاً، ننظرُ في أرجائِه إلى أُطروحاتِه ضمن سياقٍ بعينِه، ووفقَ منظورٍ محدَّد، يسمحُ بالكشفِ عن عيوبِ المقروءِ والمسموع، من غيرِ أن يُطيحَ بالدَّلالات الكُليَّة لأعمالِه "الكاملة"، فما كلُّ قرنٍ سيسنحُ سانحٌ لمناقشةِ عقولٍ نيِّرةٍ في قامةِ الطَّيِّب صالح.

    تحرَّزنا في الحلقةِ الأولى بشأنِ استخدامِنا لمفهومِ "التَّحلُّقِ" نفسِه، وقلنا إنه يجبُ أن يتمَّ "على طريقتِنا"، وأن يتمَّ من قِبلِ "زُمَرٍ وجماعاتٍ مُختلِفةِ المشارب"؛ وأوضحنا في الفقرةِ الثَّالثةِ عاليه أن "تعدُّدَ آرائِنا" لن يخرجَ، فيما نزعمُ، عن المنظورِ الثُّلاثيِّ الواسع (الذي تهيَّأ للرَّجلِ الطَّيِّب باكِراً، بحُكمِ ملابساتٍ لم تسنح لغيرِه)؛ ونُضيفُ هنا، على سيرةِ ديريدا، ولمزيدٍ من التَّوضيحِ فقط، بدءَ محاولةٍ لزحزحةِ مفهومِ "التَّحلُّق" (على أن نُكمِلَها على طريقةِ أبي علي الفارسي، في ثنايا حلقاتٍ قادمات)؛ فمادَّة [ح ل ق] تُشيرُ إلى معنى الإزالة، الذي يمكن أن يُفيدَ في التَّخلُّصِ من الفهم القديم؛ كما تُشيرُ أيضاً إلى الاستدارة، التي لا تكتمل إلَّا بجِماعِ الآراء، على "اختلافِ مشاربها"؛ كما تُشيرُ أخيراً إلى دَلالةِ السُّمو، فلربما ارتفعنا في السَّماءِ بأجنحةٍ من نور، إذا تعلَّمنا حرفة التَّحاورِ الذَّكي، ورؤية الأشياءِ من الزَّاوية المُضادة، والتَّعاطفَ مع بعضِ سماتها، قبل التَّفكير المشروع في "تقويضها" أو "تفنيدها".

    سنُركِّز خلال تجوُّلِنا عبر المتنِ الشَّاسعِ على استخلاصِ قيَمِ التَّسامحِ والتَّراضي والقبول، ورفضِ قيَمِ التَّعالي والإقصاءِ والتَّهميش، ليس في الوطنِ المحدودِ وحدِه، وإنَّما في العالمِ كلِّه، وذلك من خلالِ منافشتِنا للمحاورِ الرَّئيسيةِ للمتن؛ وهي في نظرِنا، إلى حين تنبيهِنا إلى محاورَ رئيسيةٍ أخرى: البندرُ الكولونيالي، الوطنُ الأم، والعمقُ الحضاريُّ الشَّامل؛ وترتبِطُ هذه المحاور، على سبيلِ المثال في "مَوسِمِ الهجرة"، وعلى التَّوالي، بشخصياتٍ ثلاثة، هي مصطفى سعيد، والرَّاوي، والكاتب.


    محمد خلف




                  

01-16-2017, 00:17 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)


    هذه محطَّة تشارنغ كروس:
    ثمَّةَ رهطٌ خفيضُ الصَّوت، ثمَّ ضوضاءُ عالِقةً منذُ أن حَمِيَ وطيسُ الحربِ في حقولِ فلاندرز

    في وسطِ لندن على وجهِ التَّحديد، تُوجدُ محطَّتانِ عتيقتانِ باسمِ تشارنغ كروس: الأولى، لمترو الأنفاق (أو قطارات تحت الأرض)، وتقعُ مباشرةً تحت ميدان الطَّرف الأغر، ذي الأسودِ البرونزية، كما يتوسَّطُهُ تمثالُ نيلسونَ الشَّاهق، الذي تحفُّ به فَسقياتٌ (أي نوافيرُ) أربع؛ والثَّانية، لقطاراتِ السِّكك الحديدية، التي تتَّجه صوب البحر شرقاً وجنوباً، في رحلاتها اليومية إلى ومِنِ المواني التي تربِطُ الجزيرةَ البريطانية بأوروبا وبقيةِ أنحاءِ العالم. وهذه هي التي تعنينا في هذه المشاركة، التي نُريدُ لها أن تصلُحَ مدخلاً ملائماً للتَّعرُّفِ مجدَّداً على الموضوعاتِ الرَّئيسية لرواية "موسم الهجرة إلى الشَّمال"، ومن ثمَّ الأفكارِ الأساسية لمتنِ الرَّجل الطَّيِّب، الرِّوائيِّ السُّودانيِّ الأشهر: الطَّيِّب صالح.


    وعندما نقول وسطَ لندن على وجهِ التَّحديد، فإننا نعني وسطَها تماماً، أي نقطة الارتكاز التي كانت تُقاسُ بناءً عليها المسافاتُ داخل البندرِ الذي تحكَّمَ يوماً بجيوشِه وتجارتِه الرَّائجة في مصائرِ غالبيةِ البشرِ في العالم. فأمامَ المحطَّة، يُوجدُ صَرحٌ تَذكارِيٌّ لصليبِ الملكة إيلينا (إليانور)، الذي ما زال يُستخدمُ إلى اليوم مُرتكَزاً لقياسِ المسافاتِ من لندن، علاوةً على قيمتِه التِّذكارية والجمالية؛ وخلفها، يُوجدُ نهرُ التِّيمز، الذي قال عنه صاحبُ "قلب الظَّلام" إن "البحرَ يمتدُّ أمامَه مثل ابتداءٍ لممرٍ مائيٍّ لا نهايةَ له". وإذا كان جوزيف كونراد، مؤلِّفُ هذه الرِّواية الشَّهيرة قد أطلقَ بطلَه، مارلو، في طِلابِ بطلِهِ الآخر، كورتز، مُبحِراً من "أكبرِ، وأعظمِ مدينةٍ في العالم" إلى أدغالِ أفريقيا وأحراشِها، التي يعيثُ الأخيرُ في دُكنَةِ غاباتِها فساداً، فإن صاحِبَ "المَوسِمِ" قد وضعَ بطلَه، الرَّاوي، في طريقِ بطلِه الآخر، مصطفى سعيد، ليكشفَ عبر أوراقٍ وأحاديثَ مُقتضبةٍ في قريةٍ وادعة عند مُنحنى النِّيلِ رحلةَ الأخيرِ إلى بندرٍ مُضيء، ظلَّ رَدَحاً يعيثُ فيه فساداً وفُسقاً نَتنَاً، على رائحةِ النَّدِّ، والصَّندلِ المحروقِ، وأضواءِ الشُّموع.


    مثلما أن كورتز كان ذا جنسيةٍ مزدوجة (إنجليزية فرنسية)، حتى تصبحَ إدانتُه أخلاقياً رمزاً لإدانةِ أكبرِ قوَّتين استعماريتين، فإن مصطفى سعيد كان، حسب وصفِه لنفسِه أمام شيلا غرينوود، ذا وجهٍ "عربيٍّ كصحراءِ الرَّبعِ الخالي" ورأسٍ "أفريقي يمورُ بطفولةٍ شريرة"، حتى تكونَ أفعالُه مُطابِقةً لما تنسِجُه المُخيِّلةُ الأوروبيةُ الشَّعبية أو تُعيدُ إنتاجَه بكيفيةٍ مُلتبِسة مؤسَّساتُه الاستشراقية؛ وهذا منحًى سنعودُ إليه في شيءٍ من التَّفصيل في مشاركاتٍ لاحقة. أمَّا الآن، فإننا على وشكِ الدُّخول إلى الرَّدهة الرَّئيسية للمحطَّة. كلُّ شيءٍ يسيرُ كالمعتاد، في صورةٍ تقتربُ من وصفِ مصطفى سعيد لإنجلترا بأن "هذا عالمٌ مُنظَّم": المسافرون يسيرون مُسرعين، وأحياناً يركضون، إلى ماكيناتِ التَّذاكر أو مستودعاتِ الخدمات أو غرفةِ الانتظار، من غير ضجيجٍ أو جلبةٍ تُذكر، و"لا ضوضاءَ"؛ وعلى جانبي الرَّدهة، يقفُ على أُهبةِ الاستعدادِ جنديانِ من شرطة الطَّوارئ، مُدجَّجانِ بأحدثِ أسلحةِ مكافحةِ الإرهاب. وكانت ذاتُ الرَّدهة، وذاتُ غرفة الانتظار، قبل مئةِ عامٍ تقريباً، تكتظُّ دائماً بنسوةٍ يتَّشحنَ بالسَّواد، في انتظارِ العائدين من حقولٍ فلاندرز.


    أصبحت حقولُ فلاندرز (وتتوزَّعُ الآنَ بين بلجيكا وفرنسا وهولندا) تُشيرُ في الاستخدامِ الاصطلاحيِّ إلى ساحاتِ المعاركِ إبَّانِ الحربِ العالميةِ الأولى. وقد كتب عنها الشَّاعرُ الكندي جون ماكريه قصيدةً بعنوان: "في حقولِ فلاندرز"؛ يقولُ في مطلعِها:
    "في حقولِ فلاندرز، يُزهِرُ الخشخاشُ
    بين الصُّلبانِ المرصوفةِ صفَّاً إثرَ آخرَ،
    فذاكَ تحديدٌ لمكانِنا؛ وفي السَّماءِ،
    ما زالتِ القُبَّراتُ، وهي تشدو دون خَشيةٍ، تطيرُ،
    وبالكادِ لا تُسمَعُ، وسَطَ أصواتِ البنادقِ المُطلقةِ من تحتِها".
    إلَّا أنَّ قصيدة "أنتويرب"، للشَّاعر والرِّوائي الإنجليزي، فورد مادوكس هيفر، هي أفضلُ ما كُتِبَ من قصائدَ، بحسبِ تي إس إليوت، عن الحربِ العالميةِ الأولى؛ وهي ذاتُ القصيدة التي تغنَّت بمقطعِها السَّادسِ فرقةُ "ذا ريث" في عام 2006؛ وهو ذاتُ المقطعِ الذي اقتطعَ منه مصطفى سعيد أبياتٍ قرأها، وهو تحتَ تأثيرِ الشُّربِ، على مسمعٍ من الرَّاوي، الذي قال على إثرِ سَماعِه للأبيات: "أقولُ لكم، لو أنَّ عِفرِيتاً انشقَّت عنه الأرضُ فجأةً، ووقفَ أمامي، عيناهُ تقدحانِ اللَّهب، لما ذُعِرتُ أكثر مما ذُعِرت".

    ما نُريدُ التأكيدَ عليه من كلِّ ذلك هو أن الطَّيِّب صالح قد صوَّر لنا بهذه الأبياتِ القلائل، خلافاً للدَّهشةِ التَّشويقيةِ التي اعترتِ الرَّاوي، وانتقلت منه إلينا معشرَ القراء، تحديداً دقيقاً، إلَّا أنَّه غيرُ مألوفٍ، للزَّمن الرِّوائي في "موسم الهجرة"؛ وهو فترة ما بين الحربين، التي حدَّدت معاهدةُ فرساي قسماتِها، والتي لا تزالُ زهرةُ الخشخاشِ تُمثِّل للرَّأيِّ العامِ الأوروبي رمزاً للسِّلمِ بوضعِ الحربِ العالميةِ الأولى أوزارَها؛ وهي فترةُ الثَّلاثةِ عقودٍ من الزَّمان التي يتحدَّثُ عنها مصطفى سعيد بقولِه: "ثلاثون عاماً. كان شجرُ الصَّفصافِ يبيَضُّ ويخضَرُّ ويصفَرُّ في الحدائق، وطيرُ الوقواقِ يُغني للرَّبيعِ كلَّ عام. ثلاثون عاماً وقاعة ألبرت تغصُّ كلَّ ليلةٍ بعشَّاقِ بيتهوفنَ وباخ، والمطابعُ تُخرِجُ آلافَ الكتبِ في الفنِ والفكر". وهي الفترةُ التي يقولُ عنها الرَّاوي: "كانت لندنُ خارِجةً من الحربِ ومن وطأةِ العهدِ الفيكتوري". كما يقولُ مصطفى سعيد بشأنِها: "رأيتُ الجنودَ يعودون من حربِ الخنادقِ والقُمَّلِ والوباء". وهي الأوضاعُ التي أشار إليها المقطعُ السَّادس من قصيدة "أنتويرب":
    "هؤلاءِ نساءُ فلاندرز
    ..............
    ينتظرنَ الضَّائعين، الذِّينَ يرقدونَ موتى في الخندقِ والحاجزِ والطِّينِ في ظلامِ اللَّيل.
    هذه محطَّةُ تشارينغ كروس. السَّاعةُ جاوزت الواحدة.
    ثمَّةُ ضوءٌ ضئيل.
    ثمَّةُ ألمٌ عظيم" *.


    سنوضِّح في حلقةٍ قادمة كيف تُساهمُ هذه الأبياتُ القليلة في تحديدِ أدوارِ الشَّخصياتِ الثَّلاثة الرَّئيسية (مصطفى سعيد، والرَّاوي، والكاتب)، التي تُسهمُ بدورِها في توضيحِ المحاورِ الثَّلاثةِ للمتن؛ وهي، البندرُ الكولونيالي، والوطنُ الأم، والعمقُ الحضاريُّ الشَّامل.



    محمد خلف

    ......................................................................
    * احتفظنا بترجمة الكاتب للأبيات، وأعطينا لأنفسِنا حقَّ تشكيلِها. م. خ.

                  

01-29-2017, 04:05 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)


    هذه محطَّة تشارنغ كروس:
    ثمَّة جمعٌ غفير، متَّشحاً بالسَّوادِ، بالكادِ يهمسُ بصوتٍ عال

    قلنا في الحلقةِ السَّابقة إننا سنوضِّح كيف أن الأبياتِ التي ألقاها مصطفى سعيد على مسمعٍ من الرَّاوي ستساهمُ في تحديدِ الأدوار الرَّئيسية، التي ستسهمُ بدورِها في توضيحِ المحاور الأساسية للمتن. ولتذكيرِ القارئ، نقول إنها تلك الأبياتُ التي تتحدَّثُ عن نساءِ فلاندرز، اللائي ينتظرن الضَّائعين، مشيرةً ضمن تعبيراتِها إلى توقيتِ ما بعد منتصفِ اللَّيلِ بمحطَّة تشارنغ كروس:
    "هذه محطَّة تشارنغ كروس؛
    انتصفَ اللَّيلُ قبل هُنَيهَةٍ.
    ثمَّة جمعٌ غفير. لا ضوءَ بالرَّدهةِ؛
    ثمَّة جمعٌ غفيرٌ، متَّشحاً بالسَّوادِ،
    بالكادِ يهمسُ بصوتٍ عالٍ.
    لا مِرَاءَ في أنَّ هذه امرأةٌ ميِّتةٌ -
    أمٌّ ميِّتةٌ! ذاتُ وجهٍ ميِّتٍ،
    متَّشحةً إلى أَخمَصِ قدمَيْها بالسَّواد.
    .................
    هذه محطَّة تشارنغ كروس.
    تمامَ السَّاعةِ الواحدة.
    يُرى فوق الكلِّ سحابةٌ ضخمةٌ
    بصيصٌ خافتٌ من الضُّوءِ
    وأعمدةٌ هائلةٌ من الظَّلالِ
    تتهاوى على جمعٍ أسودَ،
    بالكادِ يهمسُ بصوتٍ عالٍ.
    ...............
    هؤلاء نساء فلاندرز
    ينتظرنَ الضَّائعين".

    يُلاحِظُ القارئ أننا أضَفنا أبياتٍ جديدة، ورتقنا آخِرُها بأولِ تلك التي ألقاها مصطفى على مسمعٍ من الرَّاوي، حينما كانا ضيفَيْنِ على محجوب، في أوائلِ عهدِ لقائِهما في تلك القريةِ الوادعةِ عند منحنى النِّيلِ في شمالِ السُّودان. وهدفُنا من ذلك، ليس فقط رسمَ الحدودِ الفاصلةِ للشَّخصياتِ الرَّئيسية، وإنَّما أيضاً تقييمَ أدوارِها في ضوءِ معرفتِها بتلك الأبيات؛ وربَّما استطعنا أيضاً، بوجهٍ من الوجوه، حسمَ الجدلِ الدَّائرِ بين النُّقادِ حول البطلِ الحقيقيِّ لرواية "مَوسِمِ الهجرةِ إلى الشَّمال": هل هو مصطفى سعيد، كما يرى غالبيةُ النُّقاد، أمِ الرَّاوي نفسُه، كما يرى بعضُهم، ومن ضمنِهم الأستاذة منى أميوني، الباحثةُ بالجامعةِ الأمريكية في بيروت، التي قامت بتحريرِ كتابٍ قيِّم عن الطَّيِّب صالح في عام 1985.
    خرجتِ الأبياتُ، أثناء جلسةِ شُربٍ، من أعمقِ تجويفِ ذاكرتِه، حينما "ارتخت عضلاتُ وجهِه، وغاب التَّوترُ في أركانِ فمِه، وأصبحت عيناه حالمتَيْنِ ناعستَيْن"؛ وفي الصَّباحِ التَّالي لتلك الأُمسِيَّة، أنكر مصطفى ما ألقاه من شعرٍ فيها؛ فحينما واجهه الرَّاوي في اليومِ التَّالي أثناء انكبابِه على حفرِ الأرضِ في حقلِه، قال له مصطفى: "لا أدري ماذا قلتُ وماذا فعلتُ في اللَّيلةِ الماضية (..) إذا كنتُ قلتُ شيئاً، فهو كخترفةِ النَّائم، أو هذيانِ المحموم. ليست له قيمة". فهل صحيحٌ فعلاً أن هذا الكلامَ ليس له قيمة، كما زعمَ مصطفى؟

    من المهمِّ بالنِّسبةِ لنا هنا الإجابةُ على هذا السُّؤالِ المركزي، لأننا لا نُريدُ أن نُقيِّمَ على ضوئِها مصطفى سعيد فقط، وإنَّما بقيَّة الشَّخصياتِ الرَّئيسية كذلك. إلَّا أنَّ المهمَّ أيضاً التأكيدُ على أن محاكمةَ الشَّخصياتِ ومعرفةَ أوزانِها يتمُّ في الأساسِ على قاعدةِ النَّص، وليس خارجَه؛ وعَبرَ ما يُمكِنُ تسميتُه بالفعاليَّةِ النَّصِّية، سيتمُّ، في نهايةِ المطافِ، تحديدُ أعيرةِ الشَّخصيات. وما يزيدُ الأمرَ تعقيداً حيالَ هذه الأبيات، هو أنَّنا أمامَ نصٍّ شعريٍّ، داخل نصٍّ روائي؛ أو نصٍّ مهاجرٍ إلى نصٍّ آخر؛ أو اختصاراً، أمامَ نصٍّ داخلِ نص. إلَّا أنَّنا سنجملُهما معاً ضمن ما اقترحنا تسميتَه بالفعاليَّة النَّصيَّة.

    وفقاً للمحاكمةِ النَّصِّية، مشفوعةً بالفعاليَّةِ النَّصِّية، سنقبلُ كلامَ مصطفى سعيد على عِلَّاته، بأنه لم يكن يدري ما قاله (أو أنَّه كذَّب، كسباً للوقتِ، ريثما يُدلي أمامَ الرَّاوي بشَذراتٍ من قصَّتِه). كما لن نقبلَ ما طرحه الرَّاوي في البدءِ بشأنِ احتمالِ فقدانِ الذَّاكرة، كسببٍ وافٍ لنسيانِ مصطفى للأبياتِ في اليومِ التَّالي. كلُّ ما يعرفُه مصطفى سعيد عن هذه الأبياتِ (سواءً كان صادقاً أو كانت هي واحدةٌ أخرى تُضافُ إلى سلَّةِ أكاذيبِه التي ستصادفنا كثيراً في النَّص) هو قدرتُه على إلقائِها في غيرِ ساعةِ صحو: أثناء جلسةِ شُربٍ، أو خلال حلمٍ ليليٍّ، أو أيِّ تسريبٍ آخرَ من تسريباتِ العقلِ اللَّاواعي. نصيَّاً، ترفرفُ معرفة مصطفى بالأبياتِ فوق مستوى الوعي أو تنكتمُ في مكانٍ ما من منطقةِ ما دونِه.

