|
القصة الثانية والأخيرة .
|
حاولت في عقد الثمانيات من القرن المنصرم كتابة القصة القصيرة . كتبت قصة أولى نشرها الأستاذ مجذوب العيدروس بعنوان ( غثيان) في ملحق جريدة (الهدف) الذي كان يشرف عليه آنذاك . ثم كتبت الثانية ونشرتها في جريدة التلغراف التي كان يرأس تحريرها الصحفي الراحل صالح عرابي وكنت أشرف على الصفحة الثقافية فيها . اذكر إنني سالت أحد الأصدقاء من الكتاب والنقاد حينها عن مستوى هذه القصة الأخيرة ، فلم يشجعني رأيه على كتابة المزيد من القصص . فكانت تلك القصة هي الثانية والأخيرة التي أتجرأ على كتابتها . ولكني اتجرا الآن على إعادة نشرها هنا .
نمــــــــــــــــــوذج
المحطة مكتظة بالوجوه الكالحة كالمعتاد .. الجباه مقطّبة بفعل الشمس الساقطة علي الوجوه منذ آلاف السنين , لمحات الضنى وتعب الحياة اليومية احتلت تفاصيل الأجساد المسلولة كخيوط مهترئة . سكون تحس أن ما بعده حركة يخيم علي الجميع , يكسره صوت ( البص ) القادم , يهرول الجميع تجاهه . صاحب ( البص ) يصر علي تذوق طعم لذة السلطة وإعلاء الذات , يبطئ .. يبطئ الجميع حوله , يسرع ثم يبطئ ثانية لتبدأ معركة من المعارك اليومية في بوابة ( البص ) , تتفرع منها معارك صغرى .. تعلو الأصوات .. أمراه تتوعد وتسب وتتحسر علي زمن المروءة الذي مضى . النازل الأخير كان نصيبه أكبر في المعركة ولم يبلِ بلاءً حسنا إذ فقد خمسة من أزرار قميصه المكوي .
يمضي ( البص ) ويعود السـكون إلي دورتـه إلي حين وصول ( بص ) أخر . ثلاثة من المكتظين في محطة ( الباصات ) ظلوا مبتعدين قليلا عن ما يدور .. يمارسون هوايتهم اليومية في الفرجة التي تضفي علي ملامحهم سرورا من نوع ما . تحقق معارفهم النظرية علي تفاصيل الواقع كان يطيل وقوفهم اليومي في أماكن الضيق الشعبي بفرح شاذ , فتحتشد جلستهم المسائية بحكايات عن المرأة التي ولجت ( البص ) من خلال النافذة , عن النشال الذي راقبوا أحدي عملياته دون أن ينبهوا المنشول , فهذا سيكون حوارا ثرا عن الفقر والحاجة الملحة , عن الفرق بين المجرم والثائر , عن الفروقات داخل الطبقة الواحدة , وبالطبع سيقترح الثالث منهم ، بعد أن يشــرب خمس (كاسات) أن يُسلم ( كلاشنكوف ) لاقتحام بنك غطى مبناه المباني المجاورة , وسيفجر هذا حوارا أخر , وسيرد أسم عروة بن الورد , وماركس , وطه الضرير , وجيفارا , وأبو ذر الغفاري , وثورة القرامطة , ودانيال أورتيغا .... أما الثاني فلن يفوت الفرصة للحديث عن البنيوية وامتلاكها أكثر من غيرها قدرة تحليل الواقع " السيسيو تاريخي " . ورغم ذلك سيكونون حريصين في تلك الليلة علي عدم ذكر المصطلحات الصعبة , فلقد أحرجهم كادح من اللذين يحسون بالانتماء إليهم عندما قاطعهم فجأة في جلسـة الليلة الماضية : " وحات الحرام ده يا جماعة انتو ناس حلوين وأخوان .. وكلامكم ده كلام سمح جدا .. وأنا بجي هنا يوميا وما بخت قزازتي دي إلا جنبكم , لكن وأنتو أخوان ما تزعلوا , كلامكم ده ما بفيدنا بأي شي , أنا القدامكم ده راجل عامل , وما بعرف سياسة , أنتو ناس فاهمين ومتعلمين , خلو كلامكم الكبار ده وشوفوا لينا مسألة الصلصة واللبن والحاجات الزي دي"
ازدادت كثافة الواقفين في المحطة , تقطيبات الوجوه ازدادت حدة ووضوحا ورسمت خدودا عميقة في الجباه . جرائد كثيرة ارتفعت فوق عيون كثيرة لتحجب حرارة الشمس . بص ) أخر يأتي , عشرات تدافعوا نحوه . هواة التفرج الثلاث قرروا هذه المرة الركوب وركضوا مع الآخرين .
