يوميات الثورة السودانية - الجزء الثالث

Quote: خرائط التحرك الجماهيرى التى أطلقت شرارة الثورة هى تلك التى طلبتها دار الوثائق المصرية باعتبارها وثيقة تاريخية، واليوم بعد مرور عامين على انطلاق الثورة لا تزال جهود التأريخ والتوثيق لها ينقصها الكثير، لتتأكد مقولة أن «الثورات يكتب تاريخها المنتصرون». الشروق حصلت على الخرائط الأولية للتحرك إلى ميدان الثورة، ورصدت حكايات الخطوات الأولى مع أحد أهم المخططين لها، فى محاولة لتوثيق أيام الثورة. محمود سامى كان مسئول العمل الجماهيرى بحركة 6 أبريل قبل قيام الثورة، وصاحب فكرة انطلاق المسيرات من المناطق الشعبية لحشد الناس، وكذلك هو من قام برسم الخرائط التى توضح خطوط السير فى هذا اليوم، احتفظ بتلك الخرائط التى توثق التخطيطات الأولى لثورة غيرت حياة شعب. سامى الذى ابتعد عن الساحة بعد الثورة بسبب امضاءه فترة تجنيده، حكى عن مشاهداته وعن أناس شاركوه بداية الثورة، وخص الشروق بالخرائط التى ننفرد بنشرها لأول مرة. 15 يناير.. خطة كرة الثلج يمشى محمود فى ميدان التحرير مع خطيبته، يتحدث معها عن أمنياته، ثم يلتفت للميدان ويقول: «أتمنى أشوف المسيرات جاية من مداخل الميدان السبعة وتتجمع هنا عند الصينية و"تملا الميدان"»، ترد عليه هدير: «شايف الشجر اللى فى الصينية؟ لما يطرح الشجر ده مشمش». محمود سامى، خريج كلية التجارة، ومسئول الطلاب ثم مسئول العمل الجماهيرى بحركة 6 أبريل، كان يشعر باستمرار أن هناك خطأ فى أسلوب عمل النشطاء السياسيين. يتذكر محمود فترة عمله الطويلة فى الميكانيكا، فى مجال إصلاح المولدات الكهربائية وكباسات الهواء، سواء فى مسقط رأسه بأوسيم أو فى شركة بتروجيت، حيث كان يسافر إلى الصحراء ليقيم بشكل كامل مع العمال. لماذا لا يشاركنا هؤلاء العمال مظاهراتنا رغم أن هدفنا النهائى هو تحسين أوضاعهم؟ يتذكر محمود مشاركته فى 2008 فى تضامن حركة 6 أبريل مع أهالى الدويقة المعتصمين أمام مقر محافظة القاهرة، وكيف تم فض الاعتصام بكل قسوة، حتى إنه تم ضرب سيدات عجائز وجرهن من شعورهن. «يومها بكيت، وقررت إنى لازم أكمل الطريق ده لحد ما كل الناس تاخد حقها، والمشهد ده مايحصلش فى مصر تانى». فسر محمود ابتعاد عامة الشعب عن المشاركة بشعور الناس بابتعاد المطالب السياسية التى ترفعها المظاهرات المعتادة عن حياتهم، وكذلك خوفهم من التعرض للأذى. لاحظ الشاب ذلك بشكل لافت فى الفارق بين الاستجابة المحدودة للغاية لدعوة صفحة «أنا اسمى خالد سعيد»، التى كان محمود «الأدمن» بها، لوقفة احتجاجية أمام وزارة الداخلية، فلم يذهب تقريبا إلا النشطاء المعتادون، وبين الاستجابة الكبيرة التى كانت تلقاها دعوات الوقفات الصامتة السلمية التى كانت تنظمها صفحة «كلنا خالد سعيد». "كان وائل غنيم يعرف عن التسويق أفضل منى"، يقول محمود بينما يتذكر حواراته المستمرة مع مشرف صفحة «كلنا خالد