    على خلافِ ذلك، فإن الرَّاوي، بسببٍ من قوَّة ذاكرته التي نصَّبتَه في الأساسِ راوياً للنَّصِّ، وبحُكمِ معرفتِه الأكاديمية بالشِّعرِ الإنجليزيِّ الذي يُبلغُنا النَّصُّ أيضاً بأنه قد حَضَّرَ بشأنِه رسالتَه في الدُّكتوراة، قد تذكَّرَ الأبياتِ بحذافيرِها، وأعادَها علينا مُسجَلَةً في النَّصِّ الرِّوائي؛ ولولاه لما عَلِمنا بمصطفى نفسِه، وقصَّتِه الأثيرة، ناهيكَ عن بضعةِ أبياتٍ ألقى بها مخمورٌ أثناءَ ليلةٍ صيفية. ليس ذلك فحسب، فقد أبلغنا الرَّاوي أيضاً بأنَّه قد وجد تلك الأبياتِ فيما بعدُ بين قصائدَ عن الحربِ العالميةِ الأولى. واللَّافتُ للانتباه، أنه حَرَصَ على الإدلاءِ بهذه المعلومة، قبل عرضِ الأبياتِ نفسِها في ثنايا النَّص؛ وكأنَّه يُريدُ أن يقول بذلك إن هذا هو الزَّمنُ الذي تدورُ فيه أهمُّ أحداثِ الرِّواية، وهو الزَّمنُ الذي يصولُ ويجولُ فيه مصطفى سعيد في فضاءِ البندرِ الكولونيالي، إبَّانِ أفضلِ أوقاتِه، في الهدئةِ ما بين الحربين العالميتين.

    في ضوءِ المعرفةِ بهذه الأبيات، يبدو الرَّاوي متفوِّقاً بمراحلَ من حيث فعاليَّتِه النَّصيَّة، فهو الحافظُ للأبيات، المدوِّنُ لها، والعارضُ لها في ثنايا النَّص؛ ليس ذلك فحسب، بل هو المشيرُ إلى مصدرِها، وربَّما هو العارفُ أيضاً بأهميَّة هذه المعلومة، وإلَّا لما قدَّمها على نصِّ الأبياتِ نفسها. صحيحٌ أن مصطفى سعيد هو الذي ألقاها في الأساس، وهو المنفعلُ بأجوائها، المدركُ لأثرِها العاطفي، وإلَّا لما حفِظَها؛ أو بالأصحِّ، استدخلها واستبطنها ضمن بنيتِه الوجدانية، فصارت مع الوقتِ جزءاً من عقلِه اللاواعي. إلَّا أنَّنا نحتكمُ إلى النَّصِّ، وننظرُ في هذا الاحتكامِ إلى ما أسميناه بالفعاليَّةِ النَّصيَّة؛ وضمن هذه الفعاليَّة، يبرز الرَّاوي كأكثرِ الشَّخصياتِ ثراءً، وأوفرها غنًّى نصِّياً. غير أن هناك شخصيَّةً أخرى لا تقلُّ أهميةً، بل تتفوَّقُ بمراحلَ على ذينكِ الشَّخصيتَيْن، منظوراً لكلٍّ من زاويةِ الفعاليَّةِ النَّصِّيَّة، ومحاكِمينَ لهم جميعاً بمعيارِ الأداءِ النَّصِّي.

    سنتعرَّضُ في حلقةٍ قادمة إلى هذه الشَّخصيَّة المنسيَّة، وسنسعى إلى تنصيبها، عكس كلِّ التَّوقعاتِ، بطلاً حقيقياً، ليس لرواية "موسم الهجرة إلى الشَّمال" فحسب، وإنَّما للمتنِ برُمَّته.

    محمد خلف

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 01-29-2017, 04:09 AM)

                  

02-07-2017, 05:25 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    هذه محطَّة تشارنغ كروس:
    ثمَّة شخصيَّةٌ ثالثة في النَّصِّ الرِّوائي أكثرُ إلماماً بدلالةِ النَّصِّ الشعريِّ المعني

    وعدنا في الحلقةِ السَّابقة بأننا سنكشفُ في هذه المشاركة شَّخصيَّةً منسيَّة، وسنسعى إلى تنصيبِها، عكس كلِّ التَّوقُّعاتِ، بطلاً حقيقياً، ليس لرواية "مَوسِم الهجرة إلى الشَّمال" فحسب، وإنَّما للمتنِ برُمَّته. وبما أن هذه الشَّخصيَّة قد استُلزِمَ إنشاؤها إنشاءً، كما سنوضِّحُ لاحقاً، كضرورةٍ نشأت عن قصورٍ نصِّيٍّ اعترى الشَّخصيَّتين الرَّئيسيتين، بسببِ عدم قدرةِ الأول (وهو مصطفى سعيد) على تجاوزِ حالة انفصامِه الظَّاهري، وعدم قدرةِ الثَّاني (وهو الرَّاوي) على القيامِ بدورِ الرَّتق، في أعقاب اطِّلاعِه بدورِ الوصي، ليس لزوجة مصطفى وولديه فحسب، وإنما لكافَّةِ ميراثِه الفكريِّ والأدبي، إضافةً إلى إصابتِه هو ذاتُه عن طريقِ التَّماسِ بعدوى الانفصام، فإنه يُصبِحُ من الضَّروري، أن نُسلِّط بعضاً من الضَّوء على استخدامِ هذا المفهوم في مجالِ علمِ النَّفسِ أولاً، ثمَّ توظيفِه في مجالِ الأدبِ، ثانياً وأخيراً.

    ففي علمِ النَّفسِ الفرويدي، ليس بالضَّرورة أن يعني انفصامُ الشَّخصيَّة وجودَ صَدعٍ في الشَّخصيَّة الواحدة، وإنِ اتَّخذَ المرضُ النَّفسيُّ عند البعضِ منحًى يظهرُ خارجياً في شكلِ هلوسةٍ أو استيهاماتٍ مُفرِطةً في الغرابة، أو عند البعضِ الآخرِ منحًى يرتدُّ داخلياً في شكلِ توحُّدٍ أو انطواءٍ حاد. وفي علمِ النَّفسِ الوجودي، هناك محاولةٌ رائدة عند عالمِ النَّفسِ الإسكتلندي آر دي لينغ، لرأبِ الصَّدعِ المُتوهَم لدى "الذَّاتِ المُنقسِمة" (وهو صاحبُ كتابٍ شهير بنفسِ الاسم)، بإنشاءٍ نظريٍّ (مشفوعٍ بخبراتٍ إكلينيكية) لشخصيَّةٍ شمولية قادرة على استيعاب المشاعر الأنطولوجية الفعلية المُشتَّتة في بوتقةٍ واحدة.

    وفي مجالِ الأدب (وخصوصاً الأعمال الدَّرامية)، يتمُّ استخدامُ المونولوج للتَّعبير عن الهواجس، وهموم النَّفس الدَّاخلية، وما يتبعُ ذلك من حيرةٍ وتردُّدٍ، كما في مسرحية "هاملت" الشَّهيرة، للكاتب المسرحيِّ الأشهر، وليام شكسبير. أمَّا الرِّوائي السُّوداني الأشهر، فإنه يستخدمُ نَسَقَاً من الصُّورِ والأصواتِ الثُّنائية للتَّعبيرِ عن حالتَيْ التَّوازن والتَّأرجُح بين الاستيهامِ الصَّارخ والانطواءِ الحاد؛ ممَّا يستدعي إنشاءَ كيانٍ ثالثٍ في النَّصِّ ذاتِه، لرأبِ الانقسام القائم بين الشَّخصيَّتَيْن. وسنحاول أن نُثبِتَ أيضاً بأنَّ هذا الرَّأبَ لم يكن ينطوي فقط على التئامٍ بسيط لجزئيْن منفصلَيْن، وإنما أيضاً على نَسَقٍ تقييمي، تُصبِحُ فيه قصيدة "أنتويرب" (التي جاء منها مقطعُ "هذه محطَّة تشارنغ كروس") مِعياراً لتحديدِ أوزانِ الشَّخصيَّات.

    لن نتطرَّقَ في هذه المشاركة إلى أنساقِ الصُّورِ الثُّنائيةِ العديدة التي حَفِلَ بها نصُّ "مَوسِم الهجرة إلى الشَّمال" (سنتركُ ذلك إلى جمهرةِ المساهمين، وربَّما تناولنا بعضاً منها، إنِ انبثقَ سياقٌ مناسب)؛ وعِوضاً عن ذلك، سنُركِّزُ على الصَّوتَيْن الأساسيَيْن، اللَّذَيْن يُعبِّرانِ عن الشَّخصيَّتَيْن المركزيَّتَيْن، وهما مصطفى سعيد عثمان والرَّاوي، الذي لم يخترِ الكاتبُ له اسماً ضمن النَّص المنفرد (وربَّما تعرَّفنا على اسمه واسم القرية التي تدورُ فيها أحداثُ الرِّواية من خلال تبييننا لاحقاً لملامح المتنِ الرِّوائي المفتوح)؛ وبما أنَّ كلاهما يستخدمُ ضمير المتكلِّم المُفرد في سردِ الأحداث ويتبادلانِ المواقعَ بالتَّساوي في توجيهِ النَّصِّ، وتوزيعِ أقوالِ بقيَّةِ الشَّخصيَّاتِ الثَّانوية، فإن المكانَ المُتبقي للشَّخصيَّة الثَّالثة التي نعتزمُ إنشاءها هو تسلُّلها بين طيَّاتِ حديثِ ذينكِ الشَّخصيَّتَيْن.

    لم يتركنا الكاتبُ في ظلامٍ دامس بإزاءِ وجودِه شخصيَّةً قائمةَ الذَّاتِ داخل النَّص، وإنَّما نثرَ لنا قناديلَ تُنيرُ الطَّريق، وتُشيرُ لنا بلسانٍ ذرِب بأنَّه هو الذي يتكلَّمُ في هذا الموقع أو الذي يتوارى في موقعٍ آخر، أثناء تدفُّقِ السَّردِ العادي أو عند انكشافِ أهمِّ لحظاتِ مساهمتِه في تكوينِ النَّص. ومن بين تلك القناديل، ما يُنصَبُ على مسافةٍ من حدثٍ رئيسي أو قبل وقوعِه؛ ومنها، ما يستقِرُّ في الخاطر، وما لم يُقل اعتباراً لآخَرِين، وما انقطع بغتةً واستؤنفَ توَّاً في الذِّهن؛ وما جاء أخيراً، في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسعُها مجالُ النَّص. وفي كلِّ تلك المواقع، يجيءُ صوتُ الكاتب واضحاً، ولا يترك لبساً بأنَّه صاحبُ القول. إلَّا أننا سنتابعُ أولاً ذينكما الصَّوتَيْن الأساسيَيْن، لنرى كيف حاولا معالجة الانقسام بداخلِهما، وكيف أنَّهما فشلا في نهاية المطاف، مما استدعى انتصابَ الكاتبِ داخلَ نصِّه شخصيَّةً قائمةَ الذَّات (بصرفِ النَّظرِ عن دفعِه المُحِقِّ في العديدِ من المنابر ضد دعواتٍ غير مستنيرةٍ بالنَّصِّ ذاتِه، ومُحتَكِمَةً إلى خارجِه، لوجودِ قدرٍ مدهشٍ من التّشابهاتِ أو التَّماثُلاتِ السَّطحية، بأنَّه صورةٌ طبق الأصل من إحدى شخصيَّاتِه الرِّوائية).

    يمكن تلخيصُ الانقسام الظَّاهري الذي يعتري شخصيَّة مصطفى سعيد في قوله: "كنتُ أعيشُ مع نظريات كينز (الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز) وتوني (المؤرِّخ الاقتصادي البريطاني ريتشارد هنري توني) بالنَّهار، وباللَّيل أواصل الحربَ بالقوسِ والسَّيفِ والرُّمحِ والنَّشَّاب". كما يمكن تفسيرُ استقرارِه في قريةٍ خاملةِ الذِّكرِ عند منحنى النِّيلِ في شمالِ السُّودان، باعتباره محاولةً يائسة من جانبِه لرتقِ هذا الفتقِ الأساسيِّ في شخصيَّتِه، انتهت بغتةً بظهورِ الرَّاوي (أناهُ الأخرى، التي تتنازع معه مِنصَّة الحكي وتتبادلُ معه المواقع) على مسرحِ القرية، ممَّا عجَّل برحيلِه غرقاً في شمالٍ كان يُريدُ له أولَ الأمرِ أن يكون قصيَّاً، "في ليلةٍ جليديةٍ عاصفة، تحت سماءٍ لا نجومَ لها، بين قومٍ لا يعنيهم أمره".
    أمَّا غرفته السِّريَّة، "الغرفة المستطيلة من الطُّوب الأحمر" التي بُنيت على الطَّرازِ الإنجليزي في قريةٍ بيوتها من الطِّين والطُّوب الأخضر، فقد كانت امتداداً خارجياً لدواخله، قابلاً للبقاءِ والتَّوريثِ الفوريِّ لأناه الثَّانية، التي نصَّبها قبل رحيلِه وصيَّاً على زوجته، حُسنة بنت محمود، وولديه محمود وسعيد. ولكن سرعان ما تبيَّن للرَّاوي أمران: أولُّهما، أنَّ مصطفى سعيد قد نصَبَ له فخَّاً بتأجيجِ حُبَّ الاستطلاع لديه، حتَّى يُواصلَ من بعدِه المهمَّة التي فشل في إكمالها، وهي رتقُ ماضيه بالبندر الكولونيالي بحاضرِه القريب بالقريةِ التي أحبَّها وأراد لولدَيْه أن ينشآ بها من غيرِ حاجةٍ إلى تجشُّمِ وعثاءِ السَّفر؛ وثانيهما، أنَّه بصورةٍ ما قد أُصيبَ -وهو الموظَّفُ "الذي لا يقدِّم ولا يؤخِّر"، والذي قضى من قبلُ زمناً في البحثِ عن شاعرٍ مغمور- بعدوى أناه الأخرى، أو ’غريمِه‘ على حدِّ تعبيره، التي تجلَّت في شكلِ حُبِّه لحُسنة، وتردُّدِه ’الهاملِتي‘ "فلبثتُ واقفاً هكذا زمناً في حالةٍ من الإقدامِ والإحجام"، وتشكُّكِه في وجودِ مصطفى سعيد، "لم يحدث إطلاقاً .. إنه طيفٌ أو حلمٌ أو كابوسٌ ألمَّ بأهلِ القريةِ تلك"؛ وفي وجودِه نفسِه: "قال إنه أكذوبة؛ فهل أنا أيضاً أُكذوبة؟". إلى أن قادته قدماه، في نهاية المطافِ، إلى النَّهر؛ فتجاذبه فيه تيارانِ متعادلانِ: أحدُهما يدفعه إلى الأمام صوب الشَّمال، والآخرُ يسحبه نحو القاع؛ وفي اللَّحظةِ التي بدأ الحلُّ وشيكاً بالاستجابة إلى نداء القاع، صاح الرَّاوي في نهايةٍ مفتوحةٍ للنَّصِّ الرِّوائي: "النَّجدة. النَّجدة".

    كشفنا في هذه الحلقة، عبر ما وصفناه بقناديلِ الطَّريق، الخطوطَ العريضة لشخصيَّةِ الكاتب المُراد إنشاؤها داخل النَّص، وسنُجسِّدُ في الحلقةِ القادمة تلك الشَّخصيَّة المنسيَّة من خلالِ أمثلةٍ تحدِّد -بشكلٍ مركَّز- النُّورَ السَّاطعَ من تلك القناديل؛ فما نُريدُ عمله، يا عزيزي الصَّادق، ليس مجرد توضيحِ رؤى الكاتبِ داخل النَّص، وإنَّما تنصيبُه شخصيَّةً قائمةَ الذَّات، تماماً مثلما أن الرَّاوي في "موسم الهجرة" هو أيضاً شخصيَّةٌ قائمةُ الذاتِ، إلى جانبِ وظيفتِه السَّرديَّةِ المعهودة.


    محمد خلف




                  

02-27-2017, 08:23 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)



    هذه محطَّة تشارنغ كروس:
    ثمَّة ضَوءٌ خافتٌ في الرَّدهةِ وقناديلُ منثورةً على طولِ الطَّريق
    -1-

    كشفنا في الحلقةِ السَّابقة، عبر ما وصفناه بقناديلِ الطَّريق، الخطوطَ العريضة لشخصيَّةِ الكاتب المُراد إنشاؤها داخل النَّص، وقلنا إننا سنُجسِّدُ في هذه الحلقةِ تلك الشَّخصيَّة المنسيَّة من خلالِ أمثلةٍ تُحدِّدُ -بشكلٍ مُركَّز- النُّورَ السَّاطعَ من تلك القناديل؛ فهدفُنا من ذلك، ليس مجرد توضيحِ رؤى الكاتبِ داخل النَّص، وإنَّما تنصيبُه شخصيَّةً قائمةَ الذَّات، تماماً مثلما أن الرَّاوي في "موسم الهجرة" هو أيضاً شخصيَّةٌ قائمةُ الذاتِ، إلى جانبِ وظيفتِه السَّرديَّةِ المعهودة.

    ولتذكيرِ القارئ بتلك القناديل، فإننا قلنا إن هناك منها، أولاً: ما يُنصَبُ على مسافةٍ من حدثٍ رئيسي أو قبل وقوعِه؛ ومنها، ثانياً: ما يستقِرُّ في الخاطر، وما لم يُقلِ اعتباراً لآخَرِين، وما انقطعَ بغتةً واستؤنفَ توَّاً في الذِّهن؛ ومنها، ثالثاً: ما جاء في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسعُها مجالُ النَّص. وفي كلِّ تلك المواقع الثَّلاثة، يجيءُ صوتُ الكاتبِ واضحاً، ولا يتركُ لنا لبساً، أو يُلهِنا بتشويشٍ، أنَّه صاحبُ القول.

    وإذا كانت تلك القناديل، التي سنتعرَّض لها بالتَّفصيلِ في هذه الحلقة، قد غطَّت جانبَ المحتوى، فإن هناك ضوءً أشدَّ سطوعاً قد لَمِسَ جانبَ الشَّكل؛ وهو هذا المنحى الذي سنتعرَّضُ له أولاً، قبل فلفلةِ الحِزَمِ الضَّوئية القادمة من تلك القناديل. ففي الأسطرِ الأولى من الفصلِ الأول، الذي اعتلى فيه الرَّاوي مِنصَّة القول، جاء ما يلي:

    الجُملة الأولى:
    "عُدتُ إلى أهلي يا سادتي بعد غيبةٍ طويلة، سبعةُ أعوامٍ على وجهِ التَّحديد، كنتُ خلالها أتعلَّمُ في أوروبا".
    الجملة الثَّانية:
    "تعلَّمتُ الكثير، وغابَ عنٍّي الكثير، لكن تلك قصَّة أخرى".
    الجملة الثَّالثة:
    "المهمُّ أنني عُدتُ وبي شوقٌ عظيم إلى أهلي في تلك القريةِ الصَّغيرة عند منحنى النِّيل".

