الأستاذ محمود محمد طه: هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب

Quote: أرى في هذه القطعة الأدبية ، من [ الأمشاج ]، قصة المشوار الطويل ، الذي قضاه في البحث عن ( السيد الجميل ) منذ آماد سحيقة ، وهو يتقلب في الصور ، في عدد من التجسدات على هذه الأرض . فهو يقترب منه حينا ، ثم يبتعد عنه . (وعرض عليّ صورا من عمري الأول ) . فهو رفيق له في وقت ما : (ثم آخيته في دورة أخرى ) ــ أي يعني دورة تجسيد ــ ( ثم تقطعت بنا السبل سنينا ) . وفي هذه المدد التي انقطع فيها عنه ، عاش حياة الرقيق ، في ممالك ومدن أخرى . وهو يعلم يقينا أن البائع والمشتري هما ( سيده ) . ولما اشتراه سيده أخيرا ، وأعتقه ، اختار أن يكون رقيقا لسيده ، فيخدمه ليقيم معه الإقامة الأبدية . هذه الشخصية ، التي تبحث عن سيدها ، إنما هي أحمد العلوي ، الذي غطى عليه أحمد الفنان صاحب مدرسة الواحد ، وهي التي تمد الفنان بمددها ، ثم هي تتسرب من خلال تلك الكلمات الضبابية ، لتظهر نفسها في ذلك الثوب البديع . هذه الشخصية العليا ، هي ما أشارت إليه كلمة أبي إليه عند حضور أحمد الفنان ، لمجتمعنا [ دا ، لو سَــلـَك ْ ، منو البــِـلـْحقو ] .. وهذا القول يبطن شيئا [ لو ] ، وهو في نفس الوقت بشارة ، بما هو آت ٍ . ذلك ، لأن في داخله يتربع شخص له مقام كبير . وهي أيضا تعني أن عليه أن يبذل جهدا كبيرا ، ليزيل غلاف الشخصيات الكثيرة التي تقف بينه وبين ذلك الشخص العلوي . لأنه في آخر تجسيد له ، ذهب له في قميص القنان ، وأهداه صورة الوعل ، فعرفه (السيد الجميل) من أول لحظة ، وعرف مظهر القميص ، وعرف من يختفي من داخل القميص فقال قولته : [ دا لو سلك ، ] وهو يعني قميص الفنان ، [ منو البلحقو] وهي إشارة إلى الذي يقف من خلف القميص الجسدي المادي . هذا الفنان لم يجلس كثيرا ، (لكن يا شيخي ، وا أسفاه ، لم يتعرف عليّ . ) ، ذلك لأنه كان يلبس إهابا يغطيه ، (فأدناني ، ) وذلك في ذلك اللقاء الأول . (ثم أبعدني ) ، طيلة هذه السنوات ، (ثم أدناني ، وها أنا أجد نفسي المفقودة لألاء الجمال بلا مستقر ) . وعندها قال له : [ كيف عرفت الطريق إلينا ، وقد نأينا عنك قرونا من بعد قرون ] . وهذا جمع الشمل للسنوات الضائعة في حيوا ته السابقة ، وفي حياته الحالية . وهو في أثناء هذا الضياع الطويل ، كان يهتدي بشيخه ، حيث طلب منه شيخه أن يعبر النهر ليصل إلى المدينة ، التي ماجت بالغرباء بعده ، وبنوا مساكنهم وأسواقهم في كل الطرقات . وقبل أن يعبر النهر عليه أن ( ثم ضيع نفسك في الزحام ) . وهذه هي أم القضية . عليه أن ينسى نفسه ، التي وقفت بينه وبين الجلوس مع السيد الجميل ، في وقت من الأوقات . ولكن البشرى له : ( يناديني باسمي القديم : اقترب ، وأعطني يدك ، لن تفتقدني بعد هذه الليلة ، ولك الأمان ) .