سعيد» باستخدام برنامج «شات جيميل» على الموبايل؛ حيث إنه لا يخضع للرقابة، لكنه لم يكن يعرف شخص محدثه فى البداية، ثم بعدها لم يعرف هل هو وائل غنيم أم عبد الرحمن منصور من يحدثه فى كل مرة، فكلاهما يستخدم نفس إيميل الصفحة. اعترض مشرف خالد سعيد على صورة نشرها محمود، تصف الشرطة بأنهم كلاب النظام؛ لأنها صدامية مما قد يخيف الناس، بينما المستهدف الآن هو تشجيع فئة الشباب الذين لم يشاركوا فى أى نشاط بالشارع سابقا. خطة كرة الثلج اقترح عبدالرحمن منصور على رفيقه وائل غنيم يوم 25 يناير الدعوة لتظاهرات عامة غاضبة، مشيرا إلى أهمية استثمار رمزية اليوم الذى يمثل عيد الشرطة، وكذلك الحالة التى أشاعتها ثورة تونس، لكن عبد الرحمن لم يبق ليشاهد تحقق حلمه، فقد تم استدعاؤه للجيش الذى دخله فى 17 يناير، وهو ما أدى لتكتم من يعرفه عن أى ذكر له خوفًا من الإضرار به. كان محمود سامى هو همزة الوصل بين وائل غنيم وبين الشباب الناشطين الذين يتولون مهمة التنظيم على الأرض. تم الاجتماع التنسيقى الأول فى 15 يناير فى مقر حركة شباب من أجل العدالة والحرية، بالقرب من ميدان عبدالمنعم رياض، وحضره ممثلون عن حركة شباب من أجل العدالة والحرية، وهم: محمد عواد، ومصطفى شوقى، وخالد السيد، وياسر الهوارى، وكذلك ممثلون عن حركة شباب 6 ابريل، وهم: عمرو عز، وطارق الخولى، بينما لم يحضر أحمد ماهر لظروف سفره، وأيضًا حضر باسم كامل كممثل عن حملة دعم البرادعى، وكذلك حضر خالد عبد الحميد وعبد الرحمن فارس. وقف محمود أمام الحاضرين قائلا:"عايزين نخلى الناس تنضم لينا مش تنفر مننا، عايزين الناس تسقف معانا مش تسقف لينا". شرح لهم محمود فكرته التى سماها «كرة الثلج»، والتى تتلخص فى عدم الذهاب للتظاهر مباشرة، بل البدء بمسيرات من مناطق شعبية ذات كثافة سكانية عالية، وجذب الناس عبر الهتاف بهتافات بسيطة تتحدث عن مطالب معيشية قريبة منهم فقط. "كرة الثلج تكبر تدريجيا باستمرار خلال سيرها، وهذا ما تمنيت أن يحدث مع مسيراتنا، أن يزداد الناس مع كل خطوة نخطوها، وكل شارع نتجاوزه، وكل عمارة نمر بها، حتى نصل إلى كتلة لا يستطيع أى عدد من قوات الأمن أن يقف أمامها". شرح لهم محمود أن هذه الوسيلة ستقرب الناس منهم، وستكسر حاجز الخوف لأن من يرى الآلاف تحت شباك بيته يهتفون بمطالب يرغب فيها، سيسيطر عليه الحماس أكثر من الخوف. لاقى هذا الكلام قبولا عند جميع الحاضرين، خاصة أنه قد ظهر تشدد الأمن فى قمع التحركات المختلفة عن المألوف، فى مقابل التسامح النسبى مع الأنشطة المعتادة كالتظاهر عند نقابة الصحفيين. فى نفس اليوم قبل الاجتماع التقى محمود بأسماء محفوظ، وهو من قام بتصوير الفيديو الشهير الذى تدعو فيه الناس للنزول يوم 25. كانت أسماء تحمل لافتة مكتوبا عليها «لحد امتى هاتفضلوا ساكتين يا مصريين؟»