|
Re: السجن الكبير - فصول من رواية (Re: emadblake)
|
5
انطلق قطار الغرب يحمل جثث موتى المجاعة، في رحلة ليلية. تم الترتيب للأمر على عجل وفي صمت. بما يشبه "فضيحة" ترحيل اليهود الفلاشا عبر مطار الخرطوم إلى إسرائيل. الاختلاف أن القطار كان يحمل موتى، في حين حملت شاحنات الموز القادمة من الشرق إلى العاصمة، أحياء، تم زجّهم تحت أكوام الموز. في واقعة الفلاشا، تمّ كشف الأمر عبر وسائل الإعلام الخارجية. فمحلياً لا توجد جرأة على القول، كما أن الصحافة في بلدان العالم الثالث متخلفة جداً. ففي السودان تصدر صحف يومية بالكيلو شأنها شأن الموز، لكنها صحف غير جديرة بالاحترام. ما يحترم منها – بحذر - الصحف الرياضية التي تتابع ترهات الوسط الرياضي. صراعاته التي لا تنتهي وأفقه الضيق. السودانيون فاشلون في كرة القدم مثلما هم فاشلون في السياسة. بعد تفكير وعندما ظهرت الرأسمالية الجديدة، في الألفية الثالثة، تم الاستعانة بلاعبين "أجانب" لتطوير الكرة. حدثت انتصارات. تأهل الفريق القومي لنهائيات الأمم الأفريقية.. السودان مؤسس للاتحاد الأفريقي لكرة القدم.. لكن شيئاً لم يتغير. في واقعة الفلاشا، كان العزاء أنه تم إنقاذ بشر، بنقلهم إلى دولة أكثر تحضراً. الذين قاموا بالفعل "الدنيء" وهم يخونون القومية العربية، والقضية الفلسطينية، لم يكونوا يفكرون أنهم يقومون بواجب إنساني. لعلهم لو أدركوا ذلك لما فعلوا. لكن الذي يفكر في المال، لا يرى شيئاً آخر، غيره، في العالم. فهو يغامر، يقتل، يضطهد، يبيع، يشتري، يفعل كل ما لم يمكن تصوره، وما لا يمكن تصوره، بهدف أن يجنى مطامع صغيرة، تافهة. ثمة صورتين من الجوع في المشهد. جوع أولئك الذين ماتوا في المجاعة، والفلاشا الذين كانوا سيموتون لو أنهم عاشوا في بلدان لا تحترم حقوق الإنسان، تحترف إهانة كرامتهم بحرفية تامة. الجوع الثاني، أناني، غبي، لأنه جوع لا حد له ولا ضمير إنساني يوقفه. في القطار كان إذن هناك جائعون، ما يزالون أحياء. هم الكتيبة السرية المكلفة بحمل الجثث والتخلص منها في صحراء العتمور، بعد أن يكون قطار الإكسبرس الليلي، قد تجاوز مدينة أبوحمد، أقصى نقطة في الشمال تصلها العربات الغير خاضعة للتفتيش والمحروسة بشكل مشدد غير مرئي. فالسرية هي ما يغلف المؤامرة في العالم. بعد هذه النقطة، سيدخل القطار في صحراء جرداء. لا حياة فيها. صحراء جائعة. ليتم إخراج الجثث المتعفنة وقذفها داخل حفر عميقة تم إعدادها سلفاً. كان القطار يتوقف في محطات، ويعبر بأخريات دون أن يتوقف. يتوقف ليتزود بالوقود. يراجع "السدنة" الماكينة العملاقة. تصدر الأوامر من قائد المؤامرة السرية في القطار:"كل شيء على ما يرام.. واصلوا الرحلة". يصفّر القطار، حتى ينذر البشر والدواب. ثمة قطار قادم. تراجعوا حتى لا تموتوا. يصفّر حتى لا يشك أحد في الخديعة. "رائحة القطارات عفنة"، يقول لنفسه سراً.. الآن يكاد يشتم الرائحة، قبل أن يرى الكمساري يقف أمامه بالتحديد، يسأله عن التذكرة. كانت معه تذكرة اشتراها قبل أن يصعد. كان قد وقف في الصف ووصل إلى الشباك الصغير. قدّم ما تبقى معه من نقود واستلم الورقة التي يبحث عنها الآن. لا يجدها. قال للكمساري: "كانت معي.. لكن يبدو أن أحدهم سرقها". نظر إليه الكمساري الطويل. الطويل جداً مثل نخلة تسلقها في طفولته في حوش بيتهم. نظراته مخيفة. كأنه واحد من كتيبة الرعب التي سافرت في قطار الغرب. قال له: "أنت كذاب.. إذا كان الواحد منكم شجاعاً بالصعود إلى القطار دون تذكرة، فعليه أن يتحمل تبعات ذلك". فهم ماذا يعني الرجل النخلة. فقد اعتبره في عداد المسافرين الهاربين من دفع ثمن الرحلة، في قطار كان من المفترض أن يدفع لمسافريه ثمن صبرهم على بطئه، عرباته المظلمة. تعثراته المتكررة. سائقه قليل الذوق. مراحيضه الغارقة بالبراز المتحجر. كان الذين يعتصرهم البول من الرجال يتبولون بجرأة عند الباب. يقف الواحد منهم، يعطي ظهره للركاب مرسلاً البول إلى الخلاء. يكون الهواء قوياً في الخارج. لكل فعل ردة فعل. يعود البول مجدداً في شكل قطرات مالحة، تستقبلُ باللعنات في وجوه الركاب المتكومين قريباً من الباب، جوار المرحاض، في ردهة لا تتجاوز مساحتها (متر x متر). يستقبل طفل رضيع في حضن أمه قطرة من تلك القطرات. يتذوقها. عمره شهران وأيام. يتذوق طعم الملح لأول مرة في حياته القصيرة. يراه لذيذاً. ينظر إلى الرجل الذي تبول واقفاً، بابتسامة مشرقة، تُفسّرها والدته على أنها مُوجهة لأحد الملائكة المتخفين في مكان ما في القطار.. لا يراهم غير طفلها.. الذي كان في الواقع، يبتسم متمنياً أن يعاود الرجل الكَرة مرة أخرى. أن يتبول. ثمة سيدة متقدمة السن، اعتصرها البول. لكنها امرأة.. كيف لها أن تتبول؟ وأين؟. لا سبيل إلى المرحاض، فالدخول إليه مغامرة لا تحمد عقباها. كانت عنيدة. قررت التجريب. التجريب فعل "حداثوي"، حتى لو قامت به عجوز تنتمي لجيل ما قبل الحداثة. انتهت المغامرة المرهقة بتلطيخ قديمها بما لا يمكن وصفه. لم يتابع ما جرى بعدها للسيدة، وهي تستعد لاستقبال الشتائم، وهي تطأ الناس بقدمين مقززتين. فقد سارع الكمساري لمناداة الشرطي الذي كان يقف وراءه تماماً، قائلاً: "خذه إلى (الكركون).. إنه هارب من القانون.. النظام". في تلك اللحظات، كان هناك العشرات ممن سافروا بلا تذاكر. ينتظرون دخول القطار المحطة القادمة، لينزلوا سراعاً من سطوح العربات التي كانت تسير باهتزاز شديد كأنها فوق بحر هائج. هؤلاء "الهاربون من القانون" - أيضا - عليهم أن يعجّلوا هروبهم، قبل أن تقبض الكلبشات على أياديهم المرتجفة.
|
|
|
|
|
|
|
|
|