    يُلاحَظُ أن بين الجملةِ الأولى التي تبدأ بعبارة "عُدتُ إلى أهلي" والجملة الثَّالثة التي تبدأ بعبارة "المهمُّ أنني عُدتُ"، تُوجدُ جملةٌ متوازِنة، تتحدَّثُ عن شَّيءٍ إيجابي ("تعلَّمتُ الكثير")، وتُقابلُه بضدِّه السَّلبي ("غاب عنِّي الكثير")؛ ثمَّ تستدركُ بأن "تلك قصَّة أخرى"، ليعودَ الرَّاوي لاستئنافِ قصَّتِه الأساسية.
    وفي الأسطرِ الأولى من الفصلِ الثَّاني، الذي اعتلى فيه مصطفى سعيد مِنصَّة القول، بعد أن انتهى الفصلُ الأول بعلامةِ "نقطتَيْنِ رأسيتَيْن" (:)، جاء ما يلي:

    الجُملة الأولى:
    "إنَّها قصَّةٌ طويلة، لكنني لن أقول لكَ كلَّ شيء".
    الجملة الثَّانية:
    "وبعضُ التَّفاصيلِ لن تهمَّكَ كثيراً، وبعضُها ..
    الجملة الثَّالثة:
    "المهمُّ أنَّني كما ترى من الخُرطوم".

    ويُلاحَظُ أيضاً أن بين الجملةِ الأولى التي تبدأ بعبارة "إنَّها قصَّةٌ طويلة" والجملةِ الثَّالثة التي تبدأ هي أيضاً، كما في الفصلِ الأول، بعبارة "المهمُّ أنَّني"، تُوجدُ كذلك جملةٌ متوازِنة، تتحدَّثُ عن شيءٍ سَلبيٍّ ("وبعضُ التَّفاصيلِ لن تهمَّكَ كثيراً")، وتُقابلُه بضدِّه الإيجابيِّ المفتوح، الذي تمَّ التَّعبيرُ عنه بعبارةٍ غير مكتملة ("وبعضُها .. "؛ التي تنتهي بنقطتَيْنِ أفقيتَيْن)، إلَّا أنَّها مفهومة، وتقديرُها متروكٌ للرَّاوي، الذي ستقعُ عليه لاحقاً مهمَّة الاختيار. فهذه الجملة الثَّانية المتوازِنة، الموجودة في كلا الفصلين، والقائمة بين البَدءِ الفعليِّ للقصِّ واستئنافِه بما هو "المهمُّ" فيه، بَدءاً من الجملة الثَّالثة في كليهما، هي المكانُ الإستراتيجي –من حيثُ الشَّكل- الذي تختبئُ فيه شخصيَّةُ الكاتب، التي ستفاجئنا لاحقاً ضمن محتوى القصِّ بإحداثِ التَّوازنِ تارةً، وتعليقِ الحُكمِ تارةً أخرى، ورؤيةِ الأشياءِ من كلتا طرفيها في كلٍّ؛ فتلك باختصارٍ شديد هي فلسفةُ الكاتب، التي جاء التَّعبيرُ عنها بشكلٍ سردي، مثلما جاء التَّعبيرُ عنها ضمن كتاباتِ الطَّيِّب صالح النَّثرية الأخرى، إضافةً إلى مقابلاتِه المطبوعة، والمسموعة، والمرئية؛ إلَّا أننا سنُركِّزُ الآنَ على المحتوى السَّردي، وفقاً للقناديلِ التي تحدَّثنا عنها في الفقرةِ الأولى من هذه الحلقة.

    أولاً: ما يُنصَبُ على مسافةٍ من حدثٍ رئيسي أو قبل وقوعِه
    قبل أن يُقابِلَ مصطفى سعيد السَّيِّدة المسكينة إيزابيلا سيمور أولَ مرَّةٍ في ركنِ الخطباء في هايد بارك، قال للرَّاوي (الذي نسمعُ من خلالِه قصَّتَه): "وقفتُ عن بُعدٍ أستمعُ إلى خطيبٍ من جزرِ الهندِ الغربية يتحدَّثُ عن مشكلةِ الملوَّنين". وقد تُوحي عبارة "الوقوف عن بُعد" نوعاً من الإيحاءِ بأن المشكلة لا تعنيه في الأصل، إلا أنَّنا نعلمُ بأن الأفريفيَّ الأسود الذي جاء إلى الحديقةِ الشَّهيرة، بحثاً عن "صيدٍ عظيم"، لم يكن بمنأًى عن مشكلةِ الملَّونين التي تُصادفُه في كلِّ منحًّى من مناحي حياته؛ فرغم إيمانِ الفتاةِ القروية شيلا غرينوود بأنه "سيجيءُ يومٌ تنعدمُ فيه الفروق"، إلَّا أنَّها تقولُ له "إن أُمِّي ستجنُّ وأبي سيقتلني إذا عَلِم أنني أُحبُّ رجلاً أسود"؛ كما يقولُ مصطفى عن المحلِّفينَ في قاعةِ المحكمة "لو أنني طلبتُ استئجارَ غرفةٍ في بيتِ أحدِهم فأغلبُ الظَّنِّ أنه سيرفض، وإذا جاءتِ ابنةُ أحدِهم تقولُ له إنَّني سأتزوَّجُ هذا الأفريقي، فيحسُّ حتماً بأن العالمَ ينهارُ تحت رجليه". لذلك، فإن العبارة ليس لها من معنًى مطابقٍ لواقعِ الحال، إلَّا إذا ربطناها بشخصيَّةِ الكاتب التي تتخفَّى في طيَّاتِ التَّعبير وبين شُقوقِ الكلام.

    فخلافاً لشخصيَّة مصطفى سعيد المُصادِمة، خصوصاً إبَّان إقامته الطَّويلة بالبندرِ الكولونيالي، نجدُ أنَّ شخصيَّة الكاتب تقفُ دائماً بمنأًى عن اتِّخاذِ موقفٍ يُوحي بانحيازِها لجانبٍ من جوانبِ الصِّراع؛ كما نجدُها مُهتمَّةً أبداً بالتَّريُّثِ وإقامةِ التَّوازن -غيرِ المرئيِّ من منظورِ الأشخاصِ الذين يرَونَ الأشياءَ بعينٍ واحدة- تماماً مثلما جاء في الجملتينِ الثَّانيتين، في ذينكِ الفصلين؛ وهو السُّلوكُ الذي يتعارضُ تعارضاً تامَّاً مع ما جاء في تصوُّرِ مصطفى، الذي تمَّ التَّعبيرُ عنه في شكلِ إهداءٍ في كُرَّاسةٍ احتوت على صفحاتٍ من "سيرةِ حياته"، التي نقرأُ فيها ما يلي: "إلى الذين يرَونَ بعينٍ واحدة ويتكلَّمونَ بلسانٍ واحد ويرَونَ الأشياءَ إمَّا سوداءَ أو بيضاء، إمَّا شرقيةً أو غربية". لذلك، فإننا نُرجِّحُ دائماً وجودَ شخصيَّةِ الكاتب مُختبِئةً في أقوالِ البطلين، إذا لم يُرجِّح حديثُهما أيَّاً من كفَّتَي الميزان. وعلى سبيل المثال، قد دُهِشَ المستقبلون، عندما أجابَ الرَّاوي على أسئلتهم عن الأوروبيينَ قائلاً هم "إذا استثنينا فوارقَ ضئيلة، مثلُنا تماماً، يتزوَّجون ويربُّون أولادَهم حسب التَّقاليدِ والأصول، ولهم أخلاقٌ حسنة، وهم عموماً قومٌ طيِّبون".
    فهذا الرَّأيُ المتوازِن، الذي دفع الكاتبَ نفسَه إلى تحديدِ موقفٍ حياتيٍّ من قضيةِ الصِّراعِ اللَّونِّيِّ والعرقي، يقفُ (بالنَّظرِ إلى موقفِ الشَّخصِ المُستعمَرِ) على مسافةٍ من طرحِ المفكِّر المارتنيكي، فرانز فانون، الذي يضعُ أولويةً قصوى لقضيَّةِ التَّمييز اللَّوني، التي ترتبطُ بالهوية الكولونيالية، أو الصِّراع بين المُستعمِرِ والمُستعمَر، ويرى أنها سابقةٌ لقضيَّةِ الصِّراع الطَّبقي، ولا يُمكِنُ تخفيضُها إليه أو اختزالُها فيه؛ كما يقفُ (بالنَّظرِ إلى رؤيةِ المُستعمِرِ) على مسافةٍ من تمجيدِ رسالةِ الرَّجلِ الأبيض أو إعادةِ تدويرِ استيهاماتِه الاستشراقية. بل يُمكِنُ القولُ بأن شخصيَّة مصطفى سعيد الرَّئيسية قد تمَّ بناؤها –أصلاً- وفقاً لنَسَقٍ قائمٍ على الاشتطاطِ في السُّلوك والمبالغةِ في تقديرِ المواقف، حتَّى يتسنَّى للكاتب إبراز الخللِ والتَّلفيقِ في عملية تكوين الأفكار والجنوحِ إلى التَّطرُّفِ في الممارسة، وهما العيبانِ الأساسيانِ اللَّذانِ يكتنفانِ طرفي المعادلة في حلبةِ الصِّراعِ الدُّولي (الذي يتمُّ التَّعبيرُ عنه في النَّصِّ الرِّوائيِّ، جغرافياً واقتصادياً، بجنوب-شمال؛ وتاريخياً وحضارياً، بشرق-غرب؛ وعرقياً ولونياً، بأسود-أبيض؛ وسياسياً وعنصرياً، بأفريقي-أوروبي).
    وما يُلفت الانتباه في بناء شخصيَّة مصطفى سعيد هو أنَّه إضافةً إلى نبوغها المبكِّر، وجموحها في التَّفكير، وتفحُّشها في القولِ والفعل (إبَّان إقامتها الطَّويلة في البندرِ الكولونيالي)، ومفارقتها لمراعاةِ التقيُّد بالأطرِ الأخلاقيةِ المعروفة، قد شُحِنت بطاقةٍ شعرية عالية، نُثِرت في ثنايا حديثِه، ومتونِ دفاترِه، وبعضِ "قصاصاتٍ وشذورٍ متفرِّقة"، وُجِدت بين محتوياتِ غرفتِه. ولا نعني بذلك محاولتَه كتابةَ الشِّعرِ أو فشلَه في إكمالِ بيتٍ من قصيدة (فذاك ميدانُ الرَّاوي الذي تخصَّصَ في الشِّعر، واتَّخذه وسيلةً لكسبِ العيش، بعد أن أنجز بصددِه رسالةَ دكتوراة، تعقَّب فيه أثرَ شاعرٍ إنجليزي مغمور)، وإنما نقصد به ذلك الزَّخمَ النَّغمي الذي يُحيطُ بعبارتِه، فيُحرِّرُها من ربقةِ العاديِّ، ويجنحُ بها هارباً إلى مشارفِ لحظةِ الدَّهشةِ، وانبثاقِ وقتِ الجِدَّةِ؛ متألِّقاً بتفتُّقِ أكمامِ الحروفِ، وانبلاجِ نورِ الكلم.
    أمَّا الكاتبُ، فقد أفرد لنا مختاراتٍ مما يروقُ له من أشعارٍ كلاسيكية وشعبية، من غيرِ مراعاةٍ أحياناً إلى أهميةِ سياقِ ورودِها في النَّص؛ ونستثني، من ذلكَ، شاعراً واحداً وقصيدةً واحدةً مترجمةً يتيمة. فالشاعرُ المُستثنى من هذا العيب النَّصي هو أبو نواس، إذ إن اتِّفاقَ الشَّخصيتَيْن الرَّئيسيتَيْن على أهميةِ شعرِه وتنبيهَهُما إلى جماليَّتِه، يُعدُّ علامةً أخرى، على مستوى الشَّكل، لانبثاقِ شخصيَّةِ الكاتبِ في النَّص. فمن جانبِه، يُشيرُ الرَّاوي، قبيل إقامتِهم "في قلبِ الصحراءِ فرحاً للَّاشيء"، إلى أبي نواس، ويقول: "هذه أرضُ اليأسِ والشِّعرِ ولا أحدَ يُغنِّي"؛ وفي عبارةٍ أخرى تُذكِّرُنا بأسلوب مصطفى سعيد، يقول الرَّاوي في نفسِ اللَّيلة: "هذه أرضُ الشِّعرِ والممكن وابنتي اسمها آمال". وفي الجانبِ الأخر، لا يكتفي مصطفى سعيد بقراءةِ عددٍ كبيرٍ من أبياتِ شعرٍ لإبي نواس، حتَّى لتكادُ تُخِلُّ بتوازنِ النَّصِّ الرِّوائي، بل يستخدِمُه في محاضرةٍ ألقاها على محفلٍ استشراقي للتَّدليلِ على "أن أبا نواس كان متصوِّفاً، وأنه جعل من الخمرِ رمزاً حمَّله جميع أشواقه الرُّوحية". وإذا كان مصطفى قد وصف كلامَه بأنه "كلامٌ مُلفَّق لا أساسَ له من الصِّحَّة"، فإن الرَّاوي قد وصف ذلك الحفلَ في الصَّحراءِ بأنه "عرسٌ بلا معنًى، مجردُ عملٍ يائس نبع ارتجالاً كالأعاصيرِ التي تنبعُ في الصَّحراءِ ثمَّ تموت". وفي كلا الوصفَيْنِ الانتقاديَيْن، تشرئبُّ شخصيَّة الكاتب القادرة على نقدِ المكتوب، والتي يجمعُها أبو نواسٍ بالشخصيَّتَيْن الرئيسيتَيْن الأُخريَيْن عبر الاتِّفاقِ على قوَّة شاعريته.

    وقد استثنينا أيضاً قصيدة "أنتويرب" المترجمة، التي استُخدِمَ مقطعٌ من قسمِها السَّادس، ليس للإشارةِ فقط إلى زمنِ وقوعِ أحداثِ الرِّواية، وهي فترةُ ما بين الحربين، وإنما للنَّظرِ إليها أيضاً كأساسٍ لتوزيعِ أنصبةِ المعلومات، وتقييمِ الشَّخصياتِ، وفقاً لمقدارِ المعرفة بالقصيدة، واستكناهِ دلالاتِها العميقة. ووفقاً لهذا المعيار، لا يُمكِنُ لنا الجزمُ حتَّى الآن بما قدَّمناه من دلائلَ نصيَّة بأن شخصيَّة الكاتب هي أهمُّ الشَّخصيات؛ وربَّما إذا تسنَّى لنا لاحقاً تقديمُ مزيدٍ من الدَّلائل، أن نخلُصَ إلى الزَّعمِ بأن شخصيَّة الكاتب أقدرُ من غيرِها على تقييمِ دلالاتِ القصيدة؛ وعندها فقط، سنلجأُ إلى الكاتبِ نفسِه، عبر كتاباتِه الأخرى، للتَّدليلِ على صِحَّة هذا الزَّعم.

    سنُكمِلُ هذه الحلقة بمشاركةٍ أخرى تتعرَّض لبقية القناديل؛ ومنها، ما يستقِرُّ في الخاطر، وما لم يُقلِ اعتباراً لآخَرِين، وما انقطعَ بغتةً واستؤنفَ توَّاً في الذِّهن؛ وما جاء في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسعُها مجالُ النَّص.



    محمد خلف

                  

03-15-2017, 09:41 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    هذه محطَّة تشارنغ كروس:
    ثمَّة ضَوءٌ خافتٌ في الرَّدهةِ وقناديلُ منثورةً على طولِ الطَّريق
    -2-

    قبل المُضي قُدُماً في صياغةِ فقراتِ هذه الحلقةِ الخاصَّة باستكمالِ إنشاءِ شخصيَّة الكاتب من خلال تتبُّعِ خيوطِ الضَّوء الصَّادرة من قناديلِ الطَّريق، نودُّ أن نُذَكِّرَ القارئ بالمحاورِ الرَّئيسية الثَّلاثة لمجملِ هذه المشاركاتِ حول كتاباتِ الطَّيِّب صالح؛ وهي، كما يُدرِكُ المتابعون ذوو الذَّاكرةِ النَّشِطة: أولاً، محورُ البندرِ الكولونيالي، ويُمثِّله خيرَ تمثيلٍ شخصيَّة مصطفى سعيد، رغم وجودِ الرَّاوي لسنينَ عدداً في نفسِ المكان؛ وثانياً، محورُ الوطنِ الأم، ويُمثِّله شخصيَّة الرَّاوي، رغم وجودِ شخصياتٍ أخرى تُضارِعُه، وربَّما تُصارِعُه أيضاً - مجازياً وحرفياً - مثل شخصيَّة محجوب؛ وثالثاً، محور العُمق الحضاري، الذي يُمثِّله شخصيَّة الكاتب، التي نحاول ضمن هذه المشاركاتِ الأخيرة أن نُنشئها إنشاءً داخل النَّص، حتَّى يتسنَّى لنا بسطُ الحيثياتِ الأساسية المتعلِّقة بتلك المحاور.

    بمعنًى آخر، إننا لم نبدأ بعدُ في الدُّخول في صُلبِ الموضوع، ولم نُفلِح حتَّى الآن في الاقترابِ الحميمِ من المحاور الثَّلاثة، على الرَّغم ممَّا نثرناه من معلومات، وما أبديناه من ملاحظات، وما بنيناه من خططٍ أوليَّةٍ بشأنِ إستراتيجيَّةِ القراءة وبدءِ التَّحليل. وإنْ قالَ قائلٌ أو سألَ سائلٌ لماذا لا نختصر الطَّريق، ونذهب إلى الكاتب مباشرةً، بدلاً عن التَّكهُّن بوجودِه داخل النَّص، فأفكارُه منثورةٌ في أكثرَ من نوعٍ أدبي؛ فهناك الأعمالُ النَّثرية، والبرامجُ الإذاعية والتِّلفزيونية، والمقابلاتُ العديدة في الصُّحف والمجلَّات؛ هذا بالطَّبع إلى جانبِ أعمالِه السَّردية الشَّهيرة، التي تشمل الرِّواية (مثل "موسم الهجرة إلى الشَّمال")، والقصَّة الطَّويلة (مثل "دومة ود حامد")، والقصَّة القصيرة (مثل "نخلة على الجدول")، والمقدِّمات الأكثر قِصَرَاً (مثل "خطوة إلى الأمام" أو "لكَ حتَّى المَمَات").

    نُجيبُ على هذا السَّائلِ الافتراضيِّ بالقول: بالطَّبع، من الممكن أن نذهبَ مباشرةً إلى الكاتبِ نفسِه، فنُنازعُه القول؛ ونقعدَ له كلَّ مرصد، فنُمسِكُه من لسانِه أو يدِه التي تُوجِعُه، ونتتبَّعَ خُطواتِه، ونتصيَّدَ هفواتِه؛ إلَّا أنَّ هذا، بعبارةِ معاوية محمَّد نور، لا يؤدِّي. بل إنَّ الشَّكلَ الأثيرَ الذي اختاره الكاتبُ منذ وقتٍ مبكِّرٍ للتَّعبيرِ عن أفكارِه، هو الجهةُ التي يكونُ الرُّجوعُ إليها "أنورَ وأبهر"، بعبارةِ الجَرجاني المُنيرة. ومن أجلِ هذا، سنُحاولُ أولاً أن نُنشئَ شخصيَّة الكاتب داخل النَّص، للتَّعرُّفِ على آرائه الفكرية العميقة من خلال وسيطٍ سردي، وعبر ما يجيءُ على ألسِنةِ شخصيَّاتٍ رئيسية، من ضمنها شخصيَّة الكاتب الواقعة قيد الإنشاء؛ ثم يُمكنُ لنا، من بعدُ، أن نرجعَ للكاتبِ الواقعيِّ نفسِه، للتيقُّنِ من صحَّة ما نزعمُ به من أقوالٍ معقولة أو آراءَ تتبدَّى لنا وجاهتُها ضمن هذه المشاركات المُخصَّصة لاستكشافِ عالم الطَّيب صالح من خلالِ محاورَ رئيسيىةٍ ثلاثة.