سريعا أنقسم الركاب فريقين : ركاب شارع الأربعين وركاب شارع الموردة . وارتفعت الأصوات كلُ يصر علي طريقه , تعلو الأصوات ، وتعلو هامات الجميع فوق نوافذ ( البص ) والأبواب الضيقة , ويرتفع صوت صرخة امرأة في حدة , تعلو الشتائم والجمل المعهودة , وأعلي منها كان صوت السائق : " ياجماعة البص ده ما ماشي " . الرد جاء سريعا في هرموني متنوع : " ما ماشي كيف .. علي كيفك ؟ " .
وقبل أن يكمل السائق جملة أخري تؤكد موقفه , صاح صوت آخر : " يازول تمشي وما علي كيفك , ويا شباب زول ينزل من البص ده مافي " . كان الثلاثة حينها قد احتلوا كنبة ثلاثية المقاعد , وأنتقل كيس التمباك بينهم . صاح أحد الركــاب " تمشي في عينك .. وتقول ما ماشي تتدقه هنا " .
الجملة الأخيرة شدت خيوط تركيز الثلاثة , تبادلوا نظرات سريعة , وبصورة تلقائية عدلوا من جلستهم ، تماما كما يفعل مشاهدو السينما عندما يبدأ عرض الفيلم . بسطوا ذاكرتهم وحشدوا أدوات الرصد , الآذان مستيقظة تماما , العيون متأهبة للحركة السريعة , والأعناق مشرئبة في استعداد لنقل الوجه في جميع الاتجاهات . همس الثاني : " دا خطاب جديد لنج " ، فأكد الأول " ألم اقل لكم أنه السكون الذي يسبق العاصفة ؟ "
كانت أطروحة ضرب السائق قد انتشرت في ( البص ) بسرعة فائقة . وارتفع صوت شاب كان يقف في المقدمة : " لا ياجماعة .. المسألة مابتصل للحد ده , وما في شي بجي بالقوة " . رد صوت كان أقوى من بقية الأصوات : " تصل لي وين يعني أكتر من كده ؟ نحنا قلنا الزول ده يدقه يعني يدقه , ولا يمسك الدركسون ده ويسوق بحسنته " , أصر الشاب علي عقلنه المسألة : " ياجماعة يدقه كيف .. أنتو قايلين نفسكم وين اصلو ؟ " . همس الثاني لنفسه : " خطاب مسيحي " . رد صوت غاضب مهددا الشاب بضربه أيضا .
" وين السواق ده ؟ " سؤال ارتفع بقوة وسط الأصوات المتداخلة في ضجة , فجاء الرد قويا : " أنا أهو ده وقلنا البص دا ما ماشي يعني ما ماشي ... " . وقبل أن يكمل السائق جملته تماما حدث ما دفع ترمومتر الترقب عند الثلاثة إلي أعلي درجاته وشد الأعصاب وحرك العضلات في انتصاب قامات مفاجئ , فلقد انهالت يد قوية وفجائية علي وجه السائق , قبل أن يكمل دهشته وصدمته منها كانت أخرى تنزل بقوة علي مؤخرة رأسه , وثالثة اتخذت شكل الصفعة ووقعت في منتصف الوجه , أما الرابعة فلقد سال الدم بعدها من أنف السائق .