، شاركها محمود مع محمد سوكا محاولة الحديث مع الناس فى التحرير، لكن سرعان ما أتى الضابط هشام العراقى واعتدى بالضرب على محمود ومحمد قائلا: «إيه اللى جابكوا هنا؟ روحوا نقابة الصحفيين". خالد السيد بدوره تعرض لموقف مشابه مع نفس الضابط، حين أوقفه أثناء مسيرة محدودة من شارع رمسيس للنائب للعام قائلا: «روحوا عند النائب العام جايين ليه هنا؟" وافق الحاضرون على الفكرة، واتفقوا مع محمود على أن يختار المكان المناسب ويطلعهم عليه. ذهب محمود مرتين لمعاينة المناطق الشعبية القريبة من التحرير، وعاد للمجتمعين بعدها بأيام حاملا ما اختاره: المسيرة الرئيسية من ناهيا إلى التحرير مرورا بشارع جامعة الدول. قام محمود بالاختيار على أساس معايير واضحة بعد تفكير طويل، مثلا منطقة الحيتية كثافتها السكانية ضعيفة، بينما أرض اللواء تبعد كثيرا عن شارع جامعة الدول، وهو بدوره شارع مثالى بسبب اتساعه، 5 متر لكل حارة، وكذلك احتوائه على مداخل ومخارج كثيرة تسمح بالاختباء. ذهب فى اليوم التالى مع خالد عبدالحميد وعمرو عز، ليعاينوا خط السير ميدانيا. أخبره خالد أنه متفائل، لأنهم قاموا عام 2006 بمظاهرة ضد الغلاء من تنظيم كمال أبو خليل من نفس المكان بالضبط وحققت تجاوبا كبيرا من المواطنين. اختاروا نقطة البدء من مسجد السنية فى ناهيا، واختبروا بأنفسهم الوقت الذى يستغرقه قطع المسافة. كرة الثلج بدأت فى الدوران. 24 يناير.. إعلان الاستقلال «غلى السكر غلى الزيت.. بكره نبيع عفش البيت» «غلى سولار غلى بنزين.. لما عيشتنا صبحت طين» «هما بياكلو حمام وفراخ.. وإحنا الفول دوخنا وداخ» كانت هذه بعض الهتافات التى اتفق عليها الحاضرون فى الاجتماع التنسيقى الأخير الذى عقد يوم 24 يناير فى مكتب زياد العليمى، وحضرته نفس المجموعة السابقة بالإضافة إلى زياد حملة البرادعى وسالى توما، وأحمد الجوهرى، وعبد الرحمن سمير، وأحمد دومة، وعمرو صلاح، وأحمد عيد. تم الاتفاق على أن الهتافات فى ناهيا ستكون اقتصادية فقط، ولن يتم رفع لافتات باسم أى حركات سياسية بل فقط باسم «شباب التغيير»، وكذلك لن يتم رفع أى علم إلا علم مصر فقط، أما بعد عبور كوبرى ناهيا ودخول شارع جامعة الدول سيكون الهتاف «ارحل.. ارحل». تذكر محمود عمله بإصلاح المولدات الكهربية، حيث يجب أن يوجد رابط اسمه «كوبلن» ينقل حركة الموتور إلى المولد لتنتج الكهرباء. قال للحاضرين إن النشطاء هم الموتور لكنه كان دائما يدور دون نتيجة لعدم وجود رابط مع المولد وهو الشعب، الآن وجدنا الرابط هو المطالب الاقتصادية والاجتماعية. فرش محمود أوراق الخرائط التى رسمها على الأرض، وأخذ يشرح خطوط السير تفصيليا. اتفق الحاضرون على أن الخطة (أ) هى الوصول إلى ميدان التحرير، والخطة (ب) فى حال قلة الأعداد ونقص تجاوب الناس هى الاعتصام عند مسجد مصطفى محمود. لم يخطر ببال محمود أن هذه الخرائط البدائية ستصبح فى مقام الوثيقة التاريخية، حتى إن خالد عبد الحميد كلمه أثناء