    ثانياً: ما يستقِرُّ في الخاطر، وما لم يُقلِ اعتباراً لآخَرِين، وما انقطعَ بغتةً واستؤنفَ توَّاً في الذِّهن
    (كان القنديلُ الأول الذي تعرَّضنا لقبسٍ من نورِه في المُشاركةِ السَّابقة، هو: ما يُنصَبُ على مسافةٍ من حدثٍ رئيسي أو قبل وقوعِه)
    يُتيحُ لنا الضَّوءُ السَّاطعُ من هذا القنديل أن نتعرَّضَ أيضاً لشخصيَّة محجوب، الذي أنشأ الكاتبُ بينها وبين شخصيَّة الرَّاوي توأمةً، مثلما أنشأها بين الأخيرِ ومصطفى سعيد، حتَّى لكأنَّ الثَّلاثةَ يُشكِّلونَ فيما بينهم مجموعةً مكوَّنةً من ثلاثةِ توائم، مع الفارقِ الجوهريِّ في عملية بناء وتكوُّنِ الشَّخصيَّة الرِّوائية لدى ثلاثتهم؛ فإذا أخذنا الرَّاوي كأساسٍ للمقارنة، فإن شخصيَّة مصطفى سعيد تُمثِّلُ، في بعضٍ من جوانبها الإيجابية، توقَ الرَّاوي الرُّوحي، كما تُمثِّلُ في ذاتِ الوقتِ انعكاساً لفشلِه الفكريَّ والعاطفي، رغم نجاحِه الأكاديمي، الذي يتمُّ التَّأكيدُ عليه بـِ"انتصاره" في نَيلِ شهادة الدُّكتوراة؛ وهي نفسُ الشَّهادة التي تتراءى للرَّاوي في بعضِ حالاتِ ضعفِه المعنويِّ رمزاً لخيبته، خصوصاً إذا ما قورن ذلك بالنَّجاح الاجتماعي والسِّياسي الذي لقيه محجوبٌ في مجتمعِ القرية، وفي البلدِ برُمَّتِه، من خلالِ مشاركتِه الفاعلة في الأحزابِ السِّياسية، والجمعياتِ التَّعاونية (التي توطَّدت من خلالها في المَقامِ الأوَّلِ علاقتُه بمصطفى سعيد)، والمناسباتِ الاجتماعيةِ الرَّئيسية (زواج - طلاق- سماية – ختان – كرامة – غسل ميِّت – دفن جنازة – إقامة مأتم – إكرام ضيف – استقبال وفد – أو استضافة عابر سبيل).

    لو لم يواصلِ الرَّاوي تعليمَه، لصارَ مثل محجوبٍ تماماً؛ ولو لم يخُض مصطفى سعيد معاركَه الكيشوتية (نسبةً إلى دون كيخوتة دي لا مانتشا في رواية سيرفانتيس، الذي اشتُهر باستخدامِ مَلَكَةِ الخيال لتحويلِ الواقع المُحيط به إلى استيهاماتٍ مُقنِعةٍ لِمَن حولِه) لرَجَعَ إلى الوطنِ مثل الرَّاوي، ولأصبحَ موظَّفاً "لا يقدِّم ولا يؤخِّر". إلَّا أن محور البندر الكولونيالي، مع ذلك، لا يُمكِنُ له أن يعملَ داخل الرِّواية من غير التَّفاعل الضَّروري بين شخصيَّتَيْ الرَّاوي ومصطفى سعيد؛ كما لا يُمكِنُ لمحورِ الوطنِ الأمِّ أن يكتسبَ قيمةً من غير تفاعلِ هاتين الشَّخصيتين مع محجوب؛ أمَّا محور العُمق الحضاري، فلا سبيلَ إلى إقامتِه في الأساس من غيرِ إنشاءِ شخصيَّة الكاتب، التي تتبدَّى من خلال كلِّ تلك الشَّخصيَّات، والتي نستبصرُ من خلالها أيضاً رؤية الكاتب ذاتِه، عبر بعضِ المواقف الفكرية المُعلنة أو المُواربة، حسب كلِّ حالةٍ على حِدَة؛ وهو ما سيتمُّ التَّنبيه عليه في حينه.

    للرَّاوي – كما لمصطفى سعيد – تقديرٌ عميق لمحجوب، صديقِ صباه ورفيق مدرسته الأولية؛ وكان يحبُّه حبَّاً جمَّاً (يُقاربُ حبِّي لأخي محجوب، الذي سمَّيتُ عليه ابني محجوباً، تيمُّناً به؛ وربَّما جاءتِ التّسميَّةُ – لا شعورياً – بتأثيرٍ من شخصيَّة محجوب الآسِرة)؛ ومع ذلك، فقد كان انقطاعُ تعليمِ أحدِهما ومواصلةُ آخر (وهي عينُ المشكلة التي برزت إلى الوجود مع انبثاقِ المدارس التي كان النَّاسُ "يظنونها شرَّاً عظيماً جاءهم مع جيوش الاحتلال"، والتي واكبتِ "الخلاوي" حيناً، ثمَّ حلَّت محلَّها في نهاية المطاف) سبباً في أن أصبح الرَّاوي لا يستطيعُ أن يُطلِعَ محجوباً على ما أحاطنا عِلماً به نحنُ معشرَ القراء، فنراه يُنصِبُ لنا على التَّخصيصِ كلاماً يُخفِضُه تحت رادارِ محجوبٍ؛ فيقول، بعد أن أجابَ محجوباً بإجابةٍ مُقتضَبة بشأنِ سؤالِه عن الأوروبيين "هل بينهم مزارعون": "وآثرتُ ألا أقولُ بقيَّة ما خطرَ على بالي"، ثم يستدركُ بالقول: "لم أقلْ لمحجوبٍ هذا، وليتني قلت، فقد كان ذكياً. خِفتُ، من غروري، ألَّا يفهم".

    عندما نُحلِّل محتوى الكلام الذي باحَ به الرَّاوي لنا، وأخفاه عن محجوب، نلاحظُ نفسَ السِّمةِ التي تحدَّثنا عنها من قبل، وهي إحداثُ التَّوازنِ عن طريق المقابلة الضِّدية، التي تظهرُ في عباراتٍ مثل: "يولدون ويموتون"؛ "من المهدِ إلى اللَّحد"؛ "بعضُها يصدق وبعضُها يخيب"؛ "فيهم أقوياء وبينهم مُستضعفون"؛ "بعضُهم أعطته الحياة ..، وبعضُهم حرمته الحياة"؛ إلى أن يخلُص في حديثه عن الأوروبيين بالقول: "لكن الفروقَ تضيقُ وأغلبُ الفقراءِ لم يعودوا فقراء". وهذا النَّوعُ من الموازناتِ هو سمةٌ فكرية لدى جمهرةِ المتعلِّمينَ تعليماً عالياً؛ يتَّخذ عند البعضِ منحًى إيجابياً، فيساعدُ على التَّريُّثِ والبعدِ عن التَّهورِ أو التَّطرُّفِ الطَّائش؛ ويتَّخذُ عند البعضِ الآخرِ منحًى سلبياً، فيقودُ إلى التَّردُّدِ والحَيرةِ شبهِ الدَّائمة، كما في حالة "هاملت" أميرِ الدَّنمارك في مسرحية وليام شكسبير الشَّهيرة (التي تتلخَّص في "مونولوجه" الأشهر، الذي يناجي فيه نفسه قائلاً: "أنْ أكونَ أو ألَّا أكون، تلك هي المسألة" أو بلغةِ شكسبير نفسِها: "تو بي أور نوت تو بي، زات إز زا كويسشن").

    نلمسُ هذا التَّردُّد الطَّويل بين القطبين عند مصطفى سعيد، الذي يقول للرَّاوي: "إنني أعرف بعقلي ما يجب فعله، الأمر الذي جرَّبته في هذه القرية، مع هؤلاء القوم السُّعداء. ولكن أشياءَ مُبهمة في روحي وفي دمي تدفعُني إلى مناطقَ بعيدةٍ تتراءى لي ولا يمكن تجاهلها". كما نلمسه بشكلٍ أحَدَّ عند الرَّاوي نفسِه، خصوصاً على مشارفِ انتهاءِ الرِّواية عند منتصفِ النَّهر، حيث يقول: "كانتِ الأشياءُ على الشَّاطئينِ نصفَ واضحة، تبينُ وتختفي، بين النُّورِ والظَّلام"؛ أصبحتُ بين العمى والبصر. كنتُ أعي ولا أعي. هل أنا نائمٌ أم يقظان؟ هل أنا حيُّ أم ميِّت؟؛ ثمَّ يقول: "تلفَّتُّ يُمنةً ويُسرة، فإذا أنا في منتصفِ الطَّريق بين الشَّمالِ والجنوب"؛ وفي تلخيصٍ كاملٍ لمجمل حياته، يقول: "طول حياتي لم أختر، ولم أقرِّر. إنني أُقرَّرُ الآنَ إنني أختارُ الحياة". لكن أيَّ نوعٍ من الحياة، وضمن أيٍّ من الشُّروط؟ ويُجيبُ الرَّاوي بإجابةٍ لا تحملُ في طيَّاتها حلَّاً لحَيرته الطَّويلة، فيقول: "لا يعنيني إنْ كان للحياةِ معنًى أو لم يكن لها معنًى"؛ ثمَّ لا يلبثُ أنْ يصرخَ في نهايةِ الرِّواية: "النَّجدة. النَّجدة".

    سنُكمِلُ هذه الحلقة بمشاركةٍ ختامية، نستعرضُ فيها ما جاء في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسعُها مجالُ النَّص. وربَّما شرعنا بعدها في تناولِ المحاور الثَّلاثة، كلَّاً على حِدَة.



    محمد خلف




                  

03-29-2017, 01:02 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    هذه من المشاركات التى تلقاها الاخ القاص عادل القصاص من كاتبها ونشرها فى بوست القصاص والحصه قصه بسودان فور أول

    تعرَّفت مؤخراً - عبر الفيسبك - على شاب سوداني يافع، ذي علاقة ليست عابرة بالثقافة والإبداع، كما أكَّدت لي بعض انتقاءاته وتعليقاته النقدية؛ ذلكم هو الشاب عاطف جمال، الذي تعرَّفت إليه - بشكل أكثر دِقَّة - عبر بوست له في صفحته بالفيسبُك، قدَّم من خلاله مقالاً نقدياً لصديقٍ مجايل له، يتمتَّعُ بكتابةٍ نقدية ذكية وبصيرة، هو مأمون الجاك. ثم لم تلبث تداعيات الحوار الذي تفجَّر بمناسبة مقال مأمون (الذي كان عنوانه: "قراءة لقراءات: القراءة كحدث") أن قاد إلى ورود اسمي في ذلك البوست. فذهبت لأفاجأ وأسعد بهذين الشابين (وكنت قبلهما قد سعدت بمعرفة ثالثهما، خالد عمر، الذي ربطني بكلا الاثنين). أتطلَّعُ إلى، بل أتوقَّعُ، أن نسمع عن الثلاثة قريباً ما يغبِطُ ويشرِّفُ، في حقلَيْ الكتابة الإبداعية والنقدية.

    وفيما يخص جمال، فقد تفتَّحت بيننا مراسلة حميمة عبر الفيسبك، قادت إلى أن يطالع بوست "الحصة قصة"، ويكتب - عبر رسالة خاصة - التعليق التالي عن "رسالة محمد خلف" والمساهمات التالية له:


    أجمل ما حدث لي في العام الجاري هو معرفة التواصل معك، وثانيهما على الترتيب دلُّك واقتراحُك لي بقراءة ما ورد في "سودانفورول" من طرف صديقك محمد خلف؛ وربما لم أقرأ يوماً في منتدًى سوداني أو أيَّاً كان نوعه من المنتديات مثل هذا التدفُّق المعرفي، والإبداع اللامتناهي من أستاذ محمد خلف. رسائله تنهض وتحرِّض على القراءة الحُرَّة في شتَّى المعارف؛ بدأت بالسرد وتفرَّعت إلى الفلسفة، العلوم الطبيعية، التأريخ والأدب - ولا ننسى الدين، لكنَّها ما زالت تحافظ على مضمون السرد الذي بدأ به رسالته. قراءة واحدة لا تكفي .. وقراءة ثانية ربَّما تقرِّبني لفهم الحق والحقيقة بمفهومَيْهما العلميِّ والديني؛ والقراءة الثالثة والعاشرة لتذوُّق هذا الكمَّ المعرفيَّ الممزوج بالذاتيِّ السِّيَرِي. الرسالة التي افتتح بها أستاذ محمد خلف عصفَه المعرفي، أجملُ رسالةٍ أقرأها على الإطلاق، لا تشبه رسائل كازانتزاكي، كافكا، ولا حتَّى رسائل دوستويفسكي التي قرأتها. هي مزيجٌ من السرد والمعرفة المرتبطة بالذاتي. لن أَجِدَ وصفاً أفضل من وصفِ الأستاذ عبدالواحد ورَّاق في رسالته إلى الأستاذ المثقَّف - بكلِّ ما تحمله الكلمة من معانٍ - محمد خلف: "ذكروا أنَّ في الصحراء واحةً لا يعثر عليها إلا المُوشِك على الهلاك. في كلِّ مرَّة يا خلف تأتي مقالتك بمثابة الواحة الظليلة والتي يتوفَّر فيها الماء العذب والتمر المُشْبِع والفاكهة الدانية والظلال الرحيبة الممتدَّة...ونحن في هذا العالم نسير في أكثر من صحراء؛ وقبل أن يتلقَّفنا الهلاك، نظفر بإبداعك. ..الذروة، ثم القلب". أنا ممتنٌّ جدَّاً لك، ومحظوظٌ جدَّاً بقراءةِ مثل هذا الكمِّ من المعرفة، التي هي حصيلة تراكم سنين من القراءة منك وأستاذ محمد خلف والمتداخلين من شتَّى بقاع الأرض. شكراً لك مرَّةً أخرى يا دكتور، وسعادتي لا تحدُّها حدود بالتواصل معك؛ وبالتأكيد ستكون لي زيارة لملبورن في القريب العاجل. تحيَّاتي لأسرتك الكريمة وإلى الأستاذ محمد خلف، وبلِّغه شكرنا الخاص نيابةً عن أصدقائي للدفقِ العلميِّ الرحيب، والذي بالتأكيد سنستفيد منه أنا وجيلي والأجيال التي تلينا.

    عاطف جمال





                  

03-29-2017, 01:08 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)


    Message body
    هذه محطَّة تشارنغ كروس:
    ثمَّة ضَوءٌ خافتٌ في الرَّدهةِ وقناديلُ منثورةً على طولِ الطَّريق
    -3-

    قلنا في المُشاركةِ السَّابقة إنَّنا سنُكمِلُ هذه الحلقة بمُشاركةٍ أخرى ختامية، نستعرضُ فيها ما انكشفَ لنا تحت ضوءِ آخرِ قناديلِ الطَّريق، والذي سيجيءُ هنا في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسعُها مجالُ النَّص. إلَّا أنَّه قبل المُضي قُدُماً في استكمالِ فقراتِ هذه الحلقةِ الختامية، التي تمهِّد إلى تناولِ المحاور الثَّلاثة، كلَّاً على حِدَة، نودُّ أن نقفَ لوهلةٍ قصيرة أمام عنصرٍ آخرَ من عناصرِ الشَّكل، وهو الزَّمنُ السَّردي، حتَّى نطمئنَ قليلاً إلى استيفاءِ شروطِ إنشاءِ شخصيَّة الكاتب، من جهةِ الشَّكل؛ قبل أن نستيقنَ تماماً من استيفائها، بعونٍ من قبسِ هذا القنديل الأخير، من جهةِ المحتوى.

    سبق أن أشرنا في بدايةِ هذه الحلقاتِ إلى أنَّ الغرضَ الخفيَّ من إلقاءِ مصطفى سعيد لأبياتٍ من مقطع "هذه محطَّة تشارنغ كروس"، من قصيدة "أنتويرب" للشَّاعر والرِّوائي الإنجليزي، فورد مادوكس هيفر، التي تناولَ فيها أوضاعاً إنسانية تسبَّبت فيها الحربُ العالمية الأولى، هو رسمُ تحديدٍ دقيق، إلَّا أنَّه غيرُ مألوفٍ، للزَّمن الرِّوائي في "موسم الهجرة"؛ وهو فترة ما بين الحربين في أوروبا، وهي الفترةُ التي يتحدَّثُ عنها مصطفى سعيد بقولِه: "ثلاثون عاماً. كان شجرُ الصَّفصافِ يبيَضُّ ويخضَرُّ ويصفَرُّ في الحدائق، وطيرُ الوقواقِ يُغنِّي للرَّبيعِ كلَّ عام. ثلاثون عاماً وقاعة ألبرت تغصُّ كلَّ ليلةٍ بعشَّاقِ بيتهوفنَ وباخ، والمطابعُ تُخرِجُ آلافَ الكتبِ في الفنِ والفكر". وإذا كان هذا التَّحديدُ هو في الأساسِ تأطيرٌ زمنيٌّ لفعاليَّةِ شخصيَّة مصطفى داخل البندر الكولونيالي، فإنَّ زمنَ السَّردِ في الرِّواية - الذي يبدأ من أولِ جملةٍ مُكتمِلةٍ فيها: "عُدتُ إلى أهلي يا سادتي بعد غيبةٍ طويلة، سبعةِ أعوامٍ على وجهِ التَّحديد، كنتُ خلالها أتعلَّمُ في أوروبا"، وينتهي بالاستنجاد - هو تأطيرٌ زمنيٌّ لفعاليَّةِ الرَّاوي، حيثُ يتقاطعُ آخرُ سنواتِه في القرية مع آخرِ عهدِ مصطفي سعيد فيها.

    إذا كان الأمرُ كذلك، ونحنُ بصددِ إنشاءِ شخصيَّةِ الكاتب، كيف يتسنَّى لنا إذاً تحديدُ زمنِه السَّردي، الذي ينبثقُ منه تأطيرٌ لفعاليَّته النَّصِّيَّةِ قائمةِ الذَّات؟ من الواضح أنَّنا لا نستطيعُ أن نجترحَ له زمناً يتطابقُ مع زمنِ شخصيَّة مصطفى سعيد أو الرَّاوي، وإلَّا لكانَ هو أحدُهما أو كلاهُما، إذ إنَّنا نعتمدُ على فرقٍ ناتجٍ عن تميُّزِهما، لإبرازِ وجودِه كشخصيَّةٍ مستقِلَّةٍ عن كليهما؛ كما لا يُمكِنُ، لنفسِ السَّببِ، أن نستخلِصه من سياقِ أقوالِهما، من ناحيةِ الشَّكل، كما استخلصناه تحت ضوء القناديل، وكما سنستخلصه في الفقرة "ثالثاً" أدناه، من ناحية المحتوى. إلَّا أنَّنا سننظرُ إلى حديثٍ صدر عن الرَّاوي في وقتٍ مبكِّرٍ من زمنه السَّردي، باعتباره مؤشِّراً على وجودِ زمنٍ سرديٍّ آخرَ، هو في رأينا زمنٌ خاصٌّ بشخصيَّة الكاتب قيد الإنشاء. ومن اللَّافت في ذلك الحديث، الذي سنستعرضُ طرفاً منه في الفقرةِ التَّالية، أنَّ الرَّاوي أوصله لنا معشرَ القراء بعد أن فَرَغَ من الإجابةِ على أسئلةِ الأهلِ والزُّوار، وبدأ يعتادُ على إقامتِه بينهم، ولمَّا تمضي سوى أيَّامٍ قليلة عُقبَ عودتِه إلى القرية؛ إضافةً إلى أنَّه قد رواه لنا من مكانِه الأثير، "عند جذعِ شجرةِ طلحٍ على ضفَّةِ النَّهر"، حيث كان يقضي عندها ساعاتٍ طويلة إبَّانَ طفولته.