المعركة حميت بشكل سريع , وكبرت الدائرة حول السائق وعلت أصوات الضربات وكلمات الوعيد . الركاب الآخرون تحول بعضهم إلي مشجعين , وارتفعت عقيرة أحدهم في هتاف عالٍ : " يحيا ضمير الشعب " , ردد خلفه خمسة أو ستة بصوت متردد .
وجوم وحملقة سادت وجوه الثلاثة , فقطع صوت الثاني صمتهم : " انتو عارفين معني كده المسائل وصلت درجة خطيرة جدا " . " دقيقة , دي ونسه بعدين يا جماعة " قالها الثالث , وعقب بعدها الأول : " ياخ الخطاب الثوري وصل درجة التجسيد العملي " . وسجل الثاني اعتراضه : " لكن ده تخريب وعدوانية غير مبررة .. يعني ما أتصور أنو العدو هو سواق البص " . " لا يا جماعة ما قلنا دي ونسة بعدين " كررها الثالث بحزم " .
في تلك اللحظة كان السائق قد رضخ للقوة وحمي نفسه بأن تحرك ( البص ) وسط وجوم وحذر انطبع في أوجه الركاب , تحركت العربة ببطء , ثم بدأت سرعتها تشتد . أستمر الصمت يخيم علي الركاب ولذة الانتصار تطفو من وجوههم ممزوجة بملامح للرهبة والزهو والحذر , وكان الثاني أول المتحدثين عندما قال لصديقيه : " لكن تعرفوا الثورة حا تاكل أبناءها .. والركاب المنتصرين ديل حا يختلفوا بعد الكبرى في أنو البص يمشي بـ "الأربعين" ولا "الموردة" ؟ " الفكرة راقت الأخيرين فوافقا عليها بحماس , وبدأت تداعيات الثلاثة في الاندلاق , تصورا معركة كبرى تنشب بين فريقين في ( البص ) , تكثر فيها الضربات وتشتد .. تعلو الصرخات .. تُخلع ثياب النساء , ويداس الأطفال تحت الأرجل , وتُكسر بعض الأسنان .. وتمزق الملابس .. وتكون هناك خدوشاً وجروحاً وكسوراً .. وستسيل الدماء الغزيرة غزيرة . وواصلت تداعيــات الثـلاثة انزياحها وتشـعبها دون أن ينتبهوا إلي أن ( البص ) قد تجاوز المنطقة التي توقعوا أن يحدث فيها الخلاف دون أن ينبس أحد الركاب ببنت شفة .
نُشرت بجريدة ( التلغراف ) السودانية في 15 اكتوبر 1988م
(عدل بواسطة تراث on 11-03-2004, 05:15 PM) (عدل بواسطة تراث on 11-03-2004, 05:19 PM)
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
القصة الثانية والأخيرة . | تراث | 11-02-04, 03:26 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | أبو ساندرا | 11-02-04, 11:02 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | Osman Hamid | 11-03-04, 03:21 AM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | Hussein Mallasi | 11-03-04, 04:37 AM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | عشة بت فاطنة | 11-03-04, 12:12 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | تراث | 11-07-04, 02:15 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | أبو ساندرا | 11-07-04, 11:25 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | Hussein Mallasi | 11-08-04, 04:57 AM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | Nagat Mohamed Ali | 11-08-04, 12:10 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | تراث | 11-08-04, 02:33 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | حبيب نورة | 11-08-04, 04:26 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | Nagat Mohamed Ali | 11-09-04, 05:11 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | Hussein Mallasi | 11-10-04, 05:06 AM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | تراث | 11-27-04, 12:56 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | Bushra Elfadil | 11-28-04, 04:11 AM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | تراث | 12-09-04, 02:29 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | تراث | 12-12-04, 01:19 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | إيمان أحمد | 12-12-04, 02:08 PM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | تراث | 12-19-04, 10:36 AM |
Re: القصة الثانية والأخيرة . | تراث | 12-19-04, 10:42 AM |
|
|