وفاة الحاج مدبولي صاحب اكبر دار نشر في المنطقة العربية

Quote: مدبولي «وراق مصر» بدأ بائعا متجولا للصحف الأجنبية ثم تحول إلى صاحب الكشك الأشهر وعلامة أساسية للباحثين عن الكتب في القاهرة الجمعـة 14 ذو الحجـة 1429 هـ 12 ديسمبر 2008 العدد 10972 جريدة الشرق الاوسط الصفحة: حصاد الأسبوع الرياض: مشاري الذايدي لا زلت أتذكر الحاج محمد مدبولي بوجهه المعروق، وملامحه المصرية، ملامح المعلمين، وأنا اجري معه حوارا كان من أمتع الحوارات التي أجريتها. كان ذلك في اكتوبر (تشرين الاول) 2003. ما زلت أتذكره وهو يشرب شايا ثقيلا من نوع الشاي الحبر الذي يفضله الكثير من المصريين، خصوصا ولاد البلد. جلسنا سويا ومعنا الزميل والصديق تركي الدخيل الذي أخذ كاميرته وبحسّ مصور محترف، التقط مجموعة من الصور، نشر بعضها مع الحوار. كل شيء في الحاج مدبولي كان لافتا للنظر. بداية من زيه وجلابيته وتحتها السديري، مرورا بكيفية التهامه للسجائر واحدة تلو الأخرى، وطريقة مراقبته للزبائن والصبيان الذين يحفون بزبائنه الذين يتكاثرون في المواسم السياحية، خصوصا من الخليج، ونهاية بحالة الفصال التي تتم أثناء نقد ثمن الكتب، وفي الغالب يخرج الحاج مدبولي منتصرا، مع ابتسامة ودودة للزبون وهو يهم بالخروج من مكتبته الشهيرة في ميدان طلعت حرب وسط القاهرة. الحاج مدبولي علامة من علامات القاهرة. لا تتم أي زيارة معتبرة لمصر دون المرور بمكتبته الشهيرة وتحميل بعض الكتب التي يحسن تسويقها وعرض العناوين الجريئة منها قبل غيرها. ويكفي للبرهنة على ذلك رواية عمارة يعقوبيان التي عرفت شهرتها الأولى انطلاقا من أرفف مكتبة مدبولي. قيل عن الرجل الكثير بعد وفاته، قبل بضعة أيام، مدحا وانتقادا. قال البعض إنه أمي ثقافيا، وإنه يبيع الكتب كما يبيع الفاكهاني بضاعته، أي انه لا يقرأ مضامين الكتب التي يبيعها. وقيل إنه كان يعتمد في تسويق كتبه على انعدام ثقافة الملكية الفكرية وحقوق الاحتكار، وانه لم يكن كثير الحساسية تجاه فكرة الملكية الفكرية. وقيل انه يبيع العناوين الفاقعة والمثيرة التي لا تحمل قيمة علمية أو رصانة بحثية معتبرة، كتب من نوعية أن صدام حسين لم يقتل حقيقة بل قتل شبيه له. أو كتب الإثارة السياسية للخليجيين، وهي كثيرة ومختلفة القيمة الفكرية. الحق أن مدبولي، الناشر الصعيدي الوحيد في مصر، كما قال هو نفسه بفخر في الحوار السابق، لم يدّع يوما الثقافة المميزة أو الإنتاج الفكري، أو أنه التهم الكتب التي كان ينشرها. إنه ببساطة بياع كتب وحسب. كان الرجل يمثل مهنة الوراق أفضل تمثيل. تلك المهنة التي عرفت مجدها في ذروة الانتاج ايام العباسيين وقامت سوق وصناعة كاملة للوراقين تحدث عنها الجاحظ وغيره. لم يكن مطلوبا من الوراق أن يكون منتج أفكار أو ناقدا، هو صاحب صنعة يعرف الكتاب الذي يروج ويحدث أثرا ويقبل عليه الزبائن، ويعرف الكتاب الذي سيعلوه الغبار ولن يقرأه إلا مؤلفه وربما بضعة اصدقاء للمؤلف، من باب المجاملة أحيانا. الوراق مدبولي، كان صديق المثقفين من كل الاتجاهات، لم يكن صاحب مشروع فكري أو سياسي أو اجتماعي. إنه الوراق القديم في صيغة جديدة. صفات الوراق الحديث في العالم العربي صفات واضحة لمن يدقق فيها. فهو متابع نشط لما يخرج من المطابع، وعارف حذق باهتمامات