    فبعدَ أن جابَ الرَّاوي القريةَ "طولاً وعرضاً، معزِّياً ومهنِّئاً"، استجابةً لرغباتِ أمِّه التي كانت تقفُ له "بالمرصاد"، ذهب ذاتَ يومٍ إلى مكانِه الأثير، ليُحدِّثنا من عند تلك الشَّجرةِ على ضفَّةِ النَّهر، قائلاً: "ورأيتُ الضَّفَّةَ تتقهقرُ عاماً بعد عام أمام لطماتِ المياه، وفي جانبٍ آخرَ يتقهقرُ الماء أمامها. وكانت تخطرُ في ذهني أحياناً أفكارٌ غريبة. كنتُ أُفكِّرُ، وأنا أرى الشَّاطئَ يضيقُ في مكان، ويتَّسِعُ في مكان، أن ذلك شأن الحياة، تعطي بيدٍ وتأخذُ باليدِ الأخرى. لكن لعلني أدرَكتُ ذلك فيما بعد. أنا الآن، على أيِّ حال، أُدرِكُ هذه الحكمة، لكن بذهني فقط". قد قال الرَّاوي ذلك، بعد أن استرجَعَ – أولاً - طرفاً من ذكرياتِ طفولتِه في ذلك المكان، وبعد أن لاحَظَ – ثانياً – تغيُّراً بطيئاً طرأ على البلد؛ الأمر الذي يعني أنَّ ما أكَّدناه من قولِه بالخطِّ الدَّاكنِ العريض قد حَدَثَ في زمنٍ مُتميِّزٍ تالٍ، نزعمُ أنَّه زمنٌ سرديٌّ مُخصَّصٌ لشَّخصيَّةِ الكاتب.

    وما يُقوِّي الاعتقادَ بهذا الزَّعم، أنَّنا نجدُ في طيَّاتِ حديثِ الرَّاوي عند جذعِ الشَّجرةِ على ضفَّةِ النَّهر نفسَ خاصِّية الكلام المُتوازن، عبر استخدامِ سلسلةٍ من المُتقابِلاتِ الضِّدِّيَّة: "ضفَّةٌ تتقهقرُ أمام المياه، وماءٌ يتقهقرُ أمامها"؛ شاطئٌ "يضيقُ" و"يتَّسعُ"؛ وحياةٌ "تعطي بيدٍ وتأخذُ باليدِ الأخرى". إلَّا أنَّ ما يُعَضِّدُ الزَّعمَ ويسندُه بدفعةٍ أقوى، هو اشتمالُ حديثِ الرَّاوي في هذا الموضِعِ بالذَّاتِ على عباراتٍ تُذَكِّرُنا أو بالأحرى تُوهمُنا بأنَّ قائلها هو مصطفى سعيد، صاحبُ الدِّيباجَةِ القويَّة والعبارةِ الشِّعريةِ المُميَّزة التي لا تُخطئُها الأُذُنُ أو العين: "ثمَّةُ آفاقٌ كثيرة لا بُدَّ أنْ تُزار، ثمَّةُ ثمارٌ يجبُ أنْ تُقطف، كتبٌ كثيرة تُقرأ، وصفحاتٌ بيضاءُ في سِجِلِّ العُمُرِ، سأكتبُ فيها جُمَلاً واضحة بخطٍّ جريء".

    ثالثاً: ما جاء في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلات
    في بيتِ شابٍّ سوداني، زميلِ دراسةٍ للرَّاوي، دَارَ نقاشٌ طويل بين المُضيف "منصور" ورجلٍ إنكليزي اسمه "رتشارد"، كان يعملُ في وزارةِ المالية. لم يشتركِ الرَّاوي في الحوار، لكنه تدخَّلَ فقط "دون وعيٍ" لتصحيحِ معلوماتٍ وردت في الحديثِ عن مصطفى سعيد؛ ثم قال فيما يُشبِهُ التَّلخيصَ لآراءِ المتحاورَيْن: "وبينما منصور يُفنِّدُ آراءَ رتشارد، أخلَدتُ أنا إلى أفكاري؛ ما جدوى النِّقاش؟ هذا الرَّجل – رتشارد – هو الآخَرُ متعصِّب. كلُّ أحدٍ متعصِّب بطريقةٍ أو بأخرى". وبعد وصفِ الرَّاوي لإحساسِ الرَّجلِ الأبيض "بإحساسِ الاحتقار الذي يحِسُّه القويُّ تجاه الضَّعيف"، أشار إلى عبارةٍ قالها مصطفى سعيد لهم (أي الرَّجل الأبيض، بوصفِه اسمَ جنس): "إنَّني جئتُكم غازياً"؛ ويقول عنها الرَّاوي معلِّقاً: "عبارةٌ ميلودراميةٌ ولا شك. لكن مجيئهم، هم أيضاً، لم يكن مأساةً كما نُصوِّرُ نحن، ولا نعمةً كما يُصوِّرون هم". ونُلاحظُ هنا أنَّ الرَّاوي يُعبِّر، عموماً، في وصفِه للرَّجلِ الأبيض عن رأيٍّ لا يختلفُ كثيراً عن الفطرةِ السَّليمة التي ترصِدُ الحقائقَ النَّفسيَّة المتعلِّقة بسايكلوجيَّةِ الشَّخصِ القويِّ إزاءَ تعاملِه في الغالبِ الأعمِّ مع الشَّخصِ الضَّعيف؛ إلَّا أنه عندما يسعى إلى تلخيصِ الآراء أو يلجأ إلى الاعتمادِ على التَّعليق، فإنه يصدُر عن عقلٍ جُبِلَ على إقامةِ الموازناتِ الدَّقيقة، والنَّظرِ إلى جانبَيْ المسألة، دونَ تحيُّزٍ لطرفٍ على آخر، مهما مالت قناعاتُه الرَّاسخة إلى أيٍّ منهما؛ الأمر الذي يُوشِي بأنَّ شخصيَّة الكاتب هي التي تتحدَّثُ في موضِعَيْ التَّلخيص والتَّعليقِ المذكورَيْنِ أعلاه.

    ويُعلِّقُ الرَّاوي على تعلُّقِ إيزابيلا سيمور المَرَضِيِّ بمصطفى سعيد بقوله: "ياللغرابة. يا للسُّخرية. الإنسان لمجرد أنَّه خُلِقَ عند خطِّ الاستواء، بعض المجانين يعتبرونه عبداً، وبعضهم يعتبرونه إلهاً. أين الاعتدال؟ أين الاستواء؟". ويُوظِّفُ الرَّاوي استعارةَ "خطِّ الاستواء" أيضاً في ختامِ تعليقِه على النِّقاشِ الطَّويل الذي دَارَ بين "منصور" و"رتشارد": "كانا يقولانِ كلاماً مثل هذا، ويضحكانِ على مرمى حجرٍ من خطِّ الاستواء، تفصِلُ بينهما هُوَّةٌ تاريخية ليس لها قرار". وتلك هي النُّقطة العميقة التي تُشيرُ إليها شخصيَّة الكاتب باستمرار، سواءً جاءت في طيَّاتِ أحاديثِ الرَّاوي أو تعاريجِ عباراتِ مصطفى سعيد؛ ففيها دائماً محاولةٌ للتَّقريبِ بين الآراءِ المتقابلة أو التَّنبيهِ إلى نقاطِ تلاقيها، سعياً للاعتدال، على الرَّغمِ من مقتضياتِ الواقعِ التاريخي، الذي يُطيلُ أمدَ الانقسام. وعندما يخلُصُ الرَّاوي إلى القول: "لا يُوجدُ في الدُّنيا عدلٌ ولا اعتدال" أو يستشهدُ بعد هذه العبارةِ مباشرةً بقولِ مصطفى سعيد: "إنَّما أنا لا أطلبُ المجدَ، فمثلي لا يطلبُ المجد"، فإننا نستشفُّ لدى شخصيَّة الكاتب قيد الإنشاء حنيناً جارفاً إلى إقامةِ العدل وتحقيقِ الاعتدال، تماماً مثلما يصرخُ طفلٌ بشكلٍ عفوي: "هذا ظلم" ("إتس أنفير")، طالباً من والدَيْه أو أقرب الأقربين لديه تحقيقَ إنصافٍ أو عدلٍ فوري، إنْ لم نقل تحقيقَ اعتدالٍ يدرأ عنه في مُقبلِ أيَّامِه مغبَّةِ الجُنُوحِ والتَّطرُّف.

    أثناء عودة الرَّاوي للخرطوم، عبر الطَّريق الصَّحراوي، بعد احتفالِهم بختانِ ولدَيْ مصطفى سعيد (سعيد ومحمود)، "وفي حالةٍ تقرُبُ من الحُمَّى"، طافت برأسِه، حسب قولِه "نُتَفٌ من أفكار"؛ إلَّا أنَّ فكرةً رئيسيةً ظلَّت تتخلَّلُ هذه "النُّتف"، وهي الحربُ الدَّائرة بين الشَّمسِ والصَّحراء، والتي يروحُ ضحيَّةً لها أفرادٌ قلائلُ تجلبُهم ظروفٌ قاهرة إلى أَتُونِها؛ وهي ’الحربُ‘ التي تنتهي يومياً "فجأةً بالنَّصر"، بقدومِ اللَّيل؛ وعنده، يُصبِحُ "شفقُ المغيبِ ليس دماً، ولكنه حناءٌ في قدمِ المرأة، والنَّسيمُ الذي يُلاحقُنا من وادي النِّيل يحملُ عطراً لن ينضُبَ في خيالي ما دُمتُ حيَّاً". وما يُكسِبُ هذه الفكرة "الواضحة وضوحَ الشَّمس" غموضاً، هو أنَّ الرَّاوي (ومن حقِّنا الآنَ أن نقولَ شخصيَّة الكاتب التي تتكلَّم من خلالِه) يُحاولُ أن يعتمدَ السَّرد أساساً للتَّحاورِ مع نصٍّ آخرَ (هو نصُّ "الغريب" للكاتب الفرنسي ألبير كامو) وفلسفةٍ أُخرى (هي الفلسفةُ الوجودية، التي كانت رائجةً إبَّانَ صدورِ رواية "الموسم")؛ سنُرجئُ مناقشتها إلى حين تناولِ محور البندر الكولونيالي؛ ولكنَّنا سنُشيرُ في الفقرةِ التَّالية إلى كيف قادنا الكاتب، عبارةً على إثرِ أخرى، لتوضيحِ تداخُلِ نصِّه، أو تحاورِه الذَّكي، مع نصٍّ أوروبيٍّ أيقونيٍّ شهير.

    بدأ الرَّاوي بالقول إن السيَّارة في رحلةِ عودتِه إلى الخرطوم قد تحرَّكت "في أولِ الصَّباح"، ثم سارت شرقاً ساعتَيْن، إلى أن "ضربت في الصحراء". وعندها يقول الرَّاوي مباشرةً: "لا يُوجدُ مأوًى من الشَّمسِ التي تصعُدُ في السَّماءِ بخطواتٍ بطيئة، وتصبُّ أشِعَّتَها على الأرضِ كأنَّ بينها وبين أهلِ الأرضِ ثأراً قديماً"؛ ويعزِّز الرَّاوي هذه القول بتأكيدٍ آخر، وهو أنَّه: "لا تُوجدُ سحابةٌ واحدة تُبشِّرُ بالأملِ في هذه السَّماءِ الحارقة، كأنَّها غطاءُ الجحيم"؛ ثمَّ يردفُ بالقول: "عقلُ الإنسانِ ليس محفوظاً في ثلَّاجة. إنَّها هذه الشَّمسُ التي لا تُطاق. تُذوِّبُ المخ. تَشِلُّ التَّفكير". ولا يَملُّ الرَّاوي من الرُّجوعِ إلى هذا الموضوع: "لا شيء. الشَّمسُ والصَّحراءُ ونباتاتٌ يابسة وحيواناتٌ عجفاء"؛ كما يُضيفُ قائلاً: "الطَّريقُ لا ينتهي عند حد، والشَّمسُ لا تكلُّ. لا غروَ أنَّ مصطفى سعيد هَرَبَ إلى زمهرير الشَّمال".

    وفي منتصفِ الرِّحلةِ عبر الصَّحراء، يتساءلُ الرَّاوي: "أين الظِّلُّ يا إلهي؟ ويستأنفُ الرَّاوي فكرتَه الرَّئيسية، إذ إنَّ تساؤلَه البلاغيَّ لا ينتظرُ إجابة: "مثل هذه الأرضِ لا تُنبِتُ إلَّا الأنبياء. هذا القحطُ لا تُداويه إلَّا السَّماء. والطَّريقُ لا ينتهي والشَّمسُ لا ترحم". وهنا ينشأ فجأةً سؤالٌ واقعي، وليس بلاغياً، فقد "قالوا إن امرأةً من قبيلة الميرصاب قتلت زوجها، والحكومةُ ذاهبةً لتقبضَ عليها؛ فـ"لماذا قتلته؟"، في المقامِ الأول، "في هذه الأرضِ التي لم تتركِ الشَّمسُ فيها قتلاً لقاتل"؛ فهُم "لا يعلمون". وهنا قال الرَّاوي: "خطرت لي فكرة، قلَّبتُها في ذهني، ثمَّ قرَّرتُ أن أُعبِّرَ عنها وأرَى ما يحدُث (لكنَّنا نعلمُ، من خلالِ تتبُّعِنا للحربِ الدَّائرة بين الشَّمسِ والصَّحراء، أن الكاتبَ قد مهَّد لها بكلِّ تلك العباراتِ التي ذكرناها هنا وفي الفقرتين السَّابقتين، وأنَّها لم تخطُرِ الآنَ للرَّاوي، وإنَّما قلَّبَها الكاتبُ في ذهنِه مِراراً). قلتُ لهم إنَّها لم تقتله، بل هو ماتَ من ضربةِ الشَّمس، كما ماتت إيزابيلا سيمور، وشيلا غرينوود، وآن همند، وجين موريس". ولم يكنِ الرَّاوي مُنتظِراً تفاعُلاً إيجابياً من رفاقِ الطَّريق: "لا فائدة. لا دهشة".

    إلَّا أنَّ الكاتبَ (بخلافِ الرَّاوي) كان يهدُفُ إلى مزيدٍ من التَّوضيحِ لتحاورِه السَّرديِّ مع رواية "الغريب"، التي أقرَّ فيها بطلُها "ميرسو" للقاضي همساً بأنه لم يقتل أحدَ العربِ في الجزائرِ عن قصد، بل إنَّ ذلك قد حَدَثَ بسببِ ضربةِ الشَّمس؛ لذلك، فقد استرسلَ في نثرِ مزيدٍ من التَّعبيراتِ الدَّالَّة: "الشَّمسُ هي العدو. إنَّها الآنَ في كَبِدِ السَّماءِ تماماً، كما يقولُ العرب". ثمَّ تتداخلُ تشبيهاتُ الشَّمسِ واِعوِجاجُ مَسِيرِ السَّيَّارةِ في الطَّريقِ الصَّحراويِّ بسِيرةِ مصطفى سعيد ومحاكمتِه لقتلِ زوجته: "عجلاتُ السَّيَّارة تصدمُ الحصى بحقد. طريقُه المُعوَجُّ سُرعانَ ما يؤدِّي به إلى الكارثة. وفي الغالب، تكونُ الكارثة واضحةً وضوحَ الشَّمس"؛ بل إنَّ الشَّمسَ نفسَها تُصبِحُ واضحةً وضوحَ نفسِها: "والطَّريقُ لا ينتهي، والشَّمسُ واضحةٌ وضوحَ الشَّمس". ولم يلجأِ الكاتبُ إلى هذا التَّشبيهِ الأجوف، لاقترابِه من تحصيلِ الحاصل، إلَّا ليأسِه من حدوثِ التقاطٍ فوريٍّ لتحاورِ نصِّه السَّرديِّ مع نصِّ كامو ذائعِ الصِّيت، أو مع ما نُثِرَ في أعطافِه من فكرٍ وجوديٍّ، انتشرَ في فترةِ ما بعد الحربين في أوروبا، ثمَّ وَصَلَ إلى المنطقةِ العربيةِ لاحقاً في فترةِ السِّتينات وأوائلِ السَّبعينات.
    لن نشرعَ هنا في التَّطرُّقِ إلى علاقةِ رواية "موسم الهجرة" بفكرةِ ’العبث‘ التي تخلَّلت رواية كامو أو فكرة ’الاختيار‘ التي تُضمِّنت في فكرِ جان-بول سارتر الوجودي، لكننا نُشيرُ فقط إلى أنَّها قد تُفسِّرُ قولَ الرَّاوي في نهايةِ الرِّواية: "لا يَعنيني إنْ كان للحياةِ معنًى أو لم يكن لها معنًى"؛ كما قد تُضيءُ مقارنةً بين قولِه: "طولَ حياتي لم أخترْ ولم أُقرِّر. إنَّني أُقرِّر الآنَ إنَّني أختارُ الحياة"، وبين قولِ مصطفى سعيد في الفصلِ الثَّاني من الرِّوايه، بعد دخولِه الفصلَ بالمدرسة: "وكانت تلك نقطةُ تحوُّلٍ في حياتي. كان ذلك أولُ قرارٍ اتَّخذتُه، بمحضِ إرادتي". وعِوضاً عن ذلك، سنمضي في طقسِ تسمِّيةِ شخصيَّةِ الكاتب، بعد أن قدَّمنا حتَّى الآنَ ما يكفي من الحيثيات، على مستويَيْ الشَّكلِ والمحتوي، حتَّى نتمكَّنَ من تقييمِ دورِه في النَّصِّ من خلال معرفتِه بقصيدةِ "أنتويرب"، التي ألقى مصطفى سعيد أبياتاً من مقطعٍ منها، وهو في مجلسِ شُربٍ، في أوائلِ عهدِ تعرُّفِ الرًّاوي بشخصيَّته الفذَّة.

    سنُفرِدُ حلقةً كاملة لطقسِ التَّسمية، وما يطرحه من مشكلاتٍ تتعلَّقُ بالإسنادِ عموماً إلى مرجع؛ وخصوصاً، المرجعِ النَّصي؛ إضافةً إلى الانخراطِ في عملية تقييمِ الشَّخصيات، تمهيداً للدُّخولِ في المحاورِ الرَّئيسيةِ لهذه المشاركات، وهي محورُ البندرِ الكولونيالي، والوطنِ الأم، والعُمقِ الحضاريِّ الشَّامل.



    محمد خلف
                  

05-24-2017, 02:43 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    ليس من الميسور أن تتوفر كتابة فى هذا الزمان بجودة هذه الكتابه ومتعة مطالعتها والإطلاع على ما تمور به من معارف وأراء فى شتى مناحى المعرفه أداباً كانت أم فنوناَ وفكر فهى مجوده فى ذاتها راعى فيها أستاذنا الكاتب الناقد محمد خلف الله عبدالله أدق دقائق خصائص اللغه لا بل ظل مصححا لكل أناتها وهناتها بصبرٍ وجلد بعد أن عكف على تحريرها فى البدء والآن شارف الحديث عن كاتب ضخم ألا وهو الطيب صالح والذى ذاع سيطه فى المشرقين والمغربين لا بل المشارق والمغارب ككاتب لافتٍ ومؤثر ومثل ذلك الرجل الأمه والذى فجر ينابيعاً من الأدب سقت حقول العقول والقلوب إبداعاَ متميزاَ صور فيه بقدرته تلك حقيقة مجتمعه محدثاُ بعداَ معياريا لذلك بدربته وموسوعية إطلاعه وإلمامه بخصائص القص والسرد وإبتداع عناصر التشويق والإثاره ناقلاَ لقارئه من دهشة لدهشه بسهولة ويسر كما يفعل السحرة والحواة لما يجيدون فحقاً قد أجاد ذلك الطيب إجادةً بانت حقيقتها بحمى الإقبال والإهتمام الكبير وحقاَ أجاد الأخ خلف فى تقريب صور الإبداع تلك فى ما كتبه الطيب صالح وأحسب أن لخلف قدرات ليست بالسهله ولا الميسوره للتحقق وأتمنى أن ننجح فى إبراز عبقريته هو الآخر ذلكم المفكر والمثقف الموسوعى والناقد الإدبى والفكرى العجيب.