قضائه فترة التجنيد ناقلا له طلب دار الوثائق القومية لهذه الخرائط، إلا أنه لم يجدها حينها. كانت أصعب مرحلة هى انطلاق المسيرة، وجمع عدد كبير من الناس، قبل أن يحكم الأمن حصاره، لذلك تم الاتفاق على خطة للتمويه، حيث أصبح المكان المعلن للمسيرة هو مسجد مصطفى محمود الساعة 2، وكانت المجموعة التى هناك تحت مسئولية باسم كامل. قال باسم لمحمود مازحا «يعنى هاتخلونا إحنا الضحايا؟» فضحك كل الحاضرين. لم يكن يعرف مكان الانطلاق الحقيقى من ناهيا، وموعده 12 ظهرا، إلا مجموعة صغيرة لا تزيد على 10 أشخاص ومعهم رءوس بعض المجموعات، وكل مجموعة 15 شابا، أما أعضاء المجموعات فقد تم إبلاغهم أن شارع ناهيا هو مجرد مكان للاختباء قبل الذهاب للمسيرات فى مصطفى محمود. تم الاتفاق أيضا على تكثيف توزيع المنشورات التى تدعو ليوم 25 يناير فى المناطق الشعبية القريبة من شارع جامعة الدول. بعد الاجتماع ذهب محمود مع رفيقه وليد شوقى للمبيت فى 6 أكتوبر، خوفا من اعتقالهما من المنزل. أمسك وليد احدى الخرائط وكتب عليها بالانجليزية «إعلان الاستقلال» The declaration of independence. 25 يناير.. دوران المولد بدأ النشطاء المنظمون للمسيرة فى التجمع أمام مسجد السنية، وفى تمام الواحدة ظهرا بدأت الهتافات، وبدأ انضمام الناس. المسيرة تكبر مع كل خطوة فى شارع ناهيا. حاول الأمن عمل كردون لكن المسيرة اخترقته بسهولة لقلة عدد العساكر، بسبب عدم توقع مكان المظاهرة. «كنا نحن الذين تعودنا على مظاهرات الخمسين أو المائة فرد نشعر بقوة هائلة وأمل بلا حدود، فكرت أنه إذا كان عددنا نحو 5 آلاف فى مسيرة شارع ناهيا فقط، فكيف سيكون عددنا فى التحرير؟». لتشتيت الأمن كانت المسيرة تمشى فى شارع ناهيا مع اتجاه السيارات، لذلك وقفت قوات الأمن بانتظارهم، لكن قبل الكوبرى بخطوات قليلة وقبل الوصول للكردون فاجأ منظمو المسيرة قوات الأمن بانتقالهم إلى الجانب الآخر وصعود الكوبرى، وهناك تم تسريع السير خوفا من انتظار قوات أخرى آخر الكوبرى، وبمجرد تجاوز نهاية الكوبرى بدأ الهتاف «ارحل.. ارحل». المسيرة تعبر شارع جامعة الدول، ثم تصل إلى مسجد مصطفى محمود حيث مجموعة التمويه تحت حصار خانق من الأمن لكن الكردون تراجع بعد وصول المسيرة الهائلة. احتضن محمود صديقه عمرو صلاح وقال وهو يبكى «خلاص يا عمرو، دى بداية النهاية». كان المخطط هو صعود كوبرى أكتوبر والوصول منه للتحرير، لكن بعد مناقشات خلال المسيرة، تم الاتفاق على الاستكمال إلى ميدان الدقى، ثم شارع التحرير، ثم كوبرى الجلاء. «كانت كل كردونات الأمن، فى شارع التحرير ثم أمام كوبرى الجلاء لا يمكنها الوقوف أمام اندفاعنا». أمام الكوبرى شاهد محمود امرأة مسنة بسيطة تبكى وتدعو لهم «ربنا يحميكم.. ربنا ينصركم»، فبكى مع رفيقه أحمد عبدالعزيز. حدثت ما يسميها محمود المعركة الفاصلة على مدخل ميدان التحرير، حيث قام الأمن بعمل