القراء المتحولة من حين لآخر. فإذا كانت الأزمة سياسية تتعلق بالعراق يقدم على الرف كتبا تتناول تاريخ العراق وصراعاته، حتى ولو كانت قديمة مثل كتب المفكر العراقي علي الوردي او هادي العلوي او حنا بطاطو. وإذا كان الحديث عاليا عن الإسلام السياسي والجماعات الإسلامية، رأيت كتب فرج فودة وسعيد العشماوي ورفعت السعيد واحمد البغدادي وغيرهم تتقدم الرفوف. وإذا كانت أزمة سياسية في الخليج بين السعودية وإيران او العراق، أيام صدام حسين، تجد الكتب التي تتناول تاريخ الخليج والسعودية والبعث والبترول أيضا تتقدم كثيرا. ويعتمد هذا الوراق الصعيدي على الكتب القديمة بعدما يعيد تلميعها وترويقها للزبائن، أو يعمد إلى التقاط كتب جديدة لمؤلفين جدد حول موضوع الساعة، وغالبها من الكتب ذات الصلاحية المؤقتة للقراءة، أي أنها تقرأ أثناء سخونة الحديث ثم تفقد قيمتها مع الوقت أو ربما بعد أول قراءة. الوراق في العالم العربي يتصف بحس الدعابة، وبمسحة شعبية واندماجية مع عالم المثقفين اليساريين، وبعلاقات حميمية مع بعض أولي الأمر ممن يملكون تسهيل تجارة الوراق أو تعطيلها. لذلك نجد الوراق يمسك بالعصا من منتصفها بين المثقفين المعارضين وبين أصحاب السلطة، لكنه يعطي أصحابه المثقفين جوهم من التأييد والانحياز، ويعطي المسؤولين جوهم من خلال تنمية حس التقدير الذاتي لثقافتهم وحرصهم على حرية النشر. وفي النهاية فهو يفعل ذلك من أجل ضمان المرور بين مقص المؤلف والرقيب حتى ينفذ من بين نصلي المقص إلى زبونه، هدفه النهائي. الأمر لم يقتصر على شطارة الوراق المصري المثالي، الحاج مدبولي. فالرجل له نظائر أخرى، وأشهرهم العم حسن ابو علي في الأردن الذي يتربع بكشكه الشهير في شارع السلط وسط عمان العاصمة، واضعا كرسيا دائما لضيوف كشكه. هؤلاء الزوار الذين يتنوعون من الشاعر العراقي الحداثي عبد الوهاب البياتي، إلى شاعر الجدارية محمود درويش، الى بعض كبار الوزراء ورؤساء الوزارة في الأردن، الى ثلة من متمردي و صعاليك الصحافة الأردنية، وصعاليك هنا تعني المعنى العربي القديم لها، أي الخارجين على سلطة العشيرة الثقافية والسياسية. وفي السعودية يعرف كثير من المثقفين في الرياض أشهر وراقيها، وهو الأستاذ ابو وائل اليحيى صاحب مكتبة التراثية التي أصبح اسمها الكتاب، يعرفونه ببساطته ولطفه وشطارته الشهيرة في الدلالة على العناوين المهمة للقارئ السعودي، للدرجة التي أصبح معها أبو وائل مغنيا للقارئ السعودي المثقف من سكان العاصمة عن البحث عن ضالته في مكتبات القاهرة وبيروت والبحرين. عميد هؤلاء الوراقين بلا ريب هو الحاج مدبولي، سنا وتجربة وانتشارا وشهرة. وبالنظر الى عدد قضاياه إشكالية التي دخل فيها مع سلطات الرقابة أو مع شرائح سياسية وقوى اجتماعية كانت تسخط عليه إما بسبب نشره لكتاب لا يروق لها. لم يكن غريبا أن تجد في ممرات مكتبة مدبولي الضيقة أنواعا مختلفة من الزبائن العرب والمصريين، من طلاب وطالبات الجامعة الذين يبحثون عن عنوان ما في دراستهم أو سياسي عربي شهير أو فنان أو إعلامي أو رجل أعمال حتى، مع أن الفئة الأخيرة لا تفضل قضاء وقتها كثيرا بين أرفف الكتب. هل يعتبر الحاج مدبولي نموذجا مثاليا لصناعة النشر في العالم العربي؟ كثيرون من المحترفين لا يردون بالإيجاب، ويرون في نموذج مدبولي نموذجا للشطارة والبراعة في التسويق، في ظل غياب قوانين ملكية فكرية صارمة، وفي ظل غياب ثقافة الكتاب والنشر. غير أن آخرين يرون مزية لمدبولي في هذه البراعة، فهو بالفعل نجح في تحويل الكتاب إلى خبز للناس كما نجح نزار قباني، أحد أصدقاء الحاج، في تحويل شعره إلى خبز للناس. حينما سألته عن الكتب التي يفضل قراءتها شخصيا، قال لي انه يميل إلى الكتب التي تتحدث عن علم الإدارة والمهارات الإدارية، وكذلك الكتب الدينية الكلاسيكية، فـ «الإنسان ليس له إلا ربه» كما قال لي بحس التدين المصري التلقائي. غير أن هذا الحس البسيط يخفي خلفه رجلا شاطرا في تدبير صنعته، ويعتمد كثيرا على حسه وإلهامه في نشر وطباعة وبيع العناوين التي يرى أنها مثيرة وجذابة. قال لي حين سألته عن معاييره في النشر، وهل يميل إلى طرح فكري ضد طرح فكري آخر، وهل ينعكس هذا الميل على اختياراته في الكتب التي يقرر طبعها ونشرها، أجابني بأن مبدأه في النشر هو «المائدة للجميع والعقل هو الذي يفرز». وقال: من هذا المنطلق طبعت كتبا لنصر حامد ابو زيد وكتبا لعبد الله القصيمي مع أنني رجل مؤمن أشد الإيمان. وأخبرني بأن لديه لجنة للنشر، تجتمع من شهر 4 إلى شهر 6 من كل سنة وتستعرض الكتب التي قدمت للمكتبة ثم ترفع توصياتها في تقرير. لكن الحاج مدبولي لا يقبل كل توصيات هذه اللجنة ويحصل أحيانا أن يخالف تقرير اللجنة ويقرر طباعة ونشر كتاب معين على خلاف توصياتها، كما حصل مع كتب نصر أبو زيد «نقد الخطاب الديني» و«الإمام الشافعي». هذا الوراق الصعيدي الذكي والودود لم يجعل دماثته تحول بينه وبين ارتياد الخط الأحمر للدرجة التي أدخلته في قضايا ومحاكم، وكان يتحدث بحبور و شيطنة جميلة عن أن عدد القضايا التي ُرفعت عليه في محاكم أمن الدولة 24 قضية. وحين سألته: وكيف تخلصت منها؟ أجاب بابتسامة من يتلذذ بمخادعة الرقيب، وبلهجة عامية: لا ما خلاص، صرنا حبايب وأهل. الغريب في أمر هذا الرجل البسيط المظهر، هو شبكة علاقته الواسعة منذ أن استقل بكشكه الشهير عن والده، متعهد بيع المجلات والصحف الأجنبية للجاليات المقيمة في مصر منذ الأربعينات. فمدبولي كان صبيا صغيرا مع أخيه يسرحون في بضاعة أبيهم من المجلات والمطبوعات بكثير من اللغات الأجنبية لبيعها على الأجانب. لكنه وبحس استشرافي مبكر، رأى أن يستقل سنة 1951 قبل ثورة الضباط الأحرار بسنة، بكشكه الخاص وقال انه فكر مع أخيه بأنه يجب أن نستقل وننشئ عملنا الخاص وكان عمري حينها 8 سنوات». غير أن هناك حدثا سياسيا كبيرا حرف اهتمامات مدبولي عن المجلات والصحف الى الكتب. ففي سنة 1956 حصلت الحرب الشهيرة من قبل فرنسا وبريطانيا وإسرائيل ضد مصر (العدوان الثلاثي)، مما تسبب في هجرة الكثير من الأجانب، الأمر الذي انعكس بالكساد على عمل مدبولي وشقيقه. لكن هذا التغير لم يحبط عزيمته فقرر تحويل الاهتمام إلى الكتب. يقول مدبولي: «لاحظت ان هناك اهتمامات شبابية بما يأتي من الغرب من موضات فكرية وثقافية، وكانت الموضة حينها للوجودية فكلفنا من يترجم أعمال سارتر وكامو ومسرح العبث واللامعقول، انسجاما مع متطلبات السوق القرائي وحققنا نجاحا جيدا في هذا المجال الجديد، لقد كانت فترة الخمسينات فترة فورة قرائية وشرائية للكتاب لدرجة أننا كنا