    منصور

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 05-24-2017, 02:45 AM)
    (عدل بواسطة munswor almophtah on 05-24-2017, 02:50 AM)

                  

06-06-2017, 01:27 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    مقال الطيب صالح -طيب الله ثراه- عن رمضان



    لا أظن أحداً ينسى الأماكن التي صام فيها، وهل كان الفصل صيفاً أم شتاء. وبماذا أفطر ومع من أفطر. وهو قد ينسى بقية أيام العام باستثناء أيام قليلة تباغته فيها الحياة، كما تفعل بإحدى مفاجآتها السارة أو المحزنة.
    الأيام العادية تمضي تباعاً طوال العام. لا يكاد الإنسان يحس بمرورها. كأن الزمن نهر سرمدي. ولكن يوم الصائم – وهذه عندي من حكم الصوم- يتفلت قطرة قطرة الدقائق تمر كأنك تسمع وقع خطاها.
    الصائم يحس بالزمن لأول مرة خلال العام أنه (كم) يمكن أن يوزن بميزان ويقاس بمقياس. يختلط جوعه وظمأه - خاصة إذا كان الوقت صيفاً حاراً - مع كل دقيقة تمر. يكونان عجينة من المكابدة والسعادة.
    فإذا انقضى اليوم، يحس الصائم أنه قد قطع شوطاً مهماً في رحلة حياته. وإذا انقضى الشهر بطوله، يشعر حقاً أنه يودع ضيفاً عزيزاً طيب الصحبة، ولكنه عسير المراس.
    إنني أذكر بوضوح رمضانات صمتها عند أهلي في صباي الباكر، أول عهدي بالصيام. كنا قبيلة أفرادها كلهم أحياء: الجدود والآباء والأعمام والأخوال وأبناء العمومة والخؤولة. لم يكن الدهر قد بدأ بعد يقضم من جسمها كما يقضم الفأر من كسرة الخبز. كـانت دورنا تقوم على هيئة مربع، وفي الوسط باحة واسعة فيها رقعة رملية. كنا نجتمع للإفطار في تلك الرقعة.
    نتولى نحن الصبية أمر تنظيفها وفرش الحصر عليها، وقبيل المغيب نجئ بسفر الطعام من البيوت، ونجلس مع كبارنا ننتظر تلك اللحظة الرائعة حين يؤذن مؤذن البلدة – غير بعيد منا- (الله أكبر) معلناً نهاية اليوم.
    وكنت في تلك الأيام قبل - أن يقسو القلب ويتبلد الشعور - أحس أن ذلك النداء موجه لي وحدي، كأنه يبلغني تحية من آفاق عليا، إنني انتصرت على نفسي. أذكر جيداً طعم التمر الرطب، وهو أول ما نفطر به، حين يوافق رمضان موسم طلوع الرطب. وكانت لنا نخلات نميزها ونعني بها، لها ثمر شديد الحلاوة، تخرجه باكراً. كانوا لا يبيعون ثمارها. ولكنهم يدخرونه لمثل تلك المواسم. وقد زرعت أصلاً من أجل ذلك.
    وأذكر مذاق الماء الذي يصفى ويبرد في الأزيار أو في القرب، خاصة ماء القرب، الذي يخالطه شيء من طعم الجلد المدبوغ. وشراب (الابري) وهو يصنع من خبز يكون رقيقاً جداً: أرق من الورق. تضاف إليه توابل، وينقع في الماء ويحلى بالسكر. ومذاق (الحلو مر) وهو أيضاً من عجين مخلوط بتوابل خاصة. وحين ينقع في الماء يكون ذا لون أحمر داكن الحمرة. هذان الشرابان لا يوجدان إلا في السـودان، وهما مرتبطان برمضان. ولهما رائحة عبقة فواحة. تلك وروائح أخرى، كان خيالي الصبي يصورها في ذلك الزمان، كأنها تأتي من المصدر الغامض نفسه الذي يأتي منه شهر رمضان.
    كان طعم الزمان في تلك الأيام حلواً مخلوطاً بمرارة لها مذاق العسل.
    لم نكن نأكل كثيراً في إفطارنا. لا توجد لحوم أو أشياء مطبوخة، كل واحد يتعشى بعد ذلك في داره على هواه، وغالباً ما ينتظر السحور من دون عشاء.
    نصلي ونفطر على مهل، ونقوم نحن الصبية فنحضر الشاي والقهوة (الجبنة). وكان يسمح لنا بشرب القهوة فقط في شهر رمضان، فالقهوة عدا ذلك للكبار وحدهم.
    ولم يكن ذلك نوعاً من الحظر، ولكن من قبيل الاقتصاد في النفقة، فقد كان البن أغلى من الشاي.
    يساوونا بأنفسهم لأننا نصوم مثلهم. ثم يأخذون في الحديث ونحن نسمع ولا نتكلم، ويا له من حديث، كان رمضان يخرج منهم كنوزاً دفينة. كنت أستمع إليهم وكأني أشرب ماء القرب البارد وآكل التمر الرطب.
    لا أعلم كم كان (معدل الدخل) عندنا تلك الأيام. ولم أكن أعلم شيئاً عن الحالة الاقتصادية في القطر. ولم يكن يهمني من الذي يحكم البلد. كنت أعلم أن الإنجليز موجودون في الخرطوم، وأحياناً يمر بنا واحد منهم، كما يمر طائر غريب في السماء.
    لكننا كنا بمعزل عن كل ذلك، نحس بالعزة والمنعة والطمأنينة والثراء.
    كنـت أعلم أن ذلك الإحساس حق، من الطريقة التي يمشي بها آبائي وأجدادي.
    لا يمشون مختالين، ولكنهم يمشون على وجه الأرض ثابتي الخطى مرفوعي الرؤوس، لا يخامرهم شك أن الأرض أرضهم والزمان زمانهم.
    ولعـل الإنجليز خرجوا آخر الأمر لأنهم ضاقـوا بإحساس الحرية ذاك لدى السودانيين، كأنهم لم يفهموا، أو رفضوا أن يفهموا أنهم أمة مهزومة مستعمرة.
    الإحساس بالمذلة والهوان حدث لهم بعد ذلك على أيدي بعض أبنائهم الذين انتزعوا الحكم من الذين ورثوه عن الإنجليز، ومنهم من كان صبياً مثلي في ذلك الزمان الأغـر، وجلس على بقعة رمل كما جلست، مع آبائه وأجداده في إفطار شهر رمضان.
    كنا حقاً سواسية كأسـنان المشط. ولا بد أنه ذاق المذاقات نفسها وشم الروائح نفسها، واستمع مثلي إلى أحاديث آبائه وأجداده، حديثاً مليئاً بالمحبة والحكمة والطمأنينة.
    فماذا أصابنا بعد ذلك، أم ماذا أصاب الزمان؟




    والآن إلى مقال محمد خلف:



    رمضان وفنُّ الصَّرفِ النِّسويِّ لدى كريماتِ أمدرمان




    قُبيلَ شهرِ رمضانَ بيومٍ واحد، أرسل لي الصَّديق الفنَّان التَّشكيلي معتز بدوي مقالاً كتبه الأستاذ الطَّيِّب صالح عن الشَّهرِ الكريم. وصديقي المُبدِع المُشار إليه هو ذاتُ المعتز، الذي أرسل لي من قبلُ (بالتَّزامنِ مع ورَّاقٍ) نسخةً رقمية تشتمل على مؤلَّفاتٍ شبهِ كاملةٍ للأستاذ الكبير، والتي كانت بدورها حافزاً لي لكتابةِ عددٍ من المشاركاتِ عن الرَّجلِ الطَّيِّب؛ وقد أوصل لي معتزٌّ النُّسخةَ الرَّقمية، مدفوعاً بحبٍّ غامرٍ لرجلٍ خَبِرَ معدنه عن قُربٍ لصيق، عندما كان يعملُ مصمِّماً بمجلَّة "سيِّدتي"، وكان الطَّيِّب صالح يكتبُ عموداً أسبوعياً بمجلَّةِ "المجلَّة"؛ وكانتِ المجلَّتانِ المملوكتانِ لمؤسَّسةٍ واحدة تُحرَّرانِ من نفسِ المبنى في هولبورن بوسط لندن؛ كما أوصل لي معتزٌّ هذا المقال، قُبيلَ رمضانَ، مدفوعاً بذاتِ الحبِّ الجارفِ لهذا المُبدِع، الذي لم يكن متعالياً على ناشئةِ المُبدِعين، بل كان أباً رؤوفاً لهم، وعوناً لأكثرِهم على مصاعبِ العمل، وقدوةً يندرُ لها مثيلٌ في هذا البندر الأوروبيِّ العتيق، الذي ظللنا نحيا كلانا رَدَحَاً بين ظهرانيه.
    ومع استمتاعي الكامل بالمقال، وتقديري العالي لكاتبِه، وشكري الموصول لمرسلِه، الصَّديق معتز بدوي؛ فقد لمِستُ في المقال خفايا وخبايا، تقتضي الأمانةُ في هذا الشهر المبارك التَّنبيهَ عليها بحذرٍ شديد، إذ ربَّما يكونُ التَّوقيتُ غَيْرَ ملائم؛ وربَّما تأتي إلينا، من منظورٍ آخر، لعنةُ اللَّاعنين في مُقبِلِ أيَّامِنا، إن نحنُ فرَّطنا في هذه المناسبة، وتركنا الشهرَ يمضي دون الإشارةِ إلى موطنِ الداءِ المجتمعيِّ المُختبئ في ثنايا ذلك المقال. ولكن قبل التَّنبيهِ اللَّازم، يلزمُنا أوَّلاً أن نوضِّحَ ماذا نقصدُ بفنِّ الصَّرفِ النِّسوي، المُشار إليه في عنوانِ هذه المشاركة. فالمعروف أنَّ الصرفَ هو عِلمٌ لغوي، ساهم في تطويرِه نُحاةٌ عرب، وبَلَغَ فيه منهم علماءُ صرفٍ أفذاذٌ شأواً عظيماً، من بينهم أبو الفتح عثمان بن جنِّي، الذي أشرنا إليه كثيراً، ضمن رسالتي إلى عادل القصَّاص. ويُبنى الصَّرفُ العربيُّ في جوهره على ميزانٍ، أساسُه الفعلُ الثُّلاثي "فاء عين لام" [ف ع ل]. وبناءً عليه يُمكِنُ، على سبيل المثال، الإشارة إلى تلك الرِّسالة بأنَّها مُرسلةٌ في الأصل إلى "فاعِل الفعَّال" (أي عادِل القصَّاص).
    في المقابل، يُبنى فنُّ الصَّرفِ النِّسوي (وسنُوضِّحُ لاحقاً لماذا هو فنٌّ، وليس بعِلم) على فعلٍ ثلاثيٍّ مُغاير، هو: "قاف شين راء" [ق ش ر]؛ وعليه، يُمكِنُ الإشارة إلى ذاتِ الرِّسالة بأنَّها مُرسلةٌ في الأصل إلى "قاشِر القشَّار"؛ فما الفرقُ الذي جعل من الميزانِ الصَّرفيِّ القائم على الحروف الثَّلاثة [ف ع ل] عِلماً، بينما صار آخرُ قائماً على الحروفِ الثَّلاثة [ق ش ر] فنَّاً، حسب زعمنا، الذي سنشرعُ توَّاً في توضيحه؟ يُشيرُ الميزانُ الصَّرفيُّ عموماً، حسب اصطلاحِ الأوائل، إلى حقيقةٍ لسانية تتعلَّق بضبط الصِّيغ الصَّرفية المقبولة ضمن اللِّسان العربي السَّائد داخل مجموعةٍ لغويةٍ محدَّدة؛ أمَّا الميزانُ الآخرُ، فهو مجازٌ يُشيرُ إلى شيئينِ في ذاتِ الآن؛ فهو، من جهةٍ أولى، يُشيرُ إلى نفسِ حقيقةِ الدَّوالِ التي يحاولُ الميزانُ الصَّرفيُّ التَّقليديُّ ضبطَها؛ وهو، من جهةٍ ثانية، ينتقلُ - بوصفه مجازاً - إلى الإشارةِ إلى شيءٍ آخر؛ وهو، في هذه الحالة، ازدواجيةٌ صميمية فيما يتعلَّقُ بالموقف العاطفي تجاه الدَّال المُشار إليه؛ فهو، من جانب، شخصٌ أو شيءٌ يحسُّ المرءُ تجاهَه بحُبٍّ جارف؛ وهو، من جانبٍ آخرَ وفي نفسِ الوقت، شخصٌ أو شيءٌ يلقى المرءُ منه الأمَرَّين.
    فلنأتِ بمثالٍ حتَّى يتَّضحَ الأمر. كان صديقي نصر الدِّين عبد الجليل - وأعتقدُ أنَّه مازالَ - محبوباً لدى أُمِّه وأخَواته وجيرانه ورفاقه؛ وكان اسمُه المحبَّب هو "نصُر"؛ ولكن قلَّما يُسمعُ في بيته هذا اللَّقبُ الأليف؛ وعوضاً عن ذلك، كانوا يُنادونه باسمٍ آخر، وهو "قشُر"؛ وذلك، للتَّعبيرِ عن محبَّةٍ لا حدودَ لها؛ وفي نفسِ الوقت، عن ضيقٍ لما يلقَونه منه من متاعب، لكثرةِ غيابِه عن البيت سعياً لأصدقائه العديدين، ولملئه بالضُّيوف المُتعِبين حين عودته لِماماً إلى البيتِ الرَّحيب، في الختمية شمال (كرش الفيل) ببحري. وسرعان ما أخذ أصدقاؤه وجيرانه العديدون ينادونه بلقب "قشُر"، للتعبير عن ذاتِ الحب، وإنْ لم يخلُ إحساسُهم أحياناً من ذاتِ الضِّيق. وفي أمدرمان، كانت كريماتُ حَيِّنا ببيتِ المال، حينما يقتربُ شهرُ رمضان، لا يرغبن في تذكيرهن بمَقدِمِه؛ وعندما يفعلُ أحدُنا ذلك عفوَ الخاطر، كُنَّ يقلنَ له بلغتهنَّ الدَّارجية المُحبَّبة: "عَلِيْكَ الرَّسولْ ما تذكِّرنا بِقَشَران"؛ وهُنَّ يقلنَ ذلك للتَّعبير عن نفسِ الازدواجية العاطفية تجاه الشَّهرِ الكريم؛ فهو الشَّهرُ الذي يملأ أفئدتهن بمذاقٍ روحيٍّ لا مثيلَ له، وهو – في نفسِ الوقت - الشَّهرُ الذي تُعاني فيه أجسادُهن التَّعِبَةُ عَنَتَاً مُضاعَفاً؛ فعليهن، غيرُ الجوعِ والعطشِ مع جمهرةِ الصَّائمين، تجهيزُ الطَّعام، وتحضيرُ "المويات"، وصناعةُ الشَّاي والقهوة، ثمَّ غسلُ الصُّحونِ وبقيَّةِ أدواتِ الأكلِ بعد الإفطار، وتوضيبُ قَدْرٍ من المُتبقِّي للعشاءِ أو السَّحور.
    فلننظر كيف تناول الطَّيِّب صالح هذا الجانب من عملِ النِّساء في مقالِه عن شهرِ رمضان؛ أو بالأحرى كيف أخفى هذا الجانبَ عن غيرِ عمدٍ أو سكت عنه عن قصد، لإلقاءِ مزيدٍ من الضَّوء على ملامحَ من رمضانَ في شمالِ السُّودان، تغيبُ تماماً عن القرَّاءِ الذين كانت تتوجَّه إليهم الصَّفحةُ الأخيرة لمجلَّةِ "المجلَّة"، ساعةَ كتابةِ المقال. أولُ الجوانب التي أخفاها الكاتب عن غير عمد أو سكت عنها قاصِداً تنويراً مُخصَّصاً لقرَّاءِ "المجلَّة"، هو الخارطةُ المعمارية للعقارِ السَّكني؛ فهو يقول: "كانت دُورُنا تقومُ على هيئة مربَّع، وفي الوسطِ باحةٌ واسعة فيها رُقعةٌ رملية"؛ وتوضِّح الجملة التي تليها الغرضَ من إيرادِ هذا الوصف: "كنَّا نجتمعُ للإفطارِ في تلك الرُّقعة". فالهدف الواضح إذاً هو وصفُ المسرح الذي يُقامُ فيه الطَّقسُ الجماعيُّ للإفطارِ الرَّمضاني. وسعياً لإبرازِ ذلك الهدف، توارى في خلفية المسرح الخارطة النَّموذجية للبيوت الفردية التي يأتي منها ذلك الإفطار. وهي تنقسمُ في العادة، سواءً في شمال البلاد أم وسطه بأمدرمان، إلى جزئين، يفصِلُ بينهما جدارٌ صَلْد، يلينُ صلابتُه ليلاً لتصريف شؤون البقاء والتَّهدئة النَّفسية، وتزدادُ نهاراً لتصريفِ الشُّؤون الاقتصادية والاجتماعية للأُسَر، ومن ثمَّ المجتمعُ بأَسرِه.
    ثمَّ يقول: "قبيل المغيب، نجيءُ بسُفَرِ الطَّعام من البيوت"؛ وكلُّنا يعرفُ أنَّها لا تأتي هكذا من البيوتِ على وجه التَّعميم، وإنَّما تأتي من القسم المُخصَّص للنِّسوةِ في تلك البيوت، التي يقضين فيها سحابة يومهنَّ الرَّمضانيِّ المُتعِب في صناعةِ وتجهيزِ تلك السُّفر، التي ينحصرُ دَورُ الصَّبي المُطيع في حَملِها طازجةً من يدِ أُمَّهاته وجَدَّاته إلى حضرةِ آبائه وأجداده، ليشاركهم الإفطارَ في تلك البقعةِ الرَّملية من الباحةِ الواسعة التي تتوسَّط البيوت. ويُضيف: "ونقومُ نحنُ الصِّبية، فنُحضِرُ الشَّايَ والقهوة (الجبنة)"؛ وهي بالطَّبع، تكونُ مُحضَرَةً من نفسِ تلك "البيوت"، فيُجازى الصِّبيةُ بتناولها مع الكبار، فقط في شهرِ رمضان، بعيداً عن ضجيجِ النِّسوةِ في تلك "البيوت" التي تنزوي في خلفية المسرح القرويِّ الكبير. وفي هذا المسرحِ المفتوح، على وجهِ التَّحديد، يتمُّ تلقينُ الصِّبيةِ –حَصْرَاً، وعلى تلك الحُصُرِ التي قاموا بفرشِها قبل الإفطار- أصولَ السلوك وأفضلَ ما توارثه الآباءُ عن الأجدادِ من عاداتٍ وتقاليدَ وثقافات؛ وكلُّ ذلك يتمُّ عن طريق التَّوصيلِ الشِّفاهي، الذي يخرُجُ مُرتَجَلاً من الذَّاكرةِ الحافظةِ لتراثِ المجتمع: "ثمَّ يأخذون في الحديث؛ ونحنُ نسمعُ، ولا نتكلَّم؛ ويا له من حديث. كان رمضانُ يُخرِجُ منهم كنوزاً دفينة. كنتُ أستمعُ إليهم، وكأنِّي أشربُ ماءَ القِرَبِ البارد، وآكلُ التَّمرَ الرَّطِب".
    لا سبيلَ إلى إنكارِ أنَّ ما كان يستمعُ إليه الصَّبيُّ، في تلك الجلساتِ الطَّويلةِ بعد الإفطارِ الرَّمضاني، على الحُصُرِ المفروشةِ على رقعةٍ رمليةٍ بباحةٍ واسعةٍ في وسطِ القرية، كان "حديثاً مليئاً بالمحبَّة، والحكمة، والطُّمأنينة"؛ فليس الغرضُ هو التَّبخيسُ من ذكرياتِ الصِّبا أو تسفيهُ قيمِ المجتمع؛ حاشا وكلَّا، إنَّما الغرضُ هو التَّنبيه إلى الفصلِ القائم بين النِّساءِ والرِّجال، وكأنَّهما مملكتانِ مُتباعدتانِ لا يُوجدُ رابطٌ بينهما إلَّا مشاويرَ يقومُ بها صبيٌّ لنقلِ الأطعمةِ والمشروباتِ من مملكةِ إنتاجِها خلف جدرانِ البيوت، إلى مملكةِ استهلاكِها وسط الباحةِ أمام تلك البيوت. والهدفُ الأكبرُ من وراءِ ذلك التَّنبيه هو تحميلُ ذلك الصَّبيَّ أمانةً في عُنُقِه، نرجو أن يكونَ قيِّماً عليها، فهو لا غيره الشَّاهدُ الأوحد، منذ انهيار مؤسَّسة الرِّق غير المأسوفِ عليها، بما يدورُ خلف تلك الجدران؛ لذلك، نُريدُ منه أن يأتيَ لنا بقبسٍ من نارِ مواقدِها، أو فوحٍ طيِّبٍ من عطرِ أنفاسِها، أو عاطفةٍ خارجةً للتَّوِ من بين ضلوعها.
    وقد يُفسِّرُ لنا ذلك الصَّبيُّ، من إرشيف ذاكرته المُستديمة، لماذا فشلت – على سبيل المثال، لا الحصر - حملة عبد الرَّحمن النِّجومي إلى مصر، في أعقابِ انتصارِ الثَّورةِ المهدية، وتأسيسِ دولتِها النَّاشئة؛ إذ لم تكن لجيوشِها قسمٌ مخصَّصٌ لصناعةِ الأطعمة والمشروبات، فاُحتيجَ إلى مصاحبةِ النِّساء للحملة؛ وبما أنَّ النِّسوة هنَّ المسؤولاتُ، بشكلٍ أكبر، عن رعاية الأطفال والصِّبية وكبار السِّن، فكان لا بدَّ من اصطحاب هؤلاء أيضاً؛ فترهَّل الجيشُ، وبطأت حركته؛ فكان هذا، ضمن عواملَ أخرى، واحداً من الأسباب المنسيَّة التي أدَّت إلى فشلِ الحملة. وقد نحتاجُ إلى جهدٍ خارق لتنشيطِ ذاكرةِ ذلك الصَّبي، حتَّى يكشِفَ لنا سلسلةً من الإخفاقاتِ المجتمعية النَّاتجة عن العزلةِ المفتعلةِ لجمهرةِ النِّساء، صانعاتِ "الآبري" و"الحلومر"، وهُما، كما نوَّه الطَّيِّب صالح في خاتمةِ ذلك المقال، "شرابانِ لا يُوجدانِ إلَّا في السُّودان"؛ و"حين يُنقعُ ’الحلومر‘ في الماء، يكونُ ذا لونٍ أحمرَ، داكنِ الحُمرة". وإذا قيل لنا - في حديثٍ ضعيف – "خُذوا نصفَ دينكم من هذه الحُميراء"، في إشارةٍ إلى السيِّدة عائشة، رضي الله عنها، فإنَّه يتعيَّن علينا أيضاً – بإيمانٍ قوي - أخذُ نصفِ ثقافتنا وتراثنا الشِّفاهي من صانعاتِ ذلك المشروب ("الحلومر")، الدَّاكنِ الحُمرة.