كردونات من 5 صفوف عساكر أو أكثر، لكن الحشود الغاضبة تمكنت من اختراقها، ودخول الميدان مما أدى لاستخدام الأمن لقنابل الغاز المسيلة للدموع، وكذلك محاولة تفريق الناس برشهم بالمياه من عربة مطافئ، إلا أن أحد الشباب صعد فوق السيارة بشجاعة وأغلق الباشبورى. ذهب محمود إلى شارع قصر العينى، حيث كانت تحدث اشتباكات فوجد أحمد ماهر، احتضنه بفرح، ثم تشاركا إلقاء الطوب على قوات الامن. فى المساء بعد هدوء الاشتباكات كان النشطاء يطوفون الميدان مع هتاف «اعتصام اعتصام حتى يرحل النظام»، وكانت مجموعات الألتراس بالقرب من مدخل شارع محمد محمود هم أول من هتف «الشعب يريد إسقاط النظام» مع إشعالهم الشماريخ مما زاد من حماس الناس. يقول محمود إن هذا المشهد حفر فى ذاكرته، واستدعاه بعدها حين سألته المذيعة منى الشاذلى، بعد استضافته فى حلقة مع وائل غنيم بعد الثورة مباشرة، عن احتمالية عودته للميدان، فقال لها إنه سيعود مادام النظام أى أسلوب الحكم وانحيازاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لم يتغير، بغض النظر عن تغير أى أشخاص على قمته. أتى إنذار من قوات الأمن عبر محمد القصاص أحد شباب الإخوان حينها، وعضو الهيئة العليا لحزب التيار المصرى حاليا، بأن عليهم إخلاء الميدان قبل 11 مساء. اجتمع المنظمون واختلفوا بين من يرى الانسحاب كى لا يخيف تعامل الأمن العنيف المتوقع مع من نزلوا للمرة الأولى، وبين من يرى البقاء كى لا يحبط الناس من عبثية انتهاء المظاهرة دون هدف. قال لهم كمال أبوعيطة «لا تكرروا خطأنا حين احتللنا الميدان فى 2004 أيام غزو العراق ثم تركناه». لذلك قرروا البقاء. فكر محمود فى أن قرار توجيه الناس قد خرج من أيدى المجموعة المنظمة بالفعل، والناس يتحركون تلقائيا، دون انتظار لقرار أحد بالبقاء أو الانسحاب، ومن الواضح أن الناس قد قرروا البقاء. قام الشباب بتشكيل لجان إعاشة سريعة لجمع ما تيسر من أموال من الموجودين بالميدان، ليمكن شراء أطعمة وبطاطين. قام الأمن بمنع دخول الأطعمة، لكن تمكن المعتصمون من إدخال البطاطين من مدخل عبدالمنعم رياض تحت حماية كثرة أعداد المتظاهرين. التقى محمود خطيبته هدير، عند صينية الميدان، وأشار إلى مشهد الحشود أمامه، وقال لها: «شايفة؟ أهو شجر المشمش وراكى». فى تمام الساعة 11 ونصف حدث هجوم هائل من الأمن على الميدان. قنابل الغاز تم اطلاقها من كل المداخل إلا مدخل عبدالمنعم رياض الذى تم تركه ليهرب الناس منه. شاهد محمود أول شرارة لانطلاق العنف حين بدأ بعض الشباب الهاربين يشتم من هتفوا «سلمية». قال أحدهم «بتقولوا سلمية يا ولاد....؟ أهم غدروا بينا». أمسكوا سيارة شرطة عند فندق هيلتون، هرب الضابط سائقها، وقام محمود بحماية اثنين من العساكر كانا فيها من غضب الناس وتركوهما ينصرفان. قام الشباب بقلب السيارة وإشعال النار فيها. استمر الشباب فى مسيرة فى شوارع بولاق أبوالعلا، حتى وصلوا الساعة الثالثة فجرا فى شارع خلوصى بشبرا، بعد هجوم قوات الأمن عليهم بالغاز المسيل، وبعد أن خارت قواهم من يوم طويل وشاق. عقدت حركة 6 أبريل اجتماعا يوم 26 يناير، فى المركز المصرى للحقوق الشخصية والاجتماعية، الذى يديره خالد على، واتفق الحاضرون على عدم المشاركة حتى يوم 28 يناير. قال لهم محمود «دورنا هيكون يوم 28 لما كل مجموعة مننا تقود مسيرة، حافظوا على نفسكم دلوقتى»، ولكن لم يلتزم أحد بالقرار تقريبا، بمن فيهم محمود نفسه الذى تم إلقاء القبض عليه بعد مشاركته فى مسيرة بمجرد نزوله من الاجتماع. «أدركت أن المظاهرات والمسيرات تنشأ تلقائيا من مجموعات صغيرة فى كل مكان، لا يوجد أى جهة فى مصر لا الأمن ولا النشطاء يمكنه السيطرة على الحركة أو توجيهها، فرحت بأنى أشاهد بعينى حركة الشعب أخيرا». قبل القبض على محمود اتصلت به خطيبته وأخبرته بخوفها من أفعال الشباب الذين يشعلون إطارات السيارات، ويلقون الحجارة والزجاجات. قال لها «فيه حاجتين محدش يقدر يوقفهم لو بدأوا.. الحب والثورة». الإخوان شاركوا كأفراد لا كجماعة «شباب الإخوان الذين شاركونا فى أول يوم، هم الذين تم فصلهم من الجماعة بعدها»، يقول محمود وهو يضحك. كان خالد السيد هو همزة الوصل بين شباب الحركات السياسية المنظمين لليوم وبين شباب الإخوان، وقد وعدوا بالمشاركة بشكل شخصى بخمسين فردا، ودفعوا 500 جنيه نصيبهم فى المشاركة من ميزانية اليوم وهو نفس المبلغ الذى دفعته بقيه الحركات. تحديدا كان شباب الإخوان الذين شاركوا منذ البداية هم محمد القصاص وإسلام لطفى ومحمد عباس وأحمد النزيلى، ورفاقهم الذين تم فصلهم من الجماعة فيما بعد بسبب تكوينهم حزب التيار المصرى. «عندما يسألنى أحد عن مشاركة الإخوان، أول ما أتذكره هو مظاهرة شاركت فيها فى 2008 أمام نقابة الصحفيين، كان فيها الإخوان يشيرون لبعضهم بعدم الترديد بمجرد أن يهتف كمال خليل ضد حسنى مبارك بالاسم، أو يقومون بالشوشرة على هتافنا ضد مبارك بالتكبير» يقول محمود. يحكى محمود عن مشاركته السابقة فى أنشطة الإخوان فى بلده أوسيم، وعن الاحباط الذى أصابه حين ذهبوا إبان انتخابات 2005 لتنظيم مظاهرة احتجاجية على تزوير نتائج دارة الدقى لصالح آمال عثمان مرشحة الوطنى ضد مرشح الإخوان حينها حازم أبواسماعيل، لكن بمجرد وصولهم ورؤيتهم لقوات الأمن المنتظرة أبلغه مسئوله بإلغاء المظاهرة والانصراف بهدوء. «لم أفهم هذا الموقف، كيف نرفع شعار الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا ثم نخاف من الأمن؟ أكثر ما استفدته من الإخوان هو أنى تعلمت منهم غض البصر لا الثورة». يشير محمود إلى أن المشاركة الرسمية عند الإخوان تعنى وجود أمر تكليف مسبق من المسئول، وهو ما لم يحدث يوم 25، بل تركت الجماعة الحرية لأفرادها ليختاروا لأنفسهم ما يشاءون، لذلك من أتوا كانوا يمثلون أنفسهم كأفراد فقط.