نبيع 500 نسخة أحيانا من الكتاب الواحد». ورغم بساطة تعليم الحاج مدبولي إلا انه كان ناجحا في تسويق بضاعته الأجنبية، وقال حينما سألته مستغربا عن هذا:«اسمع، أنا لم أدخل المدارس النظامية نهائيا. ولكن علّمتُ نفسي بنفسي وقررت أنه يجب علي تعلم اللغات التي احتاجها في مجال عملي، وهذا ما حصل بالضبط وبدأت مسيرتي في تعلم اللغات الأجنبية التي احتاجها بعد ثورة يوليو بسنتين. وما زلت أتعلم» وفعلا ظل يتعلم إلى أن وافته المنية قبل أيام... كأي انسان متابع، للحاج مدبولي انطباعاته السياسية وخياراته المفضلة في السياسة. فهو يحب جمال عبد الناصر ويكره أنور السادات، بسبب السياسة أولا، ثم بسبب أن السادات هو من أغلق كشكه، رغم أنه كان يمر بكشكه بشكل شبه يومي. فيوم كان الرئيس السادات رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية، أغلق السادات كشك مدبولي بسبب بيعه لقصائد الشاعر الشعبي المشاغب احمد فؤاد نجم. قائمة أصدقاء الحاج مدبولي كثيرة، لكنه كان يتذكر دوما المفكر السعودي الراحل عبد الله القصيمي، ونشأت بينهم علاقة صداقة حقيقية كما قال، رغم أن الحاج مدبولي لا يحب كتب القصيمي ولا يرغب في أفكاره. فالحاج مدبولي في نهاية الأمر رجل مؤمن كما يصف نفسه، ولم يكن يجد تناقضا في تكوين صداقة مع مفكر مثل القصيمي، مع كراهيته لأفكاره، وفي نفس الوقت بيعه لكتب القصيمي، الرجل المتمرد. فمدبولي يعتقد أن بيع الكتب أكل عيش وتجارة، لا علاقة له بما في طياتها من أفكار، والزبون حر في اقتناء ما يشاء. ومع ذلك، فإن الحاج مدبولي ليس متسامحا تماما. فهو رفض نشر كتاب للمفكر المصري الليبرالي فؤاد زكريا لأنه أساء لجمال عبد الناصر كما قال الحاج. لكنه يؤكد انه ليس ضد الساداتيين على طول الخط، فهو، مثلا، ليست لديه مشكلة مع كتب مفكر ساداتي صريح مثل علي سالم، كما وصفه مدبولي. من أظرف الأشياء التي تذكرها الحاج مدبولي، هي ارتياد صدام حسين لكشكه حينما كان في القاهرة في فترة الهرب الى مصر (من 1959 بعد محاولة اغتيال فاشلة للرئيس العراقي عبد الكريم قاسم شارك صدام فيها لحساب حزب البعث، على إثرها هرب صدام إلى سورية فمصر وعاد إلى العراق سنة 1963). وقال عنه الحاج إنه كان يمر عليه ويسأله عن الكتب الجديدة، وكان يركز على الكتب السياسية، والحقيقة أنه لم يكن يلفت نظر الحاج مدبولي حينها، ولم يلاحظ عليه أي شيء مميز. فكان يتعامل معه مثل مئات الزبائن الآخرين. يمر بذاكرة مدبولي الكثير من الزبائن الأصدقاء، مثل الروائي الكبير نجيب محفوظ الذي كان يمر عليه في كشكه قبل أن يتحول إلى مكتبة في نفس المكان. يمر عليه كل صباح بعد أن يشرب قهوته في مقهى «ريش» الشهير في سليمان باشا. وكان نجيب محفوظ يسأله عن جديد الكتب، هذا قبل أن يتحول محل تجمع المثقفين إلى مقهى «اتيليه». هذا هو الحاج محمد مدبولي، وراق مصر، وناشرها الصعيدي الأشهر، الذي حول الكتاب إلى رغيف عيش للجميع، دون اخذ تذكرة مرور من وزارة الثقافة أو تجمعات وأحزاب المثقفين. لكنه كان من أكثر من خدمهم، ووضعهم قيد النقاش العام. كان حفيدا بارا للوراقين العرب الأوائل، ورجلا مناسبا للمرحلة العربية، في ساحته، ساحة صناعة الكتاب ونشره. فمهما قيل فيه مدحا أو قدحا، فإنما يقال للمرحلة الثقافية برمتها.