    محمد خلف
                  

06-06-2017, 01:34 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)



    رمضان كريم يا خلف
    ومن علامات كرمه مقالك أعلاه.

    وجملة أو تعبير (من علامات كرمه) هي اقتباسٌ من رد
    من مسعود، فقد تمنيت له -فيسبُكِّياً- رمضاناً كريماً
    فرد عليّ (بأن تهنئتي هذه من علامات كرمُ رمضان)

    اعتقدت وما زلت أؤمن بأن النساء "عبقريات"، واحدى
    علامات تلك العبقرية هي صناعة الحلو مر، وصناعة "الخُمرَة"

    لطالما شغل تفكيري كيفية التوصل لتلك التراكيب المعقدة، خصوصاً
    إذا أضفنا إليها فنون الطبيخ، والتطريز.
    وقد قادني هذا الإعتقاد بعبقرية النساء الي التصديق أن "خدوم"
    جارتنا هي أحسن من (يصنع) أعمدة الكهرباء والتلفونات. حينما أخرجت كلمة
    (عمود) من سياقها "الكسائي الجلاليبي الخياطي" الى رحاب الأعمدة التى كنا
    نتسكع تحتها حينذاك.

    وتساؤل فقط:
    هل هناك علاقة بين (قَشَرَ) بمعنى (تهندم) أو (تفاخر) بما يملك؟ وميزان فن الصرف
    النسوي عاليه؟

    لصادق إسماعيل
                  

06-06-2017, 01:36 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    في المنتدى الأدبي جامعة القاهرة فرع الخرطوم، في المنتدى الأدبي الاسبوعي- ذات خميس؛ اثر فراغي من قراءاتي الشعرية، اقترب مني شاب لطيف وهمس في أذني باسمه: بابكر الوسيلة؛ ذكر إسمه فقط كان كافياً لأن أعانقه؛ وقتها كنت طالباً في المرحلة الثانوية وكذلك كان بابكر؛ كنت انشر قصائدي في الملفات الثقافية في الصحف اليومية؛ لكن الملف الثقافي لصحيفة "الهدف" وكان يشرف عليه مجذوب عيدروس جمعني ببابكر الوسيلة دون أن نلتقي على المستوى الشخصي؛ مجذوب كان ينشر نصوصي ونصوص بابكر تحت عنوان "أصوات جديدة". حين عانقت بابكر أول مرة؛ في ذلك اللقاء، دعاني لكوب شاي في بيتهم العامر، في الثورة أمدرمان- الحارة 11، منذ اللقاء الأول في صالون البيت، ونحن نتناوب كاسات الشاي، ونتبادل قراءة النصوص الجديدة من كراساتنا؛ ونتبادل الحوار حولها؛ بدأت صداقة العمر؛ وكانت هناك مكتبة ثرية في صالون البيت؛ لم نك وحدنا، كان هناك النور عثمان أبَّكر في صحو كلماته المنسية- الطبعة الأولى شخصياً؛ وثروة من صنوف المعارف المختلفة. لاحقاً عرفت أن هذه المكتبة المنزلية المترفة التي نعمت بها صحبة بابكر الوسيلة، في صالون البيت الحميم، مع "سرامس الشاي" الفارهة، كانت- في الأصل- من مآثر صديقنا الجميل والأخ الأكبر محمد خلف. أعرف بالفطرة أن هذا النص البديع الذي وصلني منك من إبداع حبيبنا محمد خلف- وإن لم تصرح بذلك.
    محبتي التي تعرف، لك وله، ولما بيننا من أصدقاء.

    الصادق الرضي
                  

06-06-2017, 06:06 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    هذه باقة ورد فرائحية صباحيه وسلطة فواكه كل ما فيها أجمل من الاخر، كريز معتز مشمس بابكر وعنب الصادق مع صفاء حضور خلف إنها
    إشارات وبواعث للفرح تؤكد عظمة الله فى تدوير الأشياء لالتقاء النوادر كفاحا وعبر الوسائط لصناعة الفرح للناس كقدر اجتماع رواد مدرسة الغابة والصحراء وجماعة الجو الرطب واساطين المنتدى الأدبى بجامعة القاهره وجماعة نمارق وعقد الجلاد وغيرها من السوانح


    منصور
                  

06-16-2017, 01:09 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)



    روزا لوكسمبرج وفوحُ الورداتِ الثَّلاث




    أشرنا في مشاركةٍ سابقة إلى واقعِ انفصالٍ قائمٍ بين الجنسين، متمثِّلاً في وصفِ الطَّيِّب صالح لممارسةِ شعيرةٍ دينية، في قريةٍ بشمال السُّودان؛ وسنحاولُ في هذه المشاركة تسليطَ بعضٍ من الضَّوء على نماذجَ نسائيةٍ ثلاثة، حاولَ كلٌّ منها، في أزمنةٍ متباعدة، وأماكنَ متباينة، أن يخطو خطوةً حاسمة نحو تقريبِ الشُّقة القائمة بين الجنسين أو ردم الهوَّة التَّاريخية التي تفصل بينهما. وتكثُر الأمثلة لرائداتٍ عمِلن ضمن حركةٍ سياسية واسعة، وحقَّقن نتائجَ باهرة باتِّجاه الوصول إلى الهدف، وهو المساواةُ في الحقوقِ بين الجنسين؛ إلَّا أنَّ هناك مَنْ عمِلن ضد التَّيار السَّائد، ولم يلقين عوناً يُذكر سوى عزيمةٍ نابعةٍ من أعماقِ أرواحهن، وإصرارٍ صادرٍ عن قوَّة تكوينهن الفكري؛ وسنسعى في هذه المشاركة إلى أن نُبرِزَ ملمحاً من مساهمتهن في تغييرِ الأوضاع، آملينَ أن ننثرَ بين ثنايا الوقائعِ عبقاً من سيرتهن العطِرة.
    ما يلفتُ الانتباه في سيرة روزا لوكسمبرج، أنَّها انتبهت باكراً إلى فكرة الهوِّيات الاجتماعية المتقاطعة (أو الإنترسيكشنالتي)، وأنَّها دافعت بشراسة عن حقوق هذه الفئات عبر "رابطة إسبارتاكوس"، ولاحقاً من خلال الأحزاب السياسية اليسارية الكبيرة في بولندا وليتوانيا وألمانيا؛ كما أنَّها وقفت ضد اندفاعِ بلدانِ أوروبا الرَّئيسية نحو الحرب (العالمية الأولى)، وانتقدت مساندة بعضِ الأحزابِ اليسارية لحكومة بلدانها التي كانت تمضي معصوبةَ الأعينِ نحو أتونِ حربٍ لا تذر، أولُ ضحاياها همُ الفئاتُ الاجتماعية التي يجمعُها الفقرُ والاضطهادُ العرقيُّ والجنسيُّ في بوتقةٍ واحدة أو مصيرٍ اجتماعيٍّ مشترك. كما أنَّها خِلافاً لقادةٍ كبار في الحركةِ اليسارية العالمية، قد شكَّكت في إمكانية نجاح الثَّورة في بلدٍ أوروبيٍّ منفرد؛ فلا غرابةَ إذاً أن حمَّلها جوزيف ستالين مسؤولية رواج فكرة الثَّورة الدَّائمة. إلَّا أنَّ وقوفها ضد الحرب العالمية هو الذي قاد حكومة فريدريش إيبرت في ألمانيا إلى اغتيالها، ورميِّ جثَّتها في قناة لاندفير.
    لعلَّ ما تحمله روزا من أفكارٍ راسخة وقوية، موجَّهةً في معظمها ضد التيَّارات السَّائدة أو المهيمنة، قد أكسبها سمعةً يمكن وصفها بالشَّراسة وحِدَّة الطَّبع، حتَّى أنَّ أقرب أصدقائها كان يخشى من التَّقدُّم إليها أو إسماعها كلماتٍ يُمكن تفسيرها بالإطراء الذُّكوريِّ المتعالي أو الغزل البريء. ويحكي أوغست بيبل أنَّه اُضطُرَّ إلى أن يدُسَّ في جيبِ معطفها كلماتِ تشبيبٍ وتغزُّل، حينما تلاقت أكتافُهُما وهُما يدخلانِ عبر ممرٍّ مزدحم إلى اجتماع الكمنتيرن. إلَّا أنَّ كلَّ ذلك لم يكن إلَّا مجردَ مظهرٍ خادع، واستيهامٍ ذكوري، يسعى لتصوير المرأة وفقَ معاييرِ نمذجةٍ سائدةً في مجتمعٍ بعينه؛ فعندما ينكسرُ القالبُ المألوف، يميلُ المرءُ عادةً إلى تصويرِ الوقائعِ المُشاهدة وفقَ ما تهوى مُخيَّلته أو يُصادفُ هواه. ففي حقيقةِ الأمر، كانت روزا امرأةً مشبوبة المشاعر، كرَّست قدراً من عواطفها للعمل العام، إلَّا أنَّ حياتها الخاصَّة كانت مبذولةٌ لأصدقائها من النِّساء (كلارا زيتكن) والرِّجال (كارل ليبنخت)، وزوجها (ليو لوغيخس)؛ كما تشهد رسائلُها التي نُشرت بعد موتها بنزاهتها ودماثة خلقها، مقارنةً مع تدافعها اليوميِّ مع رجالِ عصرِها لانتراعِ الاعترافِ بها كمُنظِّرةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ لا يُشقُّ لها غبار؛ فالحريَّةُ عندها هي دائماً "حريَّة من يفكِّر بشكلٍ مختلف".
    وفي لندن، إبَّان فترة ما بعد الحرب العالمية الثَّانية، في بداية الخمسينات، كانت روزاليند فرانكلين تعملُ باحثةً بكلية كينغ، حيث عُهِدَ إليها بإماطةِ اللِّثام عن تركيبِ الحامضِ النَّوويِّ الرِّيبي منقوصِ الأكسجين (الذي عُرِفَ لاحقاً بمختصر "دي إن إيه"؛ ويُعرفُ اختصاراً بالعربية بالحامض النَّووي، ولو أنَّ ذلك يجعله متماهياً مع مختصر "آر إن إيه"، فهو أيضاً حامضٌ نووي، لكنه غيرُ منقوصِ الأكسجين؛ الأوَّل حاملٌ للرِّسالة الجينية، والثَّاني مترجِمٌ لها)، وقد كانت تتشاركُ حلَّ المسألة المعقَّدة مع موريس ويلكينس، إلَّا أنَّ التَّواصلَ اليوميَّ بينهما كان شبه معدوم. ويُفسَّرُ ذلك من جانبٍ بحرصها على استقلالها المهني، وعضِّها بالنَّواجذ على حريَّتها الأكاديمية؛ ويُفسَّرُ نفسُ الأمرِ، من جانبٍ آخر، بشراستها وحدَّة طبعها وضعف أنوثتها (على حدِّ زعم جيمس واتسون). وكانت التَّقنية التي يستخدِمانِها في الوصولِ إلى حل، هي تقنية تصوير ودراسة البلُّورات بالأشِعَّة السِّينية، بغرضِ الكشف عن ترتيبها البنيوي، فاختراقُ الأشِعَّة للبلُّوراتِ يؤدِّي إلى انكسارِها أو ميلِها بزوايةٍ محدَّدة، فتتكوَّن عنها صورةٌ ثلاثيةُ الأبعاد، تُمَكِّنُ من التَّنبؤ بكثافةِ الإلكترونات داخل البلُّورة، إضافةً إلى التَّرابط الكيميائي للذَّرَّات.
    وفي كيمبردج، كان باحثانِ آخرانِ، هُما فرانسيس كريك وواتسون، يهتمَّانِ بنفسِ الموضوعِ البحثي؛ لذلك كان محتَّماً عليهما أن يدخلا في تنافسٍ أو سباقٍ مع كلية كينغ بلندن (هذا إضافةً إلى سباقٍ آخرَ عبر الأطلنطي مع باحثٍ كيميائيٍّ ضليع هو لاينس باولينغ، الذي سبق أن تحدَّثنا عنه في إحدى المشاركاتِ التي خصَّصناها لأسماءٍ بارزةٍ بولاية كاليفورنيا). وبما أنَّ التنافسَ كان يجري في إطار العلوم الطَّبيعية، وليس الأسواق التِّجارية، فكان لا بدَّ أن يتمَّ حوارٌ بين الجهتين، وأن تسعى كلُّ مجموعةِ بحثٍ إلى أن تُطلِعَ الأخرى بما تجري من تجاربَ، وبما تُحقِّقُ من نتائجَ، في كلتا حالتَيْ النَّجاحِ والإخفاق. وعبر هذه اللِّقاءاتِ التَّحاورية، الماكوكيَّةِ بين لندن وكيمبردج، بدأت تلوحُ في الأفق ملامحُ خلافٍ، وسوءُ فهمٍ مُتبادلٍ، وتصوُّراتٌ خاطئة، راح ضحيُّتها امرأةٌ باسلة، سعت لأن تحفظ لنفسِها، ولبناتِ جنسِها (أو جندرها)، مكاناً تحت الشَّمس؛ إلَّا أنَّها ظُلِمت في حياتها، مثلما أنَّها تُجوهِلت بعد مماتِها؛ فعسى، إنْ لم نُفلِحْ في رفعِ بعضِ المظالمِ عنها، أن نُزيلَ عن سيرتِها قدراً يسيراً من مرارةِ التَّجاهل.
    كان كريك وواتسون يشتغلانِ في مختبر كافِندِش بكيمبردج تحت إشراف السِّير ويليام براغ، الذي لم يكن يُحبِّذُ تدخُّلهما في أبحاثِ الـ"دي إن إيه"، بعد فشلِ نموذجِهما الأوَّل؛ ولأنَّه كان يرى، من جانبٍ آخر، أنَّ هذا البحث متروكٌ برُمَّته إلى كلية كنغ بلندن، التي يعمل بها ويلكينس وروزا، تحت إشراف السِّير جون راندول. إلَّا أنَّ الحامض النَّووي الرِّيبي منقوصَ الأكسجين كان أجَلَّ شأناً وأثمنَ قيمةً من أن يُتركَ إلى جهةٍ واحدة، مهما أملى الأوتوكيتُ بغيرِ ذلك. ولكي يبني كريك وواتسون نموذجَهما الثَّاني، الذي كُلِّلَ في نهاية الأمر بالنَّجاح، كان لا بدَّ من الاستعانة بمعلوماتٍ حيوية، تتوفَّر فقط عند مصدرَيْن منافسَيْن لهما أشدَّ التَّنافس. فمن جهةٍ كانا يحتاجانِ إلى معلوماتٍ حول التَّركيب والتَّرابط الذَّرِّيِّ للعناصر الكيمائية؛ وكانا يحصُلانِ على ذلك من كتاب باولينغ المدرسيِّ الأساسيِّ: "طبيعة التَّرابط الكيمائي" (وكانا يحتفظان بنسخةٍ بالية، يضعها واتسون أحياناً تحت وسادته)؛ وكانا يتابعان في نفسِ الوقت سيرَ أبحاثِه وتقدُّمِه عن طريق الرَّسائل التي تصِلُ لابنه بيتر، الذي كان يعملُ معهما في كافِندِش.
    أمَّا المعلومات الحيوية التي تقودُ إلى بناء نموذجٍ أقرب إلى واقعِ الحال، فقد كان لا بدَّ من وصولِها لهما من لدى روزالِند، التي كانت تعكفُ بنفسِها على تصويرِ مركَّب (أو جزيء) "دي إن إيه" عن طريق اختراق البلُّورات بالأشِعَّة السِّينية. وقد نجحت روزالِند أخيراً في تصويرِ نُسخةٍ، عُرفت بالصُّورة "باء" (فورم بي)؛ وهي قابلةٌ للتَّعرُّفِ من خلالها على بنية الحامض، وذلك خلافاً للصُّورة "ألف" (فورم إيه)، التي لم تكن واضحةً بدرجةٍ كافية. ولكن كيف السَّبيل إلى هذه المعلومة، خصوصاً وأنَّ روزالِند لا تتكلَّم حتَّى مع زميلها ويلكنس؟ ولحداثةِ سِنِّه ولموطنِه غير البريطاني (فهو أمريكيُّ الأصل)، عُهِد لواتسون بهذه المهمَّة العسيرة، ولكن التَّحيُّز السِّلبيَّ الجلي الذي ظهر في كتابه "اللَّولب المزدوج"، هو الذي دفعنا لمناصرة روزاليند، التي كانا (كريك وواتسون) يشبِّهانها بروزا لوكسمبرج؛ إلَّا أنَّ واتسون كان يُكنِّيها بلقب "روزي"، حتَّى يعلِّق على إهاب الاسم المُختلق ما يطفحُ بصدرِه من مشاعرَ سلبيةٍ تجاه امرأةٍ نجحت في أوائلِ الخمسيناتِ من القرن الماضي في أن تجِدَ لها موقعاً للتَّنافسِ الشَّريفِ مع "شقائقها الرِّجال"؛ فما كان هو موقف أحدُهما، مُتمثَّلاً في جيمس واتسون، الذي ألَّف كتاباً – من منظورٍ شخصي - عن اكتشافِ بنية الحامض النَّووي الرِّيبي منقوصِ الأكسجين؟
    يقولُ واتسون إنَّ "روزي" كانت تعمل تحت إشراف ويلكينس؛ وفي حقيقة الأمر، إنَّ روزالِند وويلكنس كانا يعملانِ سوياً، وعلى قدمِ المساواةِ، تحت إشراف السِّير راندول، مثلما أنَّ كريك وواتسون كانا يعملانِ سوياً تحت إشراف السِّير براغ. ويزعم واتسون بأنَّ "روزي" لم تكن تعتقد بأنَّ مركَّب "دي إن إيه" يُمكِنُ أن يُوجَدَ في شكلِ لولب، مع إنَّ روزالِند تقول في مذكرةٍ تُعلِّق فيها على الصُّورة "باء" (فورم بي) إنَّ سلاسلَ ثنائيةً أو ثلاثيةً أو رباعيةً للحامضِ النَّووي مُشترَكةِ المحور يُمكِنُ أن تُوجَدَ في كلِّ وحدةٍ لولبيةٍ للحامض. ويزعم واتسون بأنَّ "روزي" لا تحفل بأنوثتها وترتدي نظَّاراتٍ بعدساتٍ مُكبِّرة مُنفِّرة؛ وفي الواقع، إنَّ روزالِند كانت مليئةً بالحيوية وسط أصدقائها ومعارفها، خارج دائرة العمل في كليَّة كنغ؛ وما النَّظارةُ ذاتُ العدساتِ المكبِّرة، إلَّا لدواعي التَّصوير بالأشِعَّةِ السِّينية. كما يدَّعي واتسون بأنَّ "روزي" هاجمته ذات مرَّةٍ، حتَّى احتمى بويلكنس؛ غير أنَّ من الممكن تصوُّر دوافعِ اِمرءٍ يُمكِنُه التَّجرؤ بالقول عن روزالِند: "إنَّ المرءَ لا يجِدُ مناصاً من الزَّعم أنَّ أفضلَ مكانٍ لامرأةٍ عالِمة هو جلوسها في حضنِ رجلٍ عالم (بالتَّلاعب بكلمة "لاب"، إذ ينوسُ بين "الباء" المجهورة والمهموسة، إذ تعني إحداهما "حِضناً"، بينما تعني الأخرى "مختبرا").
    في عام 1951، نجح فريق كيمبردج في الكشفِ عن تركيبِ الحامضِ المعروف بـ"دي إن إيه؛ وفي عام 1962، مُنحت جائزة نوبل لعلم وظائف الأعضاء أو الطِّب لكلٍّ من فرانسيس كريك، وجيمس واتسون، وموريس ويلكنس؛ وبما أنَّ الجائزة الشَّهيرة لا تُمنح إلَّا لأحياء، وكانت روزالِند قد انتقلت إلى بارئها في عام 1958، فقد رحلت عن 37 عاماً، من غيرِ أن ترى جانباً من التَّقدير الذي تستحِقُّه، لِما بذلت من جهدٍ علميٍّ خارق، فات ملاحظتُه في وقتِه على أقربِ الدَّائرين في محيطِها العلمي والعملي. وإنُ فاتتها الجائزةُ المُقدَّرة، فإنَّ أفضلَ جائزةٍ يُمكِنُ أن تنالَها بعد رحيلِها هو إحياءُ سيرتِها وإعادةُ الاعتبارِ لسمعتِها، التي نالت رشاشاً من عالِمٍ أعمته ضلالاتُ الوقتِ عن رؤيةِ الحقيقة العلمية في أجملِ إهابٍ لها، كانت قد ارتدته روزالِند فرانكلين بشجاعةٍ واستقامةٍ عديمتي النَّظير، حتَّى آخرِ رَمَقٍ من حياتها (أو حتَّى قبيل أسبوعينِ من مماتها، بتعبيرِ جيمس واتسون، في ذيلِ كتابه الموسوم "اللَّولب المزدوج").
    ولإعطاء واتسون ما يستحقُّ، فالحقُّ يُقال إنَّه اعترفَ في ذيلِ كتابِه بدورِها، بعد أن تحاملَ عليها غاية التَّحامل في صدرِ الكتاب، على المستويَيْن العلميِّ والشَّخصي؛ فقد اتَّضحَ، حسب اعترافه، أنَّ عملها في مجال الأشِعَّة السِّينية كان عملاً مقدَّراً، وتزدادُ أهميَّته بشكلٍ مطَّرد؛ كما أنَّ فرزها للصُّورتين "ألف" و"باء" (فورم إيه و بي) كان كافياً لنيلِها سمعةً علميةً طيِّبة؛ هذا إضافةً إلى برهنتها على أنَّ مجموعة الفوسفات يجب أن تكون محيطةً بتركيبِ الـ"دي إن إيه" من الخارج. وكلُّها إنجازاتٌ علمية كانت كافيةً لأن تؤهِّلها للتَّرشُّح للجائزة العلمية الكبرى، وتُجِبرُ القائمين عليها بمنحِها لها؛ مثلما أجبرت واتسون على القولِ إنَّه "بعد سنواتٍ من المشاحناتِ، قد أقررنا باستقامتِها الشَّخصية وكرمِها، بعد أن أدركنا (أنا وكريك) بشكلٍ متأخِّر، بأنَّها كانت امرأةً ذكيَّة تطلبُ اعترافاً من محيطٍ عِلميٍّ يعتبرُ النِّساءَ في الغالبِ الأعمِّ مجرَّد مشاغلَ تصرِفُ المرءَ عن التَّفكيرِ الجاد".

    في حلقةٍ تكميلية لهذه المشاركة، سنستنشقُ مع القرَّاءِ الأفاضل فوحَ وردةٍ ثالثة؛ ولحسنِ حظِّنا، أو ربَّما لشوفينيةٍ، خبيئةً بين ضلوعنا، فإنَّها وردةٌ ناميةٌ في حقلٍ سوداني.

    محمد خلف
                  

06-28-2017, 03:28 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    روزا لوكسمبرج وفوحُ الورداتِ الثَّلاث

    -2-


    أُدرِجَتْ أمِّي، مُنى مكِّي، معهنَّ منذ منتصفِ الخمسيناتِ في برنامجٍ لمحوِ الأمِّية عن كريماتِ أمدرمان؛ وكنتُ أسمعُ منها، منذُ عهدٍ زاهٍ ومبكِّر، أسماءً محبَّبة لرائداتٍ للحركة النِّسوية السُّودانية، تجري على لسانِها في سهولةٍ ويُسر: خالدة زاهر، فاطمة طالب، عزيزة مكِّي، حاجَّة كاشف، نفيسة المليك، ثريا الدِّرديري؛ ثم عرفتُ عن طريقِ الاطِّلاعِ أسماءً لا تقلُّ عنهنَّ شُهرةً وسَبقاً؛ منهنَّ مَن شاركن لاحقاً في تأسيس "الجبهة النِّسائية الوطنية"، مثل ثريا أمبابي، وسعاد الفاتح؛ ومَنْ شاركن بعد ذلك بفترةٍ في تأسيسِ "اتِّحاد نساء السُّودان"، مثل محاسن عبد العال، وأم سلمى سعيد، وفاطمة عبدالمحمود (التي أصبحت أولَ وزيرةٍ إبَّان حكم المشير جعفر محمَّد نميري). وفِي مرَّاتٍ عديدة، ذهبتُ معها بإلحاحٍ باكٍ منِّي - وأنا طفلٌ صغير - إلى دارِ المُرشِدات، وفصولِ محوِ الأمِّية، وتدريس الخياطة والتَّطريز؛ وصحِبَتني معها عن طِيبِ خاطرٍ، وفي أكثرِ من مرَّةٍ، إلى احتفالاتِ "أسبوع المرأة"؛ كما سَمِعتُ منها مراراً باسمِ "الاتِّحادِ النِّسائي". ولم يُفلِحُ ذلك كلُّه في محوِ أمِّيتها، لانقطاعِ البرنامجِ بسببِ الأوضاعِ السِّياسية غير المستقِرَّة، وبسببٍ من تعسُّفِ بعضِ الحكوماتِ الوطنية؛ إلَّا أنَّه رسَّبَ في داخلِها – بشكلٍ حاسم - محبَّةً للعلم، وقوَّةً في الشَّخصية، ونُبلاً في المقصد، واعتزازاً بقيمتِها كامرأةٍ متفرِّدة، لها قدرُها وكرامتُها.
    كما سمعتُ منها بمجلة "صوت المرأة"، التي كانت تُشرِفُ على تحريرِها الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم، منذ عام ١٩55. وعندما تمَّ، في عام 1965، انتخابُها أولَ امرأةٍ في البرلمانِ السُّوداني عن دوائرِ الخرِّيجين، وانتخابُها في نفسِ العامِ رئيسةً للاتِّحادِ النِّسائي (التي لا زالت ترأسُه إلى الآن)، ترسَّخَ اسمُها بلا منازعَ كأشهرِ رائدةٍ تطأ قدماها أرضَ البلاد. إلَّا أنَّنا ننتخبُ في هذه المشاركةِ وردةً أخرى، لِتنضافَ إلى باقةِ الورداتِ الثَّلاث؛ ألَا وهي الأستاذة فاطمة بابكر، لا لِشيءٍ إلَّا لأنَّها كافحت ضد التَّيارِ السَّائد، ولم تلقَ عوناً إلَّا من فئةٍ من المثقَّفاتِ الطَّليعيات، وحَفنَةٍ قليلةٍ من طالباتِ الجامعة، اللَّائي تلقَّينَ العلمَ والتَّنظيرَ النِّسويَّ المتقدِّمَ على يدِها؛ فإن ظللنَ إلى الآنَ حَفنَةً من الرَّائدات، فإنَّ مؤشِّرَ الزَّمنِ الآتي يتَّجهُ بقوَّةٍ صوبَ الأفقِ الذي انفتحَ أمامَهنَّ، بفضلِ مجهوداتِ الأستاذة فاطمةِ الأخرى. ففي بدايةِ التِّسعينات، حضرتُ حفلاً أُقيمَ تكريماً لها بمرفأ برايتون بجنوب إنجلترا، حيث تحدَّثَ في الحفلِ طائفةٌ من طالباتِها ومعارفِها، من بينهن منال الإحيمر، وأمينة الرَّشيد، وربَّما هالة الأحمدي (هذا إنْ لم تخُنِّيَ الذَّاكرة، وتكونُ قد قدِمتْ لاحقاً إلى المملكة المتَّحدة)؛ وعندما جاء دوري لحديثٍ لم يكُن مُعدَّاً له مُسبقاً، لم يكن عندي ما أقولُه؛ وربَّما استحييتُ بوجودِ نسوةٍ خبِرنَها جيِّداً، داخل الفصلِ وخارجه؛ فأرجو أن تأتيَ هذه المشاركةُ تعويضاً عمَّا سلف.
    ليس في مِشيتها صلفٌ ولا غرور، ولكنَّها كانت عندما تمشي في مِشوارِها اليوميِّ من شعبةِ العلوم السِّياسية إلى كلِّية الاقتصاد، عبر مقهى النَّشاط، تنتصِبُ دوماً ممشوقةَ القوام، بثوبِها الأبيضِ النَّاصع، وشعرِها "الآفرو" الكثيف، من غير التفاتٍ، يُمنةً أو يسارا؛ غير أنَّ الجالسين على جانبَيْ الطَّريق يكادون أن ينزووا لمجردِ رؤيتها، وهي تنصَبُّ كأنَّها "جلمودُ صخرٍ حطَّه السَّيلُ من علٍ"؛ إذ كانوا يخشَون تعليقاتِها وتأنيبَها المؤكَّد، وانتقادَها المُحِقَّ لعاداتِ التَّسكُّع، من غيرِ طائلٍ، في مقهى النَّشاط. وكان صديقي الأستاذ محمَّد عبد المنعم (فوكس) من أنجبِ تلاميذِها ومناصريها. وفي حفلِ اقترانِها بالدُّكتور محمَّد سليمان بدارِ الأساتذة، انبرى (فوكس) بخطبةٍ لا تُنسى، طوَّع فيها مقاطعَ من قصائدَ للشَّاعر محمود درويش، لِتتلاءَمَ مع المناسبة، وكان المبدعُ الفلسطينيُّ قد أحدَثَ لتوِّهِ نقلةً في القصيدةِ العربية بانبثاقِ "الرَّماديِّ"، و"أحمد الزَّعتر"، و"أعراس":

    "عاشقٌ يأتي من الحربِ إلى يومِ الزَّفاف
    يرتدي بدلته الأولى
    .....
    وعلى حبلِ الزَّغاريدِ يُلاقي فاطمة
    .....
    وتُغنِّي الفتيات:
    قد تزوَّجتَ
    تزوَّجتَ جميعَ الفتيات
    يا مُحمَّد!
    .....
    وتزوَّجتَ البلاد
    يا مُحمَّد!
    يا مُحمَّد!".
    ومن "تلك صورتُها وهذا انتحارُ العاشق"، يأتي صوتُه هادِراً بين أزيزِ الطَّائرات:
    "الصَّخرُ يهتفُ لاسمكِ الوحشيِّ كُمَّثرَى؛وأسألُ هل تزوَّجتَ الجبال ...؟"


    من النَّادر جدَّاً، أن يحتشدَ زواجٌ بقوَّةِ الرَّمز والدَّلالة، مثلما هو الحال مع زفافِ الفاطمتين؛ فالأولى اقترنت بالمناضل الشَّفيع أحمد الشِّيخ، رئيس اتِّحاد نقابات عمَّال السُّودان، فكان زواجُهما، في جانبٍ منه، تعبيراً عن التحام القضايا النِّسائية بقضايا العمَّال، وارتباطِ مصيرِها بمآلاتِ الطَّبقة العاملة؛ بينما اقترنتِ الثَّانية بصاحب "حرب الموارد"، فكان زواجُهما، في جانبٍ منه، تعبيراً عن تجاوزِ التَّأطيرِ الطَّبقي، والتحام قضايا النِّساء، كجنسٍ، بقضايا البيئة التي تهمُّ كلَّ البشر، كبشرٍ، بصرفِ النَّظرِ عن منشأهم الطَّبقي. إلَّا أنَّ الزَّواجَ الأوَّل قد ارتبط كذلك بالمنظَّمات الجماهيرية في أماكنِ العملِ والأحياء، بينما ارتبط الزَّواج الثَّاني بما يحلو للبعضِ بتسميته بالأبراجِ العاجية، في الجامعاتِ والمعاهدِ العليا. كتبتِ الأستاذة فاطمة بابكر في مستهلِّ حياتها الأكاديمية كتاباً تحت عنوان: "البرجوازية السُّودانية: أطليعةٌ للتَّنمية؟"، لكنَّ كتابَها الذي يهمُّنا في هذه المشاركة، هو كتابٌ تحت عنوان: "المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة"، الذي صدر عن "دار كيمبردج للنَّشر"، في عام 1995.
    وفي منتصف الثَّمانينات، قدَّمت لنا الأستاذة فاطمة بدارِ اتِّحادِ الكتَّاب السودانيين بالمقرن، والتي كانت عضوةً مؤسِّسةً فيه، مذاقاً باكراً من ذلك الكتاب، في شكلِ محاضرةٍ عن "الفكر النِّسوي الغربي"، والتي ضمَّنتها بالفصلِ الأوَّلِ منه. وإنِّي لأذكرُ أنَّ الحاضرينَ قد اندهشوا لمتابعتها المُتقصِّية للحركة النِّسوية في العالم، وكان أفقُ معظمِ الحاضرين، في ذلك الوقت، لا يتجاوزُ فيما يختصُّ بقضيَّةِ المرأة ما يطرحُه الاتِّحادُ النِّسائيُّ عبر مجلَّتِه "صوت المرأة" أو ندواتِه العامَّة التي لا تُقامُ إلَّا لِماماً. وإنِّي لأذكرُ أيضاً أنَّني قد قلتُ لها: "إنكِ قد قدَّمتِ لنا عرضاً ضافياً عن الفكرِ النِّسويِّ الغربي، وأقمتِ لنا تفرقةً مضيئة بين الحركاتِ النِّسائية التي نشأت في أحضان الحركات الوطنية أو ارتبطت بنضالاتِ الطَّبقةِ العاملة، وبين الفكرِ النِّسويِّ الغربي، الذي نشأ مستقِلَّا عنها نوعاً من الاستقلال؛ إلَّا أنَّ المرءَ يلمسُ في ثنايا ما قدَّمتينه لنا محاولةً لتجاوزِ واقع دونيَّة المرأة بتقمُّصِ صورةِ قامعها، وهو الرَّجل". فتفضَّلتِ الأستاذة بالإجابةِ قائلةً: "من أين لي بقدوةٍ أخرى لِأتقمَّصَها، فالرَّجلُ هو الذي ظلَّ رَدَحاً سيِّد الملعب؛ وباستمرارِه في لَعِبِ هذا الدَّور، سيكونُ هو القدوة المطروحة للتَّشبُّهِ والمُحاكاة (كلُّ الصِّياغةِ من عندي، إلَّا أنَّ الإجابة هي ما أزعمُ بأنَّها أقربُ إلى ما قُمتُ هنا بصياغتِه، ولكن هيهاتَ من مطابقةِ ذلك لِما أورَدَتْه الأستاذة الفاضلة في تلك المحاضرة القيِّمة).
    وهذا هو المزلق؛ أو هذا هو النَّقصُ الذي يعتري التَّاريخَ المكتوبَ بصددِ النَّماذجِ النِّسائيَّةِ المتفرِّدة، التي تصلُحُ قدوةً للنِّساء والرِّجالِ معاً. ومن أجلِ هذا، خصَّصنا الحلقة السَّابقة للحديث عن قدوتين نيِّرتين، هما روزا لوكسمبرج وروزالِند فرانكلين؛ على أملِ أن تُصبِحَ فاطمةُ بنت العافية بعد هذه الحلقةِ قدوةً يُشارُ لها بالبنان، عوِضاً عن التَّمسُّكِ بأهدابِ الرَّجل أو التَّشبُّه بأيٍّ من مخازيه؛ فهي بصلابةِ منشأِها، واستقامةِ خُلقِها، وقوَّة فكرِها، جديرةٌ بأن تكونَ قدوةً لغيرِها، نساءً كنَّ أم رجالا؛ ودونكم كتابها، ولسانُ حالِها يقول: "فهاؤم اِقرأوا كتابيه"؛ فهي ليست من النَّائحاتِ أو مَن يلطُمنَ الخدودَ أو يشُقَّنَّ الجيوب. ففي عام 1998، تُوفيت والدتُها العافية موسى إبراهيم، فحزِنت عليها حُزناً عميقاً، إلَّا أنَّها قرَّرت - في جسارةٍ غيرِ مسبوقةٍ وسط نساءِ عصرِها - تجاوُزَ الحزنِ عليها بالكتابةِ عن قضايا المرأة السُّودانية والشُّروعِ في صياغةِ كتابِها الثَّاني: "المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة"؛ فنرجو أن تمتدَّ إليه يدُ البناتِ كلَّما فقدنا عزيزاً أو فارقنا رفيقَ عُمُرٍ أو صديق. وإن نَشَدنَ من بعدِ ذلكَ قدوةً من رجل، فهذا عينُ ما قام به البروفيسور التِّجاني الماحي؛ فحينما فقد ابنَه، امتدَّت يداه إلى "رسالة" أبي حامد الغزالي الموسومة "أيُّها الولدُ المحب"، فـ"العلمُ بلا عملٍ جنون، والعملُ بلا علمٍ لا يكون".

    سننتقلُ في الحلقةِ الثَّالثةِ والأخيرةِ من هذه المشاركاتِ الثَّلاث من "حرب المواردِ" إلى "حربِ الورود"، حينما نعالجُ اللُّغةَ المهيمنة في مسرحية: "من يخافُ فرجينيا وولف؟".

    محمد خلف

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 07-03-2017, 00:51 AM)

                  

07-03-2017, 00:56 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نوافذ مفتوحة ========= يحيي فضل الله ============= (Re: munswor almophtah)

    سننتقلُ في الحلقةِ الثَّالثةِ والأخيرةِ من هذه المشاركاتِ الثَّلاث من "حرب المواردِ" إلى "حربِ الورود"، حينما نعالجُ اللُّغةَ المهيمنة في مسرحية: "من يخافُ فرجينيا وولف؟".

    محمد خلف
                  


[رد على الموضوع] صفحة 4 „‰ 4:   <<  1